الجزء 13

 

وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 53 )

تقول المرأة:ولست أبرئ نفسي، فإن النفس تتحدث وتتمنى؛ ولهذا راودته لأنها أمارة بالسوء، ( إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي ) أي:إلا من عصمه الله تعالى، ( إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

وهذا القول هو الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام. وقد حكاه الماوردي في تفسيره، وانتدب لنصره الإمام العلامة أبو العباس ابن تَيميَّة، رحمه الله، فأفرده بتصنيف على حدة

وقد قيل:إن ذلك من كلام يوسف، عليه السلام، من قوله: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ في زوجته بِالْغَيْبِ الآيتين أي:إنما رَدَدْتُ الرسول ليعلم الملك براءتي وليعلم العزيز أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ في زوجته بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [ الآية ] وهذا القول هو الذي لم يحك ابن جرير ولا ابن أبي حاتم سواه.

وقال ابن جرير:حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا وَكِيع، عن إسرائيل، عن سِمَاك، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال:لما جمع الملك النسوة فسألهن:هل راودتن يوسف عن نفسه؟ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ يُوسُفُ ( ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ] ) قال:فقال له جبريل، عليه السلام:ولا يوم هممت بما هممت به. فقال: ( وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ )

وهكذا قال مجاهد، وسعيد بن جُبَيْر، وعكرمة، وابن أبي الهُذَيل، والضحاك، والحسن، وقتادة، والسُّدي. والقول الأول أقوى وأظهر؛ لأن سياق الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك، ولم يكن يوسف، عليه السلام، عندهم، بل بعد ذلك أحضره الملك.

وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ( 54 ) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ( 55 )

يقول تعالى إخبارًا عن الملك حين تحقق براءة يوسف، عليه السلام، ونـزاهة عرْضه مما نسب إليه، قال: ( ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ) أي:أجعله من خاصّتي وأهل مشورتي ( فَلَمَّا كَلَّمَهُ ) أي:خاطبه الملك وعرفه، ورأى فضله وبراعته، وعلم ما هو عليه من خَلْق وخُلُق وكمال قال له الملك: ( إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ) أي:إنك عندنا قد بقيت ذا مكانة وأمانة، فقال يوسف، عليه السلام: ( اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) مدح نفسه، ويجوز للرجل ذلك إذا جُهِل أمره، للحاجة. وذكر أنه ( حَفِيظٌ ) أي:خازن أمين، ( عَلِيمٌ ) ذو علم وبصرَ بما يتولاه .

قال شيبة بن نعامة:حفيظ لما استودعتني، عليم بِسِني الجَدْب . رواه ابن أبي حاتم.

وسأل العمل لعلمه بقدرته عليه، ولما في ذلك من المصالح للناس وإنما سأل أن يُجْعَل على خزائن الأرض، وهي الأهرام التي يجمع فيها الغلات، لما يستقبلونه من السنين التي أخبرهم بشأنها، ليتصرف لهم على الوجه الأحوط والأصلح والأرشد، فأجيب إلى ذلك رغبةً فيه، وتكرِمَةً له؛ ولهذا قال تعالى:

وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ( 56 ) وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ( 57 )

يقول تعالى: ( وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ ) أي:أرض مصر، ( يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ )

قال السُّدِّي، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم:يتصرف فيها كيف يشاء.

وقال ابن جرير:يتخذ منها منـزلا حيث يشاء بعد الضيق والحبس والإسار. ( نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) أي:وما أضعنا صبر يوسف على أذى إخوته، وصبره على الحبس بسبب امرأة العزيز؛ فلهذا أعقبه الله عز وجل السلامة والنصر والتأييد، ( وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ) يخبر تعالى أن ما ادخره الله لنبيه يوسف، عليه السلام، في الدار الآخرة أعظم وأكثر وأجل، مما خوله من التصرف والنفوذ في الدنيا كما قال تعالى في حق سليمان، عليه السلام: هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ [ ص:39، 40 ] .

والغرض أن يوسف، عليه السلام، ولاه مَلك مصر الريانُ بن الوليد الوزارة في بلاد مصر، مكان الذي اشتراه من مصر زوج التي راودته، وأسلم الملك على يدي يوسف، عليه السلام.

قاله مجاهد. وقال محمد بن إسحاق لما قال يوسف للملك: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ قال الملك:قد فعلت. فولاه فيما ذكروا عمل إطفير وعزل إطفير عما كان عليه، يقول الله عز وجل: ( وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) فذكر لي - والله أعلم - أن إطفير هَلك في تلك الليالي، وأن الملك الريان بن الوليد زوَّج يوسف امرأة إطفير راعيل، وأنها حين دخلت عليه قال:أليس هذا خيرا مما كنت تريدين؟ قال:فيزعمون أنها قالت:أيها الصديق، لا تلمني، فإني كنت امرأة كما ترى حسناء جميلة، ناعمة في ملك ودنيا، وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله في حسنك وهيئتك على ما رأيت، فيزعمون أنه وجدها عذراء، فأصابها فولدت له رجلين أفرائيم بن يوسف، وميشا بن يوسف وولد لأفرائيم نون، والد يوشع بن نون، ورحمة امرأة أيوب، عليه السلام.

وقال الفضيل بن عياض:وقفت امرأة العزيز على ظهر الطريق، حتى مَرّ يوسف، فقالت:الحمد لله الذي جعل العبيد ملوكا بطاعته، والملوك عبيدا بمعصيته.

وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ( 58 ) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ( 59 ) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ ( 60 ) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ ( 61 ) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 62 )

ذكر السُّدي، ومحمد بن إسحاق، وغيرهما من المفسرين:أن السبب الذي أقدم إخوة يوسف بلاد مصر، أن يوسف، عليه السلام، لما باشر الوزارة بمصر، ومضت السبع السنين المخصبة، ثم تلتها سنينُ الجدب، وعمّ القحط بلاد مصر بكمالها، ووصل إلى بلاد كنعان، وهي التي فيها يعقوب، عليه السلام، وأولاده. وحينئذ احتاط يوسف، عليه السلام، للناس في غلاتهم، وجمعها أحسن جمع، فحصل من ذلك مبلغ عظيم، وأهراءَ متعددة هائلة، وورد عليه الناس من سائر الأقاليم والمعاملات، يمتارون لأنفسهم وعيالهم، فكان لا يعطى الرجل أكثر من حمل بعير في السنة. وكان، عليه السلام، لا يشبع نفسه ولا يأكل هو والملك وجنودهما إلا أكلة واحدة في وسط النهار، حتى يتكفى الناس بما في أيديهم مدة السبع سنين. وكان رحمة من الله على أهل مصر.

وما ذكره بعض المفسرين من أنه باعهم في السنة الأولى بالأموال، وفي الثانية بالمتاع، وفي الثالثة بكذا، وفي الرابعة بكذا، حتى باعهم بأنفسهم وأولادهم بعدما تَمَلَّك عليهم جميع ما يملكون، ثم أعتقهم وردّ عليهم أموالهم كلها، الله أعلم بصحة ذلك، وهو من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب.

والغرض أنه كان في جملة من ورد للميرة إخوةُ يوسف، عن أمر أبيهم لهم في ذلك، فإنه بلغهم أن عزيز مصر يعطي الناس الطعام بثمنه، فأخذوا معهم بضاعة يعتاضون بها طعاما، وركبوا عشرة نفر، واحتبس يعقوب، عليه السلام، عنده بنيامين شقيق يوسف، عليهما السلام، وكان أحب ولده إليه بعد يوسف. فلما دخلوا على يوسف، وهو جالس في أبهته ورياسته وسيادته، عرفهم حين نظر إليهم، ( وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ) أي:لا يعرفونه؛ لأنهم فارقوه وهو صغير حدث فباعوه للسيارة، ولم يدروا أين يذهبون به، ولا كانوا يستشعرون في أنفسهم أن يصير إلى ما صار إليه، فلهذا لم يعرفوه، وأما هو فعرفهم.

فذكر السدي وغيره:أنه شرع يخاطبهم، فقال لهم كالمنكر عليهم:ما أقدمكم بلادي؟ قالوا:أيها العزيز، إنا قدمنا للميرة. قال:فلعلكم عيون؟ قالوا:معاذ الله. قال:فمن أين أنتم؟ قالوا:من بلاد كنعان، وأبونا يعقوب نبي الله. قال:وله أولاد غيركم؟ قالوا:نعم، كنا اثني عشر، فذهب أصغرنا، هلك في البَرِيَّة، وكان أحبنا إلى أبيه، وبقي شقيقه فاحتبسه أبوه ليتسلى به عنه. فأمر بإنـزالهم وإكرامهم.

( وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ ) أي:وَفَّاهم كيلهم، وحمل لهم أحمالهم قال:ائتوني بأخيكم هذا الذي ذكرتم، لأعلم صدقكم فيما ذكرتم، ( أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنـزلِينَ ) يرغبهم في الرجوع إليه، ثم رَهَّبَهم فقال: ( فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ ) أي:إن لم تقدموا به معكم في المرة الثانية، فليس لكم عندي ميرة، ( وَلا تَقْرَبُونِ * قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ ) أي:سنحرص على مجيئه إليك بكل ممكن ولا نبقي مجهودا لتعلم صدقنا فيما قلناه.

وذكر السدي:أنه أخذ منهم رهائن حتى يقدموا به معهم. وفي هذا نظر؛ لأنه أحسن إليهم ورغبهم كثيرا، وهذا لحرصه على رجوعهم.

( وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ ) أي:غلمانه ( اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ ) وهي التي قدموا بها ليمتاروا عوضا عنها ( فِي رِحَالِهِمْ ) أي:في أمتعتهم من حيث لا يشعرون، ( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) بها.

قيل:خشي يوسف، عليه السلام، ألا يكون عندهم بضاعة أخرى يرجعون للميرة بها. وقيل:تذمم أن يأخذ من أبيه وإخوته عوضا عن الطعام. وقيل:أراد أن يردهم إذا وجدوها في متاعهم تحرجًا وتورعًا لأنه يعلم ذلك منهم والله أعلم.

فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( 63 )

يخبر تعالى عنهم إنهم رجعوا إلى أبيهم ( قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ ) يعنون بعد هذه المرة، إن لم ترسل معنا أخانا بنيامين، فأرسله معنا نكتل.

وقرأ بعضهم: [ يكتل ] بالياء، أي يكتل هو، ( وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) أي:لا تخف عليه فإنه سيرجع إليك.

 

قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ( 64 )

وهذا كما قالوا له في يوسف: أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ؛ ولهذا قال لهم: ( هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ ) أي:هل أنتم صانعون به إلا كما صنعتم بأخيه من قبل، تغيبونه عني، وتحولون بيني وبينه؟ ( فَاللَّهُ خَيْرٌ حفظًا ) وقرأ بعضهم: « حَافِظًا » ( وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) أي:هو أرحم الراحمين بي، وسيرحم كبري وضعفي ووجدي بولدي، وأرجو من الله أن يرده علي، ويجمع شملي به، إنه أرحم الراحمين.

وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ( 65 ) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ( 66 )

يقول تعالى:ولما فتح إخوة يوسف متاعهم، وجدوا بضاعتهم ردّت إليهم، وهي التي كان أمر يوسف فتيانه بوضعها في رحالهم، فلما وجدوها في متاعهم ( قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي ) ؟ أي:ماذا نريد؟ ( هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا ) كما قال قتادة. ما نبغي وراء هذا ؟ إن بضاعتنا ردت إلينا وقد أوفي لنا الكيل.

( وَنَمِيرُ أَهْلَنَا ) أي:إذا أرسلت أخانا معنا نأتي بالميرة إلى أهلنا، ( وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنـزدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ) وذلك أن يوسف، عليه السلام، كان يعطي كل رجل حمل بعير. وقال مجاهد:حمل حمار. وقد يسمى في بعض اللغات بعيرا، كذا قال.

( ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ) هذا من تمام الكلام وتحسينه، أي:إن هذا يسير في مقابلة أخذ أخيهم ما يعدل هذا.

قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ ) أي:تحلفون بالعهود والمواثيق، ( لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ ) إلا أن تغلبوا كلكم ولا تقدرون على تخليصه.

( فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ ) أكده عليهم فقال: ( اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ )

قال ابن إسحاق:وإنما فعل ذلك؛ لأنه لم يجد بدا من بعثهم لأجل الميرة، التي لا غنى لهم عنها، فبعثه معهم.

وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ( 67 ) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ( 68 )

يقول تعالى، إخبارا عن يعقوب، عليه السلام:إنه أمر بنيه لما جهزهم مع أخيهم بنيامين إلى مصر، ألا يدخلوا كلهم من باب واحد، وليدخلوا من أبواب متفرقة، فإنه كما قال ابن عباس، ومحمد بن كعب، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، والسُّدِّي:إنه خشي عليهم العين، وذلك أنهم كانوا ذوي جمال وهيئة حسنة، ومنظر وبهاء، فخشي عليهم أن يصيبهم الناس بعيونهم؛ فإن العين حق، تستنـزل الفارس عن فرسه.

وروى ابن أبي حاتم، عن إبراهيم النَّخّعي في قوله: ( وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ) قال:علم أنه سيلقى إخوته في بعض الأبواب.

وقوله: ( وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ) أي:هذا الاحتراز لا يرد قدر الله وقضاءه ؛ فإن الله إذا أراد شيئا لا يخالف ولا يمانع ( إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا ) قالوا:هي دفع إصابة العين لهم، ( وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ ) قال قتادة والثوري:لذو عمل بعلمه. وقال ابن جرير:لذو علم لتعليمنا إياه، ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ )

وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 69 )

يخبر تعالى عن إخوة يوسف لما قدموا على يوسف ومعهم أخوه شقيقه بنيامين، فأدخلهم دار كرامته ومنـزل ضيافته، وأفاض عليهم الصلة والإلطاف والإحسان، واختلى بأخيه فأطلعه على شأنه، وما جرى له، وعَرّفه أنه أخوه، وقال له: « لا تبتئس » أي:لا تأسف على ما صنعوا بي، وأمره بكتمان ذلك عنهم، وألا يطلعهم على ما أطلعه عليه من أنه أخوه، وتواطأ معه أنه سيحتال على أن يبقيه عنده، مُعزّزًا مكرما معظما.

 

فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ( 70 ) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ ( 71 ) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ( 72 )

لما جهزهم وحَمَّل لهم أبعرتهم طعاما، أمر بعض فتيانه أن يضع « السقاية » ، وهي:إناء من فضة في قول الأكثرين. وقيل:من ذهب - قاله ابن زيد - كان يشرب فيه، ويكيل للناس به من عزَّة الطعام إذ ذاك، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وعبد الرحمن بن زيد.

وقال شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( صُوَاعَ الْمَلِكِ ) قال:كان من فضة يشربون فيه، وكان مثل المكوك، وكان للعباس مثلُه في الجاهلية، فوضعها في متاع بنيامين من حيث لا يشعر أحد، ثم نادى مناد بينهم: ( أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ) فالتفتوا إلى المنادي وقالوا: ( مَاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ ) أي:صاعه الذي يكيل به، ( وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ ) وهذا من باب الجُعَالة، ( وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) وهذا من باب الضمان والكفالة.

قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ( 73 ) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ ( 74 ) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ( 75 ) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ( 76 )

لما اتهمهم أولئك الفتيان بالسرقة، قال لهم إخوة يوسف: ( تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ) أي:لقد تحققتم وعلمتم منذ عرفتمونا، لأنهم شاهدوا منهم سيرة حسنة، أنَّا ما جئنا للفساد في الأرض، وما كنا سارقين، أي:ليست سجايانا تقتضي هذه الصفة، فقال لهم الفتيان: ( فَمَا جَزَاؤُهُ ) أي:السارق، إن كان فيكم ( إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ ) أي:أي شيء يكون عقوبته إن وجدنا فيكم من أخذه ؟ ( قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ )

وهكذا كانت شريعة إبراهيم:أن السارق يدفع إلى المسروق منه. وهذا هو الذي أراد يوسف، عليه السلام؛ ولهذا بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه، أي فتشها قبله، تورية، ( ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ ) فأخذه منهم بحكم اعترافهم والتزامهم وإلزاما لهم بما يعتقدونه؛ ولهذا قال تعالى: ( كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ) وهذا من الكيد المحبوب المراد الذي يحبه الله ويرضاه، لما فيه من الحكمة والمصلحة المطلوبة.

وقوله: ( مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ ) أي:لم يكن له أخذه في حكم ملك مصر، قاله الضحاك وغيره.

وإنما قيض الله له أن التزم له إخوته بما التزموه، وهو كان يعلم ذلك من شريعتهم؛ ولهذا مدحه تعالى فقال: ( نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ ) كما قال تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [ المجادلة:11 ] .

( وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) قال الحسن البصري:ليس عالم إلا فوقه عالم، حتى ينتهي إلى الله عز وجل. وكذا رَوَى عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن عبد الأعلى الثعلبي، عن سعيد بن جبير قال كنا عند ابن عباس فتحدث بحديث عجيب، فتعجب رجل فقال:الحمد لله فوق كل ذي علم عليم [ فقال ابن عباس:بئس ما قلت، الله العليم، وهو فوق كل عالم ] وكذا روى سماك، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس: ( وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) قال:يكون هذا أعلم من هذا، وهذا أعلم من هذا، والله فوق كل عالم. وهكذا قال عكرمة.

وقال قتادة: ( وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) حتى ينتهي العلم إلى الله، منه بُدئ وتعلمت العلماء، وإليه يعود، وفي قراءة عبد الله « وَفَوْقَ كُلِّ عالم عليم » .

قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ ( 77 )

وقال إخوة يوسف لما رأوا الصّواع قد أخرج من متاع بنيامين: ( إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ) يتنصلون إلى العزيز من التشبه به، ويذكرون أن هذا فعل كما فَعَل أخ له من قبل، يعنون به يوسف، عليه السلام.

قال سعيد بن جبير، عن قتادة كان يوسف قد سرق صنما لجده، أبي أمه، فكسره.

وقال محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نَجِيح، عن مجاهد قال:كان أول ما دخل على يوسف من البلاء، فيما بلغني، أن عمته ابنة إسحاق، وكانت أكبر ولد إسحاق، وكانت إليها منطقة إسحاق، وكانوا يتوارثونها بالكبر، فكان من اختباها ممن وليها كان له سَلَما لا ينازع فيه، يصنع فيه ما يشاء وكان يعقوب حين وُلِدَ له يوسف قد حضنته عمته، فكان منها وإليها، فلم يُحب أحدٌ شيئا من الأشياء حبها إياه، حتى إذا ترعرع وبلغ سنوات وقعت نفس يعقوب عليه فأتاها، فقال:يا أخيَّه سلّمى إليّ يوسف، فوالله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة. قالت:فوالله ما أنا بتاركته. ثم قالت:فدعه عندي أياما أنظر إليه وأسكن عنه، لعل ذلك يسلّيني عنه - أو كما قالت. فلما خرج من عندها يعقوب، عمدت إلى منطقة إسحاق، فحزمتها على يوسف من تحت ثيابه، ثم قالت:فقدت منطقة إسحاق، عليه السلام، فانظروا من أخذها ومن أصابها؟ فالتمست ثم قالت:اكشفوا أهل البيت. فكشفوهم فوجدوها مع يوسف. فقالت:والله إنه لي لسَلَمٌ، أصنع فيه ما شئت. فأتاها يعقوب فأخبرته الخبر. فقال لها:أنت وذاك، إن كان فعل ذلك فهو سَلَم لك ما أستطيع غير ذلك. فأمسكته فما قدر عليه يعقوب حتى ماتت. قال:فهو الذي يقول إخوة يوسف حين صنع بأخيه ما صنع حين أخذه: ( إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ) .

وقوله: ( فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ ) يعني:الكلمة التي بعدها، وهي قوله: ( أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ ) أي:تذكرون. قال هذا في نفسه، ولم يبده لهم، وهذا من باب الإضمار قبل الذكر، وهو كثير، كقول الشاعر:

جَـزَى بَنُـوه أبـا الغيـلان عـن كبَرٍ وحسْـــن فعـــل كما يُجزَى سنمّار

وله شواهد كثيرة في القرآن والحديث واللغة، في منثورها وأخبارها وأشعارها.

قال العوفي، عن ابن عباس: ( فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ ) قال:أسر في نفسه: ( أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ )

قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ( 78 )

لما تعين أخْذ بنيامين وتقرر تركه عند يوسف بمقتضى اعترافهم، شرعوا يترققون له ويعطفونه عليهم، ف ( قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا ) يعنون:وهو يحبه حبا شديدا ويتسلى به عن ولده الذي فقده، ( فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ ) أي:بدله، يكون عندك عِوَضًا عنه، ( إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) أي:من العادلين المنصفين القابلين للخير.

 

قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ ( 79 )

( قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ ) أي:كما قلتم واعترفتم، ( إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ ) [ أي ] إن أخذنا بريئا بسقيم.

فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ( 80 ) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ( 81 ) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ( 82 )

يخبر تعالى عن إخوة يوسف:أنهم لما يئسوا من تخليص أخيهم بنيامين، الذي قد التزموا لأبيهم برده إليه، وعاهدوه على ذلك، فامتنع عليهم ذلك، ( خَلَصُوا ) أي:انفردوا عن الناس ( نَجِيًّا ) يتناجون فيما بينهم.

قَالَ كَبِيرُهُمْ ) وهو رُوبيل، وقيل:يهوذا، وهو الذي أشار عليهم بإلقائه في البئر عندما همّوا بقتله، قال لهم: ( أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ ) لتردنَّه إليه، فقد رأيتم كيف تعذر عليكم ذلك مع ما تقدم لكم من إضاعة يوسف عنه، ( فَلَنْ أَبْرَحَ الأرْضَ ) أي:لن أفارق هذه البلدة، ( حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي ) في الرجوع إليه راضيًا عني، ( أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي ) قيل:بالسيف. وقيل:بأن يمكنني من أخذ أخي، ( وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ) .

ثم أمرهم أن يخبروا أباهم بصورة ما وقع، حتى يكون عذرا لهم عنده ويتنصلوا إليه، ويبرءوا مما وقع بقولهم.

وقوله: ( وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ) قال عكرمة وقتادة:ما [ كنا ] نعلم أن ابنك سرق .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:ما علمنا في الغيب أنه يسرق له شيئا، إنما سألنا ما جزاء السارق؟

( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا ) قيل:المراد مصر. قاله قتادة، وقيل:غيرها، ( وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا ) أي:التي رافقناها، عن صدقنا وأمانتنا وحفظنا وحراستنا، ( وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ) فيما أخبرناك به، من أنه سرق وأخذوه بسرقته.

قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( 83 ) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ( 84 ) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ( 85 ) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 86 )

قال لهم كما قال لهم حين جاءوا على قميص يوسف بدم كذب: ( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ )

قال محمد بن إسحاق:لما جاءوا يعقوب وأخبروه بما يجري اتهمهم، وظن أنها كفعلتهم بيوسف ( قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) .

وقال بعض الناس:لما كان صنيعهم هذا مرتبا على فعلهم الأول، سُحب حكم الأول عليه، وصح قوله: ( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ )

ثم ترجى من الله أن يرد عليه أولاده الثلاثة:يوسف وأخاه بنيامين، وروبيل الذي أقام بديار مصر ينتظر أمر الله فيه، إما أن يرضى عنه أبوه فيأمره بالرجوع إليه، وإما أن يأخذ أخاه خفية؛ ولهذا قال: ( عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ ) أي:العليم بحالي، ( الْحَكِيمُ ) في أفعاله وقضائه وقدره.

( وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ ) أي:أعرض عن بنيه وقال متذكرا حُزنَ يوسف القديم الأول: ( يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ ) جَدَّد له حزنُ الابنين الحزن الدفين.

قال عبد الرزاق، أخبرنا الثوري، عن سفيان العُصْفُريّ، عن سعيد بن جبير أنه قال:لم يعط أحد غيرَ هذه الأمة الاسترجاع، ألا تسمعون إلى قول يعقوب، عليه السلام: ( يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ) أي:ساكت لا يشكو أمره إلى مخلوق قاله قتادة وغيره.

وقال الضحاك: ( فَهُوَ كَظِيمٌ ) كميد حزين.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا حماد بن سلمة [ حدثنا أبو موسى ] ، عن علي بن زيد عن الحسن، عن الأحنف بن قيس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن داود عليه السلام، قال:يا رب، إن بني إسرائيل يسألونك بإبراهيم وإسحاق ويعقوب، فاجعلني لهم رابعا. فأوحى الله تعالى إليه أن يا داود، إن إبراهيم ألقي في النار بسببي فصبر، وتلك بلية لم تنلك، وإن إسحاق بذل مهجة دمه في سببي فصبر، وتلك بلية لم تنلك، وإن يعقوب أخذت منه حبيبه حتى ابيضت عيناه من الحزن، فصبر، وتلك بلية لم تنلك » .

وهذا مرسل، وفيه نكارة ؛ فإن الصحيح أن إسماعيل هو الذبيح، ولكن علي بن زيد بن جُدْعَان له مناكير وغرائب كثيرة، والله أعلم.

وأقرب ما في هذا أن يكون قد حكاه الأحنف بن قيس، رحمه الله، عن بني إسرائيل ككعب ووهب ونحوهما، والله أعلم، فإن الإسرائيليين ينقلون أن يعقوب كتب إلى يوسف لما احتبس أخاه بسبب السرقة يتلطف له في رده، ويذكر له أنهم أهل بيت مصابون بالبلاء، فإبراهيم ابتلي بالنار، وإسحاق بالذبح، ويعقوب بفراق يوسف، في حديث طويل لا يصح، والله أعلم، فعند ذلك رق له بنوه، وقالوا له على سبيل الرفق به والشفقة عليه: ( قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ ) أي:لا تفارق تَذَكُّر يوسف، ( حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا ) أي:ضعيف الجسم، ضعيف القوة، ( أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ) يقولون:وإن استمر بك هذا الحال خشينا عليك الهلاك والتلف.

( قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ ) أي:أجابهم عما قالوا بقوله: ( إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي ) أي:همي وما أنا فيه ( إِلَى اللَّهِ ) وحده ( وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) أي:أرجو منه كل خير.

وعن ابن عباس: ( وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) [ يعني رؤيا يوسف أنها صدق وأن الله لا بد أن يظهرها وينجزها. وقال العوفي عن ابن عباس: ( وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) أعلم أن رؤيا يوسف صادقة، وأني سوف أسجد له.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا يحيى بن عبد الملك بن أبي غَنَيَّة، عن حفص بن عمر بن أبي الزبير، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كان ليعقوب النبي، عليه السلام، أخ مُؤاخ له، فقال له ذات يوم:ما الذي أذهب بصرك وقوّس ظهرك؟ قال:الذي أذهب بصري البكاء على يوسف، وأما الذي قوس ظهري فالحزن على بنيامين، فأتاه جبريل، عليه السلام، فقال:يا يعقوب، إن الله يُقرئك السلام ويقول لك:أما تستحيي أن تشكوني إلى غيري؟ فقال يعقوب:إنما أشكو بثي وحزني إلى الله. فقال جبريل، عليه السلام:الله أعلم بما تشكو » .

وهذا حديث غريب، فيه نكارة.

 

يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ( 87 ) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ( 88 )

يقول تعالى مخبرا عن يعقوب، عليه السلام، إنه ندب بنيه على الذهاب في الأرض، يستعلمون أخبار يوسف وأخيه بنيامين.

والتحسس يكون في الخير، والتجسس يستعمل في الشر.

ونَهّضهم وبشرهم وأمرهم ألا ييأسوا من روح الله، أي:لا يقطعوا رجاءهم وأملهم من الله فيما يرومونه ويقصدونه فإنه لا يقطع الرجاء، ويقطع الإياس من الله إلا القوم الكافرون .

وقوله: ( فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ ) تقدير الكلام:فذهبوا فدخلوا بلد مصر، ودخلوا على يوسف، ( قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ ) يعنون من الجدب والقحط وقلة الطعام، ( وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ ) أي:ومعنا ثمن الطعام الذي تمتاره، وهو ثمن قليل. قاله مجاهد، والحسن، وغير واحد.

وقال ابن عباس:الرديء لا يَنفُق، مثل خَلَق الغِرارة، والحبل، والشيء، وفي رواية عنه:الدراهم الرديئة التي لا تجوز إلا بنقصان. وكذا قال قتادة، والُّسدي.

وقال سعيد بن جبير [ وعكرمة ] هي الدراهم الفُسُول.

وقال أبو صالح:هو الصنوبر وحبة الخضراء.

وقال الضحاك:كاسدة لا تنفق.

وقال أبو صالح:جاءوا بحَبِّ البُطْم الأخضر والصنوبر.

وأصل الإزجاء:الدفع لضعف الشيء، كما قال حاتم الطائي:

ليَبْـك عَـلى مِلْحَـانَ ضَيـفٌ مُـدَفَّعٌ وَأرمَلَـةٌ تُزْجـي مَـعَ الليـل أرمَـلا

وقال أعشى بني ثعلبة:

الــوَاهبُ المائـةِ الهجَـان وعَبدِهـا عُــوذًا تُزَجِّــي خَلْفَهــا أطْفَالَهـا

وقوله إخبارا عنهم: ( فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ ) أي:أعطنا بهذا الثمن القليل ما كنت تعطينا قبل ذلك. وقرأ ابن مسعود: « فأوقرْ ركابنا وتصدق علينا » .

وقال ابن جريج: ( وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ) برَدِّ أخينا إلينا.

وقال سعيد بن جبير والسدي: ( وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ) يقولون:تصدق علينا بقبض هذه البضاعة المزجاة، وتجوز فيها.

وسئل سفيان بن عُيُيْنَة:هل حرمت الصدقة على أحد من الأنبياء قبل النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال:ألم تسمع قوله: ( فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ) رواه ابن جرير عن الحارث، عن القاسم، عنه .

وقال ابن جرير:حدثنا الحارث، حدثنا القاسم، حدثنا مروان بن معاوية، عن عثمان بن الأسود:سمعت مجاهدا وسئل:هل يكره أن يقول الرجل في دعائه:اللهم تصدق علي؟ فقال:نعم، إنما الصدقة لمن يبتغي الثواب.

قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ( 89 ) قَالُوا أَئِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ( 90 ) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ( 91 ) قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ( 92 )

يقول تعالى مخبرا عن يوسف، عليه السلام:أنه لما ذكر له إخوته ما أصابهم من الجهد والضيق وقلة الطعام وعموم الجدب، وتذكر أباه وما هو فيه من الحزن لفقد ولديه، مع ما هو فيه من الملك والتصرف والسعة، فعند ذلك أخذته رقة ورأفة ورحمة وشفقة على أبيه وإخوته، وبدره البكاء، فتعرف إليهم، يقال إنه رفع التاج عن جبهته، وكان فيها شامة، وقال: ( هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ) ؟ يعني:كيف فرقوا بينه وبينه ( إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ) أي:إنما حملكم على هذا الجهل بمقدار هذا الذي ارتكبتموه، كما قال بعض السلف:كل من عصى الله فهو جاهل، وقرأ: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ إلى قوله: إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [ النحل:119 ] .

والظاهر - والله أعلم - أن يوسف، عليه السلام، إنما تعرف إليهم بنفسه، بإذن الله له في ذلك، كما أنه إنما أخفى منهم نفسه في المرتين الأوليين بأمر الله تعالى له في ذلك، والله أعلم، ولكن لما ضاق الحال واشتد الأمر، فَرَّج الله تعالى من ذلك الضيق، كما قال تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [ الشرح:5 ، 6 ] ، فعند ذلك قالوا: ( أَئِنَّكَ لأنْتَ يُوسُفُ ) ؟

وقرأ أبيّ بن كعب: « أو أنت يُوسُفُ » ، وقرأ ابن مُحَيْصِن: « إنَّك لأنتَ يُوسُفُ » . والقراءة المشهورة هي الأولى؛ لأن الاستفهام يدل على الاستعظام، أي:إنهم تَعجَّبوا من ذلك أنهم يترددون إليه من سنتين وأكثر، وهم لا يعرفونه، وهو مع هذا يعرفهم ويكتم نفسه، فلهذا قالوا على سبيل الاستفهام: ( أَئِنَّكَ لأنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي ) ( قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ) أي:بجمعه بيننا بعد التفرقة وبعد المدة، ( إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ) يقولون معترفين له بالفضل والأثرة عليهم في الخلق والخلق، والسعة والملك، والتصرف والنبوة أيضا - على قول من لم يجعلهم أنبياء - وأقروا له بأنهم أساءوا إليه وأخطئوا في حقه.

( قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ) يقول:لا تأنيب عليكم ولا عَتْب عليكم اليوم، ولا أعيد ذنبكم في حقي بعد اليوم.

ثم زادهم الدعاء لهم بالمغفرة فقال: ( يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ )

قال السدي:اعتذروا إلى يوسف، فقال: ( لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ) يقول:لا أذكر لكم ذنبكم.

وقال ابن إسحاق والثوري: ( لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ [ الْيَوْمَ ] ) أي:لا تأنيب عليكم اليوم عندي فيما صنعتم ( يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ) أي:يستر الله عليكم فيما فعلتم، ( وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ )

اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ( 93 ) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ ( 94 ) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ ( 95 )

يقول:اذهبوا بهذا القميص، ( فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا ) وكان قد عَميَ من كثرة البكاء، ( وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ) أي:بجميع بني يعقوب.

( وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ ) أي:خرجت من مصر، ( قَالَ أَبُوهُمْ ) يعني:يعقوب، عليه السلام، لمن بقي عنده من بنيه: ( إِنِّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ ) تنسبوني إلى الفَنَد والكِبَر.

قال عبد الرزاق:أنبأنا إسرائيل، عن أبي سِنَان، عن عبد الله بن أبي الهُذَيْل قال:سمعت ابن عباس يقول: ( وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ ) قال:لما خرجت العير، هاجت ريح فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف فقال: ( إِنِّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ ) قال:فوجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام .

وكذا رواه سفيان الثوري، وشعبة، وغيرهما عن أبي سِنَان، به.

وقال الحسن وابن جُرَيْج:كان بينهما ثمانون فرسخا، وكان بينه وبينه منذ افترقا ثمانون سنة.

وقوله: ( لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ ) قال ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وقتادة، وسعيد بن جُبَيْر:تُسَفّهون.

وقال مجاهد أيضا، والحسن:تُهرّمون.

وقولهم: ( إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ ) قال ابن عباس:لفي خطئك القديم.

وقال قتادة:أي من حب يوسف لا تنساه ولا تسلاه، قالوا لوالدهم كلمةً غليظة، لم يكن ينبغي لهم أن يقولوها لوالدهم، ولا لنبي الله صلى الله عليه وسلم وكذا قال السدي، وغيره.

 

فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 96 ) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ( 97 ) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( 98 )

قال ابن عباس والضحاك: ( الْبَشِيرُ ) البريد.

