فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ( 68 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 69 ) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ( 70 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 71 ) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ( 72 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 73 ) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ( 74 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 75 ) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ ( 76 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 77 ) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ ( 78 ) .

وقال هناك: فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ ، وقال هاهنا: ( فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ) ، ولا شك أن الأولى أعم وأكثر في الأفراد والتنويع على فاكهة، وهي نكرة في سياق الإثبات لا تعم؛ ولهذا فسر قوله: ( وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ) من باب عطف الخاص على العام، كما قرره البخاري وغيره، وإنما أفرد النخل والرمان بالذكر لشرفهما على غيرهما.

قال عبد بن حميد:حدثنا يحيى بن عبد الحميد، حدثنا حصين بن عمر، حدثنا مخارق، عن طارق بن شهاب، عن عمر بن الخطاب قال:جاء أناس من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:يا محمد، أفي الجنة فاكهة؟ قال: « نعم، فيها فاكهة ونخل ورمان » . قالوا:أفيأكلون كما يأكلون في الدنيا؟ قال: « نعم وأضعاف » . قالوا:فيقضون الحوائج؟ قال: « لا ولكنهم يعرقون ويرشحون، فيذهب الله ما في بطونهم من أذى » .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي حدثنا الفَضْل بن دُكَيْن، حدثنا سفيان، عن حماد، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال:نخل الجنة سعفها كسوة لأهل الجنة، منها مُقَطَّعَاتهم، ومنها حُلَلهم، وكَرَبُها ذهب أحمر، وجذوعها زمرد أخضر، وثمرها أحلى من العسل، وألين من الزبد، وليس له عجم.

وحدثنا أبي:حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد - هو ابن سلمة- عن أبي هارون، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « نظرت إلى الجنة فإذا الرّمانة من رمانها كمثل البعير المُقْتَب » .

ثم قال: ( فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ) قيل:المراد خيرات كثيرة حسنة في الجنة، قاله قتادة. وقيل:خيرات جمع خيرة، وهي المرأة الصالحة الحسنة الخُلُق الحسنة الوجه، قاله الجمهور. وروي مرفوعا عن أم سلمة . وفي الحديث الآخر الذي سنورده في سورة « الواقعة » :أن الحور العين يغنين:نحن الخيرات الحسان، خلقنا لأزواج كرام. ولهذا قرأ بعضهم: « فيهن خَيّرات » ، بالتشديد ( حِسَانٌ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) .

ثم قال: ( حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ) ، وهناك قال: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ ، ولا شك أن التي قد قَصَرَت طرفها بنفسها أفضل ممن قُصرت، وإن كان الجميع مخدرات.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن جابر، عن القاسم بن أبي بزَّة، عن أبي عبيدة، عن مسروق، عن عبد الله قال:إن لكل مسلم خَيرة، ولكل خَيرة خيمة، ولكل خيمة أربعة أبواب، يدخل عليها كل يوم تحفة وكرامة وهدية لم تكن قبل ذلك، لا مَرّاحات ولا طَمّاحات، ولا بخرات ولا ذفرات، حور عين، كأنهن بيض مكنون.

وقوله: ( فِي الْخِيَامِ ) ، قال البخاري:

حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد، حدثنا أبو عمران الجوني، عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس، عن أبيه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة، عرضها ستون ميلا في كل زاوية منها أهلٌ ما يَرون الآخرين، يطوف عليهم المؤمنون » .

ورواه أيضا من حديث أبي عمران، به . وقال: « ثلاثون ميلا » . وأخرجه مسلم من حديث أبي عمران، به. ولفظه: « إن للمؤمن في الجنة لخيمةً من لؤلؤة واحدة مجوفة، طولها ستون ميلا للمؤمن فيها أهل يطوف عليهم المؤمن، فلا يرى بعضهم بعضا » .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا الحسن بن أبي الربيع، حدثنا عبد الرزَّاق، أخبرنا معمر، عن قتادة، أخبرني خُلَيْد العَصَري، عن أبي الدرداء قال:الخيمة لؤلؤة واحدة، فيها سبعون بابا من در.

