تفسير سورة الانفطار

 

وهي مكية.

قال النسائي:أخبرنا محمد بن قدامة، حدثنا جرير عن الأعمش، عن محارب بن دثَار، عن جابر قال:قام معاذ فصلى العشاء الآخرة فطوّل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « أفتان يا معاذ؟! [ أفتان يا معاذ؟! ] أين كنت عن سبح اسم ربك الأعلى، والضحى، وإذا السماء انفطرت؟! » .

وأصل الحديث مخرج في الصحيحين ولكن ذُكَر « إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ » في أفراد النسائي. وتقدم من رواية عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من سَرَّه أن يَنْظُرَ إلى القيامة رأي عين فليقرأ: » إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ « و « إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ » و » إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ « » .

بسم الله الرحمن الرحيم

إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ( 1 ) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ ( 2 ) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ( 3 ) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ( 4 ) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ( 5 ) يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ( 6 ) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ( 7 ) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ( 8 ) كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ( 9 ) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ( 10 ) كِرَامًا كَاتِبِينَ ( 11 ) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ( 12 )

يقول تعالى: ( إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ) أي:انشقت. كما قال: السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [ المزمل:18 ] .

( وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ ) أي:تساقطت.

( وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:فجر الله بعضها في بعض. وقال الحسن:فجر الله بعضها في بعض، فذهب ماؤها. وقال قتادة:اختلط مالحها بعذبها. وقال الكلبي:ملئت.

( وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَت ) قال ابن عباس:بُحِثَت. وقال السدي:تُبَعثر:تُحرّك فيخرج من فيها .

( عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ) أي:إذا كان هذا حَصَل هذا.

وقوله: ( يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) ؟:هذا تهديد، لا كما يتوهمه بعض الناس من أنه إرشاد إلى الجواب؛ حيث قال: ( الْكَرِيمِ ) حتى يقول قائلهم:غره كرمه. بل المعنى في هذه الآية:ما غرك يا ابن آدم بربك الكريم- أي:العظيم- حتى أقدمت على معصيته، وقابلته بما لا يليق؟ كما جاء في الحديث: « يقول الله يوم القيامة:ابن آدم، ما غرك بي؟ ابن آدم، ماذا أجبتَ المرسلين؟ » .

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان:أن عمر سمع رجلا يقرأ: ( يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) فقال عمر:الجهل .

وقال أيضا:حدثنا عمر بن شَبَّة، حدثنا أبو خلف، حدثنا يحيى البكاء، سمعت ابن عمر يقول وقرأ هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) قال ابن عمر:غره- والله- جهله.

قال:ورُوي عن ابن عباس، والربيع بن خُثَيم والحسن، مثل ذلك.

وقال قتادة: ( مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) شيءٌ، ما غَرّ ابن آدم غير هذا العدو الشيطان.

وقال الفضيل بن عياض:لو قال لي: « ما غرك بي لقلت:سُتُورك المُرخاة.»

وقال أبو بكر الوراق:لو قال لي: ( مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) لقلت:غرني كرم الكريم.

قال البغوي:وقال بعض أهل الإشارة:إنما قال: ( بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) دون سائر أسمائه وصفاته، كأنه لقنه الإجابة .

وهذا الذي تخيله هذا القائل ليس بطائل؛ لأنه إنما أتى باسمه ( الْكَرِيم ) ؛ لينبه على أنه لا ينبغي أن يُقَابَل الكريم بالأفعال القبيحة، وأعمال السوء.

و [ قد ] حكى البغوي، عن الكلبي ومقاتل أنهما قالا نـزلت هذه الآية في الأسود بن شَريق، ضرب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعاقب في الحالة الراهنة، فأنـزل الله: ( مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) ؟ .

وقوله: ( الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ) أي:ما غرك بالرب الكريم ( الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ) أي:جعلك سَويا معتدل القامة منتصبها، في أحسن الهيئات والأشكال.

