الجزء 11

 

 إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 93 )

ثم بين تعالى الأعذار التي لا حَرَج على من قعد فيها عن القتال، فذكر منها ما هو لازم للشخص لا ينفك عنه، وهو الضعف في التركيب الذي لا يستطيع معه الجلاد في الجهاد، ومنه العمى والعَرَج ونحوهما، ولهذا بدأ به. ما هو عارض بسبب مرض عَنَّ له في بدنه، شغله عن الخروج في سبيل الله، أو بسبب فقره لا يقدر على التجهز للحرب، فليس على هؤلاء حَرَج إذا قعدوا ونصحوا في حال قعودهم، ولم يرجفوا بالناس، ولم يُثَبِّطوهم، وهم محسنون في حالهم هذا؛ ولهذا قال: ( مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )

وقال سفيان الثوري، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي ثمامة، رضي الله عنه، قال:قال الحواريون:يا روح الله، أخبرنا عن الناصح لله؟ قال:الذي يُؤثِر حق الله على حق الناس، وإذا حدث له أمران - أو:بدا له أمر الدنيا وأمر الآخرة - بدأ بالذي للآخرة ثم تفرغ للذي للدنيا.

وقال الأوزاعي:خرج الناس إلى الاستسقاء، فقام فيهم بلال بن سعد، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:يا معشر من حضر:ألستم مقرين بالإساءة؟ قالوا:اللهم نعم. فقال:اللهم، إنا نسمعك تقول: ( مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) اللهم، وقد أقررنا بالإساءة فاغفر لنا وارحمنا واسقِنا. ورفع يديه ورفعوا أيديهم فَسُقوا.

وقال قتادة:نـزلت هذه الآية في عائذ بن عمرو المزني.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عبيد الله الرازي، حدثنا ابن جابر، عن ابن فروة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن زيد بن ثابت قال:كنت أكتبُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكنت أكتب بَرَاءَةٌ فإني لواضعُ القلم على أذني إذ أمرْنا بالقتال، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ما ينـزل عليه، إذا جاء أعمى فقال:كيف بي يا رسول الله وأنا أعمى؟ فأنـزل الله ( لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى ) الآية

وقال العوفي، عن ابن عباس في هذه الآية:وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرَ الناس أن ينبعثوا غازين معه، فجاءته عصابة من أصحابه، فيهم عبد الله بن مُغَفَّل المزني فقالوا:يا رسول الله، احملنا. فقال لهم: « والله لا أجد ما أحملكم عليه » . فتولوا ولهم بكاء، وعزَّ عليهم أن يجلسوا عن الجهاد، ولا يجدون نفقة ولا محملا. فلما رأى الله حرْصَهم على محبته ومحبة رسوله أنـزل عذرهم في كتابه، فقال: ( لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ ) إلى قوله تعالى: ( فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) .

وقال مجاهد في قوله: ( وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ ) نـزلت في بني مقرن من مزينة.

وقال محمد بن كعب:كانوا سبعة نفر، من بني عمرو بن عوف:سالم بن عُمَيْر - ومن بني واقف:هَرَمي بن عمرو - ومن بني مازن بن النجار:عبد الرحمن بن كعب، ويكنى أبا ليلى - ومن بني المُعَلى: [ سلمان بن صخر - ومن بني حارثة:عبد الرحمن بن يزيد، أبو عبلة، وهو الذي تصدق بعرضه فقبله الله منه ] ومن بني سَلِمة:عمرو بن عَنَمة وعبد الله بن عمرو المزني.

وقال محمد بن إسحاق في سياق غزوة تبوك:ثم إن رجالا من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم البكاءون، وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم، من بني عمرو بن عوف:سالم بن عُمَير وعلبة بن زيد أخو بني حارثة، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب، أخو بني مازن بن النجار، وعمرو بن الحمام بن الجموح، أخو بني سَلِمة، وعبد الله بن المُغَفَّل المزني؛ وبعض الناس يقول:بل هو عبد الله بن عمرو المزني، وهَرَميّ بن عبد الله، أخو بني واقف، وعِرْباض بن سارية الفزاري، فاستحملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا أهل حاجة، فقال:لا أجد ما أحملكم عليه فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا عمر بن الأودي، حدثنا وَكيع، عن الربيع، عن الحسن قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لقد خلفتم بالمدينة أقواما، ما أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم واديا، ولا نلتم من عدو نيلا إلا وقد شَركوكم في الأجر » ، ثم قرأ: ( وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ ) الآية.

وأصل هذا الحديث في الصحيحين من حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن بالمدينة أقواما ما قطعتم واديا، ولا سرتم [ مسيرًا ] إلا وهم معكم » . قالوا:وهم بالمدينة؟ قال: « نعم، حبسهم العذر »

وقال الإمام أحمد:حدثنا وَكِيع، حدثنا الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لقد خلفتم بالمدينة رجالا ما قطعتم واديًا، ولا سلكتم طريقًا إلا شَركوكم في الأجر، حبسهم المرض » .

ورواه مسلم، وابن ماجه، من طرق، عن الأعمش، به

ثم رد تعالى الملامة على الذين يستأذنون في القعود وهم أغنياء، وأنَّبَهم في رضاهم بأن يكونوا مع النساء الخوالف في الرحال، ( وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) .

 

يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 94 ) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( 95 ) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( 96 )

أخبر تعالى عن المنافقين بأنهم إذا رجعوا إلى المدينة أنهم يعتذرون إليهم، ( قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ ) أي:لن نصدقكم، ( قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ ) أي:قد أعلمنا الله أحوالكم، ( وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ) أي:سيظهر أعمالكم للناس في الدنيا، ( ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) أي:فيخبركم بأعمالكم، خيرها وشرها، ويجزيكم عليها.

ثم أخبر عنهم أنهم سيحلفون معتذرين لتعرضوا عنهم فلا تُؤَنِّبُوهم، ( فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ ) احتقارا لهم، ( إِنَّهُمْ رِجْسٌ ) أي:خُبثاء نجس بواطنهم واعتقاداتهم، ( وَمَأْوَاهُمْ ) في آخرتهم ( جهنم ) ( جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) أي:من الآثام والخطايا.

وأخبر أنهم وإن رضوا عنهم بحلفهم لهم، ( فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) أي:الخارجين عن طاعته وطاعة رسوله، فإن الفسق هو الخروج، ومنه سميت الفأرة « فُوَيسقة » لخروجها من جُحرها للإفساد، ويقال: « فسقت الرطبة » :إذا خرجت من أكمامها

الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 97 ) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 98 ) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 99 )

أخبر تعالى أن في الأعراب كفارا ومنافقين ومؤمنين، وأن كفرهم ونفاقهم أعظم من غيرهم وأشد، وأجدر، أي:أحرى ألا يعلموا حدود ما أنـزل الله على رسوله، كما قال الأعمش عن إبراهيم قال:جلس أعرابي إلى زيد بن صَوْحان وهو يحدث أصحابه، وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوَند، فقال الأعرابي:والله إن حديثك ليعجبني، وإن يدك لتريبني فقال زيد:ما يُريبك من يدي؟ إنها الشمال. فقال الأعرابي:والله ما أدري، اليمين يقطعون أو الشمالَ؟ فقال زيد بن صوحان صدق الله: ( الأعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنـزلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ )

وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي، حدثنا سفيان، عن أبي موسى، عن وهب بن مُنَبِّه، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غَفَل، ومن أتى السلطان افتتن » .

ورواه أبو داود، والترمذي، والنسائي من طرق، عن سفيان الثوري، به وقال الترمذي:حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث الثوري.

ولما كانت الغلظة والجفاء في أهل البوادي لم يبعث الله منهم رسولا وإنما كانت البعثة من أهل القرى، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [ يوسف:109 ] ولما أهدى ذلك الأعرابي تلك الهدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فردَّ عليه أضعافها حتى رضي، قال: « لقد هممت ألا أقبل هدية إلا من قُرشي، أو ثَقَفي أو أنصاري، أو دَوْسِيّ » ؛ لأن هؤلاء كانوا يسكنون المدن:مكة، والطائف، والمدينة، واليمن، فهم ألطف أخلاقًا من الأعراب:لما في طباع الأعراب من الجفاء.

حديث [ الأعرابي ] في تقبيل الولد:قال مسلم:حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كُرَيْب قالا حدثنا أبو أسامة وابن نُمَيْر، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت:قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:أتقبِّلون صبيانكم؟ قالوا:نعم. قالوا:ولكنا والله ما نقبِّل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « وَأمْلكُ أن كان الله نـزع منكم الرحمة؟ » . وقال ابن نمير: « من قلبك الرحمة »

وقوله: ( وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) أي:عليم بمن يستحق أن يعلمه الإيمان والعلم، ( حَكِيمٌ ) فيما قسم بين عباده من العلم والجهل والإيمان والكفر والنفاق، لا يسأل عما يفعل، لعلمه وحكمته.

وأخبر تعالى أن منهم ( مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ ) أي:في سبيل الله ( مَغْرَمًا ) أي:غرامة وخسارة، ( وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ ) أي:ينتظر بكم الحوادث والآفات، ( عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ) أي:هي منعكسة عليهم والسوء دائر عليهم، ( وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) أي:سميع لدعاء عباده، عليم بمن يستحق النصر ممن يستحق الخذلان.

وقوله: ( وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ ) هذا هو القسم الممدوح من الأعراب، وهم الذين يتخذون ما ينفقون في سبيل الله قربة يتقربون بها عند الله، ويبتغون بذلك دعاء الرسول لهم، ( أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ ) أي:ألا إن ذلك حاصل لهم، ( سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )

 

وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 100 )

يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، ورضاهم عنه بما أعدَّ لهم من جنات النعيم، والنعيم المقيم.

قال الشعبي:السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار من أدرك بيعة الرضوان عام الحديبية.

وقال أبو موسى الأشعري، وسعيد بن المسيب، ومحمد بن سيرين، والحسن، وقتادة:هم الذين صلوا إلى القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال محمد بن كعب القرظي:مرَّ عمر بن الخطاب برجل يقرأ: ( وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ ) فأخذ عمر بيده فقال:من أقرأك هذا؟ فقال:أبيُّ بن كعب. فقال:لا تفارقني حتى أذهب بك إليه. فلما جاءه قال عمر:أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا؟ قال:نعم. قال:وسمعتَها من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال:نعم. لقد كنت أرى أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا، فقال أبيُّ:تصديق هذه الآية في أول سورة الجمعة: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ الجمعة:3 ] وفي سورة الحشر: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [ الحشر:10 ] وفي الأنفال: وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ [ الأنفال:75 ] إلى آخر الآية، رواه ابن جرير

قال:وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرؤها برفع « الأنصار » عطفا على ( وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ )

فقد أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان:فيا ويل من أبغضهم أو سَبَّهم أو أبغض أو سبَّ بعضهم، ولا سيما سيدُ الصحابة بعد الرسول وخيرهم وأفضلهم، أعني الصديق الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة، رضي الله عنه، فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ويُبغضونهم ويَسُبُّونهم، عياذًا بالله من ذلك. وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة، وقلوبهم منكوسة، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن، إذ يسبُّون من رضي الله عنهم؟ وأما أهل السنة فإنهم يترضون عمن رضي الله عنه، ويسبون من سبه الله ورسوله، ويوالون من يوالي الله، ويعادون من يعادي الله، وهم متبعون لا مبتدعون، ويقتدون ولا يبتدون ولهذا هم حزب الله المفلحون وعباده المؤمنون.

وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ( 101 )

يخبر تعالى رسوله، صلوات الله وسلامه عليه، أن في أحياء العرب ممن حول المدينة منافقين، وفي أهل المدينة أيضا منافقون ( مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ ) أي:مرنوا واستمروا عليه:ومنه يقال:شيطان مريد ومارد، ويقال:تمرد فلان على الله، أي:عتا وتجبر.

وقوله: ( لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ) لا ينافي قوله تعالى: وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ الآية [ محمد:30 ] ؛ لأن هذا من باب التوسم فيهم بصفات يعرفون بها، لا أنه يعرف جميع من عنده من أهل النفاق والريب على التعيين. وقد كان يعلم أن في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقا، وإن كان يراه صباحا ومساء، وشاهد هذا بالصحة ما رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال:

حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن النعمان بن سالم، عن رجل، عن جُبَير بن مطعم، رضي الله عنه، قال:قلت:يا رسول الله، إنهم يزعمون أنه ليس لنا أجر بمكة، فقال:لتأتينكم أجوركم ولو كنتم في جُحر ثعلب وأصغى إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسه فقال: « إن في أصحابي منافقين »

ومعناه:أنه قد يبوح بعض المنافقين والمرجفين من الكلام بما لا صحة له، ومن مثلهم صَدَر هذا الكلام الذي سمعه جُبَير بن مطعم. وتقدم في تفسير قوله: وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا [ التوبة:74 ] أنه عليه السلام أعلم حُذَيفة بأعيان أربعة عشر أو خمسة عشر منافقًا، وهذا تخصيص لا يقتضي أنه اطلع على أسمائهم وأعيانهم كلهم، والله أعلم.

وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة « أبي عمر البيروتي » من طريق هشام بن عمار:حدثنا صدقة بن خالد، حدثنا بن جابر، حدثني شيخ بيروت يكنى أبا عمر، أظنه حدثني عن أبي الدرداء؛ أن رجلا يقال له « حرملة » أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:الإيمان هاهنا - وأشار بيده إلى لسانه - والنفاق هاهنا - وأشار بيده إلى قلبه ولم يذكر الله إلا قليلا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اللهم اجعل له لسانا ذاكرا، وقلبا شاكرا، وارزقه حُبّي، وحبَّ من يحبني، وصَيِّر أمره إلى خير » . فقال:يا رسول الله، إنه كان لي أصحاب من المنافقين وكنت رأسا فيهم، أفلا آتيك بهم؟ قال: « من أتانا استغفرنا له، ومن أصر على دينه فالله أولى به، ولا تخرقن على أحد سترا »

قال:وكذا رواه أبو أحمد الحاكم، عن أبي بكر الباغندي، عن هشام بن عمار، به.

وقال عبد الرزاق:أخبرنا معمر، عن قتادة في هذه الآية أنه قال:ما بال أقوام يتكلفون علم الناس؟ فلان في الجنة وفلان في النار. فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال:لا أدري! لعمري أنت بنفسك أعلم منك بأحوال الناس، ولقد تكلفت شيئا ما تكلفه الأنبياء قبلك. قال نبي الله نوح: قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [ الشعراء:112 ] وقال نبي الله شعيب: بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [ هود:86 ] وقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ) .

وقال السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس في هذه الآية قال:قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا يوم الجمعة فقال: « اخرج يا فلان، فإنك منافق، واخرج يا فلان فإنك منافق » . فأخرج من المسجد ناسا منهم، فضحهم. فجاء عمر وهم يخرجون من المسجد فاختبأ منهم حياء أنه لم يشهد الجمعة وظن أن الناس قد انصرفوا، واختبئوا هم من عمر، ظنوا أنه قد علم بأمرهم. فجاء عمر فدخل المسجد فإذا الناس لم يصلوا، فقال له رجل من المسلمين:أبشر يا عمر، قد فضح الله المنافقين اليوم. قال ابن عباس:فهذا العذاب الأول حين أخرجهم من المسجد، والعذاب الثاني عذاب القبر

وكذا قال الثوري، عن السدي، عن أبي مالك نحو هذا.

وقال مجاهد في قوله: ( سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ) يعني:القتل والسباء وقال - في رواية - بالجوع، وعذاب القبر، ( ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ )

وقال ابن جريج:عذاب الدنيا، وعذاب القبر، ثم يردون إلى عذاب النار.

وقال الحسن البصري:عذاب في الدنيا، وعذاب في القبر

وقال عبد الرحمن بن زيد:أما عذاب في الدنيا فالأموال والأولاد، وقرأ قول الله وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا [ التوبة:85 ] فهذه المصائب لهم عذاب، وهي للمؤمنين أجر، وعذاب في الآخرة في النار ( ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ) قال:النار.

وقال محمد بن إسحاق: ( سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ) قال:هو - فيما بلغني - ما هم فيه من أمر الإسلام، وما يدخل عليهم من غيظ ذلك على غير حسبة، ثم عذابهم في القبور إذا صاروا إليها، ثم العذاب العظيم الذي يردون إليه، عذاب الآخرة والخلد فيه.

وقال سعيد، عن قتادة في قوله: ( سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ) عذاب الدنيا، وعذاب القبر، ( ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ) ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أسرَّ إلى حذيفة باثني عشر رجلا من المنافقين، فقال: « ستة منهم تكفيكهم الدُّبَيْلة:سراج من نار جهنم، يأخذ في كتف أحدهم حتى يفضي إلى صدره، وستة يموتون موتًا » . وذكر لنا أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، كان إذا مات رجل ممن يُرى أنه منهم، نظر إلى حذيفة، فإن صلى عليه وإلا تركه. وَذُكر لنا أن عمر قال لحذيفة:أنشدك بالله، أمنهم أنا؟ قال:لا. ولا أومن منها أحدًا بعدك.

وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 102 )

لما بَيَّن تعالى حال المنافقين المتخلفين عن الغَزاة رغبة عنها وتكذيبًا وشكا، شرع في بيان حال المذنبين الذين تأخروا عن الجهاد كسلا وميلا إلى الراحة، مع إيمانهم وتصديقهم بالحق، فقال: ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ) أي:أقروا بها واعترفوا فيما بينهم وبين رَبِّهم، ولهم أعمال أخرَ صالحة، خلطوا هذه بتلك، فهؤلاء تحت عفو الله وغفرانه.

وهذه الآية - وإن كانت نـزلت في أناس معينين - إلا أنها عامة في كل المذنبين الخاطئين المخلصين المتلوثين.

وقد قال مجاهد:إنها نـزلت في أبي لُبَابة لما قال لبني قريظة:إنه الذبح، وأشار بيده إلى حلقه.

وقال ابن عباس: ( وَآخَرُونَ ) نـزلت في أبي لُبابة وجماعة من أصحابه، تخلفوا عن غزوة تبوك، فقال بعضهم:أبو لبابة وخمسة معه، وقيل:وسبعة معه، وقيل:وتسعة معه، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوته ربطوا أنفسهم بسواري المسجد، وحلفوا لا يحلهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أنـزل الله هذه الآية: ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ) أطلقهم النبي صلى الله عليه وسلم، وعفا عنهم.

وقال البخاري:حدثنا مُؤمَّل بن هشام، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا عوف، حدثنا أبو رجاء، حدثنا سَمُرَة بن جُنْدَب قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا: « أتاني الليلة آتيان فابتعثاني فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولَبِن فضة، فتلقانا رجال شَطْر من خلقهم كأحسن ما أنت رَاء، وشطر كأقبح ما أنت راء، قالا لهم:اذهبوا فَقَعُوا في ذلك النهر. فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم، فصاروا في أحسن صورة، قالا لي:هذه جنة عدن، وهذا منـزلك. قالا أما القوم الذين كانوا شَطر منهم حَسَن وشطر منهم قبيح، فإنهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا، فتجاوز الله عنهم » .

هكذا رواه مختصرًا، في تفسير هذه الآية.

خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 103 ) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( 104 )

أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يأخُذَ من أموالهم صدقَة يطهرهم ويزكيهم بها، وهذا عام وإن أعاد بعضهم الضمير في « أموالهم » إلى الذين اعترفوا بذنوبهم وخلطوا عملا صالحًا وآخر سيئا؛ ولهذا اعتقد بعض مانعي الزكاة من أحياء العرب أن دفع الزكاة إلى الإمام لا يكون، وإنما كان هذا خاصًا برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا احتجوا بقوله تعالى: ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) وقد رَدَّ عليهم هذا التأويل والفهم الفاسد الصديق أبو بكر وسائر الصحابة، وقاتلوهم حتى أدوا الزكاة إلى الخليفة، كما كانوا يُؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قال الصديق:والله لو منعوني عِقالا - وفي رواية:عَناقًا - يُؤدُّونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقاتلنهم على منعه.

وقوله: ( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ) أي:ادع لهم واستغفر لهم، كما رواه مسلم في صحيحه، عن عبد الله بن أبي أوفى قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أُتِيَ بصدقة قوم صَلَّى عليهم، فأتاه أبي بصدقته فقال: « اللهم صَل على آل أبي أوفى » وفي الحديث الآخر:أن امرأة قالت:يا رسول الله، صلّ عليَّ وعلى زوجي. فقال: « صلى الله عليك، وعلى زوجك » .

وقوله: ( إنّ صَلاتك ) :قرأ بعضهم: « صلواتك » على الجمع، وآخرون قرءوا: ( إِنَّ صَلاتَكَ ) على الإفراد.

( سَكَنٌ لَهُمْ ) قال ابن عباس:رحمة لهم. وقال قتادة:وقار.

وقوله: ( وَاللَّهُ سَمِيعٌ ) أي:لدعائك ( عَلِيمٌ ) أي:بمن يستحق ذلك منك ومن هو أهل له.

قال الإمام أحمد:حدثنا وَكِيع، حدثنا أبو العُمَيْس، عن أبي بكر بن عمرو بن عتبة، عن ابن لحذيفة، عن أبيه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا لرجل أصابته، وأصابت ولده، وولد ولده.

ثم رواه عن أبي نُعَيم، عن مِسْعَر، عن أبي بكر بن عمرو بن عتبة، عن ابن لحذيفة - قال مسعر: وقد ذكره مرة عن حذيفة - :إن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لتُدرك الرجل وولده وولد ولده.

وقوله: ( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ ) هذا تهييج إلى التوبة والصدقة اللتين كل منها يحطُّ الذنوب ويمحصها ويمحقها.

وأخبر تعالى أن كل من تاب إليه تاب عليه، ومن تصدق بصدقة من كسب حلال فإن الله تعالى يتقبلها بيمينه فيربيها لصاحبها، حتى تصير التمرة مثل أحد. كما جاء بذلك الحديث، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما قال الثوري ووكيع، كلاهما عن عباد بن منصور، عن القاسم بن محمد أنه سمع أبا هريرة يقول:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم، كما يربي أحدكم مهره، حتى إن اللقمة لتَصير مثل أحد » ، وتصديق ذلك في كتاب الله، عز وجل: ( [ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ ] هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ ) و [ قوله ] يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [ البقرة:276 ] .

وقال الثوري والأعمش كلاهما، عن عبد الله بن السائب، عن عبد الله بن أبي قتادة قال:قال عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه:إن الصدقة تقع في يد الله عز وجل قبل أن تقع في يد السائل. ثم قرأ هذه الآية: ( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ ) .

وقد روى ابن عساكر في تاريخه، في ترجمة عبد الله بن الشاعر السَّكْسَكي الدمشقي - وأصله حمصي، وكان أحد الفقهاء، روى عن معاوية وغيره، وحكى عنه حوشب بن سيف السكسكي الحمصي - قال:غزا الناس في زمان معاوية، رضي الله عنه، وعليهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فَغَلَّ رجل من المسلمين مائة دينار رومية. فلما قفل الجيش نَدم وأتى الأميرَ، فأبى أن يقبلها منه، وقال:قد تفرق الناس ولن أقبلها منك، حتى تأتي الله بها يوم القيامةَ فجعل الرجل يستقرئ الصحابة، فيقولون له مثل ذلك، فلما قدم دمشق ذهب إلى معاوية ليقبلها منه، فأبى عليه. فخرج من عنده وهو يبكي ويسترجع، فمر بعبد الله بن الشاعر السكسكي، فقال له:ما يبكيك؟ فذكر له أمره، فقال أمطيعُني أنت؟ فقال:نعم، فقال:اذهب إلى معاوية فقل له:اقبل مني خُمسك، فادفع إليه عشرين دينارًا، وانظر الثمانين الباقية فتصدق بها عن ذلك الجيش، فإن الله يقبل التوبة عن عباده، وهو أعلم بأسمائهم ومكانهم ففعل الرجل، فقال معاوية، رضي الله عنه:لأن أكون أفتيتُه بها أحب إلي من كل شيء أملكه، أحسن الرجل « . »

وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 105 )

قال مجاهد:هذا وَعيد، يعني من الله تعالى للمخالفين أوامره بأن أعمالهم ستعرَضُ عليه تبارك وتعالى، وعلى الرسول، وعلى المؤمنين. وهذا كائن لا محالة يوم القيامة، كما قال: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [ الحاقة:18 ] ، وقال تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [ الطارق:9 ] ، وقال وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ [ العاديات:10 ] وقد يظهر ذلك للناس في الدنيا، كما قال الإمام أحمد:

حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا دَرَّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لو أن أحدكم يعمل في صخرة صَماء ليس لها باب ولا كُوَّة، لأخرج الله عمله للناس كائنًا ما كان » . .

وقد ورد:أن أعمال الأحياء تُعرَض على الأموات من الأقرباء والعشائر في البرزخ، كما قال أبو داود الطيالسي:حدثنا الصلت بن دينار، عن الحسن، عن جابر بن عبد الله قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن أعمالكم تعرض على أقربائكم وعشائركم في قبورهم، فإن كان خيرًا استبشروا به » ، وإن كان غير ذلك قالوا: « اللهم، ألهمهم أن يعملوا بطاعتك » .

وقال الإمام أحمد:أخبرنا عبد الرزاق، عن سفيان، عمَّن سمع أنسًا يقول:قال النبي صلى الله عليه وسلم: « إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات، فإن كان خيرًا استبشروا به، وإن كان غير ذلك قالوا:اللهم، لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا » .

وقال البخاري:قالت عائشة، رضي الله عنها:إذا أعجبك حُسن عمل امرئ، فقل: ( اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) .

وقد ورد في الحديث شبيه بهذا، قال الإمام أحمد:

حدثنا يزيد، حدثنا حُمَيد، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا عليكم أن تعجبوا بأحد حتى تنظروا بم يختم له؟ فإن العامل يعمل زمانًا من عمره - أو:بُرهَة من دهره - بعمل صالح لو مات عليه لدخل الجنة، ثم يتحول فيعمل عملا سيئًا، وإن العبد ليعمل البرهة من دهره بعمل سيئ، لو مات عليه دخل النار، ثم يتحول فيعمل عملا صالحًا، وإذا أراد الله بعبد خيرًا استعمله قبل موته » . قالوا:يا رسول الله وكيف يستعمله:قال: « يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه » تفرد به أحمد من هذا الوجه.

وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 106 )

قال ابن عباس ومجاهدُ وعِكْرِمة، والضحاك وغير واحد:هم الثلاثة الذين خلفوا، أي:عن التوبة، وهم:مرارة بن الربيع، وكعب بن مالك، وهلال بن أمية، قعدوا عن غزوة تبوك في جملة من قعد، كسلا وميلا إلى الدَّعَة والحفظ وطيب الثمار والظلال، لا شكا ونفاقا، فكانت منهم طائفة رَبَطوا أنفسهم بالسواري، كما فعل أبو لُبابة وأصحابه، وطائفة لم يفعلوا ذلك وهم هؤلاء الثلاثة المذكورون، فنـزلت توبة أولئك قبل هؤلاء، وأرجى هؤلاء عن التوبة حتى نـزلت الآية الآتية، وهي قوله: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الآية [ التوبة:117 ] ، وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ [ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ ] الآية [ التوبة:118 ] ، كما سيأتي بيانه في حديث كعب بن مالك.

وقوله: ( إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ) أي:هم تحت عفو الله، إن شاء فعل بهم هذا، وإن شاء فعل بهم ذاك، ولكن رحمته تغلب غضبه، وهو ( عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) أي:عليم بمن يستحق العقوبة ممن يستحق العفو، حكيم في أفعاله وأقواله، لا إله إلا هو، ولا رب سواه.

 

وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( 107 ) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ( 108 )

سبب نـزول هذه الآيات الكريمات:أنه كان بالمدينة قبل مَقدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له: « أبو عامر الراهبُ » ، وكان قد تَنَصَّر في الجاهلية وقرأ علْم أهل الكتاب، وكان فيه عبادة في الجاهلية، وله شرف في الخزرج كبير. فلما قَدم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مهاجرًا إلى المدينة، واجتمع المسلمون عليه، وصارت للإسلام كلمة عالية، وأظهرهم الله يوم بدر، شَرِق اللعين أبو عامر بريقه، وبارز بالعداوة، وظاهر بها، وخرج فارًّا إلى كفار مكة من مشركي قريش فألَّبهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب، وقدموا عام أحد، فكان من أمر المسلمين ما كان، وامتحنهم الله، وكانت العاقبة للمتقين.

وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين، فوقع في إحداهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصيب ذلك اليوم، فجرح في وجهه وكُسِرت ربَاعِيتُه اليمنى السفلى، وشُجَّ رأسه، صلوات الله وسلامه عليه.

وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار، فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته، فلما عرفوا كلامه قالوا:لا أنعم الله بك عينا يا فاسق يا عدو الله، ونالوا منه وسبُّوه. فرجع وهو يقول:والله لقد أصاب قومي بعدي شَر. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعاه إلى الله قبل فراره، وقرأ عليه من القرآن، فأبى أن يسلم وتمرَّد، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يموت بعيدًا طريدًا، فنالته هذه الدعوة.

وذلك أنه لما فرغ الناس من أحد، ورأى أمر الرسول، صلوات الله وسلامه عليه في ارتفاع وظهور، ذهب إلى هرقل، ملك الروم، يستنصره على النبي صلى الله عليه وسلم، فوعده ومَنَّاه، وأقام عنده، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويُمنِّيهم أنه سيقدمُ بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه، وأمرهم أن يتخذوا له مَعقلا يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كُتُبه ويكونَ مرصدًا له إذا قدم عليهم بعد ذلك، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء، فبنوه وأحكموه، وفرغوا منه قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وجاءوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم، ليحتجوا بصلاته، عليه السلام، فيه على تقريره وإثباته، وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية، فعصمه الله من الصلاة فيه فقال: « إنا على سفر، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله » .

فلما قفل، عليه السلام راجعًا إلى المدينة من تبوك، ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم، نـزل عليه الوحي بخبر مسجد الضِّرار، وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم مسجد قباء، الذي أسس من أول يوم على التقوى. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك المسجد من هَدَمه قبل مقدمه المدينة، كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا [ وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ ] ) وهم أناس من الأنصار، ابتنوا مسجدًا، فقال لهم أبو عامر، ابنوا مسجدًا واستعدوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم، فآتي بجند من الروم وأخرج محمدًا وأصحابه. فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا:قد فرغنا من بناء مسجدنا، فنحب أن تصلي فيه وتدعو لنا بالبركة. فأنـزل الله، عز وجل: ( لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ ) إلى وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ .

وكذا رُوي عن سعيد بن جُبير، ومجاهد، وعروة بن الزبير، وقتادة وغير واحد من العلماء.

وقال محمد بن إسحاق بن يَسَار، عن الزهري، ويزيد بن رومان، وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن عُمَر بن قتادة وغيرهم، قالوا:أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني:من تبوك - حتى نـزل بذي أوان - بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار - وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك، فقالوا:يا رسول الله، إنا قد بنينا مسجدًا لذي العلة والحاجة، والليلة المطيرة، والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه. فقال: « إني على جناح سَفر وحال شُغل - أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولو قد قدمنا إن شاء الله تعالى أتيناكم فصلينا لكم فيه » . فلما نـزل بذي أوان أتاه خبرُ المسجد، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدُّخْشُم أخا بني سالم بن عوف، ومعن بن عدي - أو:أخاه عامر بن عدي - أخا بلعجلان فقال: « انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدماه وحرقاه » . فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف، وهم رهط مالك بن الدّخشم، فقال مالك لمعن:أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي. فدخل أهله فأخذ سَعَفا من النخل، فأشعل فيه نارًا، ثم خرجا يَشتدَّان حتى دخلا المسجد وفيه أهله، فحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه. ونـزل فيهم من القرآن ما نـزل: ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا ) إلى آخر القصة. وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا خذام بن خالد، من بني عُبَيد بن زيد، أحد بني عمرو بن عوف، ومن داره أخرج مسجد الشقاق، وثعلبة بن حاطب من بني عبيد وهو إلى بني أمية بن زيد، ومعتِّب بن قُشير، من [ بني ] ضُبَيعة بن زيد، وأبو حبيبة بن الأذعر، من بني ضُبَيعة بن زيد، وعَبَّاد بن حُنَيف، أخو سهل بن حنيف، من بني عمرو بن عوف، وجارية بن عامر، وابناه:مُجَمِّع بن جارية، وزيد بن جارية ونَبْتَل [ بن ] الحارث، وهم من بني ضبيعة، وبحزج وهو من بني ضبيعة، وبجاد بن عُثمان وهو من بني ضُبَيعة، [ ووديعة بن ثابت، وهو إلى بني أمية ] رهط أبي لبابة بن عبد المنذر.

وقوله: ( وَلَيَحْلِفُنَّ ) أي:الذين بنوه ( إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى ) أي:ما أردناه ببنيانه إلا خيرًا ورفقًا بالناس، قال الله تعالى: ( وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) أي:فيما قصدوا وفيما نوَوا، وإنما بنوه ضِرارا لمسجد قُباء، وكفرا بالله، وتفريقًا بين المؤمنين، وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله، وهو أبو عامر الفاسق، الذي يقال له: « الراهب » لعنه الله.

وقوله: ( لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) نهي من الله لرسوله، صلوات الله وسلامه عليه، والأمة تَبَع له في ذلك، عن أن يقوم فيه، أي:يصلي فيه أبدا.

ثم حثه على الصلاة في مسجد قُباء الذي أسس من أول يوم بنائه على التقوى، وهي طاعة الله، وطاعة رسوله، وجمعا لكلمة المؤمنين ومَعقلا وموئلا للإسلام وأهله؛ ولهذا قال تعالى: ( لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ) والسياق إنما هو في معرض مسجد قباء؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « صلاة في مسجد قُباء كعُمرة » . وفي الصحيح:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزورُ مسجد قُباء راكبًا وماشيًا وفي الحديث:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بناه وأسسه أول قدومه ونـزوله على بني عمرو بن عوف، كان جبريل هو الذي عَيَّن له جِهَة القبلة فالله أعلم.

وقال أبو داود:حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا معاوية بن هشام، عن يونس بن الحارث، عن إبراهيم بن أبي ميمونة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « نـزلت هذه الآية في أهل قباء: ( فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ) قال:كانوا يستنجون بالماء، فنـزلت فيهم الآية » .

ورواه الترمذي وابن ماجه، من حديث يونس بن الحارث، وهو ضعيف، وقال الترمذي:غريب من هذا الوجه.

وقال الطبراني:حدثنا الحسن بن علي المعمري، حدثنا محمد بن حميد الرازي، حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:لما نـزلت هذه الآية: ( فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ) بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عُوَيم بن ساعدة فقال: « ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم؟ » . فقال:يا رسول الله، ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه - أو قال:مقعدته - فقال النبي صلى الله عليه وسلم. « هو هذا » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا حُسَين بن محمد، حدثنا أبو أويس، حدثنا شرحبيل، عن عُوَيم بن ساعدة الأنصاري:أنه حَدّثه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قُباء، فقال: « إن الله تعالى قد أحسن [ عليكم الثناء ] في الطَّهور في قصة مسجدكم، فما هذا الطهور الذي تطهرون به؟ » فقالوا:والله - يا رسول الله - ما نعلم شيئًا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود، فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط، فغسلنا كما غسلوا.

ورواه ابن خُزيمة في صحيحه.

وقال هُشَيْم، عن عبد الحميد المدني، عن إبراهيم بن إسماعيل الأنصاري:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعُوَيم بن ساعدة. « ما هذا الذي أثنى الله عليكم: ( فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ) » قالوا:يا رسول الله، إنا نغسل الأدبار بالماء.

وقال ابن جرير:حدثني محمد بن عُمارة الأسدي، حدثنا محمد بن سعد، حدثنا إبراهيم بن محمد، عن شرحبيل بن سعد قال:سمعت خُزَيمة بن ثابت يقول:نـزلت هذه الآية: ( فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ) قال:كانوا يغسلون أدبارهم من الغائط.

حديث آخر:قال الإمام أحمد بن حنبل:حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا مالك - يعني:ابن مغْوَل - سمعت سيارا أبا الحكم، عن شهر بن حوشب، عن محمد بن عبد الله بن سلام قال:لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني:قباء، فقال: « إن الله، عز وجل، قد أثنى عليكم في الطهور خيرًا، أفلا تخبروني؟ » . يعني:قوله تعالى: ( فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ) فقالوا:يا رسول الله، إنا نجده مكتوبًا علينا في التوراة:الاستنجاءُ بالماء.

وقد صرح بأنه مسجد قباء جماعة من السلف، رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. ورواه عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن الزهري، عن عُرْوَة بن الزبير. وقاله عطية العوفي، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، والشعبي، والحسن البصري، ونقله البغوي عن سعيد بن جُبَير، وقتادة.

وقد ورد في الحديث الصحيح:أن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو في جوف المدينة، هو المسجد الذي أسس على التقوى. وهذا صحيح. ولا منافاة بين الآية وبين هذا؛ لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم، فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى والأحرى؛ ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده:

حدثنا أبو نُعيم، حدثنا عبد الله بن عامر الأسلمي، عن عمران بن أبي أنس، عن سهل بن سعد، عن أبيّ بن كعب:أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « المسجد الذي أسس على التقوى مسجدي هذا » . تفرد به أحمد.

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا وَكِيع، حدثنا ربيعة بن عثمان التيمي، عن عمران بن أبي أنس، عن سهل بن سعد الساعدي قال:اختلف رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي أسِّسَ على التقوى، فقال أحدهما:هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الآخر:هو مسجد قباء.

فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه، فقال: « هو مسجدي هذا » تفرد به أحمد أيضا.

حديث آخر:قال أحمد:حدثنا موسى بن داود، حدثنا ليث، عن عمران بن أبي أنس، عن سعيد بن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، قال:تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال أحدهما:هو مسجد قباء، وقال الآخر:هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « هو مسجدي هذا » تفرد به أحمد.

طريق أخرى:قال الإمام أحمد:حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا ليث، حدثني عمران بن أبي أنس، عن ابن أبي سعيد، عن أبيه أنه قال:تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فقال رجل:هو مسجد قباء، وقال الآخر:هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « هو مسجدي » .

وكذا رواه الترمذي والنسائي عن قتيبة، عن الليث وصححه الترمذي، ورواه مسلم كما سيأتي.

طريق أخرى:قال أحمد:حدثنا يحيى، عن أُنَيْس بن أبي يحيى، حدثني أبي قال:سمعت أبا سعيد الخدري قال:اختلف رجلان:رجل من بني خَدْرة، ورجل من بني عمرو بن عوف في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال الخدري:هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال العَمْري:هو مسجد قباء، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن ذلك، فقال: « هو هذا المسجد » لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: « في ذاك [ خير كثير ] يعني:مسجد قباء » .

طريق أخرى:قال أبو جعفر بن جرير:حدثنا ابن بشار، حدثنا يحيى بن سعيد - حدثنا حميد الخراط المدني، سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن بن أبي سعيد فقلت:كيف سمعت أباك يقول في المسجد الذي أسس على التقوى؟ فقال أبي:أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلت عليه في بيت لبعض نسائه، فقلت:يا رسول الله، أين المسجد الذي أسس على التقوى؟ قال:فأخذ كفا من حصباء فضرب به الأرض، ثم قال: « هو مسجدكم هذا » . ثم قال: [ فقلتُ له:هكذا ] سمعتَ أباك يذكره؟.

رواه مسلم منفردًا به عن محمد بن حاتم، عن يحيى بن سعيد، به ورواه عن أبي بكر بن أبي شيبة وغيره، عن حاتم بن إسماعيل، عن حميد الخراط، به.

وقد قال بأنه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من السلف والخلف، وهو مروي عن عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، وزيد بن ثابت، وسعيد بن المسيب. واختاره ابن جرير.

وقوله: ( لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ) دليل على استحباب الصلاة في المساجد القديمة المؤسسة من أول بنائها على عبادة الله وحده لا شريك له، وعلى استحباب الصلاة مع جماعة الصالحين، والعباد العاملين المحافظين على إسباغ الوضوء، والتنـزه عن ملابسة القاذورات.

وقد قال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن عبد الملك بن عمير، سمعت شبيبا أبا روح يحدث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صَلَّى بهم الصبح فقرأ بهم الروم فأوهم، فلما انصرف قال: « إنه يلبس علينا القرآن، إن أقواما منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء، فمن شهد الصلاة معنا فليحسن الوضوء » .

ثم رواه من طريقين آخرين، عن عبد الملك بن عمير، عن شبيب أبي روح من ذي الكَلاع:أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره فدل هذا على أن إكمال الطهارة يسهل القيام في العبادة، ويعين على إتمامها وإكمالها والقيام بمشروعاتها.

وقال أبو العالية في قوله تعالى: ( وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ) إن الطهور بالماء لحسن، ولكنهم المطهرون من الذنوب.

وقال الأعمش:التوبة من الذنب، والتطهير من الشرك.

وقد ورد في الحديث المروي من طرق، في السنن وغيرها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأهل قباء: « قد أثنى الله عليكم في الطهور، فماذا تصنعون؟ » فقالوا:نستنجي بالماء.

وقد قال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا عبد الله بن شبيب، حدثنا أحمد بن محمد بن عبد العزيز قال:وجدته في كتاب أبي، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال:نـزلت هذه الآية في أهل قباء. ( فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ) فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:إنا نُتْبِعُ الحجارة الماء.

ثم قال:تفرد به محمد بن عبد العزيز، عن الزهري، ولم يرو عنه سوى ابنه.

قلت:وإنما ذكرته بهذا اللفظ لأنه مشهور بين الفقهاء ولم يعرفه كثير من المحدّثين المتأخرين، أو كلهم، والله أعلم.

أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 109 ) لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 110 )

يقول تعالى:لا يستوي من أسس بنيانه على تقوى الله ورضوان، ومن بنى مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين، وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل، فإنما بنى هؤلاء بنيانهم ( عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ ) أي:طرف حَفِيرة مثاله ( فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) أي:لا يصلح عمل المفسدين.

قال جابر بن عبد الله:رأيت المسجد الذي بني ضرارا يخرج منه الدخان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال ابن جُرَيْج ذُكر لنا أن رجالا حَفَروا فوجدوا الدخان يخرج منه. وكذا قال قتادة.

وقال خلف بن ياسين الكوفي:رأيت مسجد المنافقين الذي ذكره الله تعالى في القرآن، وفيه جحر يخرج منه الدخان، وهو اليوم مَزْبلة. رواه ابن جرير رحمه الله.

وقوله: ( لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ ) أي:شكا ونفاقا بسبب إقدامهم على هذا الصنيع الشنيع، أورثهم نفاقا في قلوبهم، كما أشرب عابدو العجل حبه.

وقوله: ( إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ) أي:بموتهم. قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وزيد بن أسلم، والسدي، وحبيب بن أبي ثابت، والضحاك، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغير واحد من علماء السلف.

( وَاللَّهُ عَلِيمٌ ) أي:بأعمال خلقه، ( حَكِيمٌ ) في مجازاتهم عنها، من خير وشر.

إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 111 )

يخبر تعالى أنه عاوض عباده المؤمنين عن أنفسهم وأموالهم إذ بذلوها في سبيله بالجنة، وهذا من فضله وكرمه وإحسانه، فإنه قبل العوض عما يملكه بما تفضل به على عباده المطيعين له؛ ولهذا قال الحسن البصري وقتادة:بايعهم والله فأغلى ثمنهم.

وقال شَمِر بن عطية:ما من مسلم إلا ولله، عز وجل، في عُنُقه بيعة، وفَّى بها أو مات عليها، ثم تلا هذه الآية.

ولهذا يقال:من حمل في سبيل الله بايع الله، أي:قَبِل هذا العقد ووفى به.

وقال محمد بن كعب القُرَظي وغيره:قال عبد الله بن رواحة، رضي الله عنه، لرسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني ليلة العقبةِ - :اشترط لربك ولنفسك ما شئت! فقال: « أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم » . قالوا:فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: « الجنة » . قالوا:رَبِح البيعُ، لا نُقِيل ولا نستقيل، فنـزلت: ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ) الآية.

وقوله: ( يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ) أي:سواء قتلوا أو قُتلوا، أو اجتمع لهم هذا وهذا، فقد وجبت لهم الجنة؛ ولهذا جاء في الصحيحين: « وتكفل الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي، وتصديق برسلي، بأن توفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه، نائلا ما نال من أجر أو غنيمة » .

وقوله: ( وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ) تأكيد لهذا الوعد، وإخبار بأنه قد كتبه على نفسه الكريمة، وأنـزله على رسله في كتبه الكبار، وهي التوراة المنـزلة على موسى، والإنجيل المنـزل على عيسى، والقرآن المنـزل على محمد، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

وقوله: ( وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ) [ أي:ولا واحد أعظم وفاءً بما عاهد عليه من الله ] فإنه لا يخلف الميعاد، وهذا كقوله تعالى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [ النساء:87 ] وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا [ النساء:122 ] ؛ ولهذا قال: ( فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) أي:فليستبشر من قام بمقتضى هذا العقد ووفى بهذا العهد، بالفوز العظيم، والنعيم المقيم.

 

التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( 112 )

هذا نعتُ المؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بهذه الصفات الجميلة والخلال الجليلة: ( التَّائِبُونَ ) من الذنوب كلها، التاركون للفواحش، ( الْعَابِدُونَ ) أي:القائمون بعبادة ربهم محافظين عليها، وهي الأقوال والأفعال فمن أخَصّ الأقوال الحمد ؛ فلهذا قال: ( الْحَامِدُونَ ) ومن أفضل الأعمال الصيامُ، وهو ترك الملاذِّ من الطعام والشراب والجماع، وهو المراد بالسياحة هاهنا؛ ولهذا قال: ( السَّائِحُونَ ) كما وصف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله تعالى: سَائِحَاتٍ [ التحريم:5 ] أي:صائمات، وكذا الركوع والسجود، وهما عبارة عن الصلاة، ولهذا قال: ( الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ ) وهم مع ذلك ينفعون خلق الله، ويرشدونهم إلى طاعة الله بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، مع العلم بما ينبغي فعله ويجب تركُه، وهو حفظ حدود الله في تحليله وتحريمه، علما وعملا فقاموا بعبادة الحق ونصح الخلق؛ ولهذا قال: ( وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) لأن الإيمان يشمل هذا كله، والسعادة كل السعادة لمن اتصف به.

[ بيان أن المراد بالسياحة الصيام ] :

قال سفيان الثوري، عن عاصم، عن زِرّ، عن عبد الله بن مسعود قال: ( السَّائِحُونَ ) الصائمون. وكذا رُوي عن سعيد بن جُبَير، والعوفي عن ابن عباس.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:كل ما ذكر الله في القرآن السياحة، هم الصائمون. وكذا قال الضحاك، رحمه الله.

وقال ابن جرير:حدثنا أحمد بن إسحاق، حدثنا أبو أحمد، حدثنا إبراهيم بن يزيد، عن الوليد بن عبد الله، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت:سياحةُ هذه الأمة الصيام.

وهكذا قال مجاهد، وسعيد بن جُبَير، وعطاء، وأبو عبد الرحمن السلمي، والضحاك بن مُزاحم، وسفيان بن عُيينة وغيرهم:أن المراد بالسائحين:الصائمون.

وقال الحسن البصري: ( السَّائِحُونَ ) الصائمون شهر رمضان.

وقال أبو عمرو العَبْدي: ( السَّائِحُونَ ) الذين يديمون الصيام من المؤمنين.

وقد ورد في حديث مرفوع نحو هذا، وقال ابن جرير:حدثني محمد بن عبد الله بن بَزِيع، حدثنا حكيم بن حزام، حدثنا سليمان، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « السائحون هم الصائمون »

[ ثم رواه عن بُنْدَار، عن ابن مهدي، عن إسرائيل، عن سليمان الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أنه قال: ( السَّائِحُونَ ) الصائمون ] .

وهذا الموقوف أصح.

وقال أيضا:حدثني يونس، عن ابن وهب، عن عمر بن الحارث، عن عمرو بن دينار، عن عُبَيد بن عُمَير قال:سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن السائحين فقال: « هم الصائمون » .

وهذا مرسل جيد.

فهذه أصح الأقوال وأشهرها، وجاء ما يدل على أن السياحة الجهاد، وهو ما روى أبو داود في سننه، من حديث أبي أمامة أن رجلا قال:يا رسول الله، ائذن لي في السياحة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله » .

وقال ابن المبارك، عن ابن لَهِيعة:أخبرني عُمارة بن غَزِيَّة:أن السياحة ذكرت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أبدلنا الله بذلك الجهاد في سبيل الله، والتكبير على كل شرف » .

وعن عِكْرِمة أنه قال:هم طلبة العلم. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:هم المهاجرون. رواهما ابن أبي حاتم.

وليس المراد من السياحة ما قد يفهمه بعض من يتعبد بمجرد السياحة في الأرض، والتفرد في شواهق الجبال والكهوف والبراري، فإن هذا ليس بمشروع إلا في أيام الفتَن والزلازل في الدين، كما ثبت في صحيح البخاري، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « يوشك أن يكون خير مال الرجل غَنَم يَتْبَع بها شَعفَ الجبال، ومواقع القَطْر، يفر بدينه من الفتن » .

وقال العوفي وعلي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ( وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ) قال:القائمون بطاعة الله. وكذا قال الحسن البصري، وعنه رواية: ( وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ) قال:لفرائض الله، وفي رواية:القائمون على أمر الله.

مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( 113 ) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ( 114 )

قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبيه قال:لما حَضَرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية، فقال: « أيْ عَمّ، قل:لا إله إلا الله. كلمة أحاجّ لك بها عند الله، عز وجل » . فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية:يا أبا طالب، أترغب عن ملَّة عبد المطلب؟ [ قال:فلم يزالا يكلمانه، حتى قال آخر شيء كلمهم به:على ملة عبد المطلب ] . فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك » . فنـزلت: ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) قال:ونـزلت فيه: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [ القصص:56 ] أخرجاه.

وقال الإمام أحمد:حدثنا يحيى بن آدم، أخبرنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الخليل، عن علي، رضي الله عنه، قال:سمعت رجلا يستغفر لأبويه، وهما مشركان، فقلت:أيستغفر الرجل لأبويه وهما مشركان؟ فقال:أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه؟ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنـزلت: ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ) إلى قوله: ( فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ ) قال: « لما مات » ، فلا أدري قاله سفيان أو قاله إسرائيل، أو هو في الحديث « لما مات » .

قلت هذا ثابت عن مجاهد أنه قال:لما مات.

وقال الإمام أحمد:حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا زهير، حدثنا زبيد بن الحارث اليامي عن محارب بن دثار، عن ابن بُرَيْدة، عن أبيه قال:كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنـزل بنا ونحن معه قريب من ألف راكب، فصلى ركعتين، ثم أقبل علينا بوجهه وعيناه تَذْرِفان، فقام إليه عمر بن الخطاب وفَداه بالأب والأم، وقال:يا رسول الله، ما لك؟ قال: « إني سألت ربي، عز وجل، في الاستغفار لأمي، فلم يأذن لي، فدمعت عيناي رحمة لها من النار، وإني كنت نهيتكم عن ثلاث:نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، لتذكركم زيارتُها خيرًا، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث، فكلوا وأمسكوا ما شئتم، ونهيتكم عن الأشربة في الأوعية، فاشربوا في أي وعاء ولا تشربوا مسكرا » .

وروى ابن جرير، من حديث علقمة بن مَرْثد، عن سليمان بن بُرَيدة، عن أبيه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى رَسْمَ قبر، فجلس إليه، فجعل يخاطب، ثم قام مستعبرًا. فقلنا:يا رسول الله، إنا رابنا ما صنعت. قال: « إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي، فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي » . فما رئي باكيا أكثر من يومئذ.

وقال ابن أبي حاتم، في تفسيره:حدثنا أبي، حدثنا خالد بن خِداش، حدثنا عبد الله بن وهب، عن ابن جرَيج عن أيوب بن هانئ، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود قال:خرجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما إلى المقابر، فاتبعناه، فجاء حتى جلس إلى قبر منها، فناجاه طويلا ثم بكى فبكينا لبكائه ثم قام فقام إليه عمر بن الخطاب، فدعاه ثم دعانا، فقال: « ما أبكاكم؟ » فقلنا:بكينا لبكائك. قال: « إن القبر الذي جلستُ عنده قبر آمنة، وإني استأذنتُ ربي في زيارتها فأذن لي » ثم أورده من وجه آخر، ثم ذكر من حديث ابن مسعود قريبا منه، وفيه: « وإني استأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي، وأنـزل علي: ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى ) فأخذني ما يأخذ الولد للوالدة، وكنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تذكر الآخرة » .

حديث آخر في معناه:قال الطبراني:حدثنا محمد بن علي المروزي، حدثنا أبو الدرداء عبد العزيز بن منيب، حدثنا إسحاق بن عبد الله بن كَيْسَان، عن أبيه، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أقبل من غزوة تبوك واعتمر، فلما هبط من ثنية عُسْفان أمر أصحابه:أن استندوا إلى العقبة حتى أرجع إليكم، فذهب فنـزل على قبر أمّه، فناجى ربَّه طويلا ثم إنه بكى فاشتد بكاؤه، وبكى هؤلاء لبكائه، وقالوا:ما بكى نبي الله بهذا المكان إلا وقد أُحدثَ في أمته شيء لا تُطيقه. فلما بكى هؤلاء قام فرجع إليهم، فقال: « ما يبكيكم؟ » . قالوا:يا نبي الله، بكينا لبكائك، فقلنا:لعله أحدث في أمتك شيء لا تطيقه، قال: « لا وقد كان بعضه، ولكن نـزلت على قبر أمي فدعوت الله أن يأذن لي في شفاعتها يوم القيامة، فأبى الله أن يأذن لي، فرحمتها وهي أمّي، فبكيت، ثم جاءني جبريل فقال: ( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ) فتبرّأ أنت من أمك، كما تبرأ إبراهيم من أبيه، فرحمْتُها وهي أمي، ودعوت ربي أن يرفع عن أمتي أربعًا، فرفع عنهم اثنتين، وأبى أن يرفع عنهم اثنتين:دعوتُ ربي أن يرفع عنهم الرجم من السماء والغَرَق من الأرض، وألا يلبسهم شيعا، وألا يذيق بعضهم بأس بعض، فرفع الله عنهم الرجم من السماء، والغرق من الأرض، وأبى الله أن يرفع عنهم القتل والهرج » . وإنما عدل إلى قبر أمه لأنها كانت مدفونة تحت كَداء وكانت عُسْفان لهم.

وهذا حديث غريب وسياق عجيب، وأغرب منه وأشد نكارة ما رواه الخطيب البغدادي في كتاب « السابق واللاحق » بسند مجهول، عن عائشة في حديث فيه قصة أن الله أحيا أمَّه فآمنت ثم عادت. وكذلك ما رواه السهيلي في « الروض » بسند فيه جَمَاعة مجهولون:أن الله أحيا له أباه وأمه فآمنا به.

وقد قال الحافظ ابن دِحْيَةَ: [ هذا الحديث موضوع يرده القرآن والإجماع، قال الله تعالى: وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ [ النساء:18 ] . وقال أبو عبد الله القرطبي:إن مقتضى هذا الحديث. . . وردَّ عَلَى ابن دِحية ] في هذا الاستدلال بما حاصله:أن هذه حياة جديدة، كما رجعت الشمس بعد غيبوبتها فصلى عَلِيٌّ العصر، قال الطحاوي:وهو [ حديث ] ثابت، يعني:حديث الشمس.

قال القرطبي:فليس إحياؤهما يمتنع عقلا ولا شرعا، قال:وقد سمعت أن الله أحيا عمه أبا طالب، فآمن به.

قلت:وهذا كله متوقف على صحة الحديث، فإذا صح فلا مانع منه والله أعلم.

وقال العوفي، عن ابن عباس في قوله: ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ) الآية، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر لأمه، فنهاه الله عن ذلك فقال: « فإنّ إبراهيم خليل الله استغفر لأبيه » ، فأنـزل الله: ( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ ) الآية.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، في هذه الآية:كانوا يستغفرُون لهم، حتى نـزلت هذه الآية، فلما [ نـزلت أمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم، ولم ينههم أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا ] ثم أنـزل الله: ( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ ) الآية.