وحدثنا أبي حدثنا عيسى بن أبي فاطمة، حدثنا جرير، عن هشام، عن محمد بن المثنى، عن ابن عباس في قوله: ( حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ) ، وقال: [ في ] خيام اللؤلؤ، وفي الجنة خيمة واحدة من لؤلؤة، أربع فراسخ في أربعة فراسخ، عليها أربعة آلاف مصراع من الذهب.

وقال عبد الله بن وهب:أخبرنا عمرو أن دَرَّاجا أبا السَّمح حدثه، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: « أدنى أهل الجنة منـزلة الذي له ثمانون ألف خادم، واثنتان وسبعون زوجة، وتنصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت، كما بين الجابية وصنعاء » .

ورواه الترمذي من حديث عمرو بن الحارث، به .

وقوله: ( لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ) : [ قد ] تقدم مثله سواء، إلا أنه زاد في وصف الأوائل بقوله: كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ .

وقوله: ( مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ ) :قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:الرفرف:المحابس. وكذا قال مجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والضحاك، وغيرهما:هي المحابس. وقال العلاء بن بدر الرفرف على السرير، كهيئة المحابس المتدلي.

وقال عاصم الجحدري: ( مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ ) يعني:الوسائد. وهو قول الحسن البصري في رواية عنه.

وقال أبو داود الطيالسي، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله: ( مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ ) قال:الرفرف:رياض الجنة.

وقوله: ( وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ ) :قال ابن عباس، وقتادة، والضحاك، والسدي:العبقري:الزرابي. وقال سعيد بن جبير:هي عتاق الزرابي، يعني:جيادها.

وقال مجاهد:العبقري:الديباج.

وسئل الحسن البصري عن قوله: ( وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ ) فقال:هي بسط أهل الجنة - لا أبا لكم- فاطلبوها. وعن الحسن [ البصري ] رواية:أنها المرافق. وقال زيد بن أسلم:العبقري:أحمر وأصفر وأخضر. وسئل العلاء بن زيد عن العبقري، فقال:البسط أسفل من ذلك. وقال أبو حَزْرَة يعقوب بن مجاهد:العبقري:من ثياب أهل الجنة، لا يعرفه أحد. وقال أبو العالية:العبقري:الطنافس المخْمَلة، إلى الرقة ما هي. وقال القتيبي:كل ثوب مُوَشى عند العرب عبقري. وقال أبو عبيدة:هو منسوب إلى أرض يعمل بها الوشي. وقال الخليل بن أحمد:كل شيء يسر من الرجال وغير ذلك يسمى عند العرب عبقريا. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمر: « فلم أر عبقريا يفري فريه » .

وعلى كل تقدير فصفة مرافق أهل الجنتين الأوليين أرفع وأعلى من هذه الصفة؛ فإنه قد قال هناك: مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ، فنعت بطائن فرشهم وسكت عن ظهائرها ، اكتفاءً بما مدح به البطائن بطريق الأولى والأحرى. وتمام الخاتمة أنه قال بعد الصفات المتقدمة: هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ فوصف أهلها بالإحسان وهو أعلى المراتب والنهايات، كما في حديث جبريل لما سأل عن الإسلام، ثم الإيمان. فهذه وجوه عديدة في تفضيل الجنتين الأوليين على هاتين الأخيريين ، ونسأل الله الكريم الوهاب أن يجعلنا من أهل الأوليين.

ثم قال: ( تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإكْرَامِ ) أي:هو أهل أن يجل فلا يعصى، وأن يكرم فيعبد، ويشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى.

وقال ابن عباس: ( ذِي الْجَلالِ وَالإكْرَامِ ) ذي العظمة والكبرياء.

وقال الإمام أحمد:حدثنا موسى بن داود، حدثنا عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن عمير بن هانئ، عن أبي العذراء، عن أبي الدرداء، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أجِدّوا الله يغفر لكم » .

وفي الحديث الآخر: « إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وذي السلطان، وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه » .

وقال الحافظ أبو يعلى:حدثنا أبو يوسف الجيزي ، حدثنا مؤمل بن إسماعيل، حدثنا حماد، حدثنا حميد الطويل، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ألظّوا بيا ذا الجلال والإكرام » .