قال الإمام أحمد:حدثنا أبو النضر، حدثنا حَريزُ، حدثني عبد الرحمن بن مَيسرة، عن جُبير ابن نُفَير، عن بُسْر بن جحَاش القرشي:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصق يوما في كفه، فوضع عليها إصبعه، ثم قال: « قال اللَه عز وجل:ابن آدم أنَّى تُعجِزني وقد خلقتك من مثل هذه؟ حتى إذا سَوّيتك وعدلتك، مشيت بين بردين وللأرض منك وَئِيدٌ، فجَمَعت ومَنعت، حتى إذا بلغت التراقي قلتَ:أتصدقُ، وأنَّى أوانُ الصدقة » .

وكذا رواه ابن ماجة، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يزيد بن هارون، عن حَريز بن عثمان، به .

قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزِّي:وتابعه يحيى بن حمزة، عن ثور بن يزيد، عن عبد الرحمن بن ميسرة .

وقوله: ( فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ) قال مجاهد:في أي شَبَه أب أو أم أو خال أو عم؟

وقال ابن جرير:حدثني محمد بن سنان القزاز، حدثنا مُطَهَّر بن الهيثم، حدثنا موسى بنُ عُلَيِّ بن رَبَاح، حدثني أبي، عن جدي:أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: « ما ولد لك؟ » قال:يا رسول الله، ما عسى أن يُولَد لي؟ إما غلام وإما جارية. قال: « فمن يشبه؟ » . قال:يا رسول الله، من عسى أن يشبه؟ إما أباه وإما أمه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم عندها: « مه. لا تقولَنَّ هكذا، إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم؟ أما قرأت هذه الآية في كتاب الله: ( فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ) » قال:سَلَكك .

وهكذا رواه ابن أبي حاتم والطبراني، من حديث مُطهر بن الهيثم، به وهذا الحديث لو صح لكان فيصلا في هذه الآية، ولكن إسناده ليس بالثابت؛ لأن « مُطَهَّر بن الهيثم » قال فيه أبو سعيد بن يونس:كان متروك الحديث. وقال ابن حبان:يُرْوى عن موسى بن علي وغيره ما لا يُشبهُ حَديثَ الأثبات. ولكن في الصحيحين عن أبي هُرَيرة أن رَجُلا قال:يا رسول الله، إن امرأتي وَلَدت غُلامًا أسودَ؟. قال: « هل لك من إبل؟ » . قال:نعم. قال: « فما ألوانها؟ » قال:حُمر. قال: « فهل فيها من أورَق؟ » قال:نعم. قال: « فأنى أتاها ذلك؟ » قال:عسى أن يكون نـزعة عِرْق. قال: « وهذا عسى أن يكون نـزعة عرق » .

وقد قال عكرمة في قوله: ( فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ) إن شاء في صورة قرد، وإن شاء في صورة خنـزير. وكذا قال أبو صالح:إن شاء في صورة كلب، وإن شاء في صورة حمار، وإن شاء في صورة خنـزير.

وقال قتادة: ( فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ) قال:قادر- والله - ربنا على ذلك. ومعنى هذا القول عند هؤلاء:أن الله، عز وجل، قادر على خلق النطفة على شكل قبيح من الحيوانات المنكرة الخلق، ولكن بقدرته ولطفه وحلمه يخلقه على شكل حسن مستقيم معتدل تام، حَسَن المنظر والهيئة .

وقوله: ( كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ) أي:بل إنما يحملكم على مواجهة الكريم ومقابلته بالمعاصي، تكذيب في قلوبكم بالمعاد والجزاء والحساب .

وقوله تعالى: ( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ) يعني:وإن عليكم لملائكةً حَفَظَة كراما فلا تقابلوهم بالقبائح، فإنهم يكتبون عليكم جميع أعمالكم .

