الجزء 28

 

تفسير سورة المجادلة

 

وهي مدنية.

بسم الله الرحمن الرحيم

قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ( 1 )

قال الإمام أحمد:حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن عُرْوَة، عن عائشة قالت:الحمد لله الذي وَسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلةُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت، ما أسمع ما تقول، فأنـزل الله، عز وجل: ( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ) إلى آخر الآية

وهكذا رواه البخاري في كتاب التوحيد تعليقًا فقال:وقال الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن عروة، عن عائشة، فذكره وأخرجه النسائي، وابن ماجة، وابن أبي حاتم، وابن جرير، من غير وجه، عن الأعمش، به

وفي رواية لابن أبي حاتم عن الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن عروة، عن عائشة، أنها قالت:تبارك الذي أوعى سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة، ويخفى علي بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تقول:يا رسول الله، أَكَلَ شبابي، ونَثَرت له بطني، حتى إذا كَبِرَت سِنِّي، وانقطع ولدي، ظَاهَر مِنِّي، اللهم إني أشكو إليك. قالت:فما برحت حتى نـزل جبريل بهذه الآية: ( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ) وقال وزوجها أوس بن الصامت.

وقال ابن لَهِيعة، عن أبي الأسود، عن عروة:هو أوس بن الصامت- وكان أوس امرأ به لمم، فكان إذا أخَذه لممه واشتد به يظاهر من امرأته، وإذا ذهب لم يقل شيئًا. فأتت رسول الله تستفتيه في ذلك، وتشتكي إلى الله، فأنـزل الله: ( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ ) الآية.

وهكذا روى هشام بن عروة، عن أبيه:أن رجلا كان به لممٌ، فذكر مثله.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل أبو سلمة، حدثنا جرير- يعني ابن حازم- قال:سمعت أبا يزيد يحدث قال:لقيت امرأة عُمَرَ- يقال لها:خولة بنت ثعلبة- وهو يسير مع الناس، فاستوقفته فوقف لها ودنا منها وأصغى إليها رأسه، ووضع يديه على منكبيها حتى قضت حاجتها وانصرفت. فقال له رجل:يا أمير المؤمنين، حبست رجالات قريش على هذه العجوز؟! قال:ويحك! وتدري من هذه؟ قال:لا. قال:هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سموات، هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تنصرف عني إلى الليل ما انصرفت عنها حتى تقضي حاجتها إلى أن تحضر صلاة فأصليها، ثم أرجع إليها حتى تقضي حاجتها

هذا منقطع بين أبي يزيد وعمر بن الخطاب. وقد روي من غير هذا الوجه. وقال ابن أبي حاتم أيضًا:حدثنا المنذر بن شاذان حدثنا يعلى، حدثنا زكريا عن عامر قال:المرأة التي جادلت في زوجها خولة بنت الصامت، وأمها معاذة التي أنـزل الله فيها: وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [ النور:33 ]

صوابه:خولة امرأة أوس بن الصامت.

الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ( 2 ) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 3 ) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 4 )

قال الإمام أحمد:حدثنا سعد بن إبراهيم ويعقوب قالا حدثنا أبي، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثني مَعْمَر بن عبد الله بن حنظلة، عن ابن عبد الله بن سلام، عن خويلة بنت ثعلبة قالت:فيَّ- والله- وفي أوس بن الصامت أنـزل الله صَدْرَ سورة « المجادلة » ، قالت:كنت عنده وكان شيخًا كبيرًا قد ساء خلقه، قالت:فدخل عليَّ يومًا فراجعته بشيء فغضب فقال:أنت عليَّ كظهر أمي. قالت:ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة، ثم دخل عليَّ فإذا هو يريدني عن نفسي. قالت:قلت:كلا والذي نفس خويلة بيده، لا تخلص إليَّ وقد قلت ما قلت، حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه. قالت:فواثبني وامتنعت منه، فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف، فألقيته عني، قالت:ثم خرجتُ إلى بعض جاراتي، فاستعرت منها ثيابًا، ثم خرجتُ حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلست بين يديه، فذكرت له ما لقيت منه، وجعلت أشكو إليه ما ألقى من سوء خلقه. قالت:فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « يا خويلة ابنُ عمك شيخ كبير، فاتقي الله فيه » . قالت:فوالله ما برحت حتى نـزل فيَّ القرآن، فتغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتغشاه، ثم سُرِّيَ عنه، فقال لي: « يا خويلة قد أنـزل الله فيك وفي صاحبك » . ثم قرأ عليَّ: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ إلى قوله: ( وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) قالت:فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مُريه فليعتق رقبة » . قالت:فقلت يا رسول الله، ما عنده ما يعتق. قال: « فليصم شهرين متتابعين » . قالت:فقلت:والله إنه شيخ كبير، ما به من صيام. قال: « فليطعم ستين مسكينًا وسقًا من تَمر » . قالت:فقلت:يا رسول الله، ما ذاك عنده. قالت:فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « فإنا سنعينه بعَرَقٍ من تمر » . قالت:فقلت:يا رسول الله، وأنا سأعينه بعَرَقٍ آخر، قال: « فقد أصبت وأحسَنْت، فاذهبي فتصدقي به عنه، ثم استوصي بابن عمك خيرًا » . قالت:ففعلت.

ورواه أبو داود في كتاب الطلاق من سننه من طريقين، عن محمد بن إسحاق بن يسار، به وعنده:خولة بنت ثعلبة، ويقال فيها:خولة بنت مالك بن ثعلبة. وقد تصغر فيقال:خُوَيلة. ولا منافاة بين هذه الأقوال، فالأمر فيها قريب. والله أعلم.

هذا هو الصحيح في سبب نـزول صدر هذه السورة، فأما حديث سَلَمة بن صَخْر فليس فيه أنه كان سبب النـزول، ولكن أمر بما أنـزل الله في هذه السورة، من العتق أو الصيام، أو الإطعام، كما قال الإمام أحمد:

حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن سُلَيمان بن يَسَار، عن سلمة بن صخر الأنصاري قال:كنتُ امرأ قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري، فلما دخل رمضان تظهَّرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان، فَرَقًا من أن أصيب في ليلتي شيئا فأتابع في ذلك إلى أن يدركني النهار، وأنا لا أقدر أن أنـزع، فبينا هي تخدمني من الليل إذ تكشف لي منها شيء، فوثبت عليها، فلما أصبحتُ غدوتُ على قومي فأخبرتهم خبري وقلت:انطلقوا معي إلى النبي صلى الله عليه وسلم- فأخبره بأمري. فقالوا:لا والله لا نفعل؛ نتخوف أن ينـزل فينا - أو يقول فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم- مقالة يبقى علينا عارها، ولكن اذهب أنت فاصنع ما بدا لك. قال:فخرجتُ حتى أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته خبري. فقال لي: « أنت بذاك » . فقلت:أنا بذاك. فقال « أنت بذاك » . فقلت:أنا بذاك. قال « أنت بذاك » . قلت:نعم، ها أناذا فأمض فيّ حكم الله تعالى فإني صابر له. قال: « أعتق رقبة » . قال:فضربت صفحة رقبتي بيدي وقلت:لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها. قال: « فصم شهرين » . قلت:يا رسول الله، وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام؟ قال: « فتصدق » . فقلت:والذي بعثك بالحق، لقد بتنا ليلتنا هذه وَحْشَى ما لنا عشاء. قال: « اذهب إلى صاحب صدقة بني زُريق فقل له فليدفعها إليك، فأطعم عنك منها وسقًا من تمر ستين مسكينًا، ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك » . قال:فرجعت إلى قومي فقلت:وجدت عندكم الضيقَ وسوءَ الرأي، ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم السَّعَة والبركة، قد أمر لي بصدقتكم، فادفعوها إليَّ. فدفعوها إليَّ.