وقال قتادة في هذه الآية:ذُكر لنا أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا:يا نبي الله، إن من آبائنا من كان يحسن الجوار، ويصل الأرحام، ويفُكّ العاني، ويوفي بالذمم؛ أفلا نستغفر لهم؟ قال:فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « بلى، والله إني لأستغفر لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه » . فأنـزل الله: ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ) حتى بلغ: ( الْجَحِيمِ ) ثم عذر الله تعالى إبراهيم، فقال: ( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ) قال:وذُكر لنا أن نبي الله قال: « أوحى إليّ كلمات، فدخلن في أذني ووقَرْن في قلبي:أمِرْتُ ألا أستغفرَ لمن مات مشركا، ومن أعطى فَضْلَ ماله فهو خيرٌ له، ومن أمسك فهو شرٌ له، ولا يلوم الله على كَفاف » .

وقال الثوري، عن الشيباني، عن سعيد بن جُبير قال:مات رجل يهودي وله ابن مسلم، فلم يخرج معه، فذكر ذلك لابن عباس فقال:فكان ينبغي له أن يمشي معه ويدفنه، ويدعو له بالصلاح ما دام حيا، فإذا مات وكَّله إلى شأنه ثم قال: ( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ) لم يَدْعُ.

[ قلت ] وهذا يشهد له بالصحة ما رواه أبو داود وغيره، عن علي بن أبي طالب قال:لما مات أبو طالب قلت:يا رسول الله، إن عمك الشيخ الضال قد مات. قال: « اذهب فَوَاره ولا تُحْدثَنَّ شيئا حتى تأتيني » . وذكر تمام الحديث.

ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مَرّت به جنازة عمه أبي طالب قال: « وَصَلتكَ رَحِمٌ يا عم » .

وقال عطاء بن أبي رباح:ما كنت لأدع الصلاة على أحد من أهل القبلة، ولو كانت حبشية حبلى من الزنا؛ لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلا على المشركين، يقول الله، عز وجل: ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ) .

وروى ابنُ جَرير، عن ابن وَكِيع، عن أبيه، عن عصمة بن زامل، عن أبيه قال:سمعت أبا هريرة يقول:رحم الله رجلا استغفر لأبي هريرة ولأمه. قلت:ولأبيه؟ قال:لا. قال:إن أبي مات مشركا.

وقوله: ( فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ) قال ابن عباس:ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه. وفي رواية:لما مات تبين له أنه عدو لله.

وكذا قال مجاهد، والضحاك، وقتادة، وغيرهم، رحمهم الله.

وقال عُبَيْد بن عمير، وسعيد بن جُبَيْر:إنه يتبرأ منه [ في ] يوم القيامة حين يلقى أباه، وعلى وجه أبيه الغُبرة والقُتْرة فيقول:يا إبراهيم، إني كنت أعصيك وإني اليوم لا أعصيك. فيقول:أيْ رَبي، ألم تعدني ألا تخزني يوم يبعثون؟ فأيّ خزْي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقال:انظر إلى ما وراءك، فإذا هو بِذِيخٍ متلطخ، أي:قد مسخ ضِبْعانًا، ثم يسحب بقوائمه، ويلقى في النار.

وقوله: ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ ) قال سفيان الثوري وغير واحد، عن عاصم بن بَهْدَلة، عن زِرّ بن حُبَيش، عن عبد الله بن مسعود أنه قال:الأَوَّاهُ:الدَّعَّاء. وكذا روي من غير وجه، عن ابن مسعود.

وقال ابن جرير:حدثني المثنى:حدثنا الحجاج بن مِنْهال، حدثنا عبد الحميد بن بَهْرام، حدثنا شَهْر بن حَوشب، عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال:بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس قال رجل:يا رسول الله، ما الأوّاه؟ قال: « المتضرع » ، قال: ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ )

ورواه ابن أبي حاتم من حديث ابن المبارك، عن عبد الحميد بن بَهْرَام، به، قال:المتضرع:الدَّعَّاء.

وقال الثوري، عن سلمة بن كُهَيْل، عن مسلم البَطِين عن أبي العُبَيْديْن أنه سأل ابن مسعود عن الأواه، فقال:هو الرحيم.

وبه قال مجاهد، وأبو ميسرة عمرو بن شُرَحْبيل، والحسن البصري، وقتادة:أنه الرحيم، أي:بعباد الله.

وقال ابن المبارك، عن خالد، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال:الأوَّاه:الموقن بلسان الحبشة. وكذا قال العوفي، عن ابن عباس:أنه الموقن. وكذا قال مجاهد، والضحاك. وقال علي بن أبي طلحة، ومجاهد، عن ابن عباس:الأواه:المؤمن - زاد علي بن أبي طلحة عنه:المؤمن التواب. وقال العوفي عنه:هو المؤمن بلسان الحبشة. وكذا قال ابن جُرَيْج:هو المؤمن بلسان الحبشة.

وقال أحمد:حدثنا موسى، حدثنا ابن لهِيعة، عن الحارث بن يزيد، عن علي بن رباح، عن عقبة بن عامر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل يقال له « ذو البِجادين » : « إنه أواه » ، وذلك أنه رجل كثير الذكر لله في القرآن ويرفع صوته في الدعاء.

ورواه ابن جرير.

وقال سعيد بن جبير، والشعبي:الأواه:المسبّح. وقال ابن وهب، عن معاوية بن صالح، عن أبي الزاهرية، عن جُبَير بن نفير، عن أبي الدرداء، رضي الله عنه، قال:لا يحافظ على سبحة الضحى إلا أواه. وقال شُفَيُّ بن ماتع، عن أيوب:الأواه:الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها.

وعن مجاهد:الأواه:الحفيظ الوجل، يذنب الذنب سرا، ثم يتوب منه سرا.

ذكر ذلك كلَّه ابن أبي حاتم، رحمه الله.

وقال ابن جرير:حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا المحاربي، عن حجاج، عن الحكم، عن الحسن بن مسلم بن يناق:أن رجلا كان يكثر ذكر الله ويسبّح، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: « إنه أواه » .

وقال أيضا حدثنا أبو كُرَيب، حدثنا ابن يمان، حدثنا المِنْهَال بن خليفة، عن حَجّاج بن أرطأة، عن عطاء، عن ابن عباس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم دفن ميتا، فقال: « رحمك الله إن كنتَ لأواها » ! يعني:تَلاءً للقرآن وقال شعبة، عن أبي يونس الباهلي قال:سمعت رجلا بمكة - وكان أصله روميا، وكان قاصا - يحدث عن أبي ذر قال:كان رجل يطوف بالبيت الحرام ويقول في دعائه: « أوّه أوّه » ، فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:إنه أواه. قال:فخرجت ذات ليلة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفن ذلك الرجل ليلا ومعه المصباح.

هذا حديث غريب رواه ابن جرير ومشاه.

وروي عن كعب الأحبار أنه قال: ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ ) قال:كان إذا ذكر النار قال: « أوّه من النار » .

وقال ابن جُرَيْج عن ابن عباس: ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ ) قال:فقيه.

قال الإمام العلم أبو جعفر بن جرير:وأولى الأقوال قول من قال:إنَّه الدعَّاء، وهو المناسب للسياق، وذلك أن الله تعالى لما ذكر أن إبراهيم إنما استغفر لأبيه عن موعدة وعدها إياه، وقد كان إبراهيم كثير الدعاء حليما عمن ظلمه وأناله مكروها؛ ولهذا استغفر لأبيه مع شدة أذاه في قوله: أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [ مريم:46، 47 ] ، فحلم عنه مع أذاه له، ودعا له واستغفر؛ ولهذا قال تعالى: ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ )

وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 115 ) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ( 116 )

يقول تعالى مخبرا عن نفسه الكريمة وحكمه العادل:إنه لا يضل قوما بعد بلاغ الرسالة إليهم، حتى يكونوا قد قامت عليهم الحجة، كما قال تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى الآية [ فصلت:17 ] .

وقال مجاهد في قوله تعالى: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ ) قال:بيان الله، عز وجل، للمؤمنين في الاستغفار للمشركين خاصة، وفي بيانه طاعته ومعصيته عامة، فافعلوا أو ذَروا.

وقال ابن جرير:يقول الله تعالى:وما كان الله ليقضي عليكم في استغفاركم لموتاكم المشركين بالضلال بعد إذ رزقكم الهداية ووفقكم للإيمان به وبرسوله، حتى يتقدم إليكم بالنهي عنه فتتركوا، فأما قبل أن يبين لكم كراهيته ذلك بالنهي عنه، ثم تتعدوا نهيه إلى ما نهاكم عنه، فإنه لا يحكم عليكم بالضلال، فإن الطاعة والمعصية إنما يكونان من المأمور والمنهي، وأما من لم يُؤمَر ولم يُنْهَ فغير كائن مطيعا أو عاصيًا فيما لم يؤمر به ولم ينه عنه.

وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) قال ابن جرير:هذا تحريض من الله لعباده المؤمنين في قتال المشركين وملوك الكفر، وأن يثقوا بنصر الله مالك السماوات والأرض، ولم يرهبوا من أعدائه فإنه لا ولي لهم من دون الله، ولا نصير لهم سواه.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن أبي دلامة البغدادي، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن صفوان بن مُحْرِز، عن حكيم بن حزام قال:بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه إذ قال لهم: « هل تسمعون ما أسمع؟ » قالوا ما نسمع من شيء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إني لأسمع أطيط السماء، وما تلام أن تَئطَّ، وما فيها من موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم » .

وقال كعب الأحبار:ما من موضع خرمة إبرة من الأرض إلا وملك موكل بها، يرفع علم ذلك إلى الله، وإن ملائكة السماء لأكثر من عدد التراب، وإن حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى مُخّه مسيرة مائة عام.

لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ( 117 )

قال مجاهد وغير واحد:نـزلت هذه الآية في غزوة تبوك، وذلك أنهم خرجوا إليها في شدة من الأمر في سنة مُجدبة وحر شديد، وعسر من الزاد والماء.

قال قتادة:خرجوا إلى الشام عام تبوك في لَهَبان الحر، على ما يعلم الله من الجهد، أصابهم فيها جهد شديد، حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما، وكان النفر يتداولون التمرة بينهم، يمصها هذا، ثم يشرب عليها، ثم يمصها هذا، ثم يشرب عليها، [ ثم يمصها هذا، ثم يشرب عليها ] فتاب الله عليهم وأقفلهم من غزوتهم.

وقال ابن جرير:حدثني يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن عتبة بن أبي عتبة، عن نافع بن جُبَير بن مطعم، عن عبد الله بن عباس؛ أنه قيل لعمر بن الخطاب في شأن العسرة، فقال عمر بن الخطاب:خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد، فنـزلنا منـزلا فأصابنا فيه عَطَش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع [ حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء، فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع ] حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فَرْثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق:يا رسول الله، إن الله عز وجل، قد عَوّدك في الدعاء خيرا، فادع لنا. قال: « تحب ذلك » . قال:نعم! فرفع يديه فلم يرجعهما حتى مالت السماء فأظَلَّت ثم سكبت، فملئوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر.

وقال ابن جرير في قوله: ( لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ ) أي:من النفقة والظهر والزاد والماء، ( مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ) أي:عن الحق ويشك في دين رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرتاب، بالذي نالهم من المشقة والشدة في سفره وغزوه، ( ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ) يقول:ثم رزقهم الإنابة إلى ربهم، والرجوع إلى الثبات على دينه، ( إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) .

 

وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( 118 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ( 119 )

قال الإمام أحمد:حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن أخي الزهري محمد بن عبد الله، عن عمه محمد بن مسلم الزهري، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، أن عبد الله بن كعب بن مالك - وكان قائد كعب من بنيه حين عَمِيَ - قال:سمعت كعب بن مالك يحدّث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فقال كعب بن مالك:لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة غيرها قط إلا في غزوة تبوك، غير أني كنت تخلفت في غزاة بدر، ولم يعاتَب أحدٌ تخلف عنها، وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عِير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد، ولقد شهدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين توافقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذْكَر في الناس منها وأشهر، وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلّفت عنه في تلك الغزاة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزاة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَلَّما يريد غزوة يغزوها إلا وَرّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حَرٍّ شديد، واستقبل سفرا بعيدا ومفازًا، واستقبل عدوا كثيرًا فَجَلَّى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم، فأخبرهم وَجْهَه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، لا يجمعهم كتاب حافظ - يريد الديوان - فقال كعب:فَقَلّ رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى له ما لم ينـزل فيه وحي من الله، عز وجل، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزاة حين طابت الثمار والظل، وأنا إليها أصعر. فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه، وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض من جهازي شيئا، فأقول لنفسي:أنا قادر على ذلك إذا أردت، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى شمَّر بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غاديا والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئا، وقلت:الجهاز بعد يوم أو يومين ثم ألحقه فغدوت بعدما فصلوا لأتجهز، فرجعت ولم أقض شيئا من جهازي. ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا، فلم يزل [ ذلك ] يَتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل فأدركهم - وليت أنّي فعلتُ - ثم لم يقدر ذلك لي، فطفقت إذا خرجتُ في الناس بعد [ خروج ] رسول الله صلى الله عليه وسلم [ فَطُفتُ فيهم ] يحزنني ألا أرى إلا رجلا مَغْموصا عليه في النفاق، أو رجلا ممن عذره الله، عز وجل، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: « ما فعل كعب بن مالك؟ » قال رجل من بني سَلمة:حبسه يا رسول الله بُرْداه، والنظر في عَطْفيه. فقال له معاذ بن جبل:بئسما قلت! والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا! فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال كعب بن مالك:فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تَوجَّه قافلا من تبوك حضرني بَثّي فطفقت أتذكر الكَذب، وأقول:بماذا أخرج من سخطه غدا؟ أستعين على ذلك كلّ ذي رأي من أهلي. فلما قيل:إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظلّ قادما، زاح عني الباطل وعرفت أني لم أنج منه بشيء أبدا. فأجمعتُ صدقه، وصَبَّح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس. فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له - وكانوا بضعة وثمانين رجلا - فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم ويستغفر لهم، ويكل سرائرهم إلى الله تعالى، حتى جئت، فلما سلَّمت عليه تبسم تبسم المغضب، ثم قال لي: « تعال » ، فجئت أمشي حتى جلستُ بين يديه، فقال لي: « ما خلَّفك، ألم تك قد اشتريت ظهرك » ؟ قال:فقلت:يا رسول الله، إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سَخَطه بعذر، لقد أعطيتُ جَدَلا ولكنه والله لقد علمتُ لئن حَدّثتك اليوم حديث كَذب ترضى به عني، ليوشكن الله يُسْخطك علي، ولئن حدثتك بصدق تَجدُ عَليّ فيه، إني لأرجو أقرب عقبى ذلك [ عفوًا ] من الله، عز وجل والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أفرغ ولا أيسر مني حين تخلفت عنك قال:فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك » . فقمت وبادرني رجال من بني سلمة واتبعوني، فقالوا لي:والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عَجَزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون فقد كان كافيك [ من ذنبك ] استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك. قال:فوالله ما زالوا يؤنّبوني حتى أردت أن أرجع فأُكذِّب نفسي:قال:ثم قلت لهم:هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا:نعم، [ لقيه معك ] رجلان، قالا ما قلتَ، وقيل لهما مثل ما قيل لك. قلت:فمن هما؟ قالوا:مُرَارة بن الربيع العامري، وهلال بن أمية الواقفي. فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا لي فيهما أسوة. قال:فمضيت حين ذكروهما لي - قال:ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا - أيها الثلاثة - من بين من تخلف عنه، فاجتنَبنَا الناس وتغيّروا لنا، حتى تنكرَتْ لي في نفسي الأرضُ، فما هي بالأرض التي كنت أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشَب القوم وأجلَدهم، فكنت أشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف بالأسواق فلا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة فأسلم، وأقول في نفسي:حَرّك شفتيه برد السلام عليّ أم لا؟ ثم أصلي قريبا منه، وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي، فإذا التفت نحوه أعرَض، حتى إذا طال علي ذلك من هجر المسلمين مَشَيت حتى تسورت حائط أبي قتادة - وهو ابن عمي، وأحب الناس إلي - فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام، فقلت له:يا أبا قتادة، أنشدُك الله:هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ قال:فسكت. قال:فعدتُ فنشدته [ فسكت، فعدت فنشدته ] فقال:الله ورسوله أعلم. قال:ففاضت عيناي وتوليت حتى تسوّرت الجدار. فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نَبَطِيٌّ من أنباط الشام، ممن قَدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول:من يدل على كعب بن مالك؟ قال:فطفِقَ الناس يشيرون له إليّ، حتى جاء فدفع إلي كتابا من ملك غسان، وكنت كاتبا فإذا فيه:أما بعد، فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هَوان ولا مَضْيَعة، فالحق بنا نُواسكَ. قال:فقلت حين قرأتها:وهذا أيضًا من البلاء. قال:فتيممت به التنور فَسَجرته حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين، إذا برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني، فقال:إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك. قال:فقلت:أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال:بل اعتزلها ولا تقربها. قال:وأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك قال:فقلت لامرأتي:الحقي بأهلك، فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر. قال:فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له:يا رسول الله، إن هلالا شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: « لا ولكن لا يقربَنَّك » قالت:وإنه والله ما به حركة إلى شيء، والله ما يزال يبكي من لدن أن كان من أمرك ما كان إلى يومه هذا. قال:فقال لي بعض أهلي:لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه. قال:فقلت:والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أدري ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته وأنا رجل شاب؟ قال:فلبثنا [ بعد ذلك ] عشر ليال، فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا قال:ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى منا:قد ضاقت علي نفسي، وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صارخا أوفى على جبل سَلْع يقول بأعلى صوته:يا كعب بن مالك، أبشر. قال:فخررت ساجدا، وعرفت أن قد جاء فرج، فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قِبَل صاحبيّ مبشرون، وركض إلي رجُل فرسًا، وسعى ساع من أسلم وأوفى على الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس. فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني، فنـزعت ثوبي، فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت أؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة، يقولون:لِيَهْنك توبة الله عليك. حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد حوله الناس، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يُهرول، حتى صافحني وهَنَّأني، والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره قال:فكان كعب لا ينساها لطلحة. قال كعب:فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرُق وجهه من السرور: « أبشر بخير يوم مَرّ عليك منذ ولدتك أمّك » . قال:قلت:أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: « لا بل من عند الله » . قال:وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، حتى يعرف ذلك منه. فلما جلست بين يديه قلت:يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله. قال: « أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك » . قال:فقلت:فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. وقلت:يا رسول الله، إنما نجاني الله بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقا ما بقيت. قال:فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني الله تعالى، والله ما تعمدت كَذبَةً منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي. قال:وأنـزل الله تعالى: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ قال كعب:فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظمَ في نفسي من صدقي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ألا أكون كَذَبْتُه فأهلك كما هلك الذين كَذَبوه [ حين كَذَبُوه ] ؛ فإن الله تعالى قال للذين كَذَبوه حين أنـزل الوحي شر ما قال لأحد، قال الله تعالى: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [ التوبة:95، 96 ] . قال:وكنا خُلّفنا - أيها الثلاثة - عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسولُ الله أمرَنا، حتى قضى الله فيه، فبذلك قال الله تعالى: ( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ) وليس تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا الذي ذكر مما خُلِّفنا بتخلفنا عن الغزو، وإنما هو عمن حلف له واعتذر إليه، فقبل منه.

هذا حديث صحيح ثابت متفق على صحته، رواه صاحبا الصحيح:البخاري ومسلم من حديث الزهري، بنحوه.

فقد تضمن هذا الحديث تفسير هذه الآية الكريمة بأحسن الوجوه وأبسطها. وكذا رُوي عن غير واحد من السلف في تفسيرها، كما رواه الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر بن عبد الله في قوله تعالى: ( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ) قال:هم كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومُرارة بن ربيعة وكلهم من الأنصار.

وكذا قال مجاهد، والضحاك، وقتادة، والسدي وغير واحد - وكلهم قال:مُرارة بن ربيعة.

[ وكذا في مسلم:مرارة بن ربيعة في بعض نسخه، وفي بعضها:مرارة بن الربيع ] .

وفي رواية عن سعيد بن جُبَير:ربيع بن مرارة.

وقال الحسن البصري:ربيع بن مرارة أو مرارة بن ربيع.

وفي رواية عن الضحاك:مُرارة بن الربيع، كما وقع في الصحيحين، وهو الصواب.

وقوله: « فسموا رجلين شهدا بدرا » ، قيل:إنه خطأ من الزهري، فإنه لا يُعْرَف شُهودُ واحد من هؤلاء الثلاثة بدرا، والله أعلم.

ولما ذكر تعالى ما فرّج به عن هؤلاء الثلاثة من الضيق والكرب، من هجر المسلمين إياهم نحوا من خمسين ليلة بأيامها، وضاقت عليهم أنفسهم، وضاقت عليهم الأرض بما رَحُبت، أي:مع سعتها، فسدّدت عليهم المسالك والمذاهب، فلا يهتدون ما يصنعون، فصبروا لأمر الله، واستكانوا لأمر الله، وثبتوا حتى فرج الله عنهم بسبب صدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في تخلفهم، وأنه كان عن غير عذر، فعوقبوا على ذلك هذه المدة، ثم تاب الله عليهم، فكان عاقبة صدقهم خيرا لهم وتوبة عليهم؛ ولهذا قال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) أي:اصدُقوا والزموا الصدق تكونوا مع أهله وتنجوا من المهالك ويجعل لكم فرجا من أموركم، ومخرجا، وقد قال الإمام أحمد:حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن شقيق ؛ عن عبد الله، هو ابن مسعود، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب، حتى يكتب عند الله كذابا » .

أخرجاه في الصحيحين.

وقال شعبة، عن عمرو بن مُرّة، سمع أبا عبيدة يحدث عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، أنه قال: [ إن ] الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، اقرءوا إن شئتم: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مِنَ الصَّادِقِينَ ) - هكذا قرأها - ثم قال:فهل تجدون لأحد فيه رخصة.

وعن عبد الله بن عمر: ( اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) مع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

وقال الضحاك:مع أبي بكر وعمر وأصحابهما.

وقال الحسن البصري:إن أردت أن تكون مع الصادقين، فعليك بالزهد في الدنيا، والكف عن أهل الملة.

مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ( 120 )

يعاتب تعالى المتخلّفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تَبُوك، من أهل المدينة ومن حولها من أحياء العرب، ورغبتهم بأنفسهم عن مواساته فيما حصل من المشقة، فإنهم نَقَصُوا أنفسهم من الأجر؛ لأنهم ( لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ ) وهو:العطش ( وَلا نَصَبٌ ) وهو:التعب ( وَلا مَخْمَصَةٌ ) وهي:المجاعة ( وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ ) أي:ينـزلون منـزلا يُرهبُ عدوهم ( وَلا يَنَالُونَ ) منه ظفرًا وغلبة عليه إلا كتب الله لهم بهذه الأعمال التي ليست داخلة تحت قدرتهم، وإنما هي ناشئة عن أفعالهم، أعمالا صالحة وثوابا جزيلا ( إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) كما قال تعالى: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا [ الكهف:30 ] .

وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 121 )

يقول تعالى:ولا ينفق هؤلاء الغزاة في سبيل الله ( نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً ) أي:قليلا ولا كثيرا ( وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا ) أي:في السير إلى الأعداء ( إِلا كُتِبَ لَهُمْ ) ولم يقل ها هنا « به » لأن هذه أفعال صادرة عنهم؛ ولهذا قال: ( لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) .

وقد حصل لأمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه، من هذه الآية الكريمة حظ وافر، ونصيب عظيم، وذلك أنه أنفق في هذه الغزوة النفقات الجليلة، والأموال الجزيلة، كما قال عبد الله بن الإمام أحمد:

حدثنا أبو موسى العنـزي، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثني سَكَن بن المغيرة، حدثني الوليد بن أبي هاشم، عن فرقد أبي طلحة، عن عبد الرحمن بن خَبَّاب السلمي قال:خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فحث على جيش العسرة، فقال عثمان بن عفان، رضي الله عنه:عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها. قال:ثم حث، فقال عثمان:عليَّ مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها. قال:ثم نـزل مرْقاة من المنبر ثم حث، فقال عثمان بن عفان:علىَّ مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها. قال:فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بيده هكذا - يحركها. وأخرج عبد الصمد يده كالمتعجب: « ما على عثمان ما عمل بعد هذا » .

وقال عبد الله أيضا:حدثنا هارون بن معروف، حدثنا ضَمْرَة، حدثنا عبد الله بن شَوْذَب، عن عبد الله بن القاسم، عن كثير مولى عبد الرحمن بن سَمُرة، عن عبد الرحمن بن سمرة قال:جاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في ثوبه حين جَهَّز النبي صلى الله عليه وسلم جيش العسرة قال:فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها بيده ويقول: « ما ضَرّ ابن عفان ما عمل بعد اليوم » . يرددها مرارا.

وقال قتادة في قوله تعالى: ( وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلا كُتِبَ لَهُمْ ) الآية:ما ازداد قوم من أهليهم في سبيل الله بعدًا إلا ازدادوا من الله قربا.

وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ( 122 )

هذا بيان من الله تعالى لما أراد من نَفير الأحياء مع الرسول في غزوة تبوك، فإنه قد ذهب طائفة من السلف إلى أنه كان يجب النفير على كل مسلم إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال تعالى: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا [ التوبة:41 ] ، وقال: مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ [ التوبة:120 ] ، قالوا:فنسخ ذلك بهذه الآية.

وقد يقال:إن هذا بيان لمراده تعالى من نفير الأحياء كلها، وشرذمة من كل قبيلة إن لم يخرجوا كلهم، ليتفقه الخارجون مع الرسول بما ينـزل من الوحي عليه، وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم بما كان من أمر العدو، فيجتمع لهم الأمران في هذا:النفير المعين وبعده، صلوات الله وسلامه عليه، تكون الطائفة النافرة من الحي إما للتفقه وإما للجهاد؛ فإنه فرض كفاية على الأحياء.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ) يقول:ما كان المؤمنون لينفروا جميعا ويتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وحده، ( فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ) يعني:عصبة، يعني:السرايا، ولا يَتَسرَّوا إلا بإذنه، فإذا رجعت السرايا وقد نـزل بعدهم قرآن تعلمه القاعدون من النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا:إن الله قد أنـزل على نبيكم قرآنا، وقد تعلمناه. فتمكث السرايا يتعلمون ما أنـزل الله على نبيهم بعدهم، ويبعث سرايا أخرى، فذلك قوله: ( لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ) يقول:ليتعلموا ما أنـزل الله على نبيهم، وليعلموا السرايا إذا رجعت إليهم ( لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) .

وقال مجاهد:نـزلت هذه الآية في أناس من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، خرجوا في البوادي، فأصابوا من الناس معروفا، ومن الخصب ما ينتفعون به، ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى، فقال الناس لهم:ما نراكم إلا وقد تركتم أصحابكم وجئتمونا. فوجدوا في أنفسهم من ذلك تحرجا، وأقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الله، عز وجل: ( فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ) يبتغون الخير، ( لِيَتَفَقَّهُوا [ فِي الدِّينِ ] ) وليستمعوا ما في الناس، وما أنـزل الله بعدهم، ( وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ ) الناس كلهم ( إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) .

وقال قتادة في هذه الآية:هذا إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيوش، أمرهم الله ألا يُعرَوْا نبيَّه صلى الله عليه وسلم، وتقيم طائفة مع رسول الله تتفقه في الدين، وتنطلق طائفة تدعو قومها، وتحذرهم وقائع الله فيمن خلا قبلهم.

وقال الضحاك:كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا بنفسه لم يحلْ لأحد من المسلمين أن يتخلف عنه، إلا أهل الأعذار. وكان إذا أقام فاسترت السرايا لم يحل لهم أن ينطلقوا إلا بإذنه، فكان الرجل إذا استرى فنـزل بعده قرآن، تلاه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه القاعدين معه، فإذا رجعت السرية قال لهم الذين أقاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:إن الله أنـزل بعدكم على نبيه قرآنا. فيقرئونهم ويفقهونهم في الدين، وهو قوله: ( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ) يقول إذا أقام رسول الله ( فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ) يعني بذلك:أنه لا ينبغي للمسلمين أن ينفروا جميعا ونبي الله صلى الله عليه وسلم قاعد، ولكن إذا قعد نبي الله تسرت السرايا، وقعد معه عُظْم الناس.

