يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ ( 41 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 42 ) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ ( 43 ) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ( 44 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 45 ) .

كما قال تعالى: ( يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ ) أي:بعلامات تظهر عليهم.

وقال الحسن وقتادة:يعرفونهم باسوداد الوجوه وزرقة العيون.

قلت:وهذا كما يعرف المؤمنون بالغرة والتحجيل من آثار الوضوء.

وقوله: ( فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأقْدَامِ ) أي:تجمع الزبانية ناصيته مع قدميه، ويلقونه في النار كذلك.

وقال الأعمش عن ابن عباس:يؤخذ بناصيته وقدمه ، فيكسر كما يكسر الحطب في التنور.

وقال الضحاك:يجمع بين ناصيته وقدميه في سلسلة من وراء ظهره.

وقال السدي:يجمع بين ناصية الكافر وقدميه، فتربط ناصيته بقدمه، ويُفتل ظهره.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع، حدثنا معاوية بن سلام، عن أخيه زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام - يعني جده- أخبرني عبد الرحمن، حدثني رجل من كندة قال:أتيت عائشة فدخلت عليها، وبيني وبينها حجاب، فقلت:حدثك رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يأتي عليه ساعة لا يملك لأحد فيها شفاعة؟ قالت:نعم، لقد سألته عن هذا وأنا وهو في شِعَار واحد، قال: « نعم حين يوضع الصراط، ولا أملك لأحد فيها شفاعة، حتى أعلم أين يسلك بي؟ ويوم تبيض وجوه وتسود وجوه، حتى أنظر ماذا يفعل بي - أو قال:يوحى- وعند الجسر حين يستحد ويستحر » فقالت:وما يستحد وما يستحر؟ قال: « يستحد حتى يكون مثل شفرة السيف، ويستحر حتى يكون مثل الجمرة، فأما المؤمن فيجيزه لا يضره، وأما المنافق فيتعلق حتى إذا بلغ أوسطه خر من قدمه فيهوي بيده إلى قدميه، فتضربه الزبانية بخطاف في ناصيته وقدمه، فتقذفه في جهنم، فيهوي فيها مقدار خمسين عاما » . قلت:ما ثقل الرجل؟ قالت:ثقل عشر خلفات سمان، فيومئذ يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام.

هذا حديث غريب [ جدا ] ، وفيه ألفاظ منكر رفعها، وفي الإسناد من لم يُسَمّ، ومثله لا يحتج به ، والله أعلم.

وقوله: ( هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ ) أي:هذه النار التي كنتم تكذبون بوجودها ها هي حاضرة تشاهدونها عيانًا، يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا وتصغيرا وتحقيرا.

وقوله: ( يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ) أي:تارة يعذبون في الجحيم، وتارة يسقون من الحميم، وهو الشراب الذي هو كالنحاس المذاب، يقطع الأمعاء والأحشاء، وهذه كقوله تعالى: إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [ غافر:71، 72 ] .

وقوله: ( آن ) أي:حار وقد بلغ الغاية في الحرارة، لا يستطاع من شدة ذلك.

قال ابن عباس في قوله: ( يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ) قد انتهى غلْيه، واشتد حرّه. وكذا قال مجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك، والحسن، والثوري، والسدي.

وقال قتادة:قد أنَى طبخه منذ خلق الله السموات والأرض. وقال محمد بن كعب القرظي:يؤخذ العبد فيحرّكُ بناصيته في ذلك الحميم، حتى يذوب اللحم ويبقى العظم والعينان في الرأس. وهي كالتي يقول الله تعالى: فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ . والحميم الآن:يعني الحار. وعن القرظي رواية أخرى: ( حَمِيمٍ آنٍ ) أي:حاضر. وهو قول ابن زيد أيضا، والحاضر، لا ينافي ما روي عن القرظي أولا أنه الحار، كقوله تعالى: تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ [ الغاشية:5 ] أي حارة شديدة الحر لا تستطاع. وكقوله: غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ [ الأحزاب:53 ] يعني:استواءه ونضجه. فقوله: ( حَمِيمٍ آنٍ ) أي:حميم حار جدا. ولما كان معاقبة العصاة المجرمين وتنعيم المتقين من فضله ورحمته وعدله ولطفه بخلقه، وكان إنذاره لهم عذابه وبأسه مما يزجرهم عما هم فيه من الشرك والمعاصي وغير ذلك، قال ممتنا بذلك على بريته: ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) .

وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ( 46 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 47 ) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ( 48 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 49 ) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ( 50 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 51 ) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ ( 52 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 53 ) .

