وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 33 ) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ( 34 ) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ( 35 ) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 36 ) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 37 ) .

قال الله تعالى: ( وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا ) أي:وظهر لهم عقوبة أعمالهم السيئة، ( وَحَاقَ بِهِمْ ) أي:أحاط بهم ( مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) أي:من العذاب والنكال، ( وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ ) أي:نعاملكم معاملة الناسي لكم في نار جهنم ( كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا ) أي:فلم تعملوا له لأنكم لم تصدقوا به، ( وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ )

وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول لبعض العبيد يوم القيامة: « ألم أزوجك؟ ألم أكرمك؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتَرْبَع؟ فيقول:بلى، يا رب. فيقول:أفظننت أنك مُلاقيّ؟ فيقول:لا. فيقول الله تعالى:فاليوم أنساك كما نسيتني » .

قال الله تعالى: ( ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ) أي:إنما جازيناكم هذا الجزاء لأنكم اتخذتم حجج الله عليكم سخريا، تسخرون وتستهزئون بها، ( وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ) أي:خدعتكم فاطمأننتم إليها، فأصبحتم من الخاسرين؛ ولهذا قال: ( فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا ) أي:من النار ( وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) أي:لا يطلب منهم العتبى، بل يعذبون بغير حساب ولا عتاب، كما تدخل طائفة من المؤمنين الجنة بغير عذاب ولا حساب.

ثم لما ذكر حكمه في المؤمنين والكافرين قال: ( فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السماواتِ وَرَبِّ الأرْضِ ) أي:المالك لهما وما فيهما؛ ولهذا قال: ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) .

ثم قال: ( وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السماواتِ وَالأرْضِ ) قال مجاهد:يعني السلطان. أي:هو العظيم الممجد، الذي كل شيء خاضع لديه فقير إليه. وقد ورد في الحديث الصحيح: « يقول الله تعالى العظمة إزاري والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدًا منهما أسكنته ناري » . ورواه مسلم من حديث الأعمش، عن أبي إسحاق، عن الأغر أبي مسلم، عن أبي هريرة وأبي سعيد، رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه .

وقوله: ( وَهُوَ الْعَزِيزُ ) أي:الذي لا يغالب ولا يمانع، ( الحكيم ) في أقواله وأفعاله، وشرعه وقدره، تعالى وتقدس، لا إله إلا هو .

آخر تفسير سورة الجاثية [ ولله الحمد والمنة ]

 

 

تفسير سورة الأحقاف

 

وهي مكية.

بسم الله الرحمن الرحيم

حم ( 1 ) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ( 2 ) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ( 3 ) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 4 ) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ( 5 )

يخبر تعالى أنه نـزل الكتاب على عبده ورسوله محمد، صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين، ووصف نفسه بالعزة التي لا ترام، والحكمة في الأقوال والأفعال، ثم قال: ( مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ ) أي:لا على وجه العبث والباطل، ( وَأَجَلٌ مُسَمًّى ) أي:إلى مدة معينة مضروبة لا تزيد ولا تنقص.

قوله: ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ) أي:لاهون عما يراد بهم، وقد أنـزل إليهم كتابا وأرسل إليهم رسول، وهم معرضون عن ذلك كله، أي:وسيعلمون غبّ ذلك.

ثم قال: ( قُلْ ) أي:لهؤلاء المشركين العابدين مع الله غيره: ( أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ ) أي:أرشدوني إلى المكان الذي استقلوا بخلقه من الأرض، ( أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ) أي:ولا شرك لهم في السموات ولا في الأرض، وما يملكون من قطمير، إن المُلْك والتصرّف كله إلا الله، عز وجل، فكيف تعبدون معه غيره، وتشركون به؟ من أرشدكم إلى هذا؟ من دعاكم إليه؟ أهو أمركم به؟ أم هو شيء اقترحتموه من عند أنفسكم؟ ولهذا قال: ( اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا ) أي:هاتوا كتابا من كتب الله المنـزلة على الأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام، يأمركم بعبادة هذه الأصنام، ( أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ ) أي:دليل بَيِّن على هذا المسلك الذي سلكتموه ( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) أي:لا دليل لكم نقليًا ولا عقليا على ذلك؛ ولهذا قرأ آخرون: « أو أثَرَة من علم » أي:أو علم صحيح يأثرونه عن أحد ممن قبلهم، كما قال مجاهد في قوله: ( أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ ) أو أحد يأثُر علما.

وقال العَوْفي، عن ابن عباس:أو بينة من الأمر.

وقال الإمام أحمد:حدثنا يحيى، عن سفيان، حدثنا صفوان بن سُلَيم، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن ابن عباس قال سفيان:لا أعلم إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم: « أو أثَرَة من علم » قال: « الخط » .

وقال أبو بكر بن عياش:أو بقية من علم. وقال الحسن البصري: ( أَوْ أَثَارَةٍ ) شيء يستخرجه فيثيره.

وقال ابن عباس، ومجاهد، وأبو بكر بن عياش أيضا: ( أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ ) يعني الخط.

وقال قتادة: ( أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ ) خاصة من علم.

وكل هذه الأقوال متقاربة، وهي راجعة إلى ما قلناه، وهو اختيار ابن جرير رحمه الله وأكرمه، وأحسن مثواه.

وقوله: ( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ) أي:لا أضل ممن يدعو أصناما، ويطلب منها ما لا تستطيعه إلى يوم القيامة، وهي غافلة عما يقول، لا تسمع ولا تبصر ولا تبطش؛ لأنها جماد حجَارة صُمّ.