وكذا رواه الترمذي، عن محمود بن غيلان، عن مؤمل بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، به . ثم قال:غلط المؤمل فيه، وهو غريب وليس بمحفوظ، وإنما يروى هذا عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال الإمام أحمد:حدثنا إبراهيم بن إسحاق، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن يحيى بن حسان المقدسي، عن ربيعة بن عامر قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ألظوا بذي الجلال والإكرام » .

ورواه النسائي من حديث عبد الله بن المبارك، به .

وقال الجوهري:ألظ فلان بفلان:إذا لزمه .

وقول ابن مسعود: « ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام » أي:الزموا. ويقال:الإلظاظ هو الإلحاح.

قلت:وكلاهما قريب من الآخر - والله أعلم- وهو المداومة واللزوم والإلحاح. وفي صحيح مسلم والسنن الأربعة من حديث عبد الله بن الحارث، عن عائشة قالت:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم لا يقعد - يعني:بعد الصلاة- إلا قدر ما يقول: « اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت ذا الجلال والإكرام » .

آخر تفسير سورة الرحمن، ولله الحمد [ والمنة ]

 

 

تفسير سورة الواقعة

 

وهي مكية.

قال أبو إسحاق عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس قال:قال أبو بكر:يا رسول الله، قد شبتَ؟ قال: « شيَّبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعَمَّ يتساءلون، وإذا الشمس كورت » .

رواه الترمذي وقال:حسن غريب

وقال الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن مسعود بسنده إلى عمرو بن الربيع بن طارق المصري:حدثنا السُّرِّي بن يحيى الشيباني، عن أبي شجاع، عن أبي ظبية قال:مرض عبد الله مرضه الذي توفي فيه، فعاده عثمان بن عفان فقال:ما تشتكي؟ قال:ذنوبي. قال:فما تشتهي؟ قال:رحمة ربي. قال ألا آمر لك بطبيب؟ قال:الطبيب أمرضني. قال:ألا آمر لك بعطاء؟ قال:لا حاجة لي فيه. قال:يكون لبناتك من بعدك؟ قال:أتخشى على بناتي الفقر؟ إني أمرت بناتي يقرأن كل ليلة سورة الواقعة، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من قرأ سورة الواقعة كل ليلة، لم تصبه فاقة أبدا » . .

ثم قال ابن عساكر:كذا قال والصواب:عن « شجاع » ، كما رواه عبد الله بن وهب عن السُّرِّي. وقال عبد الله بن وهب:أخبرني السُّرِّي بن يحيى أن شجاعا حَدَّثه، عن أبي ظَبْيَة، عن عبد الله بن مسعود، قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا » . فكان أبو ظبية لا يدعها .

وكذا رواه أبو يعلى، عن إسحاق بن إبراهيم، عن محمد بن مُنِيب، عن السُّرِّي بن يحيى، عن شجاع، عن أبي ظَبْيَة، عن ابن مسعود، به. ثم رواه عن إسحاق بن أبي إسرائيل، عن محمد بن مُنِيب العدني، عن السُّرِّي بن يحيى، عن أبي ظبية، عن ابن مسعود؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة، لم تصبه فاقة أبدا » . لم يذكر في سنده « شجاعا » . قال:وقد أمرت بناتي أن يقرأنها كل ليلة.

وقد رواه ابن عساكر أيضا من حديث حجاج بن نصير وعثمان بن اليمان، عن السري بن يحيى، عن شجاع، عن أبي فاطمة قال:مرض عبد الله، فأتاه عثمان بن عفان يعوده، فذكر الحديث بطوله. قال عثمان بن اليمان:كان أبو فاطمة هذا مولى لعلي بن أبي طالب .

وقال [ الإمام ] أحمد:حدثنا عبد الرزاق، حدثنا إسرائيل، ويحيى بن آدم، حدثنا إسرائيل، عن سِمَاك بن حرب؛ أنه سمع جابر بن سَمُرَة يقول:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الصلوات كنحو من صلاتكم التي تصلون اليوم، ولكنه كان يخفف. كانت صلاته أخف من صلاتكم، وكان يقرأ في الفجر « الواقعة » ونحوها من السور .

