رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ( 17 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 18 ) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ( 19 ) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ ( 20 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 21 ) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ( 22 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 23 ) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ ( 24 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 25 ) .

( رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ) يعني:مشرقي الصيف والشتاء، ومغربي الصيف والشتاء. وقال في الآية الأخرى: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ [ المعارج:40 ] ، وذلك باختلاف مطالع الشمس وتنقلها في كل يوم، وبروزها منه إلى الناس. وقال في الآية الأخرى: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا [ المزمل:9 ] . وهذا المراد منه جنس المشارق والمغارب، ولما كان في اختلاف هذه المشارق والمغارب، مصالح للخلق من الجن والإنس قال: ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) ؟ .

وقوله: ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ) قال ابن عباس:أي أرسلهما.

وقوله: ( يلتقيان ) قال ابن زيد:أي:منعهما أن يلتقيا، بما جعل بينهما من البرزخ الحاجز الفاصل بينهما.

والمراد بقوله: ( البحرين ) الملح والحلو، فالحلو هذه الأنهار السارحة بين الناس. وقد قدمنا الكلام على ذلك في سورة « الفرقان » عند قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا [ الفرقان:53 ] . وقد اختار ابن جرير هاهنا أن المراد بالبحرين:بحر السماء وبحر الأرض، وهو مروي عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وعطية وابن أبْزَى.

قال ابن جرير:لأن اللؤلؤ يتولد من ماء السماء، وأصداف بحر الأرض . وهذا وإن كان هكذا ليس المراد [ بذلك ] ما ذهب إليه، فإنه لا يساعده اللفظ؛ فإنه تعالى قد قال: ( بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ ) أي:وجعل بينهما برزخا، وهو:الحاجز من الأرض، لئلا يبغي هذا على هذا، وهذا على هذا، فيفسد كل واحد منهما الآخر، ويزيله عن صفته التي هي مقصودة منه. وما بين السماء والأرض لا يسمى برزخا وحجرا محجورا.

وقوله: ( يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ) أي:من مجموعهما، فإذا وجد ذلك لأحدهما كفى، كما قال تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [ الأنعام:130 ] والرسل إنما كانوا في الإنس خاصة دون الجن، وقد صح هذا الإطلاق. واللؤلؤ معروف، وأما المرجان فقيل:هو صغار اللؤلؤ. قاله مجاهد، وقتادة، وأبو رزين، والضحاك. وروي عن علي.

وقيل:كباره وجيده. حكاه ابن جرير عن بعض السلف. ورواه ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس، وحكاه عن السدي، عمن حدثه، عن ابن عباس. وروي مثله عن علي، ومجاهد أيضا، ومرة الهمداني.

وقيل:هو نوع من الجواهر أحمر اللون. قال السدي، عن أبي مالك، عن مسروق، عن عبد الله قال:المرجان:الخرز الأحمر. قال السدي وهو البُسَّذ بالفارسية.

وأما قوله: وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا [ فاطر:12 ] ، فاللحم من كل من الأجاج والعذب، والحلية، إنما هي من الملح دون العذب.

قال ابن عباس:ما سقطت قط قطرة من السماء في البحر، فوقعت في صدفة إلا صار منها لؤلؤة. وكذا قال عكرمة، وزاد:فإذا لم تقع في صدفة نبتت بها عنبرة. وروي من غير وجه عن ابن عباس نحوه.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِيّ، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:إذا أمطرت السماء، فتحت الأصداف في البحر أفواهها، فما وقع فيها - يعني:من قطر- فهو اللؤلؤ.

إسناده صحيح، ولما كان اتخاذ هذه الحلية نعمة على أهل الأرض، امتن بها عليهم فقال : ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) .

وقوله: ( وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ ) يعني:السفن التي تجري في البحر، قال مجاهد:ما رفع قلعه من السفن فهي منشأة، وما لم يرفع قلعه فليس بمنشأة، وقال قتادة: ( المنشآت ) يعني المخلوقات. وقال غيره:المنشآت - بكسر الشين- يعني:البادئات.