قال ابن شَوْذب، وعطاء الخراساني:نـزلت هذه الآية: ( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ) في أبي بكر الصديق.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا محمد بن مصفى، حدثنا بَقيَّة، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن عطية بن قيس في قوله: ( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ) :نـزلت في الذي قال:أحرقوني بالنار، لعلي أضل الله، قال:تاب يوما وليلة بعد أن تكلم بهذا، فقبل الله منه وأدخله الجنة.

والصحيح أن هذه الآية عامة كما قاله ابن عباس وغيره، يقول تعالى:ولمن خاف مقامه بين يدي الله، عز وجل، يوم القيامة، وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [ النازعات:40 ] ، ولم يطغ، ولا آثر الدنيا، وعلم أن الآخرة خير وأبقى، فأدى فرائض الله، واجتنب محارمه، فله يوم القيامة عند ربه جنتان، كما قال البخاري، رحمه الله.

حدثنا عبد الله بن أبي الأسود، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد العَمّي، حدثنا أبو عِمْران الجَوْني، عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس، عن أبيه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « جنتان من فضة، آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم عز وجل إلا رداءُ الكبرياء على وجهه في جنة عدن » .

وأخرجه بقية الجماعة إلا أبا داود، من حديث عبد العزيز، به .

وقال حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبيه - قال حماد:ولا أعلمه إلا قد رفعه- في قوله تعالى: ( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ) ، وفي قوله: وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ [ قال ] : جنتان من ذهب للمقربين، وجنتان من ورِق لأصحاب اليمين.

وقال ابن جرير:حدثنا زكريا بن يحيى بن أبان المصري ، حدثنا ابن أبي مريم، أخبرنا محمد بن جعفر، عن محمد بن أبي حَرْمَلَة، عن عطاء بن يَسَار، أخبرني أبو الدرداء؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ يوما هذه الآية: ( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ) ، فقلت:وإن زنى أو سرق؟ فقال: ( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ) ، فقلت:وإن زنى وإن سرق؟ فقال: ( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ) . فقلت:وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ فقال: « وإن رغم أنف أبي الدرداء » .

ورواه النسائي من حديث محمد بن أبي حَرْمَلَة، به ورواه النسائي أيضا عن مؤمِّل بن هشام، عن إسماعيل، عن الجُرَيري، عن موسى، عن محمد بن سعد بن أبي وقاص، عن أبي الدرداء، به . وقد روي موقوفًا على أبي الدرداء. وروي عنه أنه قال:إن من خاف مقام ربه لم يزْنِ ولم يسرق.

وهذه الآية عامة في الإنس والجن، فهي من أدل دليل على أن الجن يدخلون الجنة إذا آمنوا واتقوا؛ ولهذا امتن الله تعالى على الثقلين بهذا الجزاء فقال: ( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) .

ثم نعت هاتين الجنتين فقال: ( ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ) أي:أغصان نَضِرَة حسنة، تحمل من كل ثمرة نضيجة فائقة، ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) . هكذا قال عطاء الخراساني وجماعة:إن الأفنان أغصان الشجَر يمس بعضُها بعضا.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن علي، حدثنا مسلم بن قتيبة، حدثنا عبد الله بن النعمان، سمعت عكرمة يقول: ( ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ) ، يقول:ظِل الأغصان على الحيطان، ألم تسمع قول الشاعر حيث يقول:

مـا هـاجَ شَـوقَكَ مـن هَديل حَمَامَةٍ تَدْعُـو عـلى فَنَـن الغُصُـون حَمَاما

تَدْعُـو أبـا فَرْخَـين صــادف طاويا ذا مخــلبين مـن الصقـور قَطامـا

وحكى البغوي، عن مجاهد، وعكرمة، والضحاك، والكلبي:أنه الغصن المستقيم [ طوالا ] .

قال:وحدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا عبد السلام بن حرب، حدثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ) :ذواتا ألوان.

قال:و [ قد ] روي عن سعيد بن جبير، والحسن، والسدي، وخُصَيف، والنضر بن عربي ، وأبي سِنَان مثل ذلك. ومعنى هذا القول أن فيهما فنونا من الملاذ، واختاره ابن جرير.

وقال عطاء:كل غصن يجمع فنونا من الفاكهة، وقال الربيع بن أنس: ( ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ) :واسعتا الفناء.

وكل هذه الأقوال صحيحة، ولا منافاة بينها، والله أعلم. وقال قتادة: ( ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ) ينبئ بسعتها وفضلها ومزيتها على ما سواها.

وقال محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن أسماء قالت:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - وذكر سدرة المنتهى- فقال: « يسير في ظل الفَنَن منها الراكب مائة سنة- أو قال:يستظل في ظل الفَنَن منها مائة راكب- فيها فراش الذهب، كأن ثمرها القِلال » .

رواه الترمذي من حديث يونس بن بكير، به .

( فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ) أي:تسرحان لسقي تلك الأشجار والأغصان فتثمر من جميع الألوان، ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) قال الحسن البصري:إحداهما يقال لها: « تسنيم » ، والأخرى « السلسبيل » .