بسم الله الرحمن الرحيم

إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ( 1 ) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ( 2 ) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ( 3 ) إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا ( 4 ) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا ( 5 ) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا ( 6 ) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً ( 7 ) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ( 8 ) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ( 9 ) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ( 10 ) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ( 11 ) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( 12 ) .

الواقعة:من أسماء يوم القيامة، سميت بذلك لتحقق كونها ووجودها، كما قال: فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ [ الحاقة:15 ]

وقوله: ( لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ) أي:ليس لوقوعها إذا أراد الله كونها صارف يصرفها، ولا دافع يدفعها، كما قال: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ [ الشورى:47 ] ، وقال: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ [ المعارج:1، 2 ] ، وقال تعالى: وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [ الأنعام:73 ] .

ومعنى ( كَاذِبَة ) - كما قال محمد بن كعب- :لا بد أن تكون. وقال قتادة:ليس فيها مثنوية ولا ارتداد ولا رجعة.

قال ابن جرير:والكاذبة:مصدر كالعاقبة والعافية.

وقوله: ( خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ) أي:تحفض أقواما إلى أسفل سافلين إلى الجحيم، وإن كانوا في الدنيا أعزّاء. وترفع آخرين إلى أعلى عليّين، إلى النعيم المقيم، وإن كانوا في الدنيا وضعاء. وهكذا قال الحسن وقتادة، وغيرهما.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا يزيد بن عبد الرحمن بن مصعب المعنى، حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي، عن أبيه، عن سِمَاك، عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس: ( خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ) تخفض أناسًا وترفع آخرين.

وقال عبيد الله العتكي، عن عثمان بن سراقة، ابن خالة عمر بن الخطاب: ( خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ) [ قال ] :الساعة خفضت أعداء الله إلى النار، ورفعت أولياء الله إلى الجنة.

وقال محمد بن كعب:تخفض رجالا كانوا في الدنيا مرتفعين، وترفع رجالا كانوا في الدنيا مخفوضين.

وقال السُّدِّيّ:خفضت المتكبرين، ورفعت المتواضعين.

وقال العَوْفِيّ، عن ابن عباس: ( خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ) أسمعت القريب والبعيد. وقال عكرمة:خفضت فأسمعت الأدنى، ورفعت فأسمعت الأقصى. وكذا قال الضحاك، وقتادة.

وقوله: ( إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا ) أي:حركت تحريكا فاهتزت واضطربت بطولها وعرضها. ولهذا قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وغير واحد في قوله: ( إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا ) أي:زلزلت زلزالا [ شديدا ] .

وقال الربيع بن أنس:ترج بما فيها كرج الغربال بما فيه.

وهذه كقوله تعالى: إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا [ الزلزلة:1 ] ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [ الحج:1 ] .

وقوله: ( وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا ) أي:فُتِّتَتْ فَتًّا . قاله ابن عباس، ومجاهد، وعِكْرِمَة، وقتادة، وغيرهم.

وقال ابن زيد:صارت الجبال كما قال [ الله ] تعالى: كَثِيبًا مَهِيلا [ المزمل:14 ] .

وقوله: ( فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا ) ، قال أبو إسحاق، عن الحارث، عن علي، رضي الله عنه: ( هَبَاءً مُنْبَثًّا ) كرهَج الغبار يسطع ثم يذهب، فلا يبقى منه شيء.

وقال العَوْفِيّ عن ابن عباس في قوله: ( فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا ) :الهباء الذي يطير من النار، إذا اضطرمت يطير منه الشرر، فإذا وقع لم يكن شيئا.

وقال عكرمة:المنبث:الذي ذرته الريح وبثته. وقال قتادة: ( هَبَاءً مُنْبَثًّا ) كيبيس الشجر الذي تذروه الرياح.

وهذه الآية كأخواتها الدالة على زوال الجبال عن أماكنها يوم القيامة، وذهابها وتسييرها ونسفها - أي قلعها- وصيرورتها كالعهن المنفوش.

