أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ( 23 )

ثم قال [ تعالى ] ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ) أي:إنما يأتمر بهواه، فمهما رآه حسنا فعله، ومهما رآه قبيحا تركه:وهذا قد يستدل به على المعتزلة في قولهم بالتحسين والتقبيح العقليين.

وعن مالك فيما روي عنه من التفسير:لا يهوى شيئا إلا عبده.

وقوله: ( وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ ) يحتمل قولين:

أحدها وأضله الله لعلمه أنه يستحق ذلك. والآخر:وأضله الله بعد بلوغ العلم إليه، وقيام الحجة عليه. والثاني يستلزم الأول، ولا ينعكس.

( وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً ) أي:فلا يسمع ما ينفعه، ولا يعي شيئا يهتدي به، ولا يرى حجة يستضيء بها؛ ولهذا قال: ( فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) كقوله: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [ الأعراف:186 ] .

وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ ( 24 ) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 25 ) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ( 26 )

يخبر تعالى عن قول الدهرية من الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد: ( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا ) أي:ما ثم إلا هذه الدار، يموت قوم ويعيش آخرون وما ثم معاد ولا قيامة وهذا يقوله مشركو العرب المنكرون للمعاد، ويقوله الفلاسفة الإلهيون منهم، وهم ينكرون البداءة والرجعة، ويقوله الفلاسفة الدهرية الدورية المنكرون للصانع المعتقدون أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه. وزعموا أن هذا قد تكرر مرات لا تتناهى، فكابروا المعقول وكذبوا المنقول، ولهذا قالوا ( وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ ) قال الله تعالى: ( وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ ) أي:يتوهمون ويتخيلون.

فأما الحديث الذي أخرجه صاحبا الصحيح، وأبو داود، والنسائي، من رواية سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يقول الله تعالى:يؤذيني ابن آدم؛ يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب ليله ونهاره » وفي رواية: « لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر » .

وقد أورده ابن جرير بسياق غريب جدا فقال:حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « كان أهل الجاهلية يقولون:إنما يهلكنا الليل والنهار، وهو الذي يهلكنا، يميتنا ويحيينا، فقال الله في كتابه: ( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ ) قال: » ويسبون الدهر، فقال الله عز وجل:يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار « . »

وكذا رواه ابن أبي حاتم، عن أحمد بن منصور، عن شُرَيْح بن النعمان، عن ابن عيينة مثله:ثم روي عن يونس، عن ابن وهب، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « قال الله تعالى:يسب ابن آدم الدهر، وأنا الدهر، بيدي الليل والنهار » .

وأخرجه صاحبا الصحيح والنسائي، من حديث يونس بن زيد، به .

وقال محمد بن إسحاق عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « يقول الله:استقرضت عبدي فلم يعطني، وسَبّنِي عبدي، يقول:وادهراه. وأنا الدهر » .

قال الشافعي وأبو عبيدة وغيرهما من الأئمة في تفسير قوله، عليه الصلاة والسلام: « لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر » :كانت العرب في جاهليتها إذا أصابهم شدة أو بلاء أو نكبة، قالوا:يا خيبة الدهر. فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه، وإنما فاعلها هو الله [ عز وجل ] فكأنهم إنما سبوا، الله عز وجل؛ لأنه فاعل ذلك في الحقيقة، فلهذا نُهي عن سب الدهر بهذا الاعتبار؛ لأن الله هو الدهر الذي يعنونه، ويسندون إليه تلك الأفعال.

هذا أحسن ما قيل في تفسيره، وهو المراد، والله أعلم. وقد غلط ابن حزم ومن نحا نحوه من الظاهرية في عدهم الدهر من الأسماء الحسنى، أخذا من هذا الحديث. .

وقوله تعالى: ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ) أي:إذا استدل عليهم وبين لهم الحق، وأن الله قادر على إعادة الأبدان بعد فنائها وتفرقها، ( مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) أي:أحيوهم إن كان ما تقولونه حقا.