وهكذا رواه أبو داود، وابن ماجة، واختصره الترمذي وحَسَّنه

وظاهر السياق:أن هذه القصة كانت بعد قصة أوس بن الصامت وزوجته خُويَلة بنت ثعلبة، كما دلّ عليه سياق تلك وهذه بعد التأمل.

قال خَصيف،عن مجاهد، عن ابن عباس:أول من ظاهر من امرأته أوس بن الصامت، أخو عبادة بن الصامت، وامرأته خولة بنت ثعلبة بن مالك، فلما ظاهر منها خَشِيت أن يكون ذلك طلاقًا، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت:يا رسول الله، إن أوسًا ظاهر مني، وإنا إن افترقنا هلكنا، وقد نَثَرتُ بطني منه، وقَدمتْ صُحْبَتَهُ. وهي تشكو ذلك وتبكي، ولم يكن جاء في ذلك شيء. فأنـزل الله: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ إلى قوله: ( وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « أتقدر على رقبة تعتقها؟ » . قال:لا والله يا رسول الله ما أقدر عليها؟ قال:فجمع له رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أعتق عنه، ثم راجع أهله رواه بن جرير

ولهذا ذهب ابنُ عباس والأكثرون إلى ما قلناه، والله أعلم.

فقوله تعالى: ( الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ ) أصل الظهار مشتق من الظهر، وذلك أن الجاهلية كانوا إذا تظاهر أحد من امرأته قال لها:أنت عليَّ كَظَهْرِ أمي، ثم في الشرع كان الظهار في سائر الأعضاء قياسًا على الظهر، وكان الظهار عند الجاهلية طلاقًا، فأرخص الله لهذه الأمة وجعل فيه كفارة، ولم يجعله طلاقًا كما كانوا يعتمدونه في جاهليتهم. هكذا قال غير واحد من السلف.

قال ابن جرير:حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن أبي حمزة، عن عِكْرمة، عن ابن عباس قال:كان الرجل إذا قال لامرأته في الجاهلية:أنت عليَّ كظهر أمي، حُرِّمت عليه، فكان أول من ظاهر في الإسلام أوس، وكان تحته ابنة عم له يقال لها: « خويلة بنت ثعلبة . فظاهر منها، فأسقط في يديه، وقال:ما أراك إلا قد حَرُمت علي. وقالت له مثل ذلك، قال:فانطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتت رسول الله فوجدت عنده ماشطة تمشط رأسه، فقال: » يا خويلة، ما أمرنا في أمرك بشيء فأنـزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال: « يا خويلة، أبشري » قالت:خيرًا. قال فقرأ عليها: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إلى قوله: ( وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ) قالت:وأي رقبة لنا؟ والله ما يجد رقبة غيري. قال: ( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ) قالت:والله لولا أنه يشرب في اليوم ثلاث مرات لذهب بصره! قال: ( فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ) قالت:من أين؟ ما هي إلا أكلة إلي مثلها! قال:فدعا بشطر وَسْق- ثلاثين صاعا، والوسق:ستون صاعا- فقال: « ليطعم ستين مسكينا وليراجعك » وهذا إسناد جيد قوي، وسياق غريب، وقد روي عن أبي العالية نحو هذا، فقال ابن أبي حاتم:

حدثنا محمد بن عبد الرحمن الهروي، حدثنا علي بن عاصم، عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية قال:كانت خولة بنت دُلَيج تحت رجل من الأنصار، وكان ضرير البصر فقيرًا سيئ الخلق، وكان طلاق أهل الجاهلية إذا أراد الرجل أن يطلق امرأته، قال: « أنت عليَّ كظهر أمي » . وكان لها منه عيل أو عيلان، فنازعته يوما في شيء فقال: « أنت عليَّ كظهر أمي » . فاحتملت عليها ثيابها حتى دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم. وهو في بيت عائشة، وعائشة تغسل شق رأسه، فقدمت عليه ومعها عَيّلها، فقالت:يا رسول الله، إن زوجي ضرير البصر، فقير لا شيء له سيئ الخُلُق، وإني نازعته في شيء فغضب، فقال: « أنت عليَّ كظهر أمي » ، ولم يرد به الطلاق، ولي منه عيل أو عيلان، فقال: « ما أعلمك إلا قد حَرُمت عليه » فقالت:أشكو إلى الله ما نـزل بي وأبا صبييّ. قال:ودارت عائشة فغسلت شق رأسه الآخر، فدارت معها، فقالت:يا رسول الله، زوجي ضرير البصر، فقير سيئ الخلق، وإن لي منه عَيِّلا أو عيلين، وإني نازعته في شيء فغضب، وقال: « أنت عليَّ كظهر أمي » ، ولم يرد به الطلاق! قالت:فرفع إلي رأسه وقال: « ما أعلمك إلا قد حرمت عليه » . فقالت:أشكو إلى الله ما نـزل بي وأبا صبيي؟ قال:ورأت عائشة وجه النبي صلى الله عليه وسلم تَغَيَّر، فقالت لها: « وراءك وراءك؟ » فتنحت، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في غشيانه ذلك ما شاء الله، فلما انقطع الوحي قال: « يا عائشة، أين المرأة » فدعتها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اذهبي فأتني بزوجك » . فانطلقت تسعى فجاءت به. فإذا هو- [ كما قالت ] - ضرير البصر، فقير سيئ الخلق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « أستعيذ بالله السميع العليم، بسم الله الرحمن الرحيم قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [ وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ ] إلى قوله: ( وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا [ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ] ) قال النبي صلى الله عليه وسلم: » أتجد رقبة تعتقها من قبل أن تمسها؟ « . قال:لا. قال: » أتستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ « . قال:والذي بعثك بالحق، إني إذا لم آكل المرتين والثلاث يكاد أن يعشو بصري. قال: » أفتستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟ « . قال:لا إلا [ أن ] تعينني. قال:فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: » أطعم ستين مسكينا « . قال: وحَوّل الله الطلاق، فجعله ظهارًا.»