وقال [ علي ] بن أبي طلحة أيضا عن ابن عباس:قوله: ( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ) فإنها ليست في الجهاد، ولكن لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مُضر بالسنين أجدبت بلادهم، وكانت القبيلة منهم تُقبِل بأسرها حتى يحلوا بالمدينة من الجهد، ويعتلّوا بالإسلام وهم كاذبون. فضيقوا على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأجهدوهم. فأنـزل الله يخبر رسوله أنهم ليسوا مؤمنين، فردهم رسول الله إلى عشائرهم، وحذّر قومهم أن يفعلوا فعلهم، فذلك قوله: ( وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) .

وقال العوفي، عن ابن عباس في هذه الآية:كان ينطلق من كل حي من العرب عصابة، فيأتون النبي صلى الله عليه وسلم. فيسألونه عما يريدون من أمر دينهم، ويتفقهون في دينهم، ويقولون لنبي الله:ما تأمرنا أن نفعله؟ وأخبرنا [ ما نقول ] لعشائرنا إذا قدمنا انطلقنا إليهم. قال:فيأمرهم نبي الله بطاعة الله وطاعة رسوله، ويبعثهم إلى قومهم بالصلاة والزكاة. وكانوا إذا أتوا قومهم نادوا:إن من أسلم فهو منا، وينذرونهم، حتى إن الرجل ليفارق أباه وأمه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرهم وينذرهم قومهم، فإذا رجعوا إليهم يدعونهم إلى الإسلام وينذرونهم النار ويبشرونهم بالجنة.

وقال عكرمة:لما نـزلت هذه الآية: [ الشريفة ] إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [ التوبة:39 ] ، و مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا [ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ] [ التوبة:120 ] ، قال المنافقون:هلك أصحاب البدو الذين تخلفوا عن محمد ولم ينفروا معه. وقد كان ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا إلى البدو إلى قومهم يفقهونهم، فأنـزل الله، عز وجل: ( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ) الآية، ونـزلت: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ الآية [ الشورى:16 ] .

وقال الحسن البصري: ( فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ) قال:ليتفقه الذين خرجوا، بما يردهم الله من الظهور على المشركين، والنصرة، وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم.

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ( 123 )

أمر الله تعالى المؤمنين أن يقاتلوا الكفار أولا فأولا الأقرب فالأقرب إلى حوزة الإسلام؛ ولهذا بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال المشركين في جزيرة العرب، فلما فرغ منهم وفتح الله عليه مكة والمدينة، والطائف، واليمن واليمامة، وهجر، وخيبر، وحضرموت، وغير ذلك من أقاليم جزيرة العرب، ودخل الناس من سائر أحياء العرب في دين الله أفواجا، شرع في قتال أهل الكتاب، فتجهز لغزو الروم الذين هم أقرب الناس إلى جزيرة العرب، وأولى الناس بالدعوة إلى الإسلام لكونهم أهل الكتاب، فبلغ تبوك ثم رجع لأجل جهْد الناس وجَدْب البلاد وضيق الحال، وكان ذلك سنة تسع من هجرته، عليه السلام.

ثم اشتغل في السنة العاشرة بحجته حَجَّة الوداع. ثم عاجلته المنية، صلوات الله وسلامه عليه، بعد الحجة بأحد وثمانين يوما، فاختاره الله لما عنده.

وقام بالأمر بعده وزيره وصديقه وخليفته أبو بكر، رضي الله عنه، وقد مال الدين ميلة كاد أن ينجفل، فثبته الله تعالى به فوطد القواعد، وثبت الدعائم. ورد شارد الدين وهو راغم. ورد أهل الردة إلى الإسلام، وأخذ الزكاة ممن منعها من الطغام، وبين الحق لمن جهله، وأدى عن الرسول ما حمله. ثم شرع في تجهيز الجيوش الإسلامية إلى الروم عَبَدَةِ الصلبان وإلى الفرس عبدة النيران، ففتح الله ببركة سفارته البلاد، وأرغم أنفس كسرى وقيصر ومن أطاعهما من العباد. وأنفق كنوزهما في سبيل الله، كما أخبر بذلك رسول الإله.

وكان تمام الأمر على يدي وصيّه من بعده، وولي عهده الفاروق الأوّاب، شهيد المحراب، أبي حفص عمر بن الخطاب، فأرغم الله به أنوف الكفرة الملحدين، وقمع الطغاة والمنافقين، واستولى على الممالك شرقًا وغربًا. وحملت إليه خزائن الأموال من سائر الأقاليم بعدًا وقُربا. ففرقها على الوجه الشرعي، والسبيل المرضي.

ثم لما مات شهيدًا وقد عاش حميدًا، أجمع الصحابة من المهاجرين والأنصار. على خلافة أمير المؤمنين [ أبي عمرو ] عثمان بن عفان شهيد الدار. فكسى الإسلام [ بجلاله ] رياسة حلة سابغة. وأمدت في سائر الأقاليم على رقاب العباد حجة الله البالغة، وظهر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وعلت كلمة الله وظهر دينه. وبلغت الأمة الحنيفية من أعداء الله غاية مآربها، فكلما عَلَوا أمة انتقلوا إلى من بعدهم، ثم الذين يلونهم من العتاة الفجار، امتثالا لقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ ) وقوله تعالى: ( وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ) [ أي:وليجد الكفار منكم غلظة ] عليهم في قتالكم لهم، فإن المؤمن الكامل هو الذي يكون رفيقا لأخيه المؤمن، غليظًا على عدوه الكافر، كما قال تعالى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [ المائدة:54 ] ، وقال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [ الفتح:29 ] ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [ التوبة:73، والتحريم:9 ] ، وفي الحديث:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أنا الضَّحوك القَتَّال » ، يعني:أنه ضَحُوك في وجه وليه، قَتَّال لهامة عدوه.

وقوله: ( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) أي:قاتلوا الكفار، وتوكلوا على الله، واعلموا أن الله معكم إن اتقيتموه وأطعتموه.

وهكذا الأمر لما كانت القرون الثلاثة الذين هم خير هذه الأمة، في غاية الاستقامة، والقيام بطاعة الله تعالى، لم يزالوا ظاهرين على عدوهم، ولم تزل الفتوحات كثيرة، ولم تزل الأعداء في سَفال وخسار. ثم لما وقعت الفتن والأهواء والاختلافات بين الملوك، طمع الأعداء في أطراف البلاد، وتقدموا إليها، فلم يمانعوا لشغل الملوك بعضهم ببعض، ثم تقدموا إلى حوزة الإسلام، فأخذوا من الأطراف بلدانا كثيرة، ثم لم يزالوا حتى استحوذوا على كثير من بلاد الإسلام، ولله، سبحانه، الأمر من قبل ومن بعد. فكلما قام ملك من ملوك الإسلام، وأطاع أوامر الله، وتوكل على الله، فتح الله عليه من البلاد، واسترجع من الأعداء بحسبه، وبقدر ما فيه من ولاية الله. والله المسئول المأمول أن يمكن المسلمين من نواصي أعدائه الكافرين، وأن يعلي كلمتهم في سائر الأقاليم، إنه جواد كريم.

وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ( 124 ) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ( 125 )

يقول تعالى: ( وَإِذَا مَا أُنـزلَتْ سُورَةٌ ) فمن المنافقين ( مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا ) ؟ أي:يقول بعضهم لبعض أيكم زادته هذه السورة إيمانا؟ قال الله تعالى: ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) .

وهذه الآية من أكبر الدلائل على أن الإيمان يزيد وينقص، كما هو مذهب أكثر السلف والخلف من أئمة العلماء، بل قد حكى الإجماع على ذلك غير واحد، وقد بسط الكلام على هذه المسألة في أول « شرح البخاري » رحمه الله، ( وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ ) أي:زادتهم شكا إلى شكهم، وريبا إلى ريبهم، كما قال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا [ الإسراء:82 ] ، وقال تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [ فصلت:44 ] ، وهذا من جملة شقائهم أن ما يهدي القلوب يكون سببا لضلالهم ودمارهم، كما أن سيئ المزاج لو غذي بما غذي به لا يزيده إلا خبالا ونقصا.

أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ( 126 ) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ( 127 )

يقول تعالى:أولا يرى هؤلاء المنافقون ( أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ ) أي:يختبرون ( فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ) أي:لا يتوبون من ذنوبهم السالفة، ولا هم يذكرون فيما يستقبل من أحوالهم.

قال مجاهد:يختبرون بالسَّنة والجوع.

وقال قتادة:بالغزو في السنة مرة أو مرتين.

وقال شريك، عن جابر - هو الجعفي - عن أبي الضُّحى، عن حذيفة: ( أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ) قال:كنا نسمع في كل عام كذبة أو كذبتين، فيضل بها فئام من الناس كثير. رواه ابن جرير.

وفي الحديث عن أنس: « لا يزداد الأمر إلا شدة، ولا يزداد الناس إلا شحا، وما من عام إلا والذي بعده شر منه » ، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم.

وقوله: ( وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ) هذا أيضا إخبار عن المنافقين أنهم إذا أنـزلت سورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ( نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ) أي:تَلَفَّتُوا، ( هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا ) أي:تولوا عن الحق وانصرفوا عنه، وهذا حالهم في الدين لا يثبتون عند الحق ولا يقبلونه ولا يقيمونه كما قال تعالى:فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [ المدثر:49- 51 ] ، وقال تعالى: فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ * عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ [ المعارج:36، 37 ] ، أي:ما لهؤلاء القوم يتقللون عنك يمينا وشمالا هروبا من الحق، وذهابا إلى الباطل.

وقوله: ( ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) كقوله: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [ الصف:5 ] ، ( بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ) أي:لا يفهمون عن الله خطابه، ولا يقصدون لفهمه ولا يريدونه، بل هم في شده عنه ونفور منه فلهذا صاروا إلى ما صاروا إليه.

لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ( 128 ) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( 129 )

يقول تعالى ممتنا على المؤمنين بما أرسل إليهم رسولا من أنفسهم، أي:من جنسهم وعلى لغتهم، كما قال إبراهيم، عليه السلام: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ [ البقرة:129 ] ، وقال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [ آل عمران:164 ] ، وقال تعالى: ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ) أي:منكم وبلغتكم، كما قال جعفر بن أبي طالب للنجاشي، والمغيرة بن شعبة لرسول كسرى:إن الله بعث فينا رسولا منا، نعرف نسبه وصفته، ومدخله ومخرجه، وصدقه وأمانته، وذكر الحديث.

وقال سفيان بن عُيينة، عن جعفر بن محمد، عن أبيه في قوله تعالى: ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ) قال:لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية، وقال صلى الله عليه وسلم: « خرجت من نكاح، ولم أخرج من سِفاح » .

وقد وصل هذا من وجه آخر، كما قال الحافظ أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن الرامهُرْمُزي في كتابه « الفاصل بين الراوي والواعي » :حدثنا أبو أحمد يوسف بن هارون بن زياد، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا محمد بن جعفر بن محمد قال:أشهد على أبي لحدثني، عن أبيه، عن جده، عن علي قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي لم يمسني من سفاح الجاهلية شيء » .

وقوله: ( عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ) أي:يعز عليه الشيء الذي يَعْنَتُ أمته ويشق عليها؛ ولهذا جاء في الحديث المروي من طرق عنه أنه قال: « بعثت بالحنيفية السمحة » وفي الصحيح: « إن هذا الدين يسر » وشريعته كلها سهلة سمحة كاملة، يسيرة على من يسرها الله تعالى عليه.

( حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ) أي:على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم.

قال الطبراني:حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، حدثنا سفيان بن عيينة، عن فِطْر، عن أبي الطفيل، عن أبي ذر قال. تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكرنا منه علما - قال:وقال صلى الله عليه وسلم: « ما بقي شيء يُقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بين لكم » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا [ أبو ] فَطَن، حدثنا المسعودي، عن الحسن بن سعد، عن عبدة النَّهدي، عن عبد الله بن مسعود قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله لم يحرم حُرمة إلا وقد علم أنه سيطلعها منكم مُطَّلَع، ألا وإني آخذ بحجزكم أن تهافتوا في النار، كتهافت الفراش، أو الذباب » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا حسن بن موسى، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جُدْعان، عن يوسف بن مِهْرَان، عن ابن عباس:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه ملكان، فيما يرى النائم، فقعد أحدهما عند رجليه والآخر عند رأسه. فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه:اضرب مثل هذا ومثل أمته. فقال:إن مثله ومثل أمته كمثل قوم سفر انتهوا إلى رأس مفازة فلم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة ولا ما يرجعون به، فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجل في حُلَّة حِبَرَة فقال:أرأيتم إن ورَدت بكم رياضا معشبة، وحياضا رواء تتبعوني؟ فقالوا:نعم. قال:فانطلق بهم، فأوردهم رياضا معشبة، وحياضا رواء، فأكلوا وشربوا وسمنوا، فقال لهم:ألم ألفكم على تلك الحال، فجعلتم لي إن وردت بكم رياضا معشبة وحياضا رواء أن تتبعوني؟ فقالوا:بلى. قال:فإن بين أيديكم رياضا هي أعشب من هذه، وحياضا هي أروى من هذه، فاتبعوني. فقالت طائفة:صدق، والله لنتبعنه وقالت طائفة:قد رضينا بهذا نقيم عليه.

وقال البزار:حدثنا سلمة بن شبيب وأحمد بن منصور قالا حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان حدثنا أبي، عن عِكْرِمة عن أبي هريرة، رضي الله عنه؛ أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستعينه في شيء - قال عِكْرِمة:أراه قال: « في دم » - فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، ثم قال: « أحسنت إليك؟ » قال الأعرابي:لا ولا أجملت. فغضب بعض المسلمين، وهموا أن يقوموا إليه، فأشار رسول الله إليهم:أن كفوا. فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ إلى منـزله، دعا الأعرابي إلى البيت، فقال له: « إنك جئتنا فسألتنا فأعطيناك، فقلت ما قلت » فزاده رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، وقال: « أحسنت إليك؟ » فقال الأعرابي:نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرًا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: « إنك جئتنا تسألنا فأعطيناك، فقلت ما قلت، وفي أنفس أصحابي عليك من ذلك شيء، فإذا جئت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي، حتى يذهب عن صدورهم » . قال:نعم. فلما جاء الأعرابي. قال إن صاحبكم كان جاءنا فسألنا فأعطيناه، فقال ما قال، وإنا قد دعوناه فأعطيناه فزعم أنه قد رضي، [ كذلك يا أعرابي؟ ] قال الأعرابي:نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرًا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة، فشردت عليه، فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفورا. فقال لهم صاحب الناقة:خلوا بيني وبين ناقتي، فأنا أرفق بها، وأعلم بها. فتوجه إليها وأخذ لها من قَتَام الأرض، ودعاها حتى جاءت واستجابت، وشد عليها رحْلها وإنه لو أطعتكم حيث قال ما قال لدخل النار » . ثم قال البزار:لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه.

قلت:وهو ضعيف بحال إبراهيم بن الحكم بن أبان، والله أعلم.

وقوله: ( بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) كما قال تعالى:وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ [ الشعراء:215- 217 ] .

وهكذا أمره تعالى.

وهذه الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: ( فَإِنْ تَوَلَّوْا ) أي:تولوا عما جئتهم به من الشريعة العظيمة المطهرة الكاملة الشاملة، ( فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ ) أي:الله كافيَّ، لا إله إلا هو عليه توكلت، كما قال تعالى: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا [ المزمل:9 ] .

( وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) أي:هو مالك كل شيء وخالقه، لأنه رب العرش العظيم، الذي هو سقف المخلوقات وجميع الخلائق من السموات والأرضين وما فيهما وما بينهما تحت العرش مقهورون بقدرة الله تعالى، وعلمه محيط بكل شيء، وَقَدَره نافذ في كل شيء، وهو على كل شيء وكيل.

قال عبد الله بن الإمام أحمد:حدثني محمد بن أبي بكر، حدثنا بشر بن عمر، حدثنا شعبة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مِهْرَان، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، عن أبي بن كعب قال:آخر آية نـزلت من القرآن هذه الآية: ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ) إلى آخر السورة.

وقال عبد الله بن الإمام أحمد:حدثنا روح بن عبد المؤمن، حدثنا عمر بن شقيق، حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، رضي الله عنه؛ أنهم جمعوا القرآن في مصاحف في خلافة أبي بكر، رضي الله عنه، فكان رجال يكتبون ويملي عليهم أبي بن كعب، فلما انتهوا إلى هذه الآية من سورة براءة: ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [ التوبة:127 ] ، فظنوا أن هذا آخر ما أنـزل من القرآن. فقال لهم أبي بن كعب:إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأني بعدها آيتين: ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) إلى: ( وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) قال: « هذا آخر ما أنـزل من القرآن » قال:فختم بما فُتح به، بالله الذي لا إله إلا هو، وهو قول الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ [ الأنبياء:25 ] غريب أيضا.

وقال الإمام أحمد:حدثنا علي بن بحر، حدثنا محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد، عن أبيه عباد بن عبد الله بن الزبير، رضي الله عنه، قال:أتى الحارث بن خَزَمة بهاتين الآيتين من آخر براءة: ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ) إلى عمر بن الخطاب، فقال:من معك على هذا؟ قال:لا أدري، والله إني لأشهد لسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعيتها وحفظتها. فقال عمر:وأنا أشهد لسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم - ثم قال:لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة، فانظروا سورة من القرآن، فضعوها فيها. فوضعوها في آخر براءة.

وقد تقدم أن عمر بن الخطاب هو الذي أشار على أبي بكر الصديق، رضي الله عنهما، بجمع القرآن، فأمر زيد بن ثابت فجمعه. وكان عمر يحضرهم وهم يكتبون ذلك. وفي الصحيح أن زيدا قال:فوجدت آخر سورة « براءة » مع خزيمة بن ثابت - أو:أبي خزيمة وقدمنا أن جماعة من الصحابة تذكروا ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال خزيمة بن ثابت حين ابتدأهم بها، والله أعلم.

وقد روى أبو داود، عن يزيد بن محمد، عن عبد الرزاق بن عمر - وقال:كان من ثقات المسلمين من المتعبدين، عن مدرك بن سعد - قال يزيد:شيخ ثقة - عن يونس بن ميسرة، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء قال:من قال إذا أصبح وإذا أمسى:حسبي الله لا إله إلا هو، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم، سبع مرات، إلا كفاه الله ما أهمه.

وقد رواه ابن عساكر في ترجمة « عبد الرزاق بن عمر » هذا، من رواية أبى زُرْعَة الدمشقي، عنه، عن أبي سعد مُدْرِك بن أبي سعد الفزاري، عن يونس بن ميسرة بن حليس، عن أم الدرداء، سمعت أبا الدرداء يقول:ما من عبد يقول:حسبي الله، لا إله إلا هو، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم، سبع مرات، صادقا كان بها أو كاذبا، إلا كفاه الله ما هَمَّه.

وهذه زيادة غريبة. ثم رواه في ترجمة عبد الرزاق أبي محمد، عن أحمد بن عبد الله بن عبد الرزاق، عن جده عبد الرزاق بن عمر، بسنده فرفعه فذكر مثله بالزيادة. وهذا منكر، والله أعلم.

آخر سورة براءة، والحمد لله وحده.

 

تفسير سورة يونس

 

[ وهي مكية ]

بسم الله الرحمن الرحيم

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ( 1 ) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ( 2 )

أما الحروف المقطعة في أوائل السور، فقد تقدم الكلام عليها [ مستوفى ] في أوائل سورة البقرة.

وقال أبو الضحى، عن ابن عباس في قوله تعالى: « الر » ، أي:أنا الله أرى. وكذا قال الضحاك وغيره.

( تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ) أي:هذه آيات القرآن المحكم المبين وقال مجاهد: ( الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ) [ قال:التوراة والإنجيل ] .

[ وقال الحسن:التوراة والزبور ] .

وقال قتادة: ( تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ ) قال:الكتب التي كانت قبل القرآن.

وهذا القول لا أعرف وجهه ولا معناه.

وقوله: ( أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا ) الآية، يقول تعالى منكرا على من تعجب من الكفار من إرسال المرسلين من البشر، كما أخبر تعالى عن القرون الماضية من قولهم: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا [ التغابن:6 ] وقال هود وصالح لقومهما: أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ [ الأعراف:63:69 ] وقال تعالى مخبرا عن كفار قريش أنهم قالوا: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ ص:5 ] .

وقال الضحاك، عن ابن عباس:لما بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا أنكرت العرب ذلك، أو من أنكر منهم، فقالوا:الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد. قال:فأنـزل الله عز وجل: ( أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ ) .

وقوله: ( أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) اختلفوا فيه، فقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ( أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ [ عِنْدَ رَبِّهِمْ ] ) يقول:سبقت لهم السعادة في الذكر الأول.

وقال العوفي، عن ابن عباس: ( أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) يقول:أجرا حسنا، بما قدموا. وكذا قال الضحاك، والربيع بن أنس، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وهذا كقوله تعالى:لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا [ الكهف:2 ، 3 ]

وقال مجاهد: ( أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) قال:الأعمال الصالحة صلاتهم وصومهم وصدقتهم وتسبيحهم.

[ وقال عمرو بن الحارث عن قتادة أو الحسن ( أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ ] ) قال:محمد صلى الله عليه وسلم شفيع لهم. وكذا قال زيد بن أسلم، ومقاتل بن حيان.

وقال قتادة:سَلفُ صدق عند ربهم.

واختار ابن جرير قول مجاهد - أنها الأعمال الصالحة التي قدموها - قال:كما يقال: « له قدم في الإسلام » ومنه قول [ حسان ] رضي الله عنه.

لنــا القَـــدَمُ العُليا إليك وخَلْفُنا لأوَّلِنــا فــي طاعَــة اللـهِ تَـابعُ

وقول ذي الرُّمة:

لكُــم قَــدَمٌ لا يُنْكـرُ النـاسُ أنهـا مَـعَ الحسَـبِ العَادِيّ طَمَّت على البَحْرِ

وقوله تعالى: ( قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ) أي:مع أنا بعثنا إليهم رسولا منهم، رجلا من جنسهم، بشيرا ونذيرا، ( قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ) أي:ظاهر، وهم الكاذبون في ذلك.

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ( 3 )

يخبر تعالى أنه رب العالم جميعه، وأنه خَلَق السموات والأرض في ستة أيام - قيل:كهذه الأيام، وقيل:كل يوم كألف سنة مما تعدون. كما سيأتي بيانه [ إن شاء الله تعالى ] ثم استوى على العرش، والعرش أعظم المخلوقات وسقفها.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا حجاج بن حمزة، حدثنا أبو أسامة، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد قال:سمعت سعد الطائي يقول:العرش ياقوتة حمراء.

وقال وهب بن منبه:خلقه الله من نوره.

وهذا غريب.

( يُدَبِّرُ الأمْرَ ) أي:يدبر أمر الخلائق، لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ [ سبأ:3 ] ، ولا يشغله شأن عن شأن، ولا تغلّظه المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين ولا يلهيه تدبير الكبير عن الصغير، في الجبال والبحار والعمران والقفار، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [ هود:6 ] . وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [ الأنعام:59 ] .

وقال الدراوردي، عن سعد بن إسحاق بن كعب [ بن عجرة ] أنه قال حين نـزلت هذه الآية: ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) لقيهم ركب عظيم [ لا يرون إلا أنهم ] من العرب، فقالوا لهم:من أنتم؟ قالوا. من الجن، خرجنا من المدينة، أخرجتنا هذه الآية. رواه ابن أبي حاتم.

[ وقوله ] ( مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ) كقوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ [ البقرة:255 ] وكقوله تعالى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [ النجم:26 ] وقوله: وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [ سبأ:23 ] .

وقوله: ( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) أي:أفردوه بالعبادة وحده لا شريك له، ( أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) أي:أيها المشركون في أمركم، تعبدون مع الله غيره، وأنتم تعلمون أنه المتفرد بالخلق، كقوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [ الزخرف:87 ] ، وقوله:قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ [ المؤمنون:86 - 87 ] ، وكذا الآية التي قبلها والتي بعدها.

إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ( 4 )

أخبر تعالى أن إليه مرجع الخلائق يوم القيامة، لا يترك منهم أحدا حتى يعيده كما بدأه. ثم ذكر تعالى أنه كما بدأ الخلق كذلك يعيده، وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [ الروم:27 ] .

( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ ) أي:بالعدل والجزاء الأوفى، ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ) أي:بسبب كفرهم يعذبون يوم القيامة بأنواع العقاب من: سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ [ الواقعة:42 ، 43 ] . هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ [ ص:57 ، 58 ] . هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [ الرحمن:43 ، 44 ] .

هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 5 ) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ ( 6 )

يخبر تعالى عما خلق من الآيات الدالة على كمال قدرته، وعظيم سلطانه، وأنه جعل الشعاع الصادر عن جرم الشمس ضياء وشعاع القمر نورا، هذا فن وهذا فن آخر، ففاوت بينهما لئلا يشتبها، وجعل سلطان الشمس بالنهار، وسلطان القمر بالليل، وقدر القمر منازل، فأول ما يبدو صغيرًا، ثم يتزايد نُوره وجرمه، حتى يستوسق ويكمل إبداره، ثم يشرع في النقص حتى يرجع إلى حاله الأول في تمام شهر، كما قال تعالى:وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [ يس:39 ، 40 ] . وقال: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [ الأنعام:96 ] .

وقال في هذه الآية الكريمة: ( وقدره ) أي:القمر ( وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ) فبالشمس تعرف الأيام، وبسير القمر تعرف الشهور والأعوام.

( مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ ) أي:لم يخلقه عبثا بل له حكمة عظيمة في ذلك، وحجة بالغة، كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ ص:27 ] . وقال تعالى:أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [ المؤمنون:115 ، 116 ] .

وقوله: ( نُفَصِّلُ الآيَاتِ ) أي:نبين الحجج والأدلة ( لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ )

وقوله: ( إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) أي:تعاقبهما إذا جاء هذا ذهب هذا، وإذا ذهب هذا جاء هذا، لا يتأخر عنه شيئا، كما قال تعالى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا [ الأعراف:54 ] ، وقال: لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ [ يس:40 ] ، وقال تعالى: فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [ الأنعام:96 ] .

وقوله: ( وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) أي:من الآيات الدالة على عظمته تعالى، كما قال: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ] [ يوسف:105 ] ، [ وقال قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ] وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [ يونس:101 ] . وقال: أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [ سبأ:9 ] . وقال: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ [ آل عمران:190 ] . أي:العقول، وقال هاهنا: ( لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ ) أي:عقاب الله، وسخطه، وعذابه.

 

إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ( 7 ) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( 8 )

يقول الله تعالى مخبرًا عن حال الأشقياء الذين كفروا بلقاء الله يوم القيامة ولا يرجون في لقاء الله شيئا، ورضوا بهذه الحياة الدنيا واطمأنت إليها أنفسهم.

قال الحسن:والله ما زينوها ولا رفعوها، حتى رضوا بها وهم غافلون عن آيات الله الكونية فلا يتفكرون فيها، والشرعية فلا يأتمرون بها، بأن مأواهم يوم معادهم النار، جزاء على ما كانوا يكسبون في دنياهم من الآثام والخطايا والإجرام، مع ما هم فيه من الكفر بالله ورسوله واليوم الآخر.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( 9 ) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 10 )

وهذا إخبار عن حال السعداء الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، وامتثلوا ما أمروا، به فعملوا الصالحات، بأنه سيهديهم بإيمانهم.

يحتمل أن تكون « الباء » هاهنا سببية فتقديره:بسبب إيمانهم في الدنيا يهديهم الله يوم القيامة على الصراط، حتى يجوزوه ويخلصُوا إلى الجنة. ويحتمل أن تكون للاستعانة، كما قال مجاهد في قوله: ( يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ ) قال: [ يكون لهم نورا يمشون به ] .