وقوله: ( وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً ) أي:ينقسم الناس يوم القيامة إلى ثلاثة أصناف:قوم عن يمين العرش، وهم الذين خرجوا من شق آدم الأيمن، ويؤتون كتبهم بأيمانهم، ويؤخذ بهم ذات اليمين. قال السُّدِّيّ:وهم جمهور أهل الجنة. وآخرون عن يسار العرش، وهم الذين خرجوا من شق آدم الأيسر، ويؤتون كتبهم بشمائلهم، ويؤخذ بهم ذات الشمال، وهم عامة أهل النار - عياذًا بالله من صنيعهم- وطائفة سابقون بين يديه وهم أخص وأحظى وأقرب من أصحاب اليمين الذين هم سادتهم، فيهم الرسل والأنبياء والصديقون والشهداء، وهم أقل عددا من أصحاب اليمين؛ ولهذا قال: ( فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ) وهكذا قسمهم إلى هذه الأنواع الثلاثة في آخر السورة وقت احتضارهم، وهكذا ذكرهم في قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ الآية [ فاطر:32 ] ، وذلك على أحد القولين في الظالم لنفسه كما تقدم بيانه.

قال سفيان الثوري، عن جابر الجعفي، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: ( وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً ) قال:هي التي في سورة الملائكة: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ .

وقال ابن جُرَيْج عن ابن عباس:هذه الأزواج الثلاثة هم المذكورون في آخر السورة وفي سورة الملائكة.

وقال يزيد الرقاشي:سألت ابن عباس عن قوله: ( وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً ) قال:أصنافا ثلاثة.

وقال مجاهد: ( وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً ) [ قال ] :يعني:فرقا ثلاثة. وقال ميمون بن مِهْران:أفواجا ثلاثة. وقال عُبَيد الله العتكي، عن عثمان بن سراقة ابن خالة عمر بن الخطاب: ( وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً ) اثنان في الجنة، وواحد في النار.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا محمد بن الصباح، حدثنا الوليد بن أبي ثور، عن سِمَاك، عن النعمان بن بشير قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ [ التكوير:7 ] قال:الضرباء، كل رجل من قوم كانوا يعملون عمله، وذلك بأن الله يقول: ( وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ) قال:هم الضرباء .

وقال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن عبد الله المثنى، حدثنا البراء الغنوي، حدثنا الحسن، عن معاذ بن جبل؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ ، وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ فقبض بيده قبضتين فقال: « هذه للجنة ولا أبالي، وهذه للنار ولا أبالي » .

وقال أحمد أيضا:حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعَة، حدثنا خالد بن أبي عمران، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: « أتدرون من السابقون إلى ظل يوم القيامة؟ » قالوا:الله ورسوله أعلم. قال: « الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سئلوه بذلوه، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم » .

وقال محمد بن كعب وأبو حَرْزَةَ يعقوب بن مجاهد: ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ) :هم الأنبياء، عليهم السلام. وقال السُّدِّيّ:هم أهل عليين. وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن ابن عباس: ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ) ، قال:يوشع بن نون، سبق إلى موسى، ومؤمن آل « يس » ، سبق إلى عيسى، وعلي بن أبي طالب، سبق إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه ابن أبي حاتم، عن محمد بن هارون الفلاس، عن عبد الله بن إسماعيل المدائني البزاز، عن شُعَيْب بن الضحاك المدائني، عن سفيان بن عُيَيْنَة، عن ابن أبي نَجِيح به.

وقال ابن أبي حاتم:وذكر محمد بن أبي حماد، حدثنا مِهْرَان، عن خارجة، عن قُرَّة،َ عن ابن سِيرين: ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ) الذين صلوا للقبلتين.

ورواه ابن جرير من ‌‌‌حديث خارجة، به.

وقال الحسن وقتادة: ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ) أي:من كل أمة.

وقال الأوزاعي، عن عثمان بن أبي سودة أنه قرأ هذه الآية: ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) ثم قال:أولهم رواحًا إلى المسجد، وأولهم خروجًا في سبيل الله.