ورواه ابن جرير، عن ابن المثنى، عن عبد الأعلى، عن داود، سمعت أبا العالية، فذكر نحوه، بأخصر من هذا السياق

وقال سعيد بن جبير:كان الإيلاء والظهار من طلاق الجاهلية، فوقت الله الإيلاء أربعة أشهر، وجعل في الظهار الكفارة. رواه ابن أبي حاتم، بنحوه.

وقد استدل الإمام مالك على أن الكافر لا يدخل في هذه الآية بقوله: ( مِنْكُمْ ) فالخطاب للمؤمنين، وأجاب الجمهور بأن هذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، واستدل الجمهور عليه بقوله: ( مِنْ نِسَائِهِمْ ) على أن الأمة لا ظهار منها، ولا تدخل في هذا الخطاب.

وقوله: ( مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ ) أي:لا تصير المرأة بقول الرجل: « أنت عليَّ كأمي » أو « مثل أمي » أو « كظهر أمي » وما أشبه ذلك، لا تصير أمه بذلك، إنما أمه التي ولدته؛ ولهذا قال: ( وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا ) أي:كلامًا فاحشًا باطلا ( وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ) أي:عما كان منكم في حال الجاهلية. وهكذا أيضًا عما خرج من سبق اللسان، ولم يقصد إليه المتكلم، كما رواه أبو داود:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول لامرأته:يا أختي. فقال:أختك هي؟ « ، فهذا إنكار ولكن لم يحرمها عليه بمجرد ذلك؛ لأنه لم يقصده، ولو قصده لحرمت عليه؛ لأنه لا فرق على الصحيح بين الأم وبين غيرها من سائر المحارم من أخت وعمة وخالة وما أشبه ذلك.»

وقوله: ( وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا ) اختلف السلف والأئمة في المراد بقوله: ( ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا ) فقال بعض الناس:العود هو أن يعود إلى لفظ الظهار فيكرره، وهذا القول باطل، وهو اختيار ابن حزم وقول داود، وحكاه أبو عمر بن عبد البر عن بُكَيْر ابن الأشج والفراء، وفرقة من أهل الكلام.

وقال الشافعي:هو أن يمسكها بعد الظهار زمانًا يمكنه أن يطلق فيه فلا يطلق.

وقال أحمد بن حنبل:هو أن يعود إلى الجماع أو يعزم عليه فلا تحل له حتى يكفر بهذه الكفارة. وقد حكي عن مالك:أنه العزم على الجماع أو الإمساك وعنه أنه الجماع.

وقال أبو حنيفة:هو أن يعود إلى الظهار بعد تحريمه، ورفع ما كان عليه أمر الجاهلية، فمتى تظاهر الرجل من امرأته فقد حرمها تحريمًا لا يرفعه إلا الكفارة. وإليه ذهب أصحابه، والليث بن سعد.

وقال ابن لَهِيعة:حدثني عطاء، عن سعيد بن جبير: ( ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا ) يعني:يريدون أن يعودوا في الجماع الذي حرموه على أنفسهم.

وقال الحسن البصري:يعني الغشيان في الفرج. وكان لا يرى بأسا أن يغشى فيما دون الفرج قبل أن يكفر.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ) والمس:النكاح. وكذا قال عطاء، والزهري، وقتادة، ومقاتل بن حيان.

وقال الزهري:ليس له أن يقبلها ولا يمسها حتى يكفر.

وقد روي أهل السنن من حديث عكرمة، عن ابن عباس أن رجلا قال:يا رسول الله، إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر. فقال: « ما حملك على ذلك يرحمك الله؟ » . قال:رأيت خلخالها في ضوء القمر. قال: « فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله، عز وجل »

وقال الترمذي:حسن غريب صحيح ورواه أبو داود والنسائي من حديث عكرمة مرسلا. قال النسائي:وهو أولى بالصواب

وقوله: ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) أي:فإعتاق رقبة كاملة من قبل أن يتماسا، فها هنا الرقبة مطلقة غير مقيدة بالإيمان، وفي كفارة القتل مقيدة بالإيمان، فحمل الشافعي، رحمه الله، ما أطلق ها هنا على ما قيد هناك لاتحاد الموجب، وهو عتق الرقبة، واعتضد في ذلك بما رواه عن مالك بسنده، عن معاوية بن الحكم السلمي، في قصة الجارية السوداء، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أعتقها فإنها مؤمنة » . وقد رواه أحمد في مسنده، ومسلم في صحيحه

وقال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا عبد الله بن نمير، عن إسماعيل بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس قال:أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال:إني تظاهرت من امرأتي ثم وقعت عليها قبل أن أكفر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ألم يقل الله ( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ) قال:أعجبتني؟ قال: » أمسك حتى تكفر « »

ثم قال البزار:لا يروي عن ابن عباس بأحسن من هذا، وإسماعيل بن مسلم تكلم فيه، وروي عنه جماعة كثيرة من أهل العلم، وفيه من الفقه أنه لم يأمره إلا بكفارة واحدة.

وقوله: ( ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ ) أي:تزجرون به ( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) أي:خبير بما يصلحكم، عليم بأحوالكم.

وقوله: ( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ) وقد تقدمت الأحاديث الواردة بهذا على الترتيب، كما ثبت في الصحيحين في قصة الذي جامع امرأته في رمضان.

( ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ) أي:شرعنا هذا لهذا.

وقوله: ( وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ) أي:محارمه فلا تنتهكوها.

وقوله: ( وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) أي:الذين لم يؤمنوا ولا التزموا بأحكام هذه الشريعة، لا تعتقدوا أنهم ناجون من البلاء، كلا ليس الأمر كما زعموا، بل لهم عذاب أليم، أي:في الدنيا والآخرة.

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ( 5 ) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( 6 )

يخبر تعالى عمن شاقوا الله ورسوله وعاندوا شرعه ( كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) أي:أهينوا ولعنوا وأخزوا، كما فعل بمن أشبههم ممن قبلهم ( وَقَدْ أَنـزلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) أي:واضحات لا يخالفها ولا يعاندها إلا كافر فاجر مكابر، ( وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ) أي:في مقابلة ما استكبروا عن اتباع شرع الله، والانقياد له، والخضوع لديه.

ثم قال: ( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا ) وذلك يوم القيامة، يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، ( فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا ) أي:يخبرهم بالذي صنعوا من خير وشر ( أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ ) أي:ضبطه الله وحفظه عليهم، وهم قد نسوا ما كانوا عليه، ( وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) أي:لا يغيب عنه شيء، ولا يخفى ولا ينسى شيئًا.