( كالأعلام ) أي:كالجبال في كبرها، وما فيها من المتاجر والمكاسب المنقولة من قطر إلى قطر، وإقليم إلى إقليم، مما فيه من صلاح للناس في جلب ما يحتاجون إليه من سائر أنواع البضائع؛ ولهذا قال [ تعالى ] ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا العرار بن سويد، عن عميرة بن سعد قال:كنت مع علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، على شاطئ الفرات إذ أقبلت سفينة مرفوع شراعها، فبسط على يديه ثم قال:يقول الله عز وجل: ( وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلامِ ) . والذي أنشأها تجري في [ بحر من ] بحوره ما قتلتُ عثمان، ولا مالأت على قتله.

كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ( 26 ) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ ( 27 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 28 ) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ( 29 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 30 )

يخبر تعالى أن جميع أهل الأرض سيذهبون ويموتون أجمعون، وكذلك أهل السموات، إلا من شاء الله، ولا يبقى أحد سوى وجهه الكريم؛ فإن الرب - تعالى وتقدس- لا يموت، بل هو الحي الذي لا يموت أبدا.

قال قتادة:أنبأ بما خلق، ثم أنبأ أن ذلك كله كان .

وفي الدعاء المأثور:يا حي، يا قيوم، يا بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت، برحمتك نستغيث ، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك.

وقال الشعبي:إذا قرأت ( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ) ، فلا تسكت حتى تقرأ: ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ ) .

وهذه الآية كقوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ [ القصص:88 ] ، وقد نعت تعالى وجهه الكريم في هذه الآية الكريمة بأنه ( ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ ) أي:هو أهل أن يجل فلا يعصى، وأن يطاع فلا يخالف، كقوله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [ الكهف:28 ] ، وكقوله إخبارا عن المتصدقين: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ [ الإنسان:9 ]

قال ابن عباس: ( ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ ) ذو العظمة والكبرياء.

ولما أخبر عن تساوي أهل الأرض كلهم في الوفاة، وأنهم سيصيرون إلى الدار الآخرة، فيحكم فيهم ذو الجلال والإكرام بحكمه العدل قال: ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) .

وقوله: ( يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) وهذا إخبار عن غناه عما سواه وافتقار الخلائق إليه في جميع الآنات، وأنهم يسألونه بلسان حالهم وقالهم، وأنه كل يوم هو في شأن.

قال الأعمش، عن مجاهد، عن عبيد بن عمير: ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) ، قال:من شأنه أن يجيب داعيا، أو يعطي سائلا أو يفك عانيا، أو يشفي سقيما.

وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال:كل يوم هو يجيب داعيا، ويكشف كربا، ويجيب مضطرا ويغفر ذنبا.

وقال قتادة:لا يستغني عنه أهل السموات والأرض، يحيي حيا، ويميت ميتا، ويربي صغيرا، ويفك أسيرا، وهو منتهى حاجات الصالحين وصريخهم، ومنتهى شكواهم.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أبو اليمان الحِمْصيّ، حدثنا حرير بن عثمان، عن سُوَيْد بن جبلة - هو الفزاري- قال:إن ربكم كل يوم هو في شأن، فيعتق رقابا، ويعطي رغابا، ويقحم عقابا.

وقال ابن جرير:حدثني عبد الله بن محمد بن عمرو الغُزّي، حدثني إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي، حدثني عمرو بن بكر السَّكْسكي ، حدثنا الحارث بن عبدة بن رباح الغساني، عن أبيه، عن منيب بن عبد الله بن منيب الأزدي، عن أبيه قال:تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) ، فقلنا:يا رسول الله، وما ذاك الشأن؟ قال: « أن يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويرفع قوما، ويضع آخرين » .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار، وسليمان بن أحمد الواسطي قالا حدثنا الوزير بن صَبِيح الثقفي أبو روح الدمشقي - والسياق لهشام- قال:سمعت يونس بن ميسرة بن حَلْبَس، يحدث عن أم الدرداء عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « قال الله عز وجل: ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) قال: » من شأنه أن يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويرفع قوما، ويضع آخرين « . »

وقد رواه ابن عساكر من طرق متعددة، عن هشام بن عمار، به. ثم ساقه من حديث أبي همام الوليد بن شجاع، عن الوزير بن صَبِيح قال:ودلنا عليه الوليد بن مسلم، عن مُطرِّف، عن الشعبي، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره. قال:والصحيح الأول. يعني إسناده الأول .

