تفسير سورة التغابن

 

وهي مدنية، وقيل:مكية.

قال الطبراني:حدثنا محمد بن هارون بن محمد بن بكار الدمشقي، حدثنا العباس بن الوليد الخلال، حدثنا الوليد بن الوليد، حدثنا ابن ثوبان، عن عطاء بن أبي رباح، عن عبد الله بن عَمرو، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما من مولود يولد إلا مكتوب في تشبيك رأسه خمس آيات من سورة التغابن »

أورده ابن عساكر في ترجمة « الوليد بن صالح » وهو غريب جدًّا، بل منكر.

بسم الله الرحمن الرحيم

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 1 ) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 2 ) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ( 3 ) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 4 )

هذه السورة هي آخر المُسَبِّحات، وقد تقدم الكلام على تسبيح المخلوقات لبارئها ومالكها؛ ولهذا قال: ( لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ) أي:هو المتصرف في جميع الكائنات، المحمود على جميع ما يخلقه ويقدره.

وقوله: ( وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) أي:مهما أراد كان بلا ممانع ولا مدافع، وما لم يشأ لم يكن.

وقوله: ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ) أي:هو الخالق لكم على هذه الصفة، وأراد منكم ذلك، فلا بد من وجود مؤمن وكافر، وهو البصير بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلال، وهو شهيد على أعمال عباده، وسيجزيهم بها أتم الجزاء؛ ولهذا قال: ( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )

ثم قال: ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ ) أي:بالعدل والحكمة، ( وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ) أي:أحسن أشكالكم، كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [ الانفطار:6- 8 ] وكقوله: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ الآية [ غافر:64 ] وقوله: ( وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) أي:المرجع والمآب.

ثم أخبر تعالى عن علمه بجميع الكائنات السمائية والأرضية والنفسية، فقال: ( يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ )

أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 5 ) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ( 6 )

يقول تعالى مخبرًا عن الأمم الماضين، وما حل بهم من العذاب والنكال؛ في مخالفة الرسل والتكذيب بالحق، فقال: ( أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ) أي:خبرهم وما كان من أمرهم، ( فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ ) أي:وخيم تكذيبهم ورديء أفعالهم، وهو ما حل بهم في الدنيا من العقوبة والخزي ( وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) أي:في الدار الآخرة مضاف إلى هذا الدنيوي. ثم علل ذلك فقال: ( ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ) أي:بالحجج والدلائل والبراهين ( فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا ) ؟ أي:استبعدوا أن تكون الرسالة في البشر، وأن يكون هداهم على يدي بشر مثلهم، ( فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا ) أي:كذبوا بالحق ونكلوا عن العمل، ( وَاسْتَغْنَى اللَّهُ ) أي:عنهم ( وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ )

زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ( 7 ) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 8 ) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 9 )

يقول تعالى مخبرًا عن المشركين والكفار والملحدين أنهم يزعمون أنهم لا يبعثون: ( قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ ) أي:لتُخْبَرُنَّ بجميع أعمالكم، جليلها وحقيرها، صغيرها وكبيرها، ( وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) أي:بعثكم ومجازاتكم.

وهذه هي الآية الثالثة التي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه، عز وجل، على وقوع المعاد ووجوده فالأولى في سورة يونس: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [ يونس:53 ] والثانية في سورة سبأ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ الآية [ سبأ:3 ] والثالثة هي هذه [ ( زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ] )

ثم قال تعالى: ( فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا ) يعني:القرآن ، ( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) أي:فلا تخفى عليه من أعمالكم خافية.

وقوله: ( يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ) وهو يوم القيامة، سمي بذلك لأنه يجمع فيه الأولون والآخرون في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينَفُذَهم البصر، كما قال تعالى: ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [ هود:103 ] وقال تعالى: قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [ الواقعة:49 ، 50 ]

وقوله: ( ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ) قال ابن عباس:هو اسم من أسماء يوم القيامة. وذلك أن أهل الجنة يغبنون أهل النار. وكذا قال قتادة ومجاهد.

وقال مقاتل بن حيان:لا غبن أعظمُ من أن يدخل هؤلاء إلى الجنة، ويُذْهَب بأولئك إلى النار.

قلت:وقد فسر ذلك بقوله تعالى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ وقد تقدم تفسير مثلُ هذه غير مرة.