 

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 7 )

ثم قال تعالى مخبرًا عن إحاطة علمه بخلقه واطلاعه عليهم، وسماعه كلامهم، ورؤيته مكانهم حيث كانوا وأين كانوا، فقال: ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ ) أي:من سر ثلاثة ( إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ) أي:يطلع عليهم يسمع كلامهم وسرهم ونجواهم، ورسله أيضًا مع ذلك تكتب ما يتناجون به، مع علم الله وسمعه لهم، كما قال: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلامُ الْغُيُوبِ [ التوبة:78 ] وقال أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [ الزخرف:80 ] ؛ ولهذا حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه الآية معية علم الله تعالى ولا شك في إرادة ذلك ولكن سمعه أيضا مع علمه محيط بهم، وبصره نافذ فيهم، فهو، سبحانه، مطلع على خلقه، لا يغيب عنه من أمورهم شيء.

ثم قال: ( ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) قال الإمام أحمد:افتتح الآية بالعلم، واختتمها بالعلم.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( 8 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( 9 ) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ( 10 )

قال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد [ في قوله ] ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ) قال:اليهود وكذا قال مقاتل بن حيان، وزاد:كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود موادعة، وكانوا إذا مر بهم رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جلسوا يتناجون بينهم، حتى يظن المؤمن أنهم يتناجون بقتله- أو:بما يكره المؤمن- فإذا رأى المؤمن ذلك خَشيهم، فترك طريقه عليهم. فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن النجوى، فلم ينتهوا وعادوا إلى النجوى، فأنـزل الله: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ ) .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، حدثني سفيان بن حمزة، عن كثير عن زيد، عن رُبَيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، عن جده قال:كنا نتناوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، نبيت عنده؛ يطرُقه من الليل أمر وتبدو له حاجة. فلما كانت ذات ليلة كَثُر أهل النّوب والمحتسبون حتى كنا أندية نتحدث، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « ما هذا النجوى؟ ألم تُنْهَوا عن النجوى؟ » . قلنا:تبنا إلى الله يا رسول الله، إنا كنا في ذكر المسيح، فَرقا منه. فقال: « ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي منه؟ » . قلنا:بلى يا رسول الله. قال: « الشرك الخفي، أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل » . هذا إسناد غريب، وفيه بعض الضعفاء

وقوله: ( وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ ) أي:يتحدثون فيما بينهم بالإثم، وهو ما يختص بهم، والعدوان، وهو ما يتعلق بغيرهم، ومنه معصية الرسول ومخالفته، يُصِرون عليها ويتواصون بها.

وقوله: ( وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ ) قال ابن أبي حاتم:

حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا ابن نمير، عن الأعمش، [ عن مسلم ] عن مسروق، عن عائشة قالت:دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود فقالوا:السام عليك يا أبا القاسم. فقالت عائشة:وعليكم السام و [ اللعنة ] قالت:فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا عائشة، إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش » . قلت:ألا تسمعهم يقولون:السام عليك؟ فقال رسول الله: « أو ما سمعت أقول وعليكم؟ » . فأنـزل الله: ( وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ )

وفي رواية في الصحيح أنها قالت لهم:عليكم السام والذام واللعنة. وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إنه يستجاب لنا فيهم، ولا يستجاب لهم فينا »

وقال ابن جرير:حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس مع أصحابه، إذ أتى عليهم يهودي فسلَّم عليهم، فردوا عليه، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: « هل تدرون ما قال؟ » . قالوا:سلم يا رسول الله. قال: « بل قال:سام عليكم، أي:تسامون دينكم » . قال رسول الله: « ردوه » . فردوه عليه. فقال نبي الله: « أقلت:سام عليكم؟ » . قال:نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا:عليك » أي:عليك ما قلت

وأصل حديث أنس مخرج في الصحيح، وهذا الحديث في الصحيح عن عائشة، بنحوه

وقوله: ( وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ ) أي:يفعلون هذا، ويقولون ما يحرفون من الكلام وإيهام السلام، وإنما هو شتم في الباطن، ومع هذا يقولون في أنفسهم:لو كان هذا نبيًا لعذبنا الله بما نقول له في الباطن؛ لأن الله يعلم ما نسره، فلو كان هذا نبيًا حقًّا لأوشك أن يعاجلنا الله بالعقوبة في الدنيا، فقال الله تعالى: ( حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ ) أي:جهنم كفايتهم في الدار الآخرة ( يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ )

وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الصمد، حدثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو؛ أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم:سام عليك، ثم يقولون في أنفسهم: ( لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ ) ؟، فنـزلت هذه الآية: ( وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) إسناد حسن ولم يخرجوه

وقال العوفي، عن ابن عباس: ( وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ ) قال:كان المنافقون يقولون لرسول الله إذا حيوه: « سام عليك » ، قال الله: ( حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) .

ثم قال الله مُؤدّبًا عباده المؤمنين ألا يكونوا مثل الكفرة والمنافقين: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ ) أي:كما يتناجى به الجهلة من كفرة أهل الكتاب ومن مَالأهم على ضلالهم من المنافقين، ( وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) أي:فيخبركم بجميع أعمالكم وأقوالكم التي أحصاها عليكم، وسيجزيكم بها.

قال الإمام أحمد:حدثنا بَهْزُ وعفان قالا أخبرنا همام، حدثنا قتادة، عن صفوان بن مُحْرِز قال:كنت آخذًا بيد ابن عمر، إذ عرض له رجل فقال:كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة؟ قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كَنَفه ويستره من الناس، ويقرره بذنوبه، ويقول له:أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قَرّره بذنوبه ورأى في نفسه أن قد هلك، قال:فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم. ثم يُعْطَى كتابَ حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد:هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين » .

أخرجاه في الصحيحين، من حديث قتادة

ثم قال تعالى: ( إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) أي:إنما النجوى- وهي المُسَارّة- حيث يتوهم مؤمن بها سوءًا ( مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ) يعني:إنما يصدر هذا من المتناجين عن تسويل الشيطان وتزيينه، ( لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ) أي:ليسوءهم، وليس ذلك بضارهم شيئًا إلا بإذن الله، ومن أحس من ذلك شيئًا فليستعذ بالله وليتوكل على الله، فإنه لا يضره شيء بإذن الله.

وقد وردت السنة بالنهي عن التناجي حيث يكون في ذلك تأذٍ على مؤمن، كما قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع وأبو معاوية قالا حدثنا الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجَينَّ اثنان دون صاحبهما، فإن ذلك يحزنه » . وأخرجاه من حديث الأعمش

وقال عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه؛ فإن ذلك يحزنه » . انفرد بإخراجه مسلم عن أبي الربيع وأبي كامل، كلاهما عن حماد بن زيد، عن أيوب، به

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 11 )

يقول تعالى مؤدبًا عباده المؤمنين، وآمرًا لهم أن يحسن بعضهم إلى بعض في المجالس: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ ) وقرئ ( في المجلس ) ( فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ) وذلك أن الجزاء من جنس العمل، كما جاء في الحديث الصحيح: « من بَنَى لله مسجدًا بنى الله له بيتًا في الجنة » وفي الحديث الآخر: « ومن يَسَّر على مُعْسِر يَسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، [ ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة ] والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه » ولهذا أشباه كثيرة؛ ولهذا قال: ( فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ) .