قلت:وقد روي موقوفا، كما علقه البخاري بصيغة الجزم، فجعله من كلام أبي الدرداء ، فالله أعلم.

وقال البزار:حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن الحارث، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني، عن أبيه عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) ، قال: « يغفر ذنبا، ويكشف كربا » .

ثم قال ابن جرير:وحدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن أبي حمزة الثُّمَالي، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس، أن الله خلق لوحا محفوظا من درة بيضاء، دفّتاه ياقوتة حمراء، قلمه نور، وكتابه نور، عرضه ما بين السماء والأرض، ينظر فيه كل يوم ثلثمائة وستين نظرة، يخلق في كل نظرة، ويحيي ويميت، ويعز ويذل، ويفعل ما يشاء .

سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ ( 31 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 32 ) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ ( 33 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 34 ) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ ( 35 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 36 ) .

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ( سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ ) ، قال:وعيد من الله للعباد، وليس بالله شغل وهو فارغ. وكذا قال الضحاك:هذا وعيد. وقال قتادة:قد دنا من الله فراغ لخلقه. وقال ابن جريج: ( سَنَفْرُغُ لَكُمْ ) أي:سنقضي لكم.

وقال البخاري:سنحاسبكم ، لا يشغله شيء عن شيء، وهو معروف في كلام العرب، يقال « لأتفرغن لك » وما به شغل، يقول: « لآخذنك على غِرَّتك » .

وقوله: ( أَيُّهَا الثَّقَلانِ ) الثقلان:الإنس والجن، كما جاء في الصحيح: « يسمعها كل شيء إلا الثقلين » وفي رواية: « إلا الجن والإنس » . وفي حديث الصور: « الثقلان الإنس والجن » ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) .

ثم قال: ( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ ) أي:لا تستطيعون هربا من أمر الله وقدره، بل هو محيط بكم، لا تقدرون على التخلص من حكمه، ولا النفوذ عن حكمه فيكم، أينما ذهبتم أحيط بكم، وهذا في مقام المحشر، الملائكة محدقة بالخلائق، سبع صفوف من كل جانب، فلا يقدر أحد على الذهاب ( إِلا بِسُلْطَانٍ ) أي:إلا بأمر الله، يَقُولُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ [ القيامة:10- 12 ] . وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [ يونس:27 ] ؛ ولهذا قال: ( يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ ) .

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:الشواظ:هو لهب النار.

وقال سعيد بن جبير، عن ابن عباس:الشواظ:الدخان.

وقال مجاهد:هو:اللهيب الأخضر المنقطع. وقال أبو صالح الشواظ هو اللهيب الذي فوق النار ودون الدخان. وقال الضحاك: ( شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ ) سيل من نار.

وقوله: ( وَنُحَاسٌ ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( وَنُحَاسٌ ) دخان النار. وروي مثله عن أبي صالح، وسعيد بن جبير، وأبي سنان.

قال ابن جرير:والعرب تسمي الدخان نحاسا - بضم النون وكسرها- والقراء مجمعة على الضم، ومن النحاس بمعنى الدخان قول نابغة جعدة

يُضِــيءُ كَضَـوءِ سـراج السَّـلِيـ ـط لـم يَجْعَل اللهُ فيـه نُحَاسا

يعني:دخانا، هكذا قال .