وقال ابن جُرَيْج في [ قوله: ( يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ ) قال ] :يمثُل له عمله في صورة حسنة وريح طيبة إذا قام من قبره، يعارض صاحبه ويبشره بكل خير، فيقول له:من أنت؟ فيقول:أنا عملك. فيجعل له نورا. من بين يديه حتى يدخله الجنة، فذلك قوله تعالى: ( يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ ) والكافر يَمْثُلُ له عمله في صورة سيئة وريح منتنة فيلازم صاحبه ويلازُّه حتى يقذفه في النار.

وروي نحوه عن قتادة مرسلا فالله أعلم.

وقوله: ( دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) أي:هذا حال أهل الجنة.

قال ابن جريج:أخبرتُ أن قوله: ( دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ ) [ قال:إذا مر بهم الطير يشتهونه، قالوا:سبحانك اللهم ] وذلك دعواهم فيأتيهم الملك بما يشتهونه، فيسلم عليهم، فيردون عليه. فذلك قوله: ( وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ ) قال:فإذا أكلوا حمدوا الله ربهم، فذلك قوله: ( وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )

وقال مقاتل بن حيان:إذا أراد أهل الجنة أن يدعوا بالطعام قال أحدهم: ( سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ ) قال:فيقوم على أحدهم عشرة آلاف خادم، مع كل خادم صحفة من ذهب، فيها طعام ليس في الأخرى، قال:فيأكل منهن كلهن.

وقال سفيان الثوري:إذا أراد أحدهم أن يدعو بشيء قال: ( سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ )

وهذه الآية فيها شبه من قوله: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا [ الأحزاب:44 ] ، وقوله: لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا [ الواقعة:25 ، 26 ] . وقوله: سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [ يس:58 ] . وقوله: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [ الرعد:23 ، 24 ] .

وقوله: ( وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) هذا فيه دلالة على أن الله تعالى هو المحمود أبدا، المعبود على طول المدى؛ ولهذا حمد نفسه عند ابتداء خلقه واستمراره، وفي ابتداء كتابه، وعند ابتداء تنـزيله، حيث يقول تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [ الكهف:1 ] ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ [ الأنعام:1 ] إلى غير ذلك من الأحوال التي يطول بسطها، وأنه المحمود في الأول و [ في ] الآخر، في الحياة الدنيا وفي الآخرة، في جميع الأحوال؛ ولهذا جاء في الحديث: « إن أهل الجنة يُلْهَمُونَ التسبيح والتحميد كما يُلْهَمُونَ النَّفَس » وإنما يكون ذلك كذلك لما يرون من تضاعف نعم الله عليهم، فتكرّر وتعاد وتزاد، فليس لها انقضاء ولا أمد، فلا إله إلا هو ولا رب سواه.

وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( 11 )

يخبر تعالى عن حلمه ولطفه بعباده:أنه لا يستجيب لهم إذا دعوا على أنفسهم أو أموالهم أو أولادهم في حال ضجرهم وغضبهم، وأنه يعلم منهم عدم القصد إلى إرادة ذلك، فلهذا لا يستجيب لهم - والحالة هذه - لطفا ورحمة، كما يستجيب لهم إذا دعوا لأنفسهم أو لأموالهم وأولادهم بالخير والبركة والنماء؛ ولهذا قال: ( وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ) أي:لو استجاب لهم كل ما دعوه به في ذلك، لأهلكهم، ولكن لا ينبغي الإكثار من ذلك، كما جاء في الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده:

حدثنا محمد بن مَعْمَر، حدثنا يعقوب بن محمد، حدثنا حاتم بن إسماعيل، حدثنا يعقوب بن مجاهد أبو حَزْرَة عن عبادة بن الوليد، حدثنا جابر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تدعوا على أنفسكم، لا تدعوا على أولادكم، لا تدعوا على أموالكم،لا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم » .

ورواه أبو داود، من حديث حاتم بن إسماعيل، به .

وقال البزار: [ و ] تفرد به عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت الأنصاري، لم يشاركه أحد فيه، وهذا كقوله تعالى: وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولا [ الإسراء:11 ] .

وقال مجاهد في تفسير هذه الآية: ( وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ ) هو قول الإنسان لولده وماله إذا غضب عليه: « اللهم لا تبارك فيه والعنه » . فلو يعجل لهم الاستجابة في ذلك، كما يستجاب لهم في الخير لأهلكهم.

وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 12 )

يخبر تعالى عن الإنسان وضجره وقلقه إذا مسه الضر، كقوله: وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ [ فصلت:51 ] أي:كثير، وهما في معنى واحد؛ وذلك لأنه إذا أصابته شدة قلق لها وجزع منها، وأكثر الدعاء عند ذلك، فدعا الله في كشفها وزوالها عنه في حال اضطجاعه وقعوده وقيامه، وفي جميع أحواله، فإذا فرج الله شدته وكشف كربته، أعرض ونأى بجانبه، وذهب كأنه ما كان به من ذاك شيء، ( مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ )

ثم ذم تعالى مَنْ هذه صفته وطريقته فقال: ( كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) فأما من رزقه الله الهداية والسداد والتوفيق والرشاد، فإنه مستثنى من ذلك، كما قال تعالى: إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [ هود:11 ] ، وكقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: « عجبا لأمر المؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له:إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له » ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن .

وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ( 13 ) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ( 14 )

أخبر تعالى عما أحلّ بالقرون الماضية، في تكذيبهم الرسل فيما جاءوهم به من البينات والحجج الواضحات، ثم استخلف الله هؤلاء القومَ من بعدهم، وأرسل إليهم رسولا لينظر طاعتهم له، واتباعهم رسوله، وفي صحيح مسلم من حديث أبي نَضْرَة، عن أبي سعيد قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الدنيا حلوة خَضِرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء » .

وقال ابن جرير:حدثني المثنى، حدثنا زيد بن عوف أبو ربيعة فهد حدثنا حماد، عن ثابت البُناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى؛ أن عوف بن مالك قال لأبي بكر:رأيت فيما يرى النائم كأن سَبَبًا دُلِّي من السماء، فانتُشط رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثم أعيد، فانتُشط أبو بكر، ثم ذُرعَ الناس حول المنبر، ففضل عمر بثلاث أذرع إلى المنبر. فقال عمر:دعنا من رؤياك، لا أرَبَ لنا فيها! فلما استخلف عمر قال:يا عوف، رؤياك! فقال:وهل لك في رؤياي من حاجة؟ أولم تنتهرني ؟ فقال:ويحك! إني:كرهت أن تنعَى لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه! فقصّ عليه الرؤيا، حتى إذا بلغ: « ذُرع الناس إلى المنبر بهذه الثلاث الأذرع » ، قال:أما إحداهن فإنه كائن خليفة. وأما الثانية فإنه لا يخاف في الله لومة لائم. وأما الثالثة فإنه شهيد. قال:فقال:يقول الله تعالى: ( ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) فقد استُخلفت يا ابن أم عمر، فانظر كيف تعمل؟ وأما قوله: « فإني لا أخاف في الله لومة لائم » ، فما شاء الله! وأما قوله: [ إني ] شهيد فَأَنَّى لعمر الشهادة والمسلمون مطيفون به .

 

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( 15 ) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ( 16 )

يخبر تعالى عن تعنّت الكفار من مشركي قريش الجاحدين الحقّ المعرضين عنه، أنهم إذا قَرَأ عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم كتاب الله وحُجَجه الواضحة قالوا له: ( ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا ) أي:رد هذا وجئنا بغيره من نمط آخر، أو بَدّله إلى وضع آخر، قال الله لنبيه، صلوات الله وسلامه عليه، ( قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي ) أي:ليس هذا إلي، إنما أنا عبد مأمور، ورسول مبلغ عن الله، ( إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ )

ثم قال محتجا عليهم في صحة ما جاءهم به: ( قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ ) أي:هذا إنما جئتكم به عن إذن الله لي في ذلك ومشيئته وإرادته، والدليل على أني لست أتقوله من عندي ولا افتريته أنكم عاجزون عن معارضته، وأنكم تعلمون صدقي وأمانتي منذ نشأت بينكم إلى حين بعثني الله عز وجل، لا تنتقدون علي شيئا تَغمصوني به؛ ولهذا قال: ( فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) أي:أفليس لكم عقول تعرفون بها الحق من الباطل؛ ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان ومن معه، فيما سأله من صفة النبي صلى الله عليه وسلم، قال:هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان:فقلت:لا - وقد كان أبو سفيان إذ ذاك رأس الكفرة وزعيم المشركين، ومع هذا اعترف بالحق:

وَالفَضْلُ ما شَهدَتْ به الأعداءُ

فقال له هرقل:فقد أعرف أنه لم يكن ليدَعَ الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله. !

وقال جعفر بن أبي طالب للنجاشي ملك الحبشة:بعث الله فينا رسولا نعرف نسبه وصدقه وأمانته، وقد كانت مدة مقامه، عليه السلام، بين أظهرنا قبل النبوة أربعين سنة. وعن سعيد بن المسيب:ثلاثا وأربعين سنة. والصحيح المشهور الأول.

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ( 17 )

يقول تعالى:لا أحد أظلم ولا أعتى ولا أشد إجراما ( مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ) وتَقَوّل على الله، وزعم أن الله أرسله، ولم يكن كذلك، فليس أحد أكبر جرمًا ولا أعظم ظُلما من هذا، ومثل هذا لا يخفى أمره على الأغبياء، فكيف يشتبه حال هذا بالأنبياء! فإن من قال هذه المقالة صادقا أو كاذبا، فلا بد أن الله يَنصب عليه من الأدلة على برِّه أو فُجُوره ما وأظهر من الشمس، فإن الفرق بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين مسيلمة الكذاب [ لعنه الله ] لمن شاهدهما أظهر من الفرق بين وقت الضحى ووقت نصف الليل في حنْدس الظلماء، فَمِنْ سيما كل منهما وكلامه وفعاله يَستدّل من له بصيرة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وكذب مسيلمة الكذاب، وسَجَاح، والأسود العَنْسي.

قال عبد الله بن سلام:لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انْجَفَل الناس، فكنت فيمن انجفل، فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه رجل كذاب، فكان أول ما سمعته يقول: « يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، [ وصلوا الأرحام ] وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلون الجنة بسلام » .

ولما قَدم ضمام بن ثعلبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه بني سعد بن بكر قال لرسول الله فيما قال له من رفع هذه السماء؟ قال: « الله » . قال:ومن نصب هذه الجبال؟ قال: « الله » . قال:ومن سطح هذه الأرض؟ قال: « الله » . قال:فبالذي رفع هذه السماء، ونصب هذه الجبال، وسَطَح هذه الأرض:الله أرسلك إلى الناس كلهم؟ قال: « اللهم نعم » ثم سأله عن الصلاة، والزكاة، والحج، والصيام، ويحلف عند كل واحدة هذه اليمين، ويحلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له:صدقت، والذي بعثك بالحق لا أزيد على ذلك ولا أنقص.

فاكتفى هذا الرجل بمجرد هذا، وقد أيقن بصدقه، صلوات الله وسلامه عليه، بما رأى وشاهد من الدلائل الدالة عليه، كما قال حسان بن ثابت:

لَــو لــم تَكُــن فيه آياتٌ مُبَيّنة كـانت بَديهَتُـــه تَأتيكَ بالخَبَرِ

وأما مسيلمة فمن شاهده من ذَوي البصائر، علم أمره لا محالة، بأقواله الركيكة التي ليست بفصيحة، وأفعاله غير الحسنة بل القبيحة، وقرآنه الذي يخلد به في النار يوم الحسرة والفضيحة، وكم من فرق بين قوله تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [ البقرة:255 ] . وبين عُلاك مسيلمة قبحه الله ولعنه: « يا ضفدع بنت الضفدعين، نقي كما تنقين لا الماء تكدرين، ولا الشارب تمنعين » . وقوله - قُبّح ولعن - : « لقد أنعم الله على الحبلى، إذ أخرج منها نَسَمة تسعى، من بين صِفَاق وحَشَى » . وقوله - خَدّره الله في نار جهنم، وقد فعل - : « الفيل وما أدراك ما الفيل؟ له زُلقُومٌ طويل » وقوله - أبعده الله من رحمته: « والعاجنات عجنا، والخابزات خبزا، واللاقمات لقما، إهالة وسمنا، إن قريشا قوم يعتدون » إلى غير ذلك من الهذيانات والخرافات التي يأنف الصبيان أن يتلفظوا بها، إلا على وجه السخرية والاستهزاء؛ ولهذا أرغم الله أنفه، وشرب يوم « حديقة الموت » حتفه. ومَزّق شمله. ولعنه صحبُه وأهله. وقدموا على الصديق تائبين، وجاءوا في دين الله راغبين، فسألهم الصديق خليفة الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، ورضي [ الله ] عنه - أن يقرءوا عليه شيئا من قرآن مسيلمة لعنه الله، فسألوه أن يعفيهم من ذلك، فأبى عليهم إلا أن يقرءوا شيئا منه ليسمعه من لم يسمعه من الناس، فيعرفوا فضل ما هم عليه من الهدى والعلم. فقرءوا عليه من هذا الذي ذكرناه وأشباهه، فلما فرغوا قال لهم الصديق، رضي الله عنه:ويحكم! أين كان يُذهب بعقولكم؟ والله إن هذا لم يخرج من إلٍّ.

وذكروا أن وفد عمرو بن العاص على مسيلمة، وكان صديقا له في الجاهلية، وكان عمرو لم يسلم بعدُ، فقال له مسيلمة:ويحك يا عمرو، ماذا أنـزل على صاحبكم - يعني:رسول الله صلى الله عليه وسلم - في هذه المدة؟ فقال:لقد سمعت أصحابه يقرءون سورة عظيمة قصيرة فقال:وما هي؟ فقال: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [ سورة العصر ] ، ففكر مسيلمة ساعة، ثم قال:وقد أنـزل عليّ مثله. فقال:وما هو؟ فقال: « يا وَبْرُ إنما أنت أذنان وصدر، وسائرك حَقْرٌ نَقْر، كيف ترى يا عمرو؟ » فقال له عمرو: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك لتكذب « ، فإذا كان هذا من مشرك في حال شركه، لم يشتبه عليه حال محمد صلى الله عليه وسلم وصدقه، وحال مسيلمة - لعنه الله - وكذبه، فكيف بأولي البصائر والنهى، وأصحاب العقول السليمة المستقيمة والحجى! ولهذا قال الله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ [ الأنعام:93 ] ، وقال في هذه الآية الكريمة: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [ الأنعام:21 ] ، وكذلك من كذّب بالحق الذي جاءت به الرسل، وقامت عليه الحجج، لا أحد أظلم منه كما جاء في الحديث: » أعتى الناس على الله رجلٌ قتل نبيا، أو قتله نبي « . »

وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 18 ) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( 19 )

ينكر تعالى على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره، ظانين أن تلك الآلهة تنفعهم شفاعتُها عند الله، فأخبر تعالى أنها لا تنفع ولا تضر ولا تملك شيئا، ولا يقع شيء مما يزعمون فيها، ولا يكون هذا أبدا؛ ولهذا قال تعالى: ( قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ ) .

وقال ابن جرير:معناه أتخبرون الله بما لا يكون في السماوات ولا في الأرض؟ ثم نـزه نفسه عن شركهم وكفرهم، فقال: ( سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

ثم أخبر تعالى أن هذا الشرك حادث في الناس، كائن بعد أن لم يكن، وأن الناس كلهم كانوا على دين واحد، وهو الإسلام؛ قال ابن عباس:كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام، ثم وقع الاختلاف بين الناس، وعُبدت الأصنام والأنداد والأوثان، فبعث الله الرسل بآياته وبيناته وحُجَجه البالغة وبراهينه الدامغة، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [ الأنفال:42 ] .

وقوله: ( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) أي:لولا ما تقدم من الله تعالى أنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه؛ وأنه قد أجل الخلق إلى أجل معدود لقضى بينهم فيما فيه اختلفوا، فأسعد المؤمنين، وأعنَتَ الكافرين.

وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ( 20 )

أي:ويقول هؤلاء الكفرة [ الملحدون ] المكذبون المعاندون: « لولا أنـزل على محمد آية من ربه » ، يعنون كما أعطى الله ثمود الناقة، أو أن يحول لهم الصفا ذهبا، أو يزيح عنهم جبال مكة ويجعل مكانها بساتين وأنهارا، ونحو ذلك مما الله عليه قادر ولكنه حكيم في أفعاله وأقواله، كما قال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا [ الفرقان:10 ، 11 ] وقال تعالى: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا [ الإسراء:59 ] ، يقول تعالى:إن سنتي في خلقي أني إذا آتيتهم ما سألوا، فإن آمنوا وإلا عاجلتهم بالعقوبة. ولهذا لما خيَّر رسول الله، عليه الصلاة والسلام، بين أن يُعطى ما سألوا، فإن أجابوا وإلا عُوجلوا، وبين أن يتركهم ويُنْظرهم، اختار إنظارهم، كما حلم عنهم غير مرة، صلوات الله عليه؛ ولهذا قال تعالى إرشادا لنبيه إلى الجواب عما سألوا: ( فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ ) أي:الأمر كله لله، وهو يعلم العواقب في الأمور، ( فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ) أي:إن كنتم لا تؤمنون حتى تشاهدوا ما سألتم فانتظروا حكم الله فيَّ وفيكم. هذا مع أنهم قد شاهدوا من معجزاته، عليه السلام أعظم مما سألوا حين أشار بحضرتهم إلى القمر ليلة إبداره، فانشق باثنتين فرقة من وراء الجبل، وفرقة من دونه. وهذا أعظم من سائر الآيات الأرضية مما سألوا وما لم يسألوا، ولو علم الله منهم أنهم سألوا ذلك استرشادا وتثبّتا لأجابهم، ولكن علم أنهم إنما يسألون عنادا وتعنتا، فتركهم فيما رابهم، وعلم أنهم لا يؤمن منهم أحد، كما قال تعالى:إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [ يونس:96 ، 97 ] ، وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [ الأنعام:111 ] ، ولما فيهم من المكابرة، كما قال تعالى:وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [ الحجر:14 ، 15 ] ، وقال تعالى: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ [ الطور:44 ] ، وقال تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ [ الأنعام:7 ] ، فمثل هؤلاء أقل من أن يجابوا إلى ما سألوه؛ لأنه لا فائدة في جواب هؤلاء؛ لأنه دائر على تعنتهم وعنادهم، لكثرة فجورهم وفسادهم؛ ولهذا قال: ( فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ )

 

وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ( 21 ) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ( 22 ) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 23 )

يخبر تعالى أنه إذا أذاق الناس رحمة من بعد ضراء مستهم، كالرخاء بعد الشدة، والخصب بعد الجدب، والمطر بعد القحط ونحو ذلك ( إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا ) .

قال مجاهد:استهزاء وتكذيب. كما قال: وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ [ يونس:12 ] ، وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم الصبح على أثر سماء - مطر - أصابهم من الليل ثم قال: « هل تدرون ماذا قال ربكم الليلة؟ » قالوا الله ورسوله أعلم. قال: « قال:أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال:مُطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال:مطرنا بنوء كذا وكذا، فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب » .

وقوله: ( قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا ) أي:أشد استدراجا وإمهالا حتى يظن الظان من المجرمين أنه ليس بمعذب، وإنما هو في مهلة، ثم يؤخذ على غرة منه، والكاتبون الكرام يكتبون عليه جميع ما يفعله، ويحصونه عليه، ثم يعرضون على عالم الغيب والشهادة، فيجازيه على الحقير والجليل والنقير والقِطْمير.

ثم أخبر تعالى أنه: ( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) أي:يحفظكم ويكلؤكم بحراسته ( حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا ) أي:بسرعة سيرهم رافقين، فبينما هم كذلك إذ ( جَاءَتْهَا ) أي:تلك السفن ( رِيحٌ عَاصِفٌ ) أي:شديدة ( وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ) أي:اغتلم البحر عليهم ( وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ) أي:هلكوا ( دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) أي:لا يدعون معه صنما ولا وثنا، بل يفردونه بالدعاء والابتهال، كما قال تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا [ الإسراء:67 ] ، وقال هاهنا: ( دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ ) أي:هذه الحال ( لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) أي:لا نشرك بك أحدا، ولنفردنك بالعبادة هناك كما أفردناك بالدعاء هاهنا ، قال الله تعالى: ( فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ ) أي:من تلك الورطة ( إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) أي:كأن لم يكن من ذاك شيء كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ

ثم قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ) أي:إنما يذوق وبال هذا البغي أنتم أنفسكم ولا تضرون به أحدا غيركم، كما جاء في الحديث: « ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا، مع ما يَدخر الله لصاحبه في الآخرة، من البغي وقطيعة الرحم » .

وقوله: ( مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) أي:إنما لكم متاع في الحياة الدنيا الدنيئة الحقيرة ( ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ ) أي:مصيركم ومآلكم ( فننبئكم ) أي:فنخبركم بجميع أعمالكم، ونوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.

إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( 24 ) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 25 )

ضرب [ تبارك و ] تعالى مثلا لزهرة الحياة الدنيا وزينتها وسرعة انقضائها وزوالها، بالنبات الذي أخرجه الله من الأرض بما أنـزل من السماء من الماء، مما يأكل الناس من زرع وثمار، على اختلاف أنواعها وأصنافها، وما تأكل الأنعام من أب وقَضْب وغير ذلك، ( حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا ) أي:زينتها الفانية، ( وَازَّيَّنَتْ ) أي:حَسُنت بما خرج من رُباها من زهور نَضِرة مختلفة الأشكال والألوان، ( وَظَنَّ أَهْلُهَا ) الذين زرعوها وغرسوها ( أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا ) أي:على جَذاذها وحصادها فبيناهم كذلك إذ جاءتها صاعقة، أو ريح بادرة، فأيبست أوراقها، وأتلفت ثمارها؛ ولهذا قال تعالى: ( أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا ) أي:يبسا بعد [ تلك ] الخضرة والنضارة، ( كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ ) أي:كأنها ما كانت حسناء قبل ذلك.

وقال قتادة: ( كَأَنْ لَمْ تَغْنَ ) كأن لم تنعم.

وهكذا الأمور بعد زوالها كأنها لم تكن؛ ولهذا جاء في الحديث يؤتى بأنعم أهل الدنيا، فيُغْمَس في النار غَمْسَة ثم يقال له:هل رأيت خيرًا قط؟ [ هل مر بك نعيم قط؟ ] فيقول:لا. ويؤتى بأشد الناس عذابًا في الدنيا فيغمس في النعيم غمسة، ثم يقال له:هل رأيت بؤسا قط؟ فيقول:لا « »

وقال تعالى إخبارًا عن المهلكين: فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا [ هود:94 ، 95 ] .

ثم قال تعالى: ( كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ ) أي:نبين الحُجج والأدلة، ( لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) فيعتبرون بهذا المثل في زوال الدنيا من أهلها سريعًا مع اغترارهم بها، وتمكنهم بمواعيدها وتَفَلّتها منهم، فإن من طبعها الهرب ممن طلبها، والطلب لمن هرب منها، وقد ضرب الله مثل الحياة الدنيا بنبات الأرض، في غير ما آية من كتابه العزيز، فقال في سورة الكهف: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا [ الكهف:45 ] ، وكذا في سورة الزمر والحديد يضرب بذلك مثل الحياة الدنيا كماء.

وقال ابن جرير:حدثني الحارث حدثنا عبد العزيز، حدثنا ابن عُيَيْنَةَ، عن عمرو بن دينار، عن عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال:سمعت مروان - يعني:ابن الحكم - يقرأ على المنبر: « وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها » ، قال:قد قرأتها وليست في المصحف فقال عباس بن عبد الله بن عباس:هكذا يقرؤها ابن عباس. فأرسلوا إلى ابن عباس فقال:هكذا أقرأني أبيّ بن كعب.

وهذه قراءة غريبة، وكأنها زيادة للتفسير.

وقوله: ( وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ ) الآية:لما ذكر تعالى الدنيا وسرعة [ عطبها و ] زوالها، رغَّب في الجنة ودعا إليها، وسماها دار السلام أي:من الآفات، والنقائص والنكبات، فقال: ( وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .

قال أيوب عن أبي قِلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « قيل لي:لتنَمْ عينُك، وليعقلْ قلبك، ولتسمع أذنك فنامت عيني، وعقل قلبي، وسمعت أذني. ثم قيل:سيّدٌ بَنَى دارًا، ثم صنع مأدبة، وأرسل داعيًا، فمن أجاب الداعي دخل الدار، وأكل من المأدبة، ورضي عنه السيد، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار، ولم يأكل من المأدبة، ولم يرض عنه السيد فالله السيد، والدار الإسلام، والمأدبة الجنة، والداعي محمد صلى الله عليه وسلم. »

وهذا حديث مرسل، وقد جاء متصلا من حديث الليث، عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال، عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنه، قال:خرج علينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: « إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي، وميكائيل عند رجلي، يقول أحدهما لصاحبه:اضرب له مثلا. فقال:اسمع سَمعت أذنك، واعقل عَقَل قلبك، إنما مَثَلُك ومثل أمَّتك كمثل ملك اتخذ دارا، ثم بنى فيها بيتًا، ثم جعل فيها مأدبة، ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول، ومنهم من تركه، فالله الملك، والدار الإسلام، والبيت الجنة، وأنت يا محمد الرسُول، فمن أجابك دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنة، ومن دخل الجنة أكل منها » رواه ابن جرير.

وقال قتادة:حدثني خُلَيْد العَصَري، عن أبي الدرداء قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما من يوم طلعت فيه شمسه إلا وبجنَبَتَيْها ملكان يناديان يسمعهما خلق الله كلهم إلا الثقلين:يا أيها الناس، هلموا إلى ربكم، إن ما قلَّ وكَفَى، خير مما كثر وألهى » . قال:وأنـزل ذلك في القرآن، في قوله: ( وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير.

 

لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 26 )

يخبر تعالى أن لمن أحسن العمل في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح أبدله الحسنى في الدار الآخرة، كما قال تعالى: هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ [ الرحمن:60 ] .

وقوله: ( وَزِيَادَة ) هي تضعيف ثواب الأعمال بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وزيادة على ذلك [ أيضا ] ويشمل ما يعطيهم الله في الجنان من القُصُور والحُور والرضا عنهم، وما أخفاه لهم من قرة أعين، وأفضل من ذلك وأعلاه النظرُ إلى وجهه الكريم، فإنه زيادة أعظم من جميع ما أعطوه، لا يستحقونها بعملهم، بل بفضله ورحمته وقد روي تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله الكريم، عن أبي بكر الصديق، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس [ قال البغوي وأبو موسى وعبادة بن الصامت ] وسعيد بن المسيب، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الرحمن بن سابط، ومجاهد، وعكرمة، وعامر بن سعد، وعطاء، والضحاك، والحسن، وقتادة، والسدي، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم من السلف والخلف.

وقد وردت في ذلك أحاديثُ كثيرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد:

حدثنا عفان، أخبرنا حماد بن سلمة، عن ثابت البُناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ) وقال: « إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى مناد:يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن يُنْجِزَكُمُوه. فيقولون:وما هو؟ ألم يُثقِّل موازيننا، ويبيض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويزحزحنا من النار؟ » . قال: « فيكشف لهم الحجاب، فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه، ولا أقر لأعينهم » .

وهكذا رواه مسلم وجماعة من الأئمة، من حديث حماد بن سلمة، به.

وقال ابن جرير:أخبرنا يونس، أخبرنا ابن وهب:أخبرنا شبيب، عن أبان عن أبي تَمِيمَة الهُجَيْمي؛ أنه سمع أبا موسى الأشعري يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله يبعث يوم القيامة مناديا ينادي:يا أهل الجنة - بصَوْت يُسْمعُ أوَّلهم وآخرهم - :إن الله وعدكم الحسنى وزيادة، الحسنى:الجنة. وزيادة:النظر إلى وجه الرحمن عز وجل » .

ورواه أيضا ابنُ أبي حاتم، من حديث أبي بكر الهُذلي عن أبي تميمة الهجيمي، به.

وقال ابن جرير أيضًا:حدثنا ابن حميد، حدثنا إبراهيم بن المختار عن ابن جُرَيْج، عن عطاء، عن كعب بن عُجْرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ) قال:النظر إلى وجه الرحمن عز وجل.

وقال أيضا:حدثنا ابن عبد الرحيم حدثنا عمرو بن أبي سلمة، سمعت زهيرًا عمن سمع أبا العالية، حدثنا أبيّ بن كعب:أنه سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل: ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ) قال: « الحسنى:الجنة، والزيادة:النظر إلى وجه الله عز وجل » .