وهذه الأقوال كلها صحيحة، فإن المراد بالسابقين هم المبادرون إلى فعل الخيرات كما أمروا، كما قال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ [ آل عمران:133 ] ، وقال: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [ الحديد:21 ] ، فمن سابق إلى هذه الدنيا وسبق إلى الخير، كان في الآخرة من السابقين إلى الكرامة، فإن الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان؛ ولهذا قال تعالى: ( أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن زكريا القزاز الرازي، حدثنا خارجة بن مُصعَب، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عمرو قال:قالت الملائكة:يا رب، جعلت لبني آدم الدنيا فهم يأكلون ويشربون ويتزوجون، فاجعل لنا الآخرة. فقال:لا أفعل. فراجعوا ثلاثا، فقال:لا أجعل من خلقت بيدي كمن قلت له:كن، فكان . ثم قرأ عبد الله: ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) .

وقد روى هذا الأثر الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في كتابه: « الرد على الجهمية » ، ولفظه:فقال الله عز وجل: « لن أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي، كمن قلت له:كن فكان » .

ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ ( 13 ) وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ ( 14 ) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ ( 15 ) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ ( 16 ) .

يقول تعالى مخبرًا عن هؤلاء السابقين أنهم ( ثُلَّةٌ ) أي:جماعة ( مِنَ الأوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ ) . وقد اختلفوا في المراد بقوله: ( الأوَّلِينَ ) ، و ( الآخِرِينَ ) . فقيل:المراد بالأولين:الأمم الماضية، والآخرين:هذه الأمة. هذا رواية عن مجاهد، والحسن البصري، رواها عنهما ابن أبي حاتم. وهو اختيار ابن جرير، واستأنس بقوله صلى الله عليه وسلم: « نحن الآخرون السابقون يوم القيامة » . ولم يحك غيره ولا عزاه إلى أحد.

ومما يستأنس به لهذا القول، ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع، حدثنا شريك، عن محمد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال:لما نـزلت: ( ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ ) شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فنـزلت: ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، ثلث أهل الجنة، بل أنتم نصف أهل الجنة - أو:شطر أهل الجنة- وتقاسمونهم النصف الثاني « . »

ورواه الإمام أحمد، عن أسود بن عامر، عن شريك، عن محمد، بياع الملاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، فذكره . وقد روي من حديث جابر نحو هذا، ورواه الحافظ ابن عساكر من طريق هشام بن عمار:حدثنا عبد ربه بن صالح، عن عروة بن رويم، عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم:لما نـزلت: فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ، ذكر فيها ( ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ ) ، قال عمر:يا رسول الله، ثلة من الأولين وقليل منا؟ قال:فأمسك آخر السورة سنة، ثم نـزل: ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا عمر، تعال فاسمع ما قد أنـزل الله: ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ ، ألا وإن من آدم إليَّ ثلة، وأمتي ثلة، ولن نستكمل ثلتنا حتى نستعين بالسودان من رعاة الإبل، ممن شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له » .

هكذا أورده في ترجمة « عروة بن رويم » ، إسنادا ومتنا، ولكن في إسناده نظر. وقد وردت طرق كثيرة متعددة بقوله صلى الله عليه وسلم: « إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة » الحديث بتمامه ، وهو مفرد في « صفة الجنة » ولله الحمد والمنة. وهذا الذي اختاره ابن جرير هاهنا، فيه نظر، بل هو قول ضعيف؛ لأن هذه الأمة هي خير الأمم بنص القرآن، فيبعد أن يكون المقربون في غيرها أكثر منها، اللهم إلا أن يقابل مجموع الأمم بهذه الأمة. والظاهر أن المقربين من هؤلاء أكثر من سائر الأمم، والله أعلم. فالقول الثاني في هذا المقام، هو الراجح، وهو أن يكون المراد بقوله: ( ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ ) أي:من صدر هذه الأمة، ( وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ ) أي:من هذه الأمة.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا عفان، حدثنا عبد الله بن بكر المزني، سمعت الحسن:أتى على هذه الآية: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فقال:أما السابقون، فقد مضوا، ولكن اللهم اجعلنا من أهل اليمين.

ثم قال:حدثنا أبي، حدثنا أبو الوليد، حدثنا السُّرِّيّ بن يحيى قال:قرأ الحسن: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ ثلة ممن مضى من هذه الأمة.