وقد روى الطبراني من طريق جُويَبْر، عن الضحاك؛ أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عن الشواظ فقال:هو اللهب الذي لا دخان معه. فسأله شاهدا على ذلك من اللغة، فأنشده قول أمية بن أبي الصلت في حسان:

ألا مــن مُبلــغٌ حَسًّــان عَنِّــي مُغَلْغلـــةً تـــدبّ إلى عُكَاظِ

أليس أبُــوكَ فِينَــا كــان قَينًــا لَـــدَى القينَات فَسْلا في الحَفَاظ

يَمَانِيًّـا يظــــل يَشـــدُ كِيرًا وينفـخ دائبًـا لَهَــبَ الشُّـــواظ

قال:صدقت، فما النحاس؟ قال:هو الدخان الذي لا لهب له. قال:فهل تعرفه العرب؟ قال:نعم، أما سمعت نابغة بني ذبيان يقول

يُضِــيءُ كَضَـوء سَـراج السَّـليط لَــمْ يَجْــعَل اللــهُ فيـه نُحَاسـا

وقال مجاهد:النحاس:الصُّفّر، يذاب فيصب على رؤوسهم. وكذا قال قتادة. وقال الضحاك: ( ونحاس ) سيل من نحاس.

والمعنى على كل قول:لو ذهبتم هاربين يوم القيامة لردتكم الملائكة والزبانية بإرسال اللهب من النار والنحاس المذاب عليكم لترجعوا ؛ ولهذا قال: ( فَلا تَنْتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ )

فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ( 37 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 38 ) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ ( 39 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 40 )

يقول [ تعالى ] : ( فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ ) يوم القيامة، كما دلت عليه هذه الآية مع ما شاكلها من الآيات الواردة في معناها، كقوله: وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ [ الحاقة:16 ] ، وقوله: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلا [ الفرقان:25 ] ، وقوله: إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ [ الانشقاق:1، 2 ] .

وقوله: ( فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ) أي:تذوب كما يذوب الدّرْدي والفضة في السبك، وتتلون كما تتلون الأصباغ التي يدهن بها، فتارة حمراء وصفراء وزرقاء وخضراء، وذلك من شدة الأمر وهول يوم القيامة العظيم. وقد قال الإمام أحمد:

حدثنا أحمد بن عبد الملك، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الصهباء، حدثنا نافع أبو غالب الباهلي، حدثنا أنس بن مالك قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يبعث الناس يوم القيامة والسماء تَطِش عليهم » .

قال الجوهري:الطش:المطر الضعيف.

وقال الضحاك، عن ابن عباس في قوله: ( وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ) ، قال:هو الأديم الأحمر. وقال أبو كُدَيْنة، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس: ( فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ) :كالفرس الورد. وقال العوفي، عن ابن عباس:تغير لونها . وقال أبو صالح:كالبِرْذَون الورد، ثم كانت بعد كالدهان.

وحكى البَغَوي وغيره:أن الفرس الورد تكون في الربيع صفراء، وفي الشتاء حمراء، فإذا اشتد البرد اغْبَرَّ لونها.

وقال الحسن البصري:تكون ألوانا. وقال السدي. تكون كلون البغلة الوردة، وتكون كالمهل كدردي الزيت. وقال مجاهد: ( كَالدِّهَان ) :كألوان الدهان. وقال عطاء الخراساني:كلون دُهْن الوَرْد في الصفرة. وقال قتادة:هي اليوم خضراء، ويومئذ لونها إلى الحمرة يوم ذي ألوان. وقال أبو الجوزاء: في صفاء الدهن. وقال [ أبو صالح ] بن جريج:تصير السماء كالدهن الذائب، وذلك حين يُصيبها حر جهنم.

وقوله: ( فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ ) ، وهذه كقوله: هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [ المرسلات:35، 36 ] ، فهذا في حال، وثَمّ حال يسأل الخلائق فيها عن جميع أعمالهم، قال الله تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [ الحجر:92، 93 ] ؛ ولهذه قال قتادة: ( فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ ) ، قال:قد كانت مسألة، ثم ختم على أفواه القوم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون.

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:لا يسألهم:هل عملتم كذا وكذا؟ لأنه أعلم بذلك منهم، ولكن يقول:لم عملتم كذا وكذا؟ فهو قول ثان.

وقال مجاهد في هذه الآية:لا يسأل الملائكة عن المجرم، يُعْرَفُون بسيماهم.

وهذا قول ثالث. وكأن هذا بعد ما يؤمر بهم إلى النار، فذلك الوقت لا يسألون عن ذنوبهم، بل يقادون إليها ويلقون فيها.