وقال مجاهد والسدي:كان يهوذا بن يعقوب.

قال السدي:إنما جاء به لأنه هو الذي جاء بالقميص وهو ملطخ بدم كَذب، فأراد أن يغسل ذلك بهذا، فجاء بالقميص فألقاه على وجه أبيه، فرجع بصيرا.

وقال لبنيه عند ذلك: ( أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) أي:أعلم أن الله سيرده إليَّ، وقلت لكم: إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ ؟. فعند ذلك قالوا لأبيهم مترفقين له: ( يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) أي:من تاب إليه تاب عليه.

قال ابن مسعود، وإبراهيم التَّيْمِيّ، وعمرو بن قيس، وابن جُرَيْج وغيرهم:أرجأهم إلى وقت السَّحَر.

وقال ابن جرير:حدثني أبو السائب، حدثنا ابن إدريس، سمعت عبد الرحمن بن إسحاق يذكر عن محارب بن دثار قال:كان عمر، رضي الله عنه، يأتي المسجد فيسمع إنسانا يقول: « اللهم دعوتني فأجبت، وأمرتني فأطعت، وهذا السَّحَرُ فاغفر لي » . قال:فاستمع الصوت فإذا هو من دار عبد الله بن مسعود. فسأل عبد الله عن ذلك فقال:إن يعقوب أخَّر بنيه إلى السحر بقوله: ( سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي )

وقد ورد في الحديث أن ذلك كان ليلة جمعة، كما قال ابن جرير:أيضا:حدثني المثنى، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن أبو أيوب الدمشقي، حدثنا الوليد، أنبأنا ابن جُرَيْج، عن عطاء وعِكْرِمة، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ) يقول:حتى تأتي ليلة الجمعة، وهو قول أخي يعقوب لبنيه .

وهذا غريب من هذا الوجه، وفي رفعه نظر، والله أعلم.

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ( 99 ) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( 100 )

يخبر تعالى عن ورود يعقوب، عليه السلام، على يوسف، عليه السلام، وقدومه بلاد مصر، لما كان يوسف قد تقدم إلى إخوته أن يأتوه بأهلهم أجمعين، فتحملوا عن آخرهم وترحلوا من بلاد كنعان قاصدين بلاد مصر، فلما أخبر يوسف، عليه السلام، باقترابهم خرج لتلقيهم، وأمر [ الملك ] أمراءه وأكابر الناس بالخروج [ مع يوسف ] لتلقي نبي الله يعقوب، عليه السلام، ويقال:إن الملك خرج أيضا لتلقيه، وهو الأشبه.

وقد أشكل قوله: ( آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ ) على كثير من المفسرين، فقال بعضهم:هذا من المقدم والمؤخر، ومعنى الكلام: ( وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ) وآوى إليه أبويه، ورفعهما على العرش.

وقد رد ابن جرير هذا. وأجاد في ذلك. ثم اختار ما حكاه عن السٌّدِّي:أن يوسف آوى إليه أبويه لما تلقاهما، ثم لما وصلوا باب البلد قال: ( ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ )

وفي هذا نظر أيضا؛ لأن الإيواء إنما يكون في المنـزل، كقوله: آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ وفي الحديث: « من أوى محدثا » وما المانع أن يكون قال لهم بعدما دخلوا عليه وآواهم إليه: ( ادْخُلُوا مِصْرَ ) وضمَّنه:اسكنوا مصر ( إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ) أي:مما كنتم فيه من الجهد والقحط، ويقال - والله أعلم - :إن الله تعالى رفع عن أهل مصر بقية السنين المجدبة ببركة قدوم يعقوب عليهم، كما رفع بقية السنين التي دعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل مكة حين قال: « اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف » ، ثم لما تضرعوا إليه واستشفعوا لديه، وأرسلوا أبا سفيان في ذلك، فدعا لهم، فَرُفِعَ عنهم بقية ذلك ببركة دعائه، عليه السلام .

وقوله: ( آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ) قال السدي، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم:إنما كان أباه وخالته، وكانت أمه قد ماتت قديما.

وقال محمد بن إسحاق وابن جرير:كان أبوه وأمه يعيشان.

قال ابن جرير:ولم يقم دليل على موت أمه، وظاهر القرآن يدل على حياتها. وهذا الذي نصره هو المنصور الذي يدل عليه السياق.

وقوله: ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ) قال ابن عباس، ومجاهد، وغير واحد:يعني السرير، أي:أجلسهما معه على سريره.

( وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ) أي:سجد له أبواه وإخوته الباقون، وكانوا أحد عشر رجلا ( وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ ) أي:التي كان قصها على أبيه إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [ يوسف:4 ]

وقد كان هذا سائغا في شرائعهم إذا سلَّموا على الكبير يسجدون له، ولم يزل هذا جائزًا من لدن آدم إلى شريعة عيسى، عليه السلام، فحرم هذا في هذه الملة، وجُعل السجود مختصا بجناب الرب سبحانه وتعالى.

هذا مضمون قول قتادة وغيره.

وفي الحديث أن معاذا قدم الشام، فوجدهم يسجدون لأساقفتهم، فلما رجع سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: « ما هذا يا معاذ؟ » فقال:إني رأيتهم يسجدون لأساقفتهم، وأنت أحق أن يسجد لك يا رسول الله فقال: « لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد، لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها من عِظم حقه عليها »

وفي حديث آخر:أن سلمان لقي النبي صلى الله عليه وسلم في بعض طُرُق المدينة، وكان سلمان حديث عهد بالإسلام، فسجد للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: « لا تسجد لي يا سلمان، واسجد للحي الذي لا يموت » .

والغرض أن هذا كان جائزا في شريعتهم؛ ولهذا خروا له سُجَّدًا، فعندها قال يوسف: ( يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ) أي:هذا ما آل إليه الأمر، فإن التأويل يطلق على ما يصير إليه الأمر، كما قال تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ [ الأعراف:53 ] أي:يوم القيامة يأتيهم ما وعدوا من خير وشر.

وقوله: ( قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ) أي:صحيحة صِدْقا، يذكر نعم الله عليه، ( وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ ) أي:البادية.

قال ابن جُرَيْج وغيره:كانوا أهل بادية وماشية. وقال:كانوا يسكنون بالعَربَات من أرض فلسطين، من غور الشام. قال:وبعض يقول:كانوا بالأولاج من ناحية شعب أسفل من حسمَى، وكانوا أصحاب بادية وشاء وإبل.

( مِنْ بَعْدِ أَنْ نـزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ) [ ثم قال ] ( إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ ) أي:إذا أراد أمرا قيض له أسبابا ويسره وقدره، ( إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ ) بمصالح عباده ( الْحَكِيمُ ) في أفعاله وأقواله، وقضائه وقدره، وما يختاره ويريده.

قال أبو عثمان النهدي، عن سليمان كان بين رؤيا يوسف وتأويلها أربعون سنة.

قال عبد الله بن شداد:وإليها ينتهي أقصى الرؤيا. رواه ابن جرير.

وقال أيضا:حدثنا عمرو بن علي، حدثنا عبد الوهاب الثقفي، حدثنا هشام، عن الحسن قال:كان منذ فارق يوسف يعقوب إلى أن التقيا، ثمانون سنة، لم يفارق في الحزن قلبه، ودموعه تجري على خديه، وما على وجه الأرض عبد أحب إلى الله من يعقوب .

وقال هُشَيْم، عن يونس، عن الحسن:ثلاث وثمانون سنة.

وقال مبارك بن فضالة، عن الحسن:ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة، فغاب عن أبيه ثمانين سنة، وعاش بعد ذلك ثلاثا وعشرين سنة، فمات وله عشرون ومائة سنة.

وقال قتادة:كان بينهما خمس وثلاثون سنة.

وقال محمد بن إسحاق:ذُكر - والله أعلم - أن غيبة يوسف عن يعقوب كانت ثماني عشرة سنة - قال:وأهل الكتاب يزعمون أنها كانت أربعين سنة أو نحوها، وأن يعقوب، عليه السلام، بقي مع يوسف بعد أن قدم عليه مصر سبع عشرة سنة، ثم قبضه الله إليه.

وقال أبو إسحاق السَّبِيعي، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال:دخل بنو إسرائيل مصر، وهم ثلاثة وستون إنسانا، وخرجوا منها وهم ستمائة ألف وسبعون ألفا.

وقال أبو إسحاق، عن مسروق:دخلوا وهم ثلثمائة وتسعون من بين رجل وامرأة. والله أعلم.

وقال موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القُرَظي، عن عبد الله بن شداد:اجتمع آل يعقوب إلى يوسف بمصر. وهم ستة وثمانون إنسانا، صغيرهم وكبيرهم، وذكرهم وأنثاهم، وخرجوا منها وهم ستمائة ألف ونيف.

رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ( 101 )

هذا دعاء من يوسف الصديق، دعا به ربه عز وجل، لما تمت النعمة عليه، باجتماعه بأبويه وإخوته، وما مَنَّ الله به عليه من النبوة والملك، سأل ربه عز وجل، كما أتم نعمته عليه في الدنيا أن يستمر بها عليه في الآخرة، وأن يتوفاه مسلما حين يتوفاه. قاله الضحاك، وأن يلحقه بالصالحين، وهم إخوانه من النبيين والمرسلين، صلوات الله وسلامه [ عليه و ] عليهم أجمعين.

وهذا الدعاء يحتمل أن يوسف، عليه السلام، قاله عند احتضاره، كما ثبت في الصحيحين عن عائشة، رضي الله عنها؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يرفع أصبعه عند الموت، ويقول: « اللهم في الرفيق الأعلى، اللهم في الرفيق الأعلى، اللهم في الرفيق الأعلى » .

ويحتمل أنه سأل الوفاة على الإسلام واللحاق بالصالحين إذا حان أجله، وانقضى عمره؛ لا أنه سأل ذلك منجزا، كما يقول الداعي لغيره: « أماتك الله على الإسلام » . ويقول الداعي: « اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين » .

ويحتمل أنه سأل ذلك منجزًا، وكان ذلك سائغا في ملتهم، كما قال قتادة:قوله: ( تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) لما جمع الله شمله وأقر عينه، وهو يومئذ مغمور في الدنيا وملكها وغضارتها، فاشتاق إلى الصالحين قبله، وكان ابن عباس يقول:ما تمنى نبي قط الموت قبل يوسف، عليه السلام.

وكذا ذكر ابن جرير والسدي عن ابن عباس:أنه أول نبي دعا بذلك. وهذا يحتمل أنه أول من سأل الوفاة على الإسلام. كما أن نوحا أول من قال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا [ نوح:28 ] ويحتمل أنه أول من سأل نجاز ذلك، وهو ظاهر سياق قتادة، ولكن هذا لا يجوز في شريعتنا.

قال الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله:حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يتمنين أحدكم الموت لضُرٍّ نـزل به، فإن كان لا بدّ متمنيا الموت فليقل:اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي » .

[ ورواه البخاري ومسلم، وعندهما: « لا يتمنين أحدكم الموت لضر نـزل به إما محسنا فيزداد، وإما مسيئا فلعله يستعتب، ولكن ليقل:اللهم، أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي » ] .

وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو المغيرة، حدثنا مُعُان بن رفاعة، حدثني علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة قال:جلسنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكَّرنا ورقَّقنا، فبكى سعد بن أبي وقاص فأكثر البكاء، فقال:يا ليتني مت! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « يا سعد أعندي تتمنى الموت؟ » فردَّد ذلك [ ثلاث ] مرات ثم قال: « يا سعد، إن كنت خلقت للجنة، فما طال عمرك، أو حَسُن من عملك، فهو خير لك »

وقال الإمام أحمد:حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا أبو يونس - هو سُلَيم بن جُبير - عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: « لا يتمنين أحدكم الموت ولا يدعوَن به من قبل أن يأتيه، إلا أن يكون قد وَثق بعمله، فإنه إذا مات أحدكم انقطع عنه عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا » تفرد به أحمد

وهذا فيما إذا كان الضر خاصا به، أما إذا كان فتنة في الدين فيجوز سؤال الموت، كما قال الله تعالى إخبارًا عن السحرة لما أرادهم فرعون عن دينهم وتهدَّدهم بالقتل قالوا: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ [ الأعراف:126 ] وقالت مريم لما أجاءها المخاض، وهو الطلق، إلى جذع النخلة يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا [ مريم:23 ] لما تعلم من أن الناس يقذفونها بالفاحشة؛ لأنها لم تكن ذات زوج وقد حملت وولدت، فيقول القائل أنى لها هذا؟ ولهذا واجهوها أولا بأن قالوا: يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [ مريم:27 ، 28 ] فجعل الله لها من ذلك الحال فرجا ومخرجا، وأنطق الصبي في المهد بأنه عبد الله ورسوله، وكان آية عظيمة ومعجزة باهرة صلوات الله وسلامه عليه وفي حديث معاذ، الذي رواه الإمام أحمد والترمذي، في قصة المنام والدعاء الذي فيه: « وإذا أردت بقوم فتنة، فتوفني إليك غير مفتون » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو سلمة، أنا عبد العزيز بن محمد، عن عمرو عن عاصم عن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « اثنتان يكرههما ابن آدم الموت، والموت خير للمؤمن [ من الفتنة ] ويكره قلة المال، وقلة المال أقل للحساب » .

فعند حُلول الفتن في الدين يجوز سؤال الموت؛ ولهذا قال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، في آخر إمارته لما رأى أن الأمور لا تجتمع له، ولا يزداد الأمر إلا شدة قال:اللهمَّ، خذني إليك، فقد سئمتهم وسئموني.

وقال البخاري، رحمه الله، لما وقعت له تلك المحن وجرى له ما جرى مع أمير خراسان:اللهم توفني إليك.

وفي الحديث: « إن الرجل ليمر بالقبر - أي في زمان الدجال - فيقول:يا ليتني مكانك » لما يرى من الفتن والزلازل والبلابل والأمور الهائلة التي هي فتنة لكل مفتون.

قال أبو جعفر بن جرير:وذُكِرَ أن بني يعقوب الذين فعلوا بيوسف ما فعلوا، استغفر لهم أبوهم، فتاب الله عليهم وعفا عنهم، وغفر لهم ذنوبهم.

[ ذكر من قال ذلك ] :

حدثنا القاسم، حدثنا الحسن، حدثني حجاج، عن صالح المري، عن يزيد الرَّقاشي، عن أنس بن مالك قال:إن الله تعالى لما جمع ليعقوب شمله، وأقر عينه خلا ولدُه نجيًا، فقال بعضهم لبعض:ألستم قد علمتم ما صنعتم، وما لقي منكم الشيخ، وما لقي منكم يوسف؟ قالوا:بلى. قال:فيغرّكم عفوهما عنكم، فكيف لكم بربكم؟ فاستقام أمرهم على أن أتوا الشيخ فجلسوا بين يديه، ويوسف إلى جنب أبيه قاعدًا، قالوا:يا أبانا، إنا أتيناك في أمر، لم نأتك في مثله قط، ونـزل بنا أمر لم ينـزل بنا مثله. حتى حَرَّكوه، والأنبياء، عليهم السلام، أرحم البرية، فقال:ما لكم يا بَنيّ؟ قالوا:ألست قد علمت ما كان منا إليك، وما كان منا إلى أخينا يوسف؟ قال:بلى. قالوا:أو لستما قد عَفَوتما؟ قالا بلى. قالوا:فإن عفوكما لا يغني عنا شيئا، إن كان الله لم يعف عنا. قال:فما تريدون يا بني؟ قالوا:نُريدُ أن تدعوَ الله لنا، فإذا جاءك الوحي من الله بأنه قد عفا عما صنعنا قرّت أعيننا، واطمأنت قلوبنا، وإلا فلا قُرّة عين في الدنيا أبدًا لنا. قال:فقام الشيخ فاستقبل القبلة، وقام يوسف خلف أبيه، وقاموا خلفهما أذلَّة خاشعين. قال:فدعا وأمَّن يوسف، فلم يُجبْ فيهم عشرين سنة - قال صالح المري يخيفهم - قال:حتى إذا كان رأس العشرين نـزل جبريل، عليه السلام، على يعقوب فقال:إن الله بعثني إليك أبشرك بأنه قد أجاب دعوتك في ولدك، وأنه قد عفا عما صنعوا، وأنه قد اعتقد مواثيقهم من بعدك على النبوة .

هذا الأثر موقوف عن أنس، ويزيد الرقاشي وصالح المري ضعيفان جدا.

وذكر السدي:أن يعقوب، عليه السلام، لما حضره الموت، أوصى إلى يوسف بأن يدفن عند إبراهيم وإسحاق، فلما مات صَبَّره وأرسله إلى الشام، فدفن عندهما، عليهم السلام.

ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ( 102 ) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ( 103 )

يقول تعالى لعبده ورسوله محمد، صلوات الله وسلامه عليه، لما قص عليه نبأ إخوة يوسف، وكيف رفعه الله عليهم، وجعل له العاقبة والنصر والملك والحكم، مع ما أرادوا به من السوء والهلاك والإعدام:هذا وأمثاله يا محمد من أخبار الغيوب السابقة، ( نُوحِيهِ إِلَيْكَ ) ونعلمك به لما فيه من العبرة لك والاتعاظ لمن خالفك، ( وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ ) حاضرا عندهم ولا مشاهدا لهم ( إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ ) أي:على إلقائه في الجب، ( وَهُمْ يَمْكُرُونَ ) به، ولكنا أعلمناك به وحيا إليك، وإنـزالا عليك، كما قال تعالى: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [ آل عمران:44 ] وقال تعالى: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ [ القصص:44 ] إلى أن قال: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [ القصص:46 ] وقال وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [ القصص:45 ] وقال مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ [ ص:69 ، 70 ]

يقرر تعالى أنه رسوله، وأنه قد أطلعه على أنباء ما قد سبق مما فيه عبرة للناس ونجاة لهم في دينهم ودنياهم؛ ومع هذا ما آمن أكثر الناس؛ ولهذا قال: ( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) وقال وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ الأنعام:116 ] إلى غير ذلك من الآيات.

 

وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ( 104 )

وقوله: ( وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ) أي:وما تسألهم يا محمد على هذا النصح والدعاء إلى الخير والرشد من أجر، أي:من جُعَالة ولا أجرة على ذلك، بل تفعله ابتغاء وجه الله، ونصحا لخلقه.

إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ) أي:يتذكرون به ويهتدون، وينجون به في الدنيا والآخرة.

وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ( 105 ) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ( 106 ) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ( 107 )

يخبر تعالى عن [ غفلة ] أكثر الناس عن التفكر في آيات الله ودلائل توحيده، بما خلقه الله في السموات والأرض من كواكب زاهرات ثوابت، وسيارات وأفلاك دائرات، والجميع مسخرات، وكم في الأرض من قطع متجاورات وحدائق وجنات وجبال راسيات، وبحار زاخرات، وأمواج متلاطمات، وقفار شاسعات، وكم من أحياء وأموات، وحيوان ونبات، وثمرات متشابهة ومختلفات، في الطعوم والروائح والألوان والصفات، فسبحان الواحد الأحد، خالق أنواع المخلوقات، المتفرد بالدوام والبقاء والصمدية ذي الأسماء والصفات.

وقوله: ( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ) قال ابن عباس:من إيمانهم، إذا قيل لهم:من خلق السموات؟ ومن خلق الأرض؟ ومن خلق الجبال؟ قالوا: « الله » ، وهم مشركون به. وكذا قال مجاهد، وعطاء وعكرمة، والشعبي، وقتادة، والضحاك، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.

وهكذا في الصحيحين أن المشركين كانوا يقولون في تلبيتهم:لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك. وفي الصحيح:أنهم كانوا إذا قالوا: « لبيك لا شريك لك » يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: « قَدْ قَدْ » ، أي حَسْبُ حَسْبُ، لا تزيدوا على هذا .

وقال الله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [ لقمان:13 ] وهذا هو الشرك الأعظم الذي يعبد مع الله غيره، كما في الصحيحين. عن ابن مسعود قلت:يا رسول الله، أيّ الذنب أعظم؟ قال: « أن تجعل لله ندا وهو خَلَقَك » .

وقال الحسن البصري في قوله: ( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ) قال:ذلك المنافق يعمل إذا عمل رياء الناس، وهو مشرك بعمله ذاك، يعني قوله تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا [ النساء:142 ] .

وثمَّ شرك آخر خفي لا يشعر به غالبًا فاعله، كما روى حماد بن سلمة، عن عاصم بن أبي النَّجُود، عن عُرْوَة قال:دخل حذيفة على مريض، فرأى في عضده سيرًا فقطعه - أو:انتزعه - ثم قال: ( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ )

وفي الحديث: « من حلف بغير الله فقد أشرك » . رواه الترمذي وحسنَّهَ من رواية ابن عمر

وفي الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود وغيره، عن ابن مسعود، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الرُّقَى والتَّمائِم والتِّوَلة شرْك » .

وفي لفظ لهما: « [ الطيَرة شرك ] وما منَّا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل » .

ورواه الإمام أحمد بأبسط من هذا فقال:حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن عمرو بن مُرّة، عن يحيى الجزار عن ابن أخي، زينب [ عن زينب ] امرأة عبد الله بن مسعود قالت:كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق كراهية أن يهجم منا على أمر يكرهه، قالت:وإنه جاء ذات يوم فتنحنح وعندي عجوز ترقيني من الحُمْرَة فأدخلتها تحت السرير، قالت:فدخل فجلس إلى جانبي، فرأى في عنقي خيطا، قال:ما هذا الخيط ؟ قالت:قلت:خيط رُقِى لي فيه. قالت:فأخذه فقطعه، ثم قال:إن آل عبد الله لأغنياءٌ عن الشرك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن الرقى والتمائم والتِّوَلة شرك » . قالت، قلت له:لم تقول هذا وقد كانت عيني تقذف، فكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيها، فكان إذا رقاها سكنت؟ قال:إنما ذاك من الشيطان. كان ينخسها بيده، فإذا رقيتها كف عنها:إنما كان يكفيك أن تقولي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أذهب البأس رب الناس، اشف وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سَقَمًا » .

وفي حديث آخر رواه الإمام أحمد، عن وَكِيع، عن ابن أبي ليلى، عن عيسى بن عبد الرحمن قال:دخلنا على عبد الله بن عُكَيْم وهو مريض نعوده، فقيل له:تَعَلَّقت شيئا؟ فقال:أتعلق شيئا! وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من تَعَلَّق شيئا وُكِلَ إليه » ورواه النسائي عن أبي هريرة .

وفي مسند الإمام أحمد، من حديث عقبة بن عامر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من علَّق تميمة فقد أشرك » وفي رواية: « من تَعَّلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودَعَةً فلا ودع الله له »

وعن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « قال الله:أنا أغنى الشركاء عن الشرك، ومن عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشِرْكه » . رواه مسلم .

وعن أبي سعيد بن أبي فضالة قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه، ينادي مناد:من كان أشرك في عمل عمله لله فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك » . رواه أحمد .

وقال الإمام أحمد:حدثنا يونس، حدثنا لَيْث، عن يزيد - يعني:ابن الهاد - عن عمرو، عن محمود بن لبيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن أخْوَف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر » . قالوا:وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: « الرياء، يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم:اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء » .

وقد رواه إسماعيل بن جعفر، عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لَبِيد، به .

وقال الإمام أحمد:حدثنا حسن، أنبأنا ابن لَهِيعة، أنبأنا ابن هُبَيْرة، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن عبد الله بن عمرو قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من ردته الطيرة عن حاجة، فقد أشرك » . قالوا:يا رسول الله، ما كفارة ذلك؟ قال: « أن يقول أحدهم:اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان العَرْزَمي، عن أبي علي - رجل من بني كاهل - قال:خطبنا أبو موسى الأشعري فقال:يا أيها الناس، اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دَبِيب النمل. فقام عبد الله بن حَزْن وقيس بن المضارب فقالا والله لتخرجن مما قلت أو لنأتين عمر مأذونا لنا أو غير مأذون، قال:بل أخرج مما قلت، خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ذات يوم ] فقال: « يا أيها الناس، اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل » . فقال له من شاء الله أن يقول:فكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: « قولوا:اللهم إنا نعوذ بك [ من ] أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه » .

وقد روي من وجه آخر، وفيه أن السائل في ذلك هو الصّدّيق، كما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي، من حديث عبد العزيز بن مسلم، عن لَيْث بن أبي سليم، عن أبي محمد، عن مَعْقِل بن يَسَار قال:شهدت النبي صلى الله عليه وسلم - أو قال:حدثني أبو بكر الصديق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل » . فقال أبو بكر:وهل الشرك إلا من دعا مع الله إلها آخر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل » . ثم قال: « ألا أدلّك على ما يُذهب عنك صَغِير ذلك وكبيره؟ قل:اللهم، أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك مما لا أعلم » .

وقد رواه الحافظ أبو القاسم البغوي، عن شيبان بن فَرُّوخ، عن يحيى بن كثير، عن الثوري، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن أبي بكر الصديق قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على الصفا » . قال:فقال أبو بكر:يا رسول الله، فكيف النجاة والمخرج من ذلك؟ فقال: « ألا أخبرك بشيء إذا قلته برئتَ من قليله وكثيره وصغيره وكبيره؟ » . قال:بلى، يا رسول الله، قال: « قل:اللهم، إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم » .

قال الدارقطني:يحيى بن كثير هذا يقال له: « أبو النضر » ، متروك الحديث.

وقد روى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وصححه، والنسائي، من حديث يعلى بن عطاء، سمعت عمرو بن عاصم سمعت أبا هريرة قال:قال أبو بكر الصديق، رضي الله عنه:يا رسول الله، علمني شيئا أقوله إذا أصبحتُ، وإذا أمسيتُ، وإذا أخذت مضجعي. قال: « قل:اللهم، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، ربّ كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشركه » .

وزاد أحمد في رواية له من حديث ليث من أبي سليم، [ عن مجاهد ] عن أبي بكر الصديق قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول . . . فذكر هذا الدعاء وزاد في آخره: « وأن أقترف على نفسي سُوءًا أو أجُرّه إلى مسلم » .

وقوله: ( أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) أي:أفأمن هؤلاء المشركون [ بالله ] أن يأتيهم أمر يغشاهم من حيث لا يشعرون، كما قال تعالى: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [ النحل:45 - 47 ] وقال تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [ الأعراف:97 - 99 ] .

قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 108 )

يقول [ الله ] تعالى لعبده ورسوله إلى الثقلين:الإنس والجن، آمرًا له أن يخبر الناس:أن هذه سبيله، أي طريقه ومسلكه وسنته، وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يدعو إلى الله بها على بَصِيرة من ذلك، ويقين وبرهان، هو وكلّ من اتبعه، يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم على بصيرة ويقين وبرهان شرعي وعقلي.

وقوله: ( وَسُبْحَانَ اللَّهِ ) أي:وأنـزه الله وأجلّه وأعظّمه وأقدّسه، عن أن يكون له شريك أو نظير، أو عديل أو نديد، أو ولد أو والد أو صاحبة، أو وزير أو مشير، تبارك وتعالى وتقدس وتنـزه عن ذلك كله علوا كبيرا، تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [ الإسراء:44 ] .

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ ( 109 )

يخبر تعالى أنه إنما أرسلَ رسُلَه من الرجال لا من النساء. وهذا قول جمهور العلماء، كما دل عليه سياق هذه الآية الكريمة:أن الله تعالى لم يُوحِ إلى امرأة من بنات بني آدم وَحي تشريع.

وزعم بعضهم:أن سارة امرأة الخليل، وأم موسى، ومريم أم عيسى نبيات، واحتجوا بأن الملائكة بشرت سارة بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، وبقوله: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ الآية. [ القصص:7 ] ، وبأن الملك جاء إلى مريم فبشرها بعيسى، عليه السلام، وبقوله تعالى: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [ آل عمران:42 ، 43 ] .

وهذا القدر حاصل لهن، ولكن لا يلزم من هذا أن يكن نبيات بذلك، فإن أراد القائل بنبوتهن هذا القدر من التشريف، فهذا لا شك فيه، ويبقى الكلام معه في أن هذا:هل يكفي في الانتظام في سلك النبوة بمجرده أم لا؟ الذي عليه [ أئمة ] أهل السنة والجماعة، وهو الذي نقله الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري عنهم:أنه ليس في النساء نبية، وإنما فيهن صديقات، كما قال تعالى مخبرا عن أشرفهن مريمَ بنت عمران حيث قال: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ [ المائدة:75 ] فوصفها في أشرف مقاماتها بالصدّيقية، فلو كانت نبيّة لذكر ذلك في مقام التشريف والإعظام، فهي صديقة بنص القرآن.

وقال الضحاك، عن ابن عباس في قوله: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ) أي:ليسوا من أهل السماء كما قلتم. وهذا القول من ابن عباس يعتضد بقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ الآية [ الفرقان:20 ] وقوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ * ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ [ الأنبياء:8 ، 9 ] وقوله تعالى: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ الآية [ الأحقاف:9 ] .

وقوله: ( مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ) المراد بالقرى:المدن، لا أنهم من أهل البوادي، الذين هم أجفى الناس طباعا وأخلاقا. وهذا هو المعهود المعروف أن أهل المدن أرقّ طباعا، وألطف من أهل سوادهم، وأهل الريف والسواد أقرب حالا من الذين يسكنون في البوادي؛ ولهذا قال تعالى: الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ [ التوبة:97 ] .

وقال قتادة في قوله: ( مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ) لأنهم أعلم وأحلم من أهل العمود.

وفي الحديث الآخر:أن رجلا من الأعراب أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة، فلم يزل يعطيه ويزيده حتى رضي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لقد هممت ألا أَتَّهِبَ هِبَةً إلا من قرشي، أو أنصاري، أو ثقفي، أو دَوْسِي » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا حجاج، حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن يحيى بن وثاب، عن شيخ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال الأعمش:هو [ ابن ] عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم » .

وقوله: ( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ ) [ يعني:هؤلاء المكذبين لك يا محمد في الأرض، ] ( فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) أي:من الأمم المكذبة للرسل، كيف دمر الله عليهم، وللكافرين أمثالها، كقوله: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [ الحج:46 ] ، فإذا استمعوا خبر ذلك، رأوا أن الله قد أهلك الكافرين ونجى المؤمنين، وهذه كانت سنته تعالى في خلقه؛ ولهذا قال تعالى: ( وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ) أي:وكما أنجينا المؤمنين في الدنيا، كذلك كتبنا لهم النجاة في الدار الآخرة أيضًا، وهي خير لهم من الدنيا بكثير، كما قال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [ غافر:51 ، 52 ] .

وأضاف الدار إلى الآخرة فقال: ( وَلَدَارُ الآخِرَةِ ) كما يقال: « صلاة الأولى » و « مسجد الجامع » و « عام الأول » و « بارحة الأولى » و « يوم الخميس » . قال الشاعر:

أَتَمْــدَحُ فَقْعَسًــا وَتـــذمّ عَبْسًا ألا للــه أمَّـــكَ مــن هَجــين

وَلــو أقْــوتْ عَلَيـك ديــارُ عَبْسٍ عَــرَفْتَ الــذّلّ عرْفــانَ اليَقيـن

حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ( 110 )

يخبر تعالى أن نصره ينـزل على رسله، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، عند ضيق الحال وانتظار الفرج من الله تعالى في أحوج الأوقات إلى ذلك، كما في قوله تعالى: وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [ البقرة:214 ] ، وفي قوله: ( كُذِبُوا ) قراءتان، إحداهما بالتشديد: « قد كُذِّبُوا » ، وكذلك كانت عائشة، رضي الله عنها، تقرؤها، قال البخاري:

حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا إبراهيم بن سعد، بن صالح، عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير، عن عائشة قالت له وهو يسألها عن قول الله: ( حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ ) قال:قلت:أكُذِبوا أم كُذِّبوا؟ فقالت عائشة:كُذِّبوا. فقلت:فقد استيقنوا أن قومهم قد كَذَّبوهم فما هو بالظن؟ قالت:أجل، لعمري لقد استيقنوا بذلك. فقلت لها:وظنوا أنهم قد كذبوا؟ قالت معاذ الله، لم تكن الرسل تظن ذلك بربها. قلت:فما هذه الآية؟ قالت:هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم، فطال عليهم البلاء، واستأخر عنهم النصر، ( حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ ) ممّن كذبهم من قومهم، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذَّبوهم، جاءهم نصر الله عند ذلك.

حدثنا أبو اليمان، أنبأنا شعيب، عن الزهري قال:أخبرنا عُرْوَة، فقلت:لعلها قد كُذِبوا مخففة؟ قالت:معاذ الله. انتهى ما ذكره .

وقال ابن جُرَيْج أخبرني ابن أبى مُلَيْكة:أن ابن عباس قرأها: ( وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) خفيفة - قال عبد الله هو ابن مُلَيْكة:ثم قال لي ابن عباس:كانوا بشرًا وتلا ابن عباس: حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [ البقرة:214 ] ، قال ابن جريج:وقال لي ابن أبي مليكة:وأخبرني عروة عن عائشة:أنها خالفت ذلك وأبته، وقالت:ما وعد الله محمدًا صلى الله عليه وسلم من شيء إلا قد علم أنه سيكون حتى مات، ولكنه لم يزل البلاء بالرسل حتى ظنوا أنَّ من معهم من المؤمنين قد كذَّبوهم. قال ابن أبي مليكة في حديث عروة:كانت عائشة تقرؤها « وظنوا أنهم قد كُذِّبوا » مثقلة، للتكذيب.

وقال ابن أبي حاتم:أنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، أنا ابن وهب، أخبرني سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد قال:جاء إنسان إلى القاسم بن محمد فقال:إن محمد بن كعب القرظي يقول هذه الآية: ( حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) فقال القاسم:أخبره عني أني سمعت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: ( حَتَّى إِذَا اسْتَيئسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) تقول:كذبتهم أتباعهم. إسناد صحيح أيضا.

والقراءة الثانية بالتخفيف، واختلفوا في تفسيرها، فقال ابن عباس ما تقدم، وعن ابن مسعود، فيما رواه سفيان الثوري، عن الأعمش، عن أبي الضُّحى، عن مسروق، عن عبد الله أنه قرأ: ( حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) مخففة، قال عبد الله:هو الذي تكره .

وهذا عن ابن مسعود وابن عباس، رضي الله عنهما، مخالف لما رواه آخرون عنهما. أما ابن عباس فروى الأعمش، عن مسلم، عن ابن عباس في قوله: ( حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) قال:لما أيست الرسل أن يستجيب لهم قومهم، وظن قومهم أن الرسل قد كَذَّبوهم، جاءهم النصر على ذلك، ( فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ )

وكذا روي عن سعيد بن جبير، وعمران بن الحارث السلمي، وعبد الرحمن بن معاوية وعلي بن أبي طلحة، والعوفي عن ابن عباس بمثله.