ورواه ابن أبي حاتم أيضا من حديث زهير، به.

وقوله تعالى: ( وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ ) أي:قتام وسواد في عَرَصات المحشر، كما يعتري وجوه الكفرة الفجرة من القُتْرة والغُبْرة، ( وَلا ذِلَّةٌ ) أي:هوان وصغار، أي:لا يحصل لهم إهانة في الباطن، ولا في الظاهر، بل هم كما قال تعالى في حقهم: فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا أي:نضرة في وجوههم، وسرورًا في قلوبهم، جعلنا الله منهم بفضله ورحمته، آمين.

وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 27 )

لما أخبر تعالى عن حال السعداء الذين يُضاعف لهم الحسنات، ويزدادون على ذلك، عطف بذكر حال الأشقياء، فذكر عدله تعالى فيهم، وأنه يجازيهم على السيئة بمثلها، لا يزيدهم على ذلك، ( وَتَرْهَقُهُم ) أي:تعتريهم وتعلوهم ذلة من معاصيهم وخوفهم منها، كما قال تعالى: وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [ الشورى:45 ] ، وقال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ [ إبراهيم:42 - 44 ] ، وقوله ( مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ) أي:من مانع ولا واق يقيهم العذاب، كما قال تعالى: يَقُولُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ [ القيامة:10 - 12 ] .

وقوله: ( كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا ) إخبار عن سواد وجوههم في الدار الآخرة، كما قال تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [ آل عمران:106 ، 107 ] ، وكما قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [ عبس:38 - 42 ] . الآية.

وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ( 28 ) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ( 29 ) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 30 )

يقول تعالى: ( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ ) أي:أهل الأرض كلهم، من إنس وجن وبر وفاجر، كما قال: وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [ الكهف:47 ] .

( ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ ) أي:الزموا أنتم وهم مكانًا معينًا، امتازوا فيه عن مقام المؤمنين، كما قال تعالى: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [ يس:59 ] ، وقال وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [ الروم:14 ] ، وفي الآية الأخرى: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [ الروم:43 ] أي:يصيرون صِدعين، وهذا يكون إذا جاء الرب تعالى لفصل القضاء؛ ولهذا قيل:ذلك يستشفع المؤمنون إلى الله تعالى أن يأتي لفصل القضاء ويريحنا من مقامنا هذا، وفي الحديث الآخر: « نحن يوم القيامة على كَوْم فوق الناس . »

وقال الله تعالى في هذه الآية الكريمة إخبارًا عما يأمر به المشركين وأوثانهم يوم القيامة: ( مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ) أنكروا عبادتهم، وتبرءوا منهم، كما قال تعالى: [ كَلا ] سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا الآية. [ مريم:82 ] . وقال: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [ البقرة:166 ] ، وقال وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [ الأحقاف:5 ، 6 ] .

وقال في هذه الآية إخبارًا عن قول الشركاء فيما راجعوا فيه عابديهم عند ادعائهم عبادتهم: ( فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ) أي:ما كنا نشعر بها ولا نعلم، وإنما أنتم كنتم تعبدوننا من حيث لا ندري بكم، والله شهيد بيننا وبينكم أنا ما دعوناكم إلى عبادتنا، ولا أمرناكم بها، ولا رضينا منكم بذلك.

وفي هذا تبكيت عظيم للمشركين الذين عبدوا مع الله غيره، ممن لا يسمع ولا يبصر، ولا يغني عنهم شيئًا، ولم يأمرهم بذلك ولا رضي به ولا أراده، بل تبرأ منهم في وقت أحوج ما يكونون إليه، وقد تركوا عبادة الحي القيوم، السميع البصير، القادر على كل شيء، العليم بكل شيء وقد أرسل رسله وأنـزل كتبه، آمرا بعبادته وحده لا شريك له، ناهيًا عن عبادة ما سواه، كما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [ النحل:36 ] ، وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ [ الأنبياء:25 ] ، وقال: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [ الزخرف:45 ] .

والمشركون أنواع وأقسام كثيرون، قد ذكرهم الله في كتابه، وبَيّن أحوالهم وأقوالهم، ورَد عليهم فيما هم فيه أتم رد.

وقوله: ( هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ ) أي:في موقف الحساب يوم القيامة تختبر كل نفس وتعلم ما أسلفت من [ عملها من ] خير وشر، كما قال تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [ الطارق:9 ] ، وقال تعالى: يُنَبَّأُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [ القيامة:13 ] ، وقال تعالى: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [ الإسراء:13 ، 14 ] .

وقد قرأ بعضهم: ( هُنَالِكَ تَتْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ ) وفسَّرها بعضهم بالقراءة، وفسّرها بعضهم بمعنى تتبع ما قدمته من خير وشر، وفسّرها بعضهم بحديث: « تتبع كل أمة ما كانت تعبد، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت » الحديث.

وقوله: ( وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ ) أي:ورجعت الأمور كلها إلى الله الحكم العدل، ففصلها، وأدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار.

( وَضَلَّ عَنْهُمْ ) أي:ذهب عن المشركين ( مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) أي:ما كانوا يعبدون من دون الله افتراء عليه.

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ( 31 ) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ( 32 ) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 33 )

يحتج تعالى على المشركين باعترافهم بوحدانيته وربوبيته على وحدانية الإله فقال: ( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ ) أي:من ذا الذي ينـزل من السماء ماء المطر، فيشق الأرض شقًا بقدرته ومشيئته، فيخرج منها حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [ عبس:27 - 31 ] ، أإله مع الله؟ فسيقولون:الله، أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ [ الملك:21 ] ؟، وكذلك قوله: ( أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ ) [ يونس:31 ] ؟ ؟ أي:الذي وهبكم هذه القوة السامعة، والقوة الباصرة، ولو شاء لذهب بها ولسلبكم إياها، كما قال تعالى: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ [ الملك:23 ] ، وقال قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ [ الأنعام:46 ] .

وقوله: ( وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ) أي:بقدرته العظيمة، ومنته العميمة، وقد تقدم ذكر الخلاف في ذلك، وأن الآية عامة في ذلك كله.

وقوله: ( وَمَنْ يُدَبِّرُ الأمْرَ ) أي:من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه، وهو المتصرف الحاكم الذي لا معقب لحكمه، ولا يُسأل عما يفعل وهم يُسْألُون، يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [ الرحمن:29 ] ، فالملك كله العلوي والسفلي، وما فيهما من ملائكة وإنس وجان، فقيرون إليه، عبيد له، خاضعون لديه، ( فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ) أي:هم يعلمون ذلك ويعترفون به، ( فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ) أي:أفلا تخافون منه أن تعبدوا معه غيره بآرائكم وجهلكم؟.

وقوله: ( فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) أي:فهذا الذي اعترفتم بأنه فاعل ذلك كله هو ربكم وإلهكم الحق الذي يستحق أن يفرد بالعبادة، ( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ ) أي:فكل معبود سواه باطل، لا إله إلا هو، واحد لا شريك له.

( فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) أي:فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة ما سواه، وأنتم تعلمون أنه الرب الذي خلق كل شيء، والمتصرف في كل شيء؟

وقوله: ( كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) أي:كما كفر هؤلاء المشركون واستمروا على شركهم وعبادتهم مع الله غيره، مع أنهم يعترفون بأنه الخالق الرازق المتصرف في الملك وحده، الذي بعث رسله بتوحيده؛ فلهذا حقت عليهم كلمة الله أنهم أشقياء من ساكني النار، كقوله: قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [ الزمر:71 ] .

 

قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ( 34 ) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ( 35 ) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ( 36 )

وهذا إبطال لدعواهم فيما أشركوا بالله غيره، وعبدوا من الأصنام والأنداد، ( قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) أي:من بدأ خلق هذه السموات والأرض ثم ينشئ ما فيهما من الخلائق، ويفرق أجرام السموات والأرض ويبدلهما بفناء ما فيهما، ثم يعيد الخلق خلقًا جديدًا؟ ( قُلِ اللَّهُ ) هو الذي يفعل هذا ويستقل به، وحده لا شريك له، ( فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) أي:فكيف تصرفون عن طريق الرشد إلى الباطل؟!

( قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ) أي:أنتم تعلمون أن شركاءكم لا تقدر على هداية ضال، وإنما يهدي الحيارى والضلال، ويقلب القلوب من الغي إلى الرشد الله الذي لا إله إلا هو.

( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى ) أي:أَفَيُتَّبَع [ العبد الذي يهدي إلى الحق ويُبَصّر بعد العمى، أم الذي لا يهدي إلى شيء إلا ] أن يهدى، لعماه وبكمه؟ كما قال تعالى إخبارًا عن إبراهيم أنه قال: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [ مريم:42 ] ، وقال لقومه: أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [ الصافات:95 ، 96 ] إلى غير ذلك من الآيات.

وقوله: ( فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) أي:فما بالكم يُذْهَبُ بعقولكم، كيف سويتم بين الله وبين خَلقه، وعدلتم هذا بهذا، وعبدتم هذا وهذا؟ وهلا أفردتم الرب جل جلاله المالك الحاكم الهادي من الضلالة بالعبادة وحده، وأخلصتم إليه الدعوة والإنابة.

ثم بين تعالى أنهم لا يتبعون في دينهم هذا دليلا ولا برهانًا، وإنما هو ظن منهم، أي:توهم وتخيل، وذلك لا يغني عنهم شيئا، ( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ) تهديد لهم، ووعيد شديد؛ لأنه تعالى أخبر أنه سيجازيهم على ذلك أتم الجزاء.

وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 37 ) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 38 ) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ( 39 ) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ( 40 )

هذا بيان لإعجاز القرآن، وأنه لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله، ولا بعشر سور، ولا بسورة من مثله، لأنه بفصاحته وبلاغته ووَجازته وحَلاوته، واشتماله على المعاني العزيزة [ للعزيرة ] النافعة في الدنيا والآخرة، لا يكون إلا من عند الله الذي لا يشبهه شيء في ذاته ولا صفاته، ولا في أفعاله وأقواله، فكلامه لا يشبه كلام المخلوقين؛ ولهذا قال تعالى: ( وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ ) أي:مثل هذا القرآن لا يكون إلا من عند الله، ولا يشبه هذا كلام البشر، ( وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ) أي:من الكتب المتقدمة، ومهيمنا عليها، ومبينا لما وقع فيها من التحريف والتأويل والتبديل.

وقوله: ( وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) أي:وبيان الأحكام والحلال والحرام، بيانًا شافيًا كافيًا حقًا لا مرية فيه من الله رب العالمين، كما تقدم في حديث الحارث الأعور، عن علي بن أبي طالب: « فيه خَبَرُ ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وفصل ما بينكم » ، أي:خَبَر عما سلف وعما سيأتي، وحكم فيما بين الناس بالشرع الذي يحبه الله ويرضاه.

وقوله: ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) أي:إن ادعيتم وافتريتم وشككتم في أن هذا من عند الله، وقلتم كذبًا ومَيْنا: « إن هذا من عند محمد » ، فمحمد بشر مثلكم، وقد جاء فيما زعمتم بهذا القرآن، فأتوا أنتم بسورة مثله، أي:من جنس القرآن، واستعينوا على ذلك بكل من قَدرتم عليه من إنس وجان.

وهذا هو المقام الثالث في التحدي، فإنه تعالى تحداهم ودعاهم، إن كانوا صادقين في دعواهم، أنه من عند محمد، فلتعارضوه بنظير ما جاء به وحده واستعينوا بمن شئتم وأخبر أنهم لا يقدرون على ذلك، ولا سبيل لهم إليه، فقال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [ الإسراء:88 ] ، ثم تقاصر معهم إلى عشر سور منه، فقال في أول سورة هود: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [ هود:13 ] ، ثم تنازل إلى سورة، فقال في هذه السورة: ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) وكذا في سورة البقرة - وهي مدنية - تحداهم بسورة منه، وأخبر أنهم لا يستطيعون ذلك أبدا، فقال: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الآية: [ البقرة:24 ] .

هذا وقد كانت الفصاحة من سجاياهم، وأشعارهم ومعلقاتهم إليها المنتهى في هذا الباب، ولكن جاءهم من الله ما لا قِبَلَ لأحد به، ولهذا آمن من آمن منهم بما عرف من بلاغة هذا الكلام وحلاوته، وجزالته وطلاوته، وإفادته وبراعته، فكانوا أعلم الناس به، وأفهمهم له، وأتبعهم له وأشدهم له انقيادا، كما عرف السحرة، لعلمهم بفنون السحر، أن هذا الذي فعله موسى، عليه السلام، لا يصدر إلا عن مُؤيَّد مُسَدد مرسل من الله، وأن هذا لا يستطاع لبشر إلا بإذن الله. وكذلك عيسى، عليه السلام، بُعِث في زمان علماء الطب ومعالجة المرضى، فكان يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، ومثل هذا لا مدخل للعلاج والدواء فيه، فعرف من عرف منهم أنه عبد الله ورسوله؛ ولهذا جاء في الصحيح، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا » .

وقوله: ( بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ) يقول:بل كذب هؤلاء بالقرآن، ولم يفهموه ولا عرفوه، ( وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ) أي:ولم يُحصّلوا ما فيه من الهدى ودين الحق إلى حين تكذيبهم به جهلا وسفهًا ( كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) أي:من الأمم السالفة ( فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ) أي:فانظر كيف أهلكناهم بتكذيبهم رسلنا ظلمًا وعلوا، وكفرا وعنادًا وجهلا فاحذروا أيها المكذبون أن يصيبكم ما أصابهم.

وقوله: ( وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ) أي:ومن هؤلاء الذين بُعثتَ إليهم يا محمد من يؤمن بهذا القرآن، ويتبعك وينتفع بما أرسلت به، ( وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ ) بل يموت على ذلك ويبعث عليه، ( وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ) أي:وهو أعلم بمن يستحق الهداية فيهديه، ومن يستحق الضلالة فيضله، وهو العادل الذي لا يجور، بل يعطي كلا ما يستحقه، تبارك وتعالى وتقدس وتنـزه، لا إله إلا هو.

وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ( 41 ) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ ( 42 )

يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:وإن كذبك هؤلاء المشركون، فتبرأ منهم ومن عملهم، ( فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ ) كقوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [ سورة الكافرون ] . وقال إبراهيم الخليل وأتباعه لقومهم المشركين: إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [ الممتحنة:4 ] .

وقوله: ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ) أي:يسمعون كلامك الحسن، والقرآن العظيم، والأحاديث الصحيحة الفصيحة النافعة في القلوب والأبدان والأديان، وفي هذا كفاية عظيمة، ولكن ليس ذلك إليك ولا إليهم، فإنك لا تقدر على إسماع الأصم - وهو الأطرش - فكذلك لا تقدر على هداية هؤلاء، إلا أن يشاء الله.

 

وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ ( 43 ) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( 44 )

( وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ ) أي:ينظرون إليك وإلى ما أعطاك الله من التؤدة، والسمت الحسن، والخلق العظيم، والدلالة الظاهرة، على نبوءتك لأولي البصائر والنهى، وهؤلاء ينظرون كما ينظر غيرهم، ولا يحصل لهم من الهداية شيء مما يحصل لغيرهم، بل المؤمنون ينظرون إليك بعين الوقار، والكافرون ينظرون إليك بعين الاحتقار، وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا * إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا [ الفرقان:41 ، 42 ] .

ثم أخبر تعالى أنه لا يظلم أحدا شيئًا، وإن كان قد هدى به من هدى [ من الغي ] وبصر به من العمى، وفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبًا غلفا، وأضل به عن الإيمان آخرين، فهو الحاكم المتصرف في ملكه بما يشاء، الذي لا يُسْأل عما يفعل وهم يسألون، لعلمه وحكمته وعدله؛ ولهذا قال تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) وفي الحديث عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عنه ربه عز وجل: « يا عبادي، إني حرّمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا - إلى أن قال في آخره:يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يَلُومَنَّ إلا نفسه » . رواه مسلم بطوله.

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ( 45 )

يقول تعالى مُذكِّرًا للناس قيام الساعة وحشرهم من أجداثهم إلى عَرَصات القيامة:كأنهم يوم يوافونها لم يلبثوا في الدنيا ( إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ ) كما قال تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا [ النازعات:46 ] ، وقال تعالى: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا [ طه:102 - 104 ] ، وقال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [ الروم:55 ، 56 ] .

وهذا كله دليل على استقصار الحياة الدنيا في الدار الآخرة كما قال: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [ المؤمنون:112 ، 114 ] .

وقوله: ( يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ) أي:يعرف الأبناء الآباء والقرابات بعضهم لبعض، كما كانوا في الدنيا، ولكن كل مشغول بنفسه فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [ المؤمنون:101 ] ، وقال تعالى: وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا * يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ * كَلا [ المعارج:10 ، 15 ] .

وقوله: ( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) كقوله تعالى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [ المرسلات:15 ] . لأنهم خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ألا ذلك هو الخسران المبين. فهذه هي الخسارة العظيمة، ولا خسارة أعظم من خَسارة من فُرّق بينه وبين أحبته يوم الحسرة والندامة.

وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ( 46 ) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ( 47 )

يقول تعالى مخاطبا لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ ) أي:ننتقم منهم في حياتك لتقرّ عينُك منهم، ( أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ) أي:مصيرهم ومتقَلَبهم، والله شهيد على أفعالهم بعدك.

وقد قال الطبراني:حدثنا عبد الله بن أحمد، حدثنا عقبة بن مكرم، حدثنا أبو بكر الحنفي، حدثنا داود بن الجارود، عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « عُرضت عليّ أمتي البارحة لدى هذه الحجرة، أولها وآخرها. فقال رجل:يا رسول الله، عرض عليك من خُلِق، فكيف من لم يخلق؟ فقال: » صُوِّروا لي في الطين، حتى إني لأعْرَفُ بالإنسان منهم من أحدكم بصاحبه « . »

ورواه عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة، عن عقبة بن مكرم، عن يونس بن بُكَيْر، عن زياد بن المنذر، عن أبي الطفيل، عن حذيفة بن أسيد، به نحوه.

وقوله: ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ ) قال مجاهد:يعني يوم القيامة.

( قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) كما قال تعالى: وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [ الزمر:69 ] ، فكل أمة تعرض على الله بحضرة رسولها، وكتابُ أعمالها من خير وشر موضوعٌ شاهد عليهم، وحفظتهم من الملائكة شهودٌ أيضا أمة بعد أمة. وهذه الأمة الشريفة وإن كانت آخر الأمم في الخلق، إلا أنها أول الأمم يوم القيامة يفصل بينهم، ويقضى لهم، كما جاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، المقضى لهم قبل الخلائق » فأمته إنما حازت قَصَب السبق لشرف رسولها، صلوات الله وسلامه عليه [ دائمًا ] إلى يوم الدين.

وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 48 ) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ( 49 ) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ( 50 ) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ( 51 ) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ( 52 )

يقول تعالى مخبرًا عن كفر هؤلاء المشركين في استعجالهم العذَاب وسؤالهم عن وقته قبل التعين، مما لا فائدة فيه لهم كما قال تعالى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ [ الشورى:18 ] أي:كائنة لا محالة وواقعة، وإن لم يعلموا وقتها عينا، ولهذا أرشَدَ رسوله صلى الله عليه وسلم إلى جوابهم فقال: ( قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ ) أي:لا أقول إلا ما علَّمني، ولا أقدر على شيء مما استأثر به إلا أن يُطلعني عليه، فأنا عبده ورسوله إليكم، وقد أخبرتكم بمجيء الساعة وأنها كائنة، ولم يطلعني على وقتها، [ ولكن ] ( لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ) أي:لكل قرن مدَّة من العمر مقدَّرة فإذا انقضى أجلهم ( فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) كما قال تعالى: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا [ المنافقون:11 ] ، ثم أخبرهم أن عذاب الله سيأتيهم بغتة، فقال: ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا ) أي:ليلا أو نهارا، ( مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ * أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ ) يعني:أنهم إذا جاءهم العذاب قالوا: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [ السجدة:12 ] ، وقال تعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [ غافر:84 ، 85 ] .

( ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ ) أي:يوم القيامة يقال لهم هذا، تبكيتا وتقريعًا، كقوله: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [ الطور:13 - 16 ] .

وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ( 53 )

يقول تعالى:ويستخبرونك ( أَحَقٌّ هُوَ ) أي:المعاد والقيامة من الأجداث بعد صيرورة الأجسام ترابا. ( قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) أي:ليس صيرورتكم ترابا بمعجز الله عن إعادتكم كما بدأكم من العدم: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [ يس:82 ] .

وهذه الآية ليس لها نظير في القرآن إلا آيتان أخريان، يأمر الله تعالى رسوله أن يقسم به على من أنكر المعاد في سورة سبأ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [ سبأ:3 ] . وفي التغابن: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [ التغابن:7 ] .

 

وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ( 54 )

ثم أخبر تعالى أنه إذا قامت القيامة يودّ الكافر لو افتدى من عذاب الله بملء الأرض ذهبا، ( وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ) أي:بالحق، ( وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) .

أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 55 ) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 56 )

يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض، وأنَّ وعده حقّ كائن لا محالة، وأنه يحيي ويميت وإليه مرجعهم، وأنه القادر على ذلك، العليم بما تفرّق من الأجسام وتمزّق في سائر أقطار الأرض والبحار والقفار [ سبحانه وتعالى تقدست أسماؤه وجل ثناؤه ] .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ( 57 ) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ( 58 )

يقول تعالى ممتنا على خلقه بما أنـزل إليهم من القرآن العظيم على رسوله الكريم: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ) أي:زاجر عن الفواحش، ( وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ ) أي:من الشُبَه والشكوك، وهو إزالة ما فيها من رجس ودَنَس، ( وَهُدًى وَرَحْمَةٌ ) أي:محصلٌ لها الهداية والرحمة من الله تعالى. وإنما ذلك للمؤمنين به والمصدقين الموقنين بما فيه، كما قال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا [ الإسراء:82 ] ، وقال تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [ فصلت:44 ] .

وقوله تعالى: ( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) أي:بهذا الذي جاءهم من الله من الهدى ودين الحق فليفرحوا، فإنه أولى ما يفرحون به، ( هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) أي:من حطام الدنيا وما فيها من الزهرة الفانية الذاهبة لا محالة، كما قال ابن أبي حاتم، في تفسير هذه الآية: « وذُكِر عن بَقيَّة - يعني ابن الوليد - عن صفوان بن عمرو، سمعت أيفع بن عبد الكلاعي يقول:لما قَدم خراجُ العراق إلى عمر، رضي الله عنه، خرج عُمَرُ ومولى له فجعل عمر يعد الإبل، فإذا هي أكثر من ذلك، فجعل عمر يقول:الحمد لله تعالى، ويقول مولاه:هذا والله من فضل الله ورحمته. فقال عمر:كذبت. ليس هذا، هو الذي يقول الله تعالى: ( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) وهذا مما يجمعون. »

وقد أسنده الحافظ أبو القاسم الطبراني، فرواه عن أبي زُرْعَة الدمشقي، عن حَيوة بن شُرَيح، عن بقية، فذكره.

قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ( 59 ) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ ( 60 )

قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم:نـزلت إنكارًا على المشركين فيما كانوا يحرمون ويحلون من البحائر والسوائب والوصايا، كقوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا [ الأنعام:136 ] الآيات.

وقال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، سمعت أبا الأحوص - وهو عوف بن [ مالك بن ] نضلة - يحدث عن أبيه قال:أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قَشْف الهيئة، فقال: « هل لك مال؟ » قال:قلت:نعم. قال: « من أي المال؟ » قال:قلت:من كل المال، من الإبل والرقيق والخيل والغنم. فقال إذا آتاك مالا فَلْيُرَ عليك « . وقال: » هل تنتج إبل قومك صحاحا آذانُها، فتعمَد إلى موسى فتقطع آذانها، فتقول:هذه بحر وتشقها، أو تشق جلودها وتقول:هذه صُرُم، وتحرمها عليك وعلى أهلك؟ « قال:نعم. قال: » فإن ما آتاك الله لك حل، وساعد الله أشد من ساعدك، وموسى الله أحد من موساك « وذكر تمام الحديث. »

ثم رواه عن سفيان بن عيينة، عن أبي الزعراء عمرو بن عمرو، عن عمه أبي الأحوص وعن بَهْز بن أسد، عن حماد بن سلمة، عن عبد الملك بن عمير، عن أبي الأحوص، به وهذا حديث جيد قوي الإسناد.

وقد أنكر [ الله ] تعالى على من حَرّم ما أحل الله، أو أحل ما حرم بمجرد الآراء والأهواء، التي لا مستند لها ولا دليل عليها. ثم توعدهم على ذلك يوم القيامة، فقال: ( وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَة ) أي:ما ظنهم أن يُصنَع بهم يوم مرجعهم إلينا يوم القيامة.

وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ) قال ابن جرير:في تركه معاجلتهم بالعقوبة في الدنيا.

قلت:ويحتمل أن يكون المراد لذو فضل على الناس فيما أباح لهم مما خلقه من المنافع في الدنيا، ولم يحرم عليهم إلا ما هو ضار لهم في دنياهم أو دينهم.

( وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ ) بل يحرمون ما أنعم الله [ به ] عليهم، ويضيقون على أنفسهم، فيجعلون بعضا حلالا وبعضا حراما. وهذا قد وقع فيه المشركون فيما شرعوه لأنفسهم، وأهل الكتاب فيما ابتدعوه في دينهم. وقال ابن أبي حاتم في تفسير هذه الآية:حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن أبي الحواري، حدثنا رباح، حدثنا عبد الله بن سليمان، حدثنا موسى بن الصباح في قول الله عز وجل: ( إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ) قال:إذا كان يوم القيامة، يؤتى بأهل ولاية الله عز وجل، فيقومون بين يدي الله عز وجل ثلاثة أصناف قال:فيؤتى برجل من الصنف الأول فيقول:عبدي، لماذا عملت؟ فيقول:يا رب:خلقت الجنة وأشجارها وثمارها وأنهارها، وحورها ونعيمها، وما أعددت لأهل طاعتك فيها، فأسهرتُ ليلي وأظمأتُ نهاري شوقا إليها. قال:فيقول الله تعالى:عبدي، إنما عملت للجنة، هذه الجنة فادخلها، ومن فضلي عليك أن أعتقتك من النار، [ ومن فضلي عليك أن أدخلك جنتي ] قال:فيدخل هو ومن معه الجنة.

قال:ثم يؤتى برجل من الصنف الثاني، قال:فيقول:عبدي، لماذا عملت؟ فيقول:يا رب، خلقت نارا وخلقت أغلالها وسعيرها وسمومها ويحمُومها، وما أعددت لأعدائك وأهل معصيتك فيها فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري خوفا منها. فيقول:عبدي، إنما عملت ذلك خوفا من ناري، فإني قد أعتقتك من النار، ومن فضلي عليك أن أدخلك جنتي. فيدخل هو ومن معه الجنة.

ثم يؤتى برجل من الصنف الثالث، فيقول:عبدي، لماذا عملت؟ فيقول:رب حبًا لك، وشوقا إليك، وعزتك لقد أسهرت ليلي وأظمأت نهاري شوقا إليك وحبا لك، فيقول تبارك وتعالى:عبدي، إنما عملت حبا لي وشوقا إلي، فيتجلى له الرب جل جلاله، ويقول:ها أنا ذا، انظر إلي ثم يقول:من فضلي عليك أن أعتقك من النار، وأبيحك جنتي، وأزيرَك ملائكتي، وأسلم عليك بنفسي. فيدخل هو ومن معه الجنة.

وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ( 61 )

يخبر تعالى نبيه، صلوات الله عليه وسلامه أنه يعلم جميع أحواله وأحوال أمته، وجميع الخلائق في كل ساعة وآن ولحظة، وأنه لا يعزُب عن علمه وبصره مثقالُ ذرة في حقارتها وصغرها في السموات ولا في الأرض، ولا أصغر منها ولا أكبر إلا في كتاب مبين، كقوله: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [ الأنعام:59 ] ، فأخبر تعالى أنه يعلم حركة الأشجار وغيرها من الجمادات وكذلك الدواب السارحة في قوله: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [ الأنعام:38 ] ، وقال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [ هود:6 ] .