قال قتادة:نـزلت هذه الآية في مجالس الذكر، وذلك أنهم كانوا إذا رأوا أحدهم مقبلا ضَنّوا بمجالسهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض.

وقال مقاتل بن حيان:أنـزلت هذه الآية يوم جُمُعة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ في الصفة، وفي المكان ضيق، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجالس، فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا:السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. فرد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سلموا على القوم بعد ذلك، فردوا عليهم، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام، فلم يُفْسَح لهم، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار، من غير أهل بدر: « قم يا فلان، وأنت يا فلان » . فلم يزل يقيمهم بعدة النفر الذين هم قيام بين يديه من المهاجرين والأنصار من أهل بدر، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهة في وجوههم، فقال المنافقون:ألستم تزعمون أن صاحبكم هذا يعدل بين الناس؟ والله ما رأيناه قبلُ عدل على هؤلاء، إن قوما أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب لنبيهم، فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه. فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « رحم الله رجلا فَسَح لأخيه » . فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعًا، فَتَفَسَّحَ القومُ لإخوانهم، ونـزلت هذه الآية يوم الجمعة. رواه بن أبي حاتم.

وقد قال الإمام أحمد، والشافعي:حدثنا سفيان، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا يقيم الرَّجُلُ الرَّجُلَ من مجلسه فيجلس فيه، ولكن تَفَسَّحُوا وتَوسَّعوا » .

وأخرجاه في الصحيحين من حديث نافع، به

وقال الشافعي:أخبرنا عبد المجيد، عن ابن جريج قال:قال سليمان بن موسى، عن جابر بن عبد الله. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا يقيمن أحدُكم أخاه يوم الجمعة، ولكن ليقل:افسحوا » . على شرط السنن ولم يخرجوه

وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الملك بن عمرو، حدثنا فُلَيْح، عن أيوب عن عبد الرحمن بن [ أبي ] صَعْصَعة، عن يعقوب بن أبي يعقوب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا يقم الرجلُ الرجلَ من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن افسحوا يفسح الله لكم »

ورواه أيضًا عن سُرَيج بن يونس، ويونس بن محمد المؤدب، عن فُلَيْح، به. ولفظه: « لا يقوم الرجلُ للرجل من مجلسه، ولكن افسحوا يفسح الله لكم » تفرد به أحمد

وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال:فمنهم من رخص في ذلك محتجًّا بحديث: « قوموا إلى سيدكم » ومنهم من منع من ذلك محتجًّا بحديث: « من أحَبَّ أن يَتَمثَّلَ له الرجال قيامًا فَلْيَتبوَّأ مَقْعَدَه من النار » ومنهم من فصل فقال:يجوز عند القدوم من سفر، وللحاكم في محل ولايته، كما دل عليه قصة سعد بن معاذ، فإنه لما استقدمه النبي صلى الله عليه وسلم حاكمًا في بني قريظه فرآه مقبلا قال للمسلمين: « قوموا إلى سيدكم » . وما ذاك إلا ليكون أنفذ لحكمه، والله أعلم. فأما اتخاذه ديدنًا فإنه من شعار العجم. وقد جاء في السنن أنه لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا جاء لا يقومون له، لما يعلمون من كراهته لذلك

وفي الحديث المروي في السنن:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجلس حيث انتهى به المجلس، ولكن حيث يجلس يكون صدر ذلك المجلس، وكان الصحابة، رضي الله عنهم، يجلسون منه على مراتبهم، فالصديق يجلسه عن يمينه، وعمر عن يساره، وبين يديه غالبًا عثمان وعلي؛ لأنهما كانا ممن يكتب الوحي، وكان يأمرهما بذلك، كما رواه مسلم من حديث الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن أبي مَعْمَر، عن أبي مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: « لِيَليني منكم أولو الأحلام والنُّهَى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم » وما ذاك إلا ليعقلوا عنه ما يقوله، صلوات الله وسلامه عليه؛ ولهذا أمر أولئك النفر بالقيام ليجلس الذين وردوا من أهل بدر، إما لتقصير أولئك في حق البدريين، أو ليأخذ البدريون من العلم بنصيبهم، كما أخذ أولئك قبلهم، أو تعليما بتقديم الأفاضل إلى الأمام.

وقال الإمام أحمد:حدثنا وَكِيع، عن الأعمش، عن عُمَارة بن عمير التيمي عن أبي معمر، عن أبي مسعود قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: « استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليليني منكم أولو الأحلام والنُّهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم » . قال أبو مسعود فأنتم اليوم أشد اختلافًا.

وكذا رواه مسلم وأهل السنن، إلا الترمذي، من طرق عن الأعمش، به

وإذا كان هذا أمره لهم في الصلاة أن يليه العقلاء ثم العلماء، فبطريق الأولى أن يكون ذلك في غير الصلاة.

وروى أبو داود من حديث معاوية بن صالح، عن أبي الزاهرية، عن كثير بن مرة، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أقيموا الصفوف، وحَاذُوا بين المناكب، وسُدّوا الخلل، ولِينُوا بأيدي إخوانكم، ولا تَذَروا فرجات للشيطان، ومن وَصَل صفًّا وصله الله، ومن قطع صفّا قطعه الله »

ولهذا كان أبي بن كعب - سيد القراء- إذا انتهى إلى الصف الأول انتزع منه رجلا يكون من أفناء الناس، ويدخل هو في الصف المقدم، ويحتج بهذا الحديث: « ليلينى منكم أولو الأحلام والنهى » . وأما عبد الله بن عمر فكان لا يجلس في المكان الذي يقوم له صاحبه عنه، عملا بمقتضى ما تقدم من روايته الحديث الذي أوردناه. ولنقتصر على هذا المقدار من الأنموذج المتعلق بهذه الآية، وإلا فبسطه يحتاج إلى غير هذا الموضع، وفي الحديث الصحيح:بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، إذ أقبل ثلاثة نفر، فأما أحدهم فوجد فرجة في الحلقة فدخل فيها، وأما الآخر فجلس وراء الناس، وأدبر الثالث ذاهبًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ألا أنبئكم بخبر الثلاثة، أما الأول فآوى إلى الله فآواه الله، وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه »

وقال الإمام أحمد:حدثنا عَتَّاب بن زياد، أخبرنا عبد الله، أخبرنا أسامة بن زيد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما » .

ورواه أبو داود والترمذي، من حديث أسامة بن زيد الليثي، به وحسنه الترمذي.