وحدثنا أبي، حدثنا عبد العزيز بن المغيرة المَنْقَري، حدثنا أبو هلال، عن محمد بن سيرين، أنه قال في هذه الآية: ( ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ ) قال:كانوا يقولون، أو يرجون، أن يكونوا كلهم من هذه الأمة. فهذا قول الحسن وابن سيرين أن الجميع من هذه الأمة. ولا شك أن أول كل أمة خير من آخرها، فيحتمل أن يعم الأمر جميع الأمم كل أمة بحسبها؛ ولهذا ثبت في الصحاح وغيرها، من غير وجه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم » الحديث بتمامه.

فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد:حدثنا عبد الرحمن، حدثنا زياد أبو عمر، عن الحسن، عن عمار بن ياسر، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مثل أمتي مثل المطر، لا يدرى أوله خير أم آخره » ، فهذا الحديث، بعد الحكم بصحة إسناده، محمول على أن الدين كما هو محتاج إلى أول الأمة في إبلاغه إلى من بعدهم، كذلك هو محتاج إلى القائمين به في أواخرها، وتثبيت الناس على السنة وروايتها وإظهارها، والفضل للمتقدم. وكذلك الزرع الذي يحتاج إلى المطر الأول وإلى المطر الثاني، ولكن العمدة الكبرى على الأول، واحتياج الزرع إليه آكد، فإنه لولاه ما نبت في الأرض، ولا تعلق أساسه فيها؛ ولهذا قال، عليه السلام: « لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، إلى قيام الساعة » . وفي لفظ: « حتى يأتي أمر الله وهم كذلك » . والغرض أن هذه الأمة أشرف من سائر الأمم، والمقربون فيها أكثر من غيرها وأعلى منـزلة؛ لشرف دينها وعظم نبيها. ولهذا ثبت بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن في هذه الأمة سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب. وفي لفظ: « مع كل ألف سبعون ألفا » . وفي آخر مع كل واحد سبعون ألفا « . »

وقد قال الحافظ أبو القاسم الطبراني:حدثنا هشام بن مرثد الطبراني، حدثنا محمد - هو ابن إسماعيل بن عياش- حدثني أبي، حدثني ضَمْضَم - يعني ابن زُرْعَة- عن شريح - هو ابن عبيد- عن أبي مالك، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أما والذي نفسي بيده، ليبعثن منكم يوم القيامة مثل الليل الأسود زمرة جميعها يحيطون الأرض، تقول الملائكة لما جاء مع محمد صلى الله عليه وسلم أكثر مما جاء مع الأنبياء، عليهم السلام » .