وإذا كان هذا علمه بحركات هذه الأشياء، فكيف بعلمه بحركات المكلفين المأمورين بالعبادة، كما قال تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [ الشعراء:217 - 219 ] ؛ ؛ ولهذا قال تعالى: ( وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ) أي:إذ تأخذون في ذلك الشيء نحن مشاهدون لكم راءون سامعون، ولهذا قال، عليه السلام لما سأله جبريل عن الإحسان [ قال ] أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك « .»

 

أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 62 ) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ( 63 ) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 64 )

يخبر تعالى أن أولياءه هم الذين آمنوا وكانوا يتقون، كما فسرهم ربهم، فكل من كان تقيا كان لله وليا:أنه ( لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ) [ أي ] فيما يستقبلون من أهوال القيامة، ( وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) على ما وراءهم في الدنيا.

وقال عبد الله بن مسعود، وابن عباس، وغير واحد من السلف:أولياء الله الذين إذا رءوا ذُكِر الله.

وقد ورد هذا في حديث مرفوع كما قال البزار:

حدثنا علي بن حَرْب الرازي، حدثنا محمد بن سعيد بن سابق، حدثنا يعقوب بن عبد الله الأشعري - وهو القمي - عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:قال رجل:يا رسول الله، مَنْ أولياء الله؟ قال: « الذين إذا رءُوا ذُكر الله » . ثم قال البزار:وقد روي عن سعيد مرسلا.

وقال ابن جرير:حدثنا أبو هشام الرِّفاعي، حدثنا ابن فضيل حدثنا أبي، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زُرْعَة بن عمرو بن جرير البَجَلي، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن من عباد الله عبادا يغبطهم الأنبياء والشهداء » . قيل:من هم يا رسول الله؟ لعلنا نحبهم. قال: « هم قوم تحابوا في الله من غير أموال ولا أنساب، وجوههم نور على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس » . ثم قرأ: ( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )

ثم رواه أيضا أبو داود، من حديث جرير، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثله.

وهذا أيضا إسناد جيد، إلا أنه منقطع بين أبي زرعة وعمر بن الخطاب، والله أعلم.

وفي حديث الإمام أحمد، عن أبي النضر، عن عبد الحميد بن بَهْرَام، عن شَهْر بن حَوْشَب، عن عبد الرحمن بن غَنْم، عن أبي مالك الأشعري قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يأتي من أفناء الناس ونوازع القبائل قوم لم تتصل بينهم أرحام متقاربة، تحابوا في الله، وتصافوا في الله، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور، فيجلسهم عليها، يفزع الناس ولا يفزعون، وهم أولياء الله، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون » . والحديث متطول.

وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا سفيان، عن الأعمش، عن ذَكْوَان أبي صالح، عن رجل، عن أبي الدرداء، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) قال: « الرؤيا الصالحة يراها المسلم، أو تُرى له » .

وقال ابن جرير:حدثني أبو السائب، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن عطاء بن يسار، عن رجل من أهل مصر، عن أبي الدرداء في قوله: ( لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) قال:سأل رجل أبا الدرداء عن هذه الآية، فقال:لقد سألت عن شيء ما سمعتُ [ أحدًا ] سأل عنه بعد رجل سأل عنه رسولَ الله، فقال: « هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل المسلم، أو تُرَى له، بشراه في الحياة الدنيا، وبشراه في الآخرة [ الجنة ] » .

ثم رواه ابن جرير من حديث سفيان، عن ابن المنْكَدِر، عن عَطَاء بن يَسَار، عن رجل من أهل مصر، أنه سأل أبا الدرداء عن هذه الآية، فذكر نحو ما تقدم.

وقال ابن جرير:حدثني المثنى:حدثنا الحجاج بن مِنْهَال، حدثنا حماد بن زيد، عن عاصم بن بَهْدَلَة، عن أبي صالح قال:سمعت أبا الدرداء، وسئل عن: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى ) فذكر نحوه سواء.

وقال الإمام أحمد:حدثنا عفان، حدثنا أبان، حدثنا يحيى، عن أبي سلمة، عن عبادة بن الصامت؛ أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله، أرأيت قول الله تعالى: ( لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) ؟ فقال: « لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد من أمتي - أو:أحد قبلك » قال: « تلك الرؤيا الصالحة، يراها الرجل الصالح أو تُرَى له » .

وكذا رواه أبو داود الطيالسي، عن عمران القَطَّان، عن يحيى بن أبي كثير، به ورواه الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، فذكره. ورواه علي بن المبارك، عن يحيى، عن أبي سلمة قال:نُبّئنا عن عبادة بن الصامت، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية، فذكره.

وقال ابن جرير:حدثني أبو حميد الحِمْصيّ، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا عمر بن عمرو بن عبد الأحْمُوسي، عن حميد بن عبد الله المزني قال:أتى رجل عبادة بن الصامت فقال:آية في كتاب الله أسألك عنها، قول الله تعالى: ( لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) ؟ فقال عبادة:ما سألني عنها أحد قبلك، سألت عنها نبي الله فقال مثل ذلك: « ما سألني عنها أحد قبلك، الرؤيا الصالحة، يراها العبد المؤمن في المنام أو تُرَى له » .

ثم رواه من حديث موسى بن عبيدة، عن أيوب بن خالد بن صَفْوان، عن عبادة بن الصامت؛ أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) فقد عرفنا بشرى الآخرة الجنة، فما بشرى الدنيا؟ قال: « الرؤيا الصالحة يراها العبد أو تُرَى له، وهي جزء من أربعة وأربعين جزءا أو سبعين جزءا من النبوة » .

وقال [ الإمام ] أحمد أيضا:حدثنا بَهْز، حدثنا حماد، حدثنا أبو عمران، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر؛ أنه قال:يا رسول الله، الرجل يعمل العمل فيحمده الناس عليه، ويثنون عليه به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « تلك عاجل بشرى المؤمن » . رواه مسلم.

وقال أحمد أيضا:حدثنا حسن - يعني الأشيب - حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا دَرَّاج، عن عبد الرحمن بن جُبَيْر، عن عبد الله بن عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) قال: « الرؤيا الصالحة يبشرها المؤمن، هي جزء من تسعة وأربعين جزءا من النبوة، فمن رأى [ ذلك ] فليخبر بها، ومن رأى سوى ذلك فإنما هو من الشيطان ليَحْزُنه، فلينفث عن يساره ثلاثا، وليكبر ولا يخبر بها أحدا » لم يخرجوه.

وقال ابن جرير:حدثني يونس، أنبأنا ابن وَهْب، حدثني عمرو بن الحارث، أن دَرَّاجا أبا السمح حدثه عن عبد الرحمن بن جُبَيْر، عن عبد الله بن عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) الرؤيا الصالحة يبشَّرها المؤمن، جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة « . »

وقال أيضا ابن جرير:حدثني محمد بن أبي حاتم المؤدَّب، حدثنا عمار بن محمد، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) قال: « هي في الدنيا الرؤيا الصالحة، يراها العبد أو تُرَى له، وهي في الآخرة الجنة » .

ثم رواه عن أبي كُرَيْب، عن أبي بكر بن عَيَّاش، عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أنه قال:الرؤيا الحسنة بشرى من الله، وهي من المبشّرات.

هكذا رواه من هذه الطريق موقوفا.

وقال أيضا:حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا أبو بكر، حدثنا هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الرؤيا الحسنة هي البشرى، يراها المسلم أو تُرَى له » .

وقال ابن جرير:حدثني أحمد بن حماد الدُّولابي، حدثنا سفيان، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن أبيه، عن سِبَاع بن ثابت، عن أم كُرْز الكعبية:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ذهبت النبوة، وبقيت المبشرات » .

وهكذا روي عن ابن مسعود، وأبي هريرة، وابن عباس، ومجاهد، وعُرْوَة بن الزبير، ويحيى بن أبي كثير، وإبراهيم النَّخَعي، وعطاء بن أبي رباح:أنهم فسروا ذلك بالرؤيا الصالحة.

وقيل:المراد بذلك بشرى الملائكة للمؤمن عند احتضاره بالجنة والمغفرة كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيم [ فصلت:30 - 32 ] .

وفي حديث البراء: « أن المؤمن إذا حضره الموت، جاءه ملائكة بيض الوجوه، بيض الثياب، فقالوا:اخرجي أيتها الروح الطيبة إلى روح وريحان، ورب غير غضبان. فتخرج من فمه، كما تسيل القطرة من فم السقاء » .

وأما بشراهم في الآخرة، فكما قال تعالى: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [ الأنبياء:103 ] . وقال تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [ الحديد:12 ] .

وقوله: ( لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ) أي:هذا الوعد لا يبدل ولا يخلف ولا يغير، بل هو مقرر مثبت كائن لا محالة: ( ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )

وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 65 ) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ ( 66 ) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ( 67 )

يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( وَلا يَحْزُنْكَ ) قولُ هؤلاء المشركين، واستعن بالله عليهم، وتوكل عليه؛ فإن العزة لله جميعا، أي:جميعها له ولرسوله وللمؤمنين، ( هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) أي:السميع لأقوال عباده العليم بأحوالهم.

ثم أخبر تعالى أن له ملك السموات والأرض، وأن المشركين يعبدون الأصنام، وهي لا تملك شيئا، لا ضرًا ولا نفعا، ولا دليل لهم على عبادتها، بل إنما يتبعون في ذلك ظنونهم وتخرصهم وكذبهم وإفكهم.

ثم أخبر أنه الذي جعل لعباده الليل ليسكنوا فيه، أي:يستريحون فيه من نَصَبهم وكلالهم وحَرَكاتهم، ( وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ) أي:مضيئا لمعاشهم وسعيهم، وأسفارهم ومصالحهم، ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ) أي:يسمعون هذه الحجج والأدلة، فيعتبرون بها، ويستدلون على عظمة خالقها، ومقدرها ومسيرها.

قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 68 ) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ ( 69 ) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ( 70 )

يقول تعالى منكرًا على من ادعى أن له ولدًا: ( سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) أي:تقدس عن ذلك، هو الغني عن كل ما سواه، وكل شيء فقير إليه، ( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ ) أي:فكيف يكون له ولد مما خلق، وكل شيء مملوك له، عبد له؟! ( إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا ) أي:ليس عندكم دليل على ما تقولونه من الكذب والبهتان! ( أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) إنكار ووعيد أكيد، وتهديد شديد، كما قال تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [ مريم:88 - 95 ] .

ثم توعد تعالى الكاذبين عليه المفترين، ممن زعم أنه له ولدا، بأنهم لا يفلحون في الدنيا ولا في الآخرة، فأما في الدنيا فإنهم إذا استدرجهم وأملى لهم متعهم قليلا ثم يضطرهم إلى عذاب غليظ، كما قال ها هنا: ( مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ) أي:مدة قريبة، ( ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ) أي:يوم القيامة، ( ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ ) أي:الموجع المؤلم ( بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ) أي:بسبب كفرهم وافترائهم وكذبهم على الله، فيما ادعوه من الإفك والزور.

 

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ ( 71 ) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( 72 ) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ( 73 )

يقول تعالى لنبيه، صلوات الله وسلامه عليه: ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ ) أي:أخبرهم واقصص عليهم، أي:على كفار مكة الذين يكذبونك ويخالفونك ( نَبَأَ نُوحٍ ) أي:خبره مع قومه الذين كذبوه، كيف أهلكهم الله ودَمّرهم بالغرق أجمعين عن آخرهم، ليحذر هؤلاء أن يصيبهم من الهلاك والدمار ما أصاب أولئك. ( إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ ) أي:عَظُم عليكم، ( مَقَامِي ) أي فيكم بين أظهركم، ( وَتَذْكِيرِي ) إياكم ( بِآيَاتِ اللَّهِ ) أي:بحججه وبراهينه، ( فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ ) أي:فإني لا أبالي ولا أكف عنكم سواء عظم عليكم أو لا! ( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ) أي:فاجتمعوا أنتم وشركاؤكم الذين تدعون من دون الله، من صَنَم ووثن، ( ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ) أي:ولا تجعلوا أمركم عليكم ملتبسا، بل افصلوا حالكم معي، فإن كنتم تزعمون أنكم محقون، فاقضوا إلي ولا تنظرون، أي:ولا تؤخروني ساعة واحدة، أي:مهما قدرتم فافعلوا، فإني لا أباليكم ولا أخاف منكم، لأنكم لستم على شيء، كما قال هود لقومه: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [ هود:54 - 56 ] .

فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ ) أي:كذبتم وأدبرتم عن الطاعة، ( فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ ) أي:لم أطلب منكم على نصحي إياكم شيئا، ( إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) أي:وأنا ممتثل ما أمرت به من الإسلام لله عز وجل، والإسلام هو دين [ جميع ] الأنبياء من أولهم إلى آخرهم، وإن تنوعت شرائعهم وتعددت مناهلهم، كما قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [ المائدة:48 ] . قال ابن عباس:سبيلا وسنة. فهذا نوح يقول: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [ النمل:91 ] ، وقال تعالى عن إبراهيم الخليل: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [ البقرة:131 ، 132 ] ، وقال يوسف: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [ يوسف:101 ] . وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ [ يونس:84 ] . وقالت السحرة: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ [ الأعراف:126 ] . وقالت بلْقيس: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [ النمل:44 ] . وقال [ الله ] تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا [ المائدة:44 ] ، وقال تعالى: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ [ المائدة:111 ] وقال خاتم الرسل وسيد البشر: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [ الأنعام:162 ، 163 ] أي:من هذه الأمة؛ ولهذا قال في الحديث الثابت عنه: « نحن معاشر الأنبياء أولاد عَلات، ديننا واحد » أي:وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وإن تنوعت شرائعنا، وذلك معنى قوله: « أولاد علات » ، وهم:الإخوة من أمهات شتى والأب واحد.

وقوله تعالى: ( فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ ) أي:على دينه ( فِي الْفُلْكِ ) وهي:السفينة، ( وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ ) أي:في الأرض، ( وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ) أي:يا محمد كيف أنجينا المؤمنين، وأهلكنا المكذبين.

ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ( 74 )

يقول تعالى:ثم بعثنا من بعد نوح رسلا إلى قومهم، فجاءوهم بالبينات، أي:بالحجج والأدلة والبراهين على صدق ما جاءوهم به، ( فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ ) أي:فما كانت الأمم لتؤمن بما جاءتهم به رسلهم، بسبب تكذيبهم إياهم أول ما أرسلوا إليهم، كما قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [ الأنعام:110 ] .

وقوله: ( كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ) أي:كما طبع الله على قلوب هؤلاء، فما آمنوا بسبب تكذيبهم المتقدم، هكذا يطبع الله على قلوب من أشبههم ممن بعدهم، ويختم على قلوبهم، فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم.

والمراد:أن الله تعالى أهلك الأمم المكذبة للرسل، وأنجى من آمن بهم، وذلك من بعد نوح، عليه السلام، فإن الناس كانوا من قبله من زمان آدم عليه السلام على الإسلام، إلى أن أحدث الناس عبادة الأصنام، فبعث الله إليهم نوحا، عليه السلام؛ ولهذا يقول له المؤمنون يوم القيامة:أنت أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض.

وقال ابن عباس:كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام.

وقال الله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا [ الإسراء:17 ] ، وفي هذا إنذار عظيم لمشركي العرب الذين كذبوا بسيد الرسل وخاتم الأنبياء والمرسلين، فإنه إذا كان قد أصاب من كذب بتلك الرسل ما ذكره الله تعالى من العقاب والنَّكَال، فماذا ظن هؤلاء وقد ارتكبوا أكبر من أولئك؟

ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ( 75 ) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ( 76 ) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ( 77 ) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ( 78 )

يقول تعالى: ( ثُمَّ بَعَثْنَا ) من بعد تلك الرسل ( مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ) أي:قومه. ( بِآيَاتِنَا ) أي:حجَجنا وبراهيننا، ( فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ) أي:استكبروا عن اتباع الحق والانقياد له، ( فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ) كأنهم - قبَّحهم الله - أقسموا على ذلك، وهم يعلمون أن ما قالوه كذب وبهتان، كما قال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [ النمل:14 ] .

( قَاَلَ ) لهم ( مُوسَى ) منكرا عليهم: ( أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا ) أي:تثنينا ( عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ) أي:الدّين الذي كانوا عليه، ( وَتَكُونَ لَكُمَا ) أي:لك ولهارون ( الْكِبْرِيَاء ) أي:العظمة والرياسة ( فِي الأرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ) .

وكثيرًا ما يذكر الله تعالى قصة موسى، عليه السلام، مع فرعون في كتابه العزيز؛ لأنها من أعجب القصص، فإن فرعون حَذر من موسى كل الحذر، فسخره القدر أن رَبَّى هذا الذي يُحذَّر منه على فراشه ومائدته بمنـزلة الولد، ثم ترعرع وعقد الله له سببا أخرجه من بين أظهرهم، ورزقه النبوة والرسالة والتكليم، وبعثه إليه ليدعوه إلى الله تعالى ليعبده ويرجع إليه، هذا ما كان عليه فرعون من عظمة المملكة والسلطان، فجاءه برسالة الله، وليس له وزير سوى أخيه هارون عليه السلام، فتمرد فرعون واستكبر وأخذته الحمية، والنفس الخبيثة الأبية، وقوى رأسه وتولّى بركنه، وادعى ما ليس له، وتجهرم على الله، وعتا وبغى وأهان حزب الإيمان من بني إسرائيل، والله تعالى يحفظ رسوله موسى وأخاه هارون، ويحوطهما، بعنايته، ويحرسهما بعينه التي لا تنام، ولم تزل المحاجة والمجادلة والآيات تقوم على يدي موسى شيئا بعد شيء، ومرة بعد مرة، مما يبهر العقول ويدهش الألباب، مما لا يقوم له شيء، ولا يأتي به إلا من هو مؤيد من الله، وما تأتيهم من آية إلا هي أكبر من أختها، وصمم فرعون وَمَلَؤه - قبحهم الله - على التكذيب بذلك كله، والجحد والعناد والمكابرة، حتى أحل الله بهم بأسه الذي لا يُرَد، وأغرقهم في صبيحة واحدة أجمعين، فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [ الأنعام:45 ] .

 

وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ( 79 ) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ ( 80 ) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ( 81 ) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ( 82 )

ذكر تعالى قصة السحرة مع موسى، عليه السلام، في سورة الأعراف، وقد تقدم الكلام عليها هناك. وفي هذه السورة، وفي سورة طه، وفي الشعراء؛ وذلك أن فرعون - لعنه الله - أراد أن يَتَهَرَّج على الناس، ويعارض ما جاء به موسى، عليه السلام، من الحق المبين، بزخارف السحرة والمشعبذين، فانعكَس عليه النظام، ولم يحصل له ذلك المرام، وظهرت البراهين الإلهية في ذلك المحفل العام، و فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [ الشعراء:46 - 48 ] فظن فرعون أن يستنصر بالسحَّار، على رسول عالم الأسرار، فخاب وخسر الجنة، واستوجب النار.

( وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ * فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ ) ؛ وإنما قال لهم ذلك لأنهم اصطفوا - وقد وعدوا من فرعون بالتقريب والعطاء الجزيل قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا [ طه:65 ، 66 ] ، فأراد موسى أن تكون البَدَاءة منهم، ليرى الناس ما صنعوا، ثم يأتي بالحق بعده فيدمغ باطلهم؛ ولهذا لما أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [ الأعراف:116 ] ، فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [ طه:67 ، 69 ] ، فعند ذلك قال موسى لما ألقوا: ( مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ) .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن عمار بن الحارث، حدثنا عبد الرحمن - يعني الدَّشْتَكِيّ - أخبرنا أبو جعفر الرازي، عن لَيْث - وهو ابن أبي سليم - قال:بلغني أن هؤلاء الآيات شفاء من السحر بإذن الله تعالى، تقرأ في إناء فيه ماء، ثم يصب على رأس المسحور:الآية التي من سورة يونس: ( فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ) والآية الأخرى: فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [ الأعراف:118 ] ، وقوله إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [ طه:69 ] .

فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ( 83 )

يخبر تعالى أنه لم يؤمن بموسى، عليه السلام، مع ما جاء به من الآيات البينات والحجج القاطعات والبراهين الساطعات، إلا قليل من قوم فرعون، من الذرية - وهم الشباب - على وجل وخوف منه ومن مَلَئه، أن يردوهم إلى ما كانوا عليه من الكفر؛ لأن فرعون كان جبارا عنيدا مسرفا في التمرد والعتوّ، وكانت له سَطْوة ومَهابة، تخاف رعيته منه خوفا شديدا.

قال العوفي:عن ابن عباس: ( فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ ) قال:فإن الذرية التي آمنت لموسى، من أناس غير بني إسرائيل، من قوم فرعون يسير، منهم:امرأة فرعون، ومؤمن آل فرعون، وخازن فرعون، وامرأة خازنه.

وروى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ( فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ ) يقول:بني إسرائيل.

وعن ابن عباس، والضحاك، وقتادة ( الذرية ) :القليل.

وقال مجاهد في قوله: ( إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ ) يقول:بني إسرائيل. قال:هم أولاد الذين أرسل إليهم موسى، من طول الزمان، ومات آباؤهم.

واختار ابن جرير قول مجاهد في الذرية:أنها من بني إسرائيل لا من قوم فرعون، لعود الضمير على أقرب المذكورين.

وفي هذا نظر؛ لأنه أراد بالذرية الأحداث والشباب وأنهم من بني إسرائيل، فالمعروف أن بني إسرائيل كلهم آمنوا بموسى، عليه السلام، واستبشروا به، وقد كانوا يعرفون نعته وصفته والبشارة به من كتبهم المتقدمة، وأن الله تعالى سينقذهم به من أسر فرعون ويظهرهم عليه؛ ولهذا لما بلغ هذا فرعون حَذَر كل الحذر فلم يُجْد عنه شيئا. ولما جاء موسى آذاهم فرعون أشد الأذى، و قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [ الأعراف:129 ] . وإذا تقرر هذا فكيف يكون المراد إلا ذرية من قوم موسى، وهم بنو إسرائيل؟.

( عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ ) أي:وأشراف قومهم أن يفتنهم، ولم يكن في بني إسرائيل من يخاف منه أن يَفتِنَ عن الإيمان سوى قارون، فإنه كان من قوم موسى، فبغى عليهم؛ لكنه كان طاويا إلى فرعون، متصلا به، متعلقا بحباله ومن قال:إن الضمير في قوله: ( وَمَلَئِهِمْ ) عائد إلى فرعون، وعظم الملك من أجل اتباعه أو بحذف « آل » فرعون، وإقامة المضاف إليه مقامه - فقد أبعد، وإن كان ابن جرير قد حكاهما عن بعض النحاة. ومما يدل على أنه لم يكن في بني إسرائيل إلا مؤمن قوله تعالى:

وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ( 84 ) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( 85 ) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( 86 )

يقول تعالى مخبرا عن موسى أنه قال لبني إسرائيل: ( يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ) أي:فإن الله كاف من توكل عليه، أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [ الزمر:36 ] ، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [ الطلاق:3 ] .

وكثيرا ما يقرن الله بين العبادة والتوكل، كما في قوله تعالى: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [ هود:123 ] ، قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا [ الملك:29 ] ، رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا [ المزمل:9 ] ، وأمر الله تعالى المؤمنين أن يقولوا في كل صلواتهم مرات متعددة: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [ الفاتحة:5 ] .

وقد امتثل بنو إسرائيل ذلك، فقالوا: ( عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) أي:لا تظفرهم بنا، وتسلطهم علينا، فيظنوا أنهم إنما سلطوا لأنهم على الحق ونحن على الباطل، فيفتنوا بذلك. هكذا روي عن أبي مِجْلَز، وأبي الضُّحى.

وقال ابن أبي نَجِيح وغيره واحد، عن مجاهد:لا تعذبنا بأيدي قوم فرعون، ولا بعذاب من عندك، فيقول قوم فرعون:لو كانوا على حق ما عذبوا، ولا سُلِّطنا عليهم، فيفتنوا بنا.

وقال عبد الرزاق:أنبأنا ابن عُيَيْنَةَ، عن ابن نَجِيح، عن مجاهد: ( رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) [ أي ] لا تسلطهم علينا، فيفتنونا.

( وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ ) أي:خلصنا برحمة منك وإحسان، ( مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) أي:الذين كفروا الحق وستروه، ونحن قد آمنا بك وتوكلنا عليك.

وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( 87 )

يذكر تعالى سبب إنجائه بني إسرائيل من فرعون وقومه، وكيفية خلاصهم منهم وذلك أن الله تعالى أمر موسى وأخاه هارون، عليهما السلام ( أَنْ تَبَوَّءَا ) أي:يتخذا لقومهما بمصر بيوتا.

واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: ( وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ) فقال الثوري وغيره، عن خُصَيْف، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس: ( وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ) قال:أمرُوا أن يتخذوها مساجد.

وقال الثوري أيضا، عن ابن منصور، عن إبراهيم: ( وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ) قال:كانوا خائفين، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم.

وكذا قال مجاهد، وأبو مالك، والربيع بن أنس، والضحاك، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وأبوه زيد بن أسلم:وكأن هذا - والله أعلم - لما اشتد بهم البلاء من قبَل فرعون وقومه، وضيقوا عليهم، أمروا بكثرة الصلاة، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [ البقرة:153 ] . وفي الحديث:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى. أخرجه أبو داود. ولهذا قال تعالى في هذه الآية: ( وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) أي:بالثواب والنصر القريب.

وقال العوفي، عن ابن عباس، في تفسير هذه الآية قال:قالت بنو إسرائيل لموسى، عليه السلام:لا نستطيع أن نظهر صلاتنا مع الفراعنة، فأذن الله تعالى لهم أن يصلوا في بيوتهم، وأمروا أن يجعلوا بيوتهم قبل القبلة. وقال مجاهد: ( وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ) قال:لما خاف بنو إسرائيل من فرعون أن يقتلوا في الكنائس الجامعة، أمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة، يصلون فيها سرًا. وكذا قال قتادة، والضحاك.

وقال سعيد بن جبير: ( وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ) أي:يقابل بعضها بعضا.

وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ ( 88 )

هذا إخبار من الله تعالى عما دعا به موسى، عليه السلام، على فرعون وَمَلَئه، لما أبوا قبول الحق واستمروا على ضلالهم وكفرهم معاندين جاحدين، ظلما وعلوا وتكبرًا وعتوا، قال: ( رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً ) أي:من أثاث الدنيا ومتاعها، ( وأموالا ) أي:جزيلة كثيرة، ( فِي ) هذه ( الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيَضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ) - بفتح الياء - أي:أعطيتهم ذلك وأنت تعلم أنهم لا يؤمنون بما أرسلتني به إليهم استدراجا منك لهم، كما قال تعالى: لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ

وقرأ آخرون: ( لِيُضِلُّوا ) بضم الياء، أي:ليفتتن بما أعطيتهم من شئت من خلقك، ليظن من أغويته أنك إنما أعطيت هؤلاء هذا لحبك إياهم واعتنائك بهم.

( رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ ) قال ابن عباس، ومجاهد:أي:أهلكها. وقال الضحاك، وأبو العالية، والربيع بن أنس:جعلها الله حجارة منقوشة كهيئة ما كانت.

وقال قتادة:بلغنا أن زروعهم تحولت حجارة.

وقال محمد بن كعب القُرَظي:اجعل سُكَّرهم حجارة.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث، حدثنا يحيى بن أبي بُكَيْر، عن أبي مَعْشَر، حدثني محمد بن قيس:أن محمد بن كعب قرأ سورة يونس على عمر بن عبد العزيز: ( وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ ) إلى قوله: ( اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ ) إلى آخرها [ فقال له:عمر يا أبا حمزة أي شيء الطمس؟ قال:عادت أموالهم كلها حجارة ] فقال عمر بن عبد العزيز لغلام له:ائتني بكيس. [ فجاءه بكيس ] فإذا فيه حمص وبيض، قد قطع حول حجارة.

وقوله: ( وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ ) قال ابن عباس:أي اطبع عليها، ( فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ )

وهذه الدعوة كانت من موسى، عليه السلام، غضبًا لله ولدينه على فرعون وملئه، الذين تبين له أنه لا خير فيهم، ولا يجيء منهم شيء كما دعا نوح، عليه السلام، فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا [ نوح:26 ، 27 ] ؛ ولهذا استجاب الله تعالى لموسى، عليه السلام، فيهم هذه الدعوة، التي أمَّنَ عليها أخوه هارون، فقال تعالى: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا

قال أبو العالية، وأبو صالح، وعكرمة، ومحمد بن كعب القرظي، والربيع بن أنس:دعا موسى وأمَّنَ هارون، أي:قد أجبناكما فيما سألتما من تدمير آل فرعون.