وقال ابن جرير:حدثني المثنى، حدثنا عارم أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا شعيب حدثنا إبراهيم بن أبي حُرة الجزرِيّ قال:سأل فتى من قريش سعيد بن جبير فقال له:يا أبا عبد الله، كيف هذا الحرف، فإني إذا أتيت عليه تمنيت أني لا أقرأ هذه السورة: ( حَتَّى إِذَا اسْتَيئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) ؟ قال:نعم، حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدِّقوهم، وظن المرسَلُ إليهم أن الرسل كَذَبوا. فقال الضحاك بن مزاحم:ما رأيت كاليوم قط رجل يدعى إلى علم فيتلكأ! لو رحلت في هذه إلى اليمن كان قليلا.

ثم روى ابن جرير أيضا من وجه آخر:أن مسلم بن يَسَار سأل سعيد بن جبير عن ذلك، فأجابه بهذا الجواب، فقام إلى سعيد فاعتنقه، وقال:فرَّج الله عنك كما فَرجت عني.

وهكذا روي من غير وجه عن سعيد بن جبير أنه فسرها كذلك، وكذا فسرها مجاهد بن جَبْر، وغير واحد من السلف، حتى إن مجاهدا قرأها: « وظنوا أنهم قد كَذَبوا » ، بفتح الذال. رواه ابن جرير، إلا أن بعض من فسرها كذلك يعيد الضمير في قوله: ( وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) إلى أتباع الرسل من المؤمنين، ومنهم من يعيده إلى الكافرين منهم، أي:وظن الكفار أن الرسل قد كَذبوا - مخففة - فيما وعدوا به من النصر.

وأما ابن مسعود فقال ابن جرير:حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا محمد بن فضيل عن جَحش بن زياد الضبي، عن تميم بن حَذْلَم قال:سمعت عبد الله بن مسعود يقول في هذه الآية: ( حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ ) من إيمان قومهم أن يؤمنوا بهم وظن قومهم حين أبطأ الأمر أنهم قد كَذَبوا، بالتخفيف .

فهاتان الروايتان عن كل من ابن مسعود وابن عباس، وقد أنكرت ذلك عائشة على من فسرها بذلك، وانتصر لها ابن جرير، ووجه المشهور عن الجمهور، وزيف القول الآخر بالكلية، وردَّهُ وأبَاه، ولم يقبله ولا ارتضاه، والله أعلم .

لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 111 )

يقول تعالى:لقد كان في خبر المرسلين مع قومهم، وكيف أنجينا المؤمنين وأهلكنا الكافرين ( عِبْرَةٌ لأولِي الألْبَابِ ) وهي العقول، ( مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى ) أي:وما كان لهذا القرآن أن يفترى من دون الله، أي:يكذب ويُختلق، ( وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ) أي:من الكتب المنـزلة من السماء، وهو يصدق ما فيها من الصحيح، وينفي ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير، ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير، ( وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ ) من تحليل وتحريم، ومحبوب ومكروه، وغير ذلك من الأمر بالطاعات والواجبات والمستحبات، والنهي عن المحرمات وما شاكلها من المكروهات، والإخبار عن الأمور على الجلية، وعن الغيوب المستقبلة المجملة والتفصيلية، والإخبار عن الرب تبارك وتعالى بالأسماء والصفات، وتنـزيهه عن مماثلة المخلوقات، فلهذا كان: ( هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) تهتدي به قلوبهم من الغي إلى الرشاد، ومن الضلالة إلى السداد، ويبتغون به الرحمة من رب العباد، في هذه الحياة الدنيا ويوم المعاد. فنسأل الله العظيم أن يجعلنا منهم في الدنيا والآخرة، يوم يفوز بالربح المُبْيَضَّة وجوههم الناضرة، ويرجع المسودَّة وجوهُهم بالصفقة الخاسرة.

آخر تفسير سورة يوسف، ولله الحمد والمنة وبه المستعان وعليه التكلان، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

 

تفسير سورة الرعد

 

[ وهي مكية ]

بسم الله الرحمن الرحيم

المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ( 1 )

أما الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور، فقد تقدم في أول سورة البقرة، وقَدَّمنا أن كل سورة تَبتدأ بهذه الحروف ففيها الانتصار للقرآن، وتبيان أن نـزوله من عند الله حق لا شك فيه ولا مرية ولا ريب؛ ولهذا قال: ( تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ ) أي:هذه آيات الكتاب، وهو القرآن، وقيل:التوارة والإنجيل. قاله مجاهد وقتادة، وفيه نظر بل هو بعيد.

ثم عطف على ذلك عطف صفات قوله: ( وَالَّذِي أُنـزلَ إِلَيْكَ ) أي:يا محمد، ( مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ ) خبر تقدم مبتدؤه، وهو قوله: ( وَالَّذِي أُنـزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) هذا هو الصحيح المطابق لتفسير مجاهد وقتادة. واختار ابن جرير أن تكون الواو زائدة أو عاطفة صفة على صفة كما قدمنا، واستشهد بقول الشاعر:

إلــى المَلـك القَـرْمِ وابـن الهُمَـام وَلَيــث الكتيبــة فــي المُزْدَحَـمْ

وقوله: ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ) كقوله: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [ يوسف:103 ] أي:مع هذا البيان والجلاء والوضوح، لا يؤمن أكثرهم لما فيهم من الشقاق والعناد والنفاق.

اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ( 2 )

يخبر الله تعالى عن كمال قدرته وعظيم سلطانه:أنه الذي بإذنه وأمره رَفَع السماوات بغير عمَد، بل بإذنه وأمره وتسخيره رفعها عن الأرض بُعدًا لا تنال ولا يدرك مداها، فالسماء الدنيا محيطة بجميع الأرض وما حولها من الماء والهواء من جميع نواحيها وجهاتها وأرجائها، مرتفعة عليها من كل جانب على السواء، وبعد ما بينها وبين الأرض من كل ناحية مسيرة خمسمائة عام، وسمكها في نفسها مسيرة خمسمائة عام. ثم السماء الثانية محيطة بالسماء الدنيا وما حوت، وبينها وبينها من البعد مسيرة خمسمائة عام، وسمكها خمسمائة عام، ثم السماء الثالثة محيطة بالثانية، بما فيها، وبينها وبينها خمسمائة عام، وسمكها خمسمائة عام، وكذا الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة، كما قال [ الله ] تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [ الطلاق:12 ] وفي الحديث: « ما السماواتُ السبع وما فيهنّ وما بينهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فَلاة، والكرسي في العرش كتلك الحلقة في تلك الفلاة وفي رواية: » والعرش لا يقدر قدره إلا الله، عز وجل، وجاء عن بعض السلف أن بعد ما بين العرش إلى الأرض مسيرة خمسين ألف سنة، وبعد ما بين قطريه مسيرة خمسين ألف سنة، وهو من ياقوتة حمراء.

وقوله: ( بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ) روي عن ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وقتادة:أنهم:قالوا:لها عَمَد ولكن لا ترى.

وقال إياس بن معاوية:السماء على الأرض مثل القبة، يعني بلا عمد. وكذا روي عن قتادة، وهذا هو اللائق بالسياق. والظاهر من قوله تعالى: وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ [ الحج:65 ] فعلى هذا يكون قوله: ( ترونها ) تأكيدا لنفي ذلك، أي:هي مرفوعة بغير عمد كما ترونها. هذا هو الأكمل في القدرة. وفي شعر أمية بن أبي الصلت الذي آمن شعره وكفر قلبه، كما ورد في الحديث ويروى لزيد بن عمرو بن نفيل، رحمه الله ورضي عنه:

وأنـتَ الـذي مِـنْ فَضْل مَنٍّ وَرَحْمـَة بَعَـثـتَ إلـى مُـوسَى رَسُـولا مُنَاديا

فقلـت لـه:فـاذهَبْ وهارونَ فادعُـوَا إلـى اللـه فـرْعَونَ الذي كـانَ طَاغيا

وَقُــولا لـه:هَـلْ أنتَ سَـوّيت هَـذه بـلا [ وتَد حَـتَّى اطمـأنت كَمَـا هيا

وقُـــولا لـه:أأنــتَ رَفَّـعتَ هَـذه بـــلا ] عَمَد أرْفِقْ إذَا بِـَك بانـيَا؟

وَقُـولا لَـه:هَـل أنتَ سَوَّيت وَسْطَهَـا مُنــيرًا إذا مـا جَنَّـك الليَّل هــاديـا

وقُـولا لـه:مَـنْ يُرْسِلُ الشَّمس غُدوةً فيُصبـحَ ما مَسَّتْ مِنَ الأرضِ ضَاحيـا?

وَقُـولا لـه:مَن يُنْبِـت الحَبَّ في الثَّرَى فيُصبــحَ مِنْه العُـشب يَهْـَتُّز رَابيـا?

وَيُـْخِـرجُ منْــه حَبَّــه في رءوسه فَفِــي ذَاكَ آيــاتٌ لـِمنْ كَانَ وَاعيَا

وقوله: ( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ) تقدم تفسير ذلك في سورة « الأعراف » وأنه يُمَرَّر كما جاء من غير تكييف، ولا تشبيه، ولا تعطيل، ولا تمثيل، تعالى الله علوا كبيرا.

وقوله: ( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى ) قيل:المراد أنهما يجريان إلى انقطاعهما بقيام الساعة، كما في قوله تعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [ يس:38 ] .

وقيل:المراد إلى مستقرهما، وهو تحت العرش مما يلي بطن الأرض من الجانب الآخر، فإنهما وسائر الكواكب إذا وصلوا هنالك، يكونون أبعد ما يكون عن العرش؛ لأنه على الصحيح الذي تقومُ عليه الأدلة، قبة مما يلي العالم من هذا الوجه، وليس بمحيط كسائر الأفلاك؛ لأنه له قوائم وحملة يحملونه. ولا يتصوّر هذا في الفلك المستدير، وهذا واضح لمن تَدَبَّر ما وَرَدَتْ به الآيات والأحاديث الصحيحة، ولله الحمد والمنة.

وذكر الشمس والقمر؛ لأنهما أظهر الكواكب السيارة السبعة، التي هي أشرف وأعظم.

من الثوابت، فإذا كان قد سخر هذه، فَلأن يدخل في التسخير سائرُ الكواكب بطريق الأولى والأحرى، كما نبه بقوله تعالى: لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [ فصلت:37 ] مع أنه قد صرح بذلك بقوله وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [ الأعراف:54 ] .

وقوله: ( يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) أي:يوضح الآيات والدلالات الدالة على أنه لا إله إلا هو، وأنه يعيد الخلق إذا شاء كما ابتدأ خلقه.

وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( 3 ) وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( 4 )

لما ذكر تعالى العالم العلوي، شرع في ذكر قدرته وحكمته وأحكامه للعالم السفلي، فقال: ( وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ ) أي:جعلها متسعة ممتدة في الطول والعرض، وأرساها بجبال راسيات شامخات، وأجرى فيها الأنهار والجداول والعيون لسقي ما جعل فيها من الثمرات المختلفة الألوان والأشكال والطعوم والروائح، من كل زوجين اثنين، أي:من كل شكل صنفان.

( يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ) أي:جعل كلا منهما يطلب الآخر طلبا حثيثا، فإذا ذهب هذا غَشيه هذا، وإذا انقضى هذا جاء الآخر، فيتصرف أيضا في الزمان كما تصرف في المكان والسكان.

( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) أي:في آلاء الله وحكمته ودلائله.

وقوله: ( وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ ) أي:أراضٍ تجاور بعضها بعضا، مع أن هذه طيبة تنبت ما ينتفع به الناس، وهذه سَبَخة مالحة لا تنبت شيئا. هكذا روي عن ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جُبَيْر، والضحاك، وغيرهم.

وكذا يدخل في هذه الآية اختلاف ألوان بقاع الأرض، فهذه تربة حمراء، وهذه بيضاء، وهذه صفراء، وهذه سوداء، وهذه محجرة وهذه سهلة، وهذه مرملة، وهذه سميكة، وهذه رقيقة، والكل متجاورات. فهذه بصفتها، وهذه بصفتها الأخرى، فهذا كله مما يدل على الفاعل المختار، لا إله إلا هو، ولا رب سواه.

وقوله: ( وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ ) يحتمل أن تكون عاطفة على ( جنات ) فيكون ( وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ ) مرفوعين. ويحتمل أن يكون معطوفا على أعناب، فيكون مجرورا؛ ولهذا قرأ بكل منهما طائفة من الأئمة.

وقوله: ( صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ ) الصنوان:هي الأصول المجتمعة في منبت واحد، كالرمان والتين وبعض النخيل، ونحو ذلك. وغير الصنوان:ما كان على أصل واحد، كسائر الأشجار، ومنه سمي عم الرجل صنو أبيه، كما جاء في الحديث الصحيح:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر: « أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه؟ » .

وقال سفيان الثوري، وشعبة، عن أبى إسحاق، عن البراء، رضي الله عنه:الصنوان:هي النخلات في أصل واحد، وغير الصنوان:المتفرقات. وقاله ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.

وقوله: ( يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ ) قال الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ ) قال: « الدَّقَل والفارسي، والحُلْو والحامض » . رواه الترمذي وقال:حسن غريب .

أي:هذا الاختلاف في أجناس الثمرات والزروع، في أشكالها وألوانها، وطعومها وروائحها، وأوراقها وأزهارها.

فهذا في غاية الحلاوة وذا في غاية الحموضة، وذا في غاية المرارة وذا عَفِص، وهذا عذب وهذا جمع هذا وهذا، ثم يستحيل إلى طعم آخر بإذن الله تعالى. وهذا أصفر وهذا أحمر، وهذا أبيض وهذا أسود وهذا أزرق. وكذلك الزهورات مع أن كلها يستمد من طبيعة واحدة، وهو الماء، مع هذا الاختلاف الكبير الذي لا ينحصر ولا ينضبط، ففي ذلك آيات لمن كان واعيا، وهذا من أعظم الدلالات على الفاعل المختار، الذي بقدرته فاوت بين الأشياء وخلقها على ما يريد؛ ولهذا قال تعالى: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ )

وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 5 )

يقول تعالى لرسوله محمد، صلوات الله وسلامه عليه: ( وَإِنْ تَعْجَبْ ) من تكذيب هؤلاء المشركين بأمر المعاد مع ما يشاهدونه من آيات الله سبحانه ودلالاته في خلقه على أنه القادر على ما يشاء، ومع ما يعترفون به من أنه ابتدأ خلق الأشياء، فكونها بعد أن لم تكن شيئا مذكورا، ثم هم بعد هذا يكذبون خبره في أنه سيعيد العالمين خلقا جديدا، وقد اعترفوا وشاهدوا ما هو أعجب مما كذبوا به، فالعجب من قولهم: ( أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) وقد علم كل عالم وعاقل أن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس، وأن من بدأ الخلق فالإعادة سهلة عليه، كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

ثم نعت المكذبين بهذا فقال: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ ) أي:يسحبون بها في النار، ( وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) أي:ماكثون فيها أبدا، لا يحولون عنها ولا يزولون.

 

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ( 6 )

يقول تعالى: ( ويستعجلونك ) أي:هؤلاء المكذبون ( بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ) أي:بالعقوبة، كما أخبر عنهم في قوله: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ [ الحجر:6 - 8 ] وقال تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [ العنكبوت:53، 54 ] وقال: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ [ المعارج:1 ] وقال: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ [ الشورى:18 ] وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [ ص:16 ] أي:حسابنا وعقابنا، كما قال مخبرا عنهم: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [ الأنفال:32 ] فكانوا يطلبون من الرسول أن يأتيهم بعذاب الله، وذلك من شدة تكذيبهم وكفرهم وعنادهم.

قال الله تعالى: ( وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ ) أي:قد أوقعنا نقمتنا بالأمم الخالية وجعلناهم مثلة وعبرة وعظة لمن اتعظ بهم.

ثم أخبر تعالى أنه لولا حلمه وعفوه [ وغفره ] لعاجلهم بالعقوبة، كما قال تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ [ فاطر:45 ] .

وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ ) أي:إنه ذو عفو وصفح وستر للناس مع أنهم يظلمون ويخطئون بالليل والنهار. ثم قرن هذا الحكم بأنه شديد العقاب، ليعتدل الرجاء والخوف، كما قال تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [ الأنعام:147 ] وقال: إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [ الأعراف:167 ] وقال: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [ الحجر:49، 50 ] إلى أمثال ذلك من الآيات التي تجمع الرجاء والخوف.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسَيَّب قال:لما نـزلت هذه الآية: ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لولا عفوُ الله وتجاوُزه، ما هنأ أحدا العيش ولولا وعيده وعقابه، لاتكل كل أحد » .

وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة الحسن بن عثمان أبي حسان الزيادي:أنه رأى رب العزة في النوم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بين يديه يشفع في رجل من أمته، فقال له:ألم يكفك أني أنـزلت عليك في سورة الرعد: ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ ) ؟ قال:ثم انتبهت.

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ( 7 )

يقول تعالى إخبارًا عن المشركين أنهم يقولون كفرا وعنادا:لولا يأتينا بآية من ربه كما أرسل الأولون، كما تعنتوا عليه أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن يزيل عنهم الجبال، ويجعل مكانها مروجا وأنهارا، قال الله تعالى: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا [ الإسراء:59 ] .

قال الله تعالى: ( إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ ) أي:إنما عليك أن تبلغ رسالة الله التي أمرك بها، لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [ البقرة:272 ] .

وقوله: ( وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، أي:ولكل قوم داع.

وقال العوفي، عن ابن عباس في تفسيرهما:يقول الله تعالى:أنت يا محمد منذر، وأنا هادي كل قوم، وكذا قال مجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك.

وعن مجاهد: ( وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) أي:نبي. كما قال: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ [ فاطر:24 ] وبه قال قتادة، وعبد الرحمن بن زيد.

وقال أبو صالح، ويحيى بن رافع: ( وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) أي:قائد.

وقال أبو العالية:الهادي:القائد، والقائد:الإمام، والإمام:العمل.

وعن عِكْرِمة، وأبي الضحى: ( وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) قالا هو محمد [ رسول الله ] صلى الله عليه وسلم.

وقال مالك: ( وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) من يدعوهم إلى الله، عز وجل.

وقال أبو جعفر بن جرير:حدثني أحمد بن يحيى الصوفي، حدثنا الحسن بن الحسين الأنصاري، حدثنا معاذ بن مسلم بياع الهروي، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال:لما نـزلت: ( إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) قال:وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره، وقال: « أنا المنذر، ولكل قوم هاد » . وأومأ بيده إلى منكب علي، فقال: « أنت الهادي يا علي، بك يهتدي المهتدون من بعدي » .

وهذا الحديث فيه نكارة شديدة .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن الحسين، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا المطلب بن زياد، عن السدي، عن عبد خير، عن علي: ( وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) قال:الهادي:رجل من بني هاشم:قال الجنيد هو علي بن أبي طالب، رضي الله عنه.

قال ابن أبي حاتم:وروي عن ابن عباس، في إحدى الروايات، وعن أبي جعفر محمد بن علي، نحو ذلك.

اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ ( 8 ) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ( 9 )

يخبر تعالى عن تمام علمه الذي لا يخفى عليه شيء، وأنه محيط بما تحمله الحوامل من كل إناث الحيوانات، كما قال تعالى: وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ [ لقمان:34 ] أي:ما حملت من ذكر أو أنثى، أو حسن أو قبيح، أو شقي أو سعيد، أو طويل العمر أو قصيره، كما قال تعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [ النجم:32 ] .

وقال تعالى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ [ الزمر:6 ] أي:خلقكم طورا من بعد طور، كما قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [ المؤمنون:12:14 ] وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه ملك فيؤمر بأربع كلمات:يَكْتب رزقه، وعمره، وعمله، وشقي أو سعيد » .

وفي الحديث الآخر: « فيقول الملك:أيْ رب، أذكر أم أنثى؟ أي رب، أشقي أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيقول الله، ويكتب الملك » .

وقوله: ( وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ) قال البخاري:حدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثنا مَعْن، حدثنا مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله:لا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله » .

وقال العوفي، عن ابن عباس: ( وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ ) يعني:السَقْط ( وَمَا تَزْدَادُ ) يقول:ما زادت الرحم في الحمل على ما غاضت حتى ولدته تماما. وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر، ومنهن من تحمل تسعة أشهر، ومنهن من تزيد في الحمل، ومنهن من تنقص، فذلك الغيض والزيادة التي ذكر الله تعالى، وكل ذلك بعلمه تعالى.

وقال الضحاك، عن ابن عباس في قوله: ( وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ) قال:ما نقصت من تسعة وما زاد عليها.

وقال الضحاك:وضعتني أمي وقد حملتني في بطنها سنتين، وولدتني وقد نبتت ثنيَّتي.

وقال ابن جُرَيْج، عن جميلة بنت سعد، عن عائشة قالت:لا يكون الحمل أكثر من سنتين، قدر ما يتحرك ظِل مغْزَل.

وقال مجاهد: ( وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ) قال:ما ترى من الدم في حملها، وما تزداد على تسعة أشهر. وبه قال عطية العوفي وقتادة، والحسن البصري، والضحاك.

وقال مجاهد أيضا:إذا رأت المرأة الدم دون التسعة زاد على التسعة، مثل أيام الحيض. وقاله عِكْرِمة، وسعيد بن جبير، وابن زيد.

وقال مجاهد أيضا: ( وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ ) إراقة المرأة حتى يخس الولد ( وَمَا تَزْدَادُ ) إن لم تهرق المرأة تم الولد وعظم.

وقال مكحول:الجنين في بطن أمه لا يطلب، ولا يحزن ولا يغتم، وإنما يأتيه رزقه في بطن أمه من دم حيضتها فمن ثم لا تحيض الحامل. فإذا وقع إلى الأرض استهل، واستهلاله استنكار لمكانه، فإذا قطعت سرته حول الله رزقه إلى ثديي أمه حتى لا يطلب ولا يحزن ولا يغتم، ثم يصير طفلا يتناول الشيء بكفه فيأكله، فإذا هو بلغ قال:هو الموت أو القتل، أنَّى لي بالرزق؟ فيقول مكحول:يا ويلك ! غَذاك وأنت في بطن أمك، وأنت طفل صغير، حتى إذا اشتددت وعقلت قلت:هو الموت أو القتل، أنى لي بالرزق؟ ثم قرأ مكحول: ( اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ )

وقال قتادة: ( وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ ) أي:بأجل، حفظ أرزاق خلقه وآجالهم، وجعل لذلك أجلا معلومًا.

وفي الحديث الصحيح:أن إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم بعثت إليه:أن ابنا لها في الموت، وأنها تحب أن يحضره. فبعث إليها يقول: « إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمروها فلتصبر ولتحتسب » الحديث بتمامه

وقوله: ( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ) أي:يعلم كل شيء مما يشاهده العباد ومما يغيب عنهم، ولا يخفى عليه منه شيء. ( الكبير ) الذي هو أكبر من كل شيء، ( المتعال ) أي:على كل شيء، قد أحاط بكل شيء علما، وقهر كل شيء، فخضعت له الرقاب ودان له العباد، طوعا وكرها.

سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ( 10 ) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ( 11 )

يخبر تعالى عن إحاطة علمه بجميع خلقه، سواء منهم من أسر قوله أو جهر به، فإنه يسمعه لا يخفى عليه شيء كما قال: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [ طه:7 ] وقال: وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ [ النمل:25 ] وقالت عائشة، رضي الله عنها:سبحان الذي وسع سمعه الأصوات، والله لقد جاءت المجادلة تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنا في جنب البيت، وإنه ليخفى عليَّ بعض كلامها، فأنـزل الله: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [ المجادلة:1 ] .

وقوله: ( وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ ) أي:مختف في قعر بيته في ظلام الليل، ( وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ) أي:ظاهر ماش في بياض النهار وضيائه، فإن كليهما في علم الله على السواء، كما قال تعالى: أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ [ هود:5 ] وقال تعالى: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [ يونس:61 ] .

وقوله: ( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ) أي:للعبد ملائكة يتعاقبون عليه، حَرَس بالليل وحَرَس بالنهار، يحفظونه من الأسواء والحادثات، كما يتعاقب ملائكة آخرون لحفظ الأعمال من خير أو شر، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فاثنان عن اليمين و [ عن ] الشمال يكتبان الأعمال، صاحب اليمين يكتب الحسنات، وصاحب الشمال يكتب السيئات، وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه، واحدا من ورائه وآخر من قدامه، فهو بين أربعة أملاك بالنهار، وأربعة آخرين بالليل بدلا حافظان وكاتبان، كما جاء في الصحيح: « يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيصعد إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بكم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون:أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون » وفي الحديث الآخر: « إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء وعند الجماع، فاستحيوهم وأكرموهم » .

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ) والمعقبات من أمر الله، وهي الملائكة.

وقال عِكْرِمة، عن ابن عباس: ( يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ) قال:ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدر الله خَلَّوا عنه.

وقال مجاهد:ما من عبد إلا له مَلَك موكل، يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام، فما منها شيء يأتيه يريده إلا قال الملك:وراءك إلا شيء يأذن الله فيه فيصيبه.

وقال الثوري عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ) قال:ذلك ملك من ملوك الدنيا، له حرس من دونه حرس.

وقال العوفي، عن ابن عباس: ( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ) يعني:ولي الشيطان، يكون عليه الحرس. وقال عِكْرِمة في تفسيرها:هؤلاء الأمراء:المواكب من بين يديه ومن خلفه.

وقال الضحاك: ( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ) قال:هو السلطان المحترس من أمر الله، وهم أهل الشرك.

والظاهر، والله أعلم، أن مُرَاد ابن عباس وعِكْرِمة والضحاك بهذا أن حرس الملائكة للعبيد يشبه حرس هؤلاء لملوكهم وأمرائهم.

وقد روى الإمام أبو جعفر ابن جرير هاهنا حديثًا غريبا جدا فقال:

حدثني المثنى، حدثنا إبراهيم بن عبد السلام بن صالح القشيري، حدثنا علي بن جرير، عن حماد بن سلمة، عن عبد الحميد بن جعفر، عن كنانة العدوي قال:دخل عثمان بن عفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال:يا رسول الله، أخبرني عن العبد، كم معه من ملك ؟ فقال: « ملك على يمينك على حسناتك، وهو آمر على الذي على الشمال، إذا عملت حسنة كتبت عشرا، فإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين:اكتب؟ قال:لا لعله يستغفر الله ويتوب. فإذا قال ثلاثا قال: نعم، اكتب أراحنا الله منه، فبئس القرين. ما أقل مراقبته لله وأقل استحياءه منا » . يقول الله: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ ق:18 ] وملكان من بين يديك ومن خلفك، يقول الله: ( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ) وملك قابض على ناصيتك، فإذا تواضعت لله رفعك، وإذا تجبرت على الله قصمك، وملكان على شفتيك، ليس يحفظان عليك إلا الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم، وملك قائم على فيك لا يَدَع الحية أن تدخل في فيك، وملكان على عينيك فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي ينـزلون ملائكة الليل على ملائكة النهار؛ لأن ملائكة الليل سوى ملائكة النهار، فهؤلاء عشرون ملكا على كل آدمي وإبليس بالنهار وولده بالليل « . »

قال الإمام أحمد، رحمه الله:حدثنا أسود بن عامر، حدثنا سفيان، حدثني منصور، عن سالم بن أبي الجعد عن أبيه، عن عبد الله قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة » . قالوا:وإياك يا رسول الله، قال: « وإياي، ولكن أعانني الله عليه فلا يأمرني إلا بخير » .

انفرد بإخراجه مسلم .

وقوله: ( يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ) قيل:المراد حفظُهم له من أمر الله. رواه علي بن أبي طلحة، وغيره، عن ابن عباس. وإليه ذهب مجاهد، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النَّخَعي، وغيرهم.

وقال قتادة: ( يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ) قال:وفي بعض القراءات: « يحفظونه بأمر الله » .

وقال كعب الأحبار:لو تجلَّى لابن آدم كل سهل وحزن، لرأى كل شيء من ذلك شياطين لولا أن الله وكَّل بكم ملائكة عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم، إذا لتُخُطّفتم.

وقال أبو أمامة ما من آدمي إلا ومعه ملك يَذُود عنه، حتى يسلمه للذي قدر له.

وقال أبو مِجْلَز:جاء رجل من مُرَاد إلى علي، رضي الله عنه، وهو يصلي، فقال:احترس، فإن ناسًا من مراد يريدون قتلك. فقال:إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدّر، فإذا جاء القَدَرُ خَليا بينه وبينه، وإن الأجل جنة حَصِينة.

وقال بعضهم: ( يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ) بأمر الله، كما جاء في الحديث أنهم قالوا:يا رسول الله، أرأيت رُقَى نسترقي بها، هل ترد من قَدَر الله شيئا؟ فقال: « هي من قَدَر الله » .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا حفص بن غياث، عن أشعث، عن جَهْم، عن إبراهيم قال:أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل:أن قل لقومك:إنه ليس من أهل قرية ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله فيتحولون منها إلى معصية الله، إلا تحول لهم مما يحبون إلى ما يكرهون، ثم قال:إن مصداق ذلك في كتاب الله: ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ )

وقد ورد هذا في حديث مرفوع، فقال الحافظ محمد بن عثمان بن أبي شيبة في كتابه « صفة العرش » :حدثنا الحسن بن علي، حدثنا الهيثم بن الأشعث السلمي، حدثنا أبو حنيفة اليمامي الأنصاري، عن عمير بن عبد الله قال:خطبنا علي بن أبي طالب على منبر الكوفة، قال:كنت إذا سكتُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدأني، وإذا سألته عن الخبر أنبأني، وإنه حدثني عن ربه، عز وجل، قال: « قال الرب:وعزتي وجلالي، وارتفاعي فوق عرشي، ما من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على ما كرهتُ من معصيتي، ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي، إلا تحولت لهم عما يكرهون من عذابي إلى ما يحبون من رحمتي » .

وهذا غريب، وفي إسناده من لا أعرفه.

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ( 12 ) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ( 13 )

يخبر تعالى أنه هو الذي يسخر البرق، وهو ما يرى من النور اللامع ساطعا من خلل السحاب.

وروى ابن جرير أن ابن عباس كتب إلى أبي الجلد يسأله عن البرق، فقال:البرق:الماء.

وقوله: ( خَوْفًا وَطَمَعًا ) قال قتادة:خوفا للمسافر، يخاف أذاه ومشقته، وطمعا للمقيم يرجو بركته ومنفعته، ويطمع في رزق الله.

( وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ) أي:ويخلقها منشأة جديدة، وهي لكثرة مائها ثقيلة قريبة إلى الأرض.

قال مجاهد:والسحاب الثقال:الذي فيه الماء.

( وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ) كما قال تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [ الإسراء:44 ] .

وقال الإمام أحمد:حدثنا يزيد، حدثنا إبراهيم بن سعد، أخبرني أبي قال:كنت جالسًا إلى جنب حُمَيْد بن عبد الرحمن في المسجد، فمر شيخ من بني غفار، فأرسل إليه حميد، فلما أقبل قال:يا ابن أخي، وسع له فيما بيني وبينك، فإنه قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاء حتى جلس فيما بيني وبينه، فقال له حميد:ما الحديث الذي حدثتني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال الشيخ:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن الله ينشئ السحاب، فينطق أحسن النطق، ويضحك أحسن الضحك » .

والمراد - والله أعلم - أن نطقَها الرعدُ، وضحكها البرقُ.

وقال موسى بن عبيدة، عن سعد بن إبراهيم قال:يبعث الله الغيث، فلا أحسن منه مضحكا، ولا آنس منه منطقا، فضحكه البرق، ومنطقه الرعد.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عبيد الله الرازي، عن محمد بن مسلم قال:بلغنا أن البرق مَلكٌ له أربعة وجوه:وجه إنسان، ووجه ثور، ووجه نسر، ووجه أسد، فإذا مَصَع بذنبه فذاك البرق.

وقال الإمام أحمد:حدثنا عفان، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا الحجاج، حدثني أبو مطر، عن سالم، عن أبيه قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سَمع الرعْد والصواعق قال: « اللهم، لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك » .

ورواه الترمذي، والبخاري في كتاب الأدب، والنسائي في اليوم والليلة، والحاكم في مستدركه، من حديث الحجاج بن أرطاة، عن أبي مطر - ولم يسم به.

وقال [ الإمام ] أبو جعفر بن جرير:حدثنا أحمد بن إسحاق، حدثنا أبو أحمد، حدثنا إسرائيل، عن أبيه عن رجل، عن أبي هريرة، رفع الحديث قال:إنه كان إذا سمع الرعد قال: « سبحان من يُسبّح الرعْد بحمده » .

وروي عن علي، رضي الله عنه، أنه كان إذا سمع صوت الرعد قال:سبحان من سَبَّحت له.

وكذا روي عن ابن عباس، والأسود بن يزيد، وطاوس:أنهم كانوا يقولون كذلك.

وقال الأوزاعي:كان ابن أبي زكريا يقول:من قال حين يسمع الرعد:سبحان الله وبحمده، لم تصبه صاعقة.

وعن عبد الله بن الزبير أنه كان إذا سمع الرعد ترك الحديث وقال:سبحان الذي يسبّح الرعدُ بحمده والملائكة من خيفته، ويقول:إن هذا لوعيد شديدٌ لأهل الأرض. رواه مالك في الموطأ، والبخاري في كتاب الأدب.

وقال الإمام أحمد:حدثنا سليمان بن داود الطيالسي، حدثنا صَدَقة بن موسى، حدثنا محمد بن واسع، عن شتيز بن نهار، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « قال ربكم عز وجل:لو أن عبيدي أطاعوني لأسقيتهم المطر بالليل، وأطلعت عليهم الشمس بالنهار، ولما أسمعتهم صوت الرعد » .

وقال الطبراني:حدثنا زكريا بن يحيى الساجي، حدثنا أبو كامل الجَحْدري، حدثنا يحيى بن كثير أبو النضر، حدثنا عبد الكريم، حدثنا عطاء، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا سمعتم الرعد فاذكروا الله؛ فإنه لا يصيب ذاكرا » .

وقوله: ( وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ ) أي:يرسلها نقمَةً ينتقم بها ممن يشاء، ولهذا تكثر في آخر الزمان، كما قال الإمام أحمد:

حدثنا محمد بن مصعب، حدثنا عمارة عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « تكثر الصواعق عند اقتراب الساعة، حتى يأتي الرجل القوم فيقول:من صعق تلكم الغداة؟ فيقولون صعِق فلان وفلان وفلان » .

وقد روي في سبب نـزولها ما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي:

حدثنا إسحاق، حدثنا علي بن أبي سارة الشَّيباني، حدثنا ثابت، عن أنس:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلا مرة إلى رجل من فراعنة العرب فقال: « اذهب فادعه لي » . قال:فذهب إليه فقال:يدعوك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له:من رسول الله؟ وما الله؟ أمِن ذهب هو؟ أم من فضة هو؟ أم من نحاس هو؟ قال:فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال:يا رسول الله، قد أخبرتك أنه أعتى من ذلك، قال لي كذا وكذا. فقال: « ارجع إليه الثانية » . أراه، فذهب فقال له مثلها. فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله، قد أخبرتك أنه أعتى من ذلك. قال: « ارجع إليه فادعه » . فرجع إليه الثالثة. قال:فأعاد عليه ذلك الكلام. فبينا هو يكلمه، إذ بعث الله، عز وجل، سحابة حيال رأسه، فرعدت، فوقعت منها صاعقة، فذهب بقحف رأسه فأنـزل الله: ( وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ )

ورواه ابن جرير، من حديث علي بن أبي سارة، به ورواه الحافظ أبو بكر البزار، عن عبدة بن عبد الله، عن يزيد بن هارون، عن ديلم بن غَزْوان، عن ثابت، عن أنس، فذكر نحوه.

وقال:حدثنا الحسن بن محمد، حدثنا عفان، حدثنا أبان بن يزيد، حدثنا أبو عمران الجوقي، عن عبد الرحمن بن صُحَار العبدي:أنه بلغه أن نبي الله بعثه إلى جَبَّار يدعوه، فقال:أرأيتم ربكم، أذهب هو؟ أو فضة هو؟ ألؤلؤ هو؟ قال:فبينا هو يجادلهم، إذ بعث الله سحابة فرعدت فأرسل عليه صاعقة فذهبت بقحف رأسه، ونـزلت هذه الآية.

وقال أبو بكر بن عياش، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد قال:جاء يهودي فقال:يا محمد، أخبرني عن ربك، [ من أي شيء هو ] من نحاس هو؟ من لؤلؤ؟ أو ياقوت؟ قال:فجاءت صاعقة فأخذته، وأنـزل الله: ( وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ )

وقال قتادة:ذُكر لنا أنَّ رجلا أنكر القرآن، وكذب النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل الله صاعقة فأهلكته وأنـزل: ( وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ ) الآية.

وذكروا في سبب نـزولها قصة عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة لما قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فسألاه أن يجعل لهما نصف الأمر فأبى عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عامر بن الطفيل - لعنه الله:أما والله لأملأنَّهَا عليك خيلا جَرْدا ورجالا مردا. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:يأبى الله عليك ذلك وأبناء قَيْلة يعني:الأنصار، ثم إنهما هما بالفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم، وجعل أحدهما يخاطبه، والآخر يستل سيفه ليقتله من ورائه، فحماه الله منهما وعصمه، فخرجا من المدينة فانطلقا في أحياء العرب، يجمعان الناس لحربه، عليه السلام فأرسل الله على أربد سحابة فيها صاعقة فأحرقته. وأما عامر بن الطفيل فأرسل الله عليه الطاعون، فخرجت فيه غُدّة عظيمة، فجعل يقول:يا آل عامر، غُدَّة كغدَّة البكر، وموت في بيت سَلُولية ؟! حتى ماتا لعنهما الله، وأنـزل الله في مثل ذلك:

( وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ ) وفي ذلك يقول لبيد بن ربيعة، أخو أربد يرثيه:

أخشَــى عَـلَى أَرْبَـدَ الحُـتُـوفَ وَلا أرْهَــب نَــوء السّــماك والأسَـد

فَجَــعني الرّعْـدُ والصّـواعِقُ بـالـ فــارس يَــوم الكريهَــة النَّجُــدِ

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني:حدثنا مَسْعَدة بن سعد العطار، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، حدثني عبد العزيز بن عمران، حدثني عبد الرحمن وعبد الله ابنا زيد بن أسلم، عن أبيهما، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس، أن أربد بن قيس بن جَزْء بن جليد بن جعفر بن كلاب، وعامر بن الطفيل بن مالك، قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتهيا إليه وهو جالس، فجلسا بين يديه، فقال عامر بن الطفيل:يا محمد، ما تجعل لي إن أسلمتُ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لك ما للمسلمين، وعليك ما عليهم » . قال عامر بن الطفيل:أتجعل لي الأمر إن أسلمت من بعدك؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ليس ذلك لك ولا لقومك، ولكن لك أعنَّة الخيل » . قال:أنا الآن في أعنَّة خيل نجد، اجعل لي الوبَرَ ولك المدَرَ. قال رسول الله: « لا » . فلما قفلا من عنده قال عامر:أما والله لأملأنَّهَا عليك خيلا ورجالا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يمنعك الله » . فلما خرج أربد وعامر، قال عامر:يا أربد، أنا أشغل عنك محمدا صلى الله عليه وسلم بالحديث، فاضربه بالسيف، فإن الناس إذا قتلت محمدا لم يزيدوا على أن يَرضَوا بالدية، ويكرهوا الحرب، فنعطيهم الدية. قال أربد:أفعل. فأقبلا راجعين إليه، فقال عامر:يا محمد، قم معي أكلمك. فقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلسا إلى الجدار، ووقف معه رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمه، وسَلّ أربدُ السيف، فلما وضع يده على السيف يبست يده على قائم السيف، فلم يستطع سل السيف، فأبطأ أربد على عامر بالضرب، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أربد، وما يصنع، فانصرف عنهما. فلما خرج عامر وأربد من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كانا بالحَرّة، حَرّة واقم نـزلا فخرج إليهما سعد بن معاذ وأسَيد بن حضير فقالا اشخصا يا عدوّي الله، لعنكما الله. فقال عامر:من هذا يا سعد؟ قال:هذا أسَيد بن حُضَير الكتائب فخرجا حتى إذا كانا بالرَّقم، أرسل الله على أربدَ صاعقة فقتلته، وخرج عامر حتى إذا كان بالخريم، أرسل الله قرحة فأخذته فأدركه الليل في بيت امرأة من بني سلول، فجعل يمس قرحته في حلقه ويقول:غدة كغدة الجمل في بيت سَلُولية ترغب أن يموت في بيتها! ثم ركب فرسه فأحضره حتى مات عليه راجعا، فأنـزل الله فيهما: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ إلى قوله: وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [ الرعد:8 - 11 ] - قال:المعقبات من أمر الله يحفظون محمدًا صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر أربد وما قتله به، فقال: ( وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ ) الآية .

وقوله: ( وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ ) أي:يَشُكّون في عظمته، وأنه لا إله إلا هو، ( وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ )

قال ابن جرير:شديدة مماحَلَته في عقوبة من طغى عليه وعتا وتمادى في كفره.

وهذه الآية شبيهة بقوله: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ [ النمل:50، 51 ] .

وعن علي، رضي الله عنه: ( وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ) أي:شديد الأخذ. وقال مجاهد:شديد القوة.

 

لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ ( 14 )

قال علي بن أبى طالب، رضي الله عنه: ( لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ) قال:التوحيد. رواه ابن جرير.

وقال ابن عباس، وقتادة، ومالك عن محمد بن المنْكَدِر: ( لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ) [ قال ] لا إله إلا الله.

( وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ) أي:ومثل الذين يعبدون آلهة غير الله. ( كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ ) قال علي بن أبي طالب:كمثل الذي يتناول الماء من طرف البئر بيده، وهو لا يناله أبدا بيده، فكيف يبلغ فاه؟.

وقال مجاهد: ( كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ ) يدعو الماء بلسانه، ويشير إليه [ بيده ] فلا يأتيه أبدا.

وقيل:المراد كقابض يده على الماء، فإنه لا يحكم منه على شيء، كما قال الشاعر:

فَــإنّي وَإيَّــاكُمْ وَشَــوْقًا إليكــمُ كَقَـابض مَـاء لَـم تَسْـقه أناملُه

وقال الآخر:

فـأصْبَحتُ ممَّـا كـانَ بَيْنِـي وَبَيْنَهـا مِـن الـوُدّ مِثْـلَ القـابضِ المَاءَ بِاليَد

ومعنى الكلام:أن هذا الذي يبسط يده إلى الماء، إما قابضا وإما متناولا له من بُعد، كما أنه لا ينتفع بالماء الذي لم يصل إلى فيه، الذي جعله محلا للشرب، فكذلك هؤلاء المشركون الذين يعبدون مع الله إلها غيره، لا ينتفعون بهم أبدا في الدنيا ولا في الآخرة؛ ولهذا قال: ( وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ )

وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ( 15 )

يخبر تعالى عن عظمته وسلطانه الذي قهر كل شيء، ودان له كل شيء. ولهذا يسجُد له كلّ شيء طوعا من المؤمنين، وكرها من المشركين، ( وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ ) أي:البُكر والآصال، وهو جمع أصيل وهو آخر النهار، كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ [ النحل:48 ] .

قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ( 16 )

يقرر تعالى أنه لا إله إلا هو؛ لأنهم معترفون أنه هو الذي خلق السموات والأرض، وهو ربها ومدبرها، وهم مع هذا قد اتخذوا من دونه أولياء يعبدونهم، وأولئك الآلهة لا تملك لنفسها ولا لعابديها بطريق الأولى ( نَفْعًا وَلا ضَرًّا ) أي:لا تحصل منفعة، ولا تدفع مضرة. فهل يَستَوي من عبد هذه الآلهة مع الله، ومن عبد الله وحده لا شريك له، وهو على نور من ربه؟ ولهذا قال: ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ) أي:أجعل هؤلاء المشركون مع الله آلهة تناظر الرب وتماثله في الخلق، فخلقوا كخلقه، فتشابه الخلق عليهم، فلا يدرون أنها مخلوقة من مخلوق غيره؟ أي:ليس الأمر كذلك، فإنه لا يشابهه شيء ولا يماثله، ولا ندّ له ولا عدْل له، ولا وزير له، ولا ولد ولا صاحبة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وإنما عبد هؤلاء المشركون معه آلهة هم يعترفون أنها مخلوقة له عبيد له، كما كانوا يقولون في تلبيتهم:لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. وكما أخبر تعالى عنهم في قوله: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [ الزمر:3 ] فأنكر تعالى ذلك عليهم، حيث اعتقدوا ذلك، وهو تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [ سبأ:23 ] ، وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [ النجم:26 ] وقال: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [ مريم:93 - 95 ] فإذا كان الجميع عبيدا، فلم يعبد بعضهم بعضا بلا دليل ولا برهان، بل بمجرد الرأي والاختراع والابتداع؟ ثم قد أرسل رسله من أولهم إلى آخرهم تزجرهم عن ذلك، وتنهاهم عن عبادة من سوى الله، فكذبوهم وخالفوهم، فحقت عليهم كلمة العذاب لا محالة، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [ الكهف:49 ] .

أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ ( 17 )

اشتملت هذه الآية الكريمة على مثلين مضروبين للحق في ثباته وبقائه، والباطل في اضمحلاله وفنائه، فقال تعالى: ( أَنـزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ) أي:مطرا، ( فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ) أي:أخذ كل واد بحسبه، فهذا كبير وسع كثيرا من الماء، وهذا صغير فوسع بقدره، وهو إشارة إلى القلوب وتفاوتها، فمنها ما يسع علما كثيرا، ومنها ما لا يتسع لكثير من العلوم بل يضيق عنها، ( فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا ) أي:فجاء على وجه الماء الذي سال في هذه الأودية زَبَدٌ عال عليه، هذا مثل، وقوله: ( وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ) هذا هو المثل الثاني، وهو ما يسبك في النار من ذهب أو فضة ( ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ ) أي:ليجعل حلية أو نحاسا أو حديدًا، فيجعل متاعا فإنه يعلوه زبد منه، كما يعلو ذلك زبد منه. ( كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ) أي:إذا اجتمعا لا ثبات للباطل ولا دوام له، كما أن الزبد لا يثبت مع الماء، ولا مع الذهب ونحوه مما يسبك في النار، بل يذهب ويضمحل؛ ولهذا قال: ( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ) أي:لا ينتفع به، بل يتفرق ويتمزق ويذهب في جانبي الوادي، ويعلق بالشجر وتنسفه الرياح. وكذلك خبث الذهب والفضة والحديد والنحاس يذهب، لا يرجع منه شيء، ولا يبقى إلا الماء وذلك الذهب ونحوه ينتفع به؛ ولهذا قال: ( وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ ) كما قال تعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ [ العنكبوت:43 ] .

قال بعض السلف:كنت إذا قرأتُ مثلا من القرآن فلم أفهمه بَكَيت على نفسي؛ لأن الله تعالى يقول: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:قوله تعالى: ( أَنـزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ) هذا مثل ضربه الله، احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها، فأما الشك فلا ينفع معه العمل، وأما اليقين فينفع الله به أهله. وهو قوله: ( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ) [ وهو الشك ] ( وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ ) وهو اليقين، وكما يجعل الحلي في النار فيؤخذ خالصه ويترك خَبَثه في النار؛ فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشك.

وقال العوفي عن ابن عباس قوله: ( أَنـزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا ) يقول:احتمل السيل ما في الوادي من عود ودِمْنَة ( وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ) فهو الذهب والفضة والحلية والمتاع والنحاس والحديد، فللنحاس والحديد خبث، فجعل الله مثل خبثه كزبد الماء، فأما ما ينفع الناس فالذهب والفضة، وأما ما ينفع الأرض فما شربت من الماء فأنبتت. فجعل ذاك مثل العمل الصالح يبقى لأهله، والعمل السيئ يضمحل عن أهله، كما يذهب هذا الزبد، فكذلك الهدى والحق جاءا من عند الله، فمن عمل بالحق كان له، ويبقى كما يبقى ما ينفع الناس في الأرض. وكذلك الحديد لا يستطاع أن يعمل منه سكين ولا سيف حتى يدخل في النار فتأكل خبَثَه، ويخرج جيده فينتفع به. كذلك يضمحل الباطل إذا كان يوم القيامة، وأقيم الناس، وعرضت الأعمال، فيزيغ الباطل ويهلك، وينتفع أهل الحق بالحق.

وكذلك رُوي في تفسيرها عن مجاهد، والحسن البصري، وعطاء، وقتادة، وغير واحد من السلف والخلف.

وقد ضرب الله، سبحانه وتعالى، في أول سورة البقرة للمنافقين مثلين ناريا ومائيا، وهما قوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ الآية [ البقرة:17 ] ، ثم قال: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ الآية [ البقرة:19 ] . وهكذا ضرب للكافرين في سورة النور مثلين، أحدهما:قوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً [ النور:39 ] الآية، والسراب إنما يكون في شدة الحر؛ ولهذا جاء في الصحيحين: « فيقال لليهود يوم القيامة:فما تريدون؟ فيقولون:أيْ رَبَّنا، عطشنا فاسقنا. فيقال:ألا تردون؟ فيردون النار فإذا هي كالسراب يَحْطِم بعضها بعضا » .

ثم قال في المثل الآخر: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ الآية [ النور:40 ] . وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل غيث أصاب أرضا، فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا، وأصابت طائفة منها [ أخرى ] إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فَقه في دين الله ونَفَعه الله بما بعثني ونفع به، فَعَلِم وَعَلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هُدَى الله الذي أرسلت به » .

فهذا مثل مائي، وقال في الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد:

حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن همام بن مُنَبِّه قال:هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « مثلي ومثلكم، كمثل رجل استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن في النار يقعن فيها، وجعل يحجُزُهُنَّ ويغلبنه فيقتحمن فيها » . قال: « فذلكم مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحُجزكم عن النار، هَلُمّ عن النار [ هَلُمّ عن النار، هَلُمّ ] فتغلبوني فتقتحمون فيها » . وأخرجاه في الصحيحين أيضا فهذا مثل ناري.

لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ( 18 )

يخبر تعالى عن مآل السعداء والأشقياء فقال: ( لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ ) أي:أطاعوا الله ورسوله، وانقادوا لأوامره، وصدقوا أخباره الماضية والآتية، فلهم ( الحسنى ) وهو الجزاء الحسن كما قال تعالى مخبرًا عن ذي القرنين أنه قال: قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا [ الكهف:87، 88 ] وقال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [ يونس:26 ] .

وقوله: ( وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ ) أي لم:يطيعوا الله ( لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ) أي:في الدار الآخرة، لو أن يمكنهم أن يفتدوا من عذاب الله بملء الأرض ذهبا ومثله معه لافتدوا به، ولكن لا يتقبل منهم؛ لأنه تعالى لا يقبل منهم يوم القيامة صرفا ولا عدلا ( أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ ) أي:في الدار الآخرة، أي:يناقشون على النقير والقطمير، والجليل والحقير، ومن نوقش الحساب عذب؛ ولهذا قال: ( وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ )

 

أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ ( 19 )

يقول تعالى:لا يستوي من يعلم من الناس أن الذي ( أُنـزلَ إِلَيْكَ ) يا محمد ( مِنْ رَبِّكَ ) هوَ ( الحق ) أي:الذي لا شك فيه ولا مرية ولا لبس فيه ولا اختلاف فيه، بل هو كله حق يصدق بعضه بعضا، لا يضاد شيء منه شيئا آخر، فأخباره كلها حق، وأوامره ونواهيه عدل، كما قال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا [ الأنعام:115 ] أي:صدقا في الإخبار، وعدلا في الطلب، فلا يستوي من تحقق صدق ما جئت به يا محمد، ومن هو أعمى لا يهتدي إلى خير ولا يفهمه، ولو فهمه ما انقاد له، ولا صدقه ولا اتبعه، كما قال تعالى: لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [ الحشر:20 ] وقال في هذه الآية الكريمة: ( أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنـزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى ) أي:أفهذا كهذا؟ لا استواء.

وقوله: ( إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ ) أي:إنما يتعظ ويعتبر ويعقل أولو العقول السليمة الصحيحة جعلنا الله منهم [ بفضله وكرمه ] .

الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ ( 20 ) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ( 21 ) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ( 22 ) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ ( 23 ) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ( 24 )

يقول تعالى مخبرًا عمن اتصف بهذه الصفات الحميدة، بأن لهم ( عُقْبَى الدَّارِ ) وهي العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة.

( الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ ) وليسوا كالمنافقين الذين إذا عاهد أحدهم غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا حدث كذب، وإذا ائتمن خان.

( وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ) من صلة الأرحام، والإحسان إليهم وإلى الفقراء والمحاويج، وبذل المعروف، ( وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ) أي:فيما يأتون وما يذرون من الأعمال، يراقبون الله في ذلك، ويخافون سوء الحساب في الدار الآخرة. فلهذا أمرهم على السداد والاستقامة في جميع حركاتهم وسكناتهم وجميع أحوالهم القاصرة والمتعدية.

( وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ ) أي:عن المحارم والمآثم، ففطموا نفوسهم عن ذلك لله عز وجل؛ ابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه ( وَأَقَامُوا الصَّلاةَ ) بحدودها ومواقيتها وركوعها وسجودها وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي، ( وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ) أي:على الذين يجب عليهم الإنفاق لهم من زوجات وقرابات وأجانب، من فقراء ومحاويج ومساكين، ( سِرًّا وَعَلانِيَةً ) أي:في السر والجهر، لم يمنعهم من ذلك حال من الأحوال، في آناء الليل وأطراف النهار، ( وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ) أي:يدفعون القبيح بالحسن، فإذا آذاهم أحد قابلوه بالجميل صبرا واحتمالا وصفحا وعفوا، كما قال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [ فصلت:34، 35 ] ؛ ولهذا قال مخبرًا عن هؤلاء السعداء المتصفين بهذه الصفات الحسنة بأن لهم عقبى الدار، ثم فسر ذلك بقوله: ( جَنَّاتِ عَدْنٍ ) والعدن:الإقامة، أي:جنات إقامة يخلدون فيها.

وعن عبد الله بن عمرو أنه قال:إن في الجنة قصرا يقال له: « عدن » ، حوله البروج والمروج، فيه خمسة آلاف باب، على كل باب خمسة آلاف حِبْرة لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد.

وقال الضحاك في قوله: ( جَنَّاتِ عَدْنٍ ) مدينة الجنة، فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى، والناس حولهم بعد والجنات حولها. رواهما ابن جرير.

وقوله: ( وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ) أي:يجمع بينهم وبين أحبابهم فيها من الآباء والأهلين والأبناء، ممن هو صالح لدخول الجنة من المؤمنين؛ لتقر أعينهم بهم، حتى إنه ترفع درجة الأدنى إلى درجة الأعلى، من غير تنقيص لذلك الأعلى عن درجته، بل امتنانًا من الله وإحسانا، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [ الطور:21 ] .

وقوله: ( وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ) أي:وتدخل عليهم الملائكة من هاهنا وهاهنا للتهنئة بدخول الجنة، فعند دخولهم إياها تفد عليهم الملائكة مسلمين مهنئين لهم بما حصل لهم من الله من التقريب والإنعام، والإقامة في دار السلام، في جوار الصديقين والأنبياء والرسل الكرام.

وقال الإمام أحمد، رحمه الله:حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثني سعيد بن أبي أيوب، حدثنا معروف بن سُوَيْد الجذامي عن أبي عشانة المعافري، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله؟ » قالوا:الله ورسوله أعلم. قال: « أول من يدخل الجنة من خلق الله الفقراء المهاجرون الذين تُسدُّ بهم الثغور، وتُتَّقَى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، فيقول الله تعالى لمن يشاء من ملائكته:ائتوهم فحيوهم. فتقول الملائكة:نحن سكان سمائك، وخيرتك من خلقك، أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم؟ قال:إنهم كانوا عبادا يعبدونني لا يشركون بي شيئًا، وتُسَد بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره فلا يستطيع لها قضاء » . قال: « فتأتيهم الملائكة عند ذلك، فيدخلون عليهم من كل باب، ( سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ) »

ورواه أبو القاسم الطبراني، عن أحمد بن رشدين، عن أحمد بن صالح، عن عبد الله بن وهب، عن عَمْرو بن الحارث، عن أبي عُشَّانة سمع عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « أول ثلة يدخلون الجنة فقراء المهاجرين، الذين تتقى بهم المكاره، وإذا أمروا سمعوا وأطاعوا، وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى سلطان لم تُقْضَ حتى يموت وهي في صدره، وإن الله يدعو يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفها وزينتها، فيقول:أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي، وأوذوا في سبيلي، وجاهدوا في سبيلي؟ ادخلوا الجنة بغير عذاب ولا حساب، وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون:ربنا نحن نسبحك الليل والنهار، ونُقدس لك، من هؤلاء الذين آثرتهم علينا؟ فيقول الرب عز وجل:هؤلاء عبادي الذين جاهدوا في سبيلي، وأوذوا في سبيلي فتدخل عليهم الملائكة من كل باب: ( سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ) »

وقال عبد الله بن المبارك، عن بَقِيَّة بن الوليد، حدثنا أرطاة بن المنذر، سمعت رجلا من مشيخة الجند، يقال له « أبو الحجاج » يقول:جلست إلى أبي أمامة فقال:إن المؤمن ليكون متكئًا على أريكته إذا دخل الجنة، وعنده سماطان من خدم، وعند طرف السماطين باب مبوب، فيقبل الملك فيستأذن، فيقول [ أقصى الخدم ] للذي يليه: « مَلك يستأذن » ، ويقول الذي يليه للذي يليه: « ملك يستأذن » ، حتى يبلغ المؤمن فيقول:ائذنوا. فيقول أقربهم إلى المؤمن:ائذنوا، ويقول الذي يليه للذي يليه:ائذنوا حتى يبلغ أقصاهم الذي عند الباب، فيفتح له، فيدخل فيسلم ثم ينصرف. رواه ابن جرير .

ورواه ابن أبي حاتم من حديث إسماعيل بن عياش، عن أرطاة بن المنذر، عن أبي الحجاج يوسف الألهاني قال:سمعت أبا أمامة، فذكر نحوه.

وقد جاء في الحديث:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور قبور الشهداء في رأس كل حول، فيقول لهم: ( سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ) وكذا أبو بكر، وعمر وعثمان .

وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ( 25 )

هذا حال الأشقياء وصفاتهم، وذكر مآلهم في الدار الآخرة ومصيرهم إلى خلاف ما صار إليه المؤمنون، كما أنهم اتصفوا بخلاف صفاتهم في الدنيا، فأولئك كانوا يوفون بعهد الله ويصلون ما أمر الله به أن يوصل، وهؤلاء ( يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ ) كما ثبت في الحديث: « آية المنافق ثلاث:إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان » وفي رواية: « وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فَجر » .

ولهذا قال: ( أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ ) وهي الإبعاد عن الرحمة، ( وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) وهي سوء العاقبة والمآل، ومأواهم جهنم وبئس القرار.

وقال أبو العالية في قوله: ( وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ ) الآية، قال:هي ست خصال في المنافقين إذا كان فيهم الظَّهرة على الناس أظهروا هذه الخصال:إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا ائتمنوا خانوا، ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وأفسدوا في الأرض. وإذا كانت الظَّهرة عليهم أظهروا الثلاث الخصال:إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا ائتمنوا خانوا.

اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ ( 26 )

يذكر تعالى أنه هو الذي يوسع الرزق على من يشاء، ويقتره على من يشاء، لما له في ذلك من الحكمة والعدل. وفرح هؤلاء الكفار بما أوتوا في الحياة الدنيا استدراجا لهم وإمهالا كما قال تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ [ المؤمنون:55، 56 ] .

ثم حقر الحياة الدنيا بالنسبة إلى ما ادخره تعالى لعباده المؤمنين في الدار الآخرة فقال: ( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ ) كما قال: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا [ النساء:77 ] وقال بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [ الأعلى:16 ، 17 ] .

وقال الإمام أحمد:حدثنا وَكِيع ويحيى بن سعيد قالا حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن المستورد أخي بني فهر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم، فلينظر بم ترجع » وأشار بالسبابة. ورواه مسلم في صحيحه.

وفي الحديث الآخر:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بِجَدْيٍ أسكَّ ميتٍ - والأسك الصغير الأذنين - فقال: « والله للدنيا أهون على الله من هذا على أهله حين ألقوه » .

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ( 27 ) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ( 28 )

يخبر تعالى عن قيل المشركين: ( لَوْلا ) أي:هلا ( أُنـزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) كما قالوا: فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ [ الأنبياء:5 ] وقد تقدم الكلام على هذا غير مرة، وإن الله قادر على إجابة ما سألوا. وفي الحديث:أن الله أوحى إلى رسوله لما سألوه أن يحول لهم الصفا ذهبًا، وأن يجري لهم ينبوعًا، وأن يزيح الجبال من حول مكة فيصير مكانها مروج وبساتين:إن شئت يا محمد أعطيتهم ذلك، فإن كفروا فإني أعذبهم عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين، وإن شئت فتحت عليهم باب التوبة والرحمة، فقال: « بل تفتح لهم باب التوبة والرحمة » ؛ ولهذا قال لرسوله: ( قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ) أي:هو المضل والهادي، سواء بعث الرسول بآية على وفق ما اقترحوا، أو لم يجبهم إلى سؤالهم؛ فإن الهداية والإضلال ليس منوطا بذلك ولا عدمه، كما قال: وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [ يونس:101 ] وقال إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [ يونس:96، 97 ] وقال وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [ الأنعام:111 ] ؛ ولهذا قال: ( قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ) أي:ويهدي من أناب إلى الله، ورجع إليه، واستعان به، وتضرع لديه.

( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ) أي:تطيب وتركن إلى جانب الله، وتسكن عند ذكره، وترضى به مولى ونصيرًا؛ ولهذا قال: ( أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) أي:هو حقيق بذلك.

 

الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ ( 29 )

( الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ ) قال ابن أبي طلحة، عن ابن عباس:فرح وقُرة عين. وقال عِكْرِمة:نعم مالهم.

وقال الضحاك:غبطة لَهُم. وقال إبراهيم النَّخعي:خير لهم.

وقال قتادة:هي كلمة عربية يقول الرجل: « طوبى لك » ، أي:أصبت خيرًا. وقال في رواية: ( طُوبَى لَهُمْ ) حسنى لهم.

( وَحُسْنُ مَآبٍ ) أي:مرجع.

وهذه الأقوال شيء واحد لا منافاة بينها.

وقال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( طُوبَى لَهُمْ ) قال:هي أرض الجنة بالحبشية.

وقال سعيد بن مَسْجُوح:طوبى اسم الجنة بالهندية. وكذا روى السدي، عن عِكْرِمة: ( طُوبَى لَهُمْ ) أي:الجنة. وبه قال مجاهد.

وقال العوفي، عن ابن عباس:لما خلق الله الجنة وفرغ منها قال: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ ) وذلك حين أعجبته.

وقال ابن جرير:حدثنا ابن حميد، حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن شَهْر بن حَوْشَب قال: ( طُوبَى ) شجرة في الجنة، كل شجر الجنة منها، أغصانها من وراء سور الجنة.

وهكذا رُوي عن أبي هريرة، وابن عباس، ومغيث بن سُمَىّ، وأبي إسحاق السَّبِيعي وغير واحد من السلف:أن طوبى شجرة في الجنة، في كل دار منها غصن منها.

وذكر بعضهم أن الرحمن، تبارك وتعالى، غرسها بيده من حبة لؤلؤة، وأمرها أن تمتد، فامتدت إلى حيث يشاء الله تبارك وتعالى، وخرجت من أصلها ينابيع أنهار الجنة، من عسل وخمر وماء ولبن.

وقد قال عبد الله بن وهب:حدثنا عمرو بن الحارث، أن درَّاجا أبا السَّمْح حدثه، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، [ مرفوعا: « طوبى:شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا حسن بن موسى، سمعت عبد الله بن لَهِيعة، حدثنا دَرَّاج أبو السمح، أن أبا الهيثم حدثه، عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:أن رجلا قال:يا رسول الله، طوبى لمن رآك وآمن بك. قال: « طوبى لمن رآني وآمن بي، ثم طوبى، ثم طوبى، ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني » . قال له رجل:وما طوبى؟ قال: « شجرة في الجنة مسيرة مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها » .

وروى البخاري ومسلم جميعًا، عن إسحاق بن راهويه، عن مغيرة المخزومي، عن وَهيب، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها » قال:فحدثت به النعمان بن أبي عياش الزّرَقي، فقال:حدثني أبو سعيد الخُدْري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجَوَاد المضمَّرَ السريع مائة عام ما يقطعها » .

وفي صحيح البخاري، من حديث يزيد بن زُرَيع، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ [ الواقعة:30 ] قال: « في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا سُرَيْج، حدثنا فُلَيْح، عن هلال بن علي، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة اقرءوا إن شئتم وَظِلٍّ مَمْدُودٍ أخرجاه في الصحيحين » .

وقال [ الإمام ] أحمد أيضًا:حدثنا محمد بن جعفر وحجاج قالا حدثنا شعبة، سمعت أبا الضحاك يحدث عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين - أو:مائة - سنة هي شجرة الخلد » .

وقال محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر، رضي الله عنها، قالت:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر سدرة المنتهى، قال: « يسير في ظل الفنن منها الراكب مائة سنة - أو:قال- :يستظل في الفنن منها مائة راكب، فيها فراش الذهب، كأن ثمرها القلال » . رواه الترمذي.

وقال إسماعيل بن عياش، عن سعيد بن يوسف، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلام الأسود قال:سمعت أبا أمامة الباهلي قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما منكم من أحد يدخل الجنة إلا انطلق به إلى طوبى، فتفتح له أكمامها، فيأخذ من أي ذلك شاء، إن شاء أبيض، وإن شاء أحمر، وإن شاء أصفر، وإن شاء أسود، مثل شقائق النعمان وأرق وأحسن » .

وقال الإمام أبو جعفر بن جرير:حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن ثور، عن مَعْمَر، عن أشعث بن عبد الله، عن شَهْر بن حَوْشَب، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:طوبى شجرة في الجنة، يقول الله لها: « تَفَتَّقي لعبدي عَمّا شاء؛ فتفتق له عن الخيل بسروجها ولجمها، وعن الإبل بأزمتها، وعما شاء من الكسوة » .

وقد روى ابن جرير عن وهب بن منبه هاهنا أثرًا غريبًا عجيبا، قال وهب، رحمه الله:إن في الجنة شجرة يقال لها: « طوبى » ، يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، زهرها رياط، وورقها برود، وقضبانها عنبر، وبطحاؤها ياقوت، وترابها كافور، وَوحَلها مسك، يخرج من أصلها أنهار الخمر واللبن والعسل، وهي مجلس لأهل الجنة، فبينا هم في مجلسهم إذ أتتهم ملائكة من ربهم يقودون نجبا مزمومة بسلاسل من ذهب وجوهها كالمصابيح حسنا ووبرها كخز المْرعِزّي من لينه، عليها رحال ألواحها من ياقوت، ودفوفها من ذهب، وثيابها من سندس وإستبرق، فينيخونها ويقولون:إن ربنا أرسلنا إليكم لتزوروه وتسلموا عليه قال:فيركبونها، فهي أسرع من الطائر، وأوطأ من الفراش، نجيا من غير مَهَنَة، يسير الرجل إلى جنب أخيه وهو يكلمه ويناجيه، لا تصيب أذن راحلة منها أذن الأخرى، ولا بَرك راحلة برك الأخرى، حتى إن شجرة لتتنحَّى عن طريقهم، لئلا تفرق بين الرجل وأخيه. قال:فيأتون إلى الرحمن الرحيم فيسفر لهم عن وجهه الكريم حتى ينظروا إليه، فإذا رأوه قالوا:اللهم، أنت السلام ومنك السلام، وحق لك الجلال والإكرام. قال: « فيقول تعالى [ عند ذلك ] أنا السلام ومني السلام، وعليكم حقت رحمتي ومحبتي، مرحبا بعبادي الذين خشوني بغيب وأطاعوا أمري » .

قال:فيقولون:ربنا لم نعبدك حق عبادتك، ولم نقدرك حق قدرك، فأذن لنا في السجود قُدامك قال:فيقول الله: « إنها ليست بدار نصب ولا عبادة، ولكنها دار مُلْك ونعيم، وإني قد رفعت عنكم نصب العبادة، فسلوني ما شئتم، فإن لكل رجل منكم أمنيته » فيسألونه، حتى أن أقصرهم أمنية ليقول:رب، تنافس أهل الدنيا في دنياهم فتضايقوا فيها، رب فآتنى مثل كل شيء كانوا فيه من يوم خلقتها إلى أن انتهت الدنيا. فيقول الله تعالى: « لقد قصرت بك أمنيتك، ولقد سألت دون منـزلتك، هذا لك مني، [ وسأتحفك بمنـزلتي ] ؛ لأنه ليس في عطائي نكد ولا تَصريد » . قال:ثم يقول: « اعرضوا على عبادي ما لم يبلغ أمانيهم، ولم يخطر لهم على بال » . قال: « فيعرضون عليهم حتى تَقْصر بهم أمانيهم التي في أنفسهم، فيكون فيما يعرضون عليهم براذين مُقْرنة، على كل أربعة منها سرير من ياقوتة واحدة، على كل سرير منها قبة من ذهب مُفرَّغة، في كل قبة منها فرش من فُرش الجنة مُتظاهرة، في كل قبة منها جاريتان من الحور العين، على كل جارية منهن ثوبان من ثياب الجنة، وليس في الجنة لون إلا وهو فيهما ولا ريح طيبة إلا قد عبقتا به ينفذ ضوء وجوههما غلظ القبة، حتى يظن من يراهما أنهما دون القبة، يرى مخهما من فوق سوقهما، كالسلك الأبيض في ياقوتة حمراء، يريان له من الفضل على صاحبته كفضل الشمس على الحجارة أو أفضل، ويرى هو لهما مثل ذلك، ويدخل إليهما فيحييانه ويقبلانه ويعتنقان به، ويقولان له:والله ما ظننا أن الله يخلق مثلك. ثم يأمر الله تعالى الملائكة فيسيرون بهم صفا في الجنة، حتى ينتهى بكل رجل منهم إلى منـزلته التي أعدت له » .

وقد روى هذا الأثر ابن أبي حاتم بسنده، عن وهب بن منبه، وزاد:فانظروا إلى موهوب ربكم الذي وهب لكم، فإذا هو بقباب في الرفيق الأعلى، وغرف مبنية من الدر والمرجان، وأبوابها من ذهب، وسررها من ياقوت، وفرشها من سندس وإستبرق، ومنابرها من نور، يفور من أبوابها وعراصها نور مثل شعاع الشمس عنده مثل الكوكب الدري في النهار المضيء، وإذا بقصور شامخة في أعلى عليين من الياقوت يزهو نورها، فلولا أنه مُسَخر، إذًا لالتمع الأبصارَ، فما كان من تلك القصور من الياقوت [ الأبيض، فهو مفروش بالحرير الأبيض، وما كان منها من الياقوت الأحمر فهو مفروش بالعبقري الأحمر، وما كان منها من الياقوت الأخضر ] فهو مفروش بالسندس الأخضر، وما كان منها من الياقوت الأصفر، فهو مفروش بالأرجوان الأصفر منـزه بالزمرد الأخضر، والذهب الأحمر، والفضة البيضاء، قوائمها وأركانها من الجوهر، وشُرُفها قباب من لؤلؤ، وبروجها غُرَف من المرجان. فلما انصرفوا إلى ما أعطاهم ربهم، قُرّبت لهم براذين من ياقوت أبيض، منفوخ فيها الروح، تَجنَبها الولدان المخلدون بيد كل وليد منهم حكمة بِرْذَون من تلك البراذين، ولجمها وأعنتها من فضة بيضاء، منظومة بالدر والياقوت، سُرُوجها سُرُرٌ موضونة، مفروشة بالسندس والإستبرق. فانطلقت بهم تلك البراذين تَزَف بهم ببطن رياض الجنة. فلما انتهوا إلى منازلهم، وجدوا الملائكة قُعُودًا على منابر من نور، ينتظرونهم ليزوروهم ويصافحوهم ويهنئوهم كرامَةَ ربهم. فلما دخلوا قصورهم وجدوا فيها جميع ما تَطَاول به عليهم وما سألوا وتمنوا، وإذا على باب كلّ قصر من تلك القصور أربعة جنان، [ جنتان ] ذواتا أفنان، وجنتان مُدْهامتان، وفيهما عينان نضاختان، وفيهما من كل فاكهة زوجان، وحور مقصورات في الخيام، فلما تَبَيَّنُوا منازلهم واستقروا قرارهم قال لهم ربهم:هل وجدتم ما وعدتكم حقا؟ قالوا:نعم ورَبِّنَا. قال:هل رضيتم ثواب ربكم؟ قالوا:ربنا، رضينا فارض عنا قال:برضاي عنكم حللتم داري، ونظرتم إلى وجهي، وصافحتكم ملائكتي، فهنيئًا هنيئًا لكم، عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [ هود:108 ] ليس فيه تنغيص ولا تصريد. فعند ذلك قالوا:الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، وأدخلنا دار المقامة من فضله، لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب، إن ربنا لغفور شكور.

وهذا سياق غريب، وأثر عجيب ولبعضه شواهد، ففي الصحيحين:أن الله تعالى يقول لذلك الرجل الذي يكون آخر أهل الجنة دخولا الجنة: « تمن » ، فيتمنى حتى إذا انتهت به الأماني يقول الله تعالى: « تمن من كذا وتمن من كذا » ، يذكره، ثم يقول: « ذلك لك، وعشرة أمثاله » .

وفي صحيح مسلم، عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله، عز وجل « يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك من ملكي شيئا، إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل في البحر » ، الحديث بطوله.

وقال خالد بن مَعْدَان:إن في الجنة شجرة يقال لها طوبى، لها ضروع، كلها ترضع صِبيَان أهل الجنة، وإن سَقَط المرأة يكون في نهر من أنهار الجنة، يتقلب فيه حتى تقوم القيامة، فيبعث ابن أربعين سنة. رواه ابن أبي حاتم.

كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ( 30 )

يقول تعالى:وكما أرسلناك يا محمد في هذه الأمة: ( لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ) أي:تبلغهم رسالة الله إليهم، كذلك أرسلنا في الأمم الماضية الكافرة بالله، وقد كُذّب الرسل من قبلك، فلك بهم أسوة، وكما أوقعنا بأسنا ونقمتنا بأولئك، فليحذر هؤلاء من حلول النقم بهم، فإن تكذيبهم لك أشدّ من تكذيب غيرك من المرسلين، قال الله تعالى: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [ النحل:63 ] وقال تعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ [ الأنعام:34 ] أي:كيف نصرناهم، وجعلنا العاقبة لهم ولأتباعهم في الدنيا والآخرة.

وقوله: ( وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ ) أي:هذه الأمة التي بعثناك فيهم يكفرون بالرحمن، لا يقرون به؛ لأنهم كانوا يأنفون من وصف الله بالرحمن الرحيم؛ ولهذا أنفوا يوم الحديبية أن يكتبوا « بسم الله الرحمن الرحيم » وقالوا:ما ندري ما الرحمن الرحيم. قاله قتادة، والحديث في صحيح البخاري وقد قال الله تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [ الإسراء:110 ] وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن » .

( قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا هُوَ ) أي:هذا الذي تكفرون به أنا مؤمن به، معترف مقر له بالربوبية والإلهية، هو ربي لا إله إلا هو، ( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ) أي:في جميع أموري، ( وَإِلَيْهِ مَتَابِ ) أي:إليه أرجع وأنيب، فإنه لا يستحق ذلك أحد سواه.

وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ( 31 )

يقول تعالى مادحا للقرآن الذي أنـزله على محمد صلى الله عليه وسلم، ومفضلا له على سائر الكتب المنـزلة قبله: ( وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ) أي:لو كان في الكتب الماضية كتاب تسير به الجبال عن أماكنها، أو تقطع به الأرض وتنشق أو تكلم به الموتى في قبورها، لكان هذا القرآن هو المتصف بذلك دون غيره، أو بطريق الأولى أن يكون كذلك؛ لما فيه من الإعجاز الذي لا يستطيع الإنس والجن عن آخرهم إذا اجتمعوا أن يأتوا بمثله، ولا بسورة من مثله، ومع هذا فهؤلاء المشركون كافرون به، جاحدون له، ( بَلْ لِلَّهِ الأمْرُ جَمِيعًا ) أي:مرجع الأمور كلها إلى الله، عز وجل، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ومن يضلل فلا هادي له، ومن يهد الله فلا مضل له.

وقد يطلق اسم القرآن على كل من الكتب المتقدمة؛ لأنه مشتق من الجميع، قال الإمام أحمد:

حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن همام بن منبه قال:هذا ما حدثنا أبو هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « خُفِّفَت على داود القراءة، فكان يأمر بدابته أن تسرج، فكان يقرأ القرآن من قبل أن تُسرج دابته، وكان لا يأكل إلا من عمل يديه » . انفرد بإخراجه البخاري.

والمراد بالقرآن هنا الزبور.

وقوله: ( أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا ) أي:من إيمان جميع الخلق ويعلموا أو يتبينوا ( أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا ) فإنه ليس ثم حجة ولا معجزة أبلغ ولا أنجع في النفوس والعقول من هذا القرآن، الذي لو أنـزله الله على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله. وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ما من نبي إلا وقد أوتي ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة » معناه:أن معجزة كل نبي انقرضت بموته، وهذا القرآن حجة باقية على الآباد، لا تنقضي عجائبه، ولا يَخْلَقُ عن كثرة الردّ، ولا يشبع منه العلماء، هو الفصل ليس بالهزل. من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا منجاب بن الحارث، أنبأنا بشر بن عمارة، حدثنا عمر بن حسان، عن عطية العوفي قال:قلت له: ( وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ) الآية، قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم:لو سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع فنحرث فيها، أو قطعت لنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح، أو أحييت لنا الموتى كما كان عيسى يحيي الموتى لقومه فأنـزل الله هذه الآية. قال:قلت:هل تروون هذا الحديث عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال:نعم، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وكذا روي عن ابن عباس، والشعبي، وقتادة، والثوري، وغير واحد في سبب نـزول هذه الآية، فالله أعلم.

وقال قتادة:لو فعل هذا بقرآن غير قرآنكم، فُعل بقرآنكم.

وقوله: ( بَلْ لِلَّهِ الأمْرُ جَمِيعًا ) قال ابن عباس: [ أي ] لا يصنع من ذلك إلا ما يشاء، ولم يكن ليفعل، رواه ابن إسحاق بسنده عنه، وقاله ابن جرير أيضًا.

وقال غير واحد من السلف في قوله: ( أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا ) أفلم يعلم الذين آمنوا. وقرأ آخرون: « أفلم يتبين الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا » .

وقال أبو العالية:قد يئس الذين آمنوا أن يهدوا، ولو يشاء الله لهدى الناس جميعا.

وقوله: ( وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ ) أي:بسبب تكذيبهم، لا تزال القوارع تصيبهم في الدنيا، أو تصيب من حولهم ليتعظوا ويعتبروا، كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [ الأحقاف:27 ] وقال أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ [ الأنبياء:44 ] .

قال قتادة، عن الحسن: ( أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ ) أي:القارعة. وهذا هو الظاهر من السياق.

قال أبو داود الطيالسي:حدثنا المسعودي، عن قتادة، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس في قوله: ( وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ ) قال:سرية، ( أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ ) قال:محمد صلى الله عليه وسلم، ( حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ ) قال:فتح مكة.

وهكذا قال عِكْرِمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد، في رواية.

وقال العوفي، عن ابن عباس: ( تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ ) قال:عذاب من السماء ينـزل عليهم ( أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ ) يعني:نـزول رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وقتاله إياهم.

وكذا قال مجاهد، وقتادة، وقال عِكْرِمة في رواية عنه، عن ابن عباس: ( قَارِعَةٌ ) أي:نكبة.

وكلهم قال: ( حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ ) يعني:فتح مكة. وقال الحسن البصري:يوم القيامة.

وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ) أي:لا ينقض وعده لرسله بالنصرة لهم ولأتباعهم في الدنيا والآخرة، فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [ إبراهيم:47 ] .

وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ( 32 )

يقول تعالى مسليا لرسوله صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قومه: ( وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ ) أي:فلك فيهم أسوة، ( فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) أي:أنظرتهم وأجلتهم، ( ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ ) أخذةً رابية، فكيف بلغك ما صنعت بهم وعاقبتهم؟ كما قال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ [ الحج:48 ] وفي الصحيحين: « إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته » ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [ هود:102 ] .

أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ( 33 )

يقول تعالى: ( أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ) أي:حفيظ عليم رقيب على كل نفس منفوسة، يعلم ما يعمل العاملون من خير وشر، ولا يخفى عليه خافية، وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ [ يونس:61 ] وقال تعالى: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا [ الأنعام:59 ] وقال وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [ هود:6 ] وقال سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ [ الرعد:10 ] وقال يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [ طه:7 ] وقال وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [ الحديد:4 ] أفمن هو هكذا كالأصنام التي يعبدونها لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل، ولا تملك نفعا لأنفسها ولا لعابديها، ولا كشف ضر عنها ولا عن عابديها؟ وحذف هذا الجواب اكتفاء بدلالة السياق عليه، وهو قوله: ( وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ ) أي:عبدوها معه، من أصنام وأنداد وأوثان.

( قُلْ سَمُّوهُمْ ) أي:أعلمونا بهم، واكشفوا عنهم حتى يُعرَفوا، فإنهم لا حقيقة لهم؛ ولهذا قال: ( أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأرْضِ ) أي:لا وجود له؛ لأنه لو كان له وجود في الأرض لعلمها؛ لأنه لا تخفى عليه خافية.

( أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ ) قال مجاهد:بظن من القول.

وقال الضحاك وقتادة:بباطل من القول.

أي إنما عبدتم هذه الأصنام بظن منكم أنها تنفع وتضر، وسميتموها آلهة، إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى [ النجم:23 ] .

( بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ ) قال مجاهد:قولهم، أي:ما هم عليه من الضلال والدعوة إليه آناء الليل وأطراف النهار، كما قال تعالى: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ [ فصلت:25 ] .

« وصَدُّوا عن السَّبِيل » :من قرأها بفتح الصاد، معناه:أنهم لما زين لهم ما فيه وأنه حق، دَعَوا إليه وصَدّوا الناس عن اتباع طريق الرسل. ومن قرأها ( وَصُدُّوا ) أي:بما زين لهم من صحة ما هم عليه، صدوا به عن سبيل الله؛ ولهذا قال: ( وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) كَمَا قَالَ وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [ المائدة:41 ] وقال إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [ النحل:37 ] .

لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ( 34 )

ذكر تعالى عقاب الكفار وثواب الأبرار:فقال بعد، إخباره عن حال المشركين وما هم عليه من الكفر والشرك: ( لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) أي:بأيدي المؤمنين قتلا وأسرا، ( وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ ) أي:المدّخَر [ لهم ] مع هذا الخزي في الدنيا، « أشق » أي:من هذا بكثير، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين: « إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة » وهو كما قال، صلوات الله وسلامه عليه، فإن عذاب الدنيا له انقضاء، وذاك دائم أبدا في نار هي بالنسبة إلى هذه سبعون ضعفا، ووثاق لا يتصور كثافته وشدته، كما قال تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ [ الفجر:25، 26 ] وقال تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا * إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا * قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا [ الفرقان:11 - 15 ] .

 

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ ( 35 )

ولهذا قرن هذا بهذا؛ فقال: ( مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ) أي:صفتها ونعتها، ( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) أي:سارحة في أرجائها وجوانبها، وحيث شاء أهلها، يفجرونها تفجيرًا، أي:يصرفونها كيف شاءوا وأين شاءوا، كما قال تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [ محمد:15 ] . وقوله: ( أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا ) أي:فيها المطاعم والفواكه والمشارب، لا انقطاع [ لها ] ولا فناء.

وفي الصحيحين، من حديث ابن عباس في صلاة الكسوف، وفيه قالوا:يا رسول الله، رأيناك تناولت شيئا في مقامك هذا، ثم رأيناك تَكعْكعت فقال: « إني رأيت الجنة - أو:أريت الجنة - فتناولت منها عنقودا، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا » .

وقال الحافظ أبو يعلى:حدثنا أبو خَيْثَمَةَ، حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا عبيد الله، حدثنا أبو عَقيل، عن جابر قال:بينما نحن في صلاة الظهر، إذ تقدم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فتقدمنا، ثم تناول شيئا ليأخذه ثم تأخر. فلما قضى الصلاة قال له أبي بن كعب:يا رسول الله، صنعت اليوم في الصلاة شيئا ما رأيناك كنت تصنعه. فقال: « إني عرضت علي الجنة وما فيها من الزهرة والنضرة، فتناولت منها قِطْفًا من عنب لآتيكم به، فحيل بيني وبينه، ولو أتيتكم به لأكل منه من بين السماء والأرض لا يَنْقُصونَه » .

وروى مسلم من حديث أبي الزبير، عن جابر، شاهدا لبعضه.

وعن عتبة بن عبد السلمي:أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الجنة، فقال:فيها عنب؟ قال: « نعم » . قال:فما عِظَم العنقود؟ قال: « مسيرة شهر للغراب الأبقع ولا يفتر » . رواه أحمد.

وقال الطبراني:حدثنا معاذ بن المثنى، حدثنا علي بن المديني، حدثنا ريحان بن سعيد، عن عبادة بن منصور، عن أيوب، عن أبي قِلابة، عن أبي أسماء، عن ثَوْبان قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الرجل إذا نـزع ثمرة من الجنة عادت مكانها أخرى » .

وعن جابر بن عبد الله قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يأكل أهل الجنة ويشربون، ولا يمتخطون ولا يتغوّطون ولا يبولون، طعامهم جُشَاء كريح المسك، ويلهمون التسبيح والتقديس كما يلهمون النفس » . رواه مسلم.

وروى الإمام أحمد والنسائي، من حديث الأعمش، عن ثمامة بن عقبة سمعت زيد بن أرقم قال: « جاء رجل من أهل الكتاب فقال:يا أبا القاسم، تزعم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون؟ قال: نعم، والذي نفس محمد بيده، [ إن الرجل من أهل الجنة ] ليعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع والشهوة » . قال:فإن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة، وليس في الجنة أذى؟ قال: « حاجة أحدهم رشح يفيض من جلودهم، كريح المسك، فيضمر بطنه » .

وقال الحسن بن عرفة:حدثنا خلف بن خليفة، عن حميد الأعرج، عن عبد الله بن الحارث، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال:قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنك لتنظر إلى الطير في الجنة، فيخر بين يديك مشويا » .

وجاء في بعض الأحاديث:أنه إذا فُرغ منه عاد طائرًا كما كان بإذن الله تعالى.

وقد قال تعالى: وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ [ الواقعة:32، 33 ] وقال وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا [ الإنسان:14 ] .

وكذلك ظلها لا يزول ولا يقلص، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلا ظَلِيلا [ النساء:57 ] .

وقد تقدم في الصحيحين من غير وجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن في الجنة شجرة، يسير الراكب المجد الجواد المضمر السريع في ظلها مائة عام لا يقطعها » ، ثم قرأ: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ [ الواقعة:30 ] .

وكثيرا ما يقرن الله تعالى بين صفة الجنة وصفة النار، ليرغب في الجنة ويحذّر من النار؛ ولهذا لما ذكر صفة الجنة بما ذكر، قال بعده: ( تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ ) كما قال تعالى: لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [ الحشر:20 ] .

وقال بلال بن سعد خطيب دمشق في بعض خطبه:عباد الله هل جاءكم مخبر يخبركم أن شيئا من عبادتكم تقبلت منكم، أو أن شيئا من خطاياكم غفرت لكم؟ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [ المؤمنون:115 ] والله لو عُجِّل لكم الثواب في الدنيا لاستقللتم كلكم ما افترض عليكم، أو ترغبون في طاعة الله لتعجيل دنياكم، ولا تنافسون في جنة ( أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ ) رواه ابن أبي حاتم.

وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ ( 36 ) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ ( 37 )

يقول تعالى: ( وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ) وهم قائمون بمقتضاه ( يَفْرَحُونَ بِمَا أُنـزلَ إِلَيْكَ ) أي:من القرآن لما في كتبهم من الشواهد على صدقه والبشارة به، كما قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [ البقرة:121 ] وقال تعالى: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا [ الإسراء:107، 108 ] أي:إن كان ما وعدنا الله به في كتبنا من إرسال محمد صلى الله عليه وسلم لحقا وصدقا مفعولا لا محالة، وكائنا، فسبحانه ما أصدق وعده، فله الحمد وحده، وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [ الإسراء:109 ] .

وقوله: ( وَمِنَ الأحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ ) أي:ومن الطوائف من يكذّب ببعض ما أنـزل إليك.

وقال مجاهد: ( وَمِنَ الأحْزَابِ ) اليهود والنصارى، من ينكر بعضه ما جاءك من الحق. وكذا قال قتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.

وهذا كما قال تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [ آل عمران:199 ] .

( قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ ) أي:إنما بعثت بعبادة الله وحده لا شريك له، كما أرسل الأنبياء من قبلي، ( إِلَيْهِ أَدْعُو ) أي:إلى سبيله أدعو الناس، ( وَإِلَيْهِ مَآبِ ) أي:مرجعي ومصيري.

وقوله: ( وَكَذَلِكَ أَنـزلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا ) أي:وكما أرسلنا قبلك المرسلين، وأنـزلنا عليهم الكتب من السماء، كذلك أنـزلنا عليك القرآن محكما معربا، شرّفناك به وفضلناك على من سواك بهذا الكتاب المبين الواضح الجلي الذي لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [ فصلت:42 ] .

وقوله: ( وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ ) أي:آراءهم، ( بَعْد مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ) أي:من الله تعالى ( مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ ) أي:من الله تعالى. وهذا وعيد لأهل العلم أن يتبعوا سبل أهل الضلالة بعدما صاروا إليه من سلوك السنة النبوية والمحجة المحمدية، على من جاء بها أفضل الصلاة والسلام [ والتحية والإكرام ] .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ( 38 ) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ( 39 )

يقول تعالى:وكما أرسلناك، يا محمد، رسولا بشريا كذلك [ قد ] بعثنا المرسلين قبلك بَشَرًا يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق ويأتون الزوجات، ويولد لهم، وجعلنا لهم أزواجا وذرية، وقد قال [ الله ] تعالى لأشرف الرسل وخاتمهم: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ [ الكهف:110 ] .

وفي الصحيحين:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أما أنا فأصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآكل الدسم وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا يزيد، أنبأنا الحجاج بن أرطاة عن مكحول قال:قال أبو أيوب:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أربع من سنن المرسلين:التعطر، والنكاح، والسواك، والحناء » .

وقد رواه أبو عيسى الترمذي، عن سفيان بن وَكِيع عن حفص بن غِياث، عن الحجاج، عن مكحول، عن أبى الشمال عن أبي أيوب. . . فذكره، ثم قال:وهذا أصح من الحديث الذي لم يذكر فيه أبو الشمال .

وقوله: ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ ) أي:لم يكن يأتي قومَه بخارق إلا إذا أُذِنَ له فيه، ليس ذلك إليه، بل إلى الله، عز وجل، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.

( لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ) أي:لكل مدة مضروبة كتاب مكتوب بها، وكل شيء عنده بمقدار، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [ الحج:70 ] .

وكان الضحاك بن مزاحم يقول في قوله: ( لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ) أي:لكل كتاب أجل يعني لكل كتاب أنـزله من السماء مدة مضروبة عند الله ومقدار معين، فلهذا يمحو ما يشاء منها ويثبت، يعني حتى نسخت كلها بالقرآن الذي أنـزله الله على رسوله، صلوات الله وسلامه عليه.

وقوله: ( يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ) اختلف المفسرون في ذلك، فقال الثوري، ووَكِيع، وهُشَيْم، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس:يدبر أمر السنة، فيمحو ما يشاء، إلا الشقاء والسعادة، والحياة والموت. وفي رواية: ( يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ) قال:كل شيء إلا الحياة والموت، والشقاء والسعادة فإنهما قد فرغ منهما.

وقال مجاهد: ( يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ) إلا الحياة والموت، والشقاء والسعادة، فإنهما لا يتغيران.

وقال منصور:سألت مجاهدا فقلت:أرأيت دعاء أحدنا يقول:اللهم، إن كان اسمي في السعداء فأثبته فيهم، وإن كان في الأشقياء فامحه عنهم واجعله في السعداء. فقال:حسن. ثم لقيته بعد ذلك بحول أو أكثر، فسألته عن ذلك، فقال: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [ الدخان:3، 4 ] قال:يقضي في ليلة القدر ما يكون في السَّنة من رزق أو مصيبة، ثم يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء، فأما كتاب الشقاوة والسعادة فهو ثابت لا يُغير .

وقال الأعمش، عن أبي وائل شَقِيق بن سلمة:إنه كان يكثر أن يدعو بهذا الدعاء:اللهم، إن كنت كتبتنا أشقياء فامحه، واكتبنا سعداء، وإن كنت كتبتنا سعداء فأثبتنا، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب. رواه ابن جرير .

وقال ابن جرير أيضا:حدثنا عمرو بن علي، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن أبي حكيمة عصمة، عن أبي عثمان النَّهْدي؛ أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال وهو يطوف بالبيت وهو يبكي:اللهم، إن كنت كتبت علي شقوة أو ذنبًا فامحه، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أم الكتاب، فاجعله سعادة ومغفرة.

وقال حماد عن خالد الحذَّاء، عن أبي قلابة عن ابن مسعود أنه كان يدعو بهذا الدعاء أيضا.

ورواه شريك، عن هلال بن حميد، عن عبد الله بن عُكَيْم، عن ابن مسعود، بمثله.

وقال ابن جرير:حدثني المثنى، حدثنا حجاج، حدثنا خصاف، عن أبي حمزة، عن إبراهيم؛ أن كعبا قال لعمر بن الخطاب:يا أمير المؤمنين، لولا آية في كتاب الله لأنبأتك بما هو كائن إلى يوم القيامة. قال:وما هي؟ قال:قول الله تعالى: ( يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) .

ومعنى هذه الأقوال:أن الأقدار ينسخ الله ما يشاء منها، ويثبت منها ما يشاء، وقد يستأنس لهذا القول بما رواه الإمام أحمد:

حدثنا وَكِيع، حدثنا سفيان، وهو الثوري، عن عبد الله بن عيسى، عن عبد الله بن أبي الجَعْد، عن ثَوْبَان قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يُصِيبه، ولا يرد القَدَر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر » .

ورواه النسائي وابن ماجه، من حديث سفيان الثوري، به .

وثبت في الصحيح أن صلة الرحم تزيد في العمر وفي الحديث الآخر: « إن الدعاء والقضاء ليعتلجان بين السماء والأرض » .

وقال ابن جرير:حدثني محمد بن سهل بن عسكر، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جُرَيْج، عن عطاء، عن ابن عباس قال:إن لله لوحا محفوظا مسيرة خمسمائة عام، من درة بيضاء لها دَفَّتَان من ياقوت - والدفتان:لوحان - لله، عز وجل [ كل يوم ثلاثمائة ] وستون لحظة، يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب.

وقال الليث بن سعد، عن زياد بن محمد، عن محمد بن كعب القُرظي، عن فُضَالة بن عُبَيد، عن أبي الدرداء قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « [ إن الله ] يفتح الذكر في ثلاث ساعات يبقين من الليل، في الساعة الأولى منها ينظر في الذكر الذي لا ينظر فيه أحد غيره، فيمحو ما يشاء ويثبت » . وذكر تمام الحديث. رواه ابن جرير.

وقال الكلبي: ( يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ) قال:يمحو من الرزق ويزيد فيه، ويمحو من الأجل ويزيد فيه. فقيل له:من حدثك بهذا؟ فقال:أبو صالح، عن جابر بن عبد الله بن رئاب، عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم سئل بعد ذلك عن هذه الآية فقال:يكتب القول كله، حتى إذا كان يوم الخميس، طرح منه كل شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب، مثل قولك:أكلت وشربت، دخلت وخرجت ونحوه من الكلام، وهو صادق، ويثبت ما كان فيه الثواب، وعليه العقاب.

وقال عِكْرِمة، عن ابن عباس:الكتاب كتابان:فكتاب يمحو الله منه ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب.

وقال العوفي، عن ابن عباس في قوله: ( يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) يقول:هو الرجل يعمل الزمان بطاعة الله، ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلالة، فهو الذي يمحو - والذي يثبت:الرجل يعمل بمعصية الله، وقد كان سبق له خير حتى يموت وهو في طاعة الله، وهو الذي يثبت.

وروي عن سعيد بن جُبَير:أنها بمعنى: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ البقرة:284 ] .

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ) يقول:يبدل ما يشاء فينسخه، ويثبت ما يشاء فلا يبدله، ( وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) يقول:وجملة ذلك عنده في أم الكتاب، الناسخ، والمنسوخ، وما يبدل، وما يثبت كل ذلك في كتاب.

وقال قتادة في قوله: ( يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ) كقوله مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [ البقرة:106 ]

وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد في قوله: ( يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ) قال:قالت كفار قريش حين أنـزلت: ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ ) ما نراك يا محمد تملك من شيء، ولقد فُرغ من الأمر. فأنـزلت هذه الآية تخويفا، ووعيدًا لهم:إنا إن شئنا أحدثنا له من أمرنا ما شئنا، ونحدث في كل رمضان، فنمحو ونثبت ما نشاء من أرزاق الناس ومصائبهم، وما نعطيهم، وما نقسم لهم.

وقال الحسن البصري: ( يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ ) قال:من جاء أجله، فَذَهَب، ويثبت الذي هو حيّ يجري إلى أجله.

وقد اختار هذا القول أبو جعفر بن جرير، رحمه الله.

وقوله: ( وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) قال:الحلال والحرام.

وقال قتادة:أي جملة الكتاب وأصله.

وقال الضحاك: ( وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) قال:كتاب عند رب العالمين.

وقال سُنَيد بن داود، حدثني معتمر، عن أبيه، عن سَيَّار، عن ابن عباس؛ أنه سأل كعبًا عن « أم الكتاب » ، فقال:عَلِم الله، ما هو خالق، وما خَلْقُه عاملون، ثم قال لعلمه: « كن كتابا » . فكانا كتابا.

وقال ابن جرير، عن ابن عباس: ( وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) قال:الذكر، [ والله أعلم ] .

وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ( 40 ) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( 41 )

يقول تعالى لرسوله: ( وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ ) يا محمد ( بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ ) أي:نعد أعداءك من الخزي والنكال في الدنيا، ( أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ ) [ أي ] قبل ذلك، ( فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ ) أي:إنما أرسلناك لتبلغهم رسالة الله وقد بلغت ما أمرت به، ( وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ) أي:حسابهم وجزاؤهم، كما قال تعالى: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ * إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [ الغاشية:21 - 26 ] .

وقوله: ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ) قال ابن عباس:أو لم يروا أنا نفتح لمحمد الأرض بعد الأرض؟

وقال في رواية:أو لم يروا إلى القرية تخرب، حتى يكون العمران في ناحية؟

وقال مجاهد وعِكْرِمة: ( نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ) قال:خرابها.

وقال الحسن والضحاك:هو ظهور المسلمين على المشركين.

وقال العوفي عن ابن عباس:نقصان أهلها وبركتها.

وقال مجاهد:نقصان الأنفس والثمرات وخراب الأرض.

وقال الشعبي:لو كانت الأرض تنقص لضاق عليك حُشُّك، ولكن تنقص الأنفس والثمرات. وكذا قال عِكْرِمة:لو كانت الأرض تنقص لم تجد مكانا تقعد فيه، ولكن هو الموت.

وقال ابن عباس في رواية:خرابها بموت فقهائها وعلمائها وأهل الخير منها. وكذا قال مجاهد أيضا:هو موت العلماء.

وفي هذا المعنى روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة أحمد بن عبد العزيز أبي القاسم المصري الواعظ سكن أصبهان، حدثنا أبو محمد طلحة بن أسد المرئي بدمشق، أنشدنا أبو بكر الآجرى بمكة قال:أنشدنا أحمد بن غزال لنفسه:

الأرض تحيَـا إذا مـا عَـاش عالمهـا مَتَـى يـمُـتْ عَالم منها يـمُت طَرفُ

كـالأرض تحْيَـا إذا ما الغيث حَل بـها وإن أبـى عَـاد فـي أكنافهَـا التَّلَـفُ

والقول الأول أولى، وهو ظهور الإسلام على الشرك قرية بعد قرية، [ وكَفْرًا بعد كَفْر، كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى [ الأحقاف:27 ] الآية، وهذا اختيار ابن جرير، رحمه الله ]

وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ( 42 )

يقول: ( وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) برسلهم، وأرادوا إخراجهم من بلادهم، فمكر الله بهم، وجعل العاقبة للمتقين، كما قال تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [ الأنفال:30 ] وقال تعالى: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا الآية [ النمل:50 - 52 ] .

وقوله: ( يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ ) أي:إنه تعالى عالم بجميع السرائر والضمائر، وسيجزي كل عامل بعمله.

( وَسَيَعْلَمُ الْكَافِرُ ) وقرئ: ( الكُفَّارُ ) ( لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ) أي:لمن تكون الدائرة والعاقبة، لهم أو لأتباع الرسل؟ كلا بل هي لأتباع الرسل في الدنيا والآخرة، ولله الحمد والمنة.

 

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ( 43 )

يقول:ويكذبك هؤلاء الكفار ويقولون: ( لَسْتَ مُرْسَلا ) أي:ما أرسلك الله، ( قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ) أي:حسبي الله، وهو الشاهد علي وعليكم، شاهد علي فيما بلغت عنه من الرسالة، وشاهد عليكم أيها المكذبون فيما تفترونه من البهتان.

وقوله: ( وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) قيل:نـزلت في عبد الله بن سلام قاله مجاهد.

وهذا القول غريب؛ لأن هذه الآية مكية، وعبد الله بن سلام إنما أسلم في أول مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة. والأظهر في هذا ما قاله العوفي، عن ابن عباس قال:هم من اليهود والنصارى.

وقال قتادة:منهم ابن سلام، وسلمان، وتميم الداري.

وقال مجاهد - في رواية - عنه:هو الله تعالى.

وكان سعيد بن جُبَيْر ينكر أن يكون المراد بها عبد الله بن سلام، ويقول:هي مكية، وكان يقرؤها: « ومن عنده عُلِمَ الكتابُ » ، ويقول:من عند الله.

وكذا قرأها مجاهد والحسن البصري.

وقد روى ابن جرير من حديث، هارون الأعور، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها: « ومن عنده عُلِمَ الكتابُ » ، ثم قال:لا أصل له من حديث الزهري عند الثقات.

قلت:وقد رواه الحافظ أبو يعلى في مسنده، من طريق هارون بن موسى هذا، عن سليمان بن أرقم - وهو ضعيف - عن الزهري، عن سالم، عن أبيه مرفوعا كذلك. ولا يثبت. والله أعلم

والصحيح في هذا:أن ( وَمَنْ عِنْدَهُ ) اسم جنس يشمل علماء أهل الكتاب الذين يجدون صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته في كتبهم المتقدمة، من بشارات الأنبياء به، كما قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ الآية [ الأعراف:156، 157 ] وقال تعالى: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ الآية: [ الشعراء:197 ] . وأمثال ذلك مما فيه الإخبار عن علماء بني إسرائيل:أنهم يعلمون ذلك من كتبهم المنـزلة. وقد ورد في حديث الأحبار، عن عبد الله بن سلام بأنه أسلم بمكة قبل الهجرة. قال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتاب « دلائل النبوة » ، وهو كتاب جليل:

حدثنا سليمان بن أحمد الطبراني، حدثنا عَبْدان بن أحمد، حدثنا محمد بن مصفى، حدثنا الوليد بن مسلم، عن محمد بن حمزة بن يوسف، بن عبد الله بن سلام، عن أبيه، أن عبد الله بن سلام قال لأحبار اليهود:إني أردت أن أجَدد بمسجد أبينا إبراهيم وإسماعيل عهدا فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، فوافاهم وقد انصرفوا من الحج، فوجد رسول الله، بمنى، والناس حوله، فقام مع الناس، فلما نظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أنت عبد الله بن سلام؟ » قال:قلت:نعم. قال: « ادن » . فدنوت منه، قال: « أنشدك بالله يا عبد الله بن سلام، أما تجدني في التوراة رسول الله؟ » فقلت له:انعت ربنا. قال:فجاء جبريل حتى وقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [ سورة الإخلاص ] فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابن سلام:أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. ثم انصرف ابن سلام إلى المدينة فكتم إسلامه. فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأنا فوق نخلة لي أجُدُّها، فألقيت نفسي، فقالت أمي: [ لله ] أنت، لو كان موسى بن عمران ما كان لك أن تلقي نفسك من رأس النخلة. فقلت:والله لأني أسر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم من موسى بن عمران إذ بُعث.

وهذا حديث غريب جدا.

 

تفسير سورة إبراهيم عليه السلام

 

وهي مكية.

بسم الله الرحمن الرحيم

الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ( 1 ) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ( 2 ) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ( 3 )

قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور.

( كِتَابٌ أَنـزلْنَاهُ إِلَيْكَ ) أي:هذا كتاب أنـزلناه إليك يا محمد، وهو القرآن العظيم، الذي هو أشرف كتاب أنـزله الله من السماء، على أشرف رسول بعثه الله في الأرض، إلى جميع أهلها عربهم وعجمهم .

( لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) أي:إنما بعثناك يا محمد بهذا الكتاب؛ لتخرج الناس مما هم فيه من الضلال والغي إلى الهدى والرشد، كما قال: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ الآية [ البقرة:257 ] ، وقال تعالى: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [ الحديد:9 ] .

وقوله: ( بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ) أي:هو الهادي لمن قَدر له الهداية على يدي رسوله المبعوث عن أمره يهديهم ( إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ ) أي:العزيز الذي لا يمانع ولا يغالب، بل هو القاهر لكل ما سواه، « الحميد » أي:المحمود في جميع أفعاله وأقواله، وشرعه وأمره ونهيه، الصادق في خبره.

وقوله: ( اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ ) قرأه بعضهم مستأنفا مرفوعا، وقرأه آخرون على الإتباع صفة للجلالة، كما قال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [ الأعراف:158 ] .

وقوله: ( وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ) أي:ويل لهم يوم القيامة إذ خالفوك يا محمد وكذبوك.

ثم وصفهم بأنهم يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة، أي:يقدمونها ويُؤثرونها عليها، ويعملون للدنيا ونَسُوا الآخرة، وتركوها وراء ظهورهم، ( وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) وهي اتباع الرسل ( وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ) أي:ويحبون أن تكون سبيل الله عوجًا مائلة عائلة وهي مستقيمة في نفسها، لا يضرها من خالفها ولا من خذلها، فهم في ابتغائهم ذلك في جهل وضلال بعيد من الحق، لا يرجى لهم - والحالة هذه - صلاح.

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 4 )

هذا من لطفه تعالى بخلقه:أنه يرسل إليهم رسلا منهم بلغاتهم ليفهموا عنهم ما يريدون وما أرسلوا به إليهم، كما قال الإمام أحمد:

حدثنا وكيع، عن عمر بن ذر قال:قال مجاهد:عن أبي ذر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لم يبعث الله، عز وجل، نبيا إلا بلغة قومه » .

وقوله: ( فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) أي:بعد البيان وإقامة الحجة عليهم يضل تعالى من يشاء عن وجه الهدى، ويهدي من يشاء إلى الحق، ( وَهُوَ الْعَزِيزُ ) الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ( الحكيم ) في أفعاله، فيضل من يستحق الإضلال، ويهدي من هو أهل لذلك.

وقد كانت هذه سنة الله في خلقه:أنه ما بعث نبيا في أمة إلا أن يكون بلغتهم، فاختص كل نبي بإبلاغ رسالته إلى أمته دون غيرهم، واختص محمد بن عبد الله رسول الله بعموم الرسالة إلى سائر الناس، كما ثبت في الصحيحين عن جابر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أعطيت خمسًا لم يُعطَهُن أحد من الأنبياء قبلي:نُصِرْتُ بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطَهُورًا، وأحلَّت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه، وبعثت إلى الناس عامة » .

وله شواهد من وجوه كثيرة، وقال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [ الأعراف:158 ] .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ( 5 )

يقول تعالى:وكما أرسلناك يا محمد وأنـزلنا عليك الكتاب، لتخرج الناس كلهم، تدعوهم إلى الخروج من الظلمات إلى النور، كذلك أرسلنا موسى في بني إسرائيل بآياتنا.

قال مجاهد:وهي التسع الآيات.

( أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ ) أي:أمرناه قائلين له: ( أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) أي:ادعهم إلى الخير، ليخرجوا من ظلمات ما كانوا فيه من الجهل والضلال إلى نور الهدى وبصيرة الإيمان.

( وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ) أي:بأياديه ونعَمه عليهم، في إخراجه إياهم من أسر فرعون.

وقهره وظلمه وغشمه، وإنجائه إياهم من عدوهم، وفلقه لهم البحر، وتظليله إياهم بالغمام، وإنـزاله عليهم المن والسلوى، إلى غير ذلك من النعم. قال ذلك مجاهد، وقتادة، وغير واحد.

وقد ورد فيه الحديث المرفوع الذي رواه عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل في مسند أبيه حيث قال:حدثني يحيى بن عبد الله مولى بني هاشم، حدثنا محمد بن أبان الجعفي، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير [ عن ابن عباس، عن أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تبارك وتعالى: ( وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ) قال: « بنعم الله تبارك وتعالى » ] .

[ ورواه ابن جرير ] وابن أبي حاتم، من حديث محمد بن أبان، به ورواه عبد الله ابنه أيضا موقوفا وهو أشبه.

وقوله: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) أي:إن فيما صنعنا بأوليائنا بني إسرائيل حين أنقذناهم من يد فرعون، وأنجيناهم مما كانوا فيه من العذاب المهين، لعبرة لكل صَبَّار، أي:في الضراء، شكور، أي:في السراء، كما قال قتادة:نعم العبد، عبد إذا ابتُلِي صَبَر، وإذا أعطي شكر.

وكذا جاء في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إن أمر المؤمن كُلَّه عَجَب، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرًا له، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وإن أصابته سراء شَكر فكان خيرا له » .

 

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ( 6 ) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ( 7 ) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ( 8 )

يقول تعالى مخبرا عن موسى، حين ذَكَّر قومه بأيام الله عندهم ونعمه عليهم، إذ أنجاهم من آل فرعون، وما كانوا يسومونهم به من العذاب والإذلال، حين كانوا يذبحون من وجد من أبنائهم، ويتركون إناثهم فأنقذ الله بني إسرائيل من ذلك، وهذه نعمة عظيمة؛ ولهذا قال: وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ أي:نعمة عظيمة منه عليكم في ذلك، أنتم عاجزون عن القيام بشكرها.

وقيل:وفيما كان يصنعه بكم قوم فرعون من تلك الأفاعيل ( بلاء ) أي:اختبار عظيم. ويحتمل أن يكون المراد هذا وهذا، والله أعلم، كما قال تعالى: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [ الأعراف:168 ] .

وقوله: ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ ) أي:آذنكم وأعلمكم بوعده لكم. ويحتمل أن يكون المعنى:وإذ أقسم ربكم وآلى بعزته وجلاله وكبريائه كما قال: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ] [ الأعراف:167 ] .

وقوله ( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ ) أي:لئن شكرتم نعمتي عليكم لأزيدنكم منها، ( وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ ) أي:كفرتم النعم وسترتموها وجحدتموها، ( إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) وذلك بسلبها عنهم، وعقابه إياهم على كفرها.

وقد جاء في الحديث: « إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه » .

وفي المسند:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ به سائل فأعطاه تمرة، فَتَسَخَّطها ولم يقبلها، ثم مر به آخر فأعطاه إياها، فقبلها وقال:تمرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر له بأربعين درهما، أو كما قال.

قال الإمام أحمد:حدثنا أسود، حدثنا عمارة الصَّيدلاني، عن ثابت، عن أنس قال:أتى النبي صلى الله عليه وسلم سائل فأمر له بتمرة فلم يأخذها - أو:وحش بها - قال:وأتاه آخر فأمر له بتمرة، فقال:سبحان الله! تمرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال للجارية: « اذهبي إلى أم سلمة، فأعطيه الأربعين درهما التي عندها » .

تفرد به الإمام أحمد .

وعمارة بن زاذان وثقه ابن حبَّان، وأحمد، ويعقوب بن سفيان وقال ابن معين:صالح. وقال أبو زُرْعَة:لا بأس به. وقال أبو حاتم:يكتب حديثه ولا يحتج به، ليس بالمتين. وقال البخاري:ربما يضطرب في حديثه. وعن أحمد أيضا أنه قال:روي عنه أحاديث منكرة. وقال أبو داود:ليس بذاك. وضعفه الدارقطني، وقال ابن عدي:لا بأس به ممن يكتب حديثه.

وقوله تعالى: ( وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ) أي:هو غني عن شكر عباده، وهو الحميد المحمود، وإن كفره من كفره، كما قال: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [ الزمر:7 ] وقال تعالى: فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [ التغابن:6 ] .

وفي صحيح مسلم، عن أبي ذر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه، عز وجل، أنه قال: « يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل منكم، ما نقص ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، إلا كما ينقُص المخْيَط إذا أدخل في البحر » . فسبحانه وتعالى الغني الحميد .

أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ( 9 )

قال ابن جرير:هذا من تمام قيل موسى لقومه .

يعني:وتذكاره إياهم بأيام الله، بانتقامه من الأمم المكذبة للرسل.

وفيما قال ابن جرير نظر؛ والظاهر أنه خبر مستأنف من الله تعالى لهذه الأمة، فإنه قد قيل: إن قصة عاد وثمود ليست في التوراة، فلو كان هذا من كلام موسى لقومه وقَصَه عليهم ذلك فلا شك أن تكون هاتان القصتان في « التوراة » ، والله أعلم. وبالجملة فالله تعالى قد قص علينا خبر قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الأمم المكذبة للرسل، مما لا يحصي عددهم إلا الله عز وجل أتتهم رسلهم بالبينات، أي:بالحجج والدلائل الواضحات الباهرات القاطعات.

وقال ابن إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله أنه قال في قوله: ( لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّهُ ) كذب النسابون.

وقال عروة بن الزبير:ما وجدنا أحدا يعرف ما بعد معد بن عدنان.

وقوله: ( فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ ) اختلف المفسرون في معناه، فقيل:معناه:أنهم أشاروا إلى أفواه الرسل يأمرونهم بالسكوت عنهم، لما دعوهم إلى الله، عز وجل.

وقيل:بل وضعوا أيديهم على أفواههم تكذيبًا لهم.

وقيل:بل هو عبارة عن سكوتهم عن جواب الرسل.

وقال مجاهد، ومحمد بن كعب، وقتادة:معناه:أنهم كذبوهم وردوا عليهم قولهم بأفواههم.

قال ابن جرير:وتوجيهه أن « في » ها هنا بمعنى « الباء » ، قال:وقد سمع من العرب: « أدخلك الله بالجنة » يعنون:في الجنة، وقال الشاعر:

وَأَرْغَـبُ فِيهَـا عَـن لَقيـطٍ ورهْطـه عَــن سِــنْبس لَسْــتُ أرْغَــب

يريد:أرغب بها .

قلت:ويؤيد قول مجاهد تفسير ذلك بتمام الكلام: ( وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ) فكأن هذا [ والله أعلم ] تفسير لمعنى رَدِّ أيديهم في أفواههم.

وقال سفيان الثوري، وإسرائيل، عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص، عن عبد الله في قوله: ( فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ ) قال:عضوا عليها غيظا.

وقال شعبة، عن أبي إسحاق، أبي هُبَيرَْة ابن مريم، عن عبد الله أنه قال ذلك أيضا. وقد اختاره عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، ووجهه ابن جرير مختارًا له، بقوله تعالى عن المنافقين: وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ [ آل عمران:119 ] .

وقال العوفي، عن ابن عباس:لما سمعوا كتاب الله عَجبوا، ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم.

وقالوا: ( إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ) يقولون:لا نصدقكم فيما جئتم به؛ فإن عندنا فيه شكا قويا.

قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ( 10 )

يخبر تعالى عما دار بين الكفار وبين رسلهم من المجادلة، وذلك أن أممهم لما واجهوهم بالشك فيما جاءوهم به من عبادة الله وحده لا شريك له، قالت الرسل: ( أَفِي اللَّهِ شَكٌّ )

وهذا يحتمل شيئين، أحدهما:أفي وجوده شك، فإن الفطر شاهدة بوجوده، ومجبولة على الإقرار به، فإن الاعتراف به ضروري في الفطَر السليمة، ولكن قد يعرض لبعضها شك واضطراب، فتحتاج إلى النظر في الدليل الموصل إلى وجوده؛ ولهذا قالت لهم الرسل ترشدهم إلى طريق معرفته بأنه ( فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) الذي خلقها وابتدعها على غير مثال سبق، فإن شواهد الحدوث والخلق والتسخير ظاهر عليها، فلا بد لها من صانع، وهو الله لا إله إلا هو، خالق كل شيء وإلهه ومليكه.

والمعنى الثاني في قولهم: ( أَفِي اللَّهِ شَكٌّ ) أي:أفي إلهيته وتفرده بوجوب العبادة له شك، وهو الخالق لجميع الموجودات، ولا يستحق العبادة إلا هو، وحده لا شريك له؛ فإن غالب الأمم كانت مقرة بالصانع، ولكن تعبد معه غيره من الوسائط التي يظنونها تنفعهم أو تقربهم من الله زلفى.

وقالت لهم الرسل:ندعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم، أي:في الدار الآخرة، ( وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) أي:في الدنيا، كما قال تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ الآية [ هود:3 ] ، فقالت لهم الأمم محاجين في مقام الرسالة، بعد تقدير تسليمهم للمقام الأول، وحاصل ما قالوه: ( إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا ) أي:كيف نتبعكم بمجرد قولكم، ولما نر منكم معجزة؟ ( فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) أي:خارق نقترحه عليكم.

 

قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ( 11 ) وَمَا لَنَا أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ( 12 )

قالت لهم رسلهم: ( إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ) أي:صحيح أنا بشر مثلكم في البشرية ( وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) أي:بالرسالة والنبوة ( وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ ) على وفق ما سألتم ( إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ ) أي:بعد سؤالنا إياه، وإذنه لنا في ذلك، ( وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) أي:في جميع أمورهم.

ثم قالت الرسل: ( وَمَا لَنَا أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ ) أي:وما يمنعنا من التوكل عليه، وقد هدانا لأقوم الطرق وأوضحها وأبينها، ( وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا ) أي:من الكلام السيئ، والأفعال السخيفة، ( وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ )

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ( 13 ) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ( 14 ) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ( 15 ) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ ( 16 ) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ( 17 )

يخبر تعالى عما توعدت به الأمم الكافرة رسلهم، من الإخراج من أرضهم، والنفي من بين أظهرهم، كما قال قوم شعيب له ولمن آمن به: لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [ الأعراف:88 ] ، وقال قوم لوط: أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [ النمل:56 ] ، وقال تعالى إخبارا عن مشركي قريش: وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا [ الإسراء:76 ] ، وقال تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [ الأنفال:30 ] .

وكان من صنعه تعالى:أنه أظهر رسوله ونصره، وجعل له بسبب خروجه من مكة أنصارًا وأعوانًا وجندا، يقاتلون في سبيل الله، ولم يزل يرقيه [ الله ] تعالى من شيء إلى شيء، حتى فتح له مكة التي أخرجته، ومكن له فيها، وأرغم آناف أعدائه منهم، و [ من ] سائر [ أهل ] الأرض، حتى دخل الناس في دين الله أفواجا، وظهرت كلمة الله ودينه على سائر الأديان، في مشارق الأرض ومغاربها في أيسر زمان؛ ولهذا قال تعالى: ( فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ) كما قال تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [ الصافات:171 - 173 ] ، وقال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [ المجادلة:21 ] ، وقال: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [ الأنبياء:105 ] ، قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [ الأعراف:128 ] ، وقال تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [ الأعراف:137 ] .

وقوله: ( ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ) أي:وعيدي هذا لمن خاف مقامي بين يدي يوم القيامة، وخشي من وعيدي، وهو تخويفي وعذابي، كما قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [ النازعات:37 - 41 ] ، وقال: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [ الرحمن:46 ] .

وقوله: ( واستفتحوا ) أي:استنصرت الرسل ربها على قومها. قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:استفتحت الأمم على أنفسها، كما قالوا: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [ الأنفال:32 ] .

ويحتمل أن يكون هذا مرادًا وهذا مرادًا، كما أنهم استفتحوا على أنفسهم يوم بدر، واستفتح رسول الله واستنصر، وقال الله تعالى للمشركين: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ الآية [ الأنفال:19 ] ، والله أعلم.

( وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ) أي:متجبر في نفسه معاند للحق، كما قال تعالى: أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ [ ق:24 - 26 ] .

وفي الحديث: « إنه يؤتى بجهنم يوم القيامة، فتنادي الخلائق فتقول:إني وُكلت بكل جبار عنيد » الحديث .

خاب وخسر حين اجتهد الأنبياء في الابتهال إلى ربها العزيز المقتدر.

وقوله: ( مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ ) و « وراء » هاهنا بمعنى « أمام » ، كما قال تعالى: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [ الكهف:79 ] ، وكان ابن عباس يقرؤها « وكان أمامهم ملك » .

أي:من وراء الجبار العنيد جهنم، أي:هي له بالمرصاد، يسكنها مخلدا يوم المعاد، ويعرض عليها غدوا وعشيا إلى يوم التناد.

( وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ ) أي:في النار ليس له شراب إلا من حميم أو غساق، فهذا في غاية الحرارة، وهذا في غاية البرد والنتن، كما قال: هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ [ ص:57، 58 ] .

وقال مجاهد، وعكرمة:الصديد:من القيح والدم.

وقال قتادة:هو ما يسيل من لحمه وجلده. وفي رواية عنه:الصديد:ما يخرج من جوف الكافر، قد خالط القيح والدم.

ومن حديث شَهْر بن حَوْشَب، عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت:قلت:يا رسول الله، ما طينة الخبال؟ قال: « صديد أهل النار » وفي رواية: « عُصَارة أهل النار » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا علي بن إسحاق، أنبأنا عبد الله، أنا صفوان بن عمرو، عن عبيد الله بن بُرْ، عن أبي أمامة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ ) قال: « يُقَرَّبُ إليه فيتكرهه، فإذا أدنى منه شَوى وجهه، ووقعت فروة رأسه، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره. يقول الله تعالى وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [ محمد:15 ] ، ويقول: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ [ الكهف:29 ] . »

وهكذا رواه ابن جرير، من حديث عبد الله بن المبارك، به ورواه هو وابن أبي حاتم:من حديث بَقِيَّة بن الوليد، عن صفوان بن عمرو، به .

وقوله: ( يتجرعه ) أي:يتغصصه ويتكرهه، أي:يشربه قهرا وقسرا، لا يضعه في فيه حتى يضربه الملك بمطراق من حديد، كما قال تعالى: وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ [ الحج:21 ] .

( وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ ) أي:يزدرده لسوء لونه وطعمه وريحه، وحرارته أو برده الذي لا يستطاع.

( وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ) أي:يألم له جميع بدنه وجوارحه وأعضائه.

قال ميمون بن مِهْرَان:من كل عظم، وعرق، وعصب.

وقال عكرمة:حتى من أطراف شعره.

وقال إبراهيم التيمي:من موضع كل شعرة، أي:من جسده، حتى من أطراف شعره.

وقال ابن جرير: ( وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ) أي:من أمامه وورائه، وعن يمينه وشماله، ومن فوقه ومن تحت أرجله ومن سائر أعضاء جسده.

وقال الضحاك، عن ابن عباس: ( وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ) قال:أنواع العذاب الذي يعذبه الله بها يوم القيامة في نار جهنم، وليس منها نوع إلا الموت يأتيه منه لو كان يموت، ولكن لا يموت؛ لأن الله تعالى قال: لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا [ كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ] [ فاطر:36 ] .

ومعنى كلام ابن عباس، رضي الله عنه:أنه ما من نوع من هذه الأنواع من [ هذا ] العذاب إلا إذا ورد عليه اقتضى أن يموت منه لو كان يموت، ولكنه لا يموت ليخلد في دوام العذاب والنكال؛ ولهذا قال: ( وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ )

وقوله: ( وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ) أي:وله من بعد هذا الحال عذاب آخر غليظ، أي:مؤلم صعب شديد أغلظ من الذي قبله وأدهى وأمر. وهذا كما قال تعالى عن شجرة الزقوم: إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ [ الصافات:64 - 68 ] ، فأخبر أنهم تارة يكونون في أكل زقوم، وتارة في شرب حميم، وتارة يردون إلى الجحيم عياذا بالله من ذلك، وهكذا قال تعالى: هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [ الرحمن:43، 44 ] ، وقال تعالى: إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ * إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ [ الدخان:43 - 50 ] ، وقال: وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [ الواقعة:41 - 44 ] ، وقال تعالى: هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ * هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ [ ص:55 - 58 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على تنوع العذاب عليهم، وتكراره وأنواعه وأشكاله، مما لا يحصيه إلا الله، عز وجل، جزاء وفاقا، وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ [ فصلت:46 ] .

مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ( 18 )

هذا مثل ضربه الله تعالى لأعمال الكفار الذين عبدوا مع الله غيره، وكذبوا رسله، وبنوا أعمالهم على غير أساس صحيح؛ فانهارت وعَدِمُوها أحوج ما كانوا إليها، فقال تعالى: ( مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ ) أي:مثل أعمال الذين كفروا يوم القيامة إذا طلبوا ثوابها من الله تعالى؛ لأنهم كانوا يحسبون أنهم على شيء، فلم يجدوا شيئًا، ولا ألفوا حاصلا إلا كما يتحصَّل من الرماد إذا اشتدت به الريح العاصفة ( فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ) أي:ذي ريح عاصفة قوية، فلا [ يقدرون على شيء من أعمالهم التي كسبوها في الدنيا إلا كما ] يقدرون على جمع هذا الرماد في هذا اليوم، كما قال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [ الفرقان:23 ] ، وقال تعالى: مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ [ آل عمران:117 ] ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [ البقرة:264 ] .

وقال في هذه الآية: ( ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ) أي:سعيهم وعملهم على غير أساس ولا استقامة حتى فقدوا ثوابهم أحوج ما هم إليه، ( ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ) .

 

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ( 19 ) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ( 20 )

يقول تعالى مخبرًا عن قدرته على معاد الأبدان يوم القيامة، بأنه خلق السموات والأرض التي هي أكبر من خلق الناس، أفليس الذي قدر على خلق هذه السموات، في ارتفاعها واتساعها وعظمتها وما فيها من الكواكب الثوابت والسيارات، والحركات المختلفات، والآيات الباهرات، وهذه الأرض بما فيها من مهاد ووهاد وأوتاد، وبرارى وصحارى وقفار، وبحار وأشجار، ونبات وحيوان، على اختلاف أصنافها ومنافعها، وأشكالها وألوانها؛ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ الأحقاف:33 ] ، وقال تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [ يس:77 - 83 ] .

وقوله: ( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ) أي:بعظيم ولا ممتنع، بل هو سهل عليه إذا خالفتم أمره، أن يذهبكم ويأتي بآخرين على غير صفتكم، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [ فاطر:15 - 17 ] ، وقال: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [ محمد:38 ] ، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [ المائدة:54 ] ، وقال: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا [ النساء:133 ] .

وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ ( 21 )

يقول: ( وَبَرَزُوا [ لِلَّهِ ] ) أي:برزت الخلائق كلها، برها وفاجرها لله وحده الواحد القهار، أي:اجتمعوا له في براز من الأرض، وهو المكان الذي ليس فيه شيء يستر أحدا.

( فَقَالَ الضُّعَفَاءُ ) وهم الأتباع لقادتهم وسادتهم وكبرائهم الذين استكبروا عن عبادة.

الله وحده لا شريك له، وعن موافقة الرسل، فقالوا لهم: ( إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا ) أي:مهما أمرتمونا ائتمرنا وفعلنا، ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ) أي:فهل تدفعون عنا شيئًا من عذاب الله، كما كنتم تعدوننا وتمنوننا؟ فقالت القادة لهم: ( لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ ) ولكن حق علينا قول ربنا، وسبق فينا وفيكم قدر الله، وحقت كلمة العذاب على الكافرين.

( سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ ) أي:ليس لنا خَلاص مما نحن فيه إن صبرنا عليه أو جزعنا منه.

قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:إن أهل النار قال بعضهم لبعض:تعالوا، فإنما أدرك أهل الجنة الجنة ببكائهم وتضرعهم إلى الله، عز وجل، تعالوا نبك ونتضرع إلى الله فبكوا وتضرعوا، فلما رأوا ذلك لا ينفعهم قالوا:تعالوا، فإنما أدرك أهل الجنة الجنة بالصبر، تعالوا حتى نصبر فصبروا صبرا لم ير مثله، فلم ينفعهم ذلك، فعند ذلك قالوا ( سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ )

قلت:والظاهر أن هذه المراجعة في النار بعد دخولهم إليها، كما قال تعالى: وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ [ غافر:47، 48 ] ، وقال تعالى: قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ * وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [ الأعراف:38، 39 ] ، وقال تعالى: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا [ الأحزاب:66 - 68 ] .

وأما تخاصمهم في المحشر، فقال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [ سبأ:31 - 33 ] .

وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 22 ) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ ( 23 )

يخبر تعالى عما خطب به إبليس [ لعنه الله ] أتباعه، بعدما قضى الله بين عباده، فأدخل المؤمنين الجنات، وأسكن الكافرين الدركات، فقام فيهم إبليس - لعنه الله - حينئذ خطيبا ليزيدهم حزنا إلى حزنهم وغَبنا إلى غبْنهم، وحسرة إلى حسرتهم، فقال: ( إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ ) أي:على ألسنة رسله، ووعدكم في اتباعهم النجاة والسلامة، وكان وعدًا حقا، وخبرا صدقا، وأما أنا فوعدتكم وأخلفتكم، كما قال الله تعالى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا [ النساء:120 ] .

ثم قال: ( وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ ) أي:ما كان لي عليكم فيما دعوتكم إليه من دليل ولا حجة على صدق ما وعدتكم به، ( إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ) بمجرد ذلك، هذا وقد أقامت عليكم الرسل الحجج والأدلة الصحيحة على صدق ما جاءوكم به، فخالفتموهم فصرتم إلى ما أنتم فيه، ( فَلا تَلُومُونِي ) اليوم، ( وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ) فإن الذنب لكم، لكونكم خالفتم الحجج واتبعتموني بمجرد ما دعوتكم إلى الباطل، ( مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ ) أي:بنافعكم ومنقذكم ومخلصكم مما أنتم فيه، ( وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ) أي:بنافعي بإنقاذي مما أنا فيه من العذاب والنكال، ( إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ )

قال قتادة:أي بسبب ما أشركتمون من قبل.

وقال ابن جرير:يقول:إني جحدت أن أكون شريكا لله، عز وجل.

وهذا الذي قال هو الراجح كما قال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [ الأحقاف:5، 6 ] ، وقال: كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [ مريم:82 ] .

وقوله: ( إِنَّ الظَّالِمِينَ ) أي:في إعراضهم عن الحق واتباعهم الباطل ( لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )

والظاهر من سياق الآية:أن هذه الخطبة تكون من إبليس بعد دخولهم النار، كما قدمنا. ولكن قد ورد في حديث رواه ابن أبي حاتم - وهذا لفظه - وابن جرير من رواية عبد الرحمن بن زياد:حدثني دخين الحَجْري، عن عقبة بن عامر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إذا جمع الله الأولين والآخرين، فقضى بينهم، ففرغ من القضاء، قال المؤمنون:قد قضى بيننا ربنا، فمن يشفع لنا؟ فيقولون:انطلقوا بنا إلى آدم - وذكر نوحا، وإبراهيم، وموسى، وعيسى - فيقول عيسى:أدلكم على النبي الأمي. فيأتوني، فيأذن الله لي أن أقوم إليه فيثور [ من ] مجلسي من أطيب ريح شمها أحد قط، حتى آتي ربي فيشفعني، ويجعل لي نورا من شعر رأسي إلى ظفر قدمي، ثم يقول الكافرون هذا:قد وجد المؤمنون من يشفع لهم، فمن يشفع لنا؟ ما هو إلا إبليس هو الذي أضلنا، فيأتون إبليس فيقولون:قد وجد المؤمنون من يشفع لهم، فقم أنت فاشفع لنا، فإنك أنت أضللتنا. فيقوم فيثور من مجلسه من أنتن ريح شمها أحد قط، ثم يعظم نحيبهم ( وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ) » .

وهذا سياق ابن أبي حاتم، ورواه ابن المبارك عن رِشْدين بن سعد، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن دُخَيْن عن عُقْبَة، به مرفوعا .

وقال محمد بن كعب القُرظي، رحمه الله:لما قال أهل النار: ( سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ ) قال لهم إبليس: ( إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ ) الآية، فلما سمعوا مقالته مقتوا أنفسهم، فنودوا: لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ [ غافر:10 ] .

وقال عامر الشعبي:يقوم خطيبان يوم القيامة على رءوس الناس، يقول الله لعيسى ابن مريم: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ إلى قوله: قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [ المائدة:119 ] ، قال:ويقوم إبليس - لعنه الله - فيقول: ( وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ) الآية.

ثم لما ذكر تعالى مآل الأشقياء وما صاروا إليه من الخزي والنَّكَال. وأن خطيبهم إبليس، عطف بحال السعداء وأنهم يدخلون يوم القيامة جنات تجري من تحتها الأنهار سارحة فيها حيث ساروا وأين ساروا ( خَالِدِينَ فِيهَا ) ماكثين أبدا لا يحولون ولا يزولون، ( بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ ) كما قال تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ [ الزمر:73 ] ، وقال تعالى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ [ الرعد:23 ، 24 ] وقال تعالى: وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا [ الفرقان:75 ] ، وقال: دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [ يونس:10 ] .

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ( 24 )

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ( مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً ) شهادة أن لا إله إلا الله، ( كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ) وهو المؤمن، ( أَصْلُهَا ثَابِتٌ ) يقول:لا إله إلا الله في قلب المؤمن، ( وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ) يقول:يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء.

وهكذا قال الضحاك، وسعيد بن جُبَير، وعِكْرِمة وقتادة وغير واحد:إن ذلك عبارة عن المؤمن، وقوله الطيب، وعمله الصالح، وإن المؤمن كالشجرة من النخل، لا يزال يرفع له عمل صالح في كل حين ووقت، وصباح ومساء.

وهكذا رواه السُّدِّي، عن مُرَّة، عن ابن مسعود قال:هي النخلة.

وشعبة، عن معاوية بن قُرَة، عن أنس:هي النخلة.

وحماد بن سلمة، عن شعيب بن الحبحاب، عن أنس:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بقناع بُسْر فقال: « ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة » قال: « هي النخلة » .

وروي من هذا الوجه ومن غيره، عن أنس موقوفا وكذا نص عليه مسروق، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والضحاك، وقتادة وغيرهم.

وقال البخاري:حدثنا عُبَيدُ بن إسماعيل، عن أبي أسامة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال:كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « أخبروني عن شجرة تشبه - أو:كالرجل - المسلم، لا يتحات ورقها [ ولا ولا ولا ] تؤتي أكلها كل حين » . قال ابن عمر:فوقع في نفسي أنها النخلة، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان، فكرهت أن أتكلم، فلما لم يقولوا شيئا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « هي النخلة » . فلما قمنا قلت لعمر:يا أبتا، والله لقد كان وقع في نفسي أنها النخلة. قال:ما منعك أن تكلم؟ قال:لم أركم تتكلمون، فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئا. قال عمر:لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا .

وقال أحمد:حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:صحبت ابن عمر إلى المدينة، فلم أسمعه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حديثا واحدا - قال:كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى بجمار. فقال: « من الشجر شجرة مثلها مثل الرجل المسلم » . فأردت أن أقول:هي النخلة، فنظرت فإذا أنا أصغر القوم، [ فسكت ] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « هي النخلة » أخرجاه .

وقال مالك وعبد العزيز، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما لأصحابه: « إن من الشجر شجرة لا يطرح ورقها، مثل المؤمن » . قال:فوقع الناس في شجر البوادي، ووقع في قلبي أنها النخلة [ فاستحييت، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « هي النخلة ] » أخرجاه أيضا .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبان - يعني ابن زيد العطار - حدثنا قتادة:أن رجلا قال:يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور! فقال: « أرأيت لو عمد إلى متاع الدنيا، فركب بعضها على بعض أكان يبلغ السماء؟ أفلا أخبرك بعمل أصله في الأرض وفرعه في السماء؟ » . قال:ما هو يا رسول الله؟ قال: « تقول:لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله » ، عشر مرات في دبر كل صلاة، فذاك أصله في الأرض وفرعه في السماء « . »

وعن ابن عباس ( كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ) قال:هي شجرة في الجنة.

 

تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( 25 ) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ ( 26 )

وقوله: ( تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ ) قيل:غُدوة وعَشيا. وقيل:كل شهر. وقيل:كل شهرين.

وقيل:كل ستة أشهر. وقيل:كل سبعة أشهر. وقيل:كل سنة.

والظاهر من السياق:أن المؤمن مثله كمثل شجرة، لا يزال يوجد منها ثمر في كل وقت من صيف أو شتاء، أو ليل أو نهار، كذلك المؤمن لا يزال يرفع له عمل صالح آناء الليل وأطراف النهار في كل وقت وحين.

( بِإِذْنِ رَبِّهَا ) أي:كاملا حسنا كثيرا طيبا، ( وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ )

وقوله: ( وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ) هذا مثل كفر الكافر، لا أصل له ولا ثبات، وشبه بشجرة الحنظل، ويقال لها: « الشريان » . [ رواه شعبة، عن معاوية بن قُرَّة، عن أنس بن مالك:أنها شجرة الحنظل ] .

وقال أبو بكر البزار الحافظ:حدثنا يحيى بن محمد بن السكن، حدثنا أبو زيد سعيد بن الربيع، حدثنا شعبة، عن معاوية بن قرة، عن أنس - أحسَبه رفعه- قال: « مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة » ، قال:هي النخلة، ( وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ) قال:هي الشّرْيان .

ثم رواه عن محمد بن المثنى، عن غُنْدَر، عن شعبة، عن معاوية، عن أنس موقوفا .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد - هو ابن سلمة - عن شعيب بن الحَبْحاب عن أنس بن مالك؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة » هي « الحنظلة » . فأخبرت بذلك أبا العالية فقال:هكذا كنا نسمع.

ورواه ابن جرير، من حديث حماد بن سلمة، به ورواه أبو يعلى في مسنده بأبسط من هذا فقال:

حدثنا غسان، عن حماد، عن شعيب، عن أنس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بقناع عليه بُسْر، فقال:ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء. تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها فقال: « هي النخلة » ( وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ ) قال: « هي الحنظل » قال شعيب:فأخبرت بذلك أبا العالية فقال:كذلك كنا نسمع .

وقوله: ( اجْتُثَّتْ ) أي:استؤصلت ( مِنْ فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ ) أي:لا أصل لها ولا ثبات، كذلك الكفر لا أصل له ولا فرع، ولا يصعد للكافر عمل، ولا يتقبل منه شيء.

يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ( 27 )

قال البخاري:حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، أخبرني علقمة بن مَرْثَد قال:سمعت سعد بن عبيدة، عن البراء بن عازب، رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « المسلم إذا سئل في القبر، شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فذلك قوله: ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) » .

ورواه مسلم أيضا وبَقِيَّة الجماعة كلهم، من حديث شعبة، به .

وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن المِنْهَال بن عمرو، عن زاذان، عن البراء بن عازب قال:خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله، كأن على رءوسنا الطير، وفي يده عود يَنْكت به في الأرض، فرفع رأسه فقال: « استعيذوا بالله من عذاب القبر » ، مرتين أو ثلاثا، ثم قال: « إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نـزل إليه ملائكة من السماء، بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة وحَنُوط من حَنُوط الجنة، حتى يجلسوا منه مد البصر. ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول:أيتها النفس الطيبة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان » . قال: « فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فِي السِّقَاء فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنُوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض. فيصعدون بها، فلا يمرون - يعني بها - على ملأ من الملائكة إلا قالوا:ما هذا الروح [ الطيب ] ؟ فيقولون:فلان ابن فلان، بأحسن أسمائه التي [ كانوا ] يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهى بها إلى السماء السابعة، فيقول الله:اكتبوا كتاب عبدي في عِليين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى » .

قال: « فتُعَاد روحه [ في جسده ] فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له:من ربك؟ فيقول:ربي الله. فيقولان له:ما دينك؟ فيقول:ديني الإسلام. فيقولان له:ما هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فيقول:هو رسول الله. فيقولان له:وما علمك؟ فيقول:قرأت كتاب الله، فآمنت به وصدقت. فينادي مناد من السماء:أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة - قال:فيأتيه من رَوْحِها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره. ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول:أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول له من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير. فيقول:أنا عملك الصالح. فيقول:رب أقم الساعة. رب، أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي ومالي » .

قال: « وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نـزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المُسُوح، فجلسوا منه مد البصر. ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول:أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سَخَط من الله وغَضَب » . قال: « فتَفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السَّفُّود من الصوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يجعلوها في تلك المسوح. ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون بها على مَلأ من الملائكة إلا قالوا:ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون:فلان ابن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يسمونه بها في الدنيا [ حتى ينتهى به إلى السماء الدنيا ] فيستفتح له فلا يفتح له » . ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [ الأعراف:40 ] ، فيقول الله: « اكتبوا كتابه في سجين، في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحا » . ثم قرأ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [ الحج:31 ] .

« فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه ويقولان له:من ربك؟ فيقول:هاه هاه، لا أدري. فيقولان له:ما دينك؟ فيقول:هاه هاه، لا أدري. فيقولان له:ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول:هاه هاه، لا أدري. فينادي مناد من السماء:أن كذب فأفرشوه من النار، وافتحوا له بابا إلى النار. فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره، حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب ، منتن الريح فيقول:أبشر بالذي يسوءك، هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول:ومن أنت فوجهك [ الوجه ] يجيئ بالشر. فيقول:أنا عملك الخبيث، فيقول:رب، لا تقم الساعة » .

ورواه أبو داود من حديث الأعمش، والنسائي وابن ماجة من حديث المنهال بن عمرو، به .

وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن يونس بن خباب عن المِنْهَال بن عمرو، عن زاذان، عن البراء بن عازب، رضي الله عنه، قال:خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة، فذكر نحوه.

وفيه: « حتى إذا خرج روحه صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض، [ وكل ملك في السماء ] وفتحت أبواب السماء، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله، عز وجل، أن يعرج بروحه من قبلهم » .

وفي آخره: « ثم يقيض له أعمى أصم أبكم، وفي يده مرزبَّة لو ضرب بها جبل لكان ترابا، فيضربه ضربة فيصير ترابا. ثم يعيده الله، عز وجل، كما كان، فيضربه ضربة أخرى فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين » . قال البراء:ثم يفتح له باب إلى النار، ويمهد من فرش النار .

وقال سفيان الثوري، عن أبيه، عن خَيْثَمَة، عن البراء في قوله تعالى: ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) قال:عذاب القبر.

وقال المسعودي، عن عبد الله بن مُخَارق، عن أبيه، عن عبد الله قال:إن المؤمن إذا مات أجلس في قبره، فيقال له:من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ فيثبته الله، فيقول:ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم. وقرأ عبد الله: ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) .

وقال الإمام عبد بن حميد، رحمه الله، في مسنده:حدثنا يونس بن محمد، حدثنا شيبان بن عبد الرحمن، عن قتادة، حدثنا أنس بن مالك قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه، إنه ليسمع قرع نعالهم » . قال: « فيأتيه ملكان فيقعدانه فيقولان له:ما كنت تقول في هذا الرجل؟ » قال: « فأما المؤمن فيقول:أشهد أنه عبد الله ورسوله » . قال: « فيقال له:انظر إلى مقعدك من النار، قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة » . قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: « فيراهما جميعا » . قال قتادة:وذكر لنا أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعا، ويملأ عليه خَضِرًا إلى يوم القيامة.

رواه مسلم عن عبد بن حميد، به وأخرجه النسائي من حديث يونس بن محمد المؤدب، به .

وقال الإمام أحمد:حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جُرَيْج، أخبرني أبو الزبير، أنه سأل جابر بن عبد الله عن فَتَّاني القبر فقال:سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « إن هذه الأمة تُبْتَلَى في قبورها، فإذا أدخل المؤمن قبره وتولى عنه أصحابه، جاء ملك شديد الانتهار، فيقول له:ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول المؤمن:أقول:إنه رسول الله وعبده. فيقول له الملك:انظر إلى مقعدك الذي كان لك في النار، قد أنجاك الله منه، وأبدلك بمقعدك الذي ترى من النار مقعدك الذي ترى من الجنة، فيراهما كليهما. فيقول المؤمن:دعوني أبشر أهلي. فيقال له:اسكن. وأما المنافق فيقعد إذا تولى عنه أهله، فيقال له:ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول:لا أدري، أقول كما يقول الناس. فيقال له:لا دريت، هذا مقعدك الذي كان لك في الجنة، قد أبدلت مكانه مقعدك من النار » .

قال جابر:فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « يبعث كل عبد في القبر على ما مات، المؤمن على إيمانه، والمنافق على نفاقه » .

إسناده صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه .

وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو عامر، حدثنا عباد بن راشد، عن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال:شَهِدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا أيها الناس، إن هذه الأمة تُبتَلى في قبورها، فإذا الإنسان دفن وتفرق عنه أصحابه، جاءه ملك في يده مطراق فأقعده، قال:ما تقول في هذا الرجل؟ فإن كان مؤمنا قال:أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله فيقول له:صدقت. ثم يفتح له بابا إلى النار، فيقول:هذا كان منـزلك لو كفرت بربك، فأما إذ آمنت فهذا منـزلك. فيفتح له بابا إلى الجنة، فيريد أن ينهض إليه، فيقول له:اسكن. ويفسح له في قبره » . « وإن كان كافرا أو منافقا يقول له:ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول:لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فيقول:لا دريت ولا تليت ولا اهتديت. ثم يفتح له بابا إلى الجنة، فيقول له:هذا منـزلك لو آمنت بربك، فأما إذ كفرت به فإن الله، عز وجل، أبدلك به هذا. فيفتح له بابا إلى النار، ثم يقمَعه قمعةً بالمطراق يسمعها خَلْقُ الله، عز وجل، كلهم غير الثقلين » . فقال بعض القوم:يا رسول الله، ما أحد يقوم عليه ملك في يده مطراق إلا هيل عند ذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ ) .

وهذا أيضا إسناد لا بأس به، فإن عباد بن راشد التميمي روى له البخاري مقرونا، ولكن ضعفه بعضهم.

وقال الإمام أحمد:حدثنا حسين بن محمد، عن ابن أبي ذئب، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن سعيد بن يَسَار، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم « إن الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل الصالح قالوا:اخرجي أيتها النفس المطمئنة كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة، وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان » . قال: « فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يُعْرَج بها إلى السماء، فيستفتح لها فيقال:من هذا؟ فيقال:فلان. فيقولون:مرحبا بالروح الطيبة كانت في الجسد الطيب، ادخلي حميدة، وأبشري بروح وريحان، ورب غير غضبان » قال: « فلا يزال يقال لها ذلك، حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل. »

وإذا كان الرجل السوء قالوا:اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة، وأبشري بحميم وغَسَّاق، وآخر من شكله أزواج. فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها فيقال:من هذا؟ فيقال:فلان، فيقال:لا مرحبا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة، فإنه لا تفتح لك أبواب السماء. فيرسل من السماء، ثم يصير إلى القبر « ، فيجلس الرجل الصالح فيقال له مثل ما قيل في الحديث الأول، ويجلس الرجل السوء فيقال له مثل ما قيل في الحديث الأول. »

ورواه النسائي وابن ماجة، من طريق ابن أبي ذئب بنحوه .

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:إذا خرجت روح العبد المؤمن، تلقاها ملكان يصعدان بها. قال حماد:فذكر من طيب ريحها وذكر المسك. قال:ويقول أهل السماء:روح طيبة جاءت من قِبَل الأرض، صَلَّى الله عليك وعلى جَسَد كنت تَعْمُرينه، فيُنطَلَقُ به إلى ربه عز وجل، فيقول:انطلقوا به إلى آخر الأجل. وإن الكافر إذا خرجت روحه. قال حماد:وذكر من نَتْنها وذكر مقتا، ويقول أهل السماء:روح خبيثة جاءت من قبل الأرض. قال:فيقال:انطلقوا به إلى آخر الأجل. قال أبو هريرة:فردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رَبْطَةً كانت عليه على أنفه، هكذا .

وقال ابن حبان في صحيحه:حدثنا عمر بن محمد الهمداني، حدثنا زيد بن أخزم، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن قسامة بن زهير، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن المؤمن إذا قُبض، أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء، فيقولون:اخرجي إلى روح الله. فتخرج كأطيب ريح مسك، حتى إنه ليناوله بعضهم بعضا يشمونه حتى يأتوا به باب السماء، فيقولون ما هذا الريح الطيبة التي جاءت من قِبل الأرض؟ ولا يأتون سماء إلا قالوا مثل ذلك، حتى يأتوا به أرواح المؤمنين، فَلهُم أشدّ فرحًا به من أهل الغائب بغائبهم، فيقولون:ما فعل فلان؟ فيقولون:دعوه حتى يستريح، فإنه كان في غمّ! فيقول:قد مات، أما أتاكم؟ فيقولون:ذُهب به إلى أمه الهاوية. وأما الكافر فيأتيه ملائكة العذاب بمسْح فيقولون:اخرجي إلى غضب الله، فتخرج كأنتن ريح جيفة، فَيُذْهَب به إلى باب الأرض » .

وقد روي أيضا من طريق هَمَّام بن يحيى، عن قتادة، عن أبي الجوزاء، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. قال: « فَيُسأل:ما فعل فلان، ما فعل فلان؟ ما فعلت فلانة؟ » قال: « وأما الكافر فإذا قُبضت نفسه، وذُهب بها إلى باب الأرض تقول خزنة الأرض:ما وجدنا ريحا أنتن من هذه. فَيُبْلَغُ بها الأرض السفلى » .

قال قتادة:وحدثني رجل، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو قال:أرواح المؤمنين تجمع بالجابية. وأرواح الكفار تجمع ببرهوت، سبخة بحضرموت.

وقال الحافظ أبو عيسى الترمذي، رحمه الله:حدثنا يحيى بن خلف، حدثنا بشر بن المفضل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن سعيد بن أبي سعيد المقْبرُِي، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا قبر الميت - أو قال:أحدكم - أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما:المنكر، والآخر:النكير، فيقولان:ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول ما كان يقول:هو عبد الله ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. فيقولان:قد كنا نعلم أنك تقول هذا. ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين. ثم ينوّر له فيه، ثم يقال له:نَمْ. فيقول:أرجع إلى أهلي فأخبرهم، فيقولان:نَمْ نومةَ العروس الذي لا يوقظه إلا أحَبَّ أهله إليه، حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك. وإن كان منافقا قال:سمعت الناس يقولون فقلت مثلهم، لا أدري. فيقولان:قد كنا نعلم أنك تقول ذلك، فيقال للأرض:التئمي عليه. فتلتئم عليه، فتختلف أضلاعه، فلا يزال فيها معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك » .

ثم قال الترمذي:هذا حديث حسن غريب.

وقال حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) قال: « ذاك إذا قيل له في القبر:من ربك؟ وما دينك؟ فيقول:ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد، جاءنا بالبينات من عند الله، فآمنت به وصدّقت. فيقال له:صَدَقْتَ، على هذا عشت، وعليه مت، وعليه تبعث » .

وقال ابن جرير:حدثنا مجاهد بن موسى والحسن بن محمد قالا حدثنا يزيد، أنبأنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة « إن الميت ليسمع خفق نعالهم حين يولون عنه مدبرين، فإذا كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه، والزكاة عن يمينه، والصيام عن يساره، وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه، فيؤتى من عند رأسه فتقول الصلاة:ما قبلي مدخل، فيؤتى من عن يمينه فتقول الزكاة:ما قبلي مدخل. فيؤتى عن يساره فيقول الصيام:ما قِبَلي مَدخَلٌ. فيؤتى من عند رجليه فيقول فعل الخيرات:ما قِبَلي مدخل. فيقال له اجلس. »

فيجلس، قد تَمثّلت له الشمس، قد دنت للغروب، فيقال له أخبرنا عما نسألك. فيقول:دعوني حتى أصلي. فيقال:إنك ستفعل، فأخبرنا عما نسألك. فيقول:وعَمَّ تسألوني؟ فيقال:أرأيت هذا الرجل الذي كان فيكم، ماذا تقول فيه، وماذا تشهد به عليه؟ فيقول:أمحمد؟ فيقال له:نعم. فيقول:أشهد أنه رسول الله، وأنه جاءنا بالبينات من عند الله، فصدقناه. فيقال له:على ذلك حَييتَ، وعلى ذلك متّ، وعلى ذلك تبعث إن شاء الله. ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا ويُنَوَّر له فيه، ويفتح له باب إلى الجنة، فيقال له:انظر إلى ما أعد الله لك فيها. فيزداد غبطة [ وسرورا ] ثم يجعل نسمه في النسم الطيب، وهي طير خضر تعلق بشجر الجنة، ويعاد الجسد إلى ما بدئ منه من التراب « ، وذلك قول الله: ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) . »

ورواه ابن حبّان، من طريق المعتمر بن سليمان، عن محمد بن عمرو، وذكر جواب الكافر وعذابه .

وقال البزار:حدثنا سعيد بن بحر القراطيسي، حدثنا الوليد بن القاسم، حدثنا يزيد بن كَيْسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة - أحسَبه رفعه- قال: « إن المؤمن ينـزل به الموت، ويعاين ما يعاين، فيودّ لو خرجت - يعني نفسُه - والله يحب لقاءه، وإن المؤمن يصعد بروحه إلى السماء، فتأتيه أرواح المؤمنين، فتستخبره عن معارفهم من أهل الأرض، فإذا قال:تركت فلانا في الأرض أعجبهم ذلك. وإذا قال:إن فلانا قد مات، قالوا:ما جيء به إلينا. وإن المؤمن يجلس في قبره، فيسأل:من ربك؟ فيقول:ربي الله ويسأل:من نبيك؟ فيقول:محمد نبيي فيقال:ماذا دينك؟ قال:ديني الإسلام. فيفتح له باب في قبره، فيقول - أو:يقال - انظر إلى مجلسك. ثم يرى القبر فكأنما كانت رَقْدَة. وإذا كان عَدُو الله نـزل به الموت وعاين ما عاين، فإنه لا يحب أن تخرج روحه أبدا، والله يبغض لقاءه، فإذا جلس في قبره - أو:أجلس - يقال له:من ربك؟ فيقول:لا أدري. فيقال:لا دريت. فيفتح له باب من جهنم، ثم يضرب ضربة يسمعها كل دابة إلا الثقلين، ثم يقال له:نم كما ينام المنهوش » . قلت لأبي هريرة:ما المنهوش؟ قال:الذي تنهشه الدواب والحيات، ثم يضيق عليه قبره.

ثم قال:لا نعلم رواه إلا الوليد بن القاسم .

وقال الإمام أحمد، رحمه الله:حدثنا حُجَين بن المثنى، حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، عن محمد بن المُنكَدِر قال:كانت أسماء - يعني بنت الصديق - رضي الله عنها، تحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قالت:قال: « إذا دخل الإنسان قبره، فإن كان مؤمنا أحَفّ به عملُه:الصلاةُ والصيام » ، قال: « فيأتيه الملك من نحو الصلاة فترده، ومن نحو الصيام فيرده » ، قال: « فيناديه:اجلس. فيجلس. فيقول له:ماذا تقول في هذا الرجل؟ يعني النبي صلى الله عليه وسلم، قال:من؟ قال:محمد. قال أشهد أنه رسول الله، قال:يقول:وما يدريك؟ أدركته؟ قال:أشهد أنه رسول الله. قال:يقول:على ذلك عشتَ، وعليه متّ، وعليه تبعثُ. وإن كان فاجرًا أو كافرًا، جاءه الملك ليس بينه وبينه شيء يَرُدّه، فأجلسه يقول:اجلس، ماذا تقول في هذا الرجل؟ قال:أي رجل؟ قال:محمد؟ قال:يقول:والله ما أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته. قال له الملك:على ذلك عشتَ، وعليه متَ، وعليه تبعثُ. قال:وتسلَّط عليه دابة في قبره، معها سوط تَمْرَته جَمرةٌ مثل غَرْب البعير، تضربه ما شاء الله، صماء لا تسمع صوتَه فترحَمه » .

وقال العوفي، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، في هذه الآية قال:إن المؤمن إذا حَضرَه الموت شهدته الملائكة، فسلموا عليه وبشروه بالجنة، فإذا مات مَشَوا مع جنازته، ثم صَلَّوا عليه مع الناس، فإذا دفن أجلس في قبره فيقال له:من ربك؟ فيقول:ربي الله. فيقال له:من رسولك؟ فيقول:محمد صلى الله عليه وسلم. فيقال له:ما شهادتك؟ فيقول:أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله. فيوسَّع له في قبره مد بَصَره. وأما الكافر فتنـزل عليه الملائكة، فيبسطون أيديهم - « والبسط » :هو الضرب - يضربون وجوههم وأدبارهم عند الموت. فإذا أدخل قبره أقعد، فقيل له:من ربك؟ فلم يَرْجع إليهم شيئا، وأنساه الله ذكر ذلك. وإذا قيل:من الرسول الذي بُعثَ إليك؟ لم يهتد له، ولم يرجع إليه شيئًا، كذلك يضل الله الظالمين.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي، حدثنا شريح بن مسلمة حدثنا إبراهيم بن يوسف، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد البجلي، عن أبي قتادة الأنصاري في قوله تعالى: ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) الآية، قال:إن المؤمن إذا مات أجلس في قبره، فيقال له:من ربك؟ فيقول:الله. فيقال له:من نبيك؟ فيقول:محمد بن عبد الله. فيقال له في ذلك مرات. ثم يفتح له باب إلى النار، فيقال له:انظر إلى منـزلك في النار لو زُغْت ثم يفتح له باب إلى الجنة، فيقال له:انظر إلى منـزلك [ من الجنة إذ ثبت. وإذا مات الكافر أجلس في قبره، فيقال له:من ربك؟ من نبيك؟ فيقول:لا أدري، كنت أسمع الناس يقولون. فيقال له:لا دريت. ثم يفتح له باب إلى الجنة، فيقال له:انظر إلى منـزلك ] لو ثبت، ثم يفتح له باب إلى النار، فيقال له:انظر إلى منـزلك إذ زغت فذلك قوله تعالى: ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ )

وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه: ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) قال:لا إله إلا الله، ( وَفِي الآخِرَةِ ) المسألة في القبر .

وقال قتادة:أما الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح، ( وَفِي الآخِرَةِ ) في القبر. وكذا روي عن غير واحد من السلف.

وقال أبو عبد الله الحكيم الترمذي في كتابه « نوادر الأصول » :حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن نافع، عن ابن أبي فُدَيْك، عن عبد الرحمن بن عبد الله عن سعيد بن المسيب، عن عبد الرحمن بن سمرة قال:خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ونحن في مسجد المدينة، فقال: « إني رأيت البارحة عجبًا، رأيت رجلا من أمتي [ جاءه ملك الموت ليقبض روحه، فجاءه برُّه بوالديه فرد عنه. ورأيت رجلا من أمتي ] قد بسط عليه عذاب القبر، فجاءه وُضوءه فاستنقذه من ذلك. ورأيت رجلا من أمتي [ قد ] احتوشته الشياطين، فجاءه ذكر الله فخلصه من بينهم. ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب، فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم. ورأيت رجلا من أمتي يلهث عطشا، كلما ورد حوضا مُنع منه، فجاءه صيامه فسقاه وأرواه. ورأيت رجلا من أمتي والنبيون قعود حلَقا حلقا، وكلما دنا لحقة طردوه، فجاءه اغتساله من الجنابة، فأخذ بيده فأقعده إلى جنبي. ورأيت رجلا من أمتي [ من ] بين يديه ظلمة، ومن خلفه ظلمة، وعن يمينه ظلمة، وعن شماله ظلمة، ومن فوقه ظلمة، ومن تحته ظلمة، وهو متحير فيها، فجاءته حجته وعمرته، فاستخرجاه من الظلمة وأدخلاه النور، ورأيت رجلا من أمتي يكلم المؤمنين فلا يكلمونه، فجاءته صلَة الرحم، فقالت:يا معشر المؤمنين، كلموه، فكلموه. ورأيت رجلا من أمتي يتقي وَهَج النَّار أو شَررهَا بيده عن وجهه، فجاءته صدقته فصارت سترا على وجهه وظلا على رأسه. ورأيت رجلا من أمتي قد أخذته الزبانية من كل مكان، فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، فاستنقذاه من أيديهم، وأدخلاه مع ملائكة الرحمة. ورأيت رجلا من أمتي جاثيا على ركبتيه، بينه وبين الله حجاب، فجاءه حسن خُلُقه، فأخذ بيده فأدخله على الله، عز وجل. ورأيت رجلا من أمتي قد هَوت صحيفته من قبل شماله، فجاءه خوفه من الله فأخذ صحيفته، فجعلها في يمينه. [ ورأيت رجلا من أمتي قد خف ميزانه، فجاءته أفراطه فثقلوا ميزانه ] ورأيت رجلا من أمتي قائما على شفير جهنم، فجاءه وجَله من الله، فاستنقذه من ذلك ومضى. ورأيت رجلا من أمتي هوى في النار، فجاءته دموعه التي بكى من خشية الله في الدنيا فاستخرجته من النار، [ ورأيت رجلا من أمتي قائما على الصراط يُرعَد كما ترعد السَّعَفة، فجاء حسن ظنه بالله، فسكَّن رِعْدَته، ومضى ] ورأيت رجلا من أمتي على الصراط يزحف أحيانا ويحبو أحيانا، فجاءته صلاته عليَّ، فأخذت بيده فأقامته ومضى على الصراط. ورأيت رجلا من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة، فغلقت الأبواب دونه، فجاءته شهادة:أن لا إله إلا الله، ففتحت له الأبواب وأدخلته الجنة » .

قال القرطبي بعد إيراده هذا الحديث من هذا الوجه:هذا حديث عظيم، ذكرَ فيه أعمالا خاصة تنجي من أهوال خاصة. أورده هكذا في كتابه « التذكرة » .

وقد روى الحافظ أبو يعلى الموصلي في هذا حديثا غريبا مطولا فقال:حدثنا أبو عبد الله أحمد بن إبراهيم النُّكْرِي، حدثنا محمد بن بكر البرساني أبو عثمان، حدثنا أبو عاصم الحبطي - وكان من خيار أهل البصرة، وكان من أصحاب حزم، وسلام بن أبي مطيع - حدثنا بكر بن خنيس، عن ضرار بن عمرو، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك، عن تميم الداري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « يقول الله، عز وجل، لملك الموت:انطلق إلى وليي فأتني به، فإني قد ضَربته بالسراء والضراء، فوجدته حيث أحب. ائتني به فَلأريحنَّه . »

فينطلق إليه ملك الموت ومعه خمسمائة من الملائكة، معهم أكفان وحَنُوط من الجنة، ومعهم ضبائر الريحان، أصل الريحانة واحد وفي رأسها عشرون لونا، لكل لون منها ريح سوى ريح صاحبه، ومعهم الحرير الأبيض فيه المسك الأذفر. فيجلس ملك الموت عند رأسه، وتحف به الملائكة. ويضع كل ملك منهم يده على عضو من أعضائه ويَبْسط ذلك الحرير الأبيض والمسك الأذفَر تحت ذقنه، ويفتَح له بابٌ إلى الجنة، فإن نفسه لَتَعلَّلُ عند ذلك بطرف الجنة تارة، وبأزواجها [ مرة ] ومرَّةً بكسواتها ومرة بثمارها، كما يُعَلّل الصبي أهله إذا بكى « . قال: » وإن أزواجه ليبتهشن عند ذلك ابتهاشًا « . »

قال: « وتنـزو الروح » . قال البُرْسَاني:يريد أن تخرج من العَجَل إلى ما تحب. قال: « ويقول مَلَك الموت:اخرجي يا أيتها الروح الطيبة، إلى سدر مخضود، وطلح منضود، وظل ممدود، وماء مسكوب » . قال: « ولَمَلَك الموت أشدّ به لطفا من الوالدة بولدها، يعرف أن ذلك الروح حبيب لربه، فهو يلتمس بلطفه تحببا لديه رضاء للرب عنه، فتُسَلُّ روحه كما تسل الشعرة من العجين » . قال: « وقال الله، عز وجل: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ [ النحل:32 ] » وقال فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ [ الواقعة:88، 89 ] ، قال: « روح من جهة الموت، وريحان يتلقى به، وجنة نعيم تقابله » . قال: « فإذا قَبض ملك الموت روحه، قالت الروح للجسد:جزاك الله عني خيرا، فقد كنت سريعا بي إلى طاعة الله، بطيئا بي عن معصية الله، فقد نجيت وأنجيت » . قال: « ويقول الجسد للروح مثل ذلك » .

قال: « وتبكي عليه بقاع الأرض التي كان يطيع الله فيها، وكل باب من السماء يصعد منه عمله. وينـزل منه رزقه أربعين ليلة » .

قال: « فإذا قَبَض ملك الموت روحه، أقامت الخمسمائة من الملائكة عند جسده، فلا يقلبه بنو آدم لشق إلا قلبته الملائكة قبلهم، وغسلته وكفنته بأكفان قبل أكفان بني آدم، وحنوط قبل حنوط بني آدم، ويقوم من بين باب بيته إلى باب قبره صفّان من الملائكة، يستقبلونه بالاستغفار، فيصيح عند ذلك إبليس صيحة تتصدع منها عظام جسده » . قال: « ويقول لجنوده:الويل لكم. كيف خَلَص هذا العبد منكم، فيقولون إن هذا كان عبدا معصوما » .

قال: « فإذا صعد ملك الموت بروحه، يستقبله جبريل في سبعين ألفا من الملائكة، كل يأتيه ببشارة من ربه سوى بشارة صاحبه » . قال: « فإذا انتهى ملك الموت بروحه إلى العرش، خَرّ الروح ساجدا » . قال: « يقول الله، عز وجل، لملك الموت:انطلق بروح عبدي فضعه في سدر مخضود، وطلح منضود، وظل ممدود، وماء مسكوب » .

قال: « فإذا وضع في قبره، جاءته الصلاة فكانت عن يمينه، وجاءه الصيام فكان عن يساره، وجاءه القرآن فكان عند رأسه، وجاءه مشيه إلى الصلاة فكان عند رجليه، وجاءه الصبر فكان ناحية القبر » . قال: « فيبعث الله، عز وجل، عُنُقًا من العذاب » . قال: « فيأتيه عن يمينه » قال: « فتقول الصلاة:وراءك والله ما زال دائبا عمره كله وإنما استراح الآن حين وضع في قبره » . قال: « فيأتيه عن يساره، فيقول الصيام مثل ذلك » . قال: « ثم يأتيه من عند رأسه، فيقول القرآن والذكر مثل ذلك » . قال: « ثم يأتيه من عند رجليه، فيقول مشيه إلى الصلاة مثل ذلك. فلا يأتيه العذاب من ناحية يلتمس هل يجد مساغًا إلا وجَد ولي الله قد أخذ جنته » . قال: « فينقمع العذاب عند ذلك فيخرج » . قال: « ويقول الصبر لسائر الأعمال:أما إنه لم يمنعني أن أباشر أنا بنفسي إلا أني نظرت ما عندكم، فإن عجزتم كنت أنا صاحبه، فأما إذ أجزأتم عنه فأنا له ذخر عند الصراط والميزان » .

قال: « ويبعث الله ملكين أبصارهما كالبرق الخاطف، وأصواتهما كالرعد القاصف، وأنيابهما كالصياصي، وأنفاسهما كاللهب، يطآن في أشعارهما، بين مَنْكِب كل واحد مسيرة كذا وكذا، وقد نـزعت منهما الرأفة والرحمة، يقال لهما:منكر ونكير، في يد كل واحد منهما مطرقة، لو اجتمع عليها ربيعة ومضر لم يُقلّوها » . قال: « فيقولان له:اجلس » . قال: « فيجلس فيستوي جالسا » . قال: « وتقع أكفانه في حقويه » . قال: « فيقولان له:من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ » .

قال:قالوا:يا رسول الله، ومن يطيق الكلام عند ذلك، وأنت تصف من المَلَكَين ما تصف؟ قال:فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ) »

قال: « فيقول:ربي الله وحده لا شريك له، وديني الإسلام الذي دانت به الملائكة، ونبيي محمد خاتم النبيين » . قال: « فيقولان:صدقت » . قال: « فيدفعان القبر، فيوسعان من بين يديه أربعين ذراعا، وعن يمينه أربعين ذراعا، وعن شماله أربعين ذراعا، ومن خلفه أربعين ذراعا، ومن عند رأسه أربعين ذراعا، ومن عند رجليه أربعين ذراعا » . قال: « فيوسعان له مائتي ذراع » .

قال البرساني:فأحسبه:وأربعين ذراعا تحاط به .

قال: « ثم يقولان له:انظر فوقك، فإذا باب مفتوح إلى الجنة » . قال: « فيقولان له:وليَّ الله، هذا منـزلك إذ أطعت الله » . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « والذي نفس محمد بيده إنه يصل إلى قلبه عند ذلك فرحة، ولا ترتد أبدًا، ثم يقال له:انظر تحتك » . قال: « فينظر تحته فإذا باب مفتوح إلى النار » قال: « فيقولان:ولي الله نجوت آخر ما عليك » . قال:فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنه ليصل إلى قلبه عند ذلك فرحة لا ترتد أبدا » . قال:فقالت عائشة:يفتح له سبعة وسبعون بابا إلى الجنة، يأتيه ريحها وبردها، حتى يبعثه الله، عز وجل.

وبالإسناد المتقدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ويقول الله تعالى لملك الموت:انطلق إلى عدوي فأتني به، فإني قد بسطت له رزقي، ويَسّرت له نعمتي، فأبى إلا معصيتي، فأتني به لأنتقم منه » .

قال: « فينطلق إليه ملك الموت في أكره صورة ما رآها أحد من الناس قَطّ، له اثنتا عشرة عينا، ومعه سَفُود من النار كثير الشوك، ومعه خمسمائة من الملائكة، معهم نحاس وجمر من جمر جهنم، ومعهم سياط من نار، لينها لين السياط وهي نار تأجج » . قال: « فيضربه ملك الموت بذلك السفود ضربة يغيبُ كل أصل شوكة من ذلك السفّود في أصل كل شعرة وعرق وظفر » . قال: « ثم يلويه ليا شديدا » . قال: « فينـزع روحه من أظفار قدميه » . قال: « فيلقيها في عقبيه ثم يسكر عند ذلك عدو الله سكرة، فيرفه ملك الموت عنه » . قال: « وتضرب الملائكة وجهه ودُبُره بتلك السياط » . [ قال: « فيشده ملك الموت شدة، فينـزع روحه من عقبيه، فيلقيها في ركبتيه، ثم يسكر عدو الله عند ذلك سكرة، فيرفه ملك الموت عنه » . قال: « فتضرب الملائكة وجهه ودبره بتلك السياط » ] قال: « ثم ينتره ملك الموت نَتَرة، فينـزع روحه من ركبتيه فيلقيها في حقويه » . قال: « فيسكر عدو الله عند ذلك سكرة، فيرفّه ملك الموت عنه » . قال: « وتضرب الملائكة وجهه ودُبُره بتلك السياط » . قال: « كذلك إلى صدره، ثم كذلك إلى حلقه » . قال: « ثم تبسط الملائكة ذلك النحاس وجمر جهنم تحت ذقنه » . قال: « ويقول ملك الموت:اخرجي أيتها الروح اللعينة الملعونة إلى سَمُوم وحميم، وظل من يحموم، لا بارد ولا كريم » .

قال: « فإذا قبض ملك الموت روحه قال الروح للجسد:جزاك الله عني شرا، فقد كنت سريعا بي إلى معصية الله، بطيئا بي عن طاعة الله، فقد هلكت وأهلكت » قال: « ويقول الجسد للروح مثل ذلك، وتلعنه بقاع الأرض التي كان يعصي الله عليها، وتنطلق جنود إبليس إليه فيبشرونه بأنهم قد أوردوا عبدا من ولد آدم النار » .

قال: « فإذا وضع في قبره ضُيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، حتى تدخل اليمنى في اليسرى، واليسرى في اليمنى » قال: « ويبعث الله إليه أفاعي دُهمًا كأعناق الإبل يأخذن بأرنبته وإبهامي قدميه فيقرضنه حتى يلتقين في وسطه » .

قال: « ويبعث الله ملكين أبصارهما كالبرق الخاطف، وأصواتهما كالرعد القاصف، وأنيابهما كالصياصي، وأنفاسهما كاللهب يطآن في أشعارهما، بين منكبي كل واحد منهما مسيرة كذا وكذا، قد نـزعت منهما الرأفة والرحمة يقال لهما:منكر ونكير، في يد كل واحد منهما مطرقة، لو اجتمع عليها ربيعة ومضر لم يقلوها » قال: « فيقولان له:اجلس » . قال: « فيستوي جالسا » قال: « وتقع أكفانه في حقويه » قال: « فيقولان له:من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول:لا أدري. فيقولان:لا دريت ولا تَليّت » . [ قال ] « فيضربانه ضربة يتطاير شررها في قبره، ثم يعودان » . قال: « فيقولان:انظر فوقك. فينظر، فإذا باب مفتوح من الجنة، فيقولان:هذا - عدو الله - منـزلك لو أطعت الله » .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « والذي نفسي بيده، إنه ليصل إلى قلبه عند ذلك حسرة لا ترتد أبدًا » .

قال: « ويقولان له:انظر تحتك فينظر تحته، فإذا باب مفتوح إلى النار، فيقولان:عدو الله، هذا منـزلك إذ عصيت الله » .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « والذي نفسي بيده، إنه ليصل إلى قلبه عند ذلك حسرة لا ترتد أبدا » .

قال:وقالت عائشة:ويفتح له سبعة وسبعون بابًا إلى النار، يأتيه [ من ] حرها وسمومها حتى يبعثه الله إليها .

هذا حديث غريب جدًا، وسياق عجيب، ويزيد الرقاشي - راويه عن أنس - له غرائب ومنكرات، وهو ضعيف الرواية عند الأئمة، والله أعلم.

ولهذا قال أبو داود:حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي، حدثنا هشام - هو ابن يوسف - عن عبد الله بن بَحير، عن هانئ مولى عثمان، عن عثمان، رضي الله عنه، قال:كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الرجل وقف عليه فقال: « استغفروا لأخيكم، واسألوا له بالتثبيت، فإنه الآن يسأل » ، انفرد به أبو داود .

وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مَردُويه عند قوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ الآية [ الأنعام:93 ] حديثا مطولا جدا، من طريق غريب، عن الضحاك، عن ابن عباس مرفوعا، وفيه غرائب أيضا .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ( 28 ) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ( 29 ) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ( 30 )

قال البخاري:قوله: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا ) ألم تعلم؟ كقوله: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ [ إبراهيم:24 ] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا [ البقرة:243 ] البوار:الهلاك، بار يبور بَورًا، و قَوْمًا بُورًا [ الفرقان:18 ، الفتح:12 ] هالكين.

حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن عطاء سمع ابن عباس: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا ) قال:هم كفار أهل مكة .

وقال العوفي، عن ابن عباس في هذه الآية:هو جبلة بن الأيهم، والذين اتبعوه من العرب، فلحقوا بالروم. والمشهور الصحيح عن ابن عباس هو القول الأول، وإن كان المعنى يعم جميع الكفار؛ فإن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، ونعمة للناس، فمن قبلها وقام بشكرها دخل الجنة، ومن ردها وكفرها دخل النار.

وقد روي عن علي نحو قول ابن عباس الأول، قال ابن أبي حاتم:

حدثنا أبي، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا شعبة، عن القاسم بن أبي بزة، عن أبي الطفيل:أن ابن الكواء سأل عليا عن ( الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) قال:كفار قريش يوم بدر.

حدثنا المنذر بن شاذان، حدثنا يعلى بن عبيد، حدثنا بسام - هو الصيرفي - عن أبي الطفيل قال:جاء رجل إلى علي فقال:يا أمير المؤمنين، من الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار؟ قال:منافقو قريش.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا ابن نفيل قال:قرأت على مَعْقِل، عن ابن أبي حسين قال:قام علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فقال:ألا أحد يسألني عن القرآن، فوالله لو أعلم اليوم أحدا أعلم مني به وإن كان من وراء البحار لأتيته. فقام عبد الله بن الكواء فقال:من الذين بدلوا نعمة الله كفرًا وأحلوا قومهم دار البوار؟ فقال:مشركو قريش، أتتهم نعمة الله:الإيمان، فبدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار .

وقال العدوي في قوله: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا ) الآية، ذكر مسلم المستوفي عن علي أنه قال:هم الأفجران من قريش:بنو أمية، وبنو المغيرة، فأما بنو المغيرة فأحلوا قومهم دار البوار يوم بدر، وأما بنو أمية فأحلوا قومهم دار البوار يوم أحد. وكان أبو جهل يوم بدر، وأبو سفيان يوم أحد. وأما دار البوار فهي جهنم.

وقال ابن أبي حاتم، رحمه الله:حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا الحارث بن منصور، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن مرة قال:سمعت عليا قرأ هذه الآية: ( وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) قال:هم الأفجران من قريش:بنو أمية وبنو المغيرة، فأما بنو المغيرة فأهلكوا يوم بدر، وأما بنو أمية فمتِّعوا إلى حين.

ورواه أبو إسحاق، عن عمرو بن مرة، عن علي، نحوه، وروي من غير وجه عنه.

وقال سفيان الثوري، عن علي بن زيد، عن يوسف بن سعد، عن عمر بن الخطاب، في قوله: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا ) قال:هم الأفجران من قريش:بنو المغيرة وبنو أمية، فأما بنو المغيرة فكُفيتمُوهُم يوم بدر، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين.

وكذا رواه حمزة الزيات، عن عمرو بن مرة قال:قال ابن عباس لعمر بن الخطاب:يا أمير المؤمنين، هذه الآية: ( الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) قال:هم الأفجران من قريش:أخوالي وأعمامك فأما أخوالي فاستأصلهم الله يوم بدر، وأما أعمامك فأملى الله لهم إلى حين.

وقال مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة بن زيد هم كفار قريش الذين قتلوا يوم بدر وكذا رواه مالك في تفسيرة عن نافع، عن ابن عمر.

وقوله: ( وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ ) أي:جعلوا له شركاء عبدوهم معه، ودَعَوُا الناس إلى ذلك.

ثم قال تعالى مهدِّدًا لهم ومتوعدا لهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ) أي:مهما قدرتم عليه في الدنيا فافعلوا، فمهما يكن من شيء ( فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ) أي:مرجعكم وموئلكم إليها، كما قال تعالى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [ لقمان:24 ] ، وقال تعالى: مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [ يونس:70 ] .

قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ ( 31 )

يقول تعالى آمرًا العباد بطاعته والقيام بحقه، والإحسان إلى خلقه، بأن يقيموا الصلاة وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وأن ينفقوا مما رزقهم الله بأداء الزكوات، والنفقة على القرابات والإحسان إلى الأجانب.

والمراد بإقامتها هو:المحافظة على وقتها وحدودها، وركوعها وخشوعها وسجودها.

وأمر تعالى بالإنفاق مما رزق في السر، أي:في الخفية، والعلانية وهي:الجهر، وليبادروا إلى ذلك لخلاص أنفسهم ( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ ) وهو يوم القيامة، وهو يوم ( لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ ) أي:لا يقبل من أحد فدية بأن تباع نفسه، كما قال تعالى: فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [ الحديد:15 ] .

وقوله: ( وَلا خِلالٌ ) قال ابن جرير:يقول:ليس هناك مُخَالَّة خليل، فيصفح عمن استوجب العقوبة، عن العقاب لمُخَالَّته، بل هنالك العدل والقسط، فالخلال مصدر، من قول القائل: « خاللت فلانا، فأنا أخاله مخالة وخلال » ، ومنه قول امرئ القيس:

صَـرَفتُ الهَوَى عَنْهُنَّ من خَشْيَة الرَّدَى وَلَسْــتُ بمقْـلى الخـلال ولا قَـال

وقال قتادة:إن الله قد علم أن في الدنيا بيوعا وخلالا يتخالون بها في الدنيا، فينظر رجل من يخالل وعلام صاحب، فإن كان لله فليداوم، وإن كان لغير الله فسيقطع عنه.

قلت:والمراد من هذا أنه يخبر تعالى أنه لا ينفع أحدا بيع ولا فدية، ولو افتدى بملء الأرض ذهبا لو وجده، ولا ينفعه صداقة أحد ولا شفاعة أحد إذا لقي الله كافرا، قال الله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ [ البقرة:123 ] ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [ البقرة:254 ] .

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ ( 32 ) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ( 33 )

يعدد تعالى نعمه على خلقه، بأن خلق لهم السماوات سقفا محفوظًا والأرض فراشًا، وأنـزل من السماء ماء فأخرج به أزواجا من نبات شتى، ما بين ثمار وزروع، مختلفة الألوان والأشكال، والطعوم والروائح والمنافع، وسخر الفلك بأن جعلها طافية على تيار ماء البحر، تجري عليه بأمر الله تعالى، وسخر البحر يحملها ليقطع المسافرون بها من إقليم إلى إقليم آخر، لجلب ما هنا إلى هناك، وما هناك إلى هاهنا، وسخر الأنهار تشق الأرض من قطر إلى قطر، رزقا للعباد من شرب وسقي وغير ذلك من أنواع المنافع.

( وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ) أي:يسيران لا يقران ليلا ولا نهارا، لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [ يس:40 ] ، يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [ الأعراف:54 ] ، فالشمس والقمر يتعاقبان، والليل والنهار عارضان فتارة يأخذ هذا من هذا فيطول، ثم يأخذ الآخر من هذا فيقصر، يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [ لقمان:29 ] ، وقال تعالى: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى [ الزمر:5 ] .

 

وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ( 34 )

وقوله: ( وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ) يقول:هيأ لكم كل ما تحتاجون إليه في جميع أحوالكم مما تسألونه بحالكم وقالكم.

وقال بعض السلف:من كل ما سألتموه وما لم تسألوه.

وقرأ بعضهم: « وأتاكم من كل ما سألتموه » .

وقوله: ( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا ) يخبر عن عجز العباد عن تعداد النعم فضلا عن القيام بشكرها، كما قال طلق بن حبيب، رحمه الله:إن حق الله أثقل من أن يقوم به العباد، وإن نعم الله أكثر من أن يحصيها العباد، ولكن أصبحوا توابين وامسُوا توابين.

وفي صحيح البخاري:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: « اللهم، لك الحمد غير مَكْفِيّ ولا مودَع، ولا مستغنى عنه ربَّنا » .

وقال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده:حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث، حدثنا داود بن المُحبّر، حدثنا صالح المرْيّ عن جعفر بن زيد العَبْدِي، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « يخرج لابن آدم يوم القيامة ثلاثة دواوين، ديوان، فيه العمل الصالح، وديوان فيه ذنوبه، وديوان فيه النعم من الله تعالى عليه، فيقول الله لأصغر نعمه - أحسبَه. قال:في ديوان النعم:خذي ثمنك من عمله الصالح، فتستوعب عمله الصالح كله، ثم تَنَحّى وتقول:وعزتك ما استوفيت. وتبقى الذنوب والنعم فإذا أراد الله أن يرحم قال:يا عبدي، قد ضاعفتُ لك حسناتك وتجاوزت عن سيئاتك - أحسبه قال:ووهبت لك نعمي » غريب، وسنده ضعيف.

وقد روي في الأثر:أن داود، عليه السلام، قال:يارب، كيف أشكرك وشكري لك نعمة منك علي؟ فقال الله تعالى:الآن شكرتني يا داود، أي:حين اعترفت بالتقصير عن أداء شكر النعم.

وقال الشافعي، رحمه الله:الحمد لله الذي لا يؤدى شكر نعمة من نعمه، إلا بنعمة تُوجِب على مُؤدى ماضي نعَمه بأدائها، نعمة حادثةَ توجب عليه شكره بها .

وقال القائل في ذلك:

لـو كـل جَارِحَـة منــي لـهَا لُغَةٌ تُثْنـيِ عَلَيـكَ بمـا أولَيـتَ مِنْ حَسنِ

لَكَـانَ مـا زَادَ شُـكري إذ شَكَرت به إليـكَ أبلـغَ فـي الإحسَــان والمننِ

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ ( 35 ) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 36 )

يذكر تعالى في هذا المقام محتجا على مشركي العرب، بأن البلد الحرام مكة إنما وضعت أول ما وضعت على عبادة الله وحده لا شريك له، وأن إبراهيم الذي كانت عامرة بسببه، آهلة تبرأ ممن عبد غير الله، وأنه دعا لمكة بالأمن فقال: ( رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا ) وقد استجاب الله له، فقال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [ العنكبوت:67 ] ، وقال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [ آل عمران:96، 97 ] ، وقال في هذه القصة: ( رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا ) فعرفه كأنه دعا به بعد بنائها؛ ولهذا قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [ إبراهيم:39 ] ، ومعلوم أن إسماعيل أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة، فأما حين ذهب بإسماعيل وأمه وهو رضيع إلى مكان مكة، فإنه دعا أيضا فقال: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا [ البقرة:126 ] ، كما ذكرناه هنالك في سورة البقرة مستقصى مطولا.

وقال: ( وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ ) ينبغي لكل داع أن يدعو لنفسه ولوالديه ولذريته.

ثم ذكر أنه افتتن بالأصنام خلائق من الناس وأنه برئ ممن عبدها، ورد أمرهم إلى الله، إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم كما قال عيسى، عليه السلام: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ المائدة:118 ] ، وليس في هذا أكثر من الرد إلى مشيئة الله تعالى، لا تجويز وقوع ذلك.

قال عبد الله بن وهب:حدثنا عمرو بن الحارث، أن بكر بن سَوَادة حدثه، عن عبد الرحمن بن جُبَير عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قول إبراهيم: ( رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) وقول عيسى عليه السلام: ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ورفع يديه، [ ثم ] قال: « اللهم أمتي، اللهم أمتي، اللهم أمتي » ، وبكى فقال الله: [ يا جبريل ] اذهب إلى محمد - وربك أعلم وسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل، عليه السلام، فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال، [ قال ] فقال الله:اذهب إلى محمد، فقل له:إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك .

رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ( 37 )

وهذا يدل على أن هذا دعاء ثان بعد الدعاء الأول الذي دعا به عندما ولى عن هاجر وولدها، وذلك قبل بناء البيت، وهذا كان بعد بنائه، تأكيدًا ورغبة إلى الله، عز وجل؛ ولهذا قال: ( عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ )

وقوله: ( رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ ) قال ابن جرير:هو متعلق بقوله: « المحرم » أي:إنما جعلته محرما ليتمكن أهله من إقامة الصلاة عنده.

( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير:لو قال: « أفئدة الناس » لازدحم عليه فارس والروم واليهود والنصارى والناس كلهم، ولكن قال: ( مِنَ النَّاسِ ) فاختص به المسلمون.

وقوله: ( وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ ) أي:ليكون ذلك عونا لهم على طاعتك وكما أنه ( وَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ) فاجعل لهم ثمارا يأكلونها. وقد استجاب الله ذلك، كما قال: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا [ القصص:57 ] وهذا من لطفه تعالى وكرمه ورحمته وبركته:أنه ليس في البلد الحرام مكة شجرة مثمرة، وهي تجبى إليها ثمرات ما حولها، استجابة لخليله إبراهيم، عليه الصلاة والسلام.

رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ ( 38 ) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ( 39 ) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ( 40 ) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ( 41 )

قال ابن جرير:يقول تعالى مخبرا عن إبراهيم خليله أنه قال: ( رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ ) أي:أنت تعلم قصدي في دعائي وما أردت بدعائي لأهل هذا البلد، وإنما هو القصد إلى رضاك والإخلاص لك، فإنك تعلم الأشياء كلها ظاهرها وباطنها، ولا يخفى عليك منها شيء في الأرض ولا في السماء.

ثم حمد ربه، عز وجل، على ما رزقه من الولد بعد الكبر، فقال: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ) أي:إنه ليستجيب لمن دعاه، وقد استجاب لي فيما سألته من الولد.

ثم قال: ( رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ ) أي:محافظا عليها مقيما لحدودها ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ) أي:واجعلهم كذلك مقيمين الصلاة ( رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ) أي:فيما سألتك فيه كله.

( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ ) وقرأ بعضهم: « ولوالدي » ، على الإفراد وكان هذا قبل أن يتبرأ من أبيه لما تبين له عداوته لله، عز وجل، ( وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) أي:كلهم ( يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ) أي:يوم تحاسب عبادك فتجزيهم بأعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، [ والله أعلم ] .

وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ ( 42 )

يقول [ تعالى شأنه ] ( وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ ) يا محمد ( غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ) أي:لا تحسبه إذ أنظرهم وأجلهم أنه غافل عنهم مهمل لهم، لا يعاقبهم على صنعهم بل هو يحصي ذلك عليهم ويعده عدا، أي: ( إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ ) أي:من شدة الأهوال يوم القيامة.

 

مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ( 43 ) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ

ثم ذكر تعالى كيفية قيامهم من قبورهم ومجيئهم إلى قيام المحشر فقال: ( مُهْطِعِينَ ) أي:مسرعين، كما قال تعالى: مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ [ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ] [ القمر:8 ] ، وقال تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا إلى قوله: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا [ طه:108 - 111 ] ، وقال تعالى: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [ المعارج:43 ] .

وقوله: ( مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ ) قال ابن عباس، ومجاهد وغير واحد:رافعي رءوسهم.

( لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ) أي: [ بل ] أبصارهم طائرة شاخصة، يديمون النظر لا يطرفون لحظة لكثرة ما هم فيه من الهول والفكرة والمخافة لما يحل بهم، عياذًا بالله العظيم من ذلك؛ ولهذا قال: ( وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ) أي:وقلوبهم خاوية خالية ليس فيها شيء لكثرة [ الفزع و ] الوجل والخوف. ولهذا قال قتادة وجماعة:إن أمكنة أفئدتهم خالية لأن القلوب لدى الحناجر قد خرجت من أماكنها من شدة الخوف. وقال بعضهم: ( هَوَاءٌ ) خراب لا تعي شيئا.

ولشدة ما أخبر الله تعالى [ به ] عنهم، قال لرسوله: ( وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ ) .

فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ ( 44 ) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ ( 45 ) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ( 46 )

يقول تعالى مخبرًا عن قيل الذين ظلموا أنفسهم، عند معاينة العذاب: ( رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ) كما قال تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [ المؤمنون:99، 100 ] ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [ المنافقون:9، 10 ] ، وقال تعالى مخبرا عنهم في حال محشرهم: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [ السجدة:12 ] ، وقال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [ الأنعام:27، 28 ] ، وقال تعالى: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [ فاطر:37 ] .

وقال تعالى رادا عليهم في قولهم هذا: ( أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ ) أي:أو لم تكونوا تحلفون من قبل هذه الحال:أنه لا زوال لكم عما أنتم فيه، وأنه لا معاد ولا جزاء، فذوقوا هذا بذاك.

قال مجاهد وغيره: ( مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ ) أي:ما لكم من انتقال من الدنيا إلى الآخرة، كما أخبر عنهم تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا [ النحل:38 ] .

( وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ ) أي:قد رأيتم وبلغكم ما أحللنا بالأمم المكذبة قبلكم، ومع هذا لم يكن لكم فيهم معتبر، ولم يكن فيما أوقعنا بهم مزدجر لكم حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ [ القمر:5 ] .

وقد روى شعبة، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن [ بن دابيل ] أن عليا، رضي الله عنه، قال في هذه الآية: ( وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ) قال:أخذ ذاك الذي حاج إبراهيم في ربه نسرين صغيرين، فرباهما حتى استغلظا واستعلجا وشبا .

قال:فأوثق رِجْل كل واحد منهما بوتد إلى تابوت، وجوعهما، وقعد هو ورجل آخر في التابوت قال:- ورفع في التابوت عصا على رأسه اللحم - قال:فطارا [ قال ] وجعل يقول لصاحبه:انظر، ما ترى؟ قال:أرى كذا وكذا، حتى قال:أرى الدنيا كلها كأنها ذباب. قال:فقال:صوب العصا، فصوبها، فهبطا. قال:فهو قول الله، عز وجل: ( وإن كاد مكرهم لتزول منه الجبال ) . قال أبو إسحاق:وكذلك هي في قراءة عبد الله: « وإن كاد مكرهم » .

قلت:وكذا رُوي عن أبي بن كعب، وعمر بن الخطاب، رضي الله عنهما، أنهما قرآ: « وإن كاد » ، كما قرأ علي. وكذا رواه سفيان الثوري، وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن أذنان عن علي، فذكر نحوه.

وكذا رُوي عن عكرمة أن سياق هذه القصة لنمرود ملك كنعان:أنه رام أسباب السماء بهذه الحيلة والمكر، كما رام ذلك بعده فرعون ملك القبط في بناء الصرح، فعجزا وضعفا. وهما أقل وأحقر، وأصغر وأدحر.

وذكر مجاهد هذه القصة عن بختنصر، وأنه لما انقطع بصره عن الأرض وأهلها، نودي أيها الطاغية:أين تريد؟ فَفَرق، ثم سمع الصوت فوقه فصوب الرماح، فصَوبت النسور، ففزعت الجبال من هدتها، وكادت الجبال أن تزول من حس ذلك، فذلك قوله: ( وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ )

ونقل ابن جُريج عن مجاهد أنه قرأها: « لَتَزُولُ منه الجبال » ، بفتح اللام الأولى، وضم الثانية.

وروى العوفي عن ابن عباس في قوله: ( وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ) يقول:ما كان مكرهم لتزول منه الجبال. وكذا قال الحسن البصري، ووجهه ابن جرير بأن هذا الذي فعلوه بأنفسهم من كفرهم بالله وشركهم به، ما ضر ذلك شيئا من الجبال ولا غيرها، وإنما عاد وبال ذلك على أنفسهم.

قلت:ويشبه هذا إذا قوله تعالى: وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا [ الإسراء:37 ] .

والقول الثاني في تفسيرها:ما رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ) يقول شركهم، كقوله: تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا [ مريم:90 - 91 ] ، وهكذا قال الضحاك وقتادة.

فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ( 47 ) يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ( 48 )

يقول تعالى مقررًا لوعده ومؤكدًا: ( فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ) أي:من نصرتهم في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.

ثم أخبر أنه ذو عزة لا يمتنع عليه شيء أراده، ولا يغالب، وذو انتقام ممن كفر به وجحده ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) [ الطور:11 ] ؛ ولهذا قال: ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ) أي:وعده هذا حاصل يوم تبدل الأرض غير الأرض، وهي هذه على غير الصفة المألوفة المعروفة، كما جاء في الصحيحين، من حديث أبي حازم، عن سهل بن سعد قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء، كقرصة النقي، ليس فيها معلم لأحد » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن أبي عدي، عن داود، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة أنها قالت:أنا أول الناس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) قالت:قلت:أين الناس يومئذ يا رسول الله؟ قال: « على الصراط » .

رواه مسلم منفردًا به دون البخاري، والترمذي، وابن ماجه، من حديث داود بن أبي هند، به وقال الترمذي:حسن صحيح.

ورواه أحمد أيضا، عن عفان، عن وهيب عن داود، عن الشعبي، عنها ولم يذكر مسروقًا .

وقال قتادة، عن حسان بن بلال المزني، عن عائشة، رضي الله عنها، أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله: ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ) قال:قالت يا رسول الله، فأين الناس يومئذ؟ قال: « لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد من أمتي، ذاك أن الناس على جسر جهنم » .

وروى الإمام أحمد، من حديث حبيب بن أبي عمرة، عن مجاهد، عن ابن عباس، حدثتني عائشة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن قوله تعالى: وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [ الزمر:67 ] ، فأين الناس يومئذ يا رسول الله؟ قال: « هم على متن جهنم » .

وقال ابن جرير:حدثنا الحسن، حدثنا علي بن الجعد، أخبرني القاسم، سمعت الحسن قال:قالت عائشة:يا رسول الله، ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ ) فأين الناس يومئذ؟ قال: « إن هذا شيء ما سألني عنه أحد » ، قال: « على الصراط يا عائشة » .

ورواه أحمد، عن عفان عن القاسم بن الفضل، عن الحسن، به .

وقال الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه:حدثني الحسن بن علي الحلواني، حدثنا أبو تَوْبة الربيع بن نافع، حدثنا معاوية بن سلام، عن زيد - يعني:أخاه - أنه سمع أبا سلام، حدثني أبو أسماء الرَّحَبِي؛ أن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثه قال:كنت قائما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه حَبر من أحبار اليهود، فقال:السلام عليك يا محمد. فدفعته دفعة كاد يُصرَع منها، فقال:لم تدفعني؟ فقلت:ألا تقول:يا رسول الله؟! فقال اليهودي:إنما ندعوه باسمه الذي سَمّاه به أهله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي » . فقال اليهودي:جئت أسألك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أينفعك شيء إن حدثتك ؟ » فقال:أسمع بأذني. فنكت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود معه، فقال: « سل » . فقال اليهودي:أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « هم في الظلمة دون الجسر » قال:فمن أول الناس إجازة؟ قال:فقال: « [ فقراء ] المهاجرين » . قال اليهودي:فما تُحْفَتهُم حين يدخلون الجنة؟ قال: « زيادة كبد النون » قال:فما غذاؤهم في أثرها؟ قال: « ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها » . قال:فما شرابهم عليه؟ قال: « من عين فيها تسمى سلسبيلا » . قال:صدقت. قال:وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان؟ قال: « أينفعك إن حدثتك؟ » قال:أسمع بأذني. قال:جئت أسألك عن الولد. قال: « ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فَعَلا منيُّ الرجل منيَّ المرأة أذكرا بإذن الله - تعالى - وإذا علا مني المرأة مني الرجل أنَّثا بإذن الله » قال اليهودي:لقد صدقت، وإنك لنبي. ثم انصرف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لقد سألني هذا عن الذي سألني عنه، وما لي علم بشيء منه، حتى أتاني الله به » .

[ و ] قال أبو جعفر بن جرير الطبري:حدثني ابن عوف، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا سعيد بن ثوبان الكَلاعي، عن أبي أيوب الأنصاري، قال:أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم حَبْر من اليهود فقال:أرأيت إذ يقول الله في كتابه: ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ) فأين الخَلْق عند ذلك؟ فقال: « أضياف الله، فلن يعجزهم ما لديه » .

ورواه ابن أبي حاتم، من حديث أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم، به.

وقال شعبة:أخبرنا أبو إسحاق، سمعت عمرو بن ميمون - وربما قال:قال عبد الله، وربما لم يقل - فقلت له:عن عبد الله؟ فقال:سمعت عمرو بن ميمون يقول: ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ ) قال:أرض كالفضة البيضاء نقية، لم يسفك فيها دم، ولم يعمل عليها خطيئة، ينفذهم البصر، ويسمعهم الداعي، حفاةً عراة كما خلقوا. قال:أراه قال:قياما حتى يُلجِمَهم العرق .

وروي من وجه آخر عن شعبة عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن ابن مسعود، بنحوه. وكذا رواه عاصم، عن زرّ، عن ابن مسعود، به.

وقال سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، لم يخبر به. أورد ذلك كله ابن جرير .

وقد قال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا محمد بن عبد الله بن عُبَيد بن عَقِيل، حدثنا سهل بن حماد أبو عتاب، حدثنا جرير بن أيوب، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله، عز وجل: ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ ) قال: « أرض بيضاء لم يسقط عليها دم ولم يعمل عليها خطيئة » . ثم قال:لا نعلم رفعه إلا جرير بن أيوب، وليس بالقوي .

ثم قال ابن جرير:حدثنا أبو كريب، حدثا معاوية بن هشام، عن سنان عن جابر الجُعْفي، عن أبي جُبَيرة عن زيد قال:أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهود فقال: « هل تدرون لم أرسلت إليهم؟ » قالوا:الله ورسوله أعلم. قال: « أرسلت إليهم أسألهم عن قول الله: ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ ) إنها تكون يومئذ بيضاء مثل الفضة » . فلما جاءوا سألهم فقالوا:تكون بيضاء مثل النَّقِي .

وهكذا رَوى عن علي، وابن عباس، وأنس بن مالك، ومجاهد بن جبير:أنها تبدل يوم القيامة بأرض من فضة.

وعن علي، رضي الله عنه، أنه قال:تصير الأرض فضة، والسموات ذهبا.

وقال الربيع:عن أبي العالية، عن أبي بن كعب قال:تصير السموات جنانا.

وقال أبو مِعْشر، عن محمد بن كعب القرظي، أو عن محمد بن قيس في قوله: ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ ) قال: [ تبدل ] خبزة يأكل منها المؤمنون من تحت أقدامهم .

وكذا رَوَى وَكِيع، عن عمر بن بشير الهمداني، عن سعيد بن جبير في قوله: ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ ) قال:تبدل خبزة بيضاء، يأكل المؤمن من تحت قدميه.

وقال الأعمش، عن خَيْثَمة قال:قال عبد الله - هو ابن مسعود- :الأرض كلها يوم القيامة نار، والجنة من ورائها ترى كواعبها وأكوابها، ويُلجِمُ الناس العرقُ، أو يبلغ منهم العرق، ولم يبلغوا الحساب.

وقال الأعمش أيضًا، عن المِنْهَال بن عمرو، عن قيس بن السكن قال:قال عبد الله:الأرض كلها نار يوم القيامة، [ و ] الجنة من ورائها، ترى أكوابها وكواعبها، والذي نفس عبد الله بيده، إن الرجل ليفيض عرقا حتى ترسخ في الأرض قدمه، ثم يرتفع حتى يبلغ أنفه، وما مسه الحساب. قالوا مم ذاك يا أبا عبد الرحمن؟ قال:مما يرى الناس يلقون .

وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن كعب في قوله: ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ) قال:تصير السموات جنانا، ويصير مكان البحر نارًا، وتبدل الأرض غيرها.

وفي الحديث الذي رواه أبو داود: « لا يركب البحر إلا غاز أو حاج أو معتمر، فإن تحت البحر نارا - أو:تحت النار بحرا » .

وفي حديث الصور المشهور المروي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « تبدل الأرض غير الأرض والسموات، فيبسطها ويمدها مد الأديم العكاظي، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، ثم يزجر الله الخلق زجرة، فإذا هم في هذه المبدلة » .

وقوله: ( وَبَرَزُوا لِلَّهِ ) أي:خرجت الخلائق جميعها من قبورهم لله ( الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) أي:الذي قهر كل شيء وغلبه، ودانت له الرقاب، وخضعت له الألباب.

وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ ( 49 ) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ ( 50 ) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( 51 )

يقول تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وتبرز الخلائق لديَّانها، ترى يا محمد يومئذ المجرمين، وهم الذين أجرموا بكفرهم وفسادهم، ( مقرنين ) أي:بعضهم إلى بعض، قد جمع بين النظراء أو الأشكال منهم، كل صنف إلى صنف، كما قال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ [ الصافات:22 ] ، وقال: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ [ التكوير:7 ] ، وقال: وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا [ الفرقان:13 ] ، وقال: وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ [ ص:37، 38 ] .

والأصفاد:هي القيود، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، والأعمش، وعبد الرحمن بن زيد. وهو مشهور في اللغة، قال عمرو بن كلثوم.

فَـــآبُوا بالثياب وبالسّبايا وأُبْنَـا بــالمُلُوك مُصَفّدينا

وقوله: ( سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ ) أي:ثيابهم التي يلبسونها عليهم من قطران، وهو الذي تُهنأ به الإبل، أي:تطلى، قاله قتادة. وهو ألصق شيء بالنار.

ويقال فيه: « قَطِران » ، بفتح القاف وكسر الطاء، وبفتح القاف وتسكين الطاء، وبكسر القاف وتسكين الطاء، ومنه قول أبي النجم.

كـــأنّ قِطْرانًـــا إذَا تَلاهَـــا تَـــرْمي به الـرّيح إلى مَجْراها

وكان ابن عباس يقول:القَطران هو:النحاس المذاب، وربما قرأها: « سَرَابيلهم من قَطِران » أي:من نحاس حار قد انتهى حره. وكذا روي عن مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جُبَير، والحسن، وقتادة.

وقوله: ( وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ ) كقوله: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [ المؤمنون:104 ] .

وقال الإمام أحمد، رحمه الله:حدثنا يحيى بن إسحاق، أنبأنا أبان بن يزيد، عن يحيى بن أبي كثير، عن زيد، عن أبي سلام، عن أبي مالك الأشعري قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أربع من أمر الجاهلية لا يُتْرَكن الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة، والنائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرْع من جَرَب » . انفرد بإخراجه مسلم .

وفي حديث القاسم، عن أبي أمامة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « النائحة إذا لم تتب، توقف في طريق بين الجنة والنار، وسرابيلها من قطران، وتغشى وجهها النار » .

وقوله: ( لِيَجْزِيَ اللَّهُ ) أي:يوم القيامة، كما قال: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [ النجم:31 ] .

( إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) يحتمل أن يكون كقوله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ويحتمل أنه في حال محاسبته لعبده سريع النَّجاز؛ لأنه يعلم كل شيء، ولا يخفى عليه خافية، وإن جميع الخلق بالنسبة إلى قدرته كالواحد منهم، كقوله تعالى: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [ لقمان:28 ] ، وهذا معنى قول مجاهد: ( سَرِيعُ الْحِسَابِ ) [ إحصاء ] .

ويحتمل أن يكون المعنيان مرادين، والله أعلم.

هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ ( 52 )

يقول تعالى:هذا القرآن بلاغ للناس، كقوله: لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [ الأنعام:19 ] ، أي:هو بلاغ لجميع الخلق من إنس وجان، كما قال في أول السورة: الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ( وَلِيُنْذَرُوا بِهِ ) أي:ليتعظوا به، ( وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) أي:يستدلوا بما فيه من الحجج والدلالات على أنه لا إله إلا هو ( وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الألْبَابِ ) أي:ذوو العقول.