وقال عطية:إحداهما من ماء غير آسن، والأخرى من خمر لذة للشاربين.

ولهذا قال بعد هذا: ( فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ ) أي:من جميع أنواع الثمار مما يعلمون وخير مما يعلمون، ومما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) .

قال إبراهيم بن الحكم بن أبان، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس:ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظلة .

وقال ابن عباس:ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء، يعني:أن بين ذلك بَونًا عظيما، وفرقًا بينا في التفاضل.

مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ( 54 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 55 ) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ( 56 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 57 ) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ( 58 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 59 ) هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ ( 60 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 61 ) .

يقول تعالى: ( مُتَّكِئِينَ ) يعني:أهل الجنة. والمراد بالاتكاء هاهنا:الاضطجاع. ويقال:الجلوس على صفة التّربّع. ( عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ) وهو:ما غلظ من الديباج. قاله عكرمة، والضحاك وقتادة.

وقال أبو عِمْران الجَوْني:هو الديباج المغَرّي بالذهب. فنبه على شرف الظهارة بشرف البطانة. وهذا من التنبيه بالأدنى على الأعلى.

قال أبو إسحاق، عن هُبَيْرة بن يَرِيم ، عن عبد الله بن مسعود قال:هذه البطائن فكيف لو رأيتم الظواهر؟

وقال مالك بن دينار:بطائنها من إستبرق، وظواهرها من نور.

وقال سفيان الثوري - أو شريك- :بطائنها من إستبرق وظواهرها من نور جامد.

وقال القاسم بن محمد :بطائنها من إستبرق، وظواهرها من الرحمة.

وقال ابن شَوْذَب، عن أبي عبد الله الشامي:ذكر الله البطائن ولم يذكر الظواهر، وعلى الظواهر المحابس، ولا يعلم ما تحت المحابس إلا الله. ذكر ذلك كله الإمام ابن أبي حاتم.

( وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ) أي:ثمرها قريب إليهم، متى شاءوا تناولوه على أي صفة كانوا، كما قال: قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ [ الحاقة:23 ] ، وقال: وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا [ الإنسان:14 ] أي:لا تمنع ممن تناولها، بل تنحط إليه من أغصانها، ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) .

ولما ذكر الفرش وعظمتها قال بعد ذلك: ( فِيهِنَّ ) أي:في الفرش ( قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ ) أي غضيضات عن غير أزواجهن، فلا يرين شيئا أحسن في الجنة من أزواجهن. قاله ابن عباس، وقتادة، وعطاء الخراساني، وابن زيد.

وقد ورد أن الواحدة منهن تقول لبعلها:والله ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك، ولا في الجنة شيئ أحب إلي منك، فالحمد لله الذي جعلك لي وجعلني لك.

( لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ) أي:بل هن أبكار عرب أتراب، لم يطأهن أحد قبل أزواجهن من الإنس والجن. وهذه أيضا من الأدلة على دخول مؤمني الجن الجنة.

قال أرطاة بن المنذر:سئل ضَمْرَةُ بن حبيب:هل يدخل الجن الجنة؟ قال:نعم، وينكحون، للجن جنيات، وللإنس إنسيات. وذلك قوله: ( لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) .

ثم قال ينعتهن للخطاب: ( كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ) ، قال مجاهد، والحسن، [ والسدي ] ، وابن زيد، وغيرهم:في صفاء الياقوت وبياض المرجان، فجعلوا المرجان هاهنا اللؤلؤ.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا محمد بن حاتم، حدثنا عُبِيدة بن حُمَيْد، عن عطاء بن السائب، عن عمرو بن ميمون الأودي ، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن المرأة من نساء أهل الجنة ليُرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة من الحرير ، حتى يرى مخها، وذلك أن الله تعالى يقول: ( كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ) ، فأما الياقوت فإنه حَجَرٌ لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لرأيته من ورائه » .

وهكذا رواه الترمذي من حديث عُبَيْدَة بن حميد وأبي الأحوص، عن عطاء بن السائب، به . ورواه موقوفا، ثم قال:وهو أصح .

وقال الإمام أحمد:حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا يونس، عن محمد بن سِيرِين، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « للرجل من أهل الجنة زوجتان من الحور العين، على كل واحدة سبعون حلة، يُرى مخ ساقها من وراء الثياب » .

تفرد به الإمام أحمد من هذا الوجه . وقد رواه مسلم من حديث إسماعيل بن عُلَيَّة، عن أيوب، عن محمد بن سيرين قال:إما تفاخروا وإما تذكروا، الرجال أكثر في الجنة أم النساء؟ فقال أبو هريرة:أو لم يقل أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: « إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والتي تليها على أضْوَأ كوكب دُرّي في السماء، لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان، يُرَى مخ سوقهما من وراء اللحم، وما في الجنة أعزب » .