وقد يحتج بهذه الآية من يقول: « إن تأمين المأموم على قراءة الفاتحة يُنـزل منـزلة قراءتها؛ لأن موسى دعا وهارون أمن » .

 

قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ( 89 )

وقال تعالى: ( قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا [ وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ] ) أي:كما أجيبت دعوتكما فاستقيما على أمري.

قال ابن جُرَيْج، عن ابن عباس: ( فَاسْتَقِيمَا ) فامضيا لأمري، وهي الاستقامة. قال ابن جريج:يقولون:إن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة.

وقال محمد بن علي بن الحسين:أربعين يوما.

وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( 90 ) آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ( 91 ) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ( 92 )

يذكر تعالى كيفية إغراقه فرعون وجنوده؛ فإن بني إسرائيل لما خرجوا من مصر صحبة موسى، عليه السلام، وهم - فيما قيل - ستمائة ألف مقاتل سوى الذرية، وقد كانوا استعاروا من القبط حُلِيّا كثيرا، فخرجوا به معهم، فاشتد حَنَق فرعون عليهم، فأرسل في المدائن حاشرين يجمعون له جنوده من أقاليمه، فركب وراءهم في أبهة عظيمة، وجيوش هائلة لما يريده الله تعالى بهم، ولم يتخلف عنه أحد ممن له دولة وسلطان في سائر مملكته، فلحقوهم وقت شروق الشمس، فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [ الشعراء:61 ] وذلك أنهم لما انتهوا إلى ساحل البحر، وأدركهم فرعون، ولم يبق إلا أن يتقاتل الجمعان، وألح أصحاب موسى، عليه السلام، عليه في السؤال كيف المخلص مما نحن فيه؟ فيقول:إني أمرت أن أسلك هاهنا، كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [ الشعراء:62 ] فعندما ضاق الأمر اتسع، فأمره الله تعالى أن يضرب البحر بعصاه، فضربه فانفلق البحر، فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [ الشعراء:63 ] أي:كالجبل العظيم، وصار اثني عشر طريقًا، لكل سبط واحد. وأمر الله الريح فنَشَّفت أرضه، فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى [ طه:77 ] وتخرق الماء بين الطرق كهيئة الشبابيك، ليرى كل قوم الآخرين لئلا يظنوا أنهم هلكوا. وجازت بنو إسرائيل البحر، فلما خرج آخرهم منه انتهى فرعون وجنوده إلى حافته من الناحية الأخرى، وهو في مائة ألف أدهم سوى بقية الألوان، فلما رأى ذلك هاله وأحجم وهاب وهم بالرجوع، وهيهات ولات حين مناص، نفذ القدر، واستجيبت الدعوة. وجاء جبريل، عليه السلام، على فرس - وديق حائل - فمر إلى جانب حصان فرعون فحمحم إليها وتقدم جبريل فاقتحم البحر ودخله، فاقْتحم الحصان وراءه، ولم يبق فرعون يملك من نفسه شيئا، فتجلد لأمرائه، وقال لهم:ليس بنو إسرائيل بأحق بالبحر منا، فاقتحموا كلهم عن آخرهم وميكائيل في ساقتهم، لا يترك أحدا منهم، إلا ألحقه بهم. فلما استوسقوا فيه وتكاملوا، وهم أولهم بالخروج منه، أمر اللهُ القدير البحرَ أن يرتطم عليهم، فارتطم عليهم، فلم ينج منهم أحد، وجعلت الأمواج ترفعهم وتخفضهم، وتراكمت الأمواج فوق فرعون، وغشيته سكرات الموت، فقال وهو كذلك: ( آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) فآمن حيث لا ينفعه الإيمان، فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [ غافر:84 ، 85 ] .

وهكذا قال الله تعالى في جواب فرعون حين قال ما قال: ( آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ) أي:أهذا الوقت تقول، وقد عصيت الله قبل هذا فيما بينك وبينه؟ ( وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) أي:في الأرض الذين أضلوا الناس، وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ [ القصص:41 ]

وهذا الذي حكى الله تعالى عن فرعون من قوله هذا في حاله ذاك من أسرار الغيب التي أعلم الله بها رسوله؛ ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله:

حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهْران، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لما قال فرعون: ( آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ ) قال:قال لي جبريل: [ يا محمد ] لو رأيتني وقد أخذت [ حالا ] من حال البحر، فدسسته في فيه مخافة أن تناله الرحمة »

ورواه الترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم في تفاسيرهم، من حديث حماد بن سلمة، به وقال الترمذي:حديث حسن.

وقال أبو داود الطيالسي:حدثنا شعبة، عن عدي بن ثابت وعطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « قال لي جبريل:لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر، فأدسه في فم فرعون مخافة أن تدركه الرحمة » . وقد رواه أبو عيسى الترمذي أيضا، وابن جرير أيضا، من غير وجه، عن شعبة، به وقال الترمذي:حسن غريب صحيح.

ووقع في رواية عند ابن جرير، عن محمد بن المثنى، عن غُنْدَر، عن شعبة، عن عطاء وعَدِيّ، عن سعيد، عن ابن عباس، رفعه أحدهما - وكأن الآخر لم يرفعه، فالله أعلم.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن عمر بن عبد الله بن يَعْلَى الثقفي، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال:لما أغرق الله فرعون، أشار بأصبعه ورفع صوته: ( آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ ) قال:فخاف جبريل أن تسبق رحمة الله فيه غضبه، فجعل يأخذ الحال بجناحيه فيضرب به وجهه فيرمسه.

وكذا رواه ابن جرير، عن سفيان بن وَكِيع، عن أبي خالد، به موقوفا

وقد روي من حديث أبي هريرة أيضا، فقال ابن جرير:

حدثنا ابن حميد، حدثنا حَكَّام، عن عَنْبَسة - هو ابن سعيد - عن كثير بن زاذان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « قال لي جبريل:يا محمد، لو رأيتني وأنا أغطّه وأدس من الحال في فيه، مخافة أن تدركه رحمة الله فيغفر له » يعني:فرعون

كثير بن زاذان هذا قال ابن مَعِين:لا أعرفه، وقال أبو زُرْعَة وأبو حاتم:مجهول، وباقي رجاله ثقات.

وقد أرسل هذا الحديث جماعة من السلف:قتادة، وإبراهيم التيمي، وميمون بن مِهْران. ونقل عن الضحاك بن قيس:أنه خطب بهذا للناس، فالله أعلم.

وقوله: ( فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ) قال ابن عباس وغيره من السلف:إن بعض بني إسرائيل شكُّوا في موت فرعون، فأمر الله تعالى البحر أن يلقيه بجسده بلا روح، وعليه درعه المعروفة [ به ] على نجوة من الأرض وهو المكان المرتفع، ليتحققوا موته وهلاكه؛ ولهذا قال تعالى: ( فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ ) أي:نرفعك على نَشز من الأرض، ( بِبَدَنِك ) قال مجاهد:بجسدك. وقال الحسن:بجسم لا روح فيه. وقال عبد الله بن شداد:سويا صحيحا، أي:لم يتمزق ليتحققوه ويعرفوه. وقال أبو صخر:بدرعك

وكل هذه الأقوال لا منافاة بينها، كما تقدم، والله أعلم.

وقوله: ( لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ) أي:لتكون لبني إسرائيل دليلا على موتك وهلاكك، وأن الله هو القادر الذي ناصية كل دابة بيده، وأنه لا يقوم لغضبه شيء؛ ولهذا قرأ بعض السلف: « لِتَكُونَ لِمَنْ خَلَقَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ » أي:لا يتعظون بها، ولا يعتبرون. وقد كان [ إهلاك فرعون وملئه ] يوم عاشوراء، كما قال البخاري:

حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غُنْدَر، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينَة، واليهود تصوم يوم عاشوراء فقالوا:هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: « أنتم أحق بموسى منهم، فصوموه »

وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( 93 )

يخبر تعالى عما أنعم به على بني إسرائيل من النعم الدينية والدنيوية ف ( مُبَوَّأَ صِدْقٍ ) قيل:هو بلاد مصر والشام، مما يلي بيت المقدس ونواحيه، فإن الله تعالى لما أهلك فرعون وجنوده استقرت يد الدولة الموسوية على بلاد مصر بكمالها، كما قال الله تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [ الأعراف:137 ] وقال في الآية الأخرى: فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [ الشعراء:57- 59 ] ولكن استمروا مع موسى، عليه السلام، طالبين إلى بلاد بيت المقدس [ وهي بلاد الخليل عليه السلام فاستمر موسى بمن معه طالبا بيت المقدس ] وكان فيه قوم من العمالقة، [ فنكل بنو إسرائيل عن قتال العمالقة ] فشردهم الله تعالى في التيه أربعين سنة، ومات فيه هارون، ثم، موسى، عليهما السلام، وخرجوا بعدهما مع يوشع بن نون، ففتح الله عليهم بيت المقدس، واستقرت أيديهم عليها إلى أن أخذها منهم بختنصر حينا من الدهر، ثم عادت إليهم، ثم أخذها ملوك اليونان، وكانت تحت أحكامهم مدة طويلة، وبعث الله عيسى ابن مريم، عليه السلام، في تلك المدة، فاستعانت اليهود - قبحهم الله - على معاداة عيسى، عليه السلام، بملوك اليونان، وكانت تحت أحكامهم، ووشوا عندهم، وأوحوا إليهم أن هذا يفسد عليكم الرعايا فبعثوا من يقبض عليه، فرفعه الله إليه، وشُبّه لهم بعض الحواريين بمشيئة الله وقدره فأخذوه فصلبوه، واعتقدوا أنه هو، وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [ النساء:157 ، 158 ] ثم بعد المسيح، عليه السلام بنحو [ من ] ثلاثمائة سنة، دخل قسطنطين أحد ملوك اليونان - في دين النصرانية، وكان فيلسوفا قبل ذلك. فدخل في دين النصارى قيل:تقية، وقيل:حيلة ليفسده، فوضعت له الأساقفة منهم قوانين وشريعة وبدعًا أحدثوها، فبنى لهم الكنائس والبيَع الكبار والصغار، والصوامع والهياكل، والمعابد، والقلايات. وانتشر دين النصرانية في ذلك الزمان، واشتهر على ما فيه من تبديل وتغيير وتحريف، ووضع وكذب، ومخالفة لدين المسيح. ولم يبق على دين المسيح على الحقيقة منهم إلا القليل من الرهبان، فاتخذوا لهم الصوامع في البراري والمهامه والقفار، واستحوذت يدُ النصارى على مملكة الشام والجزيرة وبلاد الروم، وبنى هذا الملك المذكور مدينة قسطنطينية، والقُمَامة، وبيت لحم، وكنائس [ بلاد ] بيت المقدس، ومدن حَوْران كبُصرى وغيرها من البلدان بناءات هائلة محكمة، وعبدوا الصليب من حينئذ، وصلوا إلى الشرق، وصوروا الكنائس، وأحلوا لحم الخنـزير، وغير ذلك مما أحدثوه من الفروع في دينهم والأصول، ووضعوا له الأمانة الحقيرة، التي يسمونها الكبيرة، وصنفوا له القوانين،

وبسط هذا يطول.

والغرض أن يدهم لم تزل على هذه البلاد إلى أن انتزعها منهم الصحابة، رضي الله عنهم، وكان فتح بيت المقدس على يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ولله الحمد والمنة.

وقوله: ( وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ) أي:الحلال، من الرزق الطيب النافع المستطاب طبعا وشرعا.

وقوله: ( فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ ) أي:ما اختلفوا في شيء من المسائل إلا من بعد ما جاءهم العلم، أي:ولم يكن لهم أن يختلفوا، وقد بين الله لهم وأزال عنهم اللبس. وقد ورد في الحديث:أن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة، وأن النصارى اختلفوا على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، منها واحدة في الجنة، وثنتان وسبعون في النار. قيل:من هم يا رسول الله؟ قال: « ما أنا عليه وأصحابي » .

رواه الحاكم في مستدركه بهذا اللفظ، وهو في السنن والمسانيد ولهذا قال الله تعالى: ( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ ) أي:يفصل بينهم ( يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ )

فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ( 94 ) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 95 ) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ( 96 ) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ ( 97 )

قال قتادة بن دِعَامة:بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا أشك ولا أسأل »

وكذا قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن البصري، وهذا فيه تثبيت للأمة، وإعلام لهم أن صفة نبيهم صلى الله عليه وسلم موجودة في الكتب المتقدمة التي بأيدي أهل الكتاب، كما قال تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ الآية [ الأعراف:157 ] . ثم مع هذا العلم يعرفونه من كتبهم كما يعرفون أبناءهم، يلبسون ذلك ويحرفونه ويبدلونه، ولا يؤمنون به مع قيام الحجة عليهم؛ ولهذا قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ ) أي:لا يؤمنون إيمانا ينفعهم، بل حين لا ينفع نفسًا إيمانها؛ ولهذا لما دعا موسى، عليه السلام، على فرعون وملئه قال: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [ يونس:88 ] ، كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [ الأنعام:111 ] ثم قال تعالى:

فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ( 98 )

يقول تعالى:فهلا كانت قرية آمنت بكمالها من الأمم السالفة الذين بعثنا إليهم الرسل، بل ما أرسلنا من قبلك يا محمد من رسول إلا كذبه قومه، أو أكثرهم كما قال تعالى: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [ يس:30 ] ، كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [ الذاريات:52 ] ، وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [ الزخرف:23 ] وفي الحديث الصحيح: « عرض علي الأنبياء، فجعل النبي يمر ومعه الفئام من الناس، والنبي معه الرجل والنبي معه الرجلان، والنبي ليس معه أحد » ثم ذكر كثرة أتباع موسى، عليه السلام، ثم ذكر كثرة أمته، صلوات الله وسلامه عليه، كثرة سدت الخافقين الشرقي والغربي.

والغرض أنه لم توجد قرية آمنت بكمالها بنبيهم ممن سلف من القرى، إلا قوم يونس، وهم أهل نِينَوى ، وما كان إيمانهم إلا خوفا من وصول العذاب الذي أنذرهم به رسولهم، بعد ما عاينوا أسبابه، وخرج رسولهم من بين أظهرهم، فعندها جأروا إلى الله واستغاثوا به، وتضرعوا لديه. واستكانوا وأحضروا أطفالهم ودوابهم ومواشيهم، وسألوا الله تعالى أن يرفع عنهم العذاب الذي أنذرهم به نبيهم. فعندها رحمهم الله، وكشف عنهم العذاب وأخروا، كما قال تعالى: ( إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ) .

واختلف المفسرون:هل كُشف عنهم العذاب الأخروي مع الدنيوي؟ أو إنما كشف عنهم في الدنيا فقط؟ على قولين، أحدهما:إنما كان ذلك في الحياة الدنيا، كما هو مقيد في هذه الآية. والقول الثاني فيهما لقوله تعالى: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [ الصافات:147 ، 148 ] فأطلق عليهم الإيمان، والإيمان منقذ من العذاب الأخروي، وهذا هو الظاهر، والله أعلم.

قال قتادة في تفسير هذه الآية:لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين حضرها العذاب، فتركت، إلا قوم يونس، لما فقدوا نبيهم وظنوا أن العذاب قد دنا منهم، قذف الله في قلوبهم التوبة، ولبسوا المسوح، وفَرّقوا بين كل بهيمة وولدها ثم عَجّوا إلى الله أربعين ليلة. فلما عرف الله منهم الصدق من قلوبهم، والتوبة والندامة على ما مضى منهم كشف الله عنهم العذاب بعد أن تدلى عليهم - قال قتادة:وذكر أن قوم يونس كانوا بنينوى أرض الموصل.

وكذا روي عن ابن مسعود، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وغير واحد من السلف، وكان ابن مسعود يقرؤها: « فَهَلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ » .

وقال أبو عمران، عن أبي الجَلْد قال:لما نـزل بهم العذاب، جعل يدور على رءوسهم كقطع الليل المظلم، فمشوا إلى رجل من علمائهم فقالوا:علمنا دعاء ندعوا به، لعل الله يكشف عنا العذاب، فقال:قولوا:يا حيّ حين لا حيّ، يا محيي الموتى لا إله إلا أنت. قال:فكشف عنهم العذاب.

وتمام القصة سيأتي مفصلا في سورة الصافات إن شاء الله.

وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ( 99 ) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ( 100 )

يقول تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ ) - يا محمد - لأذن لأهل الأرض كلهم في الإيمان بما جئتهم به، فآمنوا كلّهم، ولكن له حكمة فيما يفعله تعالى كما قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [ هود:118 ، 119 ] ، وقال تعالى: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا [ الرعد:31 ] ؛ ولهذا قال تعالى: ( أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ ) أي:تلزمهم وتلجئهم ( حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) أي:ليس ذلك عليك ولا إليك، بل [ إلى ] الله يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [ فاطر:8 ] ، لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [ البقرة:272 ] ، لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [ الشعراء:3 ] ، إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [ القصص:56 ] ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [ الرعد:40 ] ، فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [ الغاشية:21 ، 22 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله تعالى هو الفعال لما يريد، الهادي من يشاء، المضل لمن يشاء، لعلمه وحكمته وعدله؛ ولهذا قال: ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ ) وهو الخبال والضلال، ( عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ) أي:حججَ الله وأدلته، وهو العادل في كل ذلك، في هداية من هدى، وإضلال من ضل.

قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ( 101 ) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ( 102 ) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ( 103 )

يرشدُ تعالى عباده إلى التفكر في آلائه وما خلق في السموات والأرض من الآيات الباهرة لذوي الألباب، مما في السموات من كواكب نيرات، ثوابت وسيارات، والشمس والقمر، والليل والنهار، واختلافهما، وإيلاج أحدهما في الآخر، حتى يطول هذا ويقصر هذا، ثم يقصر هذا ويطول هذا، وارتفاع السماء واتساعها، وحسنها وزينتها، وما أنـزل الله منها من مطر فأحيا به الأرض بعد موتها، وأخرج فيها من أفانين الثمار والزروع والأزاهير، وصنوف النبات، وما ذرأ فيها من دوابّ مختلفة الأشكال والألوان والمنافع، وما فيها من جبال وسهول وقفار وعمران وخراب. وما في البحر من العجائب والأمواج، وهو مع هذا [ مسخر ] مذلل للسالكين، يحمل سفنهم، ويجري بها برفق بتسخير القدير له، لا إله إلا هو، ولا رب سواه.

وقوله: ( وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ) أي:وأي شيء تُجدي الآيات السماوية والأرضية، والرسل بآياتها وحججها وبراهينها الدالة على صدقها، عن قوم لا يؤمنون، كما قال: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [ يونس:96 ، 97 ] .

وقوله: ( فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ ) أي:فهل ينتظر هؤلاء المكذبون لك يا محمد من النقمة والعذاب إلا مثل أيام الله في الذين خلوا من قبلهم من الأمم المكذبة لرسلهم، ( قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ * ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا ) أي:ونهلك المكذبين بالرسل، ( كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ) [ أي ] حقا:أوجبه تعالى على نفسه الكريمة:كقوله كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [ الأنعام:12 ] كما جاء في الصحيحين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إن الله كتب كتابا فهو عنده فوق العرش:إن رحمتي سبقت غضبي »

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( 104 ) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 105 ) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ ( 106 )

يقول تعالى لرسوله محمد، صلوات الله وسلامه عليه:قل:يا أيها الناس، إن كنتم في شك من صحة ما جئتكم من الدين الحنيف، الذي أوحاه الله إلي، فها أنا لا أعبد الذين تعبدون من دون الله، ولكن أعبد الله وحده لا شريك له، وهو الذي يتوفاكم كما أحياكم، ثم إليه مرجعكم؛ فإن كانت آلهتكم التي تدعون من دون الله حقا، فأنا لا أعبدها فادعوها فلتضرني، فإنها لا تضر ولا تنفع، وإنما الذي بيده الضر والنفع هو الله وحده لا شريك له، وأمرت أن أكون من المؤمنين.

وقوله: ( وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) أي:أخلص العبادة لله وحده حنيفا، أي:منحرفا عن الشرك؛ ولهذا قال: ( وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) وهو معطوف على قوله: ( وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ )

 

وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( 107 )

وقوله: ( وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ ) إلى آخرها، بيان لأن الخير والشر والنفع والضر إنما هو راجع إلى الله تعالى وحده لا يشاركه في ذلك أحد، فهو الذي يستحق العبادة وحده، لا شريك له.

روى الحافظ ابن عساكر، في ترجمة صفوان بن سليم، من طريق عبد الله بن وهب:أخبرني يحيى بن أيوب عن عيسى بن موسى، عن صفوان بن سليم، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « اطلبوا الخير دهركم كله، وتعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته، يصيب بها من يشاء من عباده واسألوه أن يستر عوراتكم، ويؤمن روعاتكم »

ثم رواه من طريق الليث، عن عيسى بن موسى، عن صفوان، عن رجل من أشجع، عن أبي هريرة مرفوعا؛ بمثله سواء

وقوله: ( وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) أي:لمن تاب إليه وتوكل عليه، ولو من أيّ ذنب كان، حتى من الشرك به، فإنه يتوب عليه.

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ( 108 ) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ( 109 )

يقول تعالى آمرا لرسوله، صلوات الله وسلامه عليه، أن يخبر الناس أن الذي جاءهم به من عند الله هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك، فمن اهتدى به واتبعه فإنما يعود نفع ذلك الاتباع على نفسه، [ ومن ضل عنه فإنما يرجع وبال ذلك عليه ]

( وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ) أي:وما أنا موكل بكم حتى تكونوا مؤمنين به، وإنما أنا نذير لكم، والهداية على الله تعالى.

وقوله: ( وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ ) أي:تمسك بما أنـزل الله عليك وأوحاه واصبر على مخالفة من خالفك من الناس، ( حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ ) أي:يفتح بينك وبينهم، ( وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ) أي:خير الفاتحين بعدله وحكمته.

 

تفسير سورة هود

 

[ وهي مكية ] .

قال الحافظ أبو يعلى:حدثنا خلف بن هشام البزار، حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عِكْرِمة قال:قال أبو بكر:سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم:ما شَيّبك؟ قال: « شيبتني هود، والواقعة، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت » .

وقال أبو عيسى الترمذي:حدثنا أبو كُرَيْب محمد بن العلاء، حدثنا معاوية بن هشام، عن شيبان، عن أبي إسحاق، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:قال أبو بكر:يا رسول الله، قد شبت؟ قال: « شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت » وفي رواية: « هود وأخواتها » .

وقال الطبراني:حدثنا عبدان بن أحمد، حدثنا حماد بن الحسن، حدثنا سعيد بن سلام، حدثنا عمر بن محمد، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « شيبتني هود وأخواتها:الواقعة، والحاقة، وإذا الشمس كورت » وفي رواية: « هود وأخواتها » .

وقد روي من حديث ابن مسعود، فقال الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني في معجمه الكبير:حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا أحمد بن طارق الرائشي ، حدثنا عمرو بن ثابت، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه؛ أن أبا بكر قال:يا رسول الله، ما شيبك؟ قال: « هود، والواقعة » .

عمرو بن ثابت متروك، وأبو إسحاق لم يدرك ابن مسعود. والله أعلم.

بسم الله الرحمن الرحيم

الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ( 1 ) أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ( 2 ) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ( 3 ) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 4 )

قد تقدم الكلام على حروف الهجاء في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هاهنا، وبالله التوفيق.

وأما قوله: ( أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ ) أي:هي محكمة في لفظها، مفصلة في معناها، فهو كامل صورة ومعنى. هذا معنى ما روي عن مجاهد، وقتادة، واختاره ابن جرير.

وقوله: ( مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) أي:من عند الله الحكيم في أقواله، وأحكامه، الخبير بعواقب الأمور.

( أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ ) أي:نـزل هذا القرآن المحكم المفصل لعبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ [ الأنبياء:25 ] ، قال: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [ النحل:36 ] .

وقوله: ( إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ) أي:إني لكم نذير من العذاب إن خالفتموه، وبشير بالثواب إن أطعتموه، كما جاء في الحديث الصحيح:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد الصفا، فدعا بطون قريش الأقرب ثم الأقرب، فاجتمعوا، فقال يا معشر قريش، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا تصبحكم ، ألستم مصدقي؟ « فقالوا:ما جربنا عليك كذبا » . قال: « فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد » .

وقوله: ( وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ) أي:وآمركم بالاستغفار من الذنوب السالفة والتوبة منها إلى الله عز وجل فيما تستقبلونه، وأن تستمروا على ذلك، ( يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا ) أي:في الدنيا ( إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ) أي:في الدار الآخرة، قاله قتادة، كقوله: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [ النحل:97 ] ، وقد جاء في الصحيح:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسعد: « وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله، إلا أجِرْت بها، حتى ما تجعل في فِي امرأتك » .

وقال ابن جرير:حدثت عن المسيب بن شريك، عن أبي بكر، عن سعيد بن جُبير، عن ابن مسعود في قوله: ( وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ) قال:من عمل سيئة كتبت عليه سيئة، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات. فإن عوقب بالسيئة التي كان عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات، وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر واحدة وبقيت له تسع حسنات. ثم يقول:هلك من غلب آحاده أعشاره .

وقوله: ( وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ) هذا تهديد شديد لمن تولى عن أوامر الله تعالى، وكذب رسله، فإن العذاب يناله يوم معاده لا محالة، ( إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ ) أي:معادكم يوم القيامة، ( وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) أي:وهو القادر على ما يشاء من إحسانه إلى أوليائه، وانتقامه من أعدائه، وإعادة الخلائق يوم القيامة، وهذا مقام الترهيب، كما أن الأول مقام ترغيب.

أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 5 )

قال ابن عباس:كانوا يكرهون أن يستقبلوا السماء بفروجهم، وحال وقاعهم، فأنـزل الله هذه الآية. رواه البخاري من حديث ابن جُرَيْج، عن محمد بن عباد بن جعفر؛ أن ابن عباس قرأ: « أَلا إِنِّهُمْ تَثْنوني صُدُورهُم » ، فقلت:يا أبا عباس، ما تثنوني صدورهم؟ قال:الرجل كان يجامع امرأته فيستحيي - أو:يتخلى فيستحيي فنـزلت: « أَلا إِنِّهُمْ تَثْنوني صُدُورهُم » .

وفي لفظ آخر له:قال ابن عباس:أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا، فيفضوا إلى السماء، وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء، فنـزل ذلك فيهم.

ثم قال:حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا عمرو قال:قرأ ابن عباس « أَلا إِنِّهُمْ يَثْنوني صُدُورهُم لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتغْشُونَ ثِيَابَهُم » .

قال البخاري:وقال غيره، عن ابن عباس: ( يَسْتَغْشُونَ ) يغطون رءوسهم .

وقال ابن عباس في رواية أخرى في تفسير هذه الآية:يعني به الشك في الله، وعمل السيئات، وكذا روي عن مجاهد، والحسن، وغيرهم:أي أنهم كانوا يثنون صدورهم إذا قالوا شيئًا أو عملوه، يظنون أنهم يستخفون من الله بذلك، فأعلمهم الله تعالى أنهم حين يستغشون ثيابهم عند منامهم في ظلمة الليل، ( يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ ) من القول: ( وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) أي:يعلم ما تكن صدورهم من النيات والضمائر والسرائر. وما أحسن ما قال زهير بن أبي سلمى في معلقته المشهورة:

فَـلا تَكْـتُمُنَّ اللـه مـا فـي نفوسـكم ليخـفى, فمهمـا يُكـتم الله يَعْلم

يُؤخَـر فيـوضَع فـي كتـاب فَيُدخَــر ليوم حســاب, أو يُعَجـل فَيُنْقـمِ

فقد اعترف هذا الشاعر الجاهلي بوجود الصانع وعلمه بالجزئيات، وبالمعاد وبالجزاء، وبكتابة الأعمال في الصحف ليوم القيامة.

وقال عبد الله بن شداد:كان أحدهم إذا مر برسول الله صلى الله عليه وسلم ثنى صدره، وغطى رأسه فأنـزل الله ذلك.

وعود الضمير على الله أولى؛ لقوله: ( أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ) .

وقرأ ابن عباس: « أَلا إِنِّهُمْ تَثْنوني صُدُورُهُم » ، برفع الصدور على الفاعلية، وهو قريب المعنى.