إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 62 ) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ( 63 )

ثم قال الله تعالى: ( إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ) أي:هذا الذي قصصناه عليك يا محمد في شأن عيسى هو الحق الذي لا مَعْدل عنه ولا محيد ( وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّه وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * فَإِنْ تَوَلَّوْا ) أي:عن هذا إلى غيره. ( فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ) أي:من عدل عن الحق إلى الباطل فهو المفسد والله عليم به، وسيجزيه على ذلك شر الجزاء، وهو القادر، الذي لا يفوته شيء [ سبحانه وبحمده ونعوذ به من حلول نقمه ] .

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( 64 )

هذا الخطاب يعم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ومن جرى مجراهم ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ ) والكلمة تطلق على الجملة المفيدة كما قال هاهنا. ثم وصفها بقوله: ( سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ) أي:عدل ونصف، نستوي نحن وأنتم فيها. ثم فسرها بقوله: ( أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ) لا وَثَنا، ولا صنما، ولا صليبا ولا طاغوتا، ولا نارًا، ولا شيئًا بل نُفْرِدُ العبادة لله وحده لا شريك له. وهذه دعوة جميع الرسل، قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ [ الأنبياء:25 ] . [ وقال تعالى ] وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [ النحل:36 ] .

ثم قال: ( وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ) وقال ابن جُرَيْج:يعني:يطيع بعضنا بعضا في معصية الله. وقال عكرمة:يعني:يسجد بعضنا لبعض.

( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) أي:فإن تولوا عن هذا النَّصَف وهذه الدعوة فأشْهدوهم أنتم على استمراركم على الإسلام الذي شرعه الله لكم.

وقد ذكرنا في شرح البخاري، عند روايته من طريق الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس، عن أبي سفيان، في قصته حين دخل على قيصر، فسألهم عن نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن صفته ونعته وما يدعو إليه، فأخبره بجميع ذلك على الجلية، مع أن أبا سفيان كان إذ ذاك مُشْركًا لم يُسْلم بعد، وكان ذلك بعد صُلْح الحُدَيْبِيَة وقبل الفتح، كما هو مُصَرّح به في الحديث، ولأنه لما قال هل يغدر؟ قال:فقلت:لا ونحن منه في مُدة لا ندري ما هو صانع فيها. قال:ولم يمكني كلمة أزيد فيها شيئا سوى هذه:والغرض أنه قال:ثم جيء بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه، فإذا فيه:

« بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيم، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى. أَمَّا بَعْدُ، فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَك مَرَّتَيْنِ فَإِن تَوَلَّيْتَ فإنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأريسيِّين، و ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) . »

وقد ذكر محمد بن إسحاق وغير واحد أن صَدْر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها نـزلت في وَفْد نجْران، وقال الزهري:هم أول من بَذَلَ الجزية. ولا خلاف أن آية الجزية نـزلت بعد الفتح، فما الجمع بين كتابة هذه الآية قبل الفتح إلى هِرقْل في جملة الكتاب، وبين ما ذكره محمد بن إسحاق والزهري؟ والجواب من وجُوه:

أحدها:يحتمل أن هذه الآية نـزلت مرتين، مَرّةً قبل الحديبية، ومرة بعد الفتح.

الثاني:يحتمل أن صدر سورة آل عمران نـزل في وفد نجران إلى عند هذه الآية، وتكون هذه الآية نـزلت قبل ذلك، ويكون قول ابن إسحاق: « إلى بضع وثمانين آية » ليس بمحفوظ، لدلالة حديث أبي سفيان.

الثالث:يحتمل أن قدوم وفد نجران كان قبل الحديبية، وأن الذي بذلوه مُصَالحةً عن المباهلة لا على وجه الجزية، بل يكون من باب المهادنة والمصالحة، ووافق نـزول آية الجزية بعد ذلك على وفق ذلك كما جاء فرض الخمس والأربعة الأخماس وفق ما فعله عبد الله بن جحش في تلك السرية قبل بدر، ثم نـزلت فريضة القسم على وفق ذلك.