قال الله تعالى: ( قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ) أي:كما تشاهدون ذلك يخرجكم من العدم إلى الوجود، كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [ البقرة:28 ] أي:الذي قدر على البداءة قادر على الإعادة بطريق الأولى والأحرى.. وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [ الروم 27 ] ، ( ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ ) أي:إنما يجمعكم ليوم القيامة لا يعيدكم في الدنيا حتى تقولوا: ( ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ [ التغابن:9 ] لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ * لِيَوْمِ الْفَصْلِ [ المرسلات:12 ، 13 ] ، وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأَجَلٍ مَعْدُودٍ [ هود:104 ] وقال هاهنا: ( ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ ) أي:لا شك فيه، ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) أي:فلهذا ينكرون المعاد، ويستبعدون قيام الأجساد، قال الله تعالى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا [ المعارج:6 ، 7 ] أي:يرون وقوعه بعيدا، والمؤمنون يرون ذلك سهلا قريبا.

وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ( 27 ) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 28 ) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 29 )

يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض، الحاكم فيهما في الدنيا والآخرة؛ ولهذا قال: ( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ) أي:يوم القيامة ( يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ) وهم الكافرون بالله الجاحدون بما أنـزله على رسله من الآيات البينات والدلائل الواضحات.

وقال ابن أبي حاتم:قدم سفيان الثوري المدينة، فسمع المعافري يتكلم ببعض ما يضحك به الناس. فقال له:يا شيخ، أما علمت أن لله يومًا يخسر فيه المبطلون؟ قال:فما زالت تعرف في المعافري حتى لحق بالله، عز وجل. ذكره ابن أبي حاتم.

ثم قال: ( وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً ) أي:على ركبها من الشدة والعظمة، ويقال:إن هذا [ يكون ] إذا جيء بجهنم فإنها تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا جثا لركبتيه، حتى إبراهيم الخليل، ويقول:نفسي، نفسي، نفسي لا أسألك اليوم إلا نفسي، وحتى أن عيسى ليقول:لا أسألك اليوم إلا نفسي، لا أسألك [ اليوم ] مريم التي ولدتني.

قال مجاهد، وكعب الأحبار، والحسن البصري: ( كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً ) أي:على الركب. وقال عِكْرِمة: ( جاثية ) متميزة على ناحيتها، وليس على الركب. والأول أولى.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن عبد الله بن باباه ، أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال: « كأني أراكم جاثين بالكوم دون جهنم » .

وقال إسماعيل بن رافع المديني ، عن محمد بن كعب، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، مرفوعا في حديث الصورة :فيتميز الناس وتجثو الأمم، وهي التي يقول الله: ( وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا ) .

وهذا فيه جمع بين القولين:ولا منافاة، والله أعلم.

وقوله: ( كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا ) يعني:كتاب أعمالها، كقوله: وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ [ الزمر:69 ] ؛ ولهذا قال: ( الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) أي:تجازون بأعمالكم خيرها وشرها، كقوله تعالى: يُنَبَّأُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ * بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [ القيامة:13 - 15 ] .

ثم قال: ( هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ ) أي:يستحضر جميع أعمالكم من غير زيادة ولا نقص ، كقوله تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [ الكهف:49 ] .

وقوله: ( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) أي:إنا كنا نأمر الحفظة أن تكتب أعمالكم عليكم.

قال ابن عباس وغيره:تكتب الملائكة أعمال العباد، ثم تصعد بها إلى السماء، فيقابلون الملائكة الذين في ديوان الأعمال على ما بأيديهم مما قد أبرز لهم من اللوح المحفوظ في كل ليلة قدر، مما كتبه الله في القدم على العباد قبل أن يخلقهم، فلا يزيد حرفا ولا ينقص حرفا، ثم قرأ: ( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ( 30 ) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ ( 31 ) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ( 32 )

يخبر تعالى عن حكمه في خلقه يوم القيامة، فقال: ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) أي:آمنت قلوبهم وعملت جوارحهم الأعمال الصالحات ، وهي الخالصة الموافقة للشرع، ( فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ) ، وهي الجنة، كما ثبت في الصحيح أن الله قال للجنة: « أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء » .

( ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ) أي:البين الواضح.

ثم قال: ( وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ ) أي:يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا:أما قرئت عليكم آيات الرحمن فاستكبرتم عن اتباعها، وأعرضتم عند سماعها، ( وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ ) أي:في أفعالكم، مع ما اشتملت عليه قلوبكم من التكذيب؟

( وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا ) أي:إذا قال لكم المؤمنون ذلك، ( قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ ) أي:لا نعرفها، ( إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا ) أي:إن نتوهم وقوعها إلا توهما، أي مرجوحا ؛ ولهذا قال: ( وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ) أي:بمتحققين.