وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ( 30 ) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ( 31 ) .

وقوله: ( وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ ) يقول تعالى:ولو نشاء يا محمد لأريناك أشخاصهم، فعرفتهم عيانا، ولكن لم يفعل تعالى ذلك في جميع المنافقين سترا منه على خلقه، وحملا للأمور على ظاهر السلامة، ورد السرائر إلى عالمها، ( وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ) أي:فيما يبدو من كلامهم الدال على مقاصدهم، يفهم المتكلم من أي الحزبين هو بمعاني كلامه وفحواه، وهو المراد من لحن القول، كما قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه:ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه، وفلتات لسانه. وفي الحديث: « ما أسر أحد سريرة إلا كساه الله جلبابها، إن خيرا فخير، وإن شرًّا فشر » . وقد ذكرنا ما يستدل به على نفاق الرجل، وتكلمنا على نفاق العمل والاعتقاد في أول « شرح البخاري » ، بما أغنى عن إعادته ها هنا. وقد ورد في الحديث تعيين جماعة من المنافقين. قال الإمام أحمد:

حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن سلمة، عن عياض بن عياض، عن أبيه، عن أبي مسعود عقبة بن عمرو، رضي الله عنه، قال:خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: « إن منكم منافقين، فمن سميت فليقم » . ثم قال: « قم يا فلان، قم يا فلان، قم يا فلان » . حتى سمى ستة وثلاثين رجلا ثم قال: « إن فيكم - أو:منكم - فاتقوا الله » . قال:فمر عمر برجل ممن سمى مقنع قد كان يعرفه، فقال:ما لك؟ فحدثه بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:بعدًا لك سائر اليوم .

وقوله: ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ ) أي:ولنختبرنكم بالأوامر والنواهي، ( حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) . وليس في تقدم علم الله تعالى بما هو كائن أنه سيكون شك ولا ريب، فالمراد:حتى نعلم وقوعه؛ ولهذا يقول ابن عباس في مثل هذا:إلا لنعلم، أي:لنرى.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ ( 32 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ( 33 ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ( 34 ) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ( 35 ) .

يخبر تعالى عمن كفر وصد عن سبيل الله، وخالف الرسول وشاقه، وارتد عن الإيمان من بعد ما تبين له الهدى:أنه لن يضر الله شيئًا، وإنما يضر نفسه ويخسرها يوم معادها، وسيحبط الله عمله فلا يثيبه على سالف ما تقدم من عمله الذي عقبه بردته مثقال بعوضة من خير، بل يحبطه ويمحقه بالكلية، كما أن الحسنات يذهبن السيئات.

وقد قال الإمام محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة:حدثنا أبو قدامة، حدثنا وكيع، حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يظنون أنه لا يضر مع « لا إله إلا الله » ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل، فنـزلت: ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ) فخافوا أن يبطل الذنب العمل.

ثم روي من طريق عبد الله بن المبارك:أخبرني بكير بن معروف، عن مقاتل بن حيان، عن نافع، عن ابن عمر قال:كنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نرى أنه ليس شيء من الحسنات إلا مقبول، حتى نـزلت: ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ) ، فقلنا:ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا:الكبائر الموجبات والفواحش، حتى نـزلت:إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [ النساء:48 ] ، فلما نـزلت كففنا عن القول في ذلك، فكنا نخاف على من أصاب الكبائر والفواحش، ونرجو لمن لم يصيبها .

ثم أمر تعالى عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله التي هي سعادتهم في الدنيا والآخرة، ونهاهم عن الارتداد الذي هو مبطل للأعمال؛ ولهذا قال: ( وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ) أي:بالردة؛ ولهذا قال بعدها: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ) ، كقوله إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ الآية.

ثم قال لعباده المؤمنين: ( فَلا تَهِنُوا ) أي:لا تضعفوا عن الأعداء، ( وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ ) أي:المهادنة والمسالمة، ووضع القتال بينكم وبين الكفار في حال قوتكم وكثرة عَدَدِكم وعُدَدِكُمْ؛ ولهذا قال: ( فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ ) أي:في حال علوكم على عدوكم، فأما إذا كان الكفار فيهم قوة وكثرة بالنسبة إلى جميع المسلمين، ورأى الإمام في المعاهدة والمهادنة مصلحة، فله أن يفعل ذلك، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صده كفار قريش عن مكة، ودعوه إلى الصلح ووضع الحرب بينهم وبينه عشر سنين، فأجابهم إلى ذلك.

وقوله: ( وَاللَّهُ مَعَكُمْ ) فيه بشارة عظيمة بالنصر والظفر على الأعداء، ( وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ) أي:ولن يحبطها ويبطلها ويسلبكم إياها، بل يوفيكم ثوابها ولا ينقصكم منها شيئا.

إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ( 36 ) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ ( 37 ) هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ( 38 ) .

يقول تعالى تحقيرًا لأمر الدنيا وتهوينا لشأنها: ( إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ) أي:حاصلها ذلك إلا ما كان منها لله عز وجل؛ ولهذا قال: ( وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ) أي:هو غني عنكم لا يطلب منكم شيئا، وإنما فرض عليكم الصدقات من الأموال مواساة لإخوانكم الفقراء، ليعود نفع ذلك عليكم، ويرجع ثوابه إليكم.

ثم قال: ( إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا ) أي:يحرجكم تبخلوا: ( وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ )

قال قتادة: « قد علم الله أن في إخراج الأموال إخراج الأضغان » . وصدق قتادة فإن المال محبوب، ولا يصرف إلا فيما هو أحب إلى الشخص منه.

وقوله: ( هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ ) أي:لا يجيب إلى ذلك ( وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ ) أي:إنما نقص نفسه من الأجر، وإنما يعود وبال ذلك عليه، ( وَاللَّهُ الْغَنِيُّ ) أي:عن كل ما سواه، وكل شيء فقير إليه دائما؛ ولهذا قال: ( وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ ) أي:بالذات إليه. فوصفه بالغنى وصف لازم له، ووصف الخلق بالفقر وصف لازم لهم، [ أي ] لا ينفكون عنه.

وقوله: ( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا ) أي:عن طاعته واتباع شرعه ( يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ) أي:ولكن يكونون سامعين مطيعين له ولأوامره.

وقال ابن أبي حاتم، وابن جرير:حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب، أخبرني مسلم بن خالد، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة [ رضي الله عنه ] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: ( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ) ، قالوا:يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدل بنا ثم لا يكونوا أمثالنا؟ قال:فضرب بيده على كتف سلمان الفارسي ثم قال: « هذا وقومه، ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس » تفرد به مسلم بن خالد الزنجي، ورواه عنه غير واحد، وقد تكلم فيه بعض الأئمة، والله أعلم.

آخر تفسير سورة القتال