وقد رُوي عن ابن عباس، والحسن البصري وغيرهما أنهم قالوا في قوله تعالى: ( إذا قيل لكم تفسحوا في المجلس فافسحوا ) يعني:في مجالس الحرب، قالوا:ومعنى قوله: ( وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا ) أي:انهضوا للقتال.

وقال قتادة: ( وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا ) أي:إذا دعيتم إلى خير فأجيبوا.

وقال مقاتل [ بن حيان ] إذا دعيتم إلى الصلاة فارتفعوا إليها.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:كانوا إذا كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم في بيته فأرادوا الانصراف أحب كل منهم أن يكون هو آخرهم خروجا من عنده، فربما يشق ذلك عليه- عليه السلام- وقد تكون له الحاجة، فأمروا أنهم إذا أمروا بالانصراف أن ينصرفوا، كقوله: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا [ النور:28 ]

وقوله: ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) أي:لا تعتقدوا أنه إذا فَسَح أحد منكم لأخيه إذا أقبل، أو إذا أمر بالخروج فخرج، أن يكون ذلك نقصا في حقه، بل هو رفعة ومزية عند الله، والله تعالى لا يضيع ذلك له، بل يجزيه بها في الدنيا والآخرة، فإن من تواضع لأمر الله رَفَع الله قدره، ونَشَر ذكره؛ ولهذا قال: ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) أي:خبير بمن يستحق ذلك وبمن لا يستحقه.

قال الإمام أحمد:حدثنا أبو كامل، حدثنا إبراهيم، حدثنا ابن شهاب، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بن الخطاب بعسفان، وكان عمر استعمله على مكة، فقال له عمر:من استخلفت على أهل الوادي؟ قال:استخلفت عليهم ابن أبزى. قال:وما ابن أبزى؟ فقال:رجل من موالينا. فقال عمر [ بن الخطاب ] استخلفت عليهم مولى؟. فقال:يا أمير المؤمنين، إنه قارئ لكتاب الله، عالم بالفرائض، قاض. فقال عمر، رضي الله عنه:أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: « إن الله يرفع بهذا الكتاب قومًا ويضع به آخرين »

وهكذا رواه مسلم من غير وجه، عن الزهري، به وقد ذكرت فضل العلم وأهله وما ورد في ذلك من الأحاديث مستقصاة في شرح « كتاب العلم » من صحيح البخاري، ولله الحمد والمنة.

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 12 ) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( 13 )

يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين إذا أراد أحدهم أن يناجي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي:يساره فيما بينه وبينه، أن يقدم بين يدي ذلك صدقة تطهره وتزكيه وتؤهله لأن يصلح لهذا المقام؛ ولهذا قال: ( ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ )

ثم قال: ( فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا ) أي:إلا من عجز عن ذلك لفقده ( فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) فما أمر بها إلا من قدر عليها.

ثم قال: ( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ ) أي:أخفتم من استمرار هذا الحكم عليكم من وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول، ( فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) فنسخ وجوب ذلك عنهم.

وقد قيل:إنه لم يعمل بهذه الآية قبل نسخها سوى علي بن أبي طالب، رضي الله عنه.

قال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد قال:نهوا عن مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتصدقوا، فلم يناجه إلا علي بن أبي طالب، قدم دينارا صدقة تصدق به، ثم ناجى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن عشر خصال، ثم أنـزلت الرخصة.

وقال ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، قال علي، رضي الله عنه:آية في كتاب الله، عز وجل لم يعمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي، كان عندي دينار فصرفته بعشرة دراهم، فكنت إذا ناجيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدقت بدرهم، فنسخت ولم يعمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي، ثم تلا هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ) الآية.

وقال ابن جرير:حدثنا ابن حميد، حدثنا مهران، عن سفيان، عن عثمان بن المغيرة، عن سالم بن أبي الجعد، عن علي بن علقمة الأنماري، عن علي [ بن أبي طالب ] - رضي الله عنه- قال:قال النبي صلى الله عليه وسلم: « ما ترى، دينار؟ » . قال:لا يطيقون. قال: « نصف دينار؟ » . قال:لا يطيقون. قال: « ما ترى؟ » قال:شَعِيرة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: « إنك زهيد » قال:قال علي:فبى خَفَّف الله عن هذه الأمة، وقوله: ( [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ) فنـزلت: ( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ )

ورواه الترمذي عن سفيان بن وَكِيع، عن يحيى بن آدم، عن عبيد الله الأشجعي، عن سفيان الثوري، عن عثمان بن المغيرة الثقفي، عن سالم بن أبي الجعد، عن علي بن علقمة الأنماري، عن علي بن أبي طالب قال:لما نـزلت: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ) [ إلى آخرها ] قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: « ما ترى، دينار؟ » قلت لا يطيقونه. وذكره بتمامه، مثله، ثم قال: « هذا حديث حسن غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه » . ثم قال:ومعنى قوله: « شعيرة » :يعني وزن شعيرة من ذهب

ورواه أبو يعلى، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يحيى بن آدم، به

وقال العوفي، عن ابن عباس في قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ) إلى ( فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) كان المسلمون يقدمون بين يدي النجوى صدقة، فلما نـزلت الزكاة نسخ هذا.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: ( فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ) وذلك أن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه، فأراد الله أن يخفف عن نبيه، عليه السلام. فلما قال ذلك صبر كثير من الناس وكفوا عن المسألة، فأنـزل الله بعد هذا: ( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ) فوسع الله عليهم ولم يضيق.

وقال عكرمة والحسن البصري في قوله: ( فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ) نسختها الآية التي بعدها ( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ ) إلى آخرها.

وقال سعيد [ بن أبي عروبة ] عن قتاده ومقاتل ابن حيان:سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أحفوه بالمسألة، فقطعهم الله بهذه الآية، فكان الرجل منهم إذا كانت له الحاجة إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فلا يستطيع أن يقضيها حتى يقدم بين يديه صدقة، فاشتد ذلك عليهم، فأنـزل الله الرخصة بعد ذلك: ( فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )

وقال مَعْمَر، عن قتادة: ( إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ) إنها منسوخة:ما كانت إلا ساعة من نهار. وهكذا روى عبد الرزاق:أخبرنا معمر، عن أيوب، عن مجاهد قال علي:ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت وأحسبه قال:وما كانت إلا ساعة.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( 14 ) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 15 ) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ( 16 ) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 17 ) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ( 18 ) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( 19 )

يقول تعالى منكرا على المنافقين في موالاتهم الكفار في الباطن، وهم في نفس الأمر لا معهم ولا مع المؤمنين، كما قال تعالى: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا [ النساء:143 ] وقال ها هنا: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ) يعني: اليهود، الذين كان المنافقون يمالئونهم ويوالونهم في الباطن. ثم قال: ( مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ ) أي:هؤلاء المنافقون، ليسوا في الحقيقة لا منكم أيها المؤمنون، ولا من الذين تولوهم وهم اليهود.