وهذا الحديث مُخَرّجٌ في الصحيحين، من حديث هَمّام بن مُنَبّه وأبي زُرْعَة، عن أبي هريرة رضي الله عنه .

وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو النضر، حدثنا محمد بن طلحة، عن حميد عن أنس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لَغَدْوَةٌ في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، وَلَقَابُ قوس أحدكم - أو موضع قيده - يعني:سوطه- من الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولو اطلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما ريحا، ولطاب ما بينهما، ولنَصِيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها » .

ورواه البخاري من حديث أبي إسحاق، عن حميد، عن أنس بنحوه .

وقوله: ( هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ ) أي:ما لمن أحسن في الدنيا العمل إلا الإحسان إليه في الدار الآخرة. كما قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [ يونس:26 ] .

وقال البغوي:أخبرنا أبو سعيد الشَّريحِي، حدثنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرني ابن فَنجُوَيه، حدثنا ابن شيبة، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن بَهْرَام، حدثنا الحجاج بن يوسف المُكْتَب، حدثنا بِشْر بن الحسين، عن الزبير بن عَدِيّ، عن أنس بن مالك قال:قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ ) ، قال: « هل تدرون ما قال ربكم؟ » قالوا:الله ورسوله أعلم. قال: « يقول هل جزاء ما أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة » .

ولما كان في الذي ذُكِرَ نعم عظيمة لا يقاومها عمل، بل مجرد تفضل وامتنان، قال بعد ذلك كله: ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) .

ومما يتعلق بقوله تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ، ما رواه الترمذي والبغوي، من حديث أبي النضر هاشم بن القاسم، عن أبي عقيل الثقفي، عن أبي فروة يزيد بن سِنان الرّهاوي، عن بُكَيْر ابن فيروز ، عن أبي هريرة، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنـزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة » .

ثم قال الترمذي:غريب، لا نعرفه إلا من حديث أبي النضر .

وروى البغوي من حديث علي بن حُجْر، عن إسماعيل بن جعفر، عن محمد بن أبي حَرْمَلَة - مولى حويطب بن عبد العزى- عن عطاء بن يَسَار، عن أبي الدرداء؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص على المنبر وهو يقول: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ، قلت:وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ . فقلت الثانية:وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ فقال [ رسول الله صلى الله عليه وسلم ] وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ . فقلت الثالثة:وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ فقال: « وإن، رغم أنف أبي الدرداء » .

وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ( 62 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 63 ) مُدْهَامَّتَانِ ( 64 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 65 ) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ ( 66 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 67 ) .

هاتان الجنتان دون اللتين قبلهما في المرتبة والفضيلة والمنـزلة بنص القرآن، قال الله تعالى: ( وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ) .

وقد تقدم في الحديث: « جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، فالأوليان للمقربين، والأخريان لأصحاب اليمين » .

وقال أبو موسى:جنتان من ذهب للمقربين، وجنتان من فضة لأصحاب اليمين.

وقال ابن عباس: ( وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ) من دونهما في الدرج. وقال ابن زيد:من دونهما في الفضل.

والدليل على شرف الأوليين على الأخريين وجوه:أحدها:أنه نعت الأولين قبل هاتين، والتقديم يدل على الاعتناء ثم قال: ( وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ) . وهذا ظاهر في شرف التقدم وعلوه على الثاني.

وقال هناك: ذَوَاتَا أَفْنَانٍ :وهي الأغصان أو الفنون في الملاذ، وقال هاهنا: ( مُدْهَامَّتَان ) أي سوداوان من شدة الري.

قال ابن عباس في قوله: ( مُدْهَامَّتَان ) قد اسودتا من الخضرة، من شدة الري من الماء.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا ابن فُضَيْل، حدثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( مُدْهَامَّتَان ) :قال:خضراوان. ورُوي عن أبي أيوب الأنصاري، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن أبي أَوْفَى، وعكرمة، وسعيد بن جُبَير، ومجاهد - في إحدى الروايات- وعطاء، وعطية العَوْفي، والحسن البصري، ويحيى بن رافع، وسفيان الثوري، نحو ذلك.

وقال محمد بن كعب: ( مُدْهَامَّتَان ) :ممتلئتان من الخضرة. وقال قتادة:خضراوان من الري ناعمتان. ولا شك في نضارة الأغصان على الأشجار المشبكة بعضها في بعض.وقال هناك: فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ، وقال هاهنا: ( نَضَّاخَتَان ) ، وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:أي فياضتان. والجري أقوى من النضخ.

وقال الضحاك: ( نَضَّاخَتَان ) أي ممتلئتان لا تنقطعان.