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطُّنَافِسِيّ، حدثنا وَكيع، حدثنا سفيان ومِسْعَر، عن علقمة بن مَرْثَد، عن مجاهد قال::قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أكرموا الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى حالتين:الجنابة والغائط. فإذا اغتسل أحدكم فليستتر بحرم حائط أو ببعيره، أو ليستره أخوه » .

وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار، فوصله بلفظ آخر، فقال:حدثنا محمد بن عثمان بن كرامة، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن حفص بن سليمان، عن علقمة بن مرثد، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله ينهاكم عن التعرِّي، فاستحيوا من ملائكة الله الذين معكم، الكرام الكاتبين، الذين لا يُفَارقونكم إلا عند إحدى ثلاث حالات:الغائط، والجنابة، والغسل. فإذا اغتسل أحدكم بالعراء فليستتر بثوبه، أو بحرم حائط، أو ببعيره » .

ثم قال:حفص بن سليمان لين الحديث، وقد روي عنه، واحتمل حديثه .

وقال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا زياد بن أيوب، حدثنا مُبَشّر بن إسماعيل الحلبي، حدثنا تمام ابن نَجِيح، عن الحسن- يعني البصري- عن أنس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما من حافظين يرفعان إلى الله، عز وجل، ما حفظا في يوم، فيرى في أول الصحيفة وفي آخرها استغفار إلا قال الله تعالى:قد غفرت لعبدي ما بين طرفى الصحيفة » .

ثم قال:تفرد به تمام بن نجيح، وهو صالح الحديث .

قلت:وثقه ابن معين وضعفه البخاري، وأبو زُرْعة، وابن أبي حاتم والنسائي، وابن عدي. ورماه ابن حبان بالوضع. وقال الإمام أحمد:لا أعرف حقيقة أمره .

وقال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا إسحاق بن سليمان البغدادي المعروف بالقُلُوسِي حدثنا بيان بن حمران حدثنا سلام، عن منصور بن زاذان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هُرَيرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن لله ملائكة يعرفون بني آدم- وأحسبه قال:ويعرفون أعمالهم- فإذا نظروا إلى عبد يعمل بطاعة الله ذكروه بينهم وسَمَّوه، وقالوا:أفلح الليلة فلان، نجا الليلة فلان. وإذا نظروا إلى عبد يعمل بمعصية الله وذكروه بينهم وسموه، وقالوا:هلك الليلة فلان » .

ثم قال البزار:سلام هذا، أحسبه سلام المدائني، وهو لين الحديث .

إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ( 13 ) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ( 14 ) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ ( 15 ) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ( 16 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ( 17 ) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ( 18 ) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ( 19 )

يخبر تعالى عما يصير الأبرار إليه من النعيم، وهم الذين أطاعوا الله عز وجل، ولم يقابلوه بالمعاصي.

وقد روى ابن عساكر في ترجمة « موسى بن محمد » ، عن هشام بن عمار، عن عيسى بن يونس بن أبي إسحاق، عن عبيد الله، عن محارب، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إنما سماهم الله الأبرار لأنهم بَروا الآباء والأبناء » .

ثم ذكر ما يصير إليه الفجار من الجحيم والعذاب المقيم؛ ولهذا قال: ( يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ ) أي:يوم الحساب والجزاء والقيامة، ( وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ) أي:لا يغيبون عن العذاب ساعةً واحدة، ولا يخفف عنهم من عذابها، ولا يجابون إلى ما يسألون من الموت أو الراحة، ولو يوما واحدا .

وقوله: ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ) تعظيم لشأن يوم القيامة، ثم أكده بقوله: ( ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ) ثم فسره بقوله: ( يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) أي:لا يقدر واحد على نفع أحد ولا خلاصه مما هو فيه، إلا أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى.

ونذكر هاهنا حديث: « يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار، لا أملك لكم من الله شيئا » . وقد تقدم في آخر تفسير سورة « الشعراء » ؛ ولهذا قال: ( وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) كقوله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [ غافر:16 ] ، وكقوله: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ [ الفرقان:26 ] ، وكقوله: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [ الفاتحة:4 ] .