وحسن أن يذكر هاهنا [ عند قوله: ( ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ ) ] الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في « دلائل النبوة » حيث قال:أخبرنا أبو نصر بن قتادة، أخبرنا أبو عمرو بن مطر، حدثنا جعفر - [ هو ] بن محمد بن المستفاض الفريابي - حدثني أبو وهب الوليد بن عبد الملك بن عبيد الله بن مُسَرِّح الحرَّاني، حدثنا سليمان بن عطاء القرشي الحراني، عن مسلمة بن عبد الله الجهني، عن عمه أبي مَشْجَعة بن رِبْعِي، عن ابن زَمْل الجهني، رضي الله عنه، قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح قال، وهو ثان رجله: « سبحان الله وبحمده. أستغفر الله، إن الله كان توابا » سبعين مرة، ثم يقول: « سبعين بسبعمائة، لا خير لمن كانت ذنوبه في يوم واحد أكثر من سبعمائة » . ثم يقول ذلك مرتين، ثم يستقبل الناس بوجهه، وكان يعجبه الرؤيا، ثم يقول: « هل رأى أحد منكم شيئا؟ » قال ابن زمل:فقلت:أنا يا رسول الله. فقال: « خير تلقاه، وشر توقاه، وخير لنا، وشر على أعدائنا، والحمد لله رب العالمين. اقصص رؤياك » . فقلت:رأيت جميع الناس على طريق رحب سهل لا حب، والناس على الجادة منطلقين، فبينما هم كذلك، إذ أشفى ذلك الطريق على مرج لم تر عيني مثله، يرف رفيفا يقطر ماؤه، فيه من أنواع الكلأ قال:وكأني بالرعلة الأولى حين أشفوا على المرج كبّروا، ثم أكبوا رواحلهم في الطريق، فلم يظلموه يمينا ولا شمالا. قال:فكأني أنظر إليهم منطلقين. ثم جاءت الرعلة الثانية وهم أكثر منهم أضعافا، فلما أشفوا على المرج كبّروا، ثم أكبوا رواحلهم في الطريق، فمنهم المرتع، ومنهم الآخذ الضغث. ومضوا على ذلك. قال:ثم قدم عظم الناس، فلما أشفوا على المرج كبروا وقالوا: ( هذا خير المنـزل ) . كأني أنظر إليهم يميلون يمينا وشمالا فلما رأيت ذلك، لزمت الطريق حتى آتي أقصى المرج، فإذا أنا بك يا رسول الله على منبر فيه سبع درجات وأنت في أعلاها درجة، وإذا عن يمينك رجل آدم شثل أقنى، إذا هو تكلم يسمو فيفرع الرجال طولا وإذا عن يسارك رجل ربعة باذ كثير خيلان الوجه، كأنما حمم شعره بالماء، إذا هو تكلم أصغيتم إكراما له. وإذا أمام ذلك رجل شيخ أشبه الناس بك خلقا ووجها، كلكم تؤمونه تريدونه، وإذا أمام ذلك ناقة عجفاء شارف، وإذا أنت يا رسول الله كأنك تبعثها. قال:فامتقع لون رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ثم سري عنه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أمّا ما رأيت من الطريق السهل الرحب اللا حب، فذاك ما حملتم عليه من الهدى وأنتم عليه. وأما المرج الذي رأيت، فالدنيا مضيت أنا وأصحابي لم نتعلق منها بشيء، ولم تتعلق منا، ولم نردها ولم تردنا. ثم جاءت الرعلة الثانية من بعدنا وهم أكثر منا أضعافا، فمنهم المرتع، ومنهم الآخذ الضغث، ونجوا على ذلك. ثم جاء عظم الناس، فمالوا في المرج يمينا وشمالا فإنا لله وإنا إليه راجعون. وأما أنت، فمضيت على طريقة صالحة، فلن تزال عليها حتى تلقاني. وأما المنبر الذي رأيت فيه سبع درجات وأنا في أعلاها درجة، فالدنيا سبعة آلاف سنة، أنا في آخرها ألفا. وأما الرجل الذي رأيت على يميني الآدم الشثل، فذلك موسى، عليه السلام، إذا تكلم، يعلو الرجال بفضل كلام الله إياه. والذي رأيت عن يساري الباز الربعة الكثير خيلان الوجه، كأنما حمم شعره بالماء، فذلك عيسى ابن مريم، نكرمه لإكرام الله إياه. وأما الشيخ الذي رأيت أشبه الناس بي خلقا ووجها فذاك أبونا إبراهيم، كلنا نؤمه ونقتدي به. وأما الناقة التي رأيت ورأيتني أبعثها، فهي الساعة، علينا تقوم، لا نبي بعدي، ولا أمة بعد أمتي » . قال:فما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رؤيا بعد هذا إلا أن يجيء الرجل، فيحدثه بها متبرعا .

وقوله: ( عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ ) قال ابن عباس:أي مرمولة بالذهب، يعني:منسوجة به. وكذا قال مجاهد، وعِكْرِمَة، وسعيد بن جُبَيْر، وزيد بن أسلم، وقتادة، والضحاك، وغيره.

وقال السُّدِّيّ:مرمولة بالذهب واللؤلؤ. وقال عكرمة:مشبكة بالدر والياقوت. وقال ابن جرير:ومنه سمي وضين الناقة الذي تحت بطنها، وهو فعيل بمعنى مفعول؛ لأنه مضفور، وكذلك السرر في الجنة مضفورة بالذهب واللآلئ.

وقال: ( مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ ) أي:وجوه بعضهم إلى بعض، ليس أحد وراء أحد.