ثم قال: ( وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) يعني:المنافقين يحلفون على الكذب وهم عالمون بأنهم كاذبون فيما حلفوا، وهي اليمين الغموس، ولا سيما في مثل حالهم اللعين، عياذًا بالله منه فإنهم كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا:آمنا، وإذا جاءوا الرسول حلفوا بالله [ له ] أنهم مؤمنون، وهم في ذلك يعلمون أنهم يكذبون فيما حلفوا به؛ لأنهم لا يعتقدون صدق ما قالوه، وإن كان في نفس الأمر مطابقًا؛ ولهذا شهد الله بكذبهم في أيمانهم وشهادتهم لذلك.

ثم قال: ( أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) أي:أرصد الله لهم على هذا الصنيع العذاب الأليم على أعمالهم السيئة، وهي موالاة الكافرين ونصحهم، ومعاداة المؤمنين وغشهم؛ ولهذا قال تعالى ( اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) أي:أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، واتقوا بالأيمان الكاذبة، فظن كثير ممن لا يعرف حقيقة أمرهم صدقهم فاغتر بهم، فحصل بهذا صد عن سبيل الله لبعض الناس ( فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) أي:في مقابلة ما امتهنوا من الحلف باسم الله العظيم في الأيمان الكاذبة الحانثة.

ثم قال: ( لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ) أي:لن يدفع ذلك عنهم بأسا إذا جاءهم، ( أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )

ثم قال: ( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا ) أي:يحشرهم يوم القيامة عن آخرهم فلا يغادر منهم أحدًا، ( فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ ) أي:يحلفون بالله عز وجل، أنهم كانوا على الهدى والاستقامة، كما كانوا يحلفون للناس في الدنيا؛ لأن من عاش على شيء مات عليه وبعث عليه، ويعتقدون أن ذلك ينفعهم عند الله كما كان ينفعهم عند الناس، فيجرون عليهم الأحكام الظاهرة؛ ولهذا قال: ( وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ ) أي:حلفهم ذلك لربهم، عز وجل.

ثم قال منكرًا عليهم حسبانهم ( أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ) فأكد الخبر عنهم بالكذب.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا ابن نفيل، حدثنا زهير، عن سمَاك بن حرب، حدثني سعيد بن جُبَير؛ أن ابن عباس حدثه:أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في ظل حجرة من حُجَره، وعنده نفر من المسلمين قد كان يَقلصُ عنهم الظل، قال: « إنه سيأتيكم إنسان ينظر بعيني شيطان، فإذا أتاكم فلا تكلموه » . فجاء رجل أزرق، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه، فقال؛ « علام تشتمني أنت وفلان وفلان؟ » - نفر دعاهم بأسمائهم- قال:فانطلق الرجل فدعاهم، فحلفوا له واعتذروا إليه، قال فأنـزل الله، عز وجل: ( فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ )

وهكذا رواه الإمام أحمد من طريقين، عن سماك، به ورواه ابن جرير، عن محمد بن المثني، عن غُنْدَر، عن شعبة، عن سماك، به نحوه وأخرجه أيضًا من حديث سفيان الثوري، عن سماك، بنحوه. إسناد جيد ولم يخرجوه.

وحال هؤلاء كما أخبر الله تعالى عن المشركين حيث يقول: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [ الأنعام:23 ، 24 ]

ثم قال: ( اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ ) أي:استحوذ على قلوبهم الشيطان حتى أنساهم أن يذكروا الله، عز وجل، وكذلك يصنع بمن استحوذ عليه؛ ولهذا قال أبو داود:

حدثنا أحمد ابن يونس، حدثنا زائدة، حدثنا السائب بن حُبَيش، عن مَعْدان بن أبي طلحة اليَعْمُري، عن أبي الدرداء:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ما من ثلاثة في قرية ولا بَدْو، لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة، فإنما يأكل الذئب القاصية » . قال زائدة:قال السائب:يعني الصلاة في الجماعة .

ثم قال تعالى: ( أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ ) يعني:الذين استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله. ثم قال تعالى: ( أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ )

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ ( 20 ) كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ( 21 )

يقول تعالى مخبرًا عن الكفار المعاندين المحادين لله ورسوله، يعني:الذين هم في حَدٍّ والشرع في حَدٍّ، أي:مجانبون للحق مشاقون له، هم في ناحية والهدى في ناحية، ( أُولَئِكَ فِي الأذَلِّينَ ) أي:في الأشقياء المبعدين المطرودين عن الصواب، الأذلين في الدنيا والآخرة.

( كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ) أي:قد حكم وكتب في كتابه الأول وقَدَره الذي لا يُخالَف ولا يُمانع، ولا يبدل، بأن النصرة له ولكتابه ورسله وعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة، وأن العاقبة للمتقين، كما قال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [ غافر:51 ، 52 ] وقال ها هنا ( كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) أي:كتب القوي العزيز أنه الغالب لأعدائه. وهذا قدر محكم وأمر مبرم، أن العاقبة والنصرة للمؤمنين في الدنيا والآخرة.

 

لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 22 )

ثم قال تعالى: ( لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ) أي:لا يوادون المحادين ولو كانوا من الأقربين، كما قال تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [ آل عمران:28 ] الآية، وقال تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [ التوبة:24 ]

وقد قال سعيد بن عبد العزيز وغيره:أنـزلت هذه الآية ( لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) إلى آخرها في أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح، حين قتل أباه يوم بدر؛ ولهذا قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، حين جعل الأمر شورى بعده في أولئك الستة، رضي الله عنهم: « ولو كان أبو عبيدة حيًّا لاستخلفته » .

وقيل في قوله: ( وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ ) نـزلت في أبي عبيده قتل أباه يوم بدر ( أَوْ أَبْنَاءَهُمْ ) في الصديق، هَمَّ يومئذ بقتل ابنه عبد الرحمن، ( أَوْ إِخْوَانَهُمْ ) في مصعب بن عمير، قتل أخاه عبيد بن عمير يومئذ ( أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ) في عمر، قتل قريبا له يومئذ أيضًا، وفي حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث، قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة يومئذ، والله أعلم.

قلت:ومن هذا القبيل حين استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين في أسارى بدر، فأشار الصديق بأن يفادوا، فيكون ما يؤخذ منهم قوة للمسلمين، وهم بنو العم والعشيرة، ولعل الله أن يهديهم. وقال عمر:لا أرى ما رأى يا رسول الله، هل تمكني من فلان- قريب لعمر- فأقتله، وتمكن عليًا من عقيل، وتمكن فلانًا من فلان، ليعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين... القصة بكاملها.

وقوله: ( أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) أي:من اتصف بأنه لا يواد من حاد الله ورسوله ولو كان أباه أو أخاه، فهذا ممن كتب الله في قلبه الإيمان، أي:كتب له السعادة وقررها في قلبه وزين الإيمان في بصيرته.