قال قتادة: ( يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) والأمر- والله- اليوم لله، ولكنه يومئذ لا ينازعه أحد.

آخر تفسير سورة « الانفطار » ولله الحمد.

 

تفسير سورة المطففين

 

وهي مدنية.

بسم الله الرحمن الرحيم

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ( 1 ) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ( 2 ) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ( 3 ) أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ( 4 ) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ( 5 ) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( 6 )

قال النسائي وابن ماجة:أخبرنا محمد بن عقيل - زاد ابن ماجة:وعبد الرحمن بن بشر- قالا حدثنا علي بن الحسين بن واقد، حدثني أبي، عن يزيد- هو ابن أبي سعيد النحوي، مولى قريش- عن عكرمة، عن ابن عباس قال:لما قدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنـزل الله: ( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ) فحسنَّوا الكيلَ بعد ذلك .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا جعفر بن النضر بن حماد، حدثنا محمد بن عبيد، عن الأعمش، عن عمرو بن مُرّة، عن عبد الله بن الحارث، عن هلال بن طلق قال:بينا أنا أسير مع ابن عمر فقلت:من أحسن الناس هيئةً وأوفاه كيلا؟ أهل مكة أو المدينة؟ قال:حق لهم، أما سمعت الله يقول: ( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ )

وقال ابن جرير:حدثنا أبو السائب، حدثنا ابن فضيل، عن ضرار، عن عبد الله المكتب، عن رجل، عن عبد الله قال:قال له رجل:يا أبا عبد الرحمن، إن أهل المدينة ليوفون الكيل. قال:وما يمنعهم أن يوفوا الكيل وقد قال الله عز وجل: ( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ) حتى بلغ: ( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) .

فالمراد بالتطفيف هاهنا:البَخْس في المكيال والميزان، إما بالازدياد إن اقتضى من الناس، وإما بالنقصان إن قَضَاهم . ولهذا فسر تعالى المطففين الذين وعدهم بالخَسَار والهَلاك وهو الويل، بقوله: ( الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ ) أي:من الناس ( يَسْتَوْفُونَ ) أي:يأخذون حقهم بالوافي والزائد، ( وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ) أي:ينقصون. والأحسن أن يجعل « كالوا » و « وزنوا » متعديا، ويكون هم في محل نصب، ومنهم من يجعلها ضميرا مؤكدا للمستتر في قوله: « كالوا » و « وزنوا » ، ويحذف المفعول لدلالة الكلام عليه، وكلاهما متقارب.

وقد أمر الله- تعالى- بالوفاء في الكيل والميزان، فقال: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا [ الإسراء:35 ] ، وقال: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا [ الأنعام:152 ] ، وقال: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ [ الرحمن:9 ] . وأهلك الله قوم شعيب ودَمَّرهم على ما كانوا يبخسون الناس في المكيال والميزان .

ثم قال تعالى متوعدا لهم: ( أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ) ؟ أي:أما يخافُ أولئك من البعث والقيام بين يَدَي من يعلم السرائر والضمائر، في يوم عظيم الهول، كثير الفزع، جليل الخطب، من خسر فيه أدخل نارا حامية؟

وقوله: ( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) أي:يقومون حفاة عراة غُرلا في موقف صعب حَرج ضيق ضنَك على المجرم، ويغشاهم من أمر الله- ما تَعْجزُ القوى والحواس عنه.

قال الإمام مالك:عن نافع، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه » .

رواه البخاري، من حديث مالك وعبد الله بن عون، كلاهما عن نافع، به . ورواه مسلم من الطريقين أيضا. وكذلك رواه صالح [ وثابت بن كيسان ] وأيوب بن يحيى، وعبد الله وعبيد الله ابنا عمر، ومحمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، به .

ولفظ الإمام أحمد:حدثنا يزيد، أخبرنا ابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:: « ( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) لعظَمة الرحمن عز وجل يوم القيامة، حتى إن العرقَ ليُلجِمُ الرجالَ إلى أنصاف آذانهم » .