الرابع:يحتمل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر بكَتْب هذا [ الكلام ] في كتابه إلى هرقل لم يكن أنـزل بعد، ثم نـزل القرآن موافقة له كما نـزل بموافقة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الحجاب وفي الأسارى، وفي عدم الصلاة على المنافقين، وفي قوله: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [ البقرة:125 ] وفي قوله: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ الآية [ التحريم:5 ] .

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ إِلا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ( 65 ) هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ( 66 ) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 67 ) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ( 68 )

ينكر تعالى على اليهود والنصارى في محاجتهم في إبراهيم الخليل، ودعوى كل طائفة منهم أنه كان منهم، كما قال محمد بن إسحاق بن يسار:

حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال:اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار:ما كان إبراهيم إلا يهوديا. وقالت النصارى ما كان إبراهيم إلا نصرانيا. فأنـزل الله تعالى: ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنـزلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإنْجِيلُ إِلا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) أي:كيف تَدّعُون، أيها اليهود، أنه كان يهوديا، وقد كان زمنه قبل أن ينـزل الله التوراة على موسى، وكيف تَدّعُون، أيها النصارى، أنه كان نصرانيا، وإنما حدثت النصرانية بعد زمنه بدهر. ولهذا قال: ( أَفَلا تَعْقِلُونَ ) .

ثم قال: ( هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُون ) هذا إنكار على من يحاج فيما لا علم له به، فإنَّ اليهود والنصارى تَحَاجوا في إبراهيم بلا علم، ولو تحاجوا فيما بأيديهم منه علْم مما يتعلق بأديانهم التي شرعت لهم إلى حين بعثة محمد صلى الله عليه وسلم لكان أولى بهم، وإنما تكلموا فيما لم يعلموا به، فأنكر الله عليهم ذلك، وأمرهم بردّ ما لا علم لهم به إلى عالم الغيب والشهادة، الذي يعلم الأمور على حقائقها وجلياتها، ولهذا قال: ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )

ثم قال تعالى: ( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا ) أي:مُتَحَنفًا عن الشرك قَصْدًا إلى الإيمان ( وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) .

وهذه الآية كالتي تقدمت في سورة البقرة: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [ البقرة:135 ] .

ثم قال تعالى: ( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) يقول تعالى:أحق الناس بمتابعة إبراهيم الخليل الذين اتبعوه على دينه، وهذا النبي - يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم- والذين آمنوا من أصحابه المهاجرين والأنصار ومَنْ بعدهم.

قال سعيد بن منصور:أخبرنا أبو الأحوص، عن سعيد بن مسروق، عن أبي الضُّحَى، عن مسروق، عن ابن مسعود، رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلاةً مِنَ النَّبِيِّينَ، وإنَّ وَليِّي مِنْهُمْ أبي وخَلِيلُ رَبِّي عز وجل » . ثم قرأ: ( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) .

وقد رواه الترمذي والبزار من حديث أبي أحمد الزُّبيري، عن سفيان الثوري، عن أبيه، به ثم قال البزار:ورواه غير أبي أحمد، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى، عن عبد الله، ولم يذكر مسروقا. وكذا رواه الترمذي من طريق وَكِيع، عن سفيان، ثم قال:وهذا أصح لكن رواه وكيع في تفسيره فقال:حدثنا سفيان، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن مسعود قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم...فذكره.

وقوله: ( وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) أي:ولي جميع المؤمنين برسله.

وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ( 69 ) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ( 70 )

يخبر تعالى عن حَسَدَ اليهود للمؤمنين وبَغْيهم إياهم الإضلال، وأخبر أنَّ وَبَالَ ذلك إنما يعود على أنفسهم، وهم لا يشعرون أنهم ممكور بهم.