وقال السدي: ( كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ ) جعل في قلوبهم الإيمان.

وقال ابن عباس: ( وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) أي:قواهم.

وقوله: ( وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ) كل هذا تقدم تفسيره غير مرة.

وفي قوله: ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ) سر بديع، وهو أنه لما سخطوا على القرائب والعشائر في الله عوضهم الله بالرضا عنهم، وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم، والفوز العظيم، والفضل العميم.

وقوله: ( أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) أي:هؤلاء حزبُ الله، أي:عباد الله وأهل كرامته.

وقوله: ( أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) تنويه بفلاحهم وسعادتهم ونصرهم في الدنيا والآخرة، في مقابلة ما أخبر عن أولئك بأنهم حزب الشيطان. ثم قال: أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ

وقد قال بن أبي حاتم:حدثنا هارون بن حميد الواسطي، حدثنا الفضل بن عَنْبَسة، عن رجل قد سماه- يقال هو عبد الحميد بن سليمان، انقطع من كتابي- عن الذَيَّال بن عباد قال:كتب أبو حازم الأعرج إلى الزهري:اعلم أن الجاه جاهان، جاه يجريه الله على أيدي أوليائه لأوليائه، وأنهم الخامل ذكرهم، الخفية شخوصهم، ولقد جاءت صفتهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. « إن الله يحب الأخفياء الأتقياء الأبرياء، الذين إذا غابوا لم يُفتَقَدوا، وإذا حضروا لم يُدْعَوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل فتنة سوداء مظلمة » فهؤلاء أولياء الله تعالى الذين قال الله: ( أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )

وقال نُعَيم بن حَمّاد:حدثنا محمد بن ثور، عن يونس، عن الحسن قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اللهم، لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي يدًا ولا نعمة، فإني وجدت فيما أوحيته إلي: ( لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) قال سفيان:يرون أنها نـزلت فيمن يخالط السلطان. ورواه أبو أحمد العسكري.»

 

تفسير سورة الحشر

 

[ وكان ابن عباس يقول:سورة بني النضير ] .وهي مدنية.

قال سعيد بن منصور:حدثنا هُشَيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير قال:قلت لابن عباس:سورة الحشر؟ قال:أنـزلت في بني النضير. ورواه البخاري ومسلم من وجه آخر، عن هُشَيْم، به .ورواه البخاري من حديث أبي عَوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير قال:قلت لابن عباس:سورة الحشر؟ قال:قُل:سورة النَّضير

بسم الله الرحمن الرحيم

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 1 ) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ ( 2 ) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ( 3 )

يخبر تعالى أن جميع ما في السموات وما في الأرض من شيء يسبح له ويمجده ويقدسه، ويصلي له ويوحده كقوله: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ] [ الإسراء:44 ] . وقوله: ( وَهُوَ الْعَزِيزُ ) أي:منيع الجناب ( الْحَكِيمُ ) في قدره وشرعه.

وقوله: ( هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ) يعني:يهود بني النضير. قاله ابن عباس، ومجاهد، والزهري، وغير واحد:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة هادنهم وأعطاهم عهدًا وذمة، على ألا يقاتلهم ولا يقاتلوه، فنقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه، فأحل الله بهم بأسه الذي لا مَرَدَّ له، وأنـزل عليهم قضاءه الذي لا يُصَدّ، فأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجهم من حصونهم الحصينة التي ما طمع فيها المسلمون، وظنوا هم أنها مانعتهم من بأس الله، فما أغنى عنهم من الله شيئًا، وجاءهم ما لم يكن ببالهم، وسيّرهم رسول الله وأجلاهم من المدينة، فكان منهم طائفة ذهبوا إلى أذرعات من أعالي الشام، وهي أرض المحشر والمنشر، ومنهم طائفة ذهبوا إلى خيبر. وكان قد أنـزلهم منها على أن لهم ما حملت إبلهم، فكانوا يخربون ما في بيوتهم من المنقولات التي يمكن أن تحمل معهم؛ ولهذا قال: ( يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ ) أي:تفكروا في عاقبة من خالف أمر الله وخالف رسوله، وكذب كتابه، كيف يحل به من بأسه المخزي له في الدنيا، مع ما يدخره له في الآخرة من العذاب الأليم.

قال أبو داود:حدثنا محمد بن داود وسفيان، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أن كفار قريش كتبوا إلى ابن أبي، ومن كان معه يعبد [ معه ] الأوثان من الأوس والخزرج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بالمدينة قبل وقعة بدر:إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لنقاتلنه، أو لتخرجنه، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا، حتى نقتل مُقَاتلتكم ونستبيح نساءكم، فلما بلغ ذلك عبد الله بن أبي ومن كان معه من عبدة الأوثان، اجتمعوا لقتال النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لقيهم، فقال: « لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريد أن تكيدوا به أنفسكم، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم؟ » ، فلما سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم تفرقوا، فبلغ ذلك كفار قريش، فكتبت كفار قريش بعد وقعة بدر إلى اليهود:إنكم أهل الحلقة والحصون، وإنكم لتقاتلن مع صاحبنا أو لنفعلن كذا وكذا، ولا يحول بيننا وبين خدم نسائكم شيء - وهي الخلاخيل - فلما بلغ كتابهم النبي صلى الله عليه وسلم اجتمعت بنو النضير بالغدر، فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم:اخرج إلينا في ثلاثين رجلا من أصحابك ليخرج منا ثلاثون حبرًا، حتى نلتقي بمكان المنصف فيسمعوا منك، فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا بك، فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم [ بالكتائب ] فحصرهم، قال لهم: « إنكم والله لا تأمنوا عندي إلا بعهد تعاهدوني عليه » . فأبوا أن يعطوه عهدًا، فقاتلهم يومهم ذلك، ثم غدا الغَد على بني قريظة بالكتائب، وترك بني النضير، ودعاهم إلى أن يعاهدوه، فعاهدوه، فانصرف عنهم. وغدا إلى بني النضير بالكتائب فقاتلهم، حتى نـزلوا على الجلاء. فجلت بنو النضير، واحتملوا ما أقلت الإبل من أمتعتهم وأبواب بيوتهم وخشبها، وكان نخل بني النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، أعطاه الله أياها وخصه بها، فقال: وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ يقول:بغير قتال، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم أكثرها للمهاجرين، قسمها بينهم، وقسم منها لرجلين من الأنصار وكانا ذوي حاجة، ولم يقسم من الأنصار غيرهما، وبقي منها صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي في أيدي بني فاطمة .

ولنذكر ملخص غزوة بني النضير على وجه الاختصار، وبالله المستعان.

وكان سبب ذلك فيما ذكره أصحاب المغازي والسير:أنه لما قُتِل