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا إبراهيم بن إسحاق، حدثنا ابن المبارك، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثني سليم بن عامر، حدثني المقداد- يعني ابن الأسود الكندي- قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إذا كان يومُ القيامة أدنِيَت الشمس من العباد، حتى تكون قيدَ ميل أو ميلين، قال:فتصهرهم الشمس، فيكونون في العَرق كقَدْر أعمالهم، منهم من يأخذه إلى عَقِبيه، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه إلى حَقْوَيه، ومنهم من يلجمه إلجاما » .

رواه مسلم، عن الحكم بن موسى، عن يحيى بن حمزة- والترمذي، عن سويد، عن ابن المبارك- كلاهما عن ابن جابر، به .

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا الحسن بن سَوَّار، حدثنا الليث بن سعد، عن معاوية ابن صالح:أن أبا عبد الرحمن حدثه، عن أبي أمامة:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « تدنو الشمس يوم القيامة على قدر ميل، ويزاد في حرها كذا وكذا، تغلي منها الهوام كما تغلي القدور، يُعرَقون فيها على قدر خطاياهم، منهم من يبلغ إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ إلى ساقيه، ومنهم من يبلغ إلى وسطه، ومنهم من يلجمه العرق » . انفرد به أحمد .

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا أبو عُشَّانة حَي بن يُؤمِنُ، أنه سمع عقبة بن عامر يقول:سمعتُ رسول صلى الله عليه وسلم يقول: « تدنو الشمس من الأرض فيعرق الناس، فمن الناس من يبلغ عرقه عَقِبيه، ومنهم من يبلغ إلى نصف الساق، ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه، ومنهم من يبلغ العَجُز، ومنهم من يبلغ الخاصرة، ومنهم من يبلغ منكبيه، ومنهم من يبلغ وسط فيه- وأشار بيده فألجمها فاه، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير هكذا- ومنهم من يغطيه عرقه » . وضرب بيده إشارة. انفرد به أحمد .

وفي حديث:أنهم يقومون سبعين سنة لا يتكلمون. وقيل:يقومون ثلاثمائة سنة. وقيل:يقومون أربعين ألف سنة. ويقضى بينهم في مقدار عشرة آلاف سنة، كما في صحيح مسلم عن أبي هُرَيرة مرفوعا: « في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة » .

وقد قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أبو عون الزيادي، أخبرنا عبد السلام بن عَجْلان، سمعت أبا يزيد المدني، عن أبي هريرة قال:قال النبي صلى الله عليه وسلم لبشير الغفاري: « كيف أنت صانع في يوم يقوم الناس فيه ثلاثمائة سنة لرب العالمين، من أيام الدنيا، لا يأتيهم فيه خبر من السماء ولا يؤمر فيه بأمر؟ » . قال بشير:المستعان الله. قال: « فإذا أويت إلى فراشك فتعوذ بالله من كَرْب يوم القيامة، وسوء الحساب » .

ورواه ابن جرير من طريق عبد السلام، به .

وفي سنن أبي داود:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بالله من ضيق المقام يوم القيامة .

وعن ابن مسعود:يقومون أربعين سنة رافعي رءوسهم إلى السماء، لا يكلمهم أحد، قد ألجم العرق بَرّهم وفاجرهم.

وعن ابن عمر:يقومون مائة سنة. رواهما ابن جرير .

وفي سنن أبي داود والنسائي وابن ماجة، من حديث زيد بن الحباب، عن معاوية بن صالح، عن أزهر بن سعيد الحواري، عن عاصم بن حميد، عن عائشة:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتتح قيام الليل:يكبر عشرا، ويحمد عشرا، ويسبح عشرا، ويستغفر عشرا، ويقول: « اللهم اغفر لي واهدني، وارزقني وعافني » . ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة .