الجزء 22

 

وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ( 31 )

ثم ذكر عدله وفضله في قوله: ( وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ) أي:يطع الله ورسوله ويستجب ( نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ) أي:في الجنة، فإنهن في منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أعلى عليين، فوق منازل جميع الخلائق، في الوسيلة التي هي أقرب منازل الجنة إلى العرش.

يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا ( 32 ) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ( 33 ) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ( 34 ) .

هذه آداب أمر الله تعالى بها نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ونساء الأمة تبع لهن في ذلك، فقال مخاطبا لنساء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بأنهن إذا اتقين الله كما أمرهن، فإنه لا يشبههن أحد من النساء، ولا يلحقهن في الفضيلة والمنـزلة، ثم قال: ( فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ) .

قال السُّدِّي وغيره:يعني بذلك:ترقيق الكلام إذا خاطبن الرجال؛ ولهذا قال: ( فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) أي:دَغَل، ( وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا ) :قال ابن زيد:قولا حسنًا جميلا معروفًا في الخير.

ومعنى هذا:أنها تخاطب الأجانب بكلام ليس فيه ترخيم، أي:لا تخاطب المرأة الأجانب كما تخاطب زوجها.

وقوله: ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ) أي:الزمن بيوتكن فلا تخرجن لغير حاجة. ومن الحوائج الشرعية الصلاة في المسجد بشرطه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرجن وهن تَفِلات » وفي رواية: « وبيوتهن خير لهن »

وقال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا حميد بن مَسْعَدة حدثنا أبو رجاء الكلبي، روح بن المسيب ثقة، حدثنا ثابت البناني عن أنس، رضي الله عنه، قال:جئن النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن:يا رسول الله، ذهب الرجال بالفضل والجهاد في سبيل الله تعالى، فما لنا عمل ندرك به عمل المجاهدين في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من قعد - أو كلمة نحوها - منكن في بيتها فإنها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله » .

ثم قال:لا نعلم رواه عن ثابت إلا روح بن المسيب، وهو رجل من أهل البصرة مشهور .

وقال البزار أيضا:حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عمرو بن عاصم، حدثنا همام، عن قتادة، عن مُوَرِّق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون بروْحَة ربها وهي في قَعْر بيتها » .

ورواه الترمذي، عن بُنْدَار، عن عمرو بن عاصم، به نحوه

وروى البزار بإسناده المتقدم، وأبو داود أيضا، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « صلاة المرأة في مَخْدعِها أفضل من صلاتها في بيتها، وصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها » وهذا إسناد جيد. وقوله تعالى: ( وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى ) قال مجاهد:كانت المرأة تخرج تمشي بين يدي الرجال، فذلك تبرج الجاهلية.

وقال قتادة: ( وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى ) يقول:إذا خرجتن من بيوتكن - وكانت لهن مشية وتكسر وتغنُّج - فنهى الله عن ذلك.

وقال مقاتل بن حيان: ( وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى ) والتبرج:أنها تلقي الخمار على رأسها، ولا تشده فيواري قلائدها وقرطها وعنقها، ويبدو ذلك كله منها، وذلك التبرج، ثم عمت نساء المؤمنين في التبرج. وقال ابن جرير:حدثني ابن زهير، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا داود - يعني ابن أبي الفرات - حدثنا علي بن أحمر، عن عِكْرِمة عن ابن عباس قال:تلا هذه الآية: ( وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى ) . قال:كانت فيما بين نوح وإدريس، وكانت ألف سنة، وإن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل، والآخر يسكن الجبل. وكان رجال الجبل صباحا وفي النساء دَمَامة. وكان نساء السهل صباحا وفي الرجال دمامة، وإن إبليس أتى رجلا من أهل السهل في صورة غلام، فآجر نفسه منه، فكان يخدمه واتخذ إبليس شيئًا مثل الذي يُزَمّر فيه الرِّعاء، فجاء فيه بصوت لم يسمَع الناس مثله، فبلغ ذلك من حوله، فانتابوهم يسمعون إليه، واتخذوا عيدا يجتمعون إليه في السنة، فيتبرَّجُ النساء للرجال. قال:ويتزيَّن الرجال لهن، وإن رجلا من أهل الجبل هَجَم عليهم في عيدهم ذلك، فرأى النساء وصَبَاحتهن، فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك، فتحولوا إليهن، فنـزلوا معهن وظهرت الفاحشة فيهن، فهو قوله تعالى: ( وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى ) .

وقوله: ( وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) ، نهاهن أولا عن الشر ثم أمرهن بالخير، من إقامة الصلاة - وهي:عبادة الله، وحده لا شريك له - وإيتاء الزكاة، وهي:الإحسان إلى المخلوقين، ( وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) ، وهذا من باب عطف العام على الخاص. وقوله: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) :وهذا نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت هاهنا؛ لأنهن سبب نـزول هذه الآية، وسبب النـزول داخل فيه قولا واحدا، إما وحده على قول أو مع غيره على الصحيح.

وروى ابن جرير:عن عِكْرِمة أنه كان ينادي في السوق: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ، نـزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وهكذا روى ابن أبي حاتم قال:

حدثنا علي بن حرب الموصلي، حدثنا زيد بن الْحُبَاب، حدثنا حسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) قال:نـزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة.

وقال عكرمة:من شاء باهلته أنها نـزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.

فإن كان المراد أنهن كُنّ سبب النـزول دون غيرهن فصحيح، وإن أريد أنهن المراد فقط دون غيرهن، ففي هذا نظر؛ فإنه قد وردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك:

الحديث الأول:قال الإمام أحمد:حدثنا عفان، حدثنا حماد، أخبرنا علي بن زيد ، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال:إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول: « الصلاة يا أهل البيت، ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) . »

ورواه الترمذي، عن عبد بن حميد، عن عفان به. وقال:حسن غريب .

حديث آخر:قال ابن جرير:حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا أبو نعيم، حدثنا يونس بن أبي إسحاق، أخبرني أبو داود، عن أبي الحمراء قال:رابطت المدينة سبعة أشهر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، [ قال:رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ] إذا طلع الفجر، جاء إلى باب علي وفاطمة فقال: « الصلاة الصلاة ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) . »

أبو داود الأعمى هو:نفيع بن الحارث، كذاب.

حديث آخر:وقال الإمام أحمد أيضا:حدثنا محمد بن مصعب، حدثنا الأوزاعي، حدثنا شداد أبو عمار قال:دخلت على واثلة بن الأسقع وعنده قوم، فذكروا عليًّا، رضي الله عنه، فلما قاموا قال لي:ألا أخبرك بما رأيت من رسول الله الله عليه وسلم؟ قلت:بلى. قال:أتيت فاطمة أسألها عن علي فقالت:تَوَجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلست أنتظره حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه علي وحسن وحسين، آخذ كل واحد منهما بيده حتى دخل، فأدنى عليًّا وفاطمة وأجلسهما بين يديه، وأجلس حسنًا وحسينًا كل واحد منهما على فخذه، ثم لفَّ عليهم ثوبه - أو قال:كساءه - ثم تلا هذه الآية: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ، اللهم هؤلاء أهل بيتي، وأهل بيتي أحق « ، وقد رواه أبو جعفر بن جرير عن عبد الكريم بن أبي عمير ، عن الوليد بن مسلم، عن أبي عمرو الأوزاعي بسنده نحوه - زاد في آخره:قال واثلة:فقلت:وأنا يا رسول الله- صلى الله عليك - من أهلك؟ قال: » وأنت من أهلي « قال واثلة:إنها من أرجى ما أرتجي .»

ثم رواه أيضا عن عبد الأعلى بن واصل، عن الفضل بن دُكَيْن، عن عبد السلام بن حرب، عن كلثوم المحاربي، عن شداد أبي عمار قال:إني لجالس عند واثلة بن الأسقع إذ ذكروا عليا فشتموه، فلما قاموا قال:اجلس حتى أخبرك عن الذي شتموه، إني عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء علي وفاطمة وحسن وحسين فألقى صلى الله عليه وسلم عليهم كساء له، ثم قال: « اللهم هؤلاء أهل بيتي، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا » . قلت:يا رسول الله، وأنا؟ قال: « وأنت » قال:فوالله إنها لأوثق عملي عندي .

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء بن أبي رباح، حدثني من سمع أم سلمة تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بيتها، فأتته فاطمة، رضي الله عنها، ببرمة فيها خَزيرة، فدخلت بها عليه فقال لها: « ادعي زوجك وابنيك » . قالت:فجاء علي وحسن وحسين فدخلوا عليه، فجلسوا يأكلون من تلك الخزيرة، وهو على منامةٍ له على دكان تحته كساء خيبري، قالت:وأنا في الحجرة أصلي، فأنـزل الله، عز وجل، هذه الآية: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) . قالت:فأخذ فضل الكساء فغطاهم به، ثم أخرج يده فألوى بها إلى السماء، ثم قال: « اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا » ، قالت:فأدخلت رأسي البيت، فقلت:وأنا معكم يا رسول الله؟ فقال: « إنك إلى خير، إنك إلى خير » .

في إسناده من لم يسم ، وهو شيخ عطاء، وبقية رجاله ثقات.

طريق أخرى:قال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عوف، عن أبي المعدل ، عن عطية الطُّفَاوِيّ، عن أبيه؛ أن أم سلمة حدثته قالت :بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي يومًا إذ قال الخادم:إن فاطمة وعليا بالسدّة قالت:فقال لي: « قومي فَتَنَحي عن أهل بيتي » . قالت:فقمت فتنحيت في البيت قريبًا، فدخل علي وفاطمة، ومعهما الحسن والحسين، وهما صبيان صغيران، فأخذ الصبيين فوضعهما في حجره فقبَّلهما، واعتنق عليا بإحدى يديه وفاطمة باليد الأخرى، وقَبَّل فاطمة وقَبَّل عليا، وأغدق عليهم خَميصَة سوداء وقال: « اللهم، إليك لا إلى النار أنا وأهل بيتي » . قالت:فقلت:وأنا يا رسول الله؟ صلى الله عليك. قال: « وأنت » .

طريق أخرى:قال ابن جرير:حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا [ الحسن بن عطية، حدثنا ] فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد، عن أم سلمة؛ أن هذه الآية نـزلت في بيتها: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) قالت:وأنا جالسة على باب البيت فقلت:يا رسول الله، ألستُ من أهل البيت؟ فقال: « إنك إلى خير، أنت من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم » قالت:وفي البيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين، رضي الله عنهم .

طريق أخرى:رواه ابن جرير أيضا، عن أبي كُرَيْب، عن وَكِيع، عن عبد الحميد بن بَهْرَام، عن شَهْر بن حَوْشَب، عن أم سلمة بنحوه .

طريق أخرى:قال ابن جرير:حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا خالد بن مَخْلَد، حدثني موسى بن يعقوب، حدثني هاشم بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، عن عبد الله بن وهب بن زَمْعَة قال:أخبرتني أم سلمة، رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع فاطمة والحسن والحسين، ثم أدخلهم تحت ثوبه، ثم جأر إلى الله، عز وجل، ثم قال: « هؤلاء أهل بيتي » . قالت أم سلمة:فقلت:يا رسول الله، أدخلني معهم. فقال: « أنت من أهلي » .

طريق أخرى:رواه ابن جرير أيضا، عن أحمد بن محمد الطوسي، عن عبد الرحمن بن صالح، عن محمد بن سليمان الأصبهاني، عن يحيى بن عبيد المكي، عن عطاء،عن عمر بن أبي سلمة، عن أمه بنحو ذلك .

طريق أخرى:قال ابن جرير:حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا مصعب بن المقدام، حدثنا سعيد بن زربي، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن أم سلمة قالت:جاءت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببرمة لها قد صنعت فيها عَصيدَة تحملها على طبق، فوضعتها بين يديه فقال: « أين ابن عمك وابناك؟ » فقالت:في البيت. فقال: « ادعيهم » . فجاءت إلى علي فقالت:أجِبْ رسول الله أنت وابناك. قالت أم سلمة:فلما رآهم مقبلين مدَّ يده إلى كساء كان على المنامة، فمده وبسطه، وأجلسهم عليه، ثم أخذ بأطراف الكساء الأربعة بشماله، فضمه فوق رؤوسهم، وأومأ بيده اليمنى إلى ربه، عز وجل، فقال: « اللهم، هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا » .

طريق أخرى:قال ابن جرير:حدثنا ابن حميد، حدثنا عبد الله بن عبد القدوس، عن الأعمش، عن حكيم بن سعد قال:ذكرنا علي بن أبي طالب عند أم سلمة، فقالت:في بيتي نـزلت: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) . قالت أم سلمة:جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيتي فقال: « لا تأذني لأحد » . فجاءت فاطمة فلم أستطع أن أحجبها عن أبيها. ثم جاء الحسن فلم أستطع أن أحجبه عن أمه وجده، ثم جاء الحسين فلم أستطع أن أحجبه، ثم جاء علي فلم أستطع أن أحجبه، فاجتمعوا فَجَلّلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكساء كان عليه، ثم قال: « هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا » . فنـزلت هذه الآية حين اجتمعوا على البساط. قالت:فقلت:يا رسول الله، وأنا؟ قالت:فوالله ما أنعم، وقال: « إنك إلى خير » .

حديث آخر:قال ابن جرير، حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا محمد بن بشر عن زكريا، عن مصعب بن شيبة، عن صفية بنت شيبة قالت:قالت عائشة، رضي الله عنها:خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة، وعليه مِرْط مُرَحَّل من شَعْر أسود، فجاء الحسن فأدخله معه، ثم جاء الحسين فأدخله معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها معه، ثم جاء علي فأدخله معه، ثم قال: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) .

ورواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن محمد بن بشر ، به.

طريق أخرى:قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا سُرَيج بن يونس أبو الحارث، حدثنا محمد بن يزيد، عن العوام - يعني:ابن حَوْشَب - عن عمٍّ له قال:دخلت مع أبي على عائشة، فسألتها عن علي، رضي الله عنه، فقالت، رضي الله عنها:تسألني عن رجل كان من أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت تحته ابنته وأحب الناس إليه؟ لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليا وفاطمة وحسنا وحسينا، فألقى عليهم ثوبا فقال: « اللهم، هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا » . قالت:فدنوت منه فقلت:يا رسول الله، وأنا من أهل بيتك؟ فقال: « تَنَحّي، فإنك على خير » .

حديث آخر:قال ابن جرير حدثنا المثنى، حدثنا بكر بن يحيى بن زَبّان العَنـزيّ، حدثنا منْدَل، عن الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « نـزلت هذه الآية في خمسة:فيّ، وفي علي، وحسن، وحسين، وفاطمة: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) .»

قد تقدم أن فضيل بن مرزوق رواه عن عطية، عن أبي سعيد، عن أم سلمة، كما تقدم.

وروى ابن أبي حاتم من حديث هارون بن سعد العِجْلي، عن عطية، عن أبي سعيد موقوفا، فالله أعلم.

حديث آخر:قال ابن جرير:حدثنا ابن المثنى، حدثنا أبو بكر الحنفي، حدثنا بُكَيْر بن مسمار قال:سمعت عامر بن سعد قال:قال سعد:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نـزل عليه الوحي، فأخذ عليا وابنيه وفاطمة فأدخلهم تحت ثوبه، ثم قال: « رب، هؤلاء أهلي وأهل بيتي »

حديث آخر:وقال مسلم في صحيحه:حدثني زُهَير بن حرب، وشُجاع بن مَخْلَد جميعا، عن ابن عُلَيَّة - قال زهير:حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثني أبو حَيَّان، حدثني يزيد بن حَيَّان قال:انطلقت أنا وحُصَين بن سَبْرَةَ وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم، فلما جلسنا إليه قال له حصين:لقد لقيتَ يا زيدُ خيرًا كثيرًا [ رأيتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعتَ حديثه، وغزوتَ معه، وصليتَ خلفه، لقد لقيت يا زيد خيرًا كثيرًا ] ؛ حَدّثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال:يا بن أخي، والله لقد كَبرَت سِنِّي، وقدم عهدي، ونسيتُ بعض الذي كنتُ أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما حَدّثتكُم فاقبلوا، وما لا فلا تُكَلّفونيه. ثم قال:قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطيبا بماء يدعى خُمًّا - بين مكة والمدينة - فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وَذَكّر، ثم قال: « أما بعد، ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين، وأولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به » . فَحَثّ على كتاب الله وَرَغَّب فيه، ثم قال: « وأهل بيتي، أذَكِّركم الله في أهل بيتي، أذكِّركم الله في أهل بيتي » ثلاثا. فقال له حصين:ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال:نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حُرِمَ الصّدَقة بعده. قال:ومَنْ هم؟ قال هم آل علي، وآل عَقِيل، وآل جعفر، وآل عباس. قال:كل هؤلاء حُرِمَ الصدقة؟ قال:نعم .

ثم رواه عن محمد بن بَكَّار بن الريَّان، عن حسان بن إبراهيم، عن سعيد بن مسروق، عن يزيد بن حَيَّان ، عن زيد بن أرقم، فذكر الحديث بنحو ما تقدم، وفيه:فقلنا له:مَنْ أهل بيته؟ نساؤه؟ قال:لا وايم الله، إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها. أهل بيته أصله وعَصبَته الذين حُرموا الصدقة بعده .

هكذا وقع في هذه الرواية، والأولى أولى، والأخذ بها أحرى. وهذه الثانية تحتمل أنه أراد تفسير الأهل المذكورين في الحديث الذي رواه، إنما المراد بهم آله الذين حُرموا الصدقة، أو أنه ليس المراد بالأهل الأزواج فقط، بل هم مع آله، وهذا الاحتمال أرجح؛ جمعا بينها وبين الرواية التي قبلها، وجمعا أيضا بين القرآن والأحاديث المتقدمة إن صحت، فإن في بعض أسانيدها نظرًا، والله أعلم. ثم الذي لا يشك فيه من تَدَبَّر القرآن أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم داخلات في قوله تعالى: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ، فإن سياق الكلام معهن؛ ولهذا قال تعالى بعد هذا كله: ( وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ ) أي:اعملن بما ينـزل الله على رسوله في بيوتكن من الكتاب والسنة. قاله قتادة وغير واحد، واذكرن هذه النعمة التي خصصتن بها من بين الناس، أن الوحي ينـزل في بيوتكن دون سائر الناس، وعائشة [ الصديقة ] بنت الصديق أَوْلاهُنَّ بهذه النعمة، وأحظاهن بهذه الغنيمة، وأخصهن من هذه الرحمة العميمة، فإنه لم ينـزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحيُ في فراش امرأة سواها، كما نص على ذلك صلوات الله وسلامه عليه . قال بعض العلماء، رحمه الله:لأنه لم يتزوج بكرا سواها، ولم ينم معها رجل في فراشها سواه، فناسب أن تخصص بهذه المزية، وأن تفرد بهذه الرتبة العلية. ولكن إذا كان أزواجه من أهل بيته، فقرابته أحق بهذه التسمية، كما تقدم في الحديث: « وأهل بيتي أحق » . وهذا يشبه ما ثبت في صحيح مسلم:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فقال: « هو مسجدي هذا » . فهذا من هذا القبيل؛ فإن الآية إنما نـزلت في مسجد قُباء، كما ورد في الأحاديث الأخر. ولكن إذا كان ذاك أسّسَ على التقوى من أول يوم، فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بِتَسمِيَته بذلك، والله أعلم.

وقد قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أبو الوليد، حدثنا أبو عَوَانة، عن حُصَين بن عبد الرحمن، عن أبي جميلة قال:إن الحسن بن علي استُخلفَ حين قُتِل علي، رضي الله عنهما قال:فبينما هو يصلي إذ وثب عليه رجل فطعنه بخنجر وزعم حصين أنه بلغه أن الذي طعنه رجل من بني أسد، وحسن ساجد قال:فيزعمون أن الطعنة وقعت في وركه، فمرض منها أشهرا، ثم بَرَأ فقعد على المنبر، فقال:يا أهل العراق، اتقوا الله فينا، فإنا أمراؤكم وضيفانكم، ونحن أهل البيت الذي قال الله: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) قال:فما زال يقولها حتى ما بقي أحد من أهل المسجد إلا وهو يَحِنّ بكاء.

وقال السُّدِّي، عن أبي الديلم قال:قال علي بن الحسين لرجل من أهل الشام:أما قرأت في الأحزاب: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ؟ قال:نعم، ولأنتم هم؟ قال:نعم.

وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ) أي:بلطفه بكن بلغتن هذه المنـزلة، وبخبرته بكن وأنكن أهل لذلك، أعطاكن ذلك وخصكن بذلك.

قال ابن جرير، رحمه الله:واذكرن نعمة الله عليكن بأن جعلكن في بيوت تتلى فيها آيات الله والحكمة، فاشكرن الله على ذلك واحمدنه.

( إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ) أي:ذا لطف بكن، إذ جعلكن في البيوت التي تتلى فيها آياته والحكمة. وهي السنة، خبيرًا بكنَّ إذ اختاركن لرسوله أزواجًا.

وقال قتادة: ( وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ ) قال:يمتنُّ عليهن بذلك. رواه ابن جرير.

وقال عطية العَوْفي في قوله: ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ) يعني:لطيف باستخراجها، خبير بموضعها. رواه ابن أبي حاتم، ثم قال:وكذا روى الربيع بن أنس، عن قتادة .

إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ( 35 ) .

قال الإمام أحمد:حدثنا عفان، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا عثمان بن حكيم، حدثنا عبد الرحمن بن شيبة، سمعت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول:قلت للنبي صلى الله عليه وسلم:ما لنا لا نُذْكَرُ في القرآن كما يذكر الرجال؟ قالت :فلم يَرعني منه ذات يوم إلا ونداؤه على المنبر، قالت، وأنا أسَرّح شعري، فلففت شعري، ثم خرجت إلى حُجْرة من حُجَر بيتي، فجعلت سمعي عند الجريد، فإذا هو يقول عند المنبر: « يا أيها الناس، إن الله يقول:إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات » إلى آخر الآية.

وهكذا رواه النسائي وابن جرير، من حديث عبد الواحد بن زياد، به مثله .

طريق أخرى عنها:قال النسائي أيضا:حدثنا محمد بن حاتم، حدثنا سُوَيْد، أخبرنا عبد الله بن شَريك، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أم سلمة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم:يا نبي الله، ما لي أسمع الرجال يذكرون في القرآن، والنساء لا يذكرن؟ فأنـزل الله ( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ) .

وقد رواه ابن جرير، عن أبي كُرَيْب، عن أبي معاوية، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة:أن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، حدثه عن أم سلمة، رضي الله عنها، قالت:قلت:يا رسول الله، أيذكر الرجال في كل شيء ولا نذكر؟ فأنـزل الله: ( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ) الآية

طريق أخرى:قال سفيان الثوري، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد قال:قالت أم سلمة:يا رسول الله، يذكر الرجال ولا نذكر؟ فأنـزل الله: ( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ) الآية .

حديث آخر:قال ابن جرير:حدثنا أبو كُرَيْب قال:حدثنا سَيَّار بن مظاهر العَنـزي حدثنا أبو كُدَيْنة يحيى بن المهلَّب، عن قابوس بن أبي ظِبْيَان، عن أبيه، عن ابن عباس قال:قال النساء للنبي صلى الله عليه وسلم:ما له يذكر المؤمنين ولا يذكر المؤمنات؟ فأنـزل الله: ( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ) الآية .

وحدثنا بشر حدثنا يزيد، حدثنا سعيد ؛ عن قتادة قال:دخل نساء على نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فقلن:قد ذَكَركُنّ الله في القرآن، ولم نُذكَر بشيء، أما فينا ما يذكر؟ فأنـزل الله عز وجل: ( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ) الآية .

فقوله: ( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ) دليل على أن الإيمان غير الإسلام، وهو أخص منه، لقوله تعالى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [ الحجرات:14 ] . وفي الصحيحين: « لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن » . فيسلبه الإيمان، ولا يلزم من ذلك كفره بإجماع المسلمين، فدل على أنه أخص منه كما قررناه في أول شرح البخاري.

[ وقوله ] : ( وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ ) القنوت:هو الطاعة في سكون، أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [ الزمر:9 ] ، وقال تعالى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ [ الروم:26 ] ، يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [ آل عمران:43 ] ، وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [ البقرة:238 ] . فالإسلام بعده مرتبة يرتقي إليها، ثم القنوت ناشئ عنهما.

( وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ ) :هذا في الأقوال، فإن الصدق خصلة محمودة؛ ولهذا كان بعض الصحابة لم تُجَرّب عليه كِذْبة لا في الجاهلية ولا في الإسلام ، وهو علامة على الإيمان، كما أن الكذب أمارة على النفاق، ومَنْ صدق نجا، « عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة. وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار. ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، ولا يزال الرجل يكذب ويتَحرَّى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا » . والأحاديث فيه كثيرة جدا.

( وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ ) :هذه سَجِيّة الأثبات، وهي الصبر على المصائب، والعلم بأن المقدور كائن لا محالة، وَتَلَقّي ذلك بالصبر والثبات، وإنما الصبر عند الصدمة الأولى، أي:أصعبه في أول وهلة، ثم ما بعده أسهل منه، وهو صدق السجية وثباتها.

( وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ ) الخشوع :السكون والطمأنينة، والتؤدة والوقار والتواضع. والحامل عليه الخوف من الله ومراقبته، [ كما في الحديث ] : « اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك » .

( وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ ) :الصدقة:هي الإحسان إلى الناس المحاويج الضعفاء، الذين لا كَسْبَ لهم ولا كاسب، يعطون من فضول الأموال طاعة لله، وإحسانا إلى خلقه، وقد ثبت في الصحيحين: « سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله » فذكر منهم: « ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه » . وفي الحديث الآخر: « والصدقة تطفئ الخطيئة، كما يطفئ الماء النار » .

[ وفي الترمذي عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: « إن الصدقة تطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء » .

وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه، فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر أشأم منه، فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه. فاتقوا النار ولو بشق تمرة » .

وفي حديث أبي ذر أنه قال:سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا ينجي العبد من النار؟ قال: « الإيمان بالله » . قلت:يا نبي الله، مع الإيمان عمل؟ قال: « ترضخ مما خوَّلك الله » ، أو « ترضخ مما رزقك الله » ؛ ولهذا لما خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد قال في خطبته: « يا معشر النساء تصدَّقْنَ ولو من حليكن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار » . وكأنه حثهن ورغبهن على ما يفدين به أنفسهن من النار، وقال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه:ذكر لي أن الأعمال تتباهى، فتقول الصدقة:أنا أفضلكم.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال:ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل البخيل والمتصدق، كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد، أو جنتان من حديد. قد اضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما، فجعل المتصدق، كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه، حتى تغشى أنامله، وتعفو أثره، وجعل البخيل كلما همَّ بصدقة قلصت، وأخذت كل حلقة مكانها. قال أبو هريرة:فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بإصبعه هكذا في جيبه. فلو رأيته يوسعها ولا يتسع. وقد قال تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [ التغابن:16 ] فجود الرجل يحببه إلى أضداده، وبخله يبغضه إلى أولاده. كما قيل:

وَيُظْهر عيـبَ المرء في الناس بخلـُه وتـسـتره عـنهـم جميعـا سـخاؤه

تَـغَـطَّ بـأثـواب السـخـاء فـإنني أرى كـل عيـب والسـخاء غطـاؤه ]

والأحاديث في الحث عليها كثيرة جدا، له موضع بذاته.

( وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ ) :في الحديث الذي رواه ابن ماجه: « والصوم زكاة البدن » أي:تزكيه وتطهره وتنقيه من الأخلاط الرديئة طبعا وشرعا.

قال سعيد بن جبير:من صام رمضان وثلاثة أيام من كل شهر، دخل في قوله: ( وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ ) .

ولما كان الصوم من أكبر العون على كسر الشهوة - كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا معشر الشباب، مَنْ استطاع منكم الباء فليتزوج، فإنه أغَضُّ للبصر، وأحْصَن للفرج، ومَنْ لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجَاء » - ناسب أن يذكر بعده: ( وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ ) أي:عن المحارم والمآثم إلا عن المباح، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [ المؤمنون:5- 7 ] .

وقوله: ( وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ ) قال ابن أبي حاتم:

حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عبيد الله، حدثنا محمد بن جابر، عن علي بن الأقمر، عن الأغَرِّ أبي مسلم ، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إذا أيقظ الرجل امرأته من الليل، فصليا ركعتين، كتبا تلك الليلة من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات » .

وقد رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، من حديث الأعمش، [ عن علي بن الأقمر ] ، عن الأغر أبي مسلم، عن أبي سعيد وأبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثله .

وقال الإمام أحمد:حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا دَرَّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخُدْري، رضي الله عنه، أنه قال:قلت:يا رسول الله، أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: « الذاكرون الله كثيرا والذاكرات » .

قال:قلت:يا رسول الله، ومن الغازي في سبيل الله؟ قال: « لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دما لكان الذاكرون الله أفضل منه » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا عفان، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:كان النبي صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة، فأتى على جُمْدان فقال: « هذا جُمْدان، سيروا فقد سبق المُفَرّدون » . قالوا:وما المُفَرّدون ؟ قال: « الذاكرون الله كثيرا » . ثم قال: « اللهم اغفر للمحلقين » . قالوا:والمقصرين؟ قال: « اللهم، اغفر للمحلقين » . قالوا:والمقصرين؟ قال: « والمقصرين » .

تفرد به من هذا الوجه، ورواه مسلم دون آخره .

وقال الإمام أحمد:حدثنا حُجَيْن بن المثنى، حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن زياد بن أبي زياد - مولى عبد الله بن عَيَّاش بن أبي ربيعة - أنه بلغه عن معاذ بن جبل، رضي الله عنه، أنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما عمل آدمي عملا قط أنجى له من عذاب الله من ذكر الله » . وقال معاذ:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من تعاطي الذهب والفضة، ومن أن تلقوا عدوكم غدا فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم » ؟ قالوا:بلى يا رسول الله. قال: « ذكر الله عز وجل » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا زَبَّان بن فائد، عن سهل بن معاذ بن أنس الجُهَنيّ، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:أن رجلا سأله فقال:أي المجاهدين أعظم أجرًا يا رسول الله؟ فقال: « أكثرهم لله ذكرًا » . قال:فأي الصائمين أكثر أجرًا؟ قال: « أكثرهم لله ذكرا » . ثم ذكر الصلاة والزكاة والحج والصدقة، كل ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أكثرهم لله ذكرا » . فقال أبو بكر لعمر، رضي الله عنهما:ذهب الذاكرون بكل خير. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أجل » .

وسنذكر بقية الأحاديث الواردة في كثرة الذكر عند قوله تعالى في هذه السورة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا الآية [ الأحزاب:41، 42 ] ، إن شاء الله تعالى.

وقوله: ( أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) أي:هيأ لهم منه لذنوبهم مغفرة وأجرا عظيما وهو الجنة.

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا ( 36 ) .

قال العوفي، عن ابن عباس:قوله: ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ ) الآية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق ليخطب على فتاه زيد بن حارثة، فدخل على زينب بنت جحش الأسدية فخطبها، فقالت:لست بناكحته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « بل فانكحيه » . قالت:يا رسول الله، أؤامر في نفسي. فبينما هما يتحدثان أنـزل الله هذه الآية على رسوله صلى الله عليه وسلم: ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا ) الآية، قالت:قد رضيته لي منكحا يا رسول الله؟ قال: « نعم » . قالت:إذًا لا أعصي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أنكحته نفسي .

وقال ابن لَهِيعة، عن ابن أبي عمرة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش لزيد بن حارثة، فاستنكفت منه، وقالت:أنا خير منه حسبا - وكانت امرأة فيها حدة - فأنـزل الله، عز وجل: ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ ) الآية كلها.

وهكذا قال مجاهد، وقتادة، ومقاتل بن حيان:أنها نـزلت في زينب بنت جحش [ الأسدية ] حين خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم على مولاه زيد بن حارثة، فامتنعت ثم أجابت.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، نـزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعَيْط، وكانت أول مَنْ هاجر من النساء - يعني:بعد صلح الحديبية - فوهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال:قد قبلت. فزوجها زيد بن حارثة - يعني والله أعلم بعد فراقه زينب - فسخطت هي وأخوها وقالا إنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوّجَنا عبده. قال:فنـزل القرآن: ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا ) إلى آخر الآية. قال:وجاء أمر أجمع من هذا: ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِم ) قال:فذاك خاص وهذا جماع.

وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن ثابت البُنَاني، عن أنس قال:خطب النبي صلى الله عليه وسلم على جُلَيْبيب امرأة من الأنصار إلى أبيها، فقال:حتى أستأمر أمها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:فنعم إذًا. قال:فانطلق الرجل إلى امرأته، [ فذكر ذلك لها ] ، فقالت:لاها الله ذا ، ما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جلَيبيبا، وقد منعناها من فلان وفلان؟ قال:والجارية في سترها تسمع. قال:فانطلق الرجل يريد أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. فقالت الجارية:أتريدون أن تَرُدّوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره؟ إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه. قال:فكأنها جَلَّت عن أبويها، وقالا صدقت. فذهب أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:إن كنت رضيته فقد رضيناه. قال: « فإني قد رضيته » . قال:فزوجها ، ثم فزع أهل المدينة، فركب جُلَيْبيب فوجدوه قد قتل، وحوله ناس من المشركين قد قتلهم، قال أنس:فلقد رأيتها [ وإنها ] لمن أنفق بيت بالمدينة .

وقال الإمام أحمد:حدثنا عفان، حدثنا حماد - يعني:ابن سلمة - عن ثابت، عن كنانة بن نعيم العدوي، عن أبي برزة الأسلمي أن جليبيبا كان امرأ يدخل على النساء يَمُرّ بهن ويلاعبهن، فقلت لامرأتي:لا يدخلن اليوم عليكم جُليبيبُ، فإنه إن دخل عليكم لأفعلن ولأفعلن. قال:وكانت الأنصار إذا كان لأحدهم أيّم لم يزوجها حتى يعلم:هل لنبي الله صلى الله عليه وسلم فيها حاجة أم لا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من الأنصار: « زوجني ابنتك » . قال:نعم، وكرامة يا رسول الله ، ونُعْمَة عين. فقال:إني لست أريدها لنفسي. قال:فلمن يا رسول الله؟ قال:لجليبيب. فقال:يا رسول الله، أشاور أمها. فأتى أمها فقال:رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ابنتك؟ فقالت:نعم ونُعمة عين. فقال:إنه ليس يخطبها لنفسه، إنما يخطبها لجليبيب. فقالت:أَجُلَيبيب إنيه ؟ أجليبيب إنيِه ؟ لا لعمر الله لا تزَوّجُه. فلما أراد أن يقوم ليأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبره بما قالت أمها، قالت الجارية:مَنْ خطبني إليكم؟ فأخبرتها أمها. قالت:أتردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره؟! ادفعوني إليه، فإنه لن يضيعني. فانطلق أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:شأنَك بها. فَزَوّجها جليبيبا. قال:فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة له، فلما أفاء الله عليه قال لأصحابه: « هل تفقدون من أحد » ؟ قالوا:نفقد فلانا ونفقد فلانا. قال: « انظروا هل تفقدون من أحد؟ » قالوا:لا. قال: « لكني أفقد جليبيبا » . قال: « فاطلبوه في القتلى » . فطلبوه فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه. [ قالوا:يا رسول الله، ها هو ذا إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه ] . فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام عليه، فقال:قتل سبعة [ وقتلوه ] ، هذا مني وأنا منه. مرتين أو ثلاثا، ثم وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ساعديه [ وحفر له، ما له سرير إلا ساعد النبي صلى الله عليه وسلم ] . ثم وضعه في قبره، ولم يذكر أنه غسله، رضي الله عنه. قال ثابت:فما كان في الأنصار أيّم أنفق منها. وحدث إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ثابتا:هل تعلم ما دعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: « اللهم، صب عليها [ الخير ] صبا، ولا تجعل عيشها كدا » كذا قال، فما كان في الأنصار أيم أنفق منها.

هكذا أورده الإمام أحمد بطوله ، وأخرج منه مسلم والنسائي في الفضائل قصة قتله . وذكر الحافظ أبو عمر بن عبد البر في « الاستيعاب » أن الجارية لما قالت في خدرها:أتردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره؟ تلت هذه الآية: ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) .

وقال ابن جُرَيْج [ أخبرني عامر بن مصعب، عن طاوس قال:إنه سأل ابن عباس عن ركعتين بعد العصر، فنهاه، وقرأ ابن عباس، رضي الله عنه : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) ] .

فهذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء، فليس لأحد مخالفته ولا اختيار لأحد هاهنا، ولا رأي ولا قول، كما قال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [ النساء:65 ] وفي الحديث: « والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به » . ولهذا شدد في خلاف ذلك، فقال: ( وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا ) ، كقوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [ النور:63 ] .

وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا ( 37 ) .

يقول تعالى مخبرا عن نبيه، صلوات الله وسلامه عليه، إنه قال لمولاه زيد بن حارثة وهو الذي أنعم الله عليه، أي:بالإسلام، ومتابعة الرسول، عليه أفضل الصلاة والسلام: ( وَأَنْعَمْتَ عَلَيْه ) أي:بالعتق من الرق، وكان سيدًا كبير الشأن جليل القدر، حبيبًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يقال له:الحِبّ، ويقال لابنه أسامة:الحِبّ ابن الحِبّ. قالت عائشة، رضي الله عنها:ما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية إلا أمره عليهم، ولو عاش بعده لاستخلفه. رواه أحمد عن سعيد بن محمد الوراق ومحمد بن عبيد، عن وائل بن داود، عن عبد الله البهي عنها .

وقال البزار:حدثنا خالد بن يوسف، حدثنا أبو عَوَانة ( ح ) ، وحدثنا محمد بن مَعْمَر، حدثنا أبو داود، حدثنا أبو عوانة، أخبرني عمران بن أبي سلمة ، عن أبيه:حدثني أسامة بن زيد قال:كنت في المسجد، فأتاني العباس وعلي بن أبي طالب، رضي الله عنهما، فقالا يا أسامة، استأذن لنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال:فأتيتُ رسولَ الله فأخبرته، فقلت:علي والعباس يستأذنان؟ فقال: « أتدري ما حاجتهما؟ » قلت:لا يا رسول الله. فقال: « لكني أدري » ، قال:فأذن لهما. قالا يا رسول الله، جئناك لتخبرنا:أيُّ أهلك أحبُّ إليك؟ فقال: « أحب أهلي إليَّ فاطمة بنت محمد » قالا يا رسول الله، ما نسألك عن فاطمة. قال: « فأسامة بن زيد بن حارثة، الذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه » .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد زَوّجه بابنة عمته زينب بنت جحش الأسدية - وأمها أميمة بنت عبد المطلب - وأصدقها عشرة دنانير، وستين درهما، وخِمارا، ومِلْحَفة، ودرْعًا، وخمسين مُدّا من طعام، وعشرة أمداد من تمر. قاله مقاتل بن حيان، فمكثت عنده قريبا من سنة أو فوقها، ثم وقع بينهما، فجاء زيد يشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل رسول الله يقول له: « أمسك عليك زوجك، واتق الله » . قال الله تعالى: ( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ) .

ذكر ابن جرير، وابن أبي حاتم هاهنا آثارًا عن بعض السلف، رضي الله عنهم، أحببنا أن نضرب عنها صفَحا لعدم صحتها فلا نوردها.

وقد روى الإمام أحمد هاهنا أيضا حديثًا، من رواية حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس فيه غرابة تركنا سياقه أيضا .

وقد روى البخاري أيضا بعضه مختصرا فقال:حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حدثنا مُعَلَّى بن منصور، عن حماد بن زيد، حدثنا ثابت، عن أنس بن مالك قال:إن هذه الآية: ( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ) نـزلت في شأن زينب بنت جحش، وزيد بن حارثة، رضي الله عنهما .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا علي بن هاشم بن مرزوق، حدثنا ابن عيينة، عن علي بن زيد بن جُدْعان قال:سألني علي بن الحسين ما يقول الحسن في قوله: ( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ [ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ] ) ؟ فذكرت له فقال:لا ولكن الله أعلم نبيه أنها ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها، فلما أتاه زيد ليشكوها إليه قال:اتق الله، وأمسك عليك زوجك. فقال:قد أخبرتك أني مُزَوّجكها، وتخفي في نفسك ما الله مبديه.

وهكذا رُوي عن السُّدِّي أنه قال نحو ذلك.

وقال ابن جرير:حدثني إسحاق بن شاهين، حدثني خالد، عن داود عن عامر، عن عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت:لو كتم محمد صلى الله عليه وسلم شيئًا مما أوحي إليه من كتاب الله، لكتم: ( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ) .

وقوله: ( فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا ) :الوطر:هو الحاجة والأرب، أي:لما فَرَغ منها، وفارقها، زَوّجناكها، وكان الذي وَلي تزويجها منه هو الله، عز وجل، بمعنى:أنه أوحى إليه أن يدخل عليها بلا ولي ولا مهر ولا عقد ولا شهود من البشر.

قال الإمام أحمد:حدثنا هاشم - يعني:ابن القاسم أبو النضر - حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس، رضي الله عنه، قال:لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة: « اذهب فاذكرها علي » . فانطلق حتى أتاها وهي تُخَمِّر عَجينها، قال:فلما رأيتها عظمت في صدري - حتى ما أستطيع أن أنظر إليها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها، فوليتها ظهري ونكصت على عقبي، وقلت:يا زينب، أبشري، أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك. قالت:ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي، عز وجل. فقامت إلى مسجدها، ونـزل القرآن، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن. ولقد رأيتنا حين دَخَلَتْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا عليها الخبز واللحم، فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم [ واتبعته ] فجعل يتتبع حُجر نسائه يسلم عليهن، ويقلن:يا رسول الله، كيف وجدت أهلك؟ فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا أو أخبر. قال:فانطلق حتى دخل البيت، فذهبت أدخل معه، فألقي الستر بيني وبينه، ونـزل الحجاب، ووعظ القوم بما وعظوا به: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ الآية.

ورواه مسلم والنسائي من طرق، عن سليمان بن المغيرة، به.

وقد روى البخاري، رحمه الله، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، أن زينب بنت جحش كانت تفخر على أزواجالنبي صلى الله عليه وسلم فتقول:زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سموات .

وقد قدمنا في « سورة النور » عن محمد بن عبد الله بن جحش قال:تفاخرت زينب وعائشة، فقالت زينب، رضي الله عنها :أنا التي نـزل تزويجي من السماء، وقالت عائشة:أنا التي نـزل عُذْري من السماء، فاعترفت لها زينب، رضي الله عنها.

وقال ابن جرير:حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن المغيرة، عن الشعبي قال:كانت زينب تقول للنبي صلى الله عليه وسلم إني لأدل عليك بثلاث، ما من نسائك امرأة تدل بهن:إن جدي وجدك واحد، وإني أنكحنيك الله من السماء، وإن السفير جبريل عليه السلام.

وقوله: ( لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ) أي:إنما أبحنا لك تزويجها وفعلنا ذلك؛ لئلا يبقى حرج على المؤمنين في تزويج مطلقات الأدعياء، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قبل النبوة قد تبنى زيد بن حارثة، فكان يقال له: « زيد بن محمد » ، فلما قطع الله هذه النسبةبقوله تعالى: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ ، ثم زاد ذلك بيانا وتأكيدا بوقوع تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش لما طلقها زيد بن حارثة؛ ولهذا قال في آية التحريم: وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ [ النساء:23 ] ليحترز من الابن الدَّعِي؛ فإن ذلك كان كثيرًا فيهم.

وقوله: ( وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا ) أي:وكان هذا الأمر الذي وقع قد قدره الله تعالى وحَتَّمه، وهو كائن لا محالة، كانت زينب في علم الله ستصير من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.

مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ( 38 ) .

يقول تعالى: ( مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ ) أي:فيما أحل له وأمره به من تزويج زينب التي طلقها دَعِيُّه زيد بن حارثة.

وقوله: ( سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ) أي:هذا حكم الله في الأنبياء قبله، لم يكن ليأمرهم بشيء وعليهم في ذلك حَرج، وهذا رَدٌّ على مَنْ تَوَهَّم مِن المنافقين نقصًا في تزويجه امرأة زيد مولاه ودَعيه، الذي كان قد تبناه.

( وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ) أي:وكان أمره الذي يقدِّره كائنًا لا محالة، وواقعًا لا محيد عنه ولا معدل، فما شاء [ الله ] كان، وما لم يشأ لم يكن.

الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ( 39 ) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ( 40 ) .

يمدح تعالى: ( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ ) أي:إلى خلقه ويؤدونها بأمانتها ( وَيَخْشَوْنَهُ ) أي:يخافونه ولا يخافون أحدًا سواه فلا تمنعهم سطوة أحد عنإبلاغ رسالات الله، ( وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ) أي:وكفى بالله ناصرًا ومعينًا. وسيد الناس في هذا المقام - بل وفي كل مقام - محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه قام بأداء الرسالة وإبلاغها إلى أهل المشارق والمغارب، إلى جميع أنواع بني آدم، وأظهر الله كلمته ودينه وشرعه على جميع الأديان والشرائع، فإنه قد كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وأما هو، صلوات الله عليه، فإنه بُعث إلى جميع الخلق عَرَبهم وعجمهم، قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [ الأعراف:158 ] ، ثم ورث مقام البلاغ عنه أمته من بعده، فكان أعلى مَنْ قام بها بعده أصحابه، رضي الله عنهم، بلغوا عنه كما أمرهم به في جميع أقواله وأفعاله وأحواله، في ليله ونهاره، وحَضَره وسفره، وسره وعلانيته، فرضي الله عنهم وأرضاهم. ثم ورثه كل خلف عن سلفهم إلى زماننا هذا، فبنورهم يقتدي المهتدون، وعلى منهجهم يسلك الموفقون. فنسأل الله الكريم المنان أن يجعلنا من خلفهم.

قال الإمام أحمد:حدثنا ابن نُمَيْر، أخبرنا الأعمش، عن عمرو بن مُرَّة، عن أبي البَخْتَري، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمر الله فيه مقال ثم لا يقوله، فيقول الله:ما يمنعك أن تقول فيه؟ فيقول:رب، خشيت الناس. فيقول:فأنا أحق أن يخشى » .

ورواه أيضا عن عبد الرزاق، عن الثوري، عن زبيد، عن عمرو بن مرة .

ورواه ابن ماجه، عن أبي كُرَيْب، عن عبد الله بن نمير وأبي معاوية، كلاهما عن الأعمش، به .

وقوله: ( مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ ) ، نهى [ تعالى ] أن يقال بعد هذا: « زيد بن محمد » أي:لم يكن أباه وإن كان قد تبناه، فإنه، صلوات الله عليه وسلامه، لم يعش له ولد ذكر حتى بلغ الحلم؛ فإنه ولد له القاسم، والطيب، والطاهر،من خديجة فماتوا صغارا، وولد له إبراهيم من مارية القبطية، فمات أيضا رضيعا ، وكان له من خديجة أربع بنات:زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، رضي الله عنهم أجمعين، فمات في حياته ثلاث وتأخرت فاطمة حتى أصيبت به، صلوات الله وسلامه عليه، ثم ماتت بعده لستة أشهر.

وقوله: ( وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) كقوله: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [ الأنعام:124 ] فهذه الآية نص في أنه لا نبي بعده، وإذا كان لا نبي بعده فلا رسول [ بعده ] بطريق الأولى والأحرى؛ لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة، فإن كل رسول نبي، ولا ينعكس. وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث جماعة من الصحابة.

قال الإمام أحمد:حدثنا أبو عامر الأزدي، حدثنا زُهَيْر بن محمد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الطفيل بن أبيّ بن كعب ، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « مثلي في النبيين كمثل رجل بنى دارًا فأحسنها وأكملها، وترك فيها موضع لَبنة لم يَضَعها، فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه، ويقولون:لو تمَّ موضع هذه اللبنة؟ فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة » .

ورواه الترمذي، عن بُنْدَار، عن أبي عامر العقدي، به ، وقال:حسن صحيح.

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا عفان، حدثنا عبد الواحد بنزياد، حدثنا المختار بن فُلفُل، حدثنا أنس بن مالك قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الرسالة والنبوة قد انقطعت، فلا رسول بعدي ولا نبي. » قال:فشَقّ ذلك على الناس قال:قال :ولكن المبشرات « . قالوا:يا رسول الله، وما المبشرات؟ قال: » رؤيا الرجل المسلم، وهي جزء من أجزاء النبوة « . »

وهكذا روى الترمذي عن الحسن بن محمد الزعفراني،عن عفان بن مسلم، به وقال:صحيح غريب من حديث المختاربن فُلفُل.

حديث آخر:قال أبو داود الطيالسي:حدثنا سَليم بن حَيَّان، عن سعيد بن ميناء، عن جابر بن عبد الله قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى دارًا فأكملها وأحسنها إلا موضع لَبنة، فكان مَنْ دخلها فنظر إليها قال:ما أحسنها إلا موضع هذه اللبنة! فأنا موضع اللبنة، ختم بي الأنبياء، عليهم السلام » .

ورواه البخاري، ومسلم، والترمذي من طرق، عن سليم بن حيان، به. وقال الترمذي:صحيح غريب من هذا الوجه.

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:مثلي ومثل النبيين [ من قبلي ] كمثل رجل بنى دارا فأتمها إلا لَبنَة واحدة، فجئت أنافأتممت تلك اللبنة « . انفرد بإخراجه مسلم من روايةالأعمش، به . »

حديث آخر:قال [ الإمام ] أحمد:حدثنا يونس بن محمد، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا عثمان بنعُبَيد الراسبي قال:سمعت أبا الطفيل قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا نبوة بعدي إلا المبشرات » . قال:قيل:وما المبشرات يا رسول الله؟ قال: « الرؤيا الحسنة - أو قال - الرؤيا الصالحة. »

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن هَمَّام بن مُنَبِّه قال:هذا ما حدثنا أبو هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى بيوتا فأحسنها وأكملها وأجملها، إلا موضع لَبنة من زاوية منزواياها، فجعل الناس يطوفون ويعجبهم البنيان ويقولون:ألا وَضَعْتَ هاهنا لبنة فيتم بنيانك؟! » قالرسول الله صلى الله عليه وسلم: « فكنت أنا اللبنة » .

أخرجاه من حديث عبد الرزاق.

حديث آخر:عن أبي هريرة أيضا:قال الإمام مسلم:حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وعلي بن حجر قالوا:حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « فُضلت على الأنبياء بست:أعْطِيتُ جوامع الكلم، ونُصِرْتُ بالرعب، وأحِلَّت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون » .

ورواه الترمذي وابن ماجه، من حديث إسماعيل بن جعفر، وقال الترمذي:حسن صحيح.

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى دارًا فأتمها إلا موضع لبنة واحدة، فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة » .

ورواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأبي كُرَيْب، كلاهما عن أبي معاوية، به.

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا معاوية بن صالح عن سعيد بن سُويد الكلبي، عن عبد الأعلى بن هلال السلمي، عن العِرْباض بن سارية قال:قال النبي صلى الله عليه وسلم: « إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمنْجَدِل في طينته. »

حديث آخر:قال الزهري:أخبرني محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، رضي الله عنه، قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن لي أسماء:أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله تعالى بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي. » أخرجاه في الصحيحين .

وقال الإمام أحمد:حدثنا يحيى بن إسحاق، حدثنا ابن لَهِيعة، عن عبد الله بن هُبَيْرة، عن عبد الرحمن بن جبير قال:سمعت عبد الله بن عمرو يقول:خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما كالمودّع، فقال: « أنا محمد النبي الأمي - ثلاثا - ولا نبي بعدي، أوتيت فواتح الكلم وجوامعه وخواتمه، وعلمت كم خزنة النار وحملة العرش، وتجوز بي، وعُوفيتُ وعُوفيتْ أمتي؛ فاسمعوا وأطيعوا ما دمت فيكم، فإذا ذُهب بي فعليكم بكتاب الله، أحلّوا حلاله، وحرّموا حرامه » . تفرد به الإمام أحمد.

ورواه [ الإمام ] أحمد أيضا عن يحيى بن إسحاق، عن ابن لَهِيعة، عن عبد الله بن هبيرة، عن عبد الله بن مريج الخولاني، عن أبي قيس - مولى عمرو بن العاص - عن عبد الله بن عمرو فذكر مثله سواء .

والأحاديث في هذا كثيرة، فمن رحمة الله تعالى بالعباد إرسال محمد، صلوات الله وسلامه عليه، إليهم، ثم من تشريفه لهم ختم الأنبياء والمرسلين به، وإكمال الدين الحنيف له. وقد أخبر تعالى في كتابه، ورسوله في السنة المتواترة عنه:أنه لا نبي بعده؛ ليعلموا أن كل مَنِ ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب أفاك، دجال ضال مضل، ولو تخرق وشعبذ، وأتى بأنواع السحر والطلاسم والنَيرجيَّات ، فكلها محال وضلال عند أولي الألباب، كما أجرى الله، سبحانه وتعالى، على يد الأسود العَنْسي باليمن، ومسيلمة الكذاب باليمامة، من الأحوال الفاسدة والأقوال الباردة، ما علم كل ذي لب وفهم وحِجى أنهما كاذبان ضالان، لعنهما الله. وكذلك كل مدع لذلك إلى يوم القيامة حتى يختموا بالمسيح الدجال، [ فكل واحد من هؤلاء الكذابين ] يخلق الله معه من الأمور ما يشهد العلماء والمؤمنون بكذب مَنْ جاء بها. وهذا من تمام لطف الله تعالى بخلقه، فإنهم بضرورة الواقع لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر إلا على سبيل الاتفاق، أو لما لهم فيه من المقاصد إلى غيره، ويكون في غاية الإفك والفجور في أقوالهم وأفعالهم، كما قال تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ الآية [ الشعراء:221، 222 ] . وهذا بخلاف الأنبياء، عليهم السلام، فإنهم في غاية البر والصدق والرشد والاستقامة [ والعدل ] فيما يقولونه ويفعلونه ويأمرون به وينهون عنه، مع ما يؤيدون به من الخوارق للعادات، والأدلة الواضحات، والبراهين الباهرات، فصلوات الله وسلامه عليهم دائما مستمرا ما دامت الأرض والسموات.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ( 41 ) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا ( 42 ) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ( 43 )

يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين بكثرة ذكرهم لربهم تعالى، المنعم عليهم بأنواع النعم وأصناف المنن، لما لهم في ذلك من جزيل الثواب،وجميل المآب.

قال الإمام أحمد:حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن سعيد ، حدثني مولى بن عياش عن أبي بَحرية ، عن أبي الدرداء، رضي الله عنه، قال:قالرسول الله صلى الله عليه وسلم: « ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والوَرق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟ » قالوا:وما هو يا رسول الله؟ قال: « ذكر الله عز وجل » .

وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه، من حديث عبد الله بن سعيد بن أبي هند، عن زياد - مولى ابن عياش - عن أبي بَحرية - واسمه عبد الله بن قيس التراغمي - عن أبي الدرداء، به . قال الترمذي:ورواه بعضهم عنه فأرسله.

قلت:وقد تقدم هذا الحديث عند قوله تعالى: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ في مسند [ الإمام ] أحمد، من حديث زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عَيَّاش:أنه بلغه عن معاذ بن جبل، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه، فالله أعلم.

وقال الإمام أحمد:حدثنا وَكِيع، حدثنا فرج بن فَضَالة، عن أبي سعد الحِمْصي قال:سمعت أبا هريرة يقول:دعاء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أدعه: « اللهم، اجعلني أعظم شكرك، وأتبع نصيحتك، وأكثر ذكرك، وأحفظ وصيتك » .

ورواه الترمذي عن يحيى بن موسى، عن وكيع، عن أبي فضالة الفرج بن فضالة، عن أبي سعيد الحمصي، عن أبي هريرة، فذكر مثله وقال:غريب.

وهكذا رواه الإمام أحمد أيضا عن أبي النضر هاشم بن القاسم، عن فرج بن فضالة، عن أبي سعيد المدني عن أبي هريرة فذكره.

وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي، عن معاوية بن صالح، عن عمرو بن قيس قال:سمعت عبد الله بن بُسْر يقول:جاء أعرابيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهما:يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال: « مَنْ طال عمره وحسن عمله » . وقال الآخر:يا رسول الله، إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا ، فمرني بأمر أتشبث به. قال: « لا يزال لسانك رَطْبًا بذكر الله » .

وروى الترمذي وابن ماجه [ منه ] الفصل الثاني، من حديث معاوية بن صالح، به. وقال الترمذي:حسن غريب.

وقال الإمام أحمد:حدثنا سُرَيج ، حدثنا ابن وهب، عن عمرو بن الحارث قال:إنّ دَرّاجا أبا السمح حدثه، عن أبي الهيثم،عن أبي سعيد الخدري؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أكثروا ذكر الله حتى يقولوا:مجنون. »

وقال الطبراني:حدثنا عبد الله بن أحمد، حدثنا عقبة بن مُكرم العَمِّي، حدثنا سعيد بن سفيان الجَحْدَرِي، حدثنا الحسن بن أبي جعفر، عن عقبة بن أبي ثُبَيت الراسبي، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اذكروا الله ذكرا كثيرا [ حتى ] يقول المنافقون:تراءون. »

وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا شداد أبو طلحة الراسبي، سمعت أبا الوازع جابر بن عمرو يحدث عن عبد الله بن عمروقال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما من قوم جلسوا مجلسا لم يذكروا الله فيه، إلا رأوه حسرة يوم القيامة. »

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله تعالى: ( اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ) :إن الله لم يفرض [ على عباده ] فريضة إلا [ جعل لها حدا معلوما، ثم ] عذر أهلها في حال عذر، غير الذكر، فإن الله لم يجعل له حدًّا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدًا في تركه، إلا مغلوبا على تركه، فقال: فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [ النساء:103 ] ، بالليل والنهار، [ في البر والبحر ] ، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والصحة والسقم، والسر والعلانية، وعلى كل حال، وقال: ( وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا ) فإذا فعلتم ذلك صلى عليكم هو وملائكته.

والأحاديث والآيات والآثار في الحث على ذكر الله كثيرة جدا، وفي هذه الآية الكريمة الحث على الإكثار من ذلك.

وقد صنف الناس في الأذكار المتعلقة بآناء الليل والنهار كالنسائي والمعمري وغيرهما ، ومن أحسن الكتب المؤلفة في ذلك كتاب الأذكار للشيخ محيي الدين النووي، رحمه الله تعالى

وقوله: ( وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا ) أي:عند الصباح والمساء، كقوله: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ [ الروم:17، 18 ]

وقوله: ( هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ ) :هذا تهييج إلى الذكر، أي:إنه سبحانه يذكركم فاذكروه أنتم، كقوله تعالى: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [ البقرة:151، 152 ] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: « يقول الله:مَنْ ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومَنْ ذكرني في مَلأ ذكرته في ملأ خير منهم »

والصلاة من الله ثناؤه على العبد عند الملائكة، حكاه البخاري عن أبي العالية. ورواه أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عنه.

وقال غيره:الصلاة من الله:الرحمة [ ورد بقوله: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ]

وقد يقال:لا منافاة بين القولين والله أعلم.

وأما الصلاة من الملائكة، فبمعنى الدعاء للناس والاستغفار ، كقوله: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ الآية. [ غافر:7- 9 ] .

وقوله: ( لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) أي:بسبب رحمته بكم وثنائه عليكم، ودعاء ملائكته لكم، يخرجكم من ظلمات الجهل والضلال إلى نور الهدى واليقين. ( وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ) أي:في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا:فإنه هداهم إلى الحق الذي جهله غيرهم، وبَصّرهم الطريق الذي ضَلَّ عنه وحاد عنه من سواهم من الدعاة إلى الكفر أو البدعة وأشياعهم من الطغام . وأما رحمته بهم في الآخرة:فآمنهم من الفزع الأكبر، وأمر ملائكته يتلقونهم بالبشارة بالفوز بالجنة والنجاة من النار، وما ذاك إلا لمحبته لهم ورأفته بهم.

قال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن أبي عدي، عن حميد، عن أنس، رضي الله عنه، قال:مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه وصبي في الطريق، فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ، فأقبلت تسعى وتقول:ابني ابني، وَسَعَت فأخذته، فقال القوم:يا رسول الله، ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار. قال:فَخَفَّضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: « ولا الله ، لا يلقي حبيبه في النار » .

إسناده على شرط الصحيحين، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة ، ولكن في صحيح الإمام البخاري، عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة من السبي قد أخذت صبيا لها، فألصقته إلى صدرها، وأرضعته فقال: « أترون هذه تلقي ولدها في النار وهي تقدر على ذلك؟ » قالوا:لا. قال: « فوالله، لله أرحم بعباده من هذه بولدها » .

 

 

تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ( 44 ) .

وقوله: ( تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ ) الظاهر أن المراد - والله أعلم - ( تَحِيَّتُهُمْ ) أي:من الله تعالى يوم يلقونه ( سَلامٌ ) أي:يوم يسلم عليهم كما قال تعالى: سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [ يس:58 ] .

وزعم قتادة أن المراد أنهم يحيي بعضهم بعضا بالسلام، يوم يلقون الله في الدار الآخرة. واختاره ابن جرير.

قلت:وقد يستدل بقوله تعالى: دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [ يونس:10 ] ، وقوله: ( وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ) يعني:الجنة وما فيها من المآكل والمشارب، والملابس والمساكن، والمناكح والملاذ والمناظر وما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ( 45 ) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ( 46 ) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا ( 47 ) وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا ( 48 ) .

قال الإمام أحمد:حدثنا موسى بن داود، حدثنا فُلَيْح بن سليمان، عن هلال بن علي عن عطاء بن يسار قال:لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت:أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. قال:أجل، والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ) وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، لست بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويغفر ، ولن يقبضَه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن لا إله إلا الله، فيفتح بها أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا « . »

وقد رواه البخاري في « البيوع » عن محمد بن سنان، عن فُلَيْح بن سليمان، عن هلال بن علي به. ورواه في التفسير عن عبد الله - قيل:ابن رجاء، وقيل:ابن صالح - عن عبد العزيز بن أبي سلمة، عن هلال، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عمرو، به . ورواه ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن عبد الله بن رجاء، عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، به.

وقال البخاري في البيوع:وقال سعيد، عن هلال، عن عطاء، عن عبد الله بن سلام.

وقال وهب بن منبه:إن الله أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل - يقال له:شعياء - أن قم في قومك بني إسرائيل، فإني منطق لسانك بوحي وأبعث أميا من الأميين، أبعثه [ مبشرا ] ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، لو يمر إلى جنب سراج لم يطفئه، من سكينته، ولو يمشي على القصب لم يسمع من تحت قدميه، أبعثه مبشرا ونذيرا، لا يقول الخنا، أفتح به أعينا كُمْهًا ، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، أسَدّده لكل أمر جميل، وأهب له كل خلق كريم، وأجعل السكينة لباسه، والبر شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة منطقه، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والحق شريعته، والعدل سيرته، والهدى إمامه، والإسلام ملته، وأحمد اسمه، أهدي به بعد الضلالة، وأعلم به بعد الجهالة، وأرفع به بعد الخَمَالة، وأعرف به بعد النُّكْرَة، وأكثر به بعد القلة، وأغني به بعد العَيْلَة، وأجمع به بعد الفرقة، وأؤلف به بين أمم متفرقة، وقلوب مختلفة، وأهواء متشتتة، وأستنقذ به فِئامًا من الناس عظيمة من الهلكة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، موحدين مؤمنين مخلصين، مصدقين لما جاءت به رسلي ، ألهمهم التسبيح والتحميد، والثناء والتكبير والتوحيد، في مساجدهم ومجالسهم، ومضاجعهم ومنقلبهم ومثواهم، يصلون لي قياما وقعودا، ويقاتلون في سبيل الله صفوفا وزُحوفا، ويخرجون من ديارهم ابتغاء مرضاتي ألوفا، يطهرون الوجوه والأطراف، ويشدون الثياب في الأنصاف، قربانهم دماؤهم، وأناجيلهم في صدورهم، رهبان بالليل ليُوث بالنهار، وأجعل في أهل بيته وذريته السابقين والصديقين والشهداء والصالحين، أمته من بعده يهدون بالحق وبه يعدلون، أعز مَنْ نصرهم، وأؤيد مَنْ دعا لهم، وأجعل دائرة السوء على مَنْ خالفهم أو بغى عليهم، أو أراد أن ينتزع شيئا مما في أيديهم. أجعلهم ورثة لنبيهم، والداعية إلى ربهم، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ويوفون بعهدهم، أختم بهم الخير الذي بدأته بأولهم، ذلك فضلي أوتيه من أشاء، وأنا ذو الفضل العظيم.

هكذا رواه ابن أبي حاتم، عن وهب بن منبه اليماني، رحمه الله.

ثم قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا عبد الرحمن بن صالح، حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله العَرْزَمي ، عن شَيْبَان النحوي، أخبرني قتادة، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال:لما نـزلت: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ) - وقد كان أمر عليا ومعاذا أن يسيرا إلى اليمن - فقال: « انطلقا فبشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، إنه قد أنـزل علي: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ) . »

ورواه الطبراني عن محمد بن نصر بن حميد البزاز البغدادي، عن عبد الرحمن بن صالح الأزدي، عن عبد الرحمن [ بن محمد ] بن عبيد الله العرزمي، بإسناده مثله . وقال في آخره: « فإنه قد أنـزل علي:يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا على أمتك ومبشرا بالجنة، ونذيرا من النار، وداعيا إلى شهادة أن لا إله إلا الله بإذنه، وسراجا منيرا بالقرآن » .

وقوله: ( شَاهِدًا ) أي:لله بالوحدانية، وأنه لا إله غيره، وعلى الناس بأعمالهم يوم القيامة، وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا ، [ كقوله: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ] [ البقرة:143 ] .

وقوله: ( وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ) أي:بشيرا للمؤمنين بجزيل الثواب، ونذيرا للكافرين من وبيل العقاب.

وقوله: ( وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ ) أي:داعيا للخلق إلى عبادة ربهم عن أمره لك بذلك، ( وَسِرَاجًا مُنِيرًا ) أي:وأمرُك ظاهر فيما جئت به من الحق، كالشمس في إشراقها وإضاءتها، لا يجحدها إلا معاند.

وقوله: ( وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ ) ، أي:لا تطعهم و [ لا ] تسمع منهم في الذي يقولونه ( وَدَعْ أَذَاهُمْ ) أي:اصفح وتجاوز عنهم، وكِلْ أمرهم إلى الله، فإن فيه كفايةً لهم؛ ولهذا قال: ( وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا ) .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا ( 49 ) .

هذه الآية الكريمة فيها أحكام كثيرة. منها:إطلاق النكاح على العقد وحده، وليس في القرآن آية أصرح في ذلك منها، وقد اختلفوا في النكاح:هل هو حقيقة في العقد وحده، أو في الوطء، أو فيهما؟ على ثلاثة أقوال، واستعمال القرآن إنما هو في العقد والوطء بعده، إلا في هذه الآية فإنه استعمل في العقد وحده؛ لقوله: ( إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ) وفيها دلالة لإباحة طلاق المرأة قبل الدخول بها.

وقوله: ( الْمُؤْمِنَاتِ ) خرج مخرج الغالب؛ إذ لا فرق في الحكم بين المؤمنة والكتابية في ذلك بالاتفاق. وقد استدل ابن عباس، وسعيد بن المسَيَّب، والحسن البصري، وعلي بن الحسين، زين العابدين، وجماعة من السلف بهذه الآية على أن الطلاق لا يقع إلا إذا تقدمه نكاح؛ لأن الله تعالى قال: ( إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ ) ، فعقب النكاح بالطلاق، فدل على أنه لا يصح ولا يقع قبله. وهذا مذهب الشافعي، وأحمد بن حنبل، وطائفة كثيرة من السلف والخلف، رحمهم الله تعالى.

وذهب مالك وأبو حنيفة، رحمهما الله، إلى صحة الطلاق قبل النكاح؛ فيما إذا قال: « إن تزوجت فلانة فهي طالق » . فعندهما متى تزوجها طلقت منه. واختلفا فيما إذا قال: « كل امرأة أتزوجها فهي طالق » . فقال مالك:لا تطلق حتى يعين المرأة. وقال أبو حنيفة، رحمه الله:كل امرأة يتزوجها بعد هذا الكلام تطلق منه، فأما الجمهور فاحتجوا على عدم وقوع الطلاق بهذه الآية.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن منصور المروزي، حدثنا النضر بن شُمَيْل، حدثنا يونس - يعني:ابن أبي إسحاق - سمعت آدم مولى خالد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: [ إذا قال ] :كل امرأة أتزوجها فهي طالق، قال:ليس بشيء من أجل أن الله تعالى يقول: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ ) الآية.

وحدثنا محمد بن إسماعيل الأحْمَسِي، حدثنا وَكِيع، عن مطر، عن الحسن بن مسلم بن يَنّاق ، عن ابن عباس قال:إنما قال الله تعالى: ( إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ ) ، ألا ترى أن الطلاق بعد النكاح؟!

وهكذا روى محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:قال الله: ( إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ ) فلا طلاق [ قبل النكاح ] .

وقد ورد الحديث بذلك عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا طلاق لابن آدم فيما لا يملك » . رواه الإمام أحمد والترمذي، وأبو داود، وابن ماجه . وقال الترمذي: « هذا حديث حسن » . وهو أحسن شيء روي في هذا الباب. وهكذا روى ابن ماجه عن علي، والمِسْوَر بن مَخْرَمَة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لا طلاق قبل نكاح » .

[ وفي الآية دليل على أن المسيس مطلق، ويراد به الوطء ] .

وقوله : ( فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا ) :هذا أمر مجمع عليه بين العلماء:أن المرأة إذا طلقت قبل الدخول بها لا عدة عليها فتذهب فتتزوج في فورها مَنْ شاءت، ولا يستثنى من هذا إلا المتوفى عنها زوجها، فإنها تعتد منه أربعة أشهر وعشرا، وإن لم يكن دخل بها بالإجماع أيضا.

وقوله: ( فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا ) :المتعة هاهنا أعم من أن تكون نصف الصداق المسمى، أو المتعة الخاصة إن لم يكن قد سمى لها، قال الله تعالى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [ البقرة:237 ] ، وقال لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [ البقرة:236 ] .

وفي صحيح البخاري، عن سهل بن سعد وأبي أسيد؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج أميمة بنت شَرَاحيل، فلما أدخلت عليه بسط يده إليها، فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين رازقيَّين .

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، رضي الله عنهما:إن كان سمى لها صداقا، فليس لها إلا النصف، وإن لم يكن سمى لها صداقا فأمتعها على قدر عسره ويسره، وهو السراح الجميل.

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ( 50 ) .

يقول تعالى مخاطبا نبيه، صلوات الله وسلامه عليه، بأنه قد أحل له من النساء أزواجه اللاتي أعطاهن مُهُورَهُنَّ، وهي الأجور هاهنا. كما قاله مجاهد وغير واحد، وقد كان مَهْرُه لنسائه اثنتي عشرة أوقية ونَشّا وهو نصف أوقية، فالجميع خمسمائة درهم، إلا أم حبيبة بنت أبي سفيان فإنه أمهرها عنه النجاشي، رحمه الله، أربعمائة دينار، وإلا صفية بنت حُيَيّ فإنه اصطفاها من سَبْي خيبر، ثم أعتقها وجعل عتقها صداقها. وكذلك جُوَيرية بنت الحارث المصطلقية، أدى عنها كتابتها إلى ثابت بن قيس بن شماس وتزوجها، رضي الله عن جميعهن .

وقوله: ( وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ ) أي:وأباح لك التسري مما أخذت من المغانم ، وقد ملك صفية وجويرية فأعتقهما وتزوجهما. وملك ريحانة بنت شمعون النضرية، ومارية القبطية أم ابنه إبراهيم، عليه السلام، وكانتا من السراري، رضي الله عنهما.

وقوله: ( وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ ) :هذا عدل وَسط بين الإفراط والتفريط؛ فإن النصارى لا يتزوجون المرأة إلا إذا كان الرجل بينه وبينها سبعة أجداد فصاعدا، واليهود يتزوج أحدهم بنت أخيه وبنت أخته، فجاءت هذه الشريعة الكاملة الطاهرة بهدم إفراط النصارى، فأباح بنت العم والعمة، وبنت الخال والخالة، وتحريم ما فَرّطت فيه اليهود من إباحة بنت الأخ والأخت، وهذا بشع فظيع.

وإنما قال: ( وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ ) فَوَحَّدَ لفظ الذكر لشرفه، وجمع الإناث لنقصهن كقوله: عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ [ النحل:48 ] ، يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [ البقرة:257 ] ، وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [ الأنعام:1 ] ، وله نظائر كثيرة.

وقوله: ( اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ ) قال ابن أبي حاتم، رحمه الله:

حدثنا محمد بن عمار بن الحارث الرازي، حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا إسرائيل، عن السدي، عن أبي صالح ، عن أم هانئ قالت:خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه بعذري، ثم أنـزل الله: ( إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ ) إلى قوله: ( اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ ) قالت:فلم أكن أحل له، ولم أكن ممن هاجر معه، كنت من الطلقاء. ورواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب، عن عبيد الله بن موسى، به .

ثم رواه ابن أبي حاتم من حديث إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، عنها بنحوه.

ورواه الترمذي في جامعه . وهكذا قال أبو رَزين وقتادة:إن المراد:من هاجر معه إلى المدينة. وفي رواية عن قتادة: ( اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ ) أي:أسلمن. وقال الضحاك:قرأ ابن مسعود: « واللاتي هَاجَرْنَ مَعَك » .

وقوله: ( وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا ) أي:ويحل لك - يأيها النبي - المرأة المؤمنة إذا وهبت نفسها لك أن تتزوجها بغير مهر إن شئت ذلك. وهذه الآية توالى فيها شرطان، كقوله تعالى إخبارًا عن نوح، عليه السلام، أنه قال لقومه: وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ [ هود:34 ] ، وكقول موسى: يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ [ يونس:84 ] . وقال هاهنا: ( وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا ) وقد قال الإمام أحمد :

حدثنا إسحاق، أخبرنا مالك، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعدي؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت:يا رسول الله، إني قد وَهَبت نفسي لك. فقامت قياما طويلا فقام رجل فقال:يا رسول الله، زَوّجنيها إن لم يكن لك بها حاجة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « هل عندك من شيء تُصدقها إياه » ؟ فقال:ما عندي إلا إزاري هذا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن أعطيتها إزارك جلستَ لا إزار لك، فالتمس شيئا » . فقال:لا أجد شيئا. فقال: « التمس ولوخاتما من حديد » فالتمس فلم يجد شيئا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: « هل معك من القرآن شيء؟ » قال:نعم؛ سورة كذا، وسورة كذا - لسور يسميها - فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « زوجتكها بما معك من القرآن » .

أخرجاه من حديث مالك .

وقال الإمام أحمد:حدثنا عفان ، حدثنا مرحوم، سمعت ثابتا يقول :كنت مع أنس جالسا وعنده ابنة له، فقال أنس:جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت:يا نبي الله، هل لك فيّ حاجة؟ فقالت ابنته:ما كان أقل حياءها. فقال: « هي خير منك، رغبت في النبي، فعرضت عليه نفسها » .

انفرد بإخراجه البخاري، من حديث مرحوم بن عبد العزيز [ العطار ] ، عن ثابت البُنَاني،عن أنس، به .

وقال أحمد أيضا:حدثنا عبد الله بن بكر، حدثنا سِنان بن ربيعة، عن الحضرمي، عنأنس بن مالك:أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت:يا رسول الله، ابنة لي كذا وكذا. فذكرت من حسنها وجمالها، فآثرتك بها. فقال: « قد قبلتها » .فلم تزل تمدحها حتى ذكرت أنها لم تصدع ولم تَشْتَك شيئًا قط، فقال: « لا حاجة لي في ابنتك » . لم يخرجوه .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا منصور بن أبي مُزَاحم، حدثنا ابن أبي الوضاح - يعني:محمد بن مسلم - عن هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن عائشة قالت:التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم خولة بنت حكيم .

وقال ابن وهب، عن سعيد بن عبد الرحمن وابن أبي الزِّنَاد، عن هشام بن عروة، عن أبيه:أن خولة بنت حكيم بن الأوقص، من بني سُلَيم، كانت من اللاتي وَهَبْن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

وفي رواية له عن سعيد بن عبد الرحمن، عن هشام، عن أبيه:كنا نتحدث أن خولة بنت حكيم كانت وهبت نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت امرأة صالحة .

فيحتمل أن أم سليم هي خولة بنت حكيم، أو هي امرأة أخرى.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن إسماعيل الأحْمَسِي، حدثنا وَكِيع، حدثنا موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب، وعمر بن الحكم، وعبد الله بن عبيدة قالوا:تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة امرأة، ست من قريش، خديجة، وعائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة، وأم سلمة. وثلاث من بني عامر بن صَعْصَعَة، وامرأتان من بني هلال بن عامر:ميمونة بنت الحارث، وهي التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، وزينب أم المساكين - امرأة من بني أبي بكر بن كلاب من القرطاء - وهي التي اختارت الدنيا، وامرأة من بني الجون، وهي التي استعاذت منه، وزينب بنت جحش الأسدية، والسبيتان صفية بنت حيي بن أخطب، وجويرية بنت الحارث بن عمرو بن المصطلق الخزاعية .

وقال سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن ابن عباس: ( وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ ) قال:هي ميمونة بنت الحارث.

فيه انقطاع:هذا مرسل، والمشهور أن زينب التي كانت تُدْعى أم المساكين هي زينب بنت خُزَيمة الأنصارية،وقد ماتت عند النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، فالله أعلم.

والغرض من هذا أن اللاتي وهبن أنفسهن من النبي صلى الله عليه وسلم كثير، كما قال البخاري، حدثنا زكريا بن يحيى، حدثنا أبو أسامة قال:هشام بن عروة حدثنا عن أبيه، عن عائشة قالت:كنت أغار من اللاتي وهبن أنفسهن من النبي صلى الله عليه وسلم وأقول:أتهب امرأة نفسها؟ فلما أنـزل الله: ( تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ) قلت:ما أرى ربك إلا يُسَارع في هواك .

وقد قال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن منصور الجعفي، حدثنا يونس بن بُكَيْر، عن عَنْبَسَة بن الأزهر، عن سِماك، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال:لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها له.

ورواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب، عن يونس بن بُكَيْر . أي:إنه لم يقبل واحدة ممن وهبت نفسها له، وإن كان ذلك مباحا له ومخصوصا به؛ لأنه مردود إلى مشيئته، كما قال الله تعالى: ( إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا ) أي:إن اختار ذلك.

وقوله: ( خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ) قال عكرمة:أي:لا تحل الموهوبة لغيرك، ولو أن امرأة وهبت نفسها لرجل لم تحل له حتى يعطيها شيئا. وكذا قال مجاهد والشعبي وغيرهما.

أي:إنها إذا فوضت المرأة نفسها إلى رجل، فإنه متى دخل بها وجب لها عليه بها مهر مثلها، كما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم في بَرْوَع بنت واشق لما فوضت، فحكم لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بصداق مثلها لما توفي عنها زوجها، والموت والدخول سواء في تقرير المهر وثبوت مهر المثل في المفوضة لغير النبي صلى الله عليه وسلم فأما هو، عليه السلام، فإنه لا يجب عليه للمفوضة شيء ولو دخل بها؛ لأن له أن يتزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود، كما في قصة زينب بنت جحش، رضي الله عنها. ولهذا قال قتادة في قوله: ( خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ) ، يقول:ليس لامرأة تهب نفسها لرجل بغير ولي ولا مهر إلا للنبي صلى الله عليه وسلم.

[ وقوله تعالى: ( قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ) ] قال أبي بن كعب، ومجاهد، والحسن، وقتادة وابن جرير في قوله: ( قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ ) أي:منحَصْرِهم في أربع نسوة حرائر وما شاءوا من الإماء، واشتراط الولي والمهر والشهود عليهم، وهم الأمة، وقد رخصنا لك في ذلك، فلم نوجب عليك شيئا منه؛ ( لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) .

 

تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا ( 51 ) .

قال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن بشر ، حدثنا هشام بن عُرْوَة، عن أبيه عن عائشة، رضي الله عنها؛أنها كانت تُعَيِّر النساء اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت:ألا تستحي المرأة أن تعرض نفسها بغير صداق؟ فأنـزل الله، عز وجل: ( تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ) ، قالت:إني أرَى رَبَّك إلا يُسَارع في هواك .

وقد تقدم أن البخاري رواه من حديث أبى أسامة، عن هشام بن عُرْوَة، فدل هذا على أن المراد بقوله: ( تُرْجِي ) أي:تؤخر ( مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ ) أي:من الواهبات [ أنفسهن ] ( وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ ) أي:مَنْ شئت قبلتها، ومَنْ شئت رددتها، ومَنْ رددتها فأنت فيها أيضا بالخيار بعد ذلك، إن شئت عُدْتَ فيها فآويتها؛ ولهذا قال: ( وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ) . قال عامر الشعبي في قوله: ( تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ ) :كن نساء وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم فدخل ببعضهن وأرجأ بعضهن لم يُنْكحن بعده، منهن أم شريك.

وقال آخرون:بل المراد بقوله: ( تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ ) أي:من أزواجك، لا حرج عليك أن تترك القَسْم لهن، فتقدم من شئت، وتؤخر من شئت، وتجامع من شئت، وتترك من شئت.

هكذا يروى عن ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وأبي رَزين، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيرهم، ومع هذا كان، صلوات الله وسلامه عليه، يقسم لهن؛ولهذا ذهب طائفة من الفقهاء من الشافعية وغيرهم إلى أنه لم يكن القسم واجبا عليه، صلوات الله وسلامه عليه، واحتجوا بهذه الآية الكريمة.

وقال البخاري:حدثنا حبّان بن موسى، حدثنا عبد الله - هو ابن المبارك - أخبرنا عاصم الأحول، عن مُعَاذة عن عائشة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن نـزلت هذه الآية: ( تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ) ، فقلت لها:ما كنت تقولين؟ فقالت:كنت أقول:إن كان ذاك إليَّ فإني لا أريد يا رسول الله أن أؤثر عليك أحدا .

فهذا الحديث عنها يدل على أن المراد من ذلك عدم وجوب القسم، وحديثها الأول يقتضي أن الآية نـزلت في الواهبات، ومن هاهنا اختار ابن جريرأن الآية عامة في الواهبات وفي النساء اللاتي عنده، أنه مخير فيهن إن شاء قسم وإن شاء لم يقسم. وهذا الذي اختاره حسن جيد قوي، وفيه جمع بين الأحاديث؛ ولهذا قال تعالى: ( ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ ) أي:إذا علمن أن الله قد وضع عنك الحَرَج في القسم، فإن شئت قسمت، وإن شئت لم تقسم، لا جناح عليك في أي ذلك فعلت، ثم مع هذا أنت تقسم لهن اختيارا منك لا أنه على سبيل الوجوب، فرحن بذلك واستبشرن به وحملن جميلك في ذلك، واعترفن بمنتك عليهن في قسمك لهن وتسويتك بينهن وإنصافك لهن وعدلك فيهن.

وقوله: ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ) أي:من الميل إلى بعضهن دون بعض، مما لا يمكن دفعه، كما قال الإمام أحمد:

حدثنا يزيد، حدثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن أبي قِلابة، عن عبد الله بن يزيد، عن عائشة قالت:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول: « اللهم هذا فعلي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك » .

ورواه أهل السنن الأربعة، من حديث حماد بن سلمة - وزاد أبو داود بعد قوله:فلا تلمني فيما تملك ولا أملك:يعني القلب. وإسناده صحيح، ورجاله كلهم ثقات. ولهذا عقب ذلك بقوله: ( وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا ) أي:بضمائر السرائر، ( حَلِيمًا ) أي:يحلم ويغفر.

لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا ( 52 ) .

ذكر غير واحد من العلماء - كابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، وابن زيد، وابن جرير، وغيرهم - أن هذه الآية نـزلت مجازاة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورضًا عنهن، على حسن صنيعهن في اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة، لما خيرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما تقدم في الآية. فلما اخترن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان جزاؤهن أن [ الله ] قَصَره عليهن، وحرم عليه أن يتزوج بغيرهن،أو يستبدل بهن أزواجا غيرهن، ولو أعجبه حسنهن إلا الإماء والسراري فلا حجر عليه فيهن. ثم إنه تعالى رفع عنه الحجر في ذلك ونسخ حكم هذه الآية، وأباح له التزوج ، ولكن لم يقع منه بعد ذلك تَزَوّج لتكون المنة للرسول صلى الله عليه وسلم عليهن.

قال الإمام أحمد:حدثنا سفيان، عن عمرو، عن عطاء، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت:ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له النساء .

ورواه أيضا من حديث ابن جُرَيْج، عن عَطاء، عن عبيد بن عمير ، عن عائشة. ورواه الترمذي والنسائي في سننيهما .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة، حدثني عمر بن أبي بكر، حدثني المغيرة بن عبد الرحمن الحزامي ، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله ، عن عبد الله بن وهب بن زَمْعَة، عن أم سلمة أنها قالت:لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحلَّ الله له أن يتزوج من النساء ما شاء، إلا ذات محرم، وذلك قول الله، عز وجل: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ .

فجعلت هذه ناسخة للتي بعدها في التلاوة، كآيتي عدة الوفاة في البقرة، الأولى ناسخة للتي بعدها، والله أعلم.

وقال آخرون:بل معنى الآية: ( لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ ) أي:من بعد ما ذكرنا لك من صفة النساء اللاتي أحللنا لك من نسائك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك، وبنات العم والعمات والخال والخالات والواهبة وما سوى ذلك من أصناف النساء فلا يحل لك. هذا مرويّ عن أبي بن كعب، ومجاهد، وعِكْرِمة، والضحاك - في رواية - وأبي رَزِين - في رواية عنه - وأبي صالح، والحسن، وقتادة - في رواية - والسدي، وغيرهم.

قال ابن جرير:حدثنا يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن داود بن أبي هند، حدثني محمد بن أبي موسى، عن زياد - رجل من الأنصار - قال:قلت لأبي بن كعب:أرأيت لو أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تُوُفين، أما كان له أن يتزوج؟ فقال:وما يمنعه من ذلك؟ قال:قلت:قوله: ( لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ ) . فقال:إنما أحل الله له ضربا من النساء، فقال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ إلى قوله: إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ ثم قيل له: ( لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ ) .

ورواه عبد الله بن أحمد من طرق، عن داود، به . وروى الترمذي، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال:نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء، إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات بقوله: ( لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ) ، فأحل الله فتياتكم المؤمنات وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ ، وحرم كل ذات دين غير الإسلام، ثم قال: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ و قال يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ إلى قوله: خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ، وحرم ما سوى ذلك من أصناف النساء .

وقال مجاهد: ( لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ ) أي:من بعد ما سمى لك، لا مسلمة ولا يهودية ولا نصرانية ولا كافرة.

وقال أبو صالح: ( لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ ) :أمر ألا يتزوج أعرابية ولا غربية ، ويتزوج بعد من نساء تهامة، وما شاء من بنات العم والعمة، والخال والخالة، إن شاء ثلاثمائة.

وقال عكرمة: ( لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ ) أي:التي سمى الله.

واختار ابن جرير، رحمه الله، أن الآية عامة فيمن ذكر من أصناف النساء، وفي النساء اللواتي في عصمته وكن تسعا. وهذا الذي قاله جيد، ولعله مراد كثير ممن حكيناعنه من السلف؛ فإن كثيرا منهم روي عنه هذا وهذا، ولا منافاة، والله أعلم.

ثم أورد ابن جرير على نفسه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها، وعزم على فراق سودة حتى وهبته يومها لعائشة، ثم أجاب بأن هذا كان قبل نـزول قوله: ( لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ ) ، وهذا الذي قاله من أن هذا كان قبل نـزول الآية صحيح، ولكن لا يحتاج إلى ذلك؛ فإن الآية إنما دلت على أنه لا يتزوج بمن عدا اللواتي في عصمته، وأنه لا يستبدل بهن غيرهن، ولا يدل ذلك على أنه لا يطلق واحدة منهن من غير استبدال، والله أعلم.

فأما قَضية سَوْدَة ففي الصحيح عن عائشة، رضي الله عنها، وهي سبب نـزول قوله تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا [ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ] الآية [ النساء:128 ] .

وأما قضية حفصة فروى أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه، من طرق عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن صالح بن صالح بن حي عن سلمة بن كُهَيْل، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها. وهذا إسناد قوي .

وقال الحافظ أبو يعلى:حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا يونس بن بُكَيْر، عن الأعمش، عن أبي صالح ، عن ابن عمر قال:دخل عمر على حفصة وهي تبكي، فقال:ما يبكيك؟ لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم طلقك؟ إنه قد كان طلقك مرة ثم راجعك من أجلي؛ والله لئن كان طلقك مرة أخرى لا أكلمك أبدا. ورجاله على شرط الصحيحين .

وقوله: ( وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ ) ، فنهاه عن الزيادة عليهن، أو طلاق واحدة منهن واستبدال غيرها بها إلا ما ملكت يمينه .

وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثا مناسبا ذكَرُه هاهنا، فقال:

حدثنا إبراهيم بن نصر، حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا عبد السلام بن حرب، عن إسحاق بن عبد الله القرَشي، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يَسَار عن أبي هُرَيرة، رضي الله عنه، قال:كان البَدلُ في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل:بادلني امرأتك وأبادلُك بامرأتي:أي:تنـزل لي عن امرأتك، وأنـزل لك عن امرأتي. فأنـزل الله: ( وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ ) قال:فدخل عيينة بن حصن على النبي صلى الله عليه وسلم، وعنده عائشة، فدخل بغير إذن، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « فأين الاستئذان؟ » فقال يا رسول الله، ما استأذنت على رجل من مُضَر منذ أدركت. ثم قال:من هذه الحُمَيْراء إلى جنبك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « هذه عائشة أم المؤمنين » . قال:أفلا أنـزل لك عن أحسن الخلق ؟ قال: « يا عيينة إن الله قد حرم ذلك » . فلما أن خرج قالت عائشة:مَنْ هذا؟ قال:هذا أحمق مطاع، وإنه على ما ترين لسيد قومه « . »

ثم قال البزار إسحاق بن عبد الله:لين الحديث جدا، وإنما ذكرناه لأنا لم نحفظه إلا من هذا الوجه، وبينا العلة فيه .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا ( 53 ) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ( 54 ) .

هذه آية الحجاب، وفيها أحكام وآداب شرعية، وهي مما وافق تنـزيلها قول عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، كما ثبت ذلك في الصحيحين عنه أنه قال:وافقت ربي في ثلاث، فقلت:يا رسول الله، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؟ فأنـزل الله: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [ البقرة:125 ] . وقلت:يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو حجبتهن؟ فأنـزل الله آية الحجاب. وقلت لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم لما تمالأن عليه في الغيرة: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ [ التحريم:5 ] ، فنـزلت كذلك .

وفي رواية لمسلم ذكر أسارى بدر، وهي قضية رابعة.

وقد قال البخاري:حدثنا مُسَدَّد، عن يحيى، عن حُمَيْد، أن أنس بن مالك قال:قال عمر بن الخطاب:يا رسول الله، يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب؟ فأنـزل الله آية الحجاب .

وكان وقت نـزولها في صبيحة عرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش، التي تولى الله تعالى تزويجها بنفسه، وكان ذلك في ذي القعدة من السنة الخامسة، في قول قتادة والواقدي وغيرهما.

وزعم أبو عُبَيدة معمر بن المثنى، وخليفة بن خياط:أن ذلك كان في سنة ثلاث، فالله أعلم.

قال البخاري:حدثنا محمد بن عبد الله الرَّقاشي، حدثنا مُعْتَمر بن سليمان، سمعت أبي، حدثنا أبو مِجْلَز، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال:لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش، دعا القوم فَطَعموا ثم جلسوا يتحدثون، فإذا هو [ كأنه ] يتهيأ للقيام فلم يقوموا. فلما رأى ذلك قام، فلما قام [ قام ] مَنْ قام ، وقعد ثلاثة نفر . فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل، فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا فانطلقت، فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا. فجاء حتى دخل، فذهبت أدخل، فألقي [ الحجاب ] بيني وبينه، فأنـزل الله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ ) الآية.

وقد رواه أيضا في موضع آخر، ومسلم والنسائي، من طرق، عن معتمر بن سليمان، به . ثم رواه البخاري منفردا به من حديث أيوب، عن أبي قِلابة، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، [ بنحوه . ثم قال :حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك ] قال:بُني [ على ] النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش بخبز ولحم، فأرسلْتُ على الطعام داعيا، فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون، ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون. فدعوتُ حتى ما أجد أحدا أدعوه،فقلت:يا نبي الله، ما أجد أحدا أدعوه. قال: « ارفعوا طعامكم » ، وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة، فقال: « السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته » . قالت:وعليك السلام ورحمة الله، كيف وجدت أهلك، بارك الله لك؟ فَتَقَرّى حجر نسائه كُلّهن، يقول لهن كما يقول لعائشة، ويقلن له كما قالت عائشة. ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا رهط ثلاثة [ في البيت ] يتحدثون. وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء، فخرج منطلقا نحو حُجْرة عائشة، فما أدري أخبرتُه أم أخبر أن القوم خَرَجُوا؟ فرجع حتى إذا وضع رجله في أُسْكُفة الباب داخله، وأخرى خارجة، أرْخَى الستر بيني وبينه، وأنـزلت آية الحجاب.

انفرد به البخاري من بين أصحاب الكتب [ الستة ] ، سوى النسائي في اليوم والليلة، من حديث عبد الوارث .

ثم رواه عن إسحاق - هو ابن منصور - عن عبد الله بن بكر السهمي، عن حُمَيد، عن أنس، بنحو ذلك ، وقال: « رجلان » انفرد به من هذا الوجه. وقد تقدم في أفراد مسلم من حديث سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس.

وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي، حدثنا أبو المظفر، حدثنا جعفر بن سليمان، عن الجعد - أبي عثمان اليَشْكُرِي - عن أنس بن مالك قال:أعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض نسائه، فصنعت أم سليم حيسا ثم وضعته في تَوْر، فقالت:اذهب بهذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقرئه مني السلام، وأخبره أن هذا منا له قليل - قال أنس:والناس يومئذ في جَهد - فجئت به فقلت:يا رسول الله، بعثت بهذا أم سُلَيم إليك، وهي تقرئك السلام، وتقول:أخبره أن هذا منا له قليل، فنظر إليه ثم قال: « ضعه » فوَضَعته في ناحية البيت، ثم قال: « اذهب فادع لي فلانا وفلانا » . وسمى رجالا كثيرا، وقال: « ومَنْ لقيتَ من [ المسلمين » . فدعوتُ مَنْ قال لي، ومَنْ لقيت من ] المسلمين، فجئت والبيت والصُّفَّة والحجرة مَلأى من الناس - فقلت:يا أبا عثمان، كم كانوا؟ فقال:كانوا زهاء ثلاثمائة - قال أنس:فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: « جِئْ به » . فجئتُ به إليه، فوضع يده عليه، ودعا وقال: « ما شاء الله » . ثم قال: « ليتَحَلَّق عَشَرة عَشَرة، وليسموا ، وليأكل كل إنسان مما يليه » . فجعلوا يسمون ويأكلون، حتى أكلوا كلهم. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ارفعه » . قال:فجئتُ فأخذت التَّورَ فما أدري أهو حين وضعت أكثر أم حين أخذت؟ قال:وتخلف رجال يتحدثون في بيت رسول الله، وزَوجُ رسول الله صلى الله عليه وسلم التي دخل بها معهم مُولّية وجهها إلى الحائط، فأطالوا الحديث، فشقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أشد الناس حياء - ولو أعلموا كان ذلك عليهم عزيزًا - فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فسلم على حُجَره وعلى نسائه، فلما رأوه قد جاء ظنوا أنهم قد ثَقَّلوا عليه، ابتدروا الباب فخرجوا، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أرخى الستر، ودخل البيت وأنا في الحجرة، فمكث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في بيته يسيرا، وأنـزل الله عليه القرآن، فخرج وهو يقرأ هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا ) إلى قوله: ( بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) . قال أنس:فقرأهن عَليّ قبل الناس، فأنا أحْدثُ الناس بهن عهدا.

وقد رواه مسلم والترمذي والنسائي جميعا، عن قتيبة،عن جعفر بن سليمان، به . وقال الترمذي:حسن صحيح وعَلَّقه البخاري في كتاب النكاح فقال:

وقال إبراهيم بن طَهْمَان، عن الجَعْد أبي عثمان، عن أنس، فذكر نحوه .

ورواه مسلم أيضا عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق،عن مَعْمَر، عن الجعد، به . وقد روى هذا الحديث عبد الله بن المبارك، عن شَرِيك، عن بيان بن بشر، عن أنس، بنحوه.

وروى البخاري والترمذي، من طريقين آخرين، عن بَيَان بن بشر الأحَمَسِي الكوفي، عن أنس، بنحوه .

ورواه ابن أبي حاتم أيضا، من حديث أبي نَضْرَة العبدي،عن أنس بن مالك، بنحوه ورواه ابن جرير من حديث عمرو بن سعيد، ومن حديث الزهري، عن أنس، بنحو ذلك .

وقال الإمام أحمد:حدثنا بَهْزُ وهاشم بن القاسم قالا حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس قال:لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:ليزيد « اذهب فاذكرها علي » . قال:فانطلق زيد حتى أتاها، قال:وهي تُخَمِّر عجينها، فلما رأيتُها عَظُمت في صدري ... وذكر تمام الحديث، كما قدمناه عند قوله: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا ، وزاد في آخره بعد قوله:وَوَعَظ القوم بما وعظوا به. قال هاشم في حديثه: ( لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ) .

وقد أخرجه مسلم والنسائي، من حديث سليمان بن المغيرة ، به .

وقال ابن جرير:حدثني أحمد بن عبد الرحمن - ابن أخي ابن وهب - حدثني عمي عبد الله بن وهب، حدثني يونس عن الزهري، عن عُرْوَة، عن عائشة قالت:إن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم كُنّ يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع - وهو صعيد أفيح - وكان عمر يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم:احجب نساءك. فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليفعل، فخرجت سودة بنت زمعة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت امرأة طويلة، فناداها عمر بصوته الأعلى:قد عرفناك يا سودة. حرْصًا أن ينـزل الحجاب، قالت :فأنـزل الله الحجاب .

هكذا وقع في هذه الرواية. والمشهور أن هذا كان بعد نـزول الحجاب، كما رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم، من حديث هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت:خرجت سودة بعدما ضرب الحجاب لحاجتها، وكانت امرأة جَسيمَةً لا تخفَى على مَنْ يعرفها، فرآها عمر بن الخطاب فقال:يا سودة، أما والله ما تَخْفَين علينا، فانظري كيف تخرجين؟ قالت:فانكفأت راجعة،ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، وإنه ليتعشى، وفي يده عَرْق، فدخلت فقالت:يا رسول الله، إني خرجت لبعض حاجتي، فقال لي عمر كذا وكذا. قالت:فأوحى الله إليه، ثم رُفعَ عنه وإن العَرْق في يده، ما وضعه. فقال: « إنه قد أذنَ لكن أن تخرجن لحاجتكن » . لفظ البخاري .

فقوله: ( لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ ) :حَظَر على المؤمنين أن يدخلوا منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذن، كما كانوا قبل ذلك يصنعون في بيوتهم في الجاهلية وابتداء الإسلام، حتى غار الله لهذه الأمة، فأمرهم بذلك، وذلك من إكرامه تعالى هذه الأمة؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إياكم والدخول على النساء » .

ثم استثنى من ذلك فقال: ( إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ ) .

قال مجاهد وقتادة وغيرهما:أي غير متحينين نضجه واستواءه، أي:لا ترقبوا الطعام حتى إذا قارب الاستواء تعرضتم للدخول، فإن هذا يكرهه الله ويذمه. وهذا دليل على تحريم التطفيل،وهو الذي تسميه العرب الضيفن، وقد صنف الخطيب البغدادي في ذلك كتابا في ذم الطفيليين. وذكر من أخبارهم أشياء يطول إيرادها.

ثم قال تعالى: ( وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا ) . وفي صحيح مسلم عن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا دعا أحدكم أخاه فَلْيجب، عُرسًا كان أو غيره » . وأصله في الصحيحين وفي الصحيح أيضا، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لو دُعيت إلى ذراع لأجبت، ولو أهدي إليَّ كُرَاع لقبلت، فإذا فَرَغتم من الذي دُعيتم إليه فخففوا عن أهل المنـزل، وانتشروا في الأرض » ؛ ولهذا قال: ( وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ) أي:كما وقع لأولئك النفر الثلاثة الذين استرسل بهم الحديث، ونسُوا أنفسهم، حتى شَقّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال [ الله ] تعالى: ( إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ ) .

وقيل:المراد أن دخولكم منـزله بغير إذنه كان يشق عليه ويتأذى به، لكن كان يكره أن ينهاهم عن ذلك من شدة حيائه، عليه السلام، حتى أنـزل الله عليه النهي عن ذلك؛ ولهذا قال: ( وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ) أي:ولهذا نهاكم عن ذلك وزجرَكم عنه.

ثم قال تعالى: ( وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ) أي:وكما نهيتكم عن الدخول عليهن، كذلك لا تنظروا إليهن بالكلية، ولو كان لأحدكم حاجة يريد تناولها منهن فلا ينظر إليهن، ولا يسألهن حاجة إلا من وراء حجاب.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن مِسْعَر، عن موسى بن أبي كثير، عن مجاهد، عن عائشة قالت:كنت آكل مع النبي صلى الله عليه وسلم حَيْسًا في قَعْب، فمر عمر فدعاه، فأصابت إصبعه إصبعي، فقال:حَسِّ - أو:أوّه - لو أطاع فيكن ما رأتك عين. فنـزل الحجاب .

( ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ) أي:هذا الذي أمرتكم به وشرعته لكم من الحجاب أطهر وأطيب.

وقوله: ( وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا ) :قال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن أبي حماد، حدثنا مهْرَان، عن سفيان، عن داود بن أبي هند، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس في قوله تعالى: ( وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ ) قال:نـزلت في رَجُل هَمّ أن يتزوج بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم. قال رجل لسفيان:أهي عائشة؟ قال:قد ذكروا ذاك.

وكذا قال مقاتل بن حَيَّان، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وذكر بسنده عن السدي أن الذي عزم على ذلك طلحة بن عبيد الله، رضي الله عنه، حتى نـزل التنبيه على تحريم ذلك؛ ولهذا أجمع العلماء قاطبة على أن من توفي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه أنه يحرم على غيره تزويجها من بعده؛ لأنهن أزواجه في الدنيا والآخرة وأمهات المؤمنين، كما تقدم. واختلفوا فيمن دخل بها ثم طلقها في حياته هل يحل لغيره أن يتزوجها؟ على قولين، مأخذهما:هل دخلت هذه في عموم قوله: ( مِنْ بَعْدِهِ ) أم لا؟ فأما من تزوجها ثم طلقها قبل أن يدخل بها، فما نعلم في حلها لغيره - والحالة هذه - نـزاعا، والله أعلم.

وقال ابن جرير:حدثني [ محمد ] بن المثنى، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا داود، عن عامر؛ أن نبي الله صلى الله عليه وسلم مات وقد ملك قيلة بنت الأشعث - يعني:ابن قيس - فتزوجها عكرمة بن أبي جهل بعد ذلك، فشق ذلك على أبي بكر مشقة شديدة، فقال له عمر:يا خليفة رسول الله، إنها ليست من نسائه، إنها لم يُخَيّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يحجبها، وقد برأها الله منه بالردة التي ارتدت مع قومها. قال:فاطمأن أبو بكر، رضي الله عنهما وسكن .

وقد عظم الله تبارك وتعالى ذلك، وشدد فيه وتوعد عليه بقوله: ( إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا ) ، ثم قال: ( إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) أي:مهما تكنه ضمائركم وتنطوي عليه سرائركم، فإن الله يعلمه؛ فإنه لا تخفى عليه خافية، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [ غافر:19 ] .

 

لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ( 55 ) .

لما أمر تعالى النساء بالحجاب من الأجانب، بيَّن أن هؤلاءالأقارب لا يجب الاحتجاب منهم، كما استثناهم في سورة النور، عند قوله: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ إلى آخرها، [ النور:31 ] ، وفيها زيادات على هذه. وقد تقدم تفسيرها والكلام عليها بما أغنى عن إعادته. وقد سأل بعض السلف فقال:لِم لَمْ يذكر العم والخال في هاتين الآيتين؟ فأجاب عكرمة والشعبي:بأنهما لم يذكرا؛ لأنهما قد يصفان ذلك لبنيهما. قال ابن جرير:حدثني محمد بن المثنى، حدثنا حجاج بن مِنْهال، حدثنا حماد، حدثنا داود، عن الشعبي وعكرمة في قوله: ( لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ) قلت:ما شأن العم والخال لم يذكرا؟ قالا هما ينعتانهالأبنائهما. وكرها أن تضع خمارها عند خالها وعمها.

وقوله: ( وَلا نِسَائِهِنَّ ) :يعني بذلك:عَدَم الاحتجاب من النساء المؤمنات.

وقوله: ( وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ) يعني به:أرقاءَهن من الذكور والإناث، كما تقدم التنبيه عليه، وإيراد الحديث فيه .

قال سعيد بن المسيب:إنما يعني به:الإماء فقط. رواه ابن أبي حاتم.

وقوله: ( وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ) أي:واخشينه في الخلوة والعلانية، فإنه شهيد على كل شيء، لا تخفى عليه خافية، فراقبن الرقيب.

إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ( 56 )

قال البخاري:قال أبو العالية:صلاة الله:ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة:الدعاء. وقال ابن عباس:يصلون:يبرِّكون. هكذا علقه البخاري عنهما .

وقد رواه أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية كذلك. وروي مثله عن الربيع أيضا. وروى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس كما قاله سواء، رواهما ابن أبي حاتم.

وقال أبو عيسى الترمذي:وروي عن سفيان الثوري وغير واحد من أهل العلم قالوا:صلاة الرب:الرحمة، وصلاة الملائكة:الاستغفار.

ثم قال ابن أبي حاتم:حدثنا عمرو الأوْديّ، حدثنا وَكِيع، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، قال الأعمش عن عطاء بن أبي رباح ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ) قال:صلاته تبارك وتعالى:سُبّوح قدوس، سبقت رحمتي غضبي.

والمقصود من هذه الآية:أن الله سبحانه أخبر عباده بمنـزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى، بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين، وأن الملائكة تصلي عليه. ثم أمر تعالى أهل العالم السفلي بالصلاة والتسليم عليه، ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوي والسفلي جميعا.

وقد قال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن،حدثني أبي، عن أبيه، عن أشعث بن إسحاق، عن جعفر - يعني:ابن المغيرة - عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:أن بني إسرائيل قالوا لموسى عليه السلام:هل يصلي ربك؟ فناداه ربه:يا موسى، سألوك: « هل يصلي ربك؟ » فقل:نعم، إنما أصلي أنا وملائكتي على أنبيائي ورسلي. فأنـزل الله عز وجل، على نبيه صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) .

وقد أخبر أنه سبحانه وتعالى ، يصلي على عباده المؤمنين في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [ الأحزاب:41- 43 ] . وقال تعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [ البقرة:155- 157 ] . وفي الحديث: « إن الله وملائكته يصلون على ميامِن الصفوف » . وفي الحديث الآخر: « اللهم، صل على آل أبي أوفى » . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة جابر - وقد سألته أن يصلي عليها وعلى زوجها - « صلى الله عليك، وعلى زوجك . »

وقد جاءت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بالصلاة عليه، وكيفية الصلاة عليه، ونحن نذكر منها إن شاء الله تعالى ما تيسر، والله المستعان.

قال البخاري - عند تفسير هذه الآية - :حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيد، حدثنا أبي، عن مِسْعَر، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن كعب بن عُجْرَة قال:قيل:يا رسول الله، أما السلام عليك فَقد عرفناه، فكيف الصلاة؟ فقال: « قولوا:اللهم، صل على محمد، وعلى آل محمد، [ كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم، بارك على محمد وعلى آل محمد ] كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة ، عن الحكم قال:سمعت ابن أبي ليلى قال:لقيني كعب بن عُجْرَةَ فقال:ألا أهدي لك هدية؟ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا:يا رسول الله، قد علمنا - أو:عرفنا - كيف السلام ، عليك، فكيف الصلاة؟ قال: « قولوا:اللهم، صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على [ آل ] إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم، بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد » .

وهذا الحديث قد أخرجه الجماعة في كتبهم، من طرق متعددة، عن الحكم - وهو ابن عتبة زاد البخاري:وعبد الله بن عيسى، كلاهما عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، فذكره .

وقال ابن أبي حاتم :حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا هُشَيْم بن بُشَير، عن يزيد بن أبي زياد، حدثنا عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عُجْرَة قال:لما نـزلت: ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) . قال:قلنا:يا رسول الله، قد علمنا السلام فكيف الصلاة عليك؟ قال: « قولوا:اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم. إنك حميد مجيد » . وكان عبد الرحمن بن أبي ليلى يقول:وعلينا معهم.

ورواه الترمذي بهذه الزيادة .

ومعنى قولهم: « أما السلام عليك فقد عرفناه » :هو الذي في التشهد الذي كان يعلمهم إياه، كما كان يعلمهم السورة من القرآن، وفيه: « السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته » .

حديث آخر:قال البخاري:حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا الليث، عن ابن الهاد، عن عبد الله بن خباب، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، قال:قلنا:يا رسول الله، هذا السلام فكيف نصلي عليك:قال: « قولوا:اللهم صل على محمد عبدك ورسولك، كما صليت على آل إبراهيم. وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم » . [ وفي رواية ] :قال أبو صالح، عن الليث: « على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم » .

حدثنا إبراهيم بن حمزة، حدثنا ابن أبى حازم والدّرَاوَرْدي، عن يزيد - يعني:ابن الهاد - قال: « كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وآل محمد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم » .

وأخرجه النسائي وابن ماجة ، من حديث ابن الهاد،به .

حديث آخر:قال الإمام أحمد:قرأت على عبد الرحمن:مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، عن عمرو بن سُلَيم أنه قال:أخبرني أبو حميد الساعدي أنهم قالوا:يا رسول الله، كيف نصلي عليك؟ قال: « قولوا:اللهم » صل على محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على [ آل ] إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد « . »

وقد أخرجه بقية الجماعة، سوى الترمذي، من حديث مالك، به .

حديث آخر:قال مسلم:حدثنا يحيى التميمي قال:قرأت على مالك، عن نُعَيم بن عبد الله المُجمَّر، أخبرني محمد بن عبد الله بن زيد الأنصاري - قال:وعبد الله بن زيد هو الذي كان أُرِيَ النداء بالصلاة - أخبره عن أبي مسعود الأنصاري - قال:أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن في مجلس سعد بن عُبَادة، فقال له بَشير بن سعد:أمرنا الله أن نصلي عليك [ يا رسول الله ] ، فكيف نصلي عليك؟ قال:فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « قولوا:اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، والسلام كما قد عَلِمْتُمْ » .

وقد رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي من حديث مالك، به . وقال الترمذي:حسن صحيح.

وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن خُزَيمة، وابن حبّان، والحاكم في مستدركه، من حديث محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربه، عن أبي مسعود البدري أنهم قالوا:يا رسول الله، أما السلام فقد عرفناه، فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا؟ فقال: « قولوا:اللهم،صَل على محمد وعلى آل محمد... » وذكره .

ورواه الشافعي، رحمه الله، في مسنده، عن أبي هريرة، بمثله . ومن هاهنا ذهب الشافعي، رحمه الله، إلى أنه يجب على المصلي أن يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير، فإن تركه لم تصح صلاته.وقد شَرَع بعض المتأخرين من المالكية وغيرهم يُشنع على الإمام الشافعي في اشتراطه ذلك في الصلاة، ويزعم أنه قد تفرد بذلك، وحكى الإجماع على خلافه أبو جعفر الطبري والطحاوي والخطابي وغيرهم، فيما نقله القاضي عياض. وقد تَعَسّف القائل في رده على الشافعي، وتكلف في دعواه الإجماع في ذلك، [ وقال ما لم يحط به علما ] ، فإنه قد روينا وجوب ذلك والأمر بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة كما هو ظاهر الآية، ومفسر بهذا الحديث عن جماعة من الصحابة، منهم:ابن مسعود، وأبو مسعود البدري، وجابر بن عبد الله، ومن التابعين:الشعبي، وأبو جعفر الباقر، ومقاتل بن حيان. وإليه ذهب الشافعي، لا خلاف عنه في ذلك ولا بين أصحابه أيضا، وإليه ذهب [ الإمام ] أحمد أخيرا فيما حكاه عنه أبو زُرْعَة الدمشقي، به. وبه قال إسحاق بن راهويه، والفقيه الإمام محمد بن إبراهيم المعروف بابن الموّاز المالكي، رحمهم الله، حتى إن بعض أئمة الحنابلة أوجب أن يقال في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كما علمهم أن يقولوا لما سألوه، وحتى إن بعض أصحابنا أوجب الصلاة على الآل ممن حكاه البَنْدَنيجِيّ، وسُلَيم الرازي، وصاحبه نصر بن إبراهيم المقدسي، ونقله إمام الحرمين وصاحبه الغزالي قولا عن الشافعي. والصحيح أنه وجه، على أن الجمهور على خلافه، وحكوا الإجماع على خلافه، وللقول بوجوبه ظواهر الحديث، والله أعلم.

والغَرَض أن الشافعي، رحمه الله، لقوله بوجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة - سَلَفٌ وَخَلَفٌ كما تقدم، لله الحمد والمنة، فلا إجماع على خلافه في هذه المسألة لا قديما ولا حديثا، والله أعلم.

ومما يؤيد ذلك:الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي - وصححه - والنسائي وابن خزيمة، وابن حبان في صحيحيهما، من رواية حَيْوة بن شُرَيْح المصري، عن أبي هانئ حميد بن هانئ، عن عمرو بن مالك أبي علي الجَنْبي ، عن فضالة بن عبيد، رضي الله عنه، قال:سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو في صلاته، لم يمجد الله ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « عَجل هذا » . ثم دعاه فقال له ولغيره: « إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله، عز وجل، والثناء عليه، ثم ليصل على النبي ثم ليدعُ [ بعد ] بما شاء » .

وكذا الحديث الذي رواه ابن ماجه، من رواية عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد الساعدي، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه، ولا صلاة لمن لم يصل على النبي، ولا صلاة لمن لم يحب الأنصار . »

ولكن عبد المهيمن هذا متروك. وقد رواه الطبراني من رواية أخيه « أبي بن عباس » ، ولكن في ذلك نظر . وإنما يعرف من رواية « عبد المهيمن » ، والله أعلم.

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا إسماعيل، عن أبي داود الأعمى، عن بُرَيدة قال:قلنا:يا رسول الله، قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: « قولوا:اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على محمد وعلى آل محمد، كما جعلتها على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد » .

أبو داود الأعمى اسمه:نفيع بن الحارث، متروك .

حديث آخر موقوف:رويناه من طريق سعيد بن منصور وزيد بن الحباب ويزيد بن هارون، ثلاثتهم عن نوح بن قيس:حدثنا سلامة الكندي:أن عليا، رضي الله عنه، كان يعلم الناس هذا الدعاء:اللهم داحي المدْحُوَّات، وبارئ المسموكات، وَجَبَّار القلوب على فطْرَتها شقيها وسعيدها. اجعل شرائف صلواتك، ونوامي بركاتك، ورأفة تحننك، على محمد عبدك ورسولك، الخاتم لما سبق، والفاتح لما أغلق، والمعلن الحق بالحق، والدامغ جيشات الأباطيل، كما حُمِّل فاضطلع بأمرك لطاعتك، مستوفزا في مرضاتك، غير نَكل في قَدَم، ولا وهن في عزم، واعيا لوحيك، حافظا لعهدك، ماضيا على نفاذ أمرك، حتى أورى قبسا لقابس، آلاء الله تصل بأهله أسبابه، به هديت القلوب بعد خوضات الفتن والإثم، [ وأقام ] مُوضحات الأعلام، ومُنِيرات الإسلام ونائرات الأحكام، فهو أمينك المأمون، وخازن علمك المخزون، وشهيدك يوم الدين، وبَعيثُك نعمة، ورسولك بالحق رحمة. اللهم افسح له مُفسحَات في عدلك، واجزه مضاعفات الخير من فضلك. مهنَّآت له غير مكدرات، منفوز ثوابك المعلول، وجزيل عطائك المجمول. اللهم، أعل على بناء البانين بنيانه وأكرم مثواه لديك ونـزله. وأتمم له نوره، واجزه من ابتعاثك له مقبول الشهادة، مرضي المقالة، ذا منطق عدل، وخُطَّة فصل، وحجة وبرهان عظيم .

هذا مشهور من كلام علي، رضي الله عنه، وقد تكلم عليه ابن قتيبة في مشكل الحديث، وكذا أبو الحسين أحمد بن فارس اللغوي في جزء جمعه في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن في إسناده نظرا.

قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي:سلامة الكندي هذا ليس بمعروف، ولم يدرك عليا . كذا قال. وقد روى الحافظ أبو القاسم الطبراني هذا الأثر عن محمد بن علي الصائغ، عن سعيد بن منصور، حدثنا نوح بن قيس، عن سلامة الكندي قال:كان علي، رضي الله عنه، يعلمنا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: « اللهم، داحي المَدْحُوّات » وذكره .

حديث آخر موقوف:قال ابن ماجه: [ حدثنا الحُسَين بن بَيَان ] ، حدثنا زياد بن عبد الله، حدثنا المسعودي، عن عون بن عبد الله، عن أبي فَاخِتة، عن الأسود بن يزيد ، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال:إذا صليتم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنوا الصلاة عليه؛ فإنكم لا تدرون لعل ذلك يُعْرَض عليه. قال:فقالوا له:فَعَلّمنا. قال:قولوا:اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وخاتم النبيين، محمد عبدك ورسولك، إمام الخير وقائد الخير، ورسول الرحمة. اللهم ابعثه مقاما محمودا يَغْبِطُه به الأولون والآخرون، اللهم صل على محمد [ وعلى آل محمد ] ، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

وهذا موقوف، وقد روى إسماعيل القاضي عن عبد الله بن عمرو - أو:عمر - على الشك من الراوي قريبا من هذا .

حديث آخر:قال قال ابن جرير:حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا أبو إسرائيل، عن يونس بن خَبَّاب قال:خطبنا بفارس فقال: ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) ، فقال:أنبأني من سمع ابن عباس يقول:هكذا أنـزل. فقلنا - أو:قالوا - يا رسول الله، عَلمنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك؟ فقال: « اللهم، صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وارحم محمدا وآل محمد، كما رحمت آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، [ وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، إنك حميد مجيد ] . »

فيستدل بهذا الحديث من ذهب إلى جواز الترحم على النبي صلى الله عليه وسلم، كما هو قول الجمهور:ويعضده حديث الأعرابي الذي قال:اللهم، ارحمني ومحمدا، ولا ترحم معنا أحدا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لقد حجرت واسعا » .

وحكى القاضي عياض عن جمهور المالكية منعه، قال:وأجازه أبو محمد بن أبي زيد.

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر، أخبرنا شعبة، عن عاصم بن عبيد الله قال:سمعت عبد الله بن عامر بن ربيعة يحدث عن أبيه قال:سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « مَنْ صلى علي صلاة لم تزل الملائكة تصلي عليه ما صلى علي، فَلْيُقِلَّ عبد من ذلك أو ليكثر » .

ورواه ابن ماجه، من حديث شعبة، به .

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا أبو سلمة منصور بن سلمة الخزاعي، ويونس - هو ابن محمد - قالا حدثنا ليث، عن يزيد بن الهاد، عن عمرو بن أبي عمرو، عن أبي الحويرث، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن عبد الرحمن بن عوف قال:خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعته حتى دخل نخلا فسجد فأطال السجود، حتى خفت - أو:خشيت - أن يكون الله قد توفاه أو قبضه. قال:فجئت أنظر، فرفع رأسه فقال: « ما لك يا عبد الرحمن؟ » قال:فذكرت ذلك له فقال: « إن جبريل، عليه السلام، قال لي:ألا أبشرك؟ إن الله، عز وجل، يقول:مَنْ صلى عليك صليت عليه، ومَنْ سَلَّمَ عليك سلمتُ عليه » .

طريق أخرى:قال الإمام أحمد:حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا سليمان بن بلال، حدثنا عمرو بن أبي عمرو، من عبد الواحد بن محمد بن عبد الرحمن بن عوف، عن عبد الرحمن بن عوف قال:خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوجه نحو صدقته، فدخل فاستقبل القبلة، فخر ساجدا، فأطال السجود، حتى ظننت أن الله قد قبض نفسه فيها، فدنوت منه ثم جلست، فرفع رأسه فقال: « مَنْ هذا؟ » فقلت:عبد الرحمن. قال: « ما شأنك؟ » قلت:يا رسول الله، سجدت سجدة خشيت أن [ يكون ] الله، عز وجل، قبض نفسك فيها. فقال: « إن جبريل أتاني فبشرني أن الله، عز وجل، يقول لك:من صلى عليك صليت عليه،ومن سلم عليك سلمت عليه - فسجدتُ لله عز وجل، شكرا » .

حديث آخر:قال [ الحافظ ] أبو القاسم الطبراني:حدثنا محمد بن عبد الرحيم بن بَحير بن عبد الله بن معاوية بن بحير بن ريسان، [ حدثنا عمرو بن الربيع بن طارقة ] ، حدثنا يحيى بن أيوب، حدثنا عبد الله بن عمر، عن الحكم بن عتيبة ، عن إبراهيم النَّخَعي، عن الأسود بن يزيد، عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال:خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة فلم يجد أحدا يتبعه، ففزع عمر، فأتاه بِمطْهَرة من خلفه، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم ساجدا في مَشربة ، فتنحّى عنه من خلفه حتى رفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه، فقال: « أحسنت يا عمر حين وجدتني ساجدا فتنحيت عني، إن جبريل أتاني فقال:من صلى عليك من أمتك واحدة، صلى الله عليه عشر صلوات ، ورفعه عشر درجات » .

وقد اختار هذا الحديث الحافظ الضياء المقدسي في كتابه « المستخرج على الصحيحين » .

وقد رواه إسماعيل القاضي، عن القعنبي، عن سلمة بن وَرْدان، عن أنس، عن عمر بنحوه .

ورواه أيضا عن يعقوب بن حميد، عن أنس بن عياض، عن سلمة بن وَرْدان، عن مالك بن أوس بن الحدثان، عن عمر بن الخطاب، بنحوه .

حديث آخر:قال أبو عيسى الترمذي:حدثنا بُنْدَار، حدثنا محمد بن خالد بن عَثْمَةَ، حدثني موسى بن يعقوب الزَّمْعِيّ، حدثني عبد الله بن كَيْسَان؛ أن عبد الله بن شداد أخبره، عن عبد الله بن مسعود؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة » .

تفرد بروايته الترمذي، رحمه الله، ثم قال:هذا حديث حسن غريب .

حديث آخر:قال إسماعيل القاضي:حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، عن يعقوب بن زيد بن طلحة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أتاني آت من ربي فقال لي:ما من عبد يصلي عليك صلاة إلا صلى الله عليه بها عشرًا » . فقام رجل فقال:يا رسول الله، ألا أجعل نصف دعائي لك؟ قال: « إن شئت » . قال:ألا أجعل ثلثي دعائي لك؟ قال: « إن شئت » . قال:ألا أجعل دعائي لك كله؟ قال: « إذن يكفيك الله هم الدينا وهم الآخرة » . فقال شيخ - كان بمكة، يقال له:مَنِيع - لسفيان:عمن أسنده؟ قال:لا أدري .

حديث آخر:قال إسماعيل القاضي:حدثنا سعيد بن سَلام العطار، حدثنا سفيان - يعني:الثوري - عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الطفيل بن أبي بن كعب، عن أبيه قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في جوف الليل فيقول: « جاءت الراجفة، تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه » . قال أبي:يا رسول الله، إني أصلي من الليل، أفأجعل لك ثلث صلاتي؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الشطر » . قال:أفأجعل لك شطر صلاتي؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الثلثان » . قال أفأجعل لك صلاتي كلها؟ قال: « إذن يغفر الله ذنبك كله » .

وقد رواه الترمذي بنحوه فقال:حدثنا هَنّاد، حدثنا قَبِيصة، حدثنا سفيان، عن عبد الله بن محمد بن عَقِيل، عن الطفيل بن أبي بن كعب، عن أبيه قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال: « يا أيها الناس، اذكروا الله، اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه » . قال أبي:قلت:يا رسول الله، إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: « ما شئت » . قلت:الربع؟ قال: « ما شئت، فإن زدت فهو خير لك » . قلت:فالنصف؟ قال: « ما شئت، فإن زدت فهو خير لك » . قلت:فالثلثين؟ قال: « ما شئت، فإن زدت فهو خير لك » . قلت:أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: « إذن تكفى همّك، ويغفر لك ذنبك » .

ثم قال:هذا حديث حسن .

وقال الإمام أحمد:حدثنا وَكِيع، حدثنا سفيان، عن عبد الله بن محمد بن عَقِيل، عن الطفيل بن أبي، عن أبيه قال:قال رجل:يا رسول الله، أرأيت إن جعلتُ صلاتي كلها عليك؟ قال: « إذن يكفيك الله ما أهَمَّك من دنياك وآخرتك » .

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا أبو كامل، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن سليمان مولى الحسن بن علي، عن عبد الله بن أبي طلحة، عن أبيه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ذات يوم، والسرور يرى في وجهه، فقالوا:يا رسول الله، إنا لنرى السرور في وجهك. فقال: « إنه أتاني الملك فقال:يا محمد، أما يرضيك أن ربك، عز وجل، يقول:إنه لا يصلي عليك أحد من أمتك إلا صلَّيت عليه عشرًا، ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلمت عليه عشرا؟ قال:بلى » .

ورواه النسائي من حديث حماد بن سلمة، به . وقد رواه إسماعيل القاضي، عن إسماعيل ابن أبي أويس، عن أخيه، عن سليمان بن بلال، عن عبيد الله بن عمر، عن ثابت، عن أبي طلحة، بنحوه ، .

طريق أخرى:قال [ الإمام ] أحمد:حدثنا سُرَيْج ، حدثنا أبو مَعْشَر، عن إسحاق بن كعب بن عُجْرَة، عن أبي طلحة الأنصاري قال:أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما طيب النفس، يُرى في وجهه البشر، قالوا:يا رسول الله، أصبحت اليوم طيب النفس، يُرى في وجهك البشر؟ قال: « أجل، أتاني آتٍ من ربي، عز وجل، فقال:مَنْ صلى عليك من أمتك صلاة، كتب الله له بها عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، ورد عليه مثلها » .

وهذا أيضا إسناد جيد، ولم يخرجوه.

حديث آخر:روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، من حديث إسماعيل بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه؛ عن أبي هريرة،رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من صلى عَلَيّ واحدة، صلى الله عليه بهاعشرا » .

قال الترمذي:هذا حديث حسن صحيح، وفي الباب عن عبد الرحمن بن عوف، وعامر بن ربيعة، وعمار، وأبي طلحة، وأنس، وأبي بن كعب .

وقال الإمام أحمد:حدثنا حسين بن محمد، حدثنا شريك، عن ليث، عن كعب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « صلوا علي؛ فإنها زكاة لكم. وسلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها درجة في أعلى الجنة، لا ينالها إلا رجل، وأرجو أن أكون أنا هو » . تفرد به أحمد ، وقد رواه البزار من طريق مجاهد، عن أبى هريرة، بنحوه فقال:حدثنا محمد بن إسحاق البَكَّالي، حدثنا عثمان بن سعيد، حدثنا داود بن عُلَيَّة، عن ليث، عن مجاهد، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « صلوا علي؛ فإنها زكاة لكم، وسلوا الله لي الدرجة الوسيلة من الجنة » فسألناه - أو:أخبرنا - فقال: « هي درجة في أعلى الجنة، وهي لرجل، وأنا أرجو أن أكون ذلك الرجل » .

في إسناده بعض من تُكُلِّم فيه .

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا يحيى بن إسحاق، حدثنا ابن لَهِيعة، [ عن عبد الله بن هبيرة ] ، عن عبد الرحمن بن مريج الخولاني، سمعت أبا قيس - مولى عمرو بن العاص - سمعت عبد الله بن عمرو يقول:مَنْ صلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة، صلى الله عليه وملائكته بها سبعين صلاة، فَلْيُقِلَّ عبد من ذلك أو ليكثر. وسمعت عبد الله بن عمرو يقول:خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما كالمودع فقال: « أنا محمد النبي الأمي - قاله ثلاث مرات - ولا نبي بعدي، أوتيت فواتح الكلام وخواتمه وجوامعه، وعَلمتُ كم خزنة النار وحملة العرش، وتجوز بي، عُوفيت وعوفيت أمتي، فاسمعوا وأطيعوا ما دمت فيكم، فإذا ذُهِب بي فعليكم بكتاب الله، أحلوا حلاله، وحرموا حرامه » .

حديث آخر:قال أبو داود الطيالسي:حدثنا أبو سَلَمة الخراساني، حدثنا أبو إسحاق، عن أنس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من ذُكرت عنده فَلْيصلّ علي، ومَنْ صَلَّى علي مرة واحدة صلى الله عليه عشرا » .

ورواه النسائي في « اليوم والليلة » ، من حديث أبي داود الطيالسي، عن أبي سلمة - وهو المغيرة بن مسلم الخراساني - عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السَّبِيعي، عن أنس، به .

وقال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن فضيل، حدثنا يونس بن عمرو - يعني:يونس بن أبي إسحاق - عن بُرَيد بن أبي مريم، عن أنس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مَنْ صلى علي صلاة واحدة، صلى الله عليه عشر صلوات، وحطَّ عنه عشر خطيئات » .

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الملك بن عمرو وأبو سعيد [ قالا ] :حدثنا سليمان بن بلال، عن عمارة بن غَزِيَّة ، عن عبد الله بن الحسين، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « البخيل من ذُكرت عنده، ثم لم يصل علي » . وقال أبو سعيد: « فلم يصل علي » .

ورواه الترمذي من حديث سليمان بن بلال، ثم قال:هذا حديث حسن غريب صحيح .

ومن الرواة مَنْ جعله من مسند « الحسين بن علي » ، ومنهم مَنْ جعله من مسند « علي » نفسه.

حديث آخر:قال إسماعيل القاضي:حدثنا حجاج بن مِنْهال، حدثنا حماد بن سلمة، عن معبد بن هلال العَنـزي، حدثنا رجل من أهل دمشق، عن عوف بن مالك، عن أبي ذر، رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن أبخل الناس من ذُكرت عنده فلم يصل علي » .

حديث آخر مرسل:قال إسماعيل:وحدثنا سليمان بن حَرب، حدثنا جرير بن حازم، سمعت الحسن يقول:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « بحسب امرئ من البخل أن أذْكر عنده فلا يُصَلِّي علي » ، صلوات الله عليه.

حديث آخر:قال الترمذي:حدثناأحمد بن إبراهيم الدورقي، حدثنا رِبْعي بن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُرِي، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « رغم أَنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي. [ ورغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان، ثم انسلخقبل أن يغفر له ] ، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة » . ثم قال:حسن غريب .

قلت:وقد رواه البخاري في الأدب، عن محمد بن عبيد الله، حدثنا ابن أبي حازم، عن كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة مرفوعا، بنحوه . ورويناه من حديث محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبى هريرة، به. قال الترمذي:وفي الباب عن جابر وأنس.

قلت:وابن عباس، وكعب بن عُجْرَة، وقد ذكرت طرق هذا الحديث في أول كتاب الصيام وعند قوله تعالى: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا [ الإسراء:23 ] .

وهذا الحديث والذي قبله دليل على وجوب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كلما ذكر، وهو مذهب طائفة من العلماء [ منهم الطحاوي والحليمي ] ، ويتقوى بالحديث الآخر الذي رواه ابن ماجه:

حدثنا جبُارة بن المغَلِّس، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من نسي الصلاة عَلَيَّ خَطئ طريق الجنة » .

جُبَارة ضعيف. ولكن رواه إسماعيل القاضي من غير وجه، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من نسي الصلاةعليّ خَطئ طريق الجنة » . وهذا مرسل يتقوى بالذي قبله [ والله أعلم ] .

وذهب آخرون إلى أنه تجب الصلاة في المجلس مرة واحدة، ثم لا تجب في بقية ذلك المجلس، بل تستحب. نقله الترمذي عن بعضهم، ويتأيد بالحديث الذي رواه الترمذي:

حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان،عن صالح - مولى التَّوْءَمة - عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه، ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم تِرَةٌ، فإن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم » .

تفرد به الترمذي من هذا الوجه. ورواه الإمام أحمد عن حجاج ويزيد بن هارون، كلاهما عن ابن أبي ذئب، عن صالح - مولى التوءمة - عن أبي هريرة، مرفوعا مثله. ثم قال الترمذي:هذا حديث حسن.

وقد رُوي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، من غير وجه، وقد رواه إسماعيل القاضي من حديث شعبة، عن سليمان، عن ذَكْوَان، عن أبي سعيد قال: « ما من قوم يقعدون ثم يقومون ولا يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم، إلا كان عليهم حسرة، وإن دخلوا الجنة لما يرون [ من ] الثواب » .

وحكي عن بعضهم أنه إنما تجب الصلاة عليه، عليه السلام، في العمر مرة واحدة، امتثالا لأمر الآية، ثم هي مستحبة في كل حال، وهذا هو الذي نصره القاضي عياض بعدما حكى الإجماع على وجوب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في الجملة. قال:وقد حكى الطبراني أن محمل الآية على الندب، وادعى فيه الإجماع. قال:ولعله فيما زاد على المرة، والواجب منه مرة كالشهادة له بالنبوة، وما زاد على ذلك فمندوب مُرَغَّب فيه من سنن الإسلام، وشعار أهله.

قلت:وهذا قول غريب، فإنه قد ورد الأمر بالصلاة عليه في أوقات كثيرة، فمنها واجب، ومنها مستحب على ما نبينه.

فمنه:بعد النداء للصلاة؛ للحديث الذي رواه الإمام أحمد:

حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا حيوة، حدثنا كعب بن علقمة، أنه سمع عبد الرحمن بن جبير يقول:إنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص يقول:إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إذا سمعتم مؤذنا فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي؛ فإنه من صلى عَليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا لي الوسيلة، فإنها منـزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة » .

وأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، من حديث كعب بن علقمة

طريق أخرى:قال إسماعيل القاضي:حدثنا محمد بن أبي بكر، حدثنا عمرو بن علي، عن أبي بكر الجُشَمي، عن صفوان بن سليم، عن عبد الله بن عمرو قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من سأل الله لي الوسيلة، حقت عليه شفاعتي يوم القيامة » .

حديث آخر:قال إسماعيل القاضي:حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا سعيد بن زيد، عن ليث، عن كعب - هو كعب الأحبار - عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « صلوا عَليَّ، فإن صلاتكم عليّ زكاة لكم، وسلوا الله لي الوسيلة » . قال:فإما حَدّثنا وإما سَألناه، فقال: « الوسيلة أعلى درجة في الجنة، لا ينالها إلا رجل، وأرجو أن أكون ذلك الرجل » .

ثم رواه عن محمد بن أبي بكر، عن معتمر، عن ليث - وهو ابن أبي سليم - به . وكذا الحديث الآخر:

قال الإمام أحمد:حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا بكر بن سوادة، عن زياد بن نعيم، عن وَفاء الحضرمي، عن رُوَيْفع بن ثابت الأنصاري؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من صلى على محمد وقال:اللهم، أنـزله المقعد المقرب عندك يوم القيامة، وجبت له شفاعتي » .

وهذا إسناد لا بأس به، ولم يخرجوه .

أثر آخر قال إسماعيل القاضي:حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، حدثني مَعْمَر، عن ابن طاوس، عن أبيه، سمعت ابن عباس يقول:اللهم تقبل شفاعة محمد الكبرى، وارفع درجته العليا، وأعطه سُؤْلَه في الآخرة والأولى، كما آتيت إبراهيم وموسى، عليهما السلام. إسناد جَيّد قوي صحيح .

ومن ذلك:عند دخول المسجد والخروج منه:للحديث الذي رواه الإمام أحمد :

حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا ليث بن أبي سليم، عن عبد الله بن الحسن ، عن أمه فاطمة بنت الحسين، عن جدته [ فاطمة ] بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم وقال: « اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك » . وإذا خرج صلى على محمد وسلم، ثم قال: « اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك » .

وقال إسماعيل القاضي:حدثنا يحيى بن عبد الحميد، حدثنا سفيان بن عمر التميمي، عن سليمان الضَّبِّيّ، عن علي بن الحسين قال:قال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه :إذا مررتم بالمساجد فصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم . وأما الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فقد قدمنا الكلام عليها في التشهد الأخير، ومَنْ ذهب إلى ذلك من العلماء مع الشافعي، رحمه الله . وأما التشهد الأول فلا تجب فيه قولا واحدا، وهل تستحب؟ على قولين للشافعي.

ومن ذلك الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في صلاة الجنازة:فإن السنة أن يقرأ في التكبيرة الأولى فاتحة الكتاب، وفي الثانية أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الثالثة يدعو للميت، وفي الرابعة يقول:اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده.

قال الشافعي، رحمه الله:حدثنا مُطَرَّف بن مازن، عن مَعْمَر، عن الزهري:أخبرني أبو أمامة بن سهل بن حُنَيف أنه أخبره رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سرا في نفسه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويخلص الدعاء للجنازة، وفي التكبيرات لا يقرأ في شيء منها، ثم يسلم سرا في نفسه

ورواه النسائي، عن أبي أمامة نفسه أنه قال:من السنة، فذكره .

وهذا من الصحابي في حكم المرفوع على الصحيح.

ورواه إسماعيل القاضي، عن محمد بن المثنى، عن عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري، عن أبي أمامة بن سهل، عن سعيد بن المسيب أنه قال:السنة في الصلاة على الجنازة ... فذكره .

وهكذا رُوي عن أبي هريرة، وابن عمر، والشعبي.

ومن ذلك :في صلاة العيد:قال إسماعيل القاضي :حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام الدَّسْتَوَائي، حدثنا حَمَّاد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن علقمة:أن ابن مسعود وأبا موسى وحذيفة خرج عليهم الوليد بن عقبة يوما قبل العيد ، فقال لهم:إن هذا العيد قد دنا، فكيف التكبير فيه؟ قال عبد الله:تبدأ فتكبر تكبيرة تفتتح بها الصلاة، وتحمد ربك وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم تدعو، وتكبر وتفعل مثل ذلك، ثم تكبر وتفعل مثل ذلك، ثم تكبر وتفعل مثل ذلك، ثم تقرأ، ثم تكبر وتركع، ثم تقوم فتقرأ وتحمد ربك وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم تدعو وتكبر، وتفعل مثل ذلك، ثم تركع. فقال حذيفة وأبو موسى:صدق أبو عبد الرحمن. إسناد صحيح

ومن ذلك:أنه يُستَحَبّ ختم الدعاء بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم قال الترمذي:

حدثنا أبو داود، أخبرنا النضر بن شميل ، عن أبي قُرّة الأسدي، عن سعيد بن المسيَّب، عن عمر بن الخطاب قال:الدعاء موقوف بين السماء والأرض، لا يصعد حتى تصلي على نبيك .

وهكذا رواه أيوب بن موسى، عن سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب، قوله. ورواه معاذ بن الحارث، عن أبي قرة، عن سعيد بن المسيب، عن عمر مرفوعا . وكذا رواه رَزِين بن معاوية في كتابه مرفوعا، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « الدعاء موقوف بين السماء والأرض، لا يصعد حتى يصلى علي، فلا تجعلوني كَغُمَر الراكب، صلوا علي أول الدعاء وأوسطه وآخره » .

وهذه الزيادة إنما تروى من رواية جابر بن عبد الله في مسند الإمام عبد بن حُميد الكَشي [ حيث ] قال:حدثنا جعفر بن عون، أخبرنا موسى بن عُبَيدة، عن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه قال:قال جابر:قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تجعلوني كقدح الراكب، إذا علق تعاليقه أخذ قدحه فملأه من الماء، فإن كان له حاجة في الوضوء توضأ، وإن كان له حاجة في الشرب شرب وإلا أهراق ما فيه، اجعلوني في أول الدعاء، وفي، وسط الدعاء، وفي آخر الدعاء » . فهذا حديث غريب، وموسى بن عبيدة ضعيف الحديث .

ومن [ آكد ] ذلك:دعاء القنوت:لما رواه الإمام أحمد وأهل السنن، وابن خزيمة ، وابن حبَّان، والحاكم، من حديث أبي الحورَاء ، عن الحسن بن علي، رضي الله عنهما، قال:علَّمَني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر: « اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يَذِلّ من واليت تباركت [ ربنا ] وتعاليت » .

وزاد النسائي في سننه بعد هذا:وصلى الله على النبي محمد.

ومن ذلك:أنه يستحب الإكثار من الصلاة عليه [ في ] يوم الجمعة وليلة الجمعة:قال الإمام أحمد:حدثنا حسين بن علي الجَعْفِي، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن أبي الأشعث الصنعاني ، عن أوس بن أوس الثقفي، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي » . قالوا:يا رسول الله، وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمتْ؟ - يعني:وقد بليت - قال: « إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء » .

ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، من حديث حسين بن علي الجعفي . وقد صحح هذا الحديث ابن خزيمة وابن حبان والدارقطني، والنووي في الأذكار.

حديث آخر:قال أبو عبد الله بن ماجه:حدثنا عمرو بن سَوَّاد المصري ، حدثنا عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد بن أيمن ، عن عُبَادة بن نُسَيّ، عن أبي الدرداء قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أكثروا الصلاة عليّ يوم الجمعة؛ فإنه مشهود تشهده الملائكة. وإن أحدا لا يصلي علي إلا عُرضت عَلَيّ صلاته حتى يفرغ منها » . قال:قلت:وبعد الموت؟ قال: « [ وبعد الموت ] ، إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء » [ فنبي الله حي يرزق ] .

هذا حديث غريب من هذا الوجه، وفيه انقطاع بين عُبادة بن نَسي وأبي الدرداء، فإنه لم يدركه ، والله أعلم.

وقد روى البيهقي من حديث أبي أمامة وأبي مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر بالإكثار من الصلاة عليه ليلة الجمعة ويوم الجمعة ، ولكن في إسنادهما ضعف، والله أعلم. وروي مرسلا عن الحسن البصري، فقال إسماعيل القاضي:

حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا جرير بن حازم، سمعت الحسن - هو البصري - يقول:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تأكل الأرض جَسَدَ من كَلّمه روح القدس » . مرسل حسن .

وقال الشافعي:أخبرنا إبراهيم بن محمد، أخبرنا صفوان بن سليم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إذا كان يوم الجمعة وليلة الجمعة، فأكثروا الصلاة علي » . هذا مرسل .

وهكذا يجب على الخطيب أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على المنبر في الخطبتين، ولا تصح الخطبتان إلا بذلك؛ لأنها عبادة، وذكر الله فيها شرط ، فوجب ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فيها كالأذان والصلاة. هذا مذهب الشافعي وأحمد، رحمهما الله.

ومن ذلك:أنه يستحب الصلاة والسلام عليه عند زيارة قبره، صلوات الله وسلامه عليه:قال أبو داود:

حدثنا ابن عوف - هو محمد - حدثنا المقري، حدثنا حَيْوَة، عن أبي صخر حميد بن زياد، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ما من أحد يسلم علي إلا رَدّ الله علي روحي، حتى أرد عليه السلام » .

تفرد به أبو داود، وصححه النووي في الأذكار . ثم قال أبو داود:

حدثنا أحمد بن صالح قال:قرأت على عبد الله بن نافع، أخبرني ابن أبي ذئب، عن سعيد المَقْبُرِي، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تجعلوا بيوتكم قُبُورًا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم » .

تفرد به أبو داود أيضا . وقد رواه الإمام أحمد عن سُرَيْج، عن عبد الله بن نافع - وهو الصائغ - به . وصححه النووي أيضا. وقد روي من وجه آخر عن علي، رضي الله عنه. قال القاضي إسماعيل بن إسحاق في كتابه « فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم » :

حدثنا إسماعيل بن أبي أُوَيْس، حدثنا جعفر بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب [ عمن أخبره ] من أهل بيته، عن علي بن الحسين بن علي:أن رجلا كان يأتي كل غداة فيزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويصلي عليه، ويصنع من ذلك ما اشتهر عليه علي بن الحسين، فقال له علي بن الحسين:ما يحملك على هذا؟ قال:أحب السلام على النبي صلى الله عليه وسلم. فقال له علي بن الحسين:هل لك أن أحدثك حديثا عن أبي؟ قال:نعم. فقال له علي بن الحسين:أخبرني أبي، عن جدي أنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تجعلوا قبري عيدا، ولا تجعلوا بيوتكم قبورا، وصلوا علي وسلموا حيثما كنتم فتبلغني صلاتكم وسلامكم » .

في إسناده رجل مبهم لم يُسَمَّ وقد رُوي من وجه آخر مرسلا قال عبد الرزاق في مصنفه، عن الثوري، عن ابن عجلان، عن رجل - يقال له:سهيل - عن الحسن بن الحسن بن علي؛ أنه رأى قوما عند القبر فنهاهم، وقال:إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا تتخذوا قبري عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم قبورا، وصلوا علي حيثما كنتم؛ فإن صلاتكم تبلغني » . فلعله رآهم يسيئون الأدب برفع أصواتهم [ فوق الحاجة ] ، فنهاهم.

وقد روي أنه رأى رجلا ينتاب القبر فقال:يا هذا، ما أنت ورجل بالأندلس منه إلا سواء، أي:الجميع يبلغه، صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين.

وقال الطبراني في معجمه الكبير:حدثنا أحمد بن رِشْدين المصري، حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا محمد بن جعفر، أخبرني حميد بن أبي زينب، عن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، عن أبيه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « صلوا علي حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني » .

ثم قال الطبراني:حدثنا العباس بن حمدان الأصبهاني، حدثنا شعيب بن عبد الحميد الطحان، أخبرنا يزيد بن هارون عن شيبان، عن الحكم بن عبد الله بن خطاف ، عن أم أنيس بنت الحسن بن علي، عن أبيها قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أرأيت قول الله، عز وجل: ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي ) ؟ » فقال: « إن هذا هو المكتوم، ولولا أنكم سألتموني عنه لما أخبرتكم، إن الله وكل بي ملكين لا أُذْكَرُ عند عبد مسلم فيصلي علي إلا قال ذانك الملكان: » غفر الله لك « . وقال الله وملائكته جوابا لذينك الملكين: » آمين « . ولا يصلي أحد إلا قال ذانك الملكان: » غفر الله لك « . ويقول الله وملائكته جوابا لذينك الملكين: » آمين « . »

غريب جدا، وإسناده فيه ضعف شديد

وقد قال الإمام أحمد:حدثنا وَكِيع، عن سفيان، عن عبد الله بن السائب، عن زاذان، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن لله ملائكة سياحين في الأرض، يبلغوني من أمتي السلام » .

وهكذا رواه النسائي من حديث سفيان الثوري وسليمان بن مِهْرَان الأعمش، كلاهما عن عبد الله بن السائب، به

فأما الحديث الآخر: « مَنْ صلى عَلَيّ عند قبري سمعته، ومَنْ صلى علي من بعيد بُلغته » - ففي إسناده نظر، تفرد به محمد بن مروان السدي الصغير، وهو متروك، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعا .

قال أصحابنا:ويستحب للمحرم إذا لبى وفرغ من تلبيته أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم:لما روي عن الشافعي والدارقطني من رواية صالح بن محمد بن زائدة، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق قال:كان يُؤمر الرجل إذا فرغ من تلبيته أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم على كل حال .

وقال إسماعيل القاضي:حدثنا عارم بن الفضل، حدثنا عبد الله بن المبارك، حدثنا زكريا، عن الشعبي، عن وهب بن الأجدع قال:سمعت عمر بن الخطاب يقول:إذا قدمتم فطوفوا بالبيت سبعا، وصلوا عند المقام ركعتين، ثم ائتوا الصفا فقوموا عليه من حيث ترون البيت، فكبروا سبع تكبيرات، تكبيرًا بين حمد لله وثناء عليه، وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ومسألة لنفسك، وعلى المروة مثل ذلك .

إسناد جيد حسن قوي.

وقالوا:ويستحب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مع ذكر الله عند الذبح:واستأنسوا بقوله تعالى: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [ الشرح:4 ] ، قال بعض المفسرين:يقول الله تعالى: « لا أذكر إلا ذكرت معي » . وخالفهم في ذلك الجمهور، وقالوا:هذا موطن يفرد فيه ذكر الرب تعالى، كما عند الأكل، والدخول، والوقاع وغير ذلك، مما لم ترد فيه السنة بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

حديث آخر:قال إسماعيل القاضي:حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا عمر بن هارون، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن ثابت، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « صلوا على أنبياء الله ورسله؛ فإن الله بعثهم كما بعثني » .

في إسناده ضعيفان، وهما عمر بن هارون وشيخه ، والله أعلم. وقد رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن موسى بن عبيدة الربذي، به .

ومن ذلك:أنه يستحب الصلاة عليه عند طنين الأذن، إن صح الخبر في ذلك، على أن الإمام أبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة قد رواه في صحيحه فقال:حدثنا زياد بن يحيى، حدثنا مَعْمَر بن محمد بن عبيد الله، عن أبيه محمد ، عن أبيه أبي رافع قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا طنت أذن أحدكم فليذكرني وليصل علي، وَلْيَقُل:ذَكَر الله مَن ذكرني بخير » . إسناده غريب، وفي ثبوته نظر والله أعلم.

[ وهاهنا مسألة ] :

وقد استحب أهل الكتابة أن يكرر الكاتب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كلما كتبه، وقد ورد في الحديث من طريق كادح بن رحمة، عن نَهْشَل، عن الضحاك، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من صلى عليّ في كتاب، لم تزل الصلاة جارية له ما دام اسمي في ذلك الكتاب » .

وليس هذا الحديث بصحيح من وجوه كثيرة، وقد رُوي من حديث أبي هريرة، ولا يصح أيضا ، قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي شيخُنا:أحسبه موضوعا. وقد رُوي نَحوُه عن أبي بكر، وابن عباس. ولا يصح من ذلك شيء ، والله أعلم. وقد ذكر الخطيب البغدادي في كتابه: « الجامع لآداب الراوي والسامع ، قال:رأيت بخط الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله:كثيرا ما يكتب اسم النبي صلى الله عليه وسلم من غير ذكر الصلاة عليه كتابة، قال:وبلغني أنه كان يصلي عليه لفظا . »

[ فصل ]

وأما الصلاة على غير الأنبياء، فإن كانت على سبيل التبعية كما تقدم في الحديث: « اللهم، صل على محمد وآله وأزواجه وذريته » ، فهذا جائز بالإجماع، وإنما وقع النـزاع فيما إذا أفرد غير الأنبياء بالصلاة عليهم:

فقال قائلون:يجوز ذلك، واحتجوا بقوله: ( هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ ) ، وبقوله أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ [ البقرة:157 ] ، وبقوله تعالى خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [ التوبة:103 ] ، وبحديث عبد الله بن أبي أوْفَى قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: « اللهم صل عليهم » . وأتاه أبي بصدقته فقال: « اللهم صل على آل أبي أوفى » . أخرجاه في الصحيحين. وبحديث جابر:أن امرأته قالت:يا رسول الله، صل عَلَيَّ وعلى زوجي. فقال: « صلى الله عليكِ وعلى زوجك » .

وقال الجمهور من العلماء:لا يجوز إفراد غير الأنبياء بالصلاة؛ لأن هذا قد صار شعارا للأنبياء إذا ذكروا، فلا يلحق بهم غيرهم، فلا يقال: « قال أبو بكر صلى الله عليه » . أو: « قال علي صلى الله عليه » . وإن كان المعنى صحيحا، كما لا يقال: « قال محمد، عز وجل » ، وإن كان عزيزا جليلا؛ لأن هذا من شعار ذكر الله، عز وجل. وحملوا ما ورد في ذلك من الكتاب والسنة على الدعاء لهم؛ ولهذا لم يثبت شعارا لآل أبي أوفى، ولا لجابر وامرأته. وهذا مسلك حسن.

وقال آخرون:لا يجوز ذلك؛ لأن الصلاة على غير الأنبياء قد صارت من شعار أهل الأهواء، يصلون على من يعتقدون فيهم، فلا يقتدى بهم في ذلك، والله أعلم.

ثم اختلف المانعون من ذلك:هل هو من باب التحريم، أو الكراهة التنـزيهية، أو خلاف الأولى؟ على ثلاثة أقوال، حكاه الشيخ أبو زكريا النووي في كتاب الأذكار. ثم قال:والصحيح الذي عليه الأكثرون أنه مكروه كراهة تنـزيه؛ لأنه شعار أهل البدع، وقد نهينا عن شعارهم، والمكروه هو ما ورد فيه نهي مقصود. قال أصحابنا:والمعتمد في ذلك أن الصلاة صارت مخصوصة في اللسان بالأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم، كما أن قولنا: « عز وجل » ، مخصوص بالله سبحانه وتعالى، فكما لا يقال: « محمد عز وجل » ، وإن كان عزيزا جليلا لا يقال: « أبو بكر - أو:علي - صلى الله عليه » . هذا لفظه بحروفه. قال:وأما السلام فقال الشيخ أبو محمد الجُوَيني من أصحابنا:هو في معنى الصلاة، فلا يستعمل في الغائب، ولا يفرد به غير الأنبياء، فلا يقال: « علي عليه السلام » ، وسواء في هذا الأحياء والأموات، وأما الحاضر فيخاطب به، فيقال:سلام عليكم، أو سلام عليك، أو السلام عليك أو عليكم. وهذا مجمع عليه. انتهى ما ذكره .

قلت:وقد غلب هذا في عبارة كثير من النساخ للكتب، أن يفرد علي، رضي الله عنه، بأن يقال: « عليه السلام » ، من دون سائر الصحابة، أو: « كرم الله وجهه » وهذا وإن كان معناه صحيحا، لكن ينبغي أن يُسَاوى بين الصحابة في ذلك؛ فإن هذا من باب التعظيم والتكريم، فالشيخان وأمير المؤمنين عثمان [ بن عفان ] أولى بذلك منه، رضي الله عنهم أجمعين.

قال إسماعيل القاضي:حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثني عثمان بن حكيم بن عَبَّاد بن حُنَيف، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال:لا تصح الصلاة على أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن يدعى للمسلمين والمسلمات بالمغفرة .

وقال أيضا:حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا حسين بن علي، عن جعفر بن بَرْقان قال:كتب عمر بن عبد العزيز، رحمه الله:أما بعد، فإن أناسا من الناس قد التمسوا الدنيا بعمل الآخرة، وإن ناسا من القصاص قد أحدثوا في الصلاة على خلفائهم وأمرائهم عدْلَ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا جاءك كتابي هذا فمُرْهم أن تكون صلاتهم على النبيين ودعاؤهم للمسلمين عامة، ويدعوا ما سوى ذلك. أثر حسن .

قال إسماعيل القاضي:حدثنا معاذ بن أسد، حدثنا عبد الله بن المبارك، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثني خالد بن يَزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن نُبَيه بن وهب؛ أن كعبا دخل على عائشة، رضي الله عنها، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كعب:ما من فجر يطلع إلا نـزل سبعون ألفا من الملائكة حتى يحفوا بالقبر يضربون بأجنحتهم ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم، سبعون ألفا بالليل، وسبعون ألفا بالنهار، حتى إذا انشقت عنه الأرض خرج في سبعين ألفا من الملائكة يزفونه .

[ فرع ] :

قال النووي:إذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم فليجمع بين الصلاة والتسليم، فلا يقتصر على أحدهما فلا يقول: « صلى الله عليه فقط » ، ولا « عليه السلام » فقط، وهذا الذي قاله منتزع من هذه الآية الكريمة، وهي قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) ، فالأولى أن يقال:صلى الله عليه وسلم تسليما.

إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا ( 57 ) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَـدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْـمًا مُبِينًا ( 58 )

يقول تعالى:متهددا ومتوعدا مَنْ آذاه، بمخالفة أوامره وارتكاب زواجره وإصراره على ذلك، وأذَى رسوله بعيب أو تنقص، عياذا بالله من ذلك.

قال عِكْرِمة في قوله: ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) :نـزلت في المصوّرين.

وفي الصحيحين، من حديث سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيَّب، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يقول الله، عز وجل:يؤذيني ابن آدم، يَسُبّ الدهر، وأنا الدهر، أقلب ليله ونهاره » .

ومعنى هذا:أن الجاهلية كانوا يقولون:يا خيبة الدهر، فعل بنا كذا وكذا. فيسندون أفعال الله تعالى إلى الدهر، ويسبونه، وإنما الفاعل لذلك هو الله، عز وجل، فنهى عن ذلك. هكذا قرره الشافعي وأبو عبيد وغيرهما من العلماء، رحمهم الله.

وقال العَوْفي، عن ابن عباس في قوله: ( يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) :نـزلت في الذين طعنوا [ على النبي صلى الله عليه وسلم ] في تزويجه صفية بنت حُيَي بن أخطب.

والظاهر أن الآية عامة في كل من آذاه بشيء، ومن آذاه فقد آذى الله، ومن أطاعه فقد أطاع الله، كما قال الإمام أحمد:

حدثنا يونس، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن عَبيدة بن أبي رائطة الحذاء التميمي، عن عبد الرحمن [ بن زياد ] ، عن عبد الله بن المغفل المزني قال:قال النبي صلى الله عليه وسلم: « الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غَرَضا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه » .

وقد رواه الترمذي من حديث عَبيدة بن أبي رائطة، عن عبد الرحمن بن زياد، عن عبد الله بن المغفل، به. ثم قال:وهذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه

وقوله: ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا ) أي:ينسبون إليهم ما هم بُرَآء منه لم يعملوه ولم يفعلوه، ( فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ) وهذا هو البهت البين أن يحكى أو ينقل عن المؤمنين والمؤمنات ما لم يفعلوه، على سبيل العيب والتنقص لهم، ومَنْ أكثر مَنْ يدخل في هذا الوعيد الكفرةُ بالله ورسوله ، ثم الرافضة الذين يتنقصون الصحابة ويعيبونهم بما قد بَرَّأهم الله منه، ويصفونهم بنقيض ما أخبر الله عنهم؛ فإن الله، عز وجل، قد أخبر أنه قد رضي عن المهاجرين والأنصار ومدحهم، وهؤلاء الجهلة الأغبياء يسبونهم ويتنقصونهم ، ويذكرون عنهم ما لم يكن ولا فعلوه أبدا، فهم في الحقيقة منكوسو القلوب يذمون الممدوحين، ويمدحون المذمومين.

وقال أبو داود:حدثنا القَعْنَبِيّ، حدثنا عبد العزيز - يعني:ابن محمد - عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، أنه قيل:يا رسول الله، ما الغيبة؟ قال: « ذكرُكَ أخاك بما يكره » . قيل:أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: « إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بَهَتَّه » .

وهكذا رواه الترمذي، عن قتيبة، عن الدراوردي، به. قال:حسن صحيح .

وقد قال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن سلمة، حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا معاوية بن هشام، عن عمار بن أنس، عن ابن أبي مُلَيْكَة، عن عائشة، قالت:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: « أيُّ الربا أربى عند الله؟ » قالوا:الله ورسوله أعلم. قال: « أربى الربا عند الله استحلالُ عرض امرئ مسلم » ، ثم قرأ: ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ) .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ( 59 ) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا ( 60 ) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا ( 61 ) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا ( 62 ) .

يقول تعالى آمرا رسوله، صلى الله عليه وسلم تسليما، أن يأمر النساء المؤمنات - خاصة أزواجه وبناته لشرفهن - بأن يدنين عليهن من جلابيبهن، ليتميزن عن سمات نساء الجاهلية وسمات الإماء. والجلباب هو:الرداء فوق الخمار. قاله ابن مسعود، وعبيدة، وقتادة، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، وعطاء الخراساني، وغير واحد. وهو بمنـزلة الإزار اليوم.

قاله الجوهري:الجلباب:الملحفة، قالت امرأة من هذيل ترثي قتيلا لها:

تَمْشـي النُّسـور إليـه وَهْـيَ لاهيـةٌ مَشْــيَ العَـذَارى عَلَيْهِـنَّ الجَـلابيبُ

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينًا واحدة.

وقال محمد بن سيرين:سألت عَبيدةَ السّلماني عن قول الله تعالى: ( يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ) ، فغطى وجهه ورأسه وأبرز عينه اليسرى.

وقال عكرمة:تغطي ثُغْرَة نحرها بجلبابها تدنيه عليها.

وقال ابن أبي حاتم:أخبرنا أبو عبد الله الظَّهراني فيما كتب إليّ، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن ابن خُثَيْم، عن صفية بنت شيبة، عن أم سلمة قالت:لما نـزلت هذه الآية: ( يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ) ، خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة، وعليهن أكسية سود يلبسنها .

وقال ابن أبي حاتم، حدثنا أبي، حدثنا أبو صالح، حدثني الليث، حدثنا يونس بن يزيد قال:وسألناه يعني:الزهري - :هل على الوليدة خمار متزوجة أو غير متزوجة؟ قال:عليها الخمار إن كانت متزوجة، وتنهى عن الجلباب لأنه يكره لهن أن يتشبهن بالحرائر إلا محصنات . وقد قال الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ) .

وروي عن سفيان الثوري أنه قال:لا بأس بالنظر إلى زينة نساء أهل الذمة، إنما ينهى عن ذلك لخوف الفتنة؛ لا لحرمتهن، واستدل بقوله تعالى: ( وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ ) .

وقوله: ( ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ ) أي:إذا فعلن ذلك عُرِفْنَ أنَّهن حرائر، لسن بإماء ولا عواهر، قال السدي في قوله تعالى: ( [ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ] قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ ) قال:كان ناس من فساق أهل المدينة يخرجون بالليل حين يختلط الظلام إلى طرق المدينة، يتعرضون للنساء، وكانت مساكن أهل المدينة ضَيِّقة، فإذا كان الليل خرج النساء إلى الطرق يقضين حاجتهن، فكان أولئك الفساق يبتغون ذلك منهن، فإذا رأوا امرأة عليها جلباب قالوا:هذه حرة، كفوا عنها. وإذا رأوا المرأة ليس عليها جلباب، قالوا:هذه أمة. فوثبوا إليها .

وقال مجاهد:يتجلببن فيعلم أنهن حرائر، فلا يتعرض لهن فاسق بأذى ولا ريبة.

وقوله: ( وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) أي:لما سلف في أيام الجاهلية حيث لم يكن عندهن علم بذلك.

ثم قال تعالى متوعدًا للمنافقين، وهم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر: ( وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) قال عكرمة وغيره:هم الزناة هاهنا ( وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ ) يعني:الذين يقولون: « جاء الأعداء » و « جاءت الحروب » ، وهو كذب وافتراء، لئن لم ينتهوا عن ذلك ويرجعوا إلى الحق ( لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:أي:لنسلطنَّك عليهم. وقال قتادة، رحمه الله:لنحرّشَنَّك بهم. وقال السدي:لنعلمنك بهم.

( ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا ) أي:في المدينة ( إِلا قَلِيلا * مَلْعُونِينَ ) حال منهم في مدة إقامتهم في المدينة مدة قريبة مطرودين مبعدين، ( أَيْنَمَا ثُقِفُوا ) أي:وجدوا، ( أُخِذُوا ) لذلتهم وقلتهم، ( وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا ) .

ثم قال: ( سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ) أي:هذه سنته في المنافقين إذا تمردوا على نفاقهم وكفرهم ولم يرجعوا عما هم فيه، أن أهل الإيمان يسلطون عليهم ويقهرونهم، ( وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا ) أي:وسنة الله في ذلك لا تبدل ولا تغير.

 

 

يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ( 63 ) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا ( 64 ) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ( 65 ) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا ( 66 ) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا ( 67 ) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ( 68 ) .

يقول تعالى مخبرا لرسوله صلى الله عليه وسلم:أنه لا علم له بالساعة، وإن سأله الناس عن ذلك. وأرشده أن يرد علمها إلى الله، عز وجل، كما قال له في سورة « الأعراف » ، وهي مكية وهذه مدنية، فاستمر الحال في رَدّ علمها إلى الذي يقيمها، لكن أخبره أنها قريبة بقوله: ( وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ) ، كَمَا قَالَ: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [ القمر:1 ] ، وقال اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [ الأنبياء:1 ] ، وقال أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [ النحل:1 ] .

ثم قال: ( إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ ) أي:أبعدهم عن رحمته ( وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا ) أي:في الدار الآخرة.

( خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ) أي:ماكثين مستمرين، فلا خروج لهم منها ولا زوال لهم عنها، ( لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ) أي:وليس لهم مغيث ولا معين ينقذهم مما هم فيه.

ثم قال: ( يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا ) أي:يسحبون في النار على وجوههم، وتلوى وجوههم على جهنم، يقولون وهم كذلك، يتمنون أن لو كانوا في الدار الدنيا ممن أطاع الله وأطاع الرسول، كما أخبر الله عنهم في حال العرصات بقوله: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولا [ الفرقان:27- 29 ] ، وقال تعالى: رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ [ الحجر:2 ] ، وهكذا أخبر عنهم في حالتهم هذه أنهم يودون أن لو كانوا أطاعوا الله، وأطاعوا الرسول في الدنيا.

( وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا ) . وقال طاوس:سادتنا:يعني الأشراف، وكبراءنا:يعني العلماء. رواه ابن أبي حاتم.

أي:اتبعنا السادة وهم الأمراء والكبراء من المشيخة، وخالفنا الرسل واعتقدنا أن عندهم شيئا، وأنهم على شيء فإذا هم ليسوا على شيء.

( رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ ) أي:بكفرهم وإغوائهم إيانا، ( وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ) . قرأ بعض القراء بالباء الموحدة. وقرأ آخرون بالثاء المثلثة، وهما قريبا المعنى، كما في حديث عبد الله بن عمرو:أن أبا بكر قال:يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به في صلاتي. قال: « قل:اللهم، إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم » . أخرجاه في الصحيحين ، يُروى « كبيرا » و « كثيرا » ، وكلاهما بمعنى صحيح.

واستحب بعضهم أن يجمع الداعي بين اللفظين في دعائه، وفي ذلك نظر، بل الأولى أن يقول هذا تارة، وهذا تارة، كما أن القارئ مخير بين القراءتين أيتهما قرأ فَحَسَن، وليس له الجمع بينهما، والله أعلم.

وقال أبو القاسم الطبراني:حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا ضِرَار بن صُرَد، حدثنا علي بن هاشم، عن [ محمد بن ] عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه ، في تسمية مَنْ شهد مع علي، رضي الله عنه:الحجاج بن عمرو بن غَزيَّة، وهو الذي كان يقول عند اللقاء:يا معشر الأنصار، أتريدون أن تقولوا لربنا إذا لقيناه: ( رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ) ؟ .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ( 69 ) .

قال البخاري عند تفسير هذه الآية:حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا روح بن عبادة، حدثنا عوف، عن الحسن [ ومحمد ] وخلاس، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:إن موسى كان رجلا حَيِيا، وذلك قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ) .

هكذا أورد هذا الحديث هاهنا مختصرًا جدًا، وقد رواه في أحاديث « الأنبياء » بهذا السند بعينه، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن موسى، عليه السلام، كان رجلا حَيِيا سِتِّيرا، لا يُرَى من جلده شَيء استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا:ما يتستر هذا التستر إلا من عيب بجلده، إما برص وإما أدْرَة وإما آفة، وإن الله، عز وجل، أراد أن يُبرئَه مما قالوا لموسى عليه السلام، فخلا يوما وحده، فخلع ثيابه على حجر، ثم اغتسل، فلمَّا فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، فجعل يقول:ثوبي حَجَر، ثوبي حَجَر، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، فرأوه عُريانا أحسن ما خلق الله، عز وجل، وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر، فأخذ ثوبَه فلبسه، وطَفقَ بالحجر ضربًا بعصاه، فوالله إن بالحجر لَنَدبًا من أثر ضربه ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا - قال:فذلك قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها ) . »

وهذا سياق حسن مطول، وهذا الحديث من أفراد البخاري دون مسلم

وقال الإمام أحمد:حدثنا روح، حدثنا عوف، عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم - وخلاس، ومحمد، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا ) قال:قال النبي صلى الله عليه وسلم: « إن موسى كان رجلا حَيِيا ستِّيرا، لا يكاد يُرَى من جلده شَيء استحياء منه » .

ثم ساق الحديث كما رواه البخاري مطولا ورواه في تفسيره . عن روح، عن عوف، به. ورواه ابن جرير من حديث الثوري، عن جابر الجعفي، عن عامر الشعبي، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو هذا . وهكذا رواه من حديث سليمان بن مِهْرَان الأعمش، عن المنْهَال بن عمرو، عن سعيد بن جُبَيْر، وعبد الله بن الحارث، عن ابن عباس في قوله: ( لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى ) قال:قال قومه له:إنك آدر. فخرج ذات يوم يغتسل، فوضع ثيابه على صخرة، فخرجت الصخرة تشتد بثيابه، وخرج يتبعها عريانا حتى انتهت به مجالس بني إسرائيل، قال:فرأوه ليس بآدر، فذلك قوله: ( فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا ) .

وهكذا رواه العوفي، عن ابن عباس سواء.

وقال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا روح بن حاتم وأحمد بن المعلى الآدميّ قالا حدثنا يحيى بن حماد، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « كان موسى، عليه السلام، رجلا حَيِيا، وإنه أتى - أحسبه قال:الماء - ليغتسل، فوضع ثيابه على صخرة، وكان لا يكاد تبدو عورته، فقال بنو إسرائيل:إن موسى آدر - أو:به آفة، يعنون:أنه لا يضع ثيابه - فاحتملت الصخرة ثيابه حتى صارت بحذاء مجالس بني إسرائيل، فنظروا إلى موسى كأحسن الرجال، أو كما قال، فذلك قوله: ( فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ) . »

وقال ابن أبي حاتم، حدثنا أبي، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، حدثنا الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، في قوله: ( فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا ) قال:صعد موسى وهارون الجبل، فمات هارون، عليه السلام، فقال بنو إسرائيل لموسى، عليه السلام:أنت قتلته، كان ألين لنا منك وأشد حياء. فآذوه من ذلك، فأمر الله الملائكة فحملته، فمروا به على مجالس بني إسرائيل، فتكلمت بموته، فما عرف موضع قبره إلا الرَّخَم، وإن الله جعله أصم أبكم.

وهكذا رواه ابن جرير، عن علي بن موسى الطوسي، عن عباد بن العوام، به .

ثم قال:وجائز أن يكون هذا هو المراد بالأذى، وجائز أن يكون الأول هو المراد، فلا قول أولى من قول الله، عز وجل.

قلت:يحتمل أن يكون الكل مرادا، وأن يكون معه غيره، والله أعلم.

قال الإمام أحمد:حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن شَقيق، عن عبد الله قال:قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم قسما، فقال رجل من الأنصار:إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله. قال:فقلت:يا عدو الله، أما لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قلت. قال:فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فاحمرَّ وجهه، ثم قال: « رحمة الله على موسى، فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر » .

أخرجاه في الصحيحين من حديث سليمان بن مهران الأعمش، به .

طريق أخرى:قال الإمام أحمد:حدثنا حجاج، سمعت إسرائيل بن يونس، عن الوليد بن أبي هاشم - مولى الهمداني، عن زيد بن زائد، عن عبد الله بن مسعود قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: « لا يبلِّغني أحد من أصحابي عن أحد شيئا، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا [ سليم الصدر ] » . فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مالٌ فقسمه، قال:فمررت برجلين وأحدهما يقول لصاحبه:والله ما أراد محمد بقسمته وجه الله ولا الدار الآخرة. قال:فَتَثَبَّتُ حتى سمعت ما قالا ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت:يا رسول الله، إنك قلت لنا: « لا يبلغني أحد عن أصحابي شيئا » ، وإني مررت بفلان وفلان، وهما يقولان كذا وكذا. فاحمر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وشَقَّ عليه، ثم قال: « دعنا منك، لقد أوذي موسى بأكثر من هذا، فصبر » .

وقد رواه أبو داود في الأدب، عن محمد [ بن يحيى الذُّهْلي، عن محمد بن يوسف الفريابي، عن إسرائيل عن الوليد ] بن أبي هاشم به مختصرًا: « لا يبلغني أحد [ من أصحابي ] عن أحد شيئا؛ إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر »

وكذا رواه الترمذي في « المناقب » ، عن الذهلي سواء، إلا أنه قال: « زيد بن زائدة » . ورواه أيضا عن محمد بن إسماعيل، عن عبد الله بن محمد، عن عبيد الله بن موسى وحسين بن محمد كلاهما عن إسرائيل، عن السدي، عن الوليد بن أبي هاشم، به مختصرا أيضا، فزاد في إسناده السدي، ثم قال:غريب من هذا الوجه .

وقوله: ( وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ) أي:له وجاهة وجاه عند ربه، عز وجل.

قال الحسن البصري:كان مستجابَ الدعوة عند الله. وقال غيره من السلف:لم يسأل الله شيئا إلا أعطاه. ولكن منع الرؤية لما يشاء الله، عز وجل.

وقال بعضهم:من وجاهته العظيمة [ عند الله ] :أنه شفع في أخيه هارون أن يرسله الله معه، فأجاب الله سؤاله، وقال: وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا [ مريم:53 ] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا ( 70 ) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ( 71 )

يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بتقواه، وأن يعبدوه عبادة مَنْ كأنه يراه، وأن يقولوا ( قَوْلا سَدِيدًا ) أي:مستقيما لا اعوجاج فيه ولا انحراف. ووعدهم أنهم إذا فعلوا ذلك، أثابهم عليه بأن يصلح لهم أعمالهم، أي:يوفقهم للأعمال الصالحة، وأن يغفر لهم الذنوب الماضية. وما قد يقع منهم في المستقبل يلهمهم التوبة منها.

ثم قال: ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) :وذلك أنه يجار من النار، ويصير إلى النعيم المقيم.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن عَوْن، حدثنا خالد، عن لَيْث، عن أبي بُرْدَة، عن أبي موسى الأشعري قال:صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر، فلما انصرف أومأ إلينا بيده فجلسنا، فقال: « إن الله أمرني أن آمركم، أن تتقوا الله وتقولوا قولا سديدا » . ثم أتى النساء فقال: « إن الله أمرني أن آمركن:أن تتقين الله وتقلن قولا سديدا » .

وقال ابن أبي الدنيا في كتاب « التقوى » :حدثنا محمد بن عباد بن موسى، حدثنا عبد العزيز بن عمران الزهري، حدثنا عيسى بن سَمُرة، عن هشام بن عُرْوَة، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها، قالت:ما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر إلا سمعته يقول: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا ) الآية. غريب جدًا.

وروي من حديث عبد الرحيم بن زيد العَمِّي، عن أبيه، عن محمد بن كعب، عن ابن عباس موقوفا ، من سره أن يكون أكرم الناس، فليتق الله.

قال عكرمة:القول السديد:لا إله إلا الله.

وقال غيره:السديد:الصدق. وقال مجاهد:هو السداد. وقال غيره:هو الصواب. والكل حق.

إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا ( 72 ) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ( 73 )

قال العوفي، عن ابن عباس:يعني بالأمانة:الطاعة، وعرضها عليهم قبل أن يعرضها على آدم، فلم يطقنها ، فقال لآدم:إني قد عرضتُ الأمانة على السموات والأرض والجبال فلم يطقنها ، فهل أنت آخذ بما فيها؟ قال:يا رب، وما فيها؟ قال:إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت. فأخذها آدم فتحمَّلها، فذلك قوله: ( وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا ) .

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، الأمانة:الفرائض، عرضها الله على السموات والأرض والجبال، إن أدوها أثابهم. وإن ضيعوها عذبهم ، فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية، ولكن تعظيمًا لدين الله ألا يقوموا بها، ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها، وهو قوله: ( وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا ) يعني:غرًا بأمر الله.

وقال ابن جرير:حدثنا ابن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: ( إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا ) قال:عرضت على آدم فقال:خذها بما فيها، فإن أطعت غَفَرت لك، وإن عَصَيت عذبتك. قال:قبلت، فما كان إلا قدر ما بين العصر إلى الليل من ذلك اليوم، حتى أصاب الخطيئة.

وقد روى الضحاك، عن ابن عباس، قريبا من هذا. وفيه نظر وانقطاع بين الضحاك وبينه، والله أعلم. وهكذا قال مجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك، والحسن البصري، وغير واحد: [ ألا ] إن الأمانة هي الفرائض.

وقال آخرون:هي الطاعة.

وقال الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق [ قال ] :قال أبي بن كعب:من الأمانة أن المرأة اؤتمنت على فرجها.

وقال قتادة:الأمانة:الدين والفرائض والحدود.

وقال بعضهم:الغسل من الجنابة.

وقال مالك، عن زيد بن أسلم قال:الأمانة ثلاثة:الصلاة، والصوم، والاغتسال من الجنابة.

وكل هذه الأقوال لا تنافي بينها، بل هي متفقة وراجعة إلى أنها التكليف، وقبول الأوامر والنواهي بشرطها، وهو أنه إن قام بذلك أثيب، وإن تركها عُوقِبَ، فقبلها الإنسان على ضعفه وجهله وظلمه، إلا مَنْ وفق اللَّهُ، وبالله المستعان.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا عبد العزيز بن المغيرة [ البصري ] ، حدثنا حماد بن واقد - يعني:أبا عمر الصفار - سمعت أبا معمر - يعني:عون بن معمر - يحدث عن الحسن - يعني:البصري - أنه تلا هذه الآية: ( إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ ) قال:عرضها على السبع الطباق الطرائق التي زينت بالنجوم، وحملة العرش العظيم، فقيل لها:هل تحملين الأمانة وما فيها؟ قالت:وما فيها؟ قال:قيل لها:إن أحسنت جُزِيت، وإن أسأت عوقبت. قالت:لا. ثم عرضها على الأرضين السبع الشداد، التي شدت بالأوتاد، وذللت بالمهاد، قال:فقيل لها:هل تحملين الأمانة وما فيها؟ قالت:وما فيها؟ قال:قيل لها:إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت. قالت:لا. ثم عرضها على الجبال الشم الشوامخ الصعاب الصلاب، قال:قيل لها:هل تحملين الأمانة وما فيها؟ قالت:وما فيها؟ قال:قيل لها:إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت. قالت:لا.

وقال مقاتل بن حيان:إن الله حين خلق خلقه، جمع بين الإنس والجن، والسموات والأرض والجبال، فبدأ بالسموات فعرض عليهن الأمانة وهي الطاعة، فقال لهن:أتحملن هذه الأمانة، ولكن على الفضل والكرامة والثواب في الجنة ...؟ فقلن:يا رب، إنا لا نستطيع هذا الأمر، وليست بنا قوة، ولكنا لك مطيعين. ثم عرض الأمانة على الأرضين، فقال لهن:أتحملن هذه الأمانة وتقبلنها مني، وأعطيكن الفضل والكرامة ؟ فقلن:لا صبر لنا على هذا يا رب ولا نطيق، ولكنا لك سامعين مطيعين، لا نعصيك في شيء تأمرنا به. ثم قرب آدم فقال له:أتحمل هذه الأمانة وترعاها حق رعايتها؟ فقال عند ذلك آدم:ما لي عندك؟ قال:يا آدم، إن أحسنت وأطعت ورعيت الأمانة، فلك عندي الكرامة والفضل وحسن الثواب في الجنة. وإن عصيت ولم ترْعَها حق رعايتها وأسأت، فإني معذبك ومعاقبك وأنـزلك النار. قال:رضيت [ يا ] رب. وتَحمَّلها ، فقال الله عز وجل:قد حَمَّلْتُكَهَا. فذلك قوله: ( وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ ) . رواه ابن أبي حاتم.

وعن مجاهد أنه قال:عرضها على السموات فقالت:يا رب، حملتني الكواكب وسكان السماء وما ذكر، وما أريد ثوابا ولا أحمل فريضة. قال:وعرضها على الأرض فقالت:يا رب، غرست فيّ الأشجار، وأجريت فيّ الأنهار وسكان الأرض وما ذكر، وما أريد ثوابا ولا أحمل فريضة. وقالت الجبال مثل ذلك، قال الله تعالى: ( وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا ) في عاقبة أمره. وهكذا قال ابن جُرَيْج.

وعن ابن أشوع أنه قال:لما عرض الله عليهن حمل الأمانة، ضَجَجْنَ إلى الله ثلاثة أيام ولياليهن، وقلن:ربنا. لا طاقة لنا بالعمل، ولا نريد الثواب.

ثم قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء الموصلي، حدثنا أبي، حدثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم في هذه الآية: ( إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ ) [ الآية ] ، فقال الإنسان:بين أذني وعاتقي فقال الله تعالى :إني مُعينك عليها، أي:معينك على عينيك بطبقتين، فإذا نازعاك إلى ما أكره فأطبق. ومعينك على لسانك بطبقتين، فإذا نازعك إلى ما أكره فأطبق. ومعينك على فرجك بلباس، فلا تكشفه إلى ما أكره.

ثم روي عن أبي حازم نحو هذا.

وقال ابن جرير:حدثنا يونس، حدثنا ابن وهب قال:قال ابن زيد في قول الله، عز وجل: ( إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا ) قال:إن الله عرض عليهن الأمانة أن يفترض عليهن الدين، ويجعل لهن ثوابا وعقابا، ويستأمنهن على الدين. فقلن:لا نحن مسخرات لأمرك، لا نريد ثوابا ولا عقابا. قال :وعرضها الله على آدم فقال:بين أذني وعاتقي. قال ابن زيد:فقال الله تعالى له:أما إذْ تحملت هذا فسأعينك، أجعل لبصرك حجابا، فإذا خشيت أن تنظر إلى ما لا يحل لك فأرخ عليه حجابه، واجعل للسانك بابا وغلقا، فإذا خشيت فأغلق، وأجعل لفرجك لباسا فلا تكشفه إلا على ما أحللت لك.

وقال ابن جرير:حدثني سعيد بن عمرو السَّكُوني، حدثنا بقِيَّة، حدثنا عيسى بن إبراهيم، عن موسى بن أبي حبيب، عن الحكم بن عمير - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - قال:قال النبي صلى الله عليه وسلم: « إن الأمانة والوفاء نـزلا على ابن آدم مع الأنبياء، فأرسلوا به، فمنهم رسول الله، ومنهم نبي، ومنهم نبي رسول، ونـزل القرآن وهو كلام الله، ونـزلت العربية والعجمية، فعلموا أمر القرآن وعلموا أمر السنن بألسنتهم، ولم يدع الله شيئا من أمره مما يأتون وما يجتنبون وهي الحجج عليهم، إلا بينه لهم. فليس أهل لسان إلا وهم يعرفون الحسن والقبيح، ثم الأمانة أول شيء يرفع ويبقى أثرها في جذور قلوب الناس، ثم يرفع الوفاء والعهد والذمم وتبقى الكتب ، فعالم يعمل، وجاهل يعرفها وينكرها ولا يحملها، حتى وصل إليّ وإلى أمتي، ولا يهلك على الله إلا هالك، ولا يغفله إلا تارك. فالحذر أيها الناس، وإياكم والوسواس الخناس، فإنما يبلوكم أيكم أحسن عملا . »

هذا حديث غريب جدا، وله شواهد من وجوه أخرى.

ثم قال ابن جرير:حدثنا محمد بن خلف العسقلاني، حدثنا عبد الله بن عبد المجيد الحنفي، أخبرنا أبو العوام القطان، حدثنا قتادة، وأبان بن أبي عياش ، عن خُليَد العَصَري ، عن أبي الدرداء، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « خمس من جاء بهن يوم القيامة مع إيمان دخل الجنة:من حافظ على الصلوات الخمس على وضوئهن وركوعهن وسجودهن ومواقيتهن، وأعطى الزكاة من ماله طيب النفس بها - وكان يقول، وايم الله لا يفعل ذلك إلا مؤمن - [ وصام رمضان، وحج البيت إن استطاع إلى ذلك سبيلا ] ، وأدى الأمانة » . قالوا:يا أبا الدرداء، وما أداء الأمانة؟ قال:الغسل من الجنابة، فإن الله لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيره.

وهكذا رواه أبو داود عن محمد بن عبد الرحمن العنبري، عن أبي علي عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي، عن أبي العوام عمران بن دَاور القطان، به .

وقال ابن جرير أيضا:حدثنا تميم بن المنتصر، أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن الأعمش، عن عبد الله بن السائب، عن زاذان، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها - أو قال:يكفر كل شيء - إلا الأمانة، يؤتى بصاحب الأمانة فيقال له:أدِّ أمانتك. فيقول:أنى يا رب وقد ذهبت الدنيا؟ فيقال له:أدِّ أمانتك. فيقول:أنى يا رب، وقد ذهبت الدنيا؟ فيقال له:أدِّ أمانتك. فيقول:أنى يا رب وقد ذهبت الدنيا؟ فيقول:اذهبوا به إلى أمه الهاوية. فيذهب به إلى الهاوية، فيهوي فيها حتى ينتهي إلى قعرها، فيجدها هنالك كهيئتها، فيحملها فيضعها على عاتقه، فيصعد بها إلى شفير جهنم، حتى إذا رأى أنه قد خرج زلَّت فهوى في أثرها أبد الآبدين » . وقال:والأمانة في الصوم، والأمانة في الوضوء، والأمانة في الحديث، وأشد ذلك الودائع. فلقيت البراء فقلت:ألا تسمع إلى ما يقول أخوك عبد الله؟ فقال:صدق.

قال شريك:وحدثنا عياش العامري، عن زاذان، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. ولم يذكر: « الأمانة في الصلاة وفي كل شيء » . إسناده جيد، ولم يخرجوه.

ومما يتعلق بالأمانة الحديث الذي رواه الإمام أحمد :

حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن زيد بن وهب، عن حذيفة قال:حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا « أن الأمانة نـزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نـزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة » . ثم حدثنا عن رفع الأمانة، فقال: « ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر [ الوكت، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر ] المجل كجمر دحرجته [ على رجلك، تراه مُنتبرا وليس فيه شيء » . قال:ثم أخذ حصى فدحرجه ] على رجله، قال: « فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة، حتى يقال:إن في بني فلان رجلا أمينا، حتى يقال للرجل:ما أجلده وأظرفه وأعقله. وما في قلبه حبة من خردل من إيمان. ولقد أتى عَلَيَّ زمان وما أبالي أيكم بايعت، إن كان مسلما ليردنه على دينه، وإن كان نصرانيا أو يهوديا ليردنه عليّ ساعيه، فأما اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلانا وفلانا » .

وأخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش، به .

وقال الإمام أحمد:حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعة، عن الحارث بن يزيد الحضرمي، عن عبد الله بن عمرو؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أربع إذا كُنَّ فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا:حِفْظ أمانة، وصِدْق حديث، وحُسْن خليقة، وعِفَّة طُعمة » .

هكذا رواه الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص .

وقد قال الطبراني في مسند عبد الله بن عمر بن الخطاب:حدثني يحيى بن أيوب العلاف المصري ، حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا ابن لَهِيعة، عن الحارث بن يزيد، عن ابن حُجَيرة، عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا:حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة طعمة » . فزاد في الإسناد: « ابن حُجَيرة » ، وجعله من مسند ابن عمر .

وقد ورد النهي عن الحلف بالأمانة، قال عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد :حدثنا شريك، عن أبي إسحاق الشيباني، عن خُنَاس بن سُحَيم - أو قال:جَبَلَة بن سُحَيم - قال:أقبلت مع زياد بن حُدَيْر من الجابية فقلتُ في كلامي:لا والأمانة. فجعل زياد يبكي ويبكي، فظننت أني أتيتُ أمرا عظيما، فقلت له:أكان يكره هذا؟ قال:نعم. كان عمر بن الخطاب ينهى عن الحلف بالأمانة أشد النهي .

وقد ورد في ذلك حديث مرفوع، قال أبو داود:حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، حدثنا زهير، حدثنا الوليد بن ثعلبة الطائي، عن ابن بريدة، عن أبيه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من حلف بالأمانة فليس منا » ، تفرد به أبو داود، رحمه الله .

وقوله تعالى: ( لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ ) أي:إنما حمل ابن آدم الأمانة وهي التكاليف ليعذب الله المنافقين منهم والمنافقات، وهم الذين يظهرون الإيمان خوفا من أهله ويبطنون الكفر متابعة لأهله، ( وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ ) ، وهم الذين ظاهرهم وباطنهم على الشرك بالله، عز وجل، ومخالفة رسله، ( وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ) أي:وليرحم المؤمنين من الخلق الذين آمنوا بالله، وملائكته وكتبه ورسله العاملين بطاعته ( وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) .

[ آخر تفسير سورة « الأحزاب » ]

 

تفسير سُورة سَبأ

 

وهي مكية.

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ( 1 ) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ( 2 ) .

يخبر تعالى عن نفسه الكريمة:أن له الحمدَ المطلق في الدنيا والآخرة؛ لأنه المنعم المتفضل على أهل الدنيا والآخرة، المالك لجميع ذلك، الحاكم في جميع ذلك، كما قال: وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [ القصص:70 ] ؛ ولهذا قال هاهنا: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ ) أي:الجميع ملكه وعبيده وتحت قهره وتصرفه، كما قال: وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى [ الليل:13 ] .

ثم قال: ( وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ ) ،فهو المعبود أبدا، المحمود على طول المدى. وقال: ( وَهُوَ الْحَكِيمُ ) أي:في أقواله وأفعاله وشرعه وقَدَره، ( الْخَبِيرُ ) الذي لا تخفى عليه خافية، ولا يغيب عنه شيء.

وقال مالك عن الزهري:خبير بخلقه، حكيم بأمره؛ ولهذا قال: ( يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ) أي:يعلم عدد القطر النازل في أجزاء الأرض، والحب المبذور والكامن فيها، ويعلم ما يخرج من ذلك:عدده وكيفيته وصفاته، ( وَمَا يَنـزلُ مِنَ السَّمَاءِ ) أي:من قطر ورزق، ( وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ) أي:من الأعمال الصالحة وغير ذلك، ( وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ) أي:الرحيم بعباده فلا يعاجل عُصاتهم بالعقوبة، الغفور عن ذنوب [ عباده ] التائبين إليه المتوكلين عليه.

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ( 3 ) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ( 4 ) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ( 5 ) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ( 6 ) .

هذه إحدى الآيات الثلاث التي لا رابع لهن، مما أمر الله رسولَه صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه العظيم على وقوع المعاد لَمَّا أنكره مَنْ أنكره من أهل الكفر والعناد، فإحداهن في سورة يونس: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [ يونس:53 ] ، والثانية هذه: ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ) ، والثالثة في التغابن: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [ التغابن:7 ] ، فقوله: ( قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ) ، ثم وصفه بما يؤكد ذلك ويقرره: ( عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) .

قال مجاهد وقتادة: ( لا يَعْزُبُ عَنْهُ ) لا يغيب عنه، أي:الجميع مندرج تحت علمه فلا يخفى عليه منه شيء، فالعظام وإن تلاشت وتفرقت وتمزقت، فهو عالم أين ذهبت وأين تفرقت، ثم يعيدها كما بدأها أول مرة، فإنه بكل شيء عليم.

ثم بين حكمته في إعادة الأبدان وقيام الساعة بقوله: ( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ ) أي:سعوا في الصد عن سبيل الله وتكذيب رسله، ( أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ) أي:لينعم السعداء من المؤمنين، ويعذب الأشقياء من الكافرين، كما قال: لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [ الحشر:20 ] ، وقال تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ ص:28 ] .

وقوله: ( وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنـزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ ) . هذه حكمة أخرى معطوفة على التي قبلها، وهي أن المؤمنين بما أنـزل على الرسل إذا شاهدوا قيام الساعة ومجازاة الأبرار والفجار بالذي كانوا قد علموه من كتب الله في الدنيا رأوه حينئذ عين اليقين، ويقولون يومئذ أيضًا: لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [ الأعراف:43 ] ، ويقال أيضًا: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [ يس:52 ] ، لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ [ الروم:56 ] ، ( وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنـزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) . العزيز هو:المنيع الجناب ،الذي لا يُغالب ولا يُمَانع، بل قد قهر كل شيء، الحميد في جميع أقواله وأفعاله وشرعه، وقدره، وهو المحمود في ذلك كله.

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ( 7 )

هذا إخبار من الله عن استبعاد الكفرة الملحدين قيامَ الساعة واستهزائهم بالرسول صلى الله عليه وسلم في إخباره بذلك: ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ) أي:تفرقت أجسادكم في الأرض وذهبت فيها كل مذهب وتمزقت كل ممزق: ( إِنَّكُمْ ) أي:بعد هذا الحال ( لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) أي:تعودون أحياء ترزقون بعد ذلك، وهو في هذا الإخبار لا يخلو أمره من قسمين:إما أن يكون قد تعمد الافتراء على الله أنه قد أوحى إليه ذلك، أو أنه لم يتعمد لكن لُبّس عليه كما يُلَبَّس على المعتوه والمجنون.

 

أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ ( 8 ) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ( 9 ) .

ولهذا قالوا: ( أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ ) ؟ قال الله تعالى رادًا عليهم: ( بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ ) أي:ليس الأمر كما زعموا ولا كما ذهبوا إليه، بل محمد صلى الله عليه وسلم هو الصادق البار الراشد الذي جاء بالحق، وهم الكذبة الجهلة الأغبياء ، ( فِي الْعَذَابِ ) أي: [ في ] الكفر المفضي بهم إلى عذاب الله، ( وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ ) من الحق في الدنيا.

ثم قال منبهًا لهم على قدرته في خلق السموات والأرض، فقال: ( أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ ) أي:حيثما توجهوا وذهبوا فالسماء مظلة مُظلَّلة عليهم، والأرض تحتهم، كما قال: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ [ الذاريات:47، 48 ] .

قال عبد بن حميد:أخبرنا عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة: ( أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ ) ؟ قال:إنك إن نظرت عن يمينك أو عن شمالك، أو من بين يديك أو من خلفك، رأيت السماء والأرض.

وقوله: ( إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ ) أي:لو شئنا لفعلنا بهم ذلك لظلمهم وقدرتنا عليهم، ولكن نؤخر ذلك لحلمنا وعفونا.

ثم قال: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ) قال مَعْمَر، عن قتادة: ( مُنِيبٍ ) :تائب.

وقال سفيان عن قتادة:المنيب:المقبل إلى الله عز وجل.

أي:إن في النظر إلى خلق السماء والأرض لدلالة لكل عبد فَطِن لبيب رَجَّاع إلى الله، على قدرة الله على بعث الأجساد ووقوع المعاد؛ لأن مَنْ قدر على خلق هذه السموات في ارتفاعها واتساعها، وهذه الأرضين في انخفاضها وأطوالها وأعراضها، إنه لقادر على إعادة الأجسام ونشر الرميم من العظام، كما قال تعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى [ يس:81 ] ، وقال: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [ غافر:57 ] .

وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ( 10 ) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 11 ) .

يخبر تعالى عما أنعم به على عبده ورسوله داود، صلوات الله وسلامه عليه، مما آتاه من الفضل المبين، وجمع له بين النبوة والملك المتمكن، والجنود ذوي العَدَد والعُدَد، وما أعطاه ومنحه من الصوت العظيم، الذي كان إذا سبح به تسبح معه الجبال الراسيات، الصم الشامخات، وتقف له الطيور السارحات، والغاديات والرائحات، وتجاوبه بأنواع اللغات. وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع صوت أبي موسى الأشعري يقرأ من الليل، فوقف فاستمع لقراءته ، ثم قال « لقد أوتي هذا مِزْمَارًا من مزامير آل داود » .

وقال أبو عثمان النهدي:ما سمعت صوت صَنج ولا بَرْبَط ولا وَتَر أحسن من صوت أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه.

ومعنى قوله: ( أَوِّبِي ) أي:سبحي. قاله ابن عباس، ومجاهد، وغير واحد.

وزعم أبو ميسرة أنه بمعنى سَبّحي بلسان الحبشة. وفي هذا نظر، فإن التأويب في اللغة هو الترجيع، فأمرت الجبال والطير أن ترجع معه بأصواتها.

وقال أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي في كتابه « الجُمل » في باب النداء منه: ( يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ ) أي:سيري معه بالنهار كله، والتأويب:سير النهار كله، والإسآد :سير الليل كله. وهذا لفظه، وهو غريب جدًا لم أجده لغيره، وإن كان له مساعدة من حيث اللفظ في اللغة، لكنه بعيد في معنى الآية هاهنا. والصواب أن المعنى في قوله تعالى: ( أَوِّبِي مَعَهُ ) أي:رَجّعي معه مُسَبّحة معه، كما تقدم، والله أعلم.

وقوله: ( وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ) :قال الحسن البصري، وقتادة، والأعمش وغيرهم:كان لا يحتاج أن يُدخلَه نارًا ولا يضربه بمطرقة، بل كان يفتله بيده مثل الخيوط؛ ولهذا قال: ( أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ ) وهي:الدروع. قال قتادة:وهو أول من عملها من الخلق، وإنما كانت قبل ذلك صفائح.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن الحسين، حدثنا ابن سَمَاعة، حدثنا ابن ضَمْرَة ، عن ابن شَوْذَب قال:كان داود، عليه السلام، يرفع في كل يوم درعًا فيبيعها بستة آلاف درهم:ألفين له ولأهله، وأربعة آلاف درهم يطعم بها بني إسرائيل خبز الحُوّاري.

( وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ) :هذا إرشاد من الله لنبيه داود، عليه السلام، في تعليمه صنعة الدروع.

قال مجاهد في قوله: ( وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ) :لا تُدِقّ المسمار فَيقلَق في الحلقة، ولا تُغَلّظه فيفصمها، واجعله بقدر.

وقال الحكم بن عُتيبة :لا تُغَلظه فيفصم، ولا تُدِقّه فيقلَق . وهكذا روي عن قتادة، وغير واحد.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:السرد:حَلَق الحديد. وقال بعضهم:يقال:درع مسرودة:إذا كانت مسمورة الحلق، واستشهد بقول الشاعر:

وَعَليهمــا مَسْــرُودَتَان قَضَاهُمــا دَاودُ أو صنـــعَ السَّــوابغ تُبّــعُ

وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة داود، عليه والسلام، من طريق إسحاق بن بشر - وفيه كلام- عن أبي إلياس، عن وهب بن مُنَبه ما مضمونه:أن داود، عليه السلام، كان يخرج متنكرًا، فيسأل الركبان عنه وعن سيرته، فلا يسأل أحدًا إلا أثنى عليه خيرًا في عبادته وسيرته ومعدلته، صلوات الله وسلامه عليه. قال وهب:حتى بعث الله مَلَكًا في صورة رجل، فلقيه داود فسأله كما كان يسأل غيره، فقال:هو خير الناس لنفسه ولأمته، إلا أن فيه خصلة لو لم تكن فيه كان كاملا قال:ما هي؟ قال:يأكل ويطعم عياله من مال المسلمين، يعني:بيت المال، فعند ذلك نصب داود، عليه السلام، إلى ربه في الدعاء أن يعلمه عملا بيده يستغني به ويغني به عياله، فألان له الحديد، وعلمه صنعة الدروع، فعمل الدرع ، وهو أول مَنْ عملها، فقال الله: ( أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ) يعني:مسامير الحلق، قال:وكان يعمل الدرع ، فإذا ارتفع من عمله درع باعها، فتصدق بثلثها، واشترى بثلثها ما يكفيه وعياله، وأمسك الثلث يتصدق به يوما بيوم إلى أن يعمل غيرها. وقال:إن الله أعطى داود شيئًا لم يعطه غيره من حسن الصوت، إنه كان إذا قرأ الزبور تسمع الوحش حتى يؤخذ بأعناقها وما تنفر، وما صنعت الشياطين المزامير والبرابط والصنوج إلا على أصناف صوته. وكان شديد الاجتهاد، وكان إذا افتتح الزبور بالقراءة كأنما ينفخ في المزامير، وكأن قد أعطي سبعين مزمارًا في حلقه.

وقوله: ( وَاعْمَلُوا صَالِحًا ) أي:في الذي أعطاكم الله من النعم، ( إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) أي:مراقب لكم، بصير بأعمالكم وأقوالكم، لا يخفى علي من ذلك شيء.

وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ( 12 ) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ( 13 )

لما ذكر تعالى ما أنعم به على داود، عطف بذكر ما أعطى ابنه سليمان ، من تسخير الريح له تحمل بساطه، غدوها شهر ورواحها شهر.

قال الحسن البصري:كان يغدو على بساطه من دمشق فينـزل بإصطخر يتغذّى بها، ويذهب رائحا من إصطخر فيبيت بكابل، وبين دمشق وإصطخر شهر كامل للمسرع، وبين إصطخر وكابل شهر كامل للمسرع.

وقوله: ( وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ) قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وعطاء الخراساني، وقتادة، والسدي، ومالك عن زيد بن أسلم، و عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغير واحد:القطر:النحاس. قال قتادة:وكانت باليمن، فكل ما يصنع الناس مما أخرج الله تعالى لسليمان، عليه السلام.

قال السدي:وإنما أسيلت له ثلاثة أيام.

وقوله: ( وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ) أي:وسخرنا له الجن يعملون بين يديه بإذن الله، أي:بقدره ، وتسخيره لهم بمشيئته ما يشاء من البنايات وغير ذلك. ( وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا ) أي:ومَنْ يعدل ويخرج منهم عن الطاعة ( نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ) وهو الحريق.

وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديثا غريبا فقال:حدثنا أبي، حدثنا أبو صالح، حدثنا معاوية بن صالح، عن أبي الزاهرية، عن جبير بن نُفَير ، عن أبي ثعلبة الخُشَنيّ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « الجن على ثلاثة أصناف:صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء، وصنف حيات وكلاب، وصنف يحلون ويظعنون » . رفعه غريب جدًا.

وقال أيضا:حدثنا أبي، حدثنا حَرْمَلة، حدثنا ابن وهب، أخبرني بكر بن مُضَر، عن محمد، عن ابن أنعم أنه قال:الجن ثلاثة:صنف لهم الثواب وعليهم العقاب، وصنف طيارون فيما بين السماء والأرض، وصنف حيات وكلاب.

قال بكر بن مضر:ولا أعلم إلا أنه قال:حدثني أن الإنس ثلاثة :صنف يظلهم الله بظل عرشه يوم القيامة. وصنف كالأنعام بل هم أضل سبيلا. وصنف في صُوَر الناس على قلوب الشياطين.

وقال أيضا :حدثنا أبي:حدثنا علي بن هاشم بن مرزوق حدثنا سلمة - يعني ابن الفضل- عن إسماعيل، عن الحسن قال:الجن ولد إبليس، والإنس ولد آدم، ومن هؤلاء مؤمنون ومن هؤلاء مؤمنون، وهم شركاؤهم في الثواب والعقاب، ومَنْ كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمنا فهو ولي الله، ومَنْ كان من هؤلاء وهؤلاء كافرا فهو شيطان.

وقوله: ( يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ ) :أما المحاريب فهي البناء الحسن، وهو أشرف شيء في المسكن وصدره.

وقال مجاهد:المحاريب بنيان دون القصور. وقال الضحاك:هي المساجد. وقال قتادة:هي المساجد والقصور، وقال ابن زيد:هي المساكن. وأما التماثيل فقال عطية العوفي، والضحاك والسدي:التماثيل:الصور. قال مجاهد:وكانت من نحاس. وقال قتادة:من طين وزجاج.

وقوله: ( وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ) الجواب:جمع جابية، وهي الحوض الذي يجبى فيه الماء، كما قال الأعشى ميمون بن قيس:

تَــرُوحُ عَــلَى آل المَحَـلَّق جَفْنَـةٌ كَجَابِيَــة الشَّــيخ العِـراقي تَفْهَـق

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( كَالْجَوَابِ ) أي:كالجوبة من الأرض.

وقال العوفي، عنه:كالحياض. وكذا قال مجاهد، والحسن، وقتادة، والضحاك وغيرهم.

والقدور الراسيات:أي الثابتات، في أماكنها لا تتحول ولا تتحرك عن أماكنها لعظمها. كذا قال مجاهد، والضحاك، وغيرهما.

وقال عكرمة:أثافيها منها.

وقوله: ( اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا ) أي:وقلنا لهم اعملوا شكرًا على ما أنعم به عليكم في الدنيا والدين .

وشكرًا:مصدر من غير الفعل، أو أنه مفعول له، وعلى التقديرين فيه دلالة على أن الشكر يكون بالفعل كما يكون بالقول وبالنية، كما قال:

أفَــادَتْكُمُ النّعْمَـاء منِّـــي ثَــلاثةً: يـدِي, ولَسَـاني, وَالضَّمـير المُحَجَّبَـا

قال أبو عبد الرحمن الحُبلي :الصلاة شكر، والصيام شكر، وكل خير تعمله لله شكر. وأفضل الشكر الحمد. رواه ابن جرير.

وروى هو وابن أبي حاتم، عن محمد بن كعب القُرَظي قال:الشكر تقوى الله والعمل الصالح.

وهذا يقال لمن هو متلبس بالفعل، وقد كان آل داود، عليه السلام، كذلك قائمين بشكر الله قولا وعملا.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن أبي بكر، حدثنا جعفر - يعني:ابن سليمان- عن ثابت البُنَاني قال:كان داود، عليه السلام، قد جزأ على أهله وولده ونسائه الصلاة، فكان لا تأتي عليهم ساعة من الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي، فغمرتهم هذه الآية: ( اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) .

وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إن أحب الصلاة إلى الله صلاةُ داودَ، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يوما ويفطر يوما. ولا يَفر إذا لاقى » .

وقد روى أبو عبد الله بن ماجه من حديث سُنيْد بن داود، حدثنا يوسف بن محمد بن المُنْكَدِر، عن أبيه، عن جابر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « قالت أمّ سليمان بن داود لسليمان:يا بني، لا تكثر النوم بالليل، فإن كثرة النوم بالليل تترك الرجل فقيرًا يوم القيامة » .

وروى ابن أبي حاتم عن داود، عليه السلام، هاهنا أثرا غريبا مطولا جدا، وقال أيضًا:

حدثنا أبي، حدثنا عمران بن موسى، حدثنا أبو يزيد فيض بن إسحاق الرقي قال:قال فضيل في قوله تعالى: ( اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا ) . فقال داود:يا رب، كيف أشكرك، والشكر نعمة منك؟ قال: « الآن شكرتني حين علمت أن النعمة مني » .

وقوله: ( وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) إخبار عن الواقع.

فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ( 14 ) .

يذكر تعالى كيفية موت سليمان، عليه السلام، وكيف عَمَّى الله موته على الجانّ المسخرين له في الأعمال الشاقة، فإنه مكث متوكئًا على عصاه - وهي مِنْسَأته- كما قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وقتادة وغير واحد - مدة طويلة نحوا من سنة، فلما أكلتها دابةُ الأرض، وهي الأرضة، ضعفت وسقط إلى الأرض، وعلم أنه قد مات قبل ذلك بمدة طويلة- تبينت الجن والإنس أيضًا أن الجن لا يعلمون الغيب، كما كانوا يتوهمون ويوهمون الناس ذلك.

قد ورد في ذلك حديث مرفوع غريب، وفي صحته نظر، قال ابن جرير:

حدثنا أحمد بن منصور، حدثنا موسى بن مسعود أبو حذيفة، حدثنا إبراهيم بن طَهْمَان، عن عطاء، عن السائب، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « كان سليمان نبي الله، عليه السلام، إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه فيقول لها:ما اسمك؟ فتقول:كذا. فيقول:لأي شيء أنت؟ فإن كانت لغرس غُرِسَتْ، وإن كانت لدواء كُتِبَتْ. فبينما هو يصلي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه، فقال لها:ما اسمك؟ قالت:الخروب. قال:لأي شيء أنت؟ قالت:لخراب هذا البيت. فقال سليمان:اللهم، عَمّ على الجن موتتي حتى يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب. فنحتها عصًا، فتوكأ عليها حولا ميتا، والجن تعمل. فأكلتها الأرضة، فتبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا [ حولا ] في العذاب المهين » .

قال:وكان ابن عباس يقرؤها كذلك قال: « فشكرت الجن الأرضة ، فكانت تأتيها بالماء » .

وهكذا رواه ابن أبي حاتم، من حديث إبراهيم بن طَهْمان، به. وفي رفعه غرابة ونكارة، والأقرب أن يكون موقوفًا، وعطاء بن أبي مسلم الخراساني له غرابات، وفي بعض حديثه نكارة.

وقال السُّدِّي، في حديث ذكره عن أبي مالك عن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:كان سليمان يتحرر في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين، وأقل من ذلك وأكثر، يدخل طعامه وشرابه، فأدخله في المرة التي توفي فيها، وكان بدء ذلك أنه لم يكن يوم يصبح فيه إلا نبتت في بيت المقدس شجرة، فيأتيها فيسألها، فيقول:ما اسمك؟ فتقول:اسمي كذا وكذا. فإن كانت لغرس غرسها، وإن كانت نبْتَ دواء قالت:نَبَتُّ دواء لكذا وكذا. فيجعلها كذلك، حتى نبتت شجرة يقال لها:الخرّوبة، فسألها:ما اسمك؟ فقالت:أنا الخروبة. قال:ولأي شيء نَبَتِّ؟ قالت:نبت لخراب هذا المسجد. قال سليمان:ما كان الله ليُخَرِّبه وأنا حي؟ أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس. فنـزعها وغرسها في حائط له، ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئا على عصاه، فمات ولم تعلم به الشياطين، وهم في ذلك يعملون له، يخافون أن يخرج فيعاقبهم. وكانت الشياطين تجتمع حول المحراب، وكان المحراب له كُوى بين يديه وخلفه، فكان الشيطان الذي يريد أن يخلع يقول:ألست جلدا إن دخلت فخرجت من ذلك الجانب؟ فيدخل حتى يخرج من الجانب الآخر، فدخل شيطان من أولئك فمر، ولم يكن شيطان ينظر إلى سليمان في المحراب إلا احترق. فمر ولم يسمع صوت سليمان، ثم رجع فلم يسمع، ثم رجع فوقع في البيت ولم يحترق. ونظر إلى سليمان، عليه السلام، قد سقط ميتا. فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات. ففتحوا عنه فأخرجوه. وَوَجدوا منسأته - وهي:العصا بلسان الحبشة- قد أكلتها الأرضة، ولم يعلموا منذ كم مات؟ فوضعوا الأرضة على العصا، فأكلت منها يوما وليلة، ثم حسبوا على ذلك النحو، فوجدوه قد مات منذ سنة. وهي في قراءة ابن مسعود:فمكثوا يدأبون له من بعد موته حولا ، فأيقن الناس عند ذلك أن الجن كانوا يكذبونهم ولو أنهم علموا الغيب، لعلموا بموت سليمان ولم يلبثوا في العذاب يعملون له سنة، وذلك قول الله عز وجل: ( مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ) . يقول:تبين أمرهم للناس أنهم كانوا يكذبونهم، ثم إن الشياطين قالوا للأرضة:لو كنت تأكلين الطعام أتيناك بأطيب الطعام، ولو كنت تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب، ولكنا سننقل إليك الماء والطين - قال:فهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت- قال:ألم تر إلى الطين الذي يكون في جوف الخشب؟ فهو ما تأتيها به الشياطين، شكرًا لها.

وهذا الأثر - والله أعلم- إنما هو مما تُلُقِّي من علماء أهل الكتاب، وهي وَقْفٌ، لا يصدق منها إلا ما وافق الحق، ولا يُكذب منها إلا ما خالف الحق، والباقي لا يصدق ولا يكذب .

وقال ابن وهب وأصبغ بن الفرج، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: ( مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ ) قال:قال سليمان عليه السلام لملك الموت:إذا أُمِرْتَ بي فأعلمني. فأتاه فقال:يا سليمان، قد أمرت بك، قد بقيت لك سويعة. فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير، وليس له باب، فقام يصلي فاتكأ على عصاه، قال:فدخل عليه ملك الموت، فقبض روحه وهو متكئ على عصاه، ولم يصنع ذلك فرارًا من ملك الموت. قال:والجن يعملون بين يديه وينظرون إليه، يحسبون أنه حي. قال:فبعث الله، عز وجل، دابة الأرض. قال:والدابة تأكل العيدان - يقال لها:القادح- فدخلت فيها فأكلتْها، حتى إذا أكلت جوف العصا ضعفت، وثقل عليها فخر ميتًا، فلما رأت ذلك الجن انفضوا وذهبوا. قال:فذلك قوله: ( مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهِ ) . قال أصبغ:بلغني عن غيره أنها قامت سنة تأكل منها قبل أن يخر . وقد ذكر غير واحد من السلف نحوًا من هذا، والله أعلم.

 

لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ( 15 ) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ( 16 ) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ ( 17 ) .

كانت سبأ ملوكَ اليمن وأهلها، وكانت التبابعة منهم، وبلقيس - صاحبة سليمان- منهم ، وكانوا في نعمة وغبطة في بلادهم، وعيشهم واتساع أرزاقهم وزروعهم وثمارهم. وبعث الله إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزقه، ويشكروه بتوحيده وعبادته، فكانوا كذلك ما شاء الله ثم أعرضوا عما أمروا به، فعوقبوا بإرسال السيل والتفرق في البلاد أيدي سبأ، شذر مَذرَ، كما يأتي تفصيله وبيانه قريبًا إن شاء الله تعالى وبه الثقة.

قال الإمام أحمد، رحمه الله:حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا ابن لَهِيعة، عن عبد الله بن هُبَيْرة، عن عبد الرحمن بن وَعْلة قال:سمعت ابن عباس يقول :إن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبأ:ما هو؟ رجل أم امرأة أم أرض؟ قال: « بل هو رجل، ولد عَشَرة ، فسكن اليمن منهم ستة، وبالشام منهم أربعة، فأما اليمانيون:فَمَذْحِجُ، وكِنْدَةُ، والأزد، والأشعريون، وأنمار، وحمير. وأما الشامية فلخم، وجذام، وعاملة، وغسان. »

ورواه عَبد، عن الحسن بن موسى، عن ابن لَهِيعة، به . وهذا إسناد حسن، ولم يخرجوه، [ وقد روي من طرق متعددة ] . وقد رواه الحافظ أبو عمر بن عبد البر في كتاب « القصد والأمَمْ، بمعرفة أصول أنساب العرب والعجم » ، من حديث ابن لهيعة، عن علقمة بن وعلة، عن ابن عباس فذكر نحوه. وقد روي نحوه من وجه آخر.

وقال [ الإمام ] أحمد أيضا وعبد بن حميد:حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا أبو جَنَاب يحيى بن أبي حيَّة الكلبي، عن يحيى بن هانئ بن عُرْوَة، عن فروة بن مُسيَك قال:أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت:يا رسول الله، أقاتل بمقبل قومي مدبرهم؟ قال: « نعم، فقاتل بمقبل قومك مدبرهم » . فلما وليت دعاني فقال: « لا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى الإسلام » . فقلت:يا رسول الله، أرأيت سبأ؛ أواد هو، أو رجل ، أو ما هو؟ قال: « [ لا ] ، بل رجل من العرب، ولد له عشرة فَتَيَامَنَ ستة وتشاءم أربعة، تيامن الأزد، والأشعريون، وحمير، وكندة، ومذحج، وأنمار الذين يقال لهم:بجيلة وخثعم. وتشاءم لخم، وجذام، وعاملة، وغسَّان » .

وهذا أيضًا إسناد جيد وإن كان فيه أبو جَنَاب الكلبي، وقد تكلموا فيه . لكن رواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب، عن العَنْقَزِي ، عن أسباط بن نصر، عن يحيى بن هانئ المرادي، عن عمه أو عن أبيه - يشك أسباط- قال:قدم فروة بن مُسَيك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره.

طريق أخرى لهذا الحديث:قال ابن أبي حاتم:حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب، حدثني ابن لهيعة، عن توبة بن نَمر ، عن عبد العزيز بن يحيى أنه أخبره قال:كنا عند عبيدة بن عبد الرحمن بأفريقية فقال يومًا:ما أظن قوما بأرض إلا وهم من أهلها. فقال علي بن رباح:كلا قد حدثني فلان أن فروة بن مُسَيك الغُطَيفي قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله، إن سبأ قوم كان لهم عز في الجاهلية، وإني أخشى أن يرتدّوا عن الإسلام، أفأقاتلهم؟ فقال: « ما أمرت فيهم بشيء بعد » . فأنـزلت هذه الآية: ( لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ) الآيات، فقال له رجل:يا رسول الله، ما سبأ؟ فذكر مثل هذا الحديث الذي قبله:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن سبأ:ما هو؟ أبلد، أم رجل، أم امرأة؟ قال: « بل رجل، وَلَد له عَشَرَة فسكن اليمن منهم ستة، والشام أربعة، أما اليمانيون:فمذحج، وكندة، والأزد، والأشعريون، وأنمار، وحمير غير ما حلها. وأما الشام:فلخم، وجذام، وغسان، وعاملة » .

فيه غرابة من حيث ذكر [ نـزول ] الآية بالمدينة، والسورة مكية كلها، والله أعلم.

طريق أخرى:قال ابن جرير:حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا أبو أسامة، حدثني الحسن بن الحكم، حدثنا أبو سَبْرَة النَّخَعِي، عن فَرْوَة بن مُسَيْك الغُطَيْفي قال:قال رجل:يا رسول الله، أخبرني عن سبأ:ما هو؟ أرض، أم امرأة؟ قال: « ليس بأرض ولا امرأة، ولكنه رجل ولد له عشرة من الولد، فتيامن ستة وتشاءم أربعة، فأما الذين تشاءموا:فلخم وجذام وعاملة وغسان، وأما الذين تيامنوا:فكندة، والأشعريون، والأزد، ومذحج، وحمير، وأنمار » . فقال رجل:ما أنمار؟ قال: « الذين منهم خثعم وبجيلة » .

ورواه الترمذي في جامعه، عن أبي كُرَيْب وعبد بن حميد قالا حدثنا أبو أسامة، فذكره أبسط من هذا، ثم قال:هذا حديث حسن غريب.

وقال أبو عمر بن عبد البر:حدثنا عبد الوارث بن سفيان، حدثنا قاسم بن أصبغ، حدثنا أحمد بن زهير، حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي، حدثنا ابن كثير - هو عثمان بن كثير- عن الليث بن سعد، عن موسى بن على، عن يزيد بن حصين، عن تميم الداري؛ أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن سبأ، فذكر مثله، فقوي هذا الحديث وحَسّن.

قال علماء النسب، منهم محمد بن إسحاق:اسم سبأ:عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان.

وإنما سمي سبأ لأنه أول من سبأ في العرب، وكان يقال له:الرائش؛ لأنه أول من غنم في الغزو فأعطى قومه، فسمي الرائش، والعرب تسمي المال:ريشا ورياشا. وذكروا أنه بشَّر برسول الله صلى الله عليه وسلم في زمانه المتقدم، وقال في ذلك شعرًا:

سَــيَمْلِكُ بَعْدَنَــا مُلْكًــا عَظيمًــا نَبــيّ لا يُرَخِّــصُ فــي الحَـرَام

وَيَـْملــك بَعْــدَه منْهُــم مُلُـوك يدينـــوه العبـــادَ بغَــيـر ذام

ويَمـلــك بَعــدهم منــا مُلُـوك يَصــير المُلــك فينَــا باقْتسَــام

وَيَمْلـــك بَعْـَــد قَحْطَـان نَبـي تَقــي خَبْتَــة خـــير الأنـــام

وسُــميَ أحْـمَـدًا يَـا لَيْـتَ أنـي أُعَمَّــرُ بَعْــد مَبْعَثـــه بعـــام

فــأعضُـده وأَحْــبوه بنَصْــري بكُــــل مُـدَجّـــج وبكُــل رام

متــى يَظْهَــرْ فَكُونُـوا نَاصريـه وَمَــنْ يَلْقَــاهُ يُبْلغــه سَــلامي

ذكر ذلك الهمداني في كتاب « الإكليل » .

واختلفوا في قحطان على ثلاثة أقوال:

أحدها:أنه من سلالة إرم بن سام بن نوح، واختلفوا في كيفية اتصال نسبه به على ثلاث طرائق.

والثاني:أنه من سلالة عَابَر، وهو هود، عليه الصلاة والسلام، واختلفوا في كيفية اتصال نسبه به على ثلاث طرائق أيضًا.

والثالث:أنه من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل، عليهما السلام، واختلفوا في كيفية اتصال نسبه به على ثلاث طرائق أيضا. وقد ذكر ذلك مستقصى الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر النَّمري، رحمه الله، في كتابه [ المسمى ] : « الإنباه على ذكر أصول القبائل الرواة » .

ومعنى قوله عليه السلام: « كان رجلا من العرب » يعني:العرب العاربة الذين كانوا قبل الخليل، عليه السلام، من سلالة سام بن نوح. وعلى القول الثالث:كان من سلالة الخليل، عليه السلام، وليس هذا بالمشهور عندهم، والله أعلم. ولكن في صحيح البخاري:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بنفر من « أسلَمَ » ينتضلون، فقال: « ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميا » . فأسلم قبيلة من الأنصار، والأنصار أوسها وخزرجها من غسان من عرب اليمن من سبأ، نـزلوا بيثرب لما تفرقت سبأ في البلاد، حين بعث الله عليهم سيل العرم، ونـزلت طائفة منهم بالشام، وإنما قيل لهم:غَسَّان بماء نـزلوا عليه قيلَ:باليمن. وقيل:إنه قريب من المُشَلَّل ، كما قال حسان بن ثابت:

إمَّــا سَــألت فَإنَّـا مَعْشَـرٌ نُجُـبٌ الأزْدُ نِسْـــبَتُنَا, والمــاء غَسَّــانُ

ومعنى قوله: « ولد له عشرة من العرب » أي:كان من نسله هؤلاء العشرة الذين يرجع إليهم أصول القبائل من عرب اليمن، لا أنهم ولدوا من صلبه، بل منهم من بينه وبينه الأبوان والثلاثة والأقل والأكثر، كما هو مقرر مبين في مواضعه من كتب النسب.

ومعنى قوله: « فتيامن منهم ستة، وتشاءم منهم أربعة » أي:بعد ما أرسل الله عليهم سيل العرم، منهم مَنْ أقام ببلادهم، ومنهم مَنْ نـزح عنها إلى غيرها، وكان من أمر السد أنه كان الماء يأتيهم من بين جبلين وتجتمع إليه أيضا سيول أمطارهم وأوديتهم، فعَمَدَ ملوكهم الأقادم، فبنوا بينهما سدًا عظيما محكما حتى ارتفع الماء، وحُكمَ على حافات ذينك الجبلين، فغرسوا الأشجار واستغلوا الثمار في غاية ما يكون من الكثرة والحسن، كما ذكر غير واحد من السلف، منهم قتادة:أن المرأة كانت تمشي تحت الأشجار وعلى رأسها مكتل أو زنبيل، وهو الذي تخترف فيه الثمار، فيتساقط من الأشجار في ذلك ما يملؤه من غير أن يحتاج إلى كلفة ولا قُطَّاف، لكثرته ونضجه واستوائه، وكان هذا السد بمأرب:بلدة بينها وبين صنعاء ثلاث مراحل، ويعرف بسد مأرب.

وذكر آخرون أنه لم يكن ببلدهم شيء من الذباب ولا البعوض ولا البراغيث، ولا شيء من الهوام، وذلك لاعتدال الهواء وصحة المزاج وعناية الله بهم، ليوحدوه ويعبدوه، كما قال تعالى: ( لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ) ، ثم فسرها بقوله: ( جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ ) أي:من ناحيتي الجبلين والبلدة بين ذلك، ( كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ) أي:غفور لكم إن استمررتم على التوحيد.

وقوله: ( فَأَعْرَضُوا ) أي:عن توحيد الله وعبادته وشكره على ما أنعم به عليهم، وعدلوا إلى عبادة الشمس، كما قال هدهد سليمان: وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ [ النمل:22، 24 ] .

وقال محمد بن إسحاق، عن وهب بن مُنَبّه:بعث الله إليهم ثلاثة عشر نبيا.

وقال السُّدِّي:أرسل الله إليهم اثني عشر ألف نبي، والله أعلم.

وقوله: ( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ ) :قيل:المراد بالعرم المياه. وقيل:الوادي. وقيل:الجُرَذ. وقيل:الماء الغزير. فيكون من باب إضافة الاسم إلى صفته، مثل: « مسجد الجامع » . و « سعيد كُرْز » حكى ذلك السهيلي.

وذكر غير واحد منهم ابن عباس، ووهب بن منبه، وقتادة، والضحاك؛ أن الله، عز وجل، لما أراد عقوبتهم بإرسال العرم عليهم، بعث على السد دابة من الأرض، يقال لها: « الجُرَذ » نقبته - قال وهب بن منبه:وقد كانوا يجدون في كتبهم أن سبب خراب هذا السد هو الجُرَذ فكانوا يرصدون عنده السنانير برهة من الزمان، فلما جاء القدر غلبت الفأر السنانير، وولجت إلى السَّدّ فنقبته، فانهار عليهم.

وقال قتادة وغيره:الجُرَذ:هو الخَلْد، نقبت أسافله حتى إذا ضَعف ووَهَى، وجاءت أيام السيول، صَدمَ الماءُ البناءَ فسقط، فانساب الماء في أسفل الوادي، وخرّبَ ما بين يديه من الأبنية والأشجار وغير ذلك، ونضب الماء عن الأشجار التي في الجبلين عن يمين وشمال، فيبست وتحطمت، وتبدلت تلك الأشجار المثمرة الأنيقة النضرة، كما قال الله وتعالى: ( وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ ) .

قال ابن عباس، ومجاهد، وعِكْرِمة، وعطاء الخُرَاساني، والحسن، وقتادة، والسُّدِّي:وهو الأراك، وأكلة البَرير.

( وَأَثْل ) :قال العوفي، عن ابن عباس:هو الطَّرْفاء.

وقال غيره:هو شجر يشبه الطرفاء. وقيل:هو السّمُر. فالله أعلم.

وقوله: ( وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ) :لما كان أجودَ هذه الأشجار المبدل بها هو السّدْر قال: ( وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ) ، فهذا الذي صار أمر تَيْنك الجنتين إليه، بعد الثمار النضيجة والمناظر الحسنة، والظلال العميقة والأنهار الجارية، تبدلت إلى شجر الأراك والطرفاء والسّدْر ذي الشوك الكثير والثمر القليل. وذلك بسبب كفرهم وشركهم بالله، وتكذيبهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل؛ ولهذا قال: ( ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ ) أي:عاقبناهم بكفرهم.

قال مجاهد:ولا يعاقب إلا الكفور.

وقال الحسن البصري:صدق الله العظيم. لا يعاقب بمثل فعله إلا الكفور. وقال طاوس:لا يناقش إلا الكفور.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أبو عمر بن النحاس الرملي، حدثنا حجاج بن محمد، حدثنا أبو البيداء، عن هشام بن صالح التغلبي ، عن ابن خيرة - وكان من أصحاب علي، رضي الله عنه- قال:جزاء المعصية الوهن في العبادة، والضيق في المعيشة، والتعسر في اللذة. قيل:وما التعسر في اللذة؟ قال:لا يصادف لذة حلالا إلا جاءه مَنْ يُنَغِّصه إياها.

وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ ( 18 ) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ( 19 ) .

يذكر تعالى ما كانوا فيه من الغِبْطة والنعمة، والعيش الهني الرغيد، والبلاد الرخية، والأماكن الآمنة، والقرى المتواصلة المتقاربة، بعضها من بعض، مع كثرة أشجارها وزروعها وثمارها، بحيث إن مسافرهم لا يحتاج إلى حَمل زاد ولا ماء، بل حيث نـزل وجد ماء وثمرا، ويَقيل في قرية ويبيت في أخرى، بمقدار ما يحتاجون إليه في سيرهم؛ ولهذا قال تعالى: ( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ) ، قال وهب بن منبه:هي قرى بصنعاء. وكذا قال أبو مالك.

وقال مجاهد، والحسن، وسعيد بن جبير، ومالك عن زيد بن أسلم، وقتادة، والضحاك، والسُّدِّي، وابن زيد وغيرهم :يعني:قرى الشام. يعنون أنهم كانوا يسيرون من اليمن إلى الشام في قرى ظاهرة متواصلة.

وقال العوفي، عن ابن عباس:القرى التي باركنا فيها :بيت المقدس.

وقال العوفي، عنه أيضا:هي قرى عربية بين المدينة والشام.

( قُرًى ظَاهِرَةً ) أي:بينة واضحة، يعرفها المسافرون، يَقيلون في واحدة، ويبيتون في أخرى؛ ولهذا قال: ( وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ ) أي:جعلناها بحسب ما يحتاج المسافرون إليه، ( سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ ) أي:الأمن حاصل لهم في سيرهم ليلا ونهارا.

( فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ) ، وقرأ آخرون: « بعد بين أسفارنا » ، وذلك أنهم بَطروا هذه النعمة - كما قاله ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وغير واحد- وأحبوا مفاوز ومهامه يحتاجون في قطعها إلى الزاد والرواحل والسير في الحَرُور والمخاوف، كما طلب بنو إسرائيل من موسى أن يخرج الله لهم مما تنبت الأرض، من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها، مع أنهم كانوا في عيش رغيد في مَنّ وسلوى وما يشتهون من مآكل ومشارب وملابس مرتفعة؛ ولهذا قال لهم: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [ البقرة:61 ] ، وقال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا [ القصص:58 ] ، وقال تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [ النحل:112 ] . وقال في حق هؤلاء: ( وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ) أي:بكفرهم، ( فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ) أي:جعلناهم حديثا للناس، وَسمَرًا يتحدثون به من خبرهم، وكيف مكر الله بهم، وفرق شملهم بعد الاجتماع والألفة والعيش الهنيء تفرقوا في البلاد هاهنا وهاهنا؛ ولهذا تقول العرب في القوم إذا تفرقوا: « تفرقوا أيدي سبأ » « وأيادي سبأ » و « تفرقوا شَذَرَ مَذَرَ » .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان، حدثنا إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، سمعت أبي يقول:سمعت عكرمة يحدث بحديث أهل سبأ، قال: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ [ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ ] إلى قوله: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وكانت فيهم كهنة، وكانت الشياطين يسترقون السمع، فأخبروا الكهنة بشيء من أخبار السماء، فكان فيهم رجل كاهن شريف كثير المال، وإنه خُبّر أن زوال أمرهم قد دنا، وأن العذاب قد أظلهم . فلم يدر كيف يصنع؛ لأنه كان له مال كثير من عقار، فقال لرجل من بنيه - وهو أعزهم أخوالا- :إذا كان غدا وأمرتك بأمر فلا تفعل، فإذا انتهرتك فانتهرني، فإذا تناولتك فالطمني. فقال:يا أبت، لا تفعل، إن هذا أمر عظيم، وأمر شديد، قال:يا بني، قد حدث أمر لا بد منه. فلم يزل به حتى وافاه على ذلك. فلما أصبحوا واجتمع الناس، قال:يا بني، افعل كذا وكذا. فأبى، فانتهره أبوه، فأجابه، فلم يزل ذلك بينهما حتى تناوله أبوه، فوثب على أبيه فلطمه، فقال:ابني يلطمني؟ عَلَيّ بالشفرة. قالوا:وما تصنع بالشفرة؟ قال:أذبحه. قالوا:تذبح ابنك. الطمه أو اصنع ما بدا لك. قال:فأبى، قال:فأرسلوا إلى أخواله فأعلموهم ذلك، فجاء أخواله فقالوا:خذ منا ما بدا لك. فأبى إلا أن يذبحه. قالوا:فلتموتن قبل أن تذبحه. قال:فإذا كان الحديث هكذا فإني لا أرى أن أقيم ببلد يحال بيني وبين ولدي فيه، اشتروا مني دوري، اشتروا مني أرضي، فلم يزل حتى باع دوره وأرضيه وعقاره، فلما صار الثمن في يده وأحرزه، قال:أي قوم، إن العذاب قد أظلكم، وزوال أمركم قد دنا، فمن أراد منكم دارا جديدا، وجملا شديدا، وسفرا بعيدا، فليلحق بعمان. ومن أراد منكم الخَمْر والخَمير والعَصير - وكلمة، قال إبراهيم:لم أحفظها- فليلحق ببصْرَى، ومن أراد الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل، المقيمات في الضحل، فليلحق بيثرب ذات نخل. فأطاعه قومه فخرج أهل عمان إلى عمان. وخرجت غسان إلى بصرى. وخرجت الأوس والخزرج وبنو عثمان إلى يثرب ذات النخل. قال:فأتوا على بطن مر فقال بنو عثمان:هذا مكان صالح، لا نبغي به بدلا. فأقاموا به، فسموا لذلك خزاعة، لأنهم انخزعوا من أصحابهم، واستقامت الأوس والخزرج حتى نـزلوا المدينة، وتوجه أهل عمان إلى عمان، وتوجهت غسان إلى بصرى.

هذا أثر غريب عجيب، وهذا الكاهن هو عمرو بن عامر أحد رؤساء اليمن وكبراء سبأ وكهانهم.

وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار في أول السيرة ما كان من أمر عمرو بن عامر الذي كان أول من خرج من بلاد اليمن، بسبب استشعاره بإرسال العَرم فقال:وكان سبب خروج عمرو بن عامر من اليمن - فيما حدثني أبو زيد الأنصاري- :أنه رأى جرذًا يَحفر في سد مأرب، الذي كان يحبس عنهم الماء فيصرفونه حيث شاؤوا من أرضهم. فعلم أنه لا بقاء للسد على ذلك، فاعتزم على النَّقُلة عن اليمن فكاد قومه، فأمر أصغر أولاده إذا أغلظ له ولطمه أن يقوم إليه فيلطمه، ففعل ابنه ما أمره به، فقال عمرو:لا أقيم ببلد لَطَم وجهي فيها أصغر ولدي . وعرض أمواله، فقال أشراف من أشراف اليمن:اغتنموا غَضْبَةَ عمرو. فاشتروا منه أمواله، وانتقل هو في ولده وولد ولده. وقالت الأزد:لا نتخلف عن عمرو بن عامر. فباعوا أموالهم، وخرجوا معه فساروا حتى نـزلوا بلاد « عك » مجتازين يرتادون البلدان، فحاربتهم عك، وكانت حربهم سجَالا. ففي ذلك يقول عباس بن مرداس السلمي:

وَعَــكَ بـنُ عَدنَـانَ الـذين تَغَلَّبُـوا بِغَسَّـانَ, حـتى طُـرّدُوا كُـلّ مَطْرَد

وهذا البيت من قصيدة له.

قال:ثم ارتحلوا عنهم فتفرقوا في البلاد، فنـزل آل جَفْنَة بن عمرو بن عامر الشام، ونـزلت الأوس والخزرج يثرب، ونـزلت خزاعة مَرّا. ونـزلت أزد السراة السراة، ونـزلت أزد عُمَان عُمان، ثم أرسل الله على السد السيل فهدمَه، وفي ذلك أنـزل الله عز وجل هذه الآيات.

وقد ذكر السدي قصة عمرو بن عامر بنحو مما ذكر محمد بن إسحاق، إلا أنه قال: « فأمر ابن أخيه » ، مكان « ابنه » ، إلى قوله: « فباع ماله وارتحل بأهله، فتفرقوا » . رواه ابن أبي حاتم.

وقال ابن جرير:حدثنا ابن حميد، أخبرنا [ سلمة ] ، عن ابن إسحاق قال:يزعمون أن عمرو بن عامر - وهو عم القوم- كان كاهنًا، فرأى في كهانته أن قومه سَيمَزّقون ويباعَدُ بين أسفارهم. فقال لهم:إني قد علمت أنكم ستمزقون، فمن كان منكم ذا هَمٍّ بعيد وجمل شديد، ومَزَاد جَديد - فليلحق بكاس أو كرود. قال:فكانت وادعة بن عمرو. ومَنْ كان منكم ذا هَمّ مُدْن، وأمر دَعْن، فليلحق بأرض شَنْ. فكانت عوف بن عمرو، وهم الذين يقال لهم:بارق. ومَنْ كان منكم يريد عيشا آنيا، وحرما آمنا، فليلحق بالأرزين. فكانت خزاعة. ومَنْ كان منكم يريد الراسيات في الوحل، المطعمات في المحل، فليلحق بيثرب ذات النخل. فكانت الأوس والخزرج، وهما هذان الحيان من الأنصار. ومَنْ كان منكم يريد خمرا وخَميرا، وذهبا وحريرا، وملكا وتأميرا، فليلحق بكُوثي وبُصرى، فكانت غسانَ بنو جَفنة ملوكُ الشام. ومَنْ كان منهم بالعراق. قال ابن إسحاق:وقد سمعت بعض أهل العلم يقول:إنما قالت هذه المقالة طريفةُ امرأة عمرو بن عامر، وكانت كاهنة، فرأت في كهانتها ذلك، فالله أعلم أيّ ذلك كان.

وقال سعيد، عن قتادة، عن الشعبي:أما غسان فلحقوا بالشام، وأما الأنصار فلحقوا بيثرب، وأما خزاعة فلحقوا بتهامة، وأما الأزد فلحقوا بعمان، فمزقهم الله كل ممزق. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.

ثم قال محمد بن إسحاق:حدثني أبو عبيدة قال:قال الأعشى - أعشى بني قيس بن ثعلبة- واسمه:ميمون بن قيس:

وَفـــي ذَاكَ للمُؤتَسـي أسْـــوَةٌ ومَـــأربُ عَفّـى عَلَـيهـا العَـــرمْ

رُخَـــام بَنَـتْـــهُ لَــهُمْ حِمْــيرُ إذا جــاءَ مَــوَارهُ لــم يَـــــرمْ

فَـــأرْوَى الـــزُّرُوعَ وَأعنَابَهـــا عَـلَى سَـــعَة مَـــاؤهُمْ إذْ قُسِم

فَـصَــارُوا أيَـــادي مَــا يَقْـدرُو نَ منْــه عَـلَى شُـرب طِفْـل فُطِـم

وقوله تعالى: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) أي:إن في هذا الذي حل بهؤلاء من النقمة والعذاب، وتبديل النعمة وتحويل العافية، عقوبةَ على ما ارتكبوه من الكفر والآثام - لعبرةً وَدَلالةً لكل عبد صبار على المصائب، شكور على النعم.

قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرحمن وعبد الرزاق المعني، قالا أخبرنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن العَيْزَار بن حُرَيث عن عمر بن سعد، عن أبيه - هو سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه- قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « عجبت من قضاء الله تعالى للمؤمن، إن أصابه خير حَمدَ رَبَّه وشكر، وإن أصابته مصيبة حَمِد ربه وصَبَر، يؤجر المؤمن في كل شيء، حتى في اللقمة يرفعها إلى في امرأته » .

وقد رواه النسائي في « اليوم والليلة » ، من حديث أبي إسحاق السَّبِيعي، به - وهو حديث عزيز- من رواية عمر بن سعد، عن أبيه. ولكن له شاهد في الصحيحين من حديث أبي هريرة: « عجبًا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له. وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن » .

قال عبد:حدثنا يونس، عن شيبان، عن قتادة ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) قال:كان مطرّف يقول:نعم العبد الصبار الشكور، الذي إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر .

وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( 20 ) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ( 21 ) .

لما ذكر [ الله ] تعالى قصة سبأ وما كان من أمرهم في اتباعهم الهوى والشيطان، أخبر عنهم وعن أمثالهم ممن اتبع إبليس والهوى، وخالف الرشاد والهدى، فقال: ( وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ) .

قال ابن عباس وغيره:هذه الآية كقوله تعالى إخبارًا عن إبليس حين امتنع من السجود لآدم، ثم قال: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا [ الإسراء:62 ] ، ثم قال: ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [ الأعراف:17 ] والآيات في هذا كثيرة.

وقال الحسن البصري:لما أهبط الله آدم من الجنة ومعه حواء، هبط إبليس فَرحا بما أصاب منهما، وقال:إذا أصبت من الأبوين ما أصبت، فالذرية أضعف وأضعف. وكان ذلك ظنًّا من إبليس، فأنـزل الله عز وجل: ( وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) فقال عند ذلك إبليس: « لا أفارق ابن آدم ما دام فيه الروح، أعدُه وأُمَنّيه وأخدعه » . فقال الله: « وعزتي لا أحجب عنه التوبة ما لم يُغَرغِر بالموت، ولا يدعوني إلا أجبته، ولا يسألني إلا أعطيته، ولا يستغفرني إلا غفرت له » . رواه ابن أبي حاتم.

وقوله: ( وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ ) قال ابن عباس:أي من حجة.

وقال الحسن البصري:والله ما ضربهم بعصا، ولا أكرههم على شيء، وما كان إلا غرورا وأماني دعاهم إليها فأجابوه.

وقوله: ( إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ ) أي:إنما سلطناه عليهم ليظهرَ أمر مَنْ هو مؤمن بالآخرة وقيامها والحساب فيها والجزاء، فيُحسِنَ عبادة ربه عز وجل في الدنيا، ممن هو منها في شك.

وقوله: ( وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ) أي:ومع حفظه ضَلّ من ضَلّ من اتباع إبليس، وبحفظه وكلاءته سَلِم مَنْ سلم من المؤمنين أتباع الرسل.

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ( 22 )

بَيَّن تعالى أنه الإله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لا نظير له ولا شريك له، بل هو المستقل بالأمر وحده، من غير مشارك ولا منازع ولا معارض، فقال: ( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) أي:من الآلهة التي عبدت من دونه ( لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ ) ، كما قال تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ [ فاطر:13 ] .

وقوله: ( وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ ) أي:لا يملكون شيئا استقلالا ولا على سبيل الشركة، ( وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ) أي:وليس لله من هذه الأنداد من ظهير يستظهر به في الأمور، بل الخلق كلهم فقراء إليه، عبيد لديه.

قال قتادة في قوله: ( وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ) ، من عون يعينه بشيء.

 

وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ( 23 ) .

وقال: ( وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) أي:لعظمته [ وجلاله ] وكبريائه لا يجترئ أحد أن يشفع عنده تعالى في شيء إلا بعد إذنه له في الشفاعة، كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ [ البقرة:255 ] ، وقال: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ [ وَيَرْضَى ] [ النجم:26 ] ، وقال: وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [ الأنبياء:28 ] .

ولهذا ثبت في الصحيحين ، من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو سيد ولد آدم، وأكبر شفيع عند الله- :أنه حين يقوم المقام المحمود ليشفع في الخلق كلّهم أن يأتي ربّهم لفصل القضاء، قال: « فأسجد لله فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ويفتح علي بمحامد لا أحصيها الآن، ثم يقال:يا محمد، ارفع رأسك، وقل يُسمع ، وسل تُعْطَه واشفع تشفع » الحديث بتمامه.

وقوله: ( حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ ) . وهذا أيضا مقام رفيع في العظمة. وهو أنه تعالى إذا تكلم بالوحي، سمع أهل السموات كلامه، أرْعدوا من الهيبة حتى يلحقهم مثل الغشي. قاله ابن مسعود ومسروق، وغيرهما.

( حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِم ) أي:زال الفزع عنها. قال ابن عباس، وابن عمر وأبو عبد الرحمن السلمي والشعبي، وإبراهيم النَّخَعيّ، والضحاك والحسن، وقتادة في قوله تعالى: ( حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِم ) يقول:جُلِّى عن قلوبهم، وقرأ بعض السلف - وجاء مرفوعا- : « [ حَتَّى ] إذَا فرغ » بالغين المعجمة، ويرجع إلى الأول.

فإذا كان كذلك يسأل بعضهم بعضا:ماذا قال ربكم؟ فيخبر بذلك حملة العرش للذين يلونهم، ثم الذين يلونهم لمن تحتهم، حتى ينتهي الخبر إلى أهل السماء الدنيا؛ ولهذا قال: ( قَالُوا الْحَقّ ) أي:أخبروا بما قال من غير زيادة ولا نقصان، ( وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) .

وقال آخرون:بل معنى قوله: ( حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ) يعني:المشركين عند الاحتضار، ويوم القيامة إذا استيقظوا مما كانوا فيه من الغفلة في الدنيا، ورجعت إليهم عقولهم يوم القيامة، قالوا:ماذا قال ربكم؟ فقيل لهم:الحق وأخبروا به مما كانوا عنه لاهين في الدنيا.

قال ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ) :كشف عنها الغطاء يوم القيامة.

وقال الحسن: ( حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ) يعني:ما فيها من الشك والتكذيب. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ( حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ) يعني:ما فيها من الشك، قال:فزع الشيطان عن قلوبهم وفارقهم وأمانيهم وما كان يضلهم، ( قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) قال:وهذا في بني آدم، هذا عند الموت، أقروا حين لا ينفعهم الإقرار.

وقد اختار ابن جرير القول الأول:أن الضمير عائد على الملائكة . هذا هو الحق الذي لا مرية فيه، لصحة الأحاديث فيه والآثار، ولنذكر منها طرفا يدل على غيره:

قال البخاري عند تفسير هذه الآية الكريمة في صحيحه:حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا عمرو، سمعت عِكْرِمة، سمعت أبا هُرَيرة يقول:إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: « إذا قضى الله الأمرَ في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خُضعانًا لقوله، كأنه سلسلة على صفوانَ، فإذا فُزِّع عن قلوبهم قالوا:ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال:الحقّ، وهو العلي الكبير فيسمعها مُسْتَرق السمع، ومسترق السمع - هكذا بعضه فوق بعض- ووصف سفيان بيده- فَحَرّفها وبَدّد بين أصابعه- فَيسمع الكلمة، فيلقيها إلى مَنْ تحته، ثم يلقيها الآخر إلى مَنْ تحته، حتى يلقيَها على لسان الساحر أو الكاهن، فَربما أدركه الشّهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كَذْبَة، فيقال:أليس قد قال لنا يومَ كذا وكذا:كذا وكذا؟ فيصدّق بتلك الكلمة التي سُمعت من السماء.»

انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم من هذا الوجه. وقد رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، من حديث سفيان بن عيينة، به.

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر وعبد الرزاق:أخبرنا مَعْمَر، أخبرنا الزهري، عن علي بن الحسين، عن ابن عباس قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم [ جالسًا ] في نفر من أصحابه - قال عبد الرزاق: « من الأنصار » - فَرُميَ بنجم فاستنار، [ قال ] : « ما كنتم تقولون إذا كان مثلُ هذا في الجاهلية؟ » قالوا:كنا نقول يُولَد عظيم، أو يموت عظيم - قلت للزهري:أكان يرمى بها في الجاهلية؟ قال:نعم، ولكن غُلّظت حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم - قال:فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا، تبارك وتعالى، إذا قضى أمرا سبح حَمَلةُ العرش [ ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح هذه الدنيا، ثم يستخبر أهل السماء الذين يَلُونَ حملة العرش، فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش ] :ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم، ويخبر أهل كل سماء سماء؛ حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء، وتخطف الجن السمع فيرمون، فما جاؤوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يفرقون فيه ويزيدون.»

هكذا رواه الإمام أحمد . وقد أخرجه مسلم في صحيحه، من حديث صالح بن كَيْسَان، والأوزاعي، ويونس ومَعْقِل بن عبيد الله ، أربعتهم عن الزهري، عن علي بن الحسين، عن ابن عباس عن رجل من الأنصار، به . ورواه وقال يونس:عن رجال من الأنصار ، وكذا رواه النسائي في « التفسير » من حديث الزبيدي، عن الزهري، به . ورواه الترمذي فيه عن الحُسَين بن حريث؛ عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن عُبَيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن رجل من الأنصار، رضي الله عنه ، والله أعلم.

حديث آخر:قال ابن أبى حاتم:حدثنا محمد بن عوف وأحمد بن منصور بن سيار الرمادي - والسياق لمحمد بن عوف- قالا حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا الوليد - هو ابن مسلم- عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن عبد الله بن أبي زكرياء، عن رجاء بن حيوة، عن النواس بن سَمْعان قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا أراد الله أن يوحي بأمره تكلم بالوحي، فإذا تكلم أخذت السموات منه رجفة - أو قال:رعدة- شديدة؛ من خوف الله، فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجدا، فيكون أول مَنْ يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد، فيمضي به جبريل على الملائكة، كلما مَرّ بسماء سماء سأله ملائكتها:ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول:قال:الحقّ، وهو العلي الكبير. فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي حيث أمره الله من السماء والأرض » .

وكذا رواه ابن جرير وابن خُزَيمة، عن زكريا بن أبان المصري، عن نعيم بن حماد، به.

قال ابن أبي حاتم:سمعت أبي يقول:ليس هذا الحديث بالشام عن الوليد بن مسلم، رحمه الله.

وقد روى ابن أبي حاتم من حديث العَوفي، عن ابن عباس - وعن قتادة:أنهما فسرا هذه الآية بابتداء إيحاء الله سبحانه إلى محمد صلى الله عليه وسلم بعد الفترة التي كانت بينه وبين عيسى، ولا شك أن هذا أولى ما دخل في هذه الآية.

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 24 ) قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( 25 ) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ( 26 ) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 27 ) .

يقول تعالى مقررًا تفرُّدَه بالخلق والرزق ، وانفراده بالإلهية أيضا، فكما كانوا يعترفون بأنه لا يرزقهم من السماء والأرض - أي:بما ينـزل من المطر وينبت من الزرع- إلا الله، فكذلك فليعلموا أنه لا إله غيره.

وقوله: ( وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) :هذا من باب اللف والنشر، أي:واحد من الفريقين مبطل، والآخر محق، لا سبيل إلى أن تكونوا أنتم ونحن على الهدى أو على الضلال، بل واحد منا مصيب، ونحن قد أقمنا البرهان على التوحيد، فدل على بطلان ما أنتم عليه من الشرك بالله؛ ولهذا قال: ( وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

قال قتادة:قد قال ذلك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم للمشركين:والله ما نحن وإياكم على أمر واحد، إن أحد الفريقين لمهتد.

وقال عِكْرِمة وزياد بن أبي مريم:معناه:إنا نحن لعلى هدى، وإنكم لفي ضلال مبين.

وقوله: ( قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) :معناه التبري منهم، أي:لستم منا ولا نحن منكم، بل ندعوكم إلى الله وإلى توحيده وإفراد العبادة له، فإن أجبتم فأنتم منا ونحن منكم، وإن كذبتم فنحن برآء منكم وأنتم بُرآء منا، كما قال تعالى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [ يونس:41 ] ، وقال: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [ سورة الكافرون ] .

وقوله: ( قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ) أي:يوم القيامة، يجمع [ بين ] الخلائق في صعيد واحد، ثم يفتح بيننا بالحق، أي:يحكم بيننا بالعدل، فيجزي كل عامل بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وستعلمون يومئذ لمن العزة والنصرة والسعادة الأبدية، كما قال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ [ الروم:14- 16 ] ؛ ولهذا قال تعالى: ( وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ) أي:الحاكم العادل العالم بحقائق الأمور.

وقوله: ( قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ ) أي:أروني هذه الآلهة التي جعلتموها لله أندادا وصيَّرتموها له عدْلا. ( كَلا ) أي:ليس له نظير ولا نَديد، ولا شريك ولا عديل، ولهذا قال: ( بَلْ هُوَ اللَّهُ ) :أي:الواحد الأحد الذي لا شريك له ( الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) أي:ذو العزة التي قد قهر بها كل شيء، وَغَلَبت كل شيء، الحكيم في أفعاله وأقواله، وشرعه وقدره، تعالى وتقدس.

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ( 28 ) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 29 ) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ ( 30 ) .

يقول تعالى لعبده ورسوله محمد، صلوات الله وسلامه عليه : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ ) :أي:إلا إلى جميع الخلق من المكلفين، كقوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [ الأعراف:158 ] ، تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [ الفرقان:1 ] . ( بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) أي تبشر مَنْ أطاعك بالجنة، وتنذر مَنْ عصاك بالنار.

( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) ، كقوله تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [ يوسف:103 ] ، وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ الأنعام:116 ] .

قال محمد بن كعب في قوله: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ ) يعني:إلى الناس عامة.

وقال قتادة في هذه الآية:أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى العرب والعجم، فأكرمُهم على الله أطوعهم لله عز وجل.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو عبد الله الظهراني، حدثنا حفص بن عمر العَدَني، حدثنا الحكم - يعني:ابن أبان - عن عِكْرِمة قال:سمعت ابن عباس يقول:إن الله فضل محمدًا صلى الله عليه وسلم على أهل السماء وعلى الأنبياء. قالوا:يا بن عباس، فيم فضله الله على الأنبياء؟ قال:إن الله قال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ ) ، فأرسله الله إلى الجن والإنس.

وهذا الذي قاله ابن عباس قد ثبت في الصحيحين رَفْعهُ عن جابر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي:نصرت بالرعب مسيرة شهر. وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل. وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي. وأعطيت الشفاعة. وكان النبي يبعث إلى قومه، وبعثت إلى الناس عامة » .

وفي الصحيح أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « بعثت إلى الأسود والأحمر » :قال مجاهد. يعني:الجن والإنس. وقال غيره:يعني:العرب والعجم. والكل صحيح.

ثم قال تعالى مخبرا عن الكفار في استبعادهم قيام الساعة: ( وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) ، كما قال تعالى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ الآية [ الشورى:18 ] .

ثم قال: ( قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ ) أي:لكم ميعاد مؤجل معدود محرر، لا يزداد ولا ينتقص، فإذا جاء فلا يؤخر ساعة ولا يقدم، كما قال تعالى: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ [ نوح:4 ] ،وقال وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [ هود:104، 105 ] .

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ( 31 )

يخبر تعالى عن تمادي الكفار في طغيانهم وعنادهم وإصرارهم على عدم الإيمان بالقرآن وما أخبر به من أمر المعاد؛ ولهذا قال: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ . قال الله تعالى متهددا لهم ومتوعدا، ومخبرا عن مواقفهم الذليلة بين يديه في حال تخاصمهم وتحاجهم: يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا منهم وهم الأتباع لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا وهم قادتهم وسادتهم: لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ أي:لولا أنتم تصدونا، لكنا اتبعنا الرسل وآمنا بما جاؤونا به.

 

قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ ( 32 ) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 33 ) .

فقال لهم القادة والسادة، وهم الذين استكبروا: ( أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ ) أي:نحن ما فعلنا بكم أكثر من أنَّا دعوناكم فاتبعتمونا من غير دليل ولا برهان، وخالفتم الأدلة والبراهين والحجج التي جاءت بها الأنبياء، لشهوتكم واختياركم لذلك؛ ولهذا قالوا: ( بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) أي:بل كنتم تمكرون بنا ليلا ونهارا، وتَغُرّونا وتُمَنّونا، وتخبرونا أنا على هدى وأنا على شيء، فإذا جميع ذلك باطل وكَذبٌ ومَيْن.

قال قتادة، وابن زيد : ( بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) يقول:بل مكرهم بالليل والنهار. وكذا قال مالك، عن زيد بن أسلم:مكرهم بالليل والنهار.

( إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا ) أي نظراء وآلهة معه، وتقيموا لنا شُبَهًا وأشياءَ من المحال تضلونا بها ( وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ ) أي:الجميع من السادة والأتباع، كُلٌّ نَدم على ما سَلَف منه.

( وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا ) :وهي السلاسل التي تجمع أيديهم مع أعناقهم، ( هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) أي:إنما نجازيكم بأعمالكم ، كُلٌّ بحسبه، للقادة عذاب بحسبهم، وللأتباع بحسبهم قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ [ الأعراف:38 ] .

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا فَرْوَة بن أبي المغراء، حدثنا محمد بن سليمان بن الأصبهاني، عن أبي سنان ضرار بن صُرَد، عن عبد الله بن أبي الهُذَيل ، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن جهنم لما سيق إليها أهلها تَلَقَّاهم لهبها، ثم لَفَحَتْهُم لفحةً فلم يبق لحم إلا سقط على العرقوب » .

وحدثنا أبي، حدثنا أحمد بن أبي الحواري، حدثنا الطيب أبو الحسن، عن الحسن بن يحيى الخُشَني قال:ما في جهنم دار ولا مغار ولا غل ولا سلسلة ولا قيد، إلا اسم صاحبها عليه مكتوب. قال:فحدثته أبا سليمان - يعني:الداراني، رحمة الله عليه - فبكى ثم قال:ويحك. فكيف به لو جمع هذا كله عليه، فجعل القيد في رجليه، والغُلّ في يديه والسلسلة في عنقه، ثم أدخل النار وأدخل المغار؟!

وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ( 34 ) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ( 35 ) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ( 36 ) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ( 37 ) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ( 38 ) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( 39 ) .

يقول تعالى مسليا لنبيه، وآمرا له بالتأسي بمن قبله من الرسل، ومخبره بأنه ما بعث نبيا في قرية إلا كذبه مترفوها، واتبعه ضعفاؤهم، كما قال قوم نوح: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ [ الشعراء:111 ] ، وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ [ هود:27 ] ، وقال الكبراء من قوم صالح: لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [ الأعراف:75، 76 ] وقال تعالى: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [ الأنعام:53 ] ؟ وقال: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا [ الأنعام:123 ] وقال: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا [ فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ ] [ الإسراء:16 ] . وقال هاهنا: ( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ ) أي:نبي أو رسول ( إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا ) ، وهم أولو النعمة والحشمة والثروة والرياسة.

قال قتادة:هم جَبَابرتهم وقادتهم ورؤوسهم في الشر. ( إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونََ ) أي:لا نؤمن به ولا نتبعه.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن الحسين، حدثنا هارون بن إسحاق، حدثنا محمد بن عبد الوهاب عن سفيان عن عاصم، عن أبي رَزِين قال:كان رجلان شريكان خرج أحدهما إلى الساحل وبقي الآخر، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى صاحبه يسأله:ما فعل؟ فكتب إليه أنه لم يتبعه أحد من قريش، إنما اتبعه أراذل الناس ومساكينهم. قال:فترك تجارته ثم أتى صاحبه فقال:دلني عليه - قال:وكان يقرأ الكتب، أو بعض الكتب- قال:فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:إلام تدعو؟ قال: « إلى كذا وكذا » . قال:أشهد أنك رسول الله. قال: « وما علمك بذلك؟ » قال:إنه لم يبعث نبي إلا اتبعه رُذَالة الناس ومساكينهم. قال:فنـزلت هذه الآية: ( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ) ] الآيات ] ، قال:فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم « إن الله قد أنـزل تصديق ما قلت » .

وهكذا قال هرقل لأبي سفيان حين سأله عن تلك المسائل، قال فيها:وسألتك:أضعفاء الناس اتبعه أم أشرافهم فزعمت:بل ضعفاؤهم، وهم أتباع الرسل.

وقوله تعالى إخبارا عن المترفين المكذبين: ( وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينََ ) أي:افتخروا بكثرة الأموال والأولاد، واعتقدوا أن ذلك دليل على محبة الله لهم واعتنائه بهم، وأنه ما كان ليعطيهم هذا في الدنيا، ثم يعذبهم في الآخرة، وهيهات لهم ذلك. قال الله: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ [ المؤمنون:55، 56 ] وقال: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [ التوبة:55 ] ، وقال تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا [ المدثر:11- 17 ] .

وقد أخبر الله عن صاحب تينك الجنتين:أنه كان ذا مال وولد وثمر، ثم لم تُغن عنه شيئا، بل سُلب ذلك كله في الدنيا قبل الآخرة؛ ولهذا قال تعالى هاهنا: ( قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ) أي:يعطي المال لمن يحب ومَنْ لا يحب، فيفقر مَنْ يشاء ويغني مَنْ يشاء، وله الحكمة التامة البالغة، والحجة الدامغة القاطعة ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونََ ) .

ثم قال: ( وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى ) أي:ليست هذه دليلا على محبتنا لكم، ولا اعتنائنا بكم.

قال الإمام أحمد، رحمه الله:حدثنا كَثير، حدثنا جعفر، حدثنا يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم « . [ و ] رواه مسلم وابن ماجة، من حديث كثير بن هشام، عن جعفر بن بُرْقَان، به. »

ولهذا قال: ( إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ) أي:إنما يقربكم عندنا زلفى الإيمان والعمل الصالح، ( فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا ) أي:تضاعف لهم الحسنة بعشرة أمثالها، إلى سبعمائة ضعف ( وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ) أي:في منازل الجنة العالية آمنون من كل بأس وخوف وأذى، ومن كل شر يُحْذَر منه.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا فَرْوَة بن أبي المغراء الكندي، حدثنا القاسم وعلي بن مُسْهِر، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن النعمان بن سعد، عن علي، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن في الجنة لَغرفا ترى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها » . فقال أعرابي:لمن هي؟ قال: « لمن طيب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، [ وصلى بالليل والناس نيام ] » .

( وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ ) أي:يسعون في الصد عن سبيل الله، واتباع الرسل والتصديق بآياته، ( أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ) أي:جميعهم مَجْزيون بأعمالهم فيها بحسبهم.

وقوله: ( قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ) أي:بحسب مَا لَه في ذلك من الحكمة، يبسط على هذا من المال كثيرا، ويضيق على هذا ويقتر على هذا رزقه جدًا، وله في ذلك من الحكمة ما لا يدركها غيره، كما قال تعالى: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا [ الإسراء:21 ] أي:كما هم متفاوتون في الدنيا:هذا فقير مدقع، وهذا غني مُوَسَّع عليه، فكذلك هم في الآخرة:هذا في الغُرفات في أعلى الدرجات، وهذا في الغَمرَات في أسفل الدركات. وأطيب الناس في الدنيا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « قد أفلح مَنْ أسلم ورُزق كَفَافا، وقَنَّعه الله بما آتاه » . رواه مسلم من حديث ابن عَمْرو.

وقوله: ( وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ) أي:مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم به وأباحه لكم، فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبدل، وفي الآخرة بالجزاء والثواب، كما ثبت في الحديث :يقول الله تعالى:أنْفق أنْفق عليك « . وفي الحديث:أن ملكين يَصيحان كل يوم، يقول أحدهما: » اللهم أعط مُمْسِكا تَلَفًا « ، ويقول الآخر: » اللهم أعط منفقا خَلَفًا « وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم » أنفق بلالا ولا تخش من ذي العرش إقلالا « .»

وقال ابن أبي حاتم عن يزيد بن عبد العزيز الطلاس، حدثنا هُشَيْم عن الكوثر بن حكيم، عن مكحول قال:بلغني عن حذيفة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ألا إن بعدكم زمان عضوض، يعض الموسر على ما في يده حذار الإنفاق » . ثم تلا هذه الآية: ( وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينََ )

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي:حدثنا روح بن حاتم، حدثنا هُشَيم، عن الكوثر بن حكيم عن مكحول قال:بلغني عن حذيفة أنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ألا إن بعد زمانكم هذا زمان عضوض، يعض الموسر على ما في يديه حذار الإنفاق » ، قال الله تعالى: ( وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينََ ) ، وَيَنْهَل شرار الخلق يبايعون كل مضطر، ألا إن بيع المضطرين حرام، [ ألا إن بيع المضطرين حرام ] المسلم أخو المسلم. لا يظلمه ولا يخذله، إن كان عندك معروف، فَعُد به على أخيك، وإلا فلا تَزده هلاكا إلى هلاكه « .»

هذا حديث غريب من هذا الوجه، وفي إسناده ضعف.

وقال سفيان الثوري، عن أبي يونس الحسن بن يزيد قال:قال مجاهد:لا يتأولن أحدكم هذه الآية: ( وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهَ ) :إذا كان عند أحدكم ما يقيمه فليقصد فيه، فإن الرزق مقسوم.

 

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ( 40 ) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ ( 41 ) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ( 42 ) .

يخبر تعالى أنه يقرع المشركين يوم القيامة على رؤوس الخلائق، فيسأل الملائكة الذين كان المشركون يزعمون أنهم يعبدون الأنداد التي هي على صورة الملائكة ليقربوهم إلى الله زلفى، فيقول للملائكة: ( أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ) ؟ أي:أنتم أمرتم هؤلاء بعبادتكم؟ كما قال في سورة الفرقان: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ [ الفرقان:17 ] ، وكما يقول لعيسى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ [ المائدة:116 ] . وهكذا تقول الملائكة: ( سُبْحَانَكَ ) أي:تعاليتَ وتقدست عن أن يكون معك إله ( أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ ) أي:نحن عبيدك ونبرأ إليك من هؤلاء، ( بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ ) يعنون:الشياطين؛ لأنهم هم الذين يزينون لهم عبادة الأوثان ويضلونهم ، ( أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ ) ، كما قال تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا [ النساء:117 ] .

قال الله تعالى: ( فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا ) أي:لا يقع لكم نفع ممن كنتم ترجون نفعه اليوم من الأنداد والأوثان، التي ادخرتم عبادتها لشدائدكم وكُرَبكم، اليوم لا يملكون لكم نفعا ولا ضرا، ( وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ) - وهم المشركون- ( ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ) أي:يقال لهم ذلك، تقريعا وتوبيخا.

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ( 43 ) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ ( 44 ) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ( 45 ) .

يخبر تعالى عن الكفار أنهم يستحقون منه العقوبة والأليم من العذاب؛ لأنهم كانوا إذا تتلى عليهم آياته بينات يسمعونها غَضَّةً طرية من لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ( قَالُوا مَا هَذَا إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ ) ، يعنون أن دين آبائهم هو الحق، وأن ما جاءهم به الرسول عندهم باطل - عليهم وعلى آبائهم لعائن الله- ( وَقَالُوا مَا هَذَا إِلا إِفْكٌ مُفْتَرًى ) يعنون:القرآن، ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ) . قال الله تعالى: ( وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ ) أي:ما أنـزل الله على العرب من كتاب قبل القرآن، وما أرسل إليهم نبيًا قبل محمد صلى الله عليه وسلم، وقد كانوا يَوَدّون ذلك ويقولون:لو جاءنا نذير أو أنـزل علينا كتاب، لكنا أهدى من غيرنا، فلما مَنَّ الله عليهم بذلك كذبوه وعاندوه وجحدوه. ثم قال: ( وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) أي:من الأمم، ( وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ ) قال ابن عباس:أي من القوة في الدنيا. وكذلك قال قتادة، والسدّي، وابن زيد. كما قال تعالى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [ الأحقاف:26 ] . أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً [ غافر:82 ] ، أي:وما دفع ذلك عنهم عذاب الله ولا رده، بل دمر الله عليهم لما كذبوا رسله؛ ولهذا قال: ( فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ) أي:فكيف كان نكالي وعقابي وانتصاري لرسلي ؟

قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ( 46 ) .

يقول تعالى:قل يا محمد لهؤلاء الكافرين الزاعمين أنك مجنون: ( إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ ) أي:إنما آمركم بواحدة، وهي: ( أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ ) أي:تقوموا قياما خالصًا لله، من غير هوى ولا عصبية، فيسأل بعضكم بعضا:هل بمحمد من جنون؟ فينصح بعضكم بعضا، ( ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ) أي:ينظر الرجل لنفسه في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، ويسأل غيره من الناس عن شأنه إن أشكل عليه، ويتفكر في ذلك؛ ولهذا قال: ( أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ ) .

هذا معنى ما ذكره مجاهد، ومحمد بن كعب، والسُّدِّيّ، وقتادة، وغيرهم، وهذا هو المراد من الآية.

فأما الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا صدقة بن خالد، حدثنا عثمان بن أبي العاتكة، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: « أعطيت ثلاثا لم يعطهن مَن قبلي ولا فخر:أحلت لي الغنائم، ولم تحل لمن قبلي، كانوا قبلي يجمعون غنائمهم فيحرقونها. وبُعثت إلى كل أحمر وأسود، وكان كل نبي يبعث إلى قومه، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، أتيمم بالصعيد، وأصلي حيث أدركتني الصلاة، قال الله: ( أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ) وأعنت بالرعب مسيرة شهر بين يدي » - فهو حديث ضعيف الإسناد، وتفسير الآية بالقيام في الصلاة في جماعة وفرادى بعيد، ولعله مقحم في الحديث من بعض الرواة، فإن أصله ثابت في الصحاح وغيرها والله أعلم.

وقوله: ( إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ) :قال البخاري عندها:

حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا محمد بن خَازم، حدثنا الأعمش، عن عمرو بن مرَّة، عن سعيد بن جُبَيْر ،عن ابن عباس قال:صَعدَ النبي صلى الله عليه وسلم الصفا ذات يوم، فقال: « يا صباحاه » . فاجتمعت إليه قريش، فقالوا:ما لك؟ فقال: « أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يُصَبّحكم أو يُمَسّيكم، أما كنتم تصدقوني؟ » قالوا:بلى. قال: « فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد » . فقال أبو لهب:تبا لك! ألهذا جمعتنا؟ فأنـزل الله: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [ المسد ] .

وقد تقدم عند قوله: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [ الشعراء:214 ] .

وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو نعيم، حدثنا بشير بن المهاجر، حدثني عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال:خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فنادى ثلاث مرات فقال: « أيها الناس، أتدرون ما مثلي ومثلكم؟ » قالوا:الله ورسوله أعلم. قال: « إنما مثلي ومثلكم مثلُ قوم خافوا عدوا يأتيهم، فبعثوا رجلا يتراءى لهم، فبينما هو كذلك أبصر العدو، فأقبل لينذرهم وخشي أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه، فأهوى بثوبه:أيها الناس، أوتيتم. أيها الناس، أوتيتم - ثلاث مرات » .

وبهذا الإسناد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « بعثت أنا والساعة جميعًا، إن كادت لتسبقني » . تفرد به الإمام أحمد في مسنده.

قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( 47 ) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلامُ الْغُيُوبِ ( 48 ) .

يقول تعالى آمرًا رسوله أن يقول للمشركين: ( مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ) أي:لا أريد منكم جُعلا ولا عَطاء على أداء رسالة الله إليكم، ونصحي إياكم، وأمركم بعبادة الله، ( إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ ) أي:إنما أطلب ثواب ذلك من عند الله ( وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) أي:عالم بجميع الأمور، بما أنا عليه من إخباري عنه بإرساله إياي إليكم، وما أنتم عليه.

وقوله: ( قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلامُ الْغُيُوبِ ) ، كقوله تعالى: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [ غافر:15 ] . أي:يرسل الملك إلى مَنْ يشاء من عباده من أهل الأرض، وهو علام الغيوب، فلا تخفى عليه خافية في السموات ولا في الأرض.

 

قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ( 49 ) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ( 50 ) .

وقوله: ( قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ) أي:جاء الحق من الله والشرع العظيم، وذهبَ الباطل وزهق واضمحل، كقوله: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ [ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ] [ الأنبياء:18 ] ، ولهذا لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد الحرام يوم الفتح، ووجد تلك الأصنام منصوبة حول الكعبة، جعل يَطعنُ الصنم بسِيَة قَوْسِه، ويقرأ: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ، ( قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ) . رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وحده عند هذه الآية، كلهم من حديث الثوري، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن أبي مَعْمَر عبد الله بن سَخبَرَةَ، عن ابن مسعود، به .

أي:لم يبق للباطل مقالة ولا رياسة ولا كلمة.

وزعم قتادة والسدي:أن المراد بالباطل ها هنا إبليس، إنه لا يخلق أحدا ولا يعيده، ولا يقدر على ذلك. وهذا وإن كان حقًا ولكن ليس هو المراد هاهنا والله أعلم.

وقوله: ( قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ) أي:الخير كله من عند الله، وفيما أنـزله الله عز وجل من الوحي والحق المبين فيه الهدى والبيان والرشاد، ومَنْ ضل فإنما يضل من تلقاء نفسه، كما قال عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، لما سئل عن تلك المسألة في المفوَضة:أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه.

وقوله: ( إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ) أي:سميع لأقوال عباده، قريب مجيب دعوة الداعي إذا دعاه. وقد روى النسائي هاهنا حديث أبي موسى الذي في الصحيحين [ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ] : « إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنما تدعون سميعا » قريبا مجيبا « . »

وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ( 51 ) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ( 52 ) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ( 53 ) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ ( 54 ) .

يقول تعالى:ولو ترى - يا محمد- إذ فَزِع هؤلاء المكذبون يوم القيامة، ( فَلا فَوْتَ ) أي:فلا مفر لهم، ولا وزر ولا ملجأ ( وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ) أي:لم يكونوا يُمنعون في الهرب بل أخذوا من أول وهلة.

قال الحسن البصري:حين خرجوا من قبورهم.

وقال مجاهد، وعطية العوفي، وقتادة:من تحت أقدامهم.

وعن ابن عباس والضحاك:يعني:عذابهم في الدنيا.

وقال عبد الرحمن بن زيد:يعني:قتلهم يوم بدر.

والصحيح:أن المراد بذلك يوم القيامة، وهو الطامة العظمى، وإن كان ما ذكر متصلا بذلك.

وحكى ابن جرير عن بعضهم قال:إن المراد بذلك جيش يخسف بهم بين مكة والمدينة في أيام بني العباس، ثم أورد في ذلك حديثا موضوعا بالكلية. ثم لم ينبه على ذلك، وهذا أمر عجيب غريب منه

( وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ ) أي:يوم القيامة يقولون:آمنا بالله وبكتبه ورسله ، كما قال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [ السجدة:12 ] ؛ ولهذا قال تعالى: ( وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ) أي:وكيف لهم تعاطي الإيمان وقد بعدوا عن محل قبوله منهم وصاروا إلى الدار الآخرة، وهي دار الجزاء لا دار الابتلاء، فلو كانوا آمنوا في الدنيا لكان ذلك نافعهم، ولكن بعد مصيرهم إلى الدار الآخرة لا سبيل لهم إلى قبول الإيمان، كما لا سبيل إلى حصول الشيء لمن يتناوله من بعيد.

قال مجاهد: ( وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ ) قال:التناول لذلك.

وقال الزهري:التناوش:تناولهم الإيمان وهم في الآخرة، وقد انقطعت عنهم الدنيا.

وقال الحسن البصري:أما إنهم طلبوا الأمر من حيث لا ينال، تعاطوا الإيمان من مكان بعيد.

وقال ابن عباس:طلبوا الرجعة إلى الدنيا والتوبة مما هم فيه، وليس بحين رجعة ولا توبة. وكذا قال محمد بن كعب القرظي، رحمه الله.

وقوله: ( وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ ) أي:كيف يحصل لهم الإيمان في الآخرة، وقد كفروا بالحق في الدنيا وكذبوا بالرسل؟

( وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ) :قال مالك، عن زيد بن أسلم: ( وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ ) قال:بالظن.

قلت:كما قال تعالى: رَجْمًا بِالْغَيْبِ [ الكهف:22 ] ، فتارة يقولون:شاعر. وتارة يقولون:كاهن. وتارة يقولون:ساحر. وتارة يقولون:مجنون. إلى غير ذلك من الأقوال الباطلة، ويكذبون بالغيب والنشور والمعاد، ويقولون: إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [ الجاثية:32 ] .

قال قتادة:يرجمون بالظن، لا بعث ولا جنة ولا نار.

وقوله: ( وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ) :قال الحسن البصري، والضحاك، وغيرهما:يعني:الإيمان.

وقال السُّدِّي: ( وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ) وهي:التوبة . وهذا اختيار ابن جرير، رحمه الله.

وقال مجاهد: ( وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ) من هذه الدنيا، من مال وزهرة وأهل. وروي [ ذلك ] عن ابن عباس وابن عمر والربيع بن أنس. وهو قول البخاري وجماعة. والصحيح:أنه لا منافاة بين القولين؛ فإنه قد حيل بينهم وبين شهواتهم في الدنيا وبين ما طلبوه في الآخرة، فمنعوا منه.

وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا أثرًا غريبا [ عجيبا ] جدًا، فلنذكره بطوله فإنه قال:حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا بشر بن حجر السامي ، حدثنا علي بن منصور الأنباري، عن الشَّرَقيّ ابن قُطَامي، عن سعيد بن طريف، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس في قول الله عز وجل: ( وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ) إلى آخر الآية، قال:كان رجل من بني إسرائيل فاتحًا - أي فتح الله له مالا- فمات فورثه ابن له تافه - أي:فاسد- فكان يعمل في مال الله بمعاصي الله. فلما رأى ذلك إخوان أبيه أتوا الفتى فعذلوه ولاموه، فضجر الفتى فباع عقاره بصامت، ثم رحل فأتى عينا ثجاجَة فسرَح فيها ماله، وابتنى قصرًا. فبينما هو ذات يوم جالس إذ شمَلت عليه [ ريح ] بامرأة من أحسن الناس وجهًا وأطيبهم أرَجا - أي:ريحًا- فقالت:من أنت يا عبد الله؟ فقال:أنا امرؤ من بني إسرائيل قالت:فلك هذا القصر، وهذا المال؟ قال:نعم. قالت:فهل لك من زوجة؟ قال:لا. قالت:فكيف يَهْنيك العيش ولا زوجة لك؟ قال:قد كان ذلك. فهل لك من بَعل؟ قالت:لا. قال:فهل لك إلى أن أتزوجك؟ قالت:إني امرأة منك على مسيرة ميل، فإذا كان غد فتزوّد زاد يوم وأتني، وإن رأيت في طريقك هولا فلا يَهُولنَّكَ. فلما كان من الغد تزود زاد يوم، وانطلق فانتهى إلى قصر، فقرع رتاجه، فخرج إليه شاب من أحسن الناس وجهًا وأطيبهم أرَجًا - أي:ريحًا- فقال:من أنت يا عبد الله؟ فقال:أنا الإسرائيلي. قال فما حاجتك؟ قال:دعتني صاحبة هذا القصر إلى نفسها. قال:صدقت، قال فهل رأيت في طريقك [ هولا؟ ] قال:نعم، ولولا أنها أخبرتني أن لا بأس عليّ، لهالني الذي رأيت؛ أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل، إذا أنا بكلبة فاتحة فاها، ففزعت، فَوَثَبت فإذا أنا من ورائها، وإذا جراؤها ينبحن في بطنها. فقال له الشاب:لست تدرك هذا، هذا يكون في آخر الزمان، يقاعد الغلام المشيخة في مجلسهم ويَبُزّهم حديثهم.

قال:ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل، إذا أنا بمائة عنـز حُفَّل، وإذا فيها جَدْي يمصّها، فإذا أتى عليها وظن أنه لم يترك شيئًا، فتح فاه يلتمس الزيادة. فقال:لست تدرك هذا، هذا يكون في آخر الزمان، ملك يجمع صامت الناس كلّهم، حتى إذا ظن أنه لم يترك شيئًا فتح فاه يلتمس الزيادة.

قال:ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا بشجر، فأعجبني غصن من شجرة منها ناضر، فأردت قطعة، فنادتني شجرة أخرى: « يا عبد الله، مني فخذ » . حتى ناداني الشجر أجمع: « يا عبد الله، منا فخذ » . قال:لست تدرك هذا، هذا يكون في آخر الزمان، يقل الرجال ويكثر النساء، حتى إن الرجل ليخطب المرأة فتدعوه العشر والعشرون إلى أنفسهن.

قال:ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا برجل قائم على عين، يغرف لكل إنسان من الماء، فإذا تَصَدعوا عنه صَبّ في جَرّته فلم تَعلَق جَرته من الماء بشيء. قال:لست تدرك هذا، هذا يكون في آخر الزمان، القاص يعلم الناس العلم ثم يخالفهم إلى معاصي الله.

قال:ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا بعنـز وإذا بقوم قد أخذوا بقوائمها، وإذا رجل قد أخذ بقرنيها، وإذا رجل قد أخذ بذَنَبها، وإذا رجل قد ركبها، وإذا رجل يحلبها. فقال:أما العنـز فهي الدنيا، والذين أخذوا بقوائمها يتساقطون من عيشها، وأما الذي قد أخذ بقرنيها فهو يعالج من عيشها ضيقًا، وأما الذي أخذ بذنبها فقد أدبرت عنه، وأما الذي ركبها فقد تركها. وأما الذي يحلبها فَبخٍ [ بخٍ ] ، ذهب ذلك بها.

قال:ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل، وإذا أنا برجل يمْتح على قَليب، كلما أخرج دلوه صبَّه في الحوض، فانساب الماء راجعًا إلى القليب. قال:هذا رجل رَدّ الله [ عليه ] صالح عمله، فلم يقبله.

قال:ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل، إذا أنا برجل يبذُر بذرًا فيستحصد، فإذا حنطة طيبة. قال:هذا رجل قبل الله صالح عمله، وأزكاه له.

قال:ثم أقبلت حتى [ إذا ] انفرج بي السبيل، إذا أنا برجل مستلق على قفاه، قال:يا عبد الله، ادن مني فخذ بيدي وأقعدني، فوالله ما قعدت منذ خلقني الله فأخذت بيده، فقام يسعى حتى ما أراه. فقال له الفتى:هذا عمْر الأبعد نَفَد، أنا ملك الموت وأنا المرأة التي أتتك... أمرني الله بقبض روح الأبعد في هذا المكان، ثم أصيره إلى نار جهنم قال:ففيه نـزلت هذه: ( وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ) الآية.

هذا أثر غريب ، وفي صحته نظر، وتنـزيل [ هذه ] الآية عليه وفي حقه بمعنى أن الكفار كلهم يتوفون وأرواحهم متعلقة بالحياة الدنيا، كما جرى لهذا المغرور المفتون، ذهب يطلب مراده فجاءه الموت فجأة بغتة، وحيل بينه وبين ما يشتهي.

وقوله: ( كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ ) أي:كما جرى للأمم الماضية المكذبة للرسل، لما جاءهم بأس الله تمنوا أن لو آمنوا فلم يقبل منهم، فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [ غافر:84، 85 ] .

وقوله: ( إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ ) أي:كانوا في الدنيا في شك وريبة، فلهذا لم يتقبل منهم الإيمان عند معاينة العذاب.

قال قتادة:إياكم والشك والريبة. فإن من مات على شك بُعِثَ عليه، ومن مات على يقين بعث عليه.

آخر تفسير سورة « سبأ » ولله الحمد والمنة.

 

تفسير سورة فاطر

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 1 ) .

قال سفيان الثوري، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما [ لصاحبه ] : أنا فطرتها، أنا بدأتها. فقال ابن عباس أيضًا: ( فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ ) بديع السموات والأرض .

وقال الضحاك:كل شيء في القرآن فاطر السموات والأرض فهو:خالق السموات والأرض.

وقوله: ( جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا ) أي:بينه وبين أنبيائه، ( أُولِي أَجْنِحَةٍ ) أي:يطيرون بها ليبلغوا ما أمروا به سريعًا ( مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ ) أي:منهم مَنْ له جناحان، ومنهم مَنْ له ثلاثة ومنهم مَنْ له أربعة، ومنهم مَنْ له أكثر من ذلك، كما جاء في الحديث:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى جبريل ليلة الإسراء وله ستمَائة جناح، بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب؛ ولهذا قال: ( يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) . قال السدي:يزيد في الأجنحة وخلقهم ما يشاء.

وقال الزهري، وابن جُرَيْج في قوله: ( يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ) يعني:حسن الصوت. رواه عن الزهري البخاري في الأدب، وابن أبي حاتم في تفسيره.

وقرئ في الشاذ: « يَزِيدُ في الحلق » ، بالحاء المهملة، والله أعلم.

مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 2 ) .

يخبر تعالى أنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع. قال الإمام أحمد:حدثنا علي بن عاصم، حدثنا مغيرة، أخبرنا عامر، عن ورَّاد - مولى المغيرة بن شعبة- قال:كتب معاوية إلى المغيرة بن شعبة:اكتب لي بما سمعتَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فدعاني المغيرة فكتبت إليه:إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من الصلاة قال: « لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجَدّ » ، وسمعته ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال، وعن وأد البنات، وعقوق الأمهات، ومَنْع وهَات.

وأخرجاه من طرق عن وَرّاد، به .

وثبت في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول: « سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد، ملء السماء والأرض وملء ما شئت من شيء بعد. اللهم، أهلَ الثناء والمجد. أحقّ ما قال العبد، وكلنا لك عبد. اللهمّ لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجدّ » .

وهذه الآية كقوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ [ يونس:107 ] . ولهذا نظائر كثيرة.

وقال الإمام مالك:كان أبو هريرة إذا مُطِروا يقول:مُطِرنا بِنَوْء الفتح، ثم يقرأ هذه الآية: ( مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) . ورواه ابن أبي حاتم، عن يونس عن ابن وهب، عنه .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ( 3 ) .

ينبه تعالى عباده ويرشدهم إلى الاستدلال على توحيده في إفراد العبادة له، كما أنه المستقل بالخلق والرزق فكذلك فَليفرد بالعبادة ، ولا يشرك به غيره من الأصنام والأنداد والأوثان؛ ولهذا قال: ( لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) ، أي:فكيف تؤفكون بعد هذا البيان، ووضوح هذا البرهان، وأنتم بعد هذا تعبدون الأنداد والأوثان؟

 

 

وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ( 4 ) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ( 5 ) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ( 6 ) .

يقول:وإن يكذبك - يا محمد- هؤلاء المشركون بالله ويخالفوك فيما جئتهم به من التوحيد، فلك فيمن سلف قبلك من الرسل أسوة، فإنهم كذلك جاؤوا قومهم بالبينات وأمروهم بالتوحيد فكذبوهم وخالفوهم، ( وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ ) أي:وسنجزيهم على ذلك أوفر الجزاء .

ثم قال: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ) أي:المعاد كائن لا محالة، ( فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ) أي:العيشة الدنيئة بالنسبة إلى ما أعد الله لأوليائه وأتباع رسله من الخير العظيم فلا تَتَلَهَّوا عن ذلك الباقي بهذه الزهرة الفانية، ( وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ) وهو الشيطان. قاله ابن عباس. أي:لا يفتننكم الشيطان ويصرفنكم عن اتباع رسل الله وتصديق كلماته فإنه غرَّار كذاب أفاك. وهذه الآية كالآية التي في آخر لقمان: فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [ لقمان:33 ] . قال مالك، عن زيد بن أسلم:هو الشيطان. كما قال:يقول المؤمنون للمنافقين يوم القيامة حين يضرب بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [ الحديد:13 ، 14 ] .

ثم بين تعالى عداوة إبليس لابن آدم فقال: ( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ) أي:هو مبارز لكم بالعداوة، فعادوه أنتم أشد العداوة، وخالفوه وكذبوه فيما يغركم به، ( إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) أي:إنما يقصد أن يضلكم حتى تدخلوا معه إلى عذاب السعير، فهذا هو العدو المبين. فنسأل الله القوي العزيز أن يجعلنا أعداء الشيطان ،وأن يرزقنا اتباع كتابه، والاقتفاء بطريق رسوله، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير. وهذه كقوله: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا [ الكهف:50 ] .

[ وقال بعض العلماء:وتحت هذا الخطاب نوع لطيف من العتاب كأنه يقول:إنما عاديت إبليس من أجل أبيكم ومن أجلكم، فكيف يحسن بكم أن توالوه؟ بل اللائق بكم أن تعادوه وتخالفوه ولا تطاوعوه ] .

الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ( 7 ) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ( 8 ) .

لما ذكر [ الله ] تعالى أن أتباع إبليس مصيرهم إلى [ عذاب ] السعير، ذكر بعد ذلك أن الذين كفروا لهم عذاب شديد ؛ لأنهم أطاعوا الشيطان وعَصَوا الرحمن، وأن الذين آمنوا بالله ورسله ( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ) أي:لما كان منهم من ذنب، ( وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ) على ما عملوه من خير.

ثم قال: ( أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ) يعني:كالكفار والفجار، يعملون أعمالا سيئة، وهم في ذلك يعتقدون ويحسون أنهم يحسنون صنعًا، أي:أفمن كان هكذا قد أضله الله، ألك فيه حيلة؟ لا حيلة لك فيه، ( فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) أي:بقدره كان ذلك، ( فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ) أي:لا تأسف على ذلك فإن الله حكيم في قدره، إنما يضل من يضل ويهدي من يهدي ، لما له في ذلك من الحجة البالغة، والعلم التام؛ ولهذا قال: ( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ) .

وقال ابن أبي حاتم عند هذه الآية:حدثنا أبي، حدثنا محمد بن عوف الحِمْصي، حدثنا محمد بن كثير، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي عمرو السَّيباني - أو:ربيعة- عن عبد الله بن الديلمي قال:أتيت عبد الله بن عمرو، وهو في حائط بالطائف يقال له:الوهط، قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن الله خلق خلقه في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من نوره يومئذ فقد اهتدى، ومن أخطأه منه ضل، فلذلك أقول:جف القلم على ما علم الله عز وجل » .

ثم قال:حدثنا يحيى بن عبدك القزويني، حدثنا حسان بن حسان البصري، حدثنا إبراهيم بن بشر حدثنا يحيى بن معين حدثنا إبراهيم القرشي، عن سعد بن شرحبيل عن زيد بن أبي أوفى قال:خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « الحمد لله الذي يهدي من الضلالة، ويلبس الضلالة على من أحب » .

وهذا أيضًا حديث غريب جدًّا.

وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ( 9 ) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ ( 10 ) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ( 11 ) .

كثيرا ما يستدل تعالى على المعاد بإحيائه الأرض بعد موتها - كما في [ أول ] سورة الحج - ينبه عباده أن يعتبروا بهذا على ذلك، فإن الأرض تكون ميتة هامدة لا نبات فيها، فإذا أرسل إليها السحاب تحمل الماء وأنـزله عليها، اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [ الحج:5 ] ، كذلك الأجساد ، إذا أراد الله سبحانه بعثها ونشورها، أنـزل من تحت العرش مطرا يعم الأرض جميعًا فتنبت الأجساد في قبورها كما ينبت الحب في الأرض؛ ولهذا جاء في الصحيح: « كل ابن آدم يبلى إلا عَجْب الذَّنَب، منه خلق ومنه يركب » ؛ ولهذا قال تعالى: ( كَذَلِكَ النُّشُورُ ) .

وتقدم في « الحج » حديث أبي رَزِين:قلت:يا رسول الله، كيف يحيي الله الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟ قال: « يا أبا رزين، أما مررت بوادي قومك محْلا ثم مررت به يهتز خَضِرًا ؟ » قلت:بلى. قال: « فكذلك يحيي الله الموتى » .

وقوله: ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ) أي:مَنْ كان يحب أن يكون عزيزًا في الدنيا والآخرة، فليلزم طاعة الله، فإنه يحصل له مقصوده؛ لأن الله مالك الدنيا والآخرة، وله العزة جميعها، كما قال تعالى: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [ النساء:139 ] .

وقال تعالى: وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [ يونس:65 ] ، وقال: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [ المنافقون:8 ] .

قال مجاهد: ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ ) بعبادة الأوثان، فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا .

وقال قتادة: ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ) أي:فليتعزز بطاعة الله عز وجل.

وقيل:مَنْ كان يريد علْم العزة، لمن هي، فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ، حكاه ابن جرير.

وقوله: ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ) يعني:الذكر والتلاوة والدعاء. قاله غير واحد من السلف.

وقال ابن جرير:حدثني محمد بن إسماعيل الأحْمَسِيّ، أخبرني جعفر بن عَوْن، عن عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي، عن عبد الله بن المخارق، عن أبيه المخارق بن سليم قال: قال لنا عبد الله - هو ابن مسعود- إذا حدثناكم حديثا أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله:إن العبد المسلم إذا قال: « سبحان الله وبحمده، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، تبارك الله » ، أخذهن ملك فجعلهن تحت جناحه، ثم صَعد بهن إلى السماء فلا يمُرّ بهن على جمْعٍ من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن، حتى يجيء بهن وجه الرحمن عز وجل، ثم قرأ عبد الله: ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) .

وحدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّة، أخبرنا سعيد الجُرَيْرِي ، عن عبد الله بن شقيق قال :قال كعب الأحبار:إن لـ « سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر » لدويا حول العرش كدويّ النحل، يُذَكِّرْنَ بصاحبهن، والعمل الصالح في الخزائن .

وهذا إسناد صحيح إلى كعب الأحبار، رحمه الله، وقد روي مرفوعًا.

قال الإمام أحمد:حدثنا ابن نُمَيْر، حدثنا موسى - يعني:ابن مسلم الطحان - عن عون بن عبد الله، عن أبيه - أو:عن أخيه - عن النعمان بن بشير قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الذين يذكرون من جلال الله، من تسبيحه وتكبيره وتحميده وتهليله، يتعاطفن حول العرش، لهن دوي كدوي النحل، يذكرون بصاحبهن ألا يحب أحدكم ألا يزال له عند الله شيء يذكر به؟ » .

وهكذا رواه ابن ماجه عن أبي بشر بكر بن خلف، عن يحيى بن سعيد القطان، عن موسى بن أبي [ عيسى ] الطحان، عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن أبيه - أو:عن أخيه- عن النعمان بن بشير، به .

وقوله: ( وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) :قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:الكلم الطيب:ذكر الله، يصعد به إلى الله، عز وجل، والعمل الصالح:أداء فرائضه. ومن ذكر الله ولم يؤد فرائضه، رد كلامه على عمله ، فكان أولى به.

وكذا قال مجاهد:العمل الصالح يرفع الكلام الطيب. وكذا قال أبو العالية، وعكرمة، وإبراهيم النَّخعِيّ، والضحاك، والسُّدِّيّ، والربيع بن أنس، وشَهْر بن حَوْشَب، وغير واحد [ من السلف ] .

وقال إياس بن معاوية القاضي:لولا العمل الصالح لم يرفع الكلام.

وقال الحسن، وقتادة:لا يقبل قولٌ إلا بعمل.

وقوله: ( وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ ) :قال مجاهد، وسعيد بن جُبَيْر، وشَهْر بن حَوْشَب:هم المراؤون بأعمالهم، يعني:يمكرون بالناس، يوهمون أنهم في طاعة الله، وهم بُغَضَاء إلى الله عز وجل، يراؤون بأعمالهم، وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا [ النساء:142 ] .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:هم المشركون.

والصحيح أنها عامة، والمشركون داخلون بطريق الأولى، ولهذا قال: ( لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ ) ، أي:يفسد ويبطل ويظهر زيفهم عن قريب لأولي البصائر والنهى، فإنه ما أسر عبد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه، وما أسر أحد سريرة إلا كساه الله رداءها، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر. فالمرائي لا يروج أمره ويستمر إلا على غبي، أما المؤمنون المتفرسون فلا يروج ذلك عليهم، بل يُكشَف لهم عن قريب، وعالم الغيب لا تخفى عليه خافية.

وقوله: ( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ) أي:ابتدأ خلق أبيكم آدم من تراب، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ( ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا ) أي:ذكرًا وأنثى، لطفًا منه ورحمة أن جعل لكم أزواجًا من جنسكم، لتسكنوا إليها.

وقوله: ( وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ ) أي:هو عالم بذلك، لا يخفى عليه من ذلك شيء، بل مَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [ الأنعام:59 ] .‌‌ وقد تقدم الكلام على قوله تعالى: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ [ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ ] الْمُتَعَالِ [ الرعد:8، 9 ] .

وقوله: ( وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ ) أي:ما يعطى بعض النطف من العمر الطويل يعلمه، وهو عنده في الكتاب الأول، ( وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ ) الضمير عائد على الجنس، لا على العين؛ لأن العين الطويل للعمر في الكتاب وفي علم الله لا ينقص من عمره، وإنما عاد الضمير على الجنس.

قال ابن جرير:وهذا كقولهم: « عندي ثوب ونصفه » أي:ونصف آخر.

وروي من طريق العوفي، عن ابن عباس في قوله: ( وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) ، يقول:ليس أحد قضيت له طول عُمُر وحياة إلا وهو بالغ ما قدرت له من العمر وقد قضيت ذلك له، فإنما ينتهي إلى الكتاب الذي قدرت لا يزاد عليه، وليس أحد قَضَيْتُ له أنه قصير العمر والحياة ببالغ للعمر، ولكن ينتهي إلى الكتاب الذي كتبت له، فذلك قوله: ( وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) ، يقول:كل ذلك في كتاب عنده.

وهكذا قال الضحاك بن مزاحم.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه: ( وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ ) قال:ما لَفَظت الأرحام من الأولاد من غير تمام.

وقال عبد الرحمن في تفسيرها:ألا ترى الناس، يعيش الإنسان مائة سنة، وآخر يموت حين يولد فهذا هذا.

وقال قتادة:والذي ينقص من عمره:فالذي يموت قبل ستين سنة.

وقال مجاهد: ( وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ ) أي:في بطن أمه يكتب له ذلك، لم يخلق الخلق على عمر واحد، بل لهذا عمر، ولهذا عمر هو أنقص من عمره، وكل ذلك مكتوب لصاحبه، بالغ ما بلغ.

وقال بعضهم:بل معناه: ( وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ ) أي:ما يكتب من الأجل ( وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ ) ، وهو ذهابه قليلا قليلا الجميع معلوم عند الله سنة بعد سنة، وشهرًا بعد شهر، وجمعة بعد جمعة، ويومًا بعد يوم، وساعة بعد ساعة، الجميع مكتوب عند الله في كتاب.

نقله ابن جرير عن أبي مالك، وإليه ذهب السُّدِّيّ، وعطاء الخراساني. واختار ابن جرير [ القول ] الأول، وهو كما قال.

وقال النسائي عند تفسير هذه الآية الكريمة:حدثنا أحمد بن يحيى بن أبي زيد بن سليمان، سمعت ابن وهب يقول:حدثني يونس، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « مَنْ سرَّه أن يُبْسَط له في رزقه، ويُنْسَأ له في أجله فليصل رَحِمَه » .

وقد رواه البخاري ومسلم وأبو داود، من حديث يونس بن يزيد الأيلي، به .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن الحسين، حدثنا الوليد بن عبد الملك بن عبيد الله أبو مسرح، حدثنا عثمان بن عطاء، عن مسلمة بن عبد الله، عن عمه أبي مَشْجَعَة بن ربعي، عن أبي الدرداء، رضي الله عنه، قال:ذكرنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « إن الله لا يؤخر نفسًا إذا جاء أجلها، وإنما زيادة العمر بالذرية الصالحة يرزقها العبد، فيدعون له من بعده، فيلحقه دعاؤهم في قبره، فذلك زيادة العمر » .

وقوله: ( إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) أي:سهل عليه، يسير لديه علمه بذلك وبتفصيله في جميع مخلوقاته، فإن علمه شامل لجميع ذلك لا يخفى منه عليه شيء.

 

وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 12 ) .

يقول تعالى منبها على قدرته العظيمة في خلقه الأشياء المختلفة:وخلق البحرين العذب الزلال، وهو هذه الأنهار السارحة بين الناس، من كبار وصغار، بحسب الحاجة إليها في الأقاليم والأمصار، والعمران والبراري والقفار، وهي عذبة سائغ شرابها لمن أراد ذلك، ( وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ) ، وهو البحر الساكن الذي تسير فيه السفن الكبار، وإنما تكون مالحة زُعَاقًا مُرَّة، ولهذا قال: ( وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ) ، أي:مُرّ.

ثم قال: ( وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا ) يعني:السمك، ( وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ) ، كما قال تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [ الرحمن:22، 23 ] .

وقوله: ( وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ ) أي:تمخره وتشقه بحيزومها، وهو مقدمها المُسَنَّم الذي يشبه جؤجؤ الطير - وهو:صدره.

وقال مجاهد:تمخر الريح السفن، ولا يمخر الريح من السفن إلا العظام.

وقوله: ( لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) أي:بأسفاركم بالتجارة، من قطر إلى قطر، وإقليم إلى إقليم، ( وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) أي تشكرون ربكم على تسخيره لكم هذا الخلق العظيم، وهو البحر، تتصرفون فيه كيف شئتم، وتذهبون أين أردتم، ولا يمتنع عليكم شيء منه، بل بقدرته قد سخر لكم ما في السموات وما في الأرض، الجميع من فضله ومن رحمته.

يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ( 13 ) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ( 14 ) .

وهذا أيضًا من قدرته التامة وسلطانه العظيم، في تسخيره الليل بظلامه والنهار بضيائه، ويأخذ من طول هذا فيزيده في قصر هذا فيعتدلان. ثم يأخذ من هذا في هذا، فيطول هذا ويقصر هذا، ثم يتقارضان صيفًا وشتاء، ( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ) أي:والنجوم السيارات، والثوابت الثاقبات بأضوائهن أجرام السموات، الجميع يسيرون بمقدار معين، وعلى منهاج مقنن محرر، تقديرًا من عزيز عليم.

( كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى ) أي:إلى يوم القيامة.

( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ) أي:الذي فعل هذا هو الرب العظيم، الذي لا إله غيره، ( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ) أي:من الأنداد والأصنام التي هي على صورة من تزعمون من الملائكة المقربين، ( مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ) .

قال ابن عباس ، ومجاهد، وعِكْرِمَة، وعطاء وعطية العَوْفي، والحسن، وقتادة وغيرهم:القطمير:هو اللفافة التي تكون على نواة التمرة، أي:لا يملكون من السموات والأرض شيئًا، ولا بمقدار هذا القطمير.

ثم قال: ( إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ ) يعني:الآلهة التي تدعونها من دون الله لا يسمعون دعاءكم ؛ لأنها جماد لا أرواح فيها ( وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ) أي:لا يقدرون على ما تطلبون منها، ( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ) ، أي:يتبرؤون منكم، كما قال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [ الأحقاف:5، 6 ] ، وقال: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [ مريم:81، 82 ] .

وقوله: ( وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ) أي:ولا يخبرك بعواقب الأمور ومآلها وما تصير إليه، مثلُ خبير بها.

قال قتادة:يعني نفسه تبارك وتعالى، فإنه أخبر بالواقع لا محالة.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ( 15 ) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ( 16 ) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ( 17 ) وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ( 18 ) .

يخبر تعالى بغنائه عما سواه، وبافتقار المخلوقات كلها إليه، وتذللها بين يديه، فقال: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ) أي:هم محتاجون إليه في جميع الحركات والسكنات، وهو الغني عنهم بالذات؛ ولهذا قال: ( وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) أي:هو المنفرد بالغنى وحده لا شريك له، وهو الحميد في جميع ما يفعله ويقوله، ويقدره ويشرعه.

وقوله: ( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ) أي:لو شاء لأذهبكم أيها الناس وأتى بقوم غيركم، وما هذا عليه بصعب ولا ممتنع؛ ولهذا قال: ( وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ) .

وقوله: ( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) أي:يوم القيامة، ( وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا ) أي:وإن تدع نفس مثقلة بأوزارها إلى أن تُسَاعَد على حمل ما عليها من الأوزار أو بعضه، ( لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) ، أي:ولو كان قريبًا إليها، حتى ولو كان أباها أو ابنها، كل مشغول بنفسه وحاله، [ كما قال تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ] [ عبس:34- 37 ] .

قال عكرمة في قوله: ( وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا ) الآية، قال:هو الجار يتعلق بجاره يوم القيامة، فيقول:يا رب، سل هذا:لم كان يغلق بابه دوني. وإن الكافر ليتعلق بالمؤمن يوم القيامة، فيقول له:يا مؤمن، إن لي عندك يدًا، قد عرفت كيف كنت لك في الدنيا؟ وقد احتجت إليك اليوم، فلا يزال المؤمن يشفع له عند ربه حتى يرده إلى [ منـزل دون ] منـزله ، وهو في النار. وإن الوالد ليتعلق بولده يوم القيامة، فيقول:يا بني، أيّ والد كنتُ لك؟ فيثني خيرا، فيقول له:يا بني إني قد احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك أنجو بها مما ترى. فيقول له ولده:يا أبت، ما أيسر ما طلبت، ولكني أتخوف مثل ما تتخوف، فلا أستطيع أن أعطيك شيئا، ثم يتعلق بزوجته فيقول:يا فلانة - أو:يا هذه- أي زوج كنت لك؟ فتثني خيرا، فيقول لها:إني أطلب إليك حسنة واحدة تَهَبِينَها لي، لعلي أنجو بها مما ترين. قال:فتقول:ما أيسر ما طلبت. ولكني لا أطيق أن أعطيك شيئا، إني أتخوف مثل الذي تتخوف، يقول الله: ( وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا ) الآية، ويقول الله: لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا [ لقمان:33 ] ، ويقول تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ رواه ابن أبي حاتم رحمه الله، عن أبي عبد الله الطهراني ، عن حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان، عن عِكْرِمة، به.

ثم قال: ( إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ ) أي:إنما يتعظ بما جئت به أولو البصائر والنهى، الخائفون من ربهم، الفاعلون ما أمرهم به، ( وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ ) أي:ومَنْ عمل صالحا فإنما يعود نفعه على نفسه، ( وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ) أي:وإليه المرجع والمآب، وهو سريع الحساب، وسيجزي كل عامل بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرًّا فشر.

 

وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ( 19 ) وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ ( 20 ) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ ( 21 ) وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ( 22 ) إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ ( 23 ) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ( 24 ) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ( 25 ) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ( 26 ) .

يقول تعالى:كما لا تستوي هذه الأشياء المتباينة المختلفة، كالأعمى والبصير لا يستويان، بل بينهما فرق وبون كثير، وكما لا تستوي الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور، كذلك لا تستوي الأحياء ولا الأموات، وهذا مثل ضربه الله للمؤمنين وهم الأحياء، وللكافرين وهم الأموات، كقوله تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [ الأنعام:122 ] ، وقال تعالى: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا [ هود:24 ] فالمؤمن سميع بصير في نور يمشي، على صراط مستقيم في الدنيا والآخرة، حتى يستقر به الحال في الجنات ذات الظلال والعيون، والكافر أعمى أصم، في ظلمات يمشي، لا خروج له منها، بل هو يتيه في غَيِّه وضلاله في الدنيا والآخرة، حتى يفضي به ذلك إلى الحرور والسموم والحميم، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [ الواقعة:43، 44 ] .

وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ ) أي:يهديهم إلى سماع الحجة وقبولها والانقياد لها ( وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) أي:كما لا [ يسمع و ] ينتفع الأموات بعد موتهم وصيرورتهم إلى قبورهم، وهم كفار بالهداية والدعوة إليها، كذلك هؤلاء المشركون الذين كُتِب عليهم الشقاوة لا حيلةَ لك فيهم، ولا تستطيع هدايتهم.

( إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ ) أي:إنما عليك البلاغ والإنذار، والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء.

( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) أي:بشيرًا للمؤمنين ونذيرًا للكافرين، ( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ) أي:وما من أمة خلت من بني آدم إلا وقد بعث الله إليهم النُّذر، وأزاح عنهم العلل، كما قال تعالى: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [ الرعد:7 ] ، وكما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ الآية [ النحل:136 ] ، والآيات في هذا كثيرة.

وقوله تبارك وتعالى: ( وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ) وهي:المعجزات الباهرات، والأدلة القاطعات، ( وَبِالزُّبُرِ ) وهي الكتب، ( وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ) أي:الواضح البين.

( ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) أي:ومع هذا كله كَذّب أولئك رسلَهم فيما جاؤوهم به، فأخذتهم، أي:بالعقاب والنكال، ( فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ) أي:فكيف رأيت إنكاري عليهم عظيما شديدًا بليغا؟

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ( 27 ) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ( 28 )

يقول تعالى منبها على كمال قدرته في خلقه الأشياء المتنوعة المختلفة من الشيء الواحد، وهو الماء الذي ينـزله من السماء، يخرج به ثمرات مختلفا ألوانها، من أصفر وأحمر وأخضر وأبيض، إلى غير ذلك من ألوان الثمار، كما هو المشاهد من تنوع ألوانها وطعومها وروائحها، كما قال تعالى في الآية الأخرى: وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [ الرعد:4 ] .

وقوله تبارك وتعالى: ( وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا ) أي:وخلق الجبال كذلك مختلفة الألوان، كما هو المشاهد أيضا من بيض وحمر، وفي بعضها طرائق - وهي:الجُدَد، جمع جُدّة- مختلفة الألوان أيضا.

قال ابن عباس، رضي الله عنهما:الجُدَد:الطرائق. وكذا قال أبو مالك، والحسن، وقتادة، والسدي .

ومنها ( وَغَرَابِيبُ سُودٌ ) ، قال عكرمة:الغرابيب:الجبال الطوال السود. وكذا قال أبو مالك، وعطاء الخراساني وقتادة.

وقال ابن جرير:والعرب إذا وصفوا الأسود بكثرة السواد، قالوا:أسود غربيب.

ولهذا قال بعض المفسرين في هذه الآية:هذا من المقدم والمؤخر في قوله تعالى: ( وَغَرَابِيبُ سُودٌ ) أي:سود غرابيب. وفيما قاله نظر.

وقوله تعالى: ( وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ ) أي: [ و ] كذلك الحيوانات من الأناسي والدواب - وهو:كل ما دب على قوائم- والأنعام، من باب عطف الخاص على العام. كذلك هي مختلفة أيضا، فالناس منهم بربر وحُبُوش وطُمَاطم في غاية السواد، وصقالبة وروم في غاية البياض، والعرب بين ذلك، والهنود دون ذلك؛ ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى: وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ [ الروم:22 ] . وكذلك الدواب والأنعام مختلفة الألوان، حتى في الجنس الواحد، بل النوع الواحد منهن مختلف الألوان، بل الحيوان الواحد يكون أبلق، فيه من هذا اللون وهذا اللون، فتبارك الله أحسن الخالقين.

وقد قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده:حدثنا الفضل بن سهل، حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان بن صالح، حدثنا زياد بن عبد الله، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:أيصبغ ربك؟ قال: « نعم صبغا لا يُنفَض، أحمر وأصفر وأبيض » . ورُوي مرسلا وموقوفا، والله أعلم.

ولهذا قال تعالى بعد هذا: ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) أي:إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به؛ لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى - كلما كانت المعرفة به أتمّ والعلم به أكمل، كانت الخشية له أعظم وأكثر.

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله تعالى: ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) قال:الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير.

وقال ابن لَهِيعَة، عن ابن أبي عمرة، عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس قال:العالم بالرحمن مَنْ لم يشرك به شيئا، وأحل حلاله، وحرم حرامه، وحفظ وصيته، وأيقن أنه ملاقيه ومحاسب بعمله.

وقال سعيد بن جبير:الخشية هي التي تحول بينك وبين معصية الله عز وجل.

وقال الحسن البصري:العالم مَن خشي الرحمن بالغيب، ورغب فيما رغب الله فيه، وزهد فيما سَخط الله فيه، ثم تلا الحسن: ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ) .

وعن ابن مسعود، رضي الله عنه، أنه قال:ليس العلم عن كثرة الحديث، ولكن العلم عن كثرة الخشية.

وقال أحمد بن صالح المصري، عن ابن وهب، عن مالك قال:إن العلم ليس بكثرة الرواية، وإنما العلم نور يجعله الله في القلب.

قال أحمد بن صالح المصري :معناه:أن الخشية لا تدرك بكثرة الرواية، وأما العلم الذي فرض الله، عز وجل، أن يتبع فإنما هو الكتاب والسنة، وما جاء عن الصحابة، رضي الله عنهم، ومن بعدهم من أئمة المسلمين، فهذا لا يدرك إلا بالرواية ويكون تأويل قوله: « نور » يريد به فهم العلم، ومعرفة معانيه.

وقال سفيان الثوري، عن أبي حيان [ التميمي ] ، عن رجل قال:كان يقال:العلماء ثلاثة:عالم بالله عالم بأمر الله، وعالم بالله ليس بعالم بأمر الله، وعالم بأمر الله ليس بعالم بالله. فالعالم بالله وبأمر الله:الذي يخشى الله ويعلم الحدود والفرائض. والعالم بالله ليس بعالم بأمر الله:الذي يخشى الله ولا يعلم الحدود ولا الفرائض. والعالم بأمر الله ليس بعالم بالله:الذي يعلم الحدود والفرائض، ولا يخشى الله عز وجل.

إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ( 29 ) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ( 30 ) .

يخبر تعالى عن عباده المؤمنين الذين يتلون كتابه ويؤمنون به ويعملون بما فيه، من إقام الصلاة، والإنفاق مما رزقهم الله في الأوقات المشروعة ليلا ونهارا، سرا وعلانية، ( يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ) أي:يرجون ثوابا عند الله لا بد من حصوله. كما قدمنا في أول التفسير عند فضائل القرآن أنه يقول لصاحبه: « إن كل تاجر من وراء تجارته، وإنك اليوم من وراء كل تجارة » ؛ ولهذا قال تعالى: ( لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) أي:ليوفيهم ثواب ما فعلوه ويضاعفه لهم بزيادات لم تخطر لهم، ( إِنَّهُ غَفُورٌ ) أي:لذنوبهم، ( شَكُورٌ ) للقليل من أعمالهم.

قال قتادة:كان مُطَرف، رحمه الله، إذا قرأ هذه الآية يقول:هذه آية القراء.

قال الإمام أحمد:حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا حيوة، حدثنا سالم بن غيلان أنه سمع دَرَّاجا أبا السمح يحدث عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخُدْريّ، رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن الله تعالى إذا رضي عن العبد أثنى عليه سَبْعةَ أصناف من الخير لم يعمله، وإذا سخط على العبد أثنى عليه سَبْعة أصناف من الشر لم يعمله ، غريب جدا.»

 

وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ( 31 ) .

يقول تعالى: ( وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ) يا محمد من الكتاب، وهو القرآن ( هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ) أي:من الكتب المتقدمة يصدقها، كما شهدت له بالتنويه ، وأنه منـزل من رب العالمين.

( إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ) أي:هو خبير بهم، بصير بمن يستحق ما يفضله به على مَنْ سواه. ولهذا فضل الأنبياء والرسل على جميع البشر، وفضل النبيين بعضهم على بعض، ورفع بعضهم درجات، وجعل منـزلة محمد صلى الله عليه وسلم فوق جميعهم، صلوات الله عليهم أجمعين.

ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ( 32 ) .

يقول تعالى:ثم جعلنا القائمين بالكتاب العظيم، المصدق لما بين يديه من الكتب، الذين اصطفينا من عبادنا، وهم هذه الأمة، ثم قسمهم إلى ثلاثة أنواع ، فقال: ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) وهو:المفرط في فعل بعض الواجبات، المرتكب لبعض المحرمات. ( وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ) وهو:المؤدي للواجبات، التارك للمحرمات، وقد يترك بعض المستحبات، ويفعل بعض المكروهات. ( وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ) وهو:الفاعل للواجبات والمستحبات، التارك للمحرمات والمكروهات وبعض المباحات.

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ [ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ] ) ، قال:هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وَرَّثهم الله كل كتاب أنـزله، فظالمهم يُغْفَر له، ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب.

وقال أبو القاسم الطبراني:حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح، وعبد الرحمن بن معاوية العُتْبِيّ قالا حدثنا أبو الطاهر بن السرح، حدثنا موسى بن عبد الرحمن الصنعاني، حدثني ابن جُرَيْج، عن عطاء، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ذات يوم: « شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي » . قال ابن عباس:السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد يدخل الجنة برحمة الله، والظالم لنفسه وأصحاب الأعراف يدخلون الجنة بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم .

وهكذا رُوي عن غير واحد من السلف:أن الظالم لنفسه من هذه الأمة من المصطفين، على ما فيه من عوج وتقصير.

وقال آخرون:بل الظالم لنفسه ليس من هذه الأمة، ولا من المصطفين الوارثين الكتاب.

قال ابن أبي حاتم، حدثنا أبي، حدثنا علي بن هاشم بن مرزوق، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو ، عن ابن عباس، رضي الله عنهما: ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) قال:هو الكافر. وكذا رَوَى عنه عكرمة، وبه قال عكرمة أيضا فيما رواه ابن جرير.

وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد في قوله: ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) قال:هم أصحاب المشأمة.

وقال مالك عن زيد بن أسلم، والحسن، وقتادة:هو المنافق.

ثم قد قال ابن عباس، والحسن، وقتادة:وهذه الأقسام الثلاثة كالأقسام الثلاثة المذكورة في أول سورة « الواقعة » وآخرها.

والصحيح:أن الظالم لنفسه من هذه الأمة وهذا اختيار ابن جرير كما هو ظاهر الآية، وكما جاءت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من طرق يشد بعضها بعضا، ونحن نورد منها ما تيسر:

الحديث الأول:قال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن الوليد بن العيزار، أنه سمع رجلا من ثقيف يُحَدِّث عن رجل من كنانة، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ) ، قال: « هؤلاء كلهم بمنـزلة واحدة وكلهم في الجنة » . هذا حديث غريب من هذا الوجه وفي إسناده من لم يسمّ، وقد رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، من حديث شعبة، به نحوه .

ومعنى قوله: « بمنـزلة واحدة » أي:في أنهم من هذه الأمة، وأنهم من أهل الجنة، وإن كان بينهم فرق في المنازل في الجنة.

الحديث الثاني:قال الإمام أحمد:حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا أنس بن عياض الليثي أبو ضَمْرة، عن موسى بن عقبة، عن [ علي ] بن عبد الله الأزدي، عن أبي الدرداء، رضي الله عنه، قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « قال الله: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ) ، فأما الذين سبقوا فأولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وأما الذين اقتصدوا فأولئك يحاسبون حسابا يسيرا، وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك الذين يحبسون في طول المحشر، ثم هم الذين تلافاهم برحمته، فهم الذين يقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ .»

طريق أخرى: قال ابن أبي حاتم:حدثنا أسيد بن عاصم، حدثنا الحسين بن حفص، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن رجل، عن أبي ثابت، عن أبي الدرداء قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) قال: « فأما الظالم لنفسه فيحبس حتى يصيبه الهم والحزن، ثم يدخل الجنة » .

ورواه ابن جرير من حديث سفيان الثوري، عن الأعمش قال:ذكر أبو ثابت أنه دخل المسجد، فجلس إلى جنب أبي الدرداء، فقال:اللهم، آنس وحشتي، وارحم غربتي، ويسر لي جليسا صالحا. قال أبو الدرداء:لئن كنت صادقا لأنا أسعد بك منك، سأحدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أحدث به منذ سمعته منه، ذكر هذه الآية: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ ) ، فأما السابق بالخيرات فيدخلها بغير حساب وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا، وأما الظالم لنفسه فيصيبه في ذلك المكان من الغم والحزن، وذلك قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ .

الحديث الثالث:قال الحافظ أبو القاسم الطبراني:حدثنا عبد الله بن محمد بن العباس، حدثنا ابن مسعود، أخبرنا سهل بن عبد ربه الرازي، حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن ابن أبي ليلى، عن أخيه، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن أسامة بن زيد: ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ ) الآية، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كلهم من هذه الأمة » .

الحديث الرابع:قال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن عَزيز، حدثنا سلامة، عن عَقِيل، عن ابن شهاب، عن عَوْف بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « أمتي ثلاثة أثلات:فثلث يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وثلث يحاسبون حسابا يسيرا ثم يدخلون الجنة، وثلث يُمَحَّصون ويكشفون، ثم تأتي الملائكة فيقولون:وجدناهم يقولون: » لا إله إلا الله وحده « . يقول الله عز وجل:صدقوا، لا إله إلا أنا، أدخلوهم الجنة بقولهم: » لا إله إلا الله وحده « واحملوا خطاياهم على أهل النار، وهي التي قال الله تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ [ العنكبوت:13 ] ،وتصديقها في التي فيها ذكر الملائكة، قال الله تعالى: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) فجعلهم ثلاثة أنواع ، وهم أصناف كلهم، فمنهم ظالم لنفسه، فهذا الذي يكشف ويمحص » . غريب جدا .

أثر عن ابن مسعود:قال ابن جرير:حدثني ابن حميد، حدثنا الحكيم بن بشير، عن عمرو بن قيس، عن عبد الله بن عيسى، عن يزيد بن الحارث، عن شَقِيق أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود، أنه قال:هذه الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة:ثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حسابا يسيرا، وثلث يجيئون بذنوب عظام حتى يقول:ما هؤلاء؟ - وهو أعلم تبارك وتعالى- فتقول الملائكة:هؤلاء جاءوا بذنوب عظام، إلا أنهم لم يشركوا بك فيقول الرب عز وجل:أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي:وتلا عبد الله هذه الآية: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ] ) الآية.

أثر آخر:قال أبو داود الطيالسي، عن الصلت بن دينار أبو شُعيب ، عن عقبة بن صُهْبَان الهُنَائي قال:سألت عائشة، رضي الله عنها، عن قول الله: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) الآية، فقالت لي:يا بني، هؤلاء في الجنة، أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ، شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحياة والرزق، وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم. قال:فجعلت نفسها معنا .

وهذا منها، رضي الله عنها، من باب الهَضْم والتواضع، وإلا فهي من أكبر السابقين بالخيرات؛ لأن فضلها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام.

وقال عبد الله بن المبارك، رحمه الله:قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه:في قوله تعالى: ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) قال:هي لأهل بدونا، ومقتصدنا أهل حضرنا، وسابقنا أهل الجهاد. رواه ابن أبي حاتم.

وقال عَوْف الأعرابي:حدثنا عبد الله بن الحارث بن نوفل قال:حدثنا كعب الأحبار قال:إن الظالم لنفسه من هذه الأمة، والمقتصد والسابق بالخيرات كلهم في الجنة، ألم تر أن الله تعالى قال: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا ) إلى قوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ قال:فهؤلاء أهل النار.

[ و ] رواه ابن جرير من طرق، عن عوف، به. ثم قال:

حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّة، أخبرنا حميد، عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث، عن أبيه أن ابن عباس سأل كعبا عن قوله: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) إلى قوله: ( بِإِذْنِ اللَّهِ ) قال:تماسَّت مناكبهم ورَب كعب ، ثم أعطوا الفضل بأعمالهم.

ثم قال ابن جرير:حدثنا ابن حميد، حدثنا الحكم بن بشير، حدثنا عمرو بن قيس، عن أبي إسحاق السَّبِيعي في هذه الآية: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) الآية، قال أبو إسحاق:أما ما سمعت منذ ستين سنة فكلهم ناج.

ثم قال:حدثنا ابن حميد، حدثنا الحكم، حدثنا عمرو، عن محمد بن الحنفية قال:إنها أمة مرحومة، الظالم مغفور له، والمقتصد في الجنان عند الله، والسابق بالخيرات في الدرجات عند الله.

ورواه الثوري، عن إسماعيل بن سَمِيع، عن رجل، عن محمد بن الحنفية، بنحوه.

وقال أبو الجارود:سألت محمد بن علي - يعني:الباقر- عن قوله: ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) فقال:هو الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا.

فهذا ما تيسر من إيراد الأحاديث والآثار المتعلقة بهذا المقام. وإذا تقرر هذا فإن الآية عامة في جميع الأقسام الثلاثة من هذه الأمة، فالعلماء أغبط الناس بهذه النعمة، وأولى الناس بهذه الرحمة، فإنهم كما قال الإمام أحمد، رحمه الله:

حدثنا محمد بن يزيد، حدثنا عاصم بن رجاء بن حَيْوَة ، عن قيس بن كثير قال:قدم رجل من أهل المدينة إلى أبي الدرداء - وهو بدمشق- فقال:ما أقدمك أيْ أخي؟ قال:حديث بلغني أنك تحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أما قدمت لتجارة؟ قال:لا. قال:أما قدمت لحاجة؟ قال:لا؟ قال:أما قدمت إلا في طلب هذا الحديث؟ قال:نعم. قال:فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من سلك طريقا يطلب فيه علمًا، سلك الله به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم، وإنه ليستغفر للعالم مَنْ في السموات والأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب. إن العلماء هم ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر » .

وأخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، من حديث كثير بن قيس - ومنهم من يقول:قيس بن كثير- عن أبي الدرداء . وقد ذكرنا طرقه واختلاف الرواة فيه في شرح « كتاب العلم » من « صحيح البخاري » ، ولله الحمد والمنة.

وقد تقدم في أول « سورة طه » حديث ثعلبة بن الحكم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « يقول الله تعالى يوم القيامة للعلماء:إني لم أضع علمي وحكمي فيكم إلا وأنا أريد [ أن ] أغفر لكم، على ما كان منكم، ولا أبالي » .

جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ( 33 ) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ( 34 ) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ( 35 ) .

يخبر تعالى أن مأوى هؤلاء المصطفين من عباده، الذين أورثوا الكتاب المنـزل من رب العالمين يوم القيامة ( جَنَّاتُ عَدْنٍ ) أي:جنات الإقامة يدخلونها يوم معادهم وقدومهم على ربهم، عز وجل، ( يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا ) ، كما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء » .

( وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ) ولهذا كان محظورا عليهم في الدنيا، فأباحه الله لهم في الدار الآخرة، وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة » . وقال: « [ لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ] هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة » .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا عمرو بن سواد السَّرْحي، أخبرنا ابن وهب، عن ابن لَهِيعَة، عن عقيل بن خالد، عن الحسن، عن أبي هريرة، رضي الله عنه؛ أن أبا أمامة حدث:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم، وذكر حلي أهل الجنة فقال: « مسورون بالذهب والفضة، مُكَلَّلة بالدّر، وعليهم أكاليل من دُرّ وياقوت متواصلة، وعليهم تاج كتاج الملوك، شباب جُرْدٌ مُردٌ مكحَّلُون » .

( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) وهو الخوف من المحذور، أزاحه عنا، وأراحنا مما كنا نتخوفه، ونحذره من هموم الدنيا والآخرة.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن ابن عمر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ليس على أهل » لا إله إلا الله « وحشة في قبورهم ولا في منشرهم، وكأني بأهل » لا إله إلا الله « ينفضون التراب عن رؤوسهم، ويقولون: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) رواه ابن أبي حاتم من حديثه . »

وقال الطبراني:حدثنا جعفر بن محمد الفريابي، حدثنا يحيى بن موسى المروزي، حدثنا سليمان بن عبد الله بن وهب الكوفي، عن عبد العزيز بن حكيم، عن ابن عمر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ليس على أهل » لا إله إلا الله « وحشة في الموت ولا في قبورهم ولا في النشور . وكأني أنظر إليهم عند الصيحة ينفضون رؤوسهم من التراب، يقولون: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ) »

قال ابن عباس، وغيره:غَفَر لهم الكثير من السيئات، وشكر لهم اليسير من الحسنات.

( الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ ) :يقولون:الذي أعطانا هذه المنـزلة، وهذا المقام من فضله وَمَنِّه ورحمته، لم تكن أعمالنا تساوي ذلك. كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لن يدخل أحدا منكم عمله الجنة » . قالوا:ولا أنت يا رسول الله؟ قال: « ولا أنا، إلا أن يَتَغَمَّدَنِي الله برحمة منه وفضل » .

( لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ) أي:لا يمسنا فيها عناء ولا إعياء.

والنصَب واللغوب:كل منهما يستعمل في التعب، وكأن المراد ينفي هذا وهذا عنهم أنهم لا تعب على أبدانهم ولا أرواحهم ، والله أعلم. فمن ذلك أنهم كانوا يُدْئبُون أنفسهم في العبادة في الدنيا، فسقط عنهم التكليف بدخولها، وصاروا في راحة دائمة مستمرة، قال الله تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [ الحاقة:24 ] .

وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ( 36 ) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ( 37 ) .

لما ذكر تعالى حال السعداء، شرع في بيان مآل الأشقياء، فقال: ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ) ، كما قال تعالى: لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا [ طه:74 ] . وثبت في صحيح مسلم:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أما أهل النار الذين هم أهلها، فلا يموتون فيها ولا يحيون » . قال [ الله ] تعالى: وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [ الزخرف:77 ] . فهم في حالهم ذلك يرون موتهم راحة لهم، ولكن لا سبيل إلى ذلك، قال الله تعالى: ( لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا ) ، كما قال تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [ الزخرف:74 ، 75 ] ، وقال كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [ الإسراء:97 ] فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا [ النبأ:30 ] .

ثم قال: ( كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ) أي:هذا جزاء كل من كفر بربه وكذب بالحق.

وقوله: ( وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا ) أي:ينادون فيها، يجأرون إلى الله، عز وجل بأصواتهم: ( رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ) أي:يسألون الرجعة إلى الدنيا، ليعملوا غير عملهم الأول، وقد علم الرب، جل جلاله، أنه لو ردهم إلى الدار الدنيا، لعادوا لما نهوا عنه، وإنهم لكاذبون. فلهذا لا يجيبهم إلى سؤالهم، كما قال تعالى مخبرا عنهم في قولهم: فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ * ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا [ غافر:11، 12 ] ، أي:لا يجيبكم إلى ذلك لأنكم كنتم كذلك، ولو رددتم لعدّتم إلى ما نهيتم عنه؛ ولهذا قال هاهنا: ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) أي:أوما عشتم في الدنيا أعمارا لو كنتم ممن ينتفع بالحق لانتفعتم به في مدة عمركم؟

وقد اختلف المفسرون في مقدار العمر المراد هاهنا فروي عن علي بن الحسين زين العابدين أنه قال:مقدار سبع عشرة سنة.

وقال قتادة:اعلموا أن طول العمر حجة، فنعوذ بالله أن نُعَيَّر بطول العمر، قد نـزلت هذه الآية: ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) ، وإن فيهم لابن ثماني عشرة سنة ، وكذا قال أبو غالب الشيباني.

وقال عبد الله بن المبارك، عن مَعْمَر، عن رجل، عن وهب بن مُنَبِّه في قوله: ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) قال:عشرين سنة.

وقال هشيم، عن منصور، عن زاذان، عن الحسن في قوله: ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) قال:أربعين سنة.

وقال هُشَيْم [ أيضا ] ، عن مجاهد، عن الشعبي، عن مسروق أنه كان يقول:إذا بلغ أحدكم أربعين سنة، فليأخذ حذره من الله عز وجل.

وهذه رواية عن ابن عباس فيما قال ابن جرير:حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم، عن مجاهد قال:سمعت ابن عباس يقول:العمر الذي أعذر الله إلى ابن آدم: ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) أربعون سنة.

هكذا رواه من هذا الوجه، عن ابن عباس. وهذا القول هو اختيار ابن جرير. ثم رواه من طريق الثوري وعبد الله بن إدريس، كلاهما عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال:العمر الذي أعذر الله فيه لابن آدم في قوله: ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) ستون سنة.

فهذه الرواية أصح عن ابن عباس، وهي الصحيحة في نفس الأمر أيضًا، لما ثبت في ذلك من الحديث - كما سنورده- لا كما زعمه ابن جرير، من أن الحديث لم يصح؛ لأن في إسناده مَنْ يجب التثبت في أمره.

وقد روى أصبغ بن نُباتة، عن علي، رضي الله عنه، أنه قال:العمر الذي عَيَّرهم الله به في قوله تعالى: ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) ستون سنة.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي:حدثنا دُحَيْم، حدثنا ابن أبي فُدَيْك، حدثني إبراهيم بن الفضل المخزومي، عن ابن أبي حُسَين المكي؛ أنه حدثه عن عَطاء - هو ابن أبي رباح- عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إذا كان يوم القيامة قيل:أين أبناء الستين؟ وهو العمر الذي قال الله فيه: ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِير ) . »

وكذا رواه ابن جرير، عن علي بن شعيب، عن محمد بن إسماعيل بن أبي فُدَيك، به. وكذا رواه الطبراني من طريق ابن أبي فديك، به . وهذا الحديث فيه نظر؛ لحال إبراهيم بن الفضل، والله أعلم.

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن رَجُل من بني غفَار، عن سعيد المَقْبُرِيّ، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لقد أعذر الله إلى عبد أحياه حتى بلغ ستين أو سبعين سنة، لقد أعذر الله إليه، لقد أعذر الله إليه » .

وهكذا رواه الإمام البخاري في « كتاب الرقاق » من صحيحه:حدثنا عبد السلام بن مُطَهَّر، عن عُمَر بن علي، عن مَعْن بن محمد الغفَاري، عن سعيد المَقْبُرِيّ، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أعذر الله عز وجل إلى امرئ أخَّر عمره حتى بَلَّغَه ستين سنة » . ثم قال البخاري:تابعه أبو حازم وابن عَجْلان، عن سعيد المَقْبُرِيّ .

فأما أبو حازم فقال ابن جرير:حدثنا أبو صالح الفَزَاريّ، حدثنا محمد بن سَوَّار، أخبرنا يعقوب بن عبد الرحمن بن عبد القاريّ الإسكندريّ، حدثنا أبو حازم، عن سعيد المَقْبُرِيّ، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « [ من عَمَّرَه ] الله ستين سنة، فقد أعذر إليه في العمر » .

وقد رواه الإمام أحمد والنسائي في الرقاق جميعا عن قتيبة، عن يعقوب بن عبد الرحمن به .

ورواه البزار قال:حدثنا هشام بن يونس، حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة » . يعني: ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) .

وأما متابعة « ابن عجلان » فقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو السفر يحيى بن محمد بن عبد الملك بن قرعة بسامراء، حدثنا أبو عبد الرحمن المقري، حدثنا سعيد بن أبي أيوب، حدثني محمد بن عجلان، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مَنْ أتت عليه ستون سنة فقد أعذر الله، عز وجل، إليه في العمر » . وكذا رواه الإمام أحمد عن أبي عبد الرحمن هو المقرئ ، به . ورواه أحمد أيضًا عن خلف عن أبي مَعْشَر، عن سعيد المَقْبُرِيّ.

طريق أخرى عن أبي هريرة:قال ابن جرير:حدثني أحمد بن الفرج أبو عُتْبَة الحِمْصِي، حدثنا بَقِيَّة بن الوليد، حدثنا المطرف بن مازن الكناني، حدثني مَعْمَر بن راشد قال:سمعت محمد بن عبد الرحمن الغفَاري يقول:سمعت أبا هريرة يقول:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لقد أعذر الله عز وجل، إلى صاحب الستين سنة والسبعين » .

فقد صح هذا الحديث من هذه الطرق، فلو لم يكن إلا الطريق التي ارتضاها أبو عبد الله البخاري شيخ هذه الصناعة لكفت. وقول ابن جرير: « إن في رجاله بعض من يجب التثبت في أمره » ، لا يلتفت إليه مع تصحيح البخاري، والله أعلم.

وذكر بعضهم أن العمر الطبيعي عند الأطباء مائة وعشرون سنة، فالإنسان لا يزال في ازدياد إلى كمال الستين، ثم يشرع بعد هذا في النقص والهرم، كما قال الشاعر:

إذَا بَلَــغَ الفتَــى ســتينَ عَامــا فقــد ذَهَــبَ المَسَــرَّةُ والفَتَــاءُ

ولما كان هذا هو العمر الذي يعذر الله إلى عباده به، ويزيح به عنهم العلل، كان هو الغالب على أعمار هذه الأمة، كما ورد بذلك الحديث، قال الحسن بن عرفة، رحمه الله:

حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم مَن يجوز ذلك » .

وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه جميعا في كتاب الزهد، عن الحسن بن عرفة، به. ثم قال الترمذي:هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه .

وهذا عَجَب من الترمذي، فإنه قد رواه أبو بكر بن أبي الدنيا من وجه آخر وطريق أخرى، عن أبي هريرة حيث قال:

حدثنا سليمان بن عمر، عن محمد بن ربيعة، عن كامل أبي العلاء، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك » .

وقد رواه الترمذي في « كتاب الزهد » أيضا، عن إبراهيم بن سعيد الجوهري، عن محمد بن ربيعة، به . ثم قال:هذا حديث حسن غريب، من حديث أبي صالح عن أبي هريرة، وقد روي من غير وجه عنه. هذا نصه بحروفه في الموضعين، والله أعلم.

وقال الحافظ أبو يعلى:حدثنا أبو موسى الأنصاري، حدثنا ابن أبي فُدَيْك، حدثني إبراهيم بن الفضل - مولى بني مخزوم- عن المَقْبُريّ، عن أبي هريرة، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مُعْتَرك المنايا ما بين الستين إلى السبعين » .

وبه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أقل أمتي أبناء سبعين » . إسناده ضعيف .

حديث آخر في معنى ذلك:قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده:

حدثنا إبراهيم بن هانئ، حدثنا إبراهيم بن مهدي، حدثنا عثمان بن مطر، عن أبي مالك، عن رِبْعِي عن حذيفة أنه قال:يا رسول الله، أنبئنا بأعمار أمتك. قال: « ما بين الخمسين إلى الستين » قالوا:يا رسول الله، فأبناء السبعين؟ قال: « قَلّ مَنْ يبلغها من أمتي، رحم الله أبناء السبعين، ورحم الله أبناء الثمانين » .

ثم قال البزار:لا يروى بهذا اللفظ إلا بهذا الإسناد، وعثمان بن مطر من أهل البصرة ليس بقوي .

وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش ثلاثا وستين سنة. وقيل:ستين. وقيل:خمسًا وستين سنة. والمشهور الأول، والله أعلم.

وقوله: ( وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ) :روي عن ابن عباس، وعِكْرِمَة، وأبي جعفر الباقر، وقتادة، وسفيان بن عُيَيْنَة أنهم قالوا:يعني:الشيب.

وقال السُّدِّيّ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم:يعني به الرسول صلى الله عليه وسلم وقرأ ابن زيد: هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى [ النجم:56 ] . وهذا هو الصحيح عن قتادة، فيما رواه شيبان، عنه أنه قال:احتج عليهم بالعمر والرسل.

وهذا اختيار ابن جرير، وهو الأظهر؛ لقوله تعالى: وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [ الزخرف:77 ، 78 ] ، أي:لقد بينا لكم الحق على ألسنة الرسل، فأبيتم وخالفتم، وقال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا [ الإسراء:15 ] ، وقال تبارك وتعالى: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ [ الملك:8، 9 ] .

وقوله: ( فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ) أي:فذوقوا عذابَ النار جزاء على مخالفتكم للأنبياء في مدة أعماركم، فما لكم اليوم ناصر ينقذكم مما أنتم فيه من العذاب والنكال والأغلال.

إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 38 )

يخبر تعالى بعلمه غيب السموات والأرض، وأنه يعلم ما تكنه السرائر وتنطوي عليه الضمائر، وسيجازي كل عامل بعمله.

 

هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا ( 39 ) .

ثم قال: ( هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ ) أي:يخلف قوم لآخرين قبلهم، وجيل لجيل قبلهم، كما قال: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ [ النمل:62 ] ( فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ) أي:فإنما يعود وبال ذلك على نفسه دون غيره، ( وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا ) أي:كلما استمروا على كفرهم أبغضهم الله، وكلما استمروا فيه خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، بخلاف المؤمنين فإنهم كلما طال عمر أحدهم وحَسُن عمله، ارتفعت درجته ومنـزلته في الجنة، وزاد أجره وأحبه خالقه وبارئه رب العالمين، [ فسبحان المقدر المدبر رب العالمين ] .

قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا ( 40 ) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ( 41 ) .

يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين: ( أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) أي:من الأصنام والأنداد، ( أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ) أي:ليس لهم شيء من ذلك، ما يملكون من قطمير.

وقوله: ( أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ ) أي:أم أنـزلنا عليهم كتابا بما يقولون من الشرك والكفر؟ ليس الأمر كذلك، ( بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا ) أي:بل إنما اتبعوا في ذلك أهواءهم وآراءهم وأمانيهم التي تمنوها لأنفسهم، وهي غرور وباطل وزور.

ثم أخبر تعالى عن قدرته العظيمة التي بها تقوم السماء والأرض عن أمره، وما جعل فيهما من القوة الماسكة لهما، فقال: ( إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا ) أي:أن تضطربا عن أماكنهما، كما قال: وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ [ الحج:65 ] ، وقال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ [ الروم:25 ] ( وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ) أي:لا يقدر على دوامهما وإبقائهما إلا هو، وهو مع ذلك حليم غفور، أي:يرى عباده وهم يكفرون به ويعصونه، وهو يحلم فيؤخر وينظر ويؤجل ولا يَعْجَل، ويستر آخرين ويغفر؛ ولهذا قال: ( إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ) .

وقد أورد ابن أبي حاتم هاهنا حديثا غريبا بل منكرًا، فقال:حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثني هشام بن يوسف، عن أمية بن شبل، عن الحكم بن أبان، عن عِكْرِمَة، عن أبي هريرة قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى، عليه السلام على المنبر قال: « وقع في نفس موسى عليه السلام:هل ينام الله عز وجل فأرسل الله إليه ملكا، فأرقه ثلاثا ، وأعطاه قارورتين، في كل يد قارورة، وأمره أن يحتفظ بهما. قال:فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان، ثم يستيقظ فيحبس إحداهما عن الأخرى، حتى نام نومه، فاصطفقت يداه فَتَكَسَّرت القارورتان. قال:ضرب الله له مثلا إن الله لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض » .

والظاهر أن هذا الحديث ليس بمرفوع، بل من الإسرائيليات المنكرة فإن موسى عليه السلام أجَلّ من أن يُجَوّز على الله سبحانه وتعالى النوم، وقد أخبر الله تعالى في كتابه العزيز بأنه: الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [ البقرة:255 ] . وثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القِسْطَ ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه » .

وقد قال أبو جعفر بن جرير :حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل قال:جاء رجل إلى عبد الله - هو ابن مسعود- فقال:من أين جئت؟ قال:من الشام. قال:مَنْ لقيت؟ قال:لقيت كعبًا. قال:ما حدثك كعب؟ قال:حدثني أن السموات تدور على مِنْكَب مَلَك. قال:أفصدقته أو كذبته؟ قال:ما صدقته ولا كذبته. قال:لوددت أنك افتديت مَن رحلتك إليه براحلتك ورَحْلِها، كَذَب كعب. إن الله تعالى يقول: ( إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ) .

وهذا إسناد صحيح إلى كعب وإلى ابن مسعود. ثم رواه ابن جرير عن ابن حميد، عن جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم قال:ذهب جُنْدب البَجَلي إلى كعب بالشام، فذكر نحوه . وقد رأيت في مصنف الفقيه يحيى بن إبراهيم بن مُزَين الطليطلي، سماه « سير الفقهاء » ، أورد هذا الأثر عن محمد بن عيسى بن الطَّبَّاع، عن وَكِيع، عن الأعمش، به. ثم قال:وأخبرنا زونان - يعني:عبد الملك بن الحسن- عن ابن وهب، عن مالك أنه قال:السماء لا تدور. واحتج بهذه الآية، وبحديث: « إن بالمغرب بابا للتوبة لا يزال مفتوحا حتى تطلع الشمس منه » .

قلت:وهذا الحديث في الصحيح، والله أعلم.

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا ( 42 ) اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا ( 43 ) .

يخبر تعالى عن قريش والعرب أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم، قبل إرسال الرسول إليهم: ( لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأمَمِ ) أي:من جميع الأمم الذين أرسل إليهم الرسل. قاله الضحاك وغيره، كقوله تعالى: أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا [ الأنعام:156 ، 157 ] ، وكقوله تعالى: وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأَوَّلِينَ * لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [ الصافات:167- 170 ] .

قال الله تعالى: ( فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ ) - وهو:محمد صلى الله عليه وسلم- بما أنـزل معه من الكتاب العظيم، وهو القرآن المبين، ( مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا ) ، أي:ما ازدادوا إلا كفرًا إلى كفرهم، ثم بين ذلك بقوله: ( اسْتِكْبَارًا فِي الأرْضِ ) أي:استكبروا عن اتباع آيات الله، ( وَمَكْرَ السَّيِّئِ ) أي:ومكروا بالناس في صدِّهم إياهم عن سبيل الله، ( وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ ) [ أي:وما يعود وبال ذلك إلا عليهم أنفسهم دون غيرهم.

قال ابن أبي حاتم:ذكر علي بن الحسين، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن أبي زكريا الكوفي عن رجل حدثه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إياك ومكر السيئ، فإنه لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ] ، ولهم من الله طالب » ، ، وقد قال محمد بن كعب القُرَظِي:ثلاث من فعلهن لم ينجُ حتى ينـزل به من مكر أو بغي أو نكث، وتصديقها في كتاب الله: ( وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ ) . إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ [ يونس:23 ] ، فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ [ الفتح:10 ] .

وقوله: ( فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّتَ الأوَّلِينَ ) يعني:عقوبة الله لهم على تكذيبهم رسله ومخالفتهم أمره ، ( فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا ) أي لا تغير ولا تبدل، بل هي جارية كذلك في كل مكذب، ( وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا ) أي: وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ [ الرعد:11 ] ، ولا يكشف ذلك عنهم، ويحوله عنهم أحد.

أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ( 44 ) .

يقول تعالى:قل يا محمد لهؤلاء المكذبين بما جئتهم به من الرسالة:سيروا في الأرض، فانظروا كيف كان عاقبة الذين كذبوا الرسل؟ كيف دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها، فَخُلِيَتْ منهم منازلهم، وسلبوا ما كانوا فيه من النَّعَم بعد كمال القوة، وكثرة العدد والعُدَد، وكثرة الأموال والأولاد، فما أغنى ذلك شيئا، ولا دفع عنهم من عذاب الله من شيء، لما جاء أمر ربك لأنه تعالى لا يعجزه شيء، إذا أراد كونه في السموات والأرض؟ ( إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ) أي:عليم بجميع الكائنات، قدير على مجموعها.

 

وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ( 45 ) .

ثم قال تعالى: ( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ ) أي:لو آخذهم بجميع ذنوبهم، لأهلك جميع أهل الأرض، وما يملكونه من دواب وأرزاق.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن سِنان، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال:كاد الجَعْلُ أن يعذب في جُحْره بذنب ابن آدم، ثم قرأ: ( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ ) .

وقال سعيد بن جُبَيْر، والسُّدِّيّ في قوله: ( مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ ) أي:لما سقاهم المطر، فماتت جميع الدواب.

( وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) أي:ولكن يُنْظرهُم إلى يوم القيامة، فيحاسبهم يومئذ، ويوفي كل عامل بعمله، فيجازي بالثواب أهلَ الطاعة، وبالعقاب أهل المعصية؛ ولهذا قال تعالى: ( فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ) .

آخر تفسير سورة « فاطر » ولله الحمد والمنة.

 

تفسير سورة يس

 

[ وهي ] مكية.

قال أبو عيسى الترمذي:حدثنا قتيبة وسفيان بن وَكِيع، حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرُّؤاسي، عن الحسن بن صالح، عن هارون أبي محمد، عن مقاتل بن حيان، عن قتادة ، عن أنس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن لكل شيء قلبا، وقلب القرآن يس. ومَنْ قرأ يس كَتَبَ الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات » .

ثم قال:هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حُميد بن عبد الرحمن. وهارون أبو محمد شيخ مجهول. وفي الباب عن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، ولا يصح لضعف إسناده، وعن أبي هريرة منظور فيه .

أما حديث الصديق فرواه الحكيم الترمذي في كتابه نوادر الأصول. وأما حديث أبي هريرة فقال أبو بكر البزار:حدثنا عبد الرحمن بن الفضل، حدثنا زيد - هو ابن الحباب- حدثنا حُميد - هو المكي، مولى آل علقمة- عن عطاء - هو ابن أبي رباح- عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن لكل شيء قلبا، وقلب القرآن يس » .

ثم قال:لا نعلم رواه إلا زيد، عن حميد .

وقال الحافظ أبو يعلى:حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، حدثنا حجاج بن محمد، عن هشام بن زياد، عن الحسن قال:سمعت أبا هريرة يقول :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من قرأ يس في ليلة أصبح مغفورًا له. ومن قرأ: » حم « التي فيها الدخان أصبح مغفورًا له » . إسناد جيد .

وقال ابن حبان في صحيحه:حدثنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم - مولى ثقيف- حدثنا الوليد بن شجاع بن الوليد السكوني، حدثنا أبي، حدثنا زياد بن خَيْثَمة، حدثنا محمد بن جُحَادة، عن الحسن، عن جُنْدَب بن عبد الله قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من قرأ يس في ليلة ابتغاء وجه الله، غفر له » .

وقد قال الإمام أحمد:حدثنا عارم، حدثنا معتمر، عن أبيه، عن رجل، عن أبيه، عن معقل بن يَسَار، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « البقرة سِنام القرآن وذِرْوَته، نـزل مع كل آية منها ثمانون ملكا، واستخرجت اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [ البقرة:255 ] من تحت العرش فوصلت بها - أو:فوصلت بسورة البقرة- ويس قلب القرآن، لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة، إلا غفر له، واقرؤوها على موتاكم » .

وكذا رواه النسائي في « اليوم والليلة » عن محمد بن عبد الأعلى، عن معتمر بن سليمان، به .

ثم قال الإمام أحمد:حدثنا عارم، حدثنا ابن المبارك، حدثنا سليمان التيمي، عن أبي عثمان - وليس بالنهدي- عن أبيه، عن مَعْقِل بن يَسَار قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اقرؤوها على موتاكم » - يعني:يس.

ورواه أبو داود، والنسائي في « اليوم والليلة » وابن ماجه من حديث عبد الله بن المبارك، به إلا أن في رواية النسائي:عن أبي عثمان، عن معقل بن يسار.

ولهذا قال بعض العلماء:من خصائص هذه السورة:أنها لا تقرأ عند أمر عسير إلا يسره الله. وكأن قراءتها عند الميت لتنـزل الرحمة والبركة، وليسهل عليه خروج الروح، والله أعلم.

قال الإمام أحمد، رحمه الله:حدثنا أبو المغيرة، حدثنا صفوان قال:كان المشيخة يقولون:إذا قرئت - يعني يس- عند الميت خُفِّف عنه بها .

وقال البزار:حدثنا سلمة بن شبيب، حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان، عن أبيه، عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس قال:قال النبي صلى الله عليه وسلم: « لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي » - يعني:يس .

بسم الله الرحمن الرحيم

يس ( 1 ) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ( 2 ) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( 3 ) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 4 ) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ( 5 ) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ( 6 ) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 7 ) .

قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول « سورة البقرة » ، ورُوي عن ابن عباس وعِكْرِمَة، والضحاك، والحسن وسفيان بن عُيَيْنَة أن « يس » بمعنى:يا إنسان.

وقال سعيد بن جبير:هو كذلك في لغة الحبشة.

وقال مالك، عن زيد بن أسلم:هو اسم من أسماء الله تعالى.

( وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ) أي:المحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

( إِنَّكَ ) يا محمد ( لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) أي:على منهج ودين قويم، وشرع مستقيم.

( تَنـزيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ) أي:هذا الصراط والمنهج والدين الذي جئت به مُنـزل من رب العزة، الرحيم بعباده المؤمنين، كما قال تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [ الشورى:52 ، 53 ] .

وقوله تعالى: ( لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ) يعني بهم:العرب؛ فإنه ما أتاهم من نذير من قبله. وذكرهم وحدهم لا ينفي مَنْ عداهم [ كما زعمه بعض النصارى ] ، كما أن ذكر بعض الأفراد لا ينفي العموم. وقد تقدم ذكر الآيات والأحاديث المتواترة في عموم بعثته، صلوات الله وسلامه عليه، عند قوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [ الأعراف:158 ] .

قوله: ( لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ ) :قال ابن جرير:لقد وجب العذاب على أكثرهم بأن [ الله قد ] حتم عليهم في أم الكتاب أنهم لا يؤمنون، ( فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) بالله، ولا يصدقون رسله.

إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ( 8 ) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ( 9 ) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 10 ) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ( 11 ) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ( 12 )

يقول تعالى:إنا جعلنا هؤلاء المحتوم عليهم بالشقاء نسبتهم إلى الوصول إلى الهدى كنسبة من جُعل في عنقه غل، فجَمَع يديه مع عنقه تحت ذقنه، فارتفع رأسُه، فصار مقمَحا؛ ولهذا قال: ( فَهُمْ مُقْمَحُونَ ) والمقمح:هو الرافع رأسه، كما قالت أم زَرْع في كلامها: « وأشرب فأتقمَّح » أي: أشرب فأروى، وأرفع رأسي تهنيئا وتَرَوّيا. واكتفى بذكر الغل في العنق عن ذكر اليدين، وإن كانتا مرادتين، كما قال الشاعر :

فَمَـــا أدْري إذَا يَمَّمْــتُ أرْضًــا أريـــد الخَــيْرَ أيّهمــا يَلينــي

أالْخَــيْرُ الـــذي أنَـــا أبْتَغيـه أم الشَّـــرّ الـــذي لا يَــأتَليني

فاكتفى بذكر الخير عن ذكر الشر لَمّا دل السياق والكلام عليه، وكذا هذا، لما كان الغُلّ إنما يعرف فيما جَمَع اليدين مع العنق، اكتفى بذكر العنق عن اليدين.

قال العوفي، عن ابن عباس في قوله: ( إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ) قال:هو كقول الله تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ [ الإسراء:29 ] يعني بذلك:أن أيديهم موثقة إلى أعناقهم، لا يستطيعون أن يبسطوها بخير.

وقال مجاهد: ( فَهُمْ مُقْمَحُونَ ) قال:رافعو رؤوسهم، وأيديهم موضوعة على أفواههم، فهم مغلولون عن كل خير.

وقوله: ( وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا ) :قال مجاهد:عن الحق، ( وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا ) قال مجاهد:عن الحق، فهم يترددون. وقال قتادة:في الضلالات.

وقوله: ( فَأَغْشَيْنَاهُمْ ) أي:أغشينا أبصارهم عن الحق، ( فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) أي:لا ينتفعون بخير ولا يهتدون إليه.

قال ابن جرير:وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ: « فأعشيناهم » بالعين المهملة، من العشا وهو داء في العين.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:جعل الله هذا السد بينهم وبين الإسلام والإيمان، فهم لا يخلصون إليه، وقرأ: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [ يونس:96 ، 97 ] ثم قال:من منعه الله لا يستطيع.

وقال عكرمة:قال أبو جهل:لئن رأيتُ محمدًا لأفعلن ولأفعلن، فأنـزلت: ( إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا ) إلى قوله: ( [ فَهُمْ ] لا يُبْصِرُونَ ) ، قال:وكانوا يقولون:هذا محمد. فيقول:أين هو أين هو؟ لا يبصره. رواه ابن جرير.

وقال محمد بن إسحاق:حدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب قال:قال أبو جهل وهم جلوس:إن محمدًا يزعم أنكم إن تابعتموه كنتم ملوكا، فإذا متم بعثتم بعد موتكم، وكانت لكم جِنَانٌ خير من جنان الأرْدُن وأنكم إن خالفتموه كان لكم منه ذبح، ثم بعثتم بعد موتكم وكانت لكم نار تُعَذَّبون بها. وخرج [ عليهم ] رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك، وفي يده حفنة من تراب، وقد أخذ الله على أعينهم دونه، فجعل يَذُرّها على رؤوسهم، ويقرأ: يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ حتى انتهى إلى قوله: ( وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) ، وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته، وباتوا رُصَدَاء على بابه، حتى خرج عليهم بعد ذلك خارج من الدار، فقال:ما لكم؟ قالوا:ننتظر محمدًا. قال قد خرج عليكم، فما بقي منكم من رجل إلا [ قد ] وضع على رأسه ترابا، ثم ذهب لحاجته. فجعل كل رجل منهم ينفض ما على رأسه من التراب. قال:وقد بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم قول أبي جهل فقال: « وأنا أقول ذلك:إن لهم مني لذبحا، وإنه أحدهم » .

وقوله: ( وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) أي:قد ختم الله عليهم بالضلالة، فما يفيد فيهم الإنذار ولا يتأثرون به.

وقد تقدم نظيرها في أول سورة البقرة، وكما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [ يونس:96 ، 97 ] .

( إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ ) أي:إنما ينتفع بإنذارك المؤمنون الذين يتبعون الذكر، وهو القرآن العظيم، ( وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ ) أي:حيث لا يراه أحد إلا الله، يعلم أن الله مطلع عليه، وعالم بما يفعله، ( فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ ) أي:لذنوبه، ( وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ) أي:كبير واسع حسن جميل، كما قال: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [ الملك:12 ] .

ثم قال تعالى: ( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى ) أي:يوم القيامة، وفيه إشارة إلى أن الله تعالى يحيي قلب مَنْ يشاء من الكفار الذين قد ماتت قلوبهم بالضلالة، فيهديهم بعد ذلك إلى الحق، كما قال تعالى بعد ذكر قسوة القلوب: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [ الحديد:17 ] .

وقوله: ( وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا ) أي:من الأعمال.

وفي قوله: ( وَآثَارَهُمْ ) قولان:

أحدهما:نكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم، وآثارهم التي أثروها من بعدهم، فنجزيهم على ذلك أيضًا، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، كقوله صلى الله عليه وسلم: « مَنْ سن في الإسلام سنة حسنة، كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا، ومَنْ سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزرُ مَنْ عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئًا » .

رواه مسلم، من رواية شعبة، عن عون بن أبي جُحَيْفة، عن المنذر بن جرير، عن أبيه جرير بن عبد الله البجلي، رضي الله عنه، وفيه قصة مُجْتَابِي النَّمَّار المُضريَّين . ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه، عن يحيى بن سليمان الجعفي، عن أبي المحياة يحيى بن يَعْلَى، عن عبد الملك بن عمير، عن جرير بن عبد الله، فذكر الحديث بطوله، ثم تلا هذه الآية: ( وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ) .

وقد رواه مسلم من رواية أبي عَوَانة، عن عبد الملك بن عمير، عن المنذر بن جرير، عن أبيه، فذكره .

وهكذا الحديث الآخر الذي في صحيح مسلم عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا مات ابن آدم، انقطع عمله إلا من ثلاث:من علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده » .

وقال سفيان الثوري، عن أبي سعيد قال:سمعت مجاهدًا يقول في قوله: ( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ) قال:ما أورثوا من الضلالة.

وقال ابن لَهِيعَة، عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير في قوله: ( وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ) يعني:ما أثروا. يقول:ما سنوا من سنة، فعمل بها قوم من بعد موتهم، فإن كان خيرًا فله مثل أجورهم، لا ينقص من أجر مَنْ عمله شيئا، وإن كانت شرًّا فعليه مثل أوزارهم، ولا ينقص من أوزار من عمله شيئًا. ذكرهما ابن أبي حاتم.

وهذا القول هو اختيار البَغَوِيّ .

والقول الثاني:أن المراد بذلك آثار خطاهم إلى الطاعة أو المعصية.

قال ابن أبي نَجِيح وغيره، عن مجاهد: ( مَا قَدَّمُوا ) :أعمالهم. ( وَآثَارَهُمْ ) قال:خطاهم بأرجلهم. وكذا قال الحسن وقتادة: ( وَآثَارَهُمْ ) يعني:خطاهم. قال قتادة:لو كان الله تعالى مُغفلا شيئًا من شأنك يا بن آدم، أغفل ما تعفي الرياح من هذه الآثار، ولكن أحصى على ابن آدم أثره وعمله كله، حتى أحصى هذا الأثر فيما هو من طاعة الله أو من معصيته، فمن استطاع منكم أن يكتب أثره في طاعة الله، فليفعل.

وقد وَرَدَت في هذا المعنى أحاديث:

الحديث الأول:قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الصمد، حدثنا أبي، حدثنا الجُرَيْري، عن أبي نَضْرَة، عن جابر بن عبد الله قال:خلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: « إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد » . قالوا:نعم، يا رسول الله، قد أردنا ذلك. فقال: « يا بني سلمة، دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم » .

وهكذا رواه مسلم، من حديث سعيد الجريري وكَهْمس بن الحسن، كلاهما عن أبي نضرة - واسمه:المنذر بن مالك بن قطْعَة العَبْدِي- عن جابر.

الحديث الثاني:قال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن الوزير الواسطي، حدثنا إسحاق الأزرق، عن سفيان الثوري، عن أبي سفيان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال:كانت بنو سلَمة في ناحية من المدينة، فأرادوا أن ينتقلوا إلى قريب من المسجد، فنـزلت: ( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ) فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: « إن آثاركم تُكْتبُ » . فلم ينتقلوا.

انفرد بإخراجه الترمذي عند تفسير هذه الآية الكريمة، عن محمد بن الوزير، به . ثم قال: « حسن غريب من حديث الثوري » .

ورواه ابن جرير، عن سليمان بن عمر بن خالد الرقي، عن ابن المبارك، عن سفيان الثوري، عن طريف - وهو ابن شهاب أبو سفيان السعدي- عن أبي نضرة، به .

وقد رُوِيَ من غير طريق الثوري، فقال الحافظ أبو بكر البزار:

حدثنا عباد بن زياد الساجي، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا شعبة، عن سعيد الجُرَيري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال:إن بني سَلَمة شَكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد منازلهم من المسجد، فنـزلت: ( وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ) ، فأقاموا في مكانهم.

وحدثنا ابن المثنى ، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه.

وفيه غرابة من حيث ذكْرُ نـزول هذه الآية، والسورة بكمالها مكية، فالله أعلم.

الحديث الثالث:قال ابن جرير:

حدثنا نصر بن علي الجَهْضَمِي، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا إسرائيل، عن سِمَاك، عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس قال:كانت منازل الأنصار متباعدة من المسجد، فأرادوا أن ينتقلوا إلى المسجد، فنـزلت: ( وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ) فقالوا:نثبت مكاننا. هكذا رواه وليس فيه شيء مرفوع .

ورواه الطبراني عن عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم، عن محمد بن يوسف الفريابي، عن إسرائيل، عن سِمَاك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:كانت الأنصار بعيدة منازلهم من المسجد، فأرادوا أن يتحولوا إلى المسجد، فنـزلت: ( وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ) فثبتوا في منازلهم .

الحديث الرابع:قال الإمام أحمد:حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعَة، حدثني حُيَيّ بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن عبد الله بن عمرو قال:توفي رجل بالمدينة، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: « يا ليته مات في غير مولده » . فقال رجل من الناس ولم يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الرجل إذا توفي في غير مولده، قِيس له من مولده إلى منقطع أثره في الجنة » .

ورواه النسائي عن يونس بن عبد الأعلى، وابن ماجه عن حرملة، كلاهما عن ابن وهب، عن حيي بن عبد الله، به .

وقال ابن جرير:حدثنا ابن حميد، حدثنا أبو تُمَيْلَةَ، حدثنا الحسين، عن ثابت قال:مشيت مع أنس فأسرعت المشي، فأخذ بيدي فمشينا رويدًا، فلما قضينا الصلاة قال أنس:مشيت مع زيد بن ثابت فأسرعت المشي، فقال:يا أنس، أما شَعَرْتَ أن الآثار تكتب؟ أما شَعَرْتَ أن الآثار تكتب؟ .

وهذا القول لا تنافي بينه وبين الأول، بل في هذا تنبيه ودلالة على ذلك بطريق الأولى والأحرى، فإنه إذا كانت هذه الآثار تُكتَب، فلأن تُكْتَبَ تلك التي فيها قُدوة بهم من خير أو شر بطريق الأولى، والله أعلم.

وقوله: ( وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) أي:جميع الكائنات مكتوب في كتاب مسطور مضبوط في لوح محفوظ، والإمام المبين هاهنا هو أم الكتاب. قاله مجاهد، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وكذا في قوله تعالى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [ الإسراء:71 ] أي:بكتاب أعمالهم الشاهد عليهم بما عملوه من خير وشر، كما قال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ [ الزمر:69 ] ، وقال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [ الكهف:49 ] .

 

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ( 13 ) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ( 14 ) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ ( 15 ) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ( 16 ) وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ( 17 ) .

يقول تعالى:واضرب - يا محمد- لقومك الذين كذبوك ( مَثَلا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ) .

قال ابن إسحاق - فيما بلغه عن ابن عباس، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه- :إنها مدينة أنطاكية، وكان بها ملك يقال له:أنطيخس بن أنطيخس بن أنطيخس، وكان يعبد الأصنام، فبعث الله إليه ثلاثة من الرسل، وهم:صادق وصدوق وشلوم، فكذبهم.

وهكذا رُوي عن بُرَيدة بن الحُصَيب، وعِكْرِمَة، وقتادة، والزهري:أنها أنطاكية.

وقد استشكل بعض الأئمة كونَها أنطاكية، بما سنذكره بعد تمام القصة، إن شاء الله تعالى.

وقوله: ( إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا ) أي:بادروهما بالتكذيب، ( فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ ) أي:قويناهما وشددنا أزرهما برسول ثالث.

قال ابن جُرَيْج، عن وهب بن سليمان، عن شعيب الجبائي قال:كان اسم الرسولين الأولين شمعون ويوحنا، واسم الثالث بولص، والقرية أنطاكية.

( فَقَالُوا ) أي:لأهل تلك القرية: ( إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ) أي:من ربكم الذي خلقكم، نأمركم بعبادته وحده لا شريك له. قاله أبو العالية.

وزعم قتادة بن دعامة:أنهم كانوا رسل المسيح، عليه السلام، إلى أهل أنطاكية. ( قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا ) أي:فكيف أوحيَ إليكم وأنتم بشر ونحن بشر، فلم لا أوحيَ إلينا مثلكم؟ ولو كنتم رسلا لكنتم ملائكة. وهذه شبه كثير من الأمم المكذبة، كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا [ التغابن:6 ] ، فاستعجبوا من ذلك وأنكروه. وقوله: قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [ إبراهيم:10 ] . وقوله حكاية عنهم في قوله: وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ [ المؤمنون:34 ] ، وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا ؟ [ الإسراء:94 ] . ولهذا قال هؤلاء: ( مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنـزلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ) أي:أجابتهم رسلهم الثلاثة قائلين:الله يعلم أنا رسله إليكم، ولو كنا كَذَبة عليه لانتقم منا أشد الانتقام، ولكنه سيعزنا وينصرنا عليكم، وستعلمون لمن تكون عاقبة الدار، كقوله تعالى: قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [ العنكبوت:52 ] .

( وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) يقولون إنما علينا أن نبلغكم ما أرسلنا به إليكم، فإذا أطعتم كانت لكم السعادة في الدنيا والآخرة، وإن لم تجيبوا فستعلمون غِبَّ ذلك ،والله أعلم.

قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 18 ) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ( 19 )

فعند ذلك قال لهم أهل القرية: ( إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ ) أي:لم نرَ على وجوهكم خيرًا في عيشنا.

وقال قتادة:يقولون إن أصابنا شر فإنما هو من أجلكم.

وقال مجاهد:يقولون:لم يدخل مثلكم إلى قرية إلا عذب أهلها.

( لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ ) :قال قتادة:بالحجارة. وقال مجاهد:بالشتم.

( وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) أي:عقوبة شديدة. فقالت لهم رسلهم: ( طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ ) أي:مردود عليكم، كقوله تعالى في قوم فرعون: فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ [ الأعراف:131 ] ، وقال قوم صالح: اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ [ النمل:47 ] . وقال قتادة، ووهب بن منبه:أي أعمالكم معكم. وقال تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا [ النساء:78 ] .

وقوله: ( أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ) أي:من أجل أنا ذكرناكم وأمرناكم بتوحيد الله وإخلاص العبادة له، قابلتمونا بهذا الكلام، وتوعدتمونا وتهددتمونا؟ بل أنتم قوم مسرفون.

وقال قتادة:أي إن ذكرناكم بالله تطيرتم بنا، بل أنتم قوم مسرفون.

وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ( 20 ) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ ( 21 ) وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 22 ) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ ( 23 ) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 24 ) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ( 25 ) .

قال ابن إسحاق - فيما بلغه عن ابن عباس وكعب الأحبار ووهب بن منبه- :إن أهل القرية هَمّوا بقتل رسلهم فجاءهم رجل من أقصى المدينة يسعى، أي:لينصرهم من قومه - قالوا:وهو حبيب، وكان يعمل الجرير - وهو الحبال- وكان رجلا سقيما قد أسرع فيه الجذام، وكان كثير الصدقة، يتصدق بنصف كسبه، مستقيم النظرة .

وقال ابن إسحاق عن رجل سماه، عن الحكم، عن مِقْسَم - أو:عن مجاهد- عن ابن عباس قال: [ كان ] اسم صاحب يس حبيب، وكان الجذام قد أسرع فيه.

وقال الثوري، عن عاصم الأحول، عن أبي مجْلَز:كان اسمه حبيب بن مري.

وقال شبيب بن بشر، عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس [ أيضا ] قال:اسم صاحب يس حبيب النجار، فقتله قومه.

وقال السدي:كان قَصَّارا. وقال عمر بن الحكم:كان إسكافا. وقال قتادة:كان يتعبد في غار هناك.

( قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ) :يحض قومه على اتباع الرسل الذين أتوهم، ( اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا ) أي:على إبلاغ الرسالة، ( وَهُمْ مُهْتَدُونَ ) فيما يدعونكم إليه، من عبادة الله وحده لا شريك له.

( وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي ) أي:وما يمنعني من إخلاص العبادة للذي خلقني وحده لا شريك له، ( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) أي:يوم المعاد، فيجازيكم على أعمالكم، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر.

( أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ) ؟ استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع، ( إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ ) أي:هذه الآلهة التي تعبدونها من دونه لا يملكون من الأمر شيئا. فإن الله لو أرادني بسوء، فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ [ يونس:107 ] وهذه الأصنام لا تملك دفع ذلك ولا منعه، ولا ينقذونني مما أنا فيه، ( إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) أي:إن اتخذتها آلهة من دون الله.

وقوله: ( إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ) :قال ابن إسحاق - فيما بلغه عن ابن عباس وكعب ووهب- يقول لقومه: ( إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ ) الذي كفرتم به، ( فَاسْمَعُونِ ) أي:فاسمعوا قولي.

ويحتمل أن يكون خطابه للرسل بقوله: ( إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ ) أي:الذي أرسلكم، ( فَاسْمَعُونِ ) أي:فاشهدوا لي بذلك عنده. وقد حكاه ابن جرير فقال:وقال آخرون:بل خاطب بذلك الرسل، وقال لهم:اسمعوا قولي، لتشهدوا لي بما أقول لكم عند ربي، إني [ قد ] آمنت بربكم واتبعتكم .

وهذا [ القول ] الذي حكاه هؤلاء أظهر في المعنى، والله أعلم.

قال ابن إسحاق - فيما بلغه عن ابن عباس وكعب ووهب- :فلما قال ذلك وثبوا عليه وثبة رجل واحد فقتلوه، ولم يكن له أحد يمنع عنه.

وقال قتادة:جعلوا يرجمونه بالحجارة، وهو يقول: « اللهم اهد قومي، فإنهم لا يعلمون » . فلم يزالوا به حتى أقعصوه وهو يقول كذلك، فقتلوه، رحمه الله.

قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ( 26 ) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ( 27 )

قال محمد بن إسحاق، عن بعض أصحابه، عن ابن مسعود:إنهم وطئوه بأرجلهم حتى خرج قُصْبُه من دبره وقال الله له: ( ادْخُلِ الْجَنَّةَ ) ، فدخلها فهو يرزق منها، قد أذهب الله عنه سُقْم الدنيا وحزنها ونَصَبها.

وقال مجاهد:قيل لحبيب النجار:ادخل الجنة. وذلك أنه قُتل فوجبت له ، فلما رأى الثواب ( قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ) .

قال قتادة:لا تلقى المؤمن إلا ناصحا، لا تلقاه غاشا؛ لَمَّا عاين [ ما عاين ] من كرامة الله ( قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ) . تمنى على الله أن يعلم قومه ما عاين من كرامة الله [ له ] ، وما هجم عليه.

وقال ابن عباس:نصح قومه في حياته بقوله: يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ [ يس:20 ] ، وبعد مماته في قوله: ( يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ) رواه ابن أبي حاتم.

وقال سفيان الثوري، عن عاصم الأحول، عن أبي مِجْلَز: ( بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ) بإيماني بربي وتصديقي المرسلين.

ومقصوده أنهم لو اطلعوا على ما حصل من هذا الثواب والجزاء والنعيم المقيم، لقادهم ذلك إلى اتباع الرسل، فرحمه الله ورضي عنه، فلقد كان حريصا على هداية قومه.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عبيد الله، حدثنا ابن جابر - وهو محمد- عن عبد الملك - يعني:ابن عمير- قال:قال عروة بن مسعود الثقفي للنبي صلى الله عليه وسلم:ابعثني إلى قومي أدعوهم إلى الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إني أخاف أن يقتلوك » . فقال:لو وجدوني نائما ما أيقظوني. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « انطلق » . فانطلق فمر على اللات والعزى، فقال:لأصبحَنَّك غدًا بما يسوءك. فغضبت ثقيف، فقال:يا معشر ثقيف، إن اللات لا لات، وإن العُزى لا عُزى، أسلموا تسلموا. يا معشر الأحلاف، إن العزى لا عزى، وإن اللات لا لات، أسلموا تسلموا. قال ذلك ثلاث مرات، فرماه رجل فأصاب أكْحَله فقتله، فبلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: « هذا مثله كمثل صاحب يس، ( قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ) »

وقال محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن مَعْمَر بن حَزْم:أنه حدث عن كعب الأحبار:أنه ذكر له حبيب بن زيد بن عاصم - أخو بني مازن بن النجار- الذي كان مسيلمة الكذاب قَطَّعه باليمامة، حين جعل يسأله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يقول:أتشهد أن محمدا رسول الله؟ فيقول:نعم. ثم يقول:أتشهد أني رسول الله؟ فيقول:لا أسمع. فيقول له مسيلمة:أتسمع هذا ولا تسمع ذاك؟ فيقول:نعم. فجعل يُقَطِّعه عضوا عضوا، كلما سأله لم يزده على ذلك حتى مات في يديه. فقال كعب حين قيل له:اسمه حبيب، وكان والله صاحب يس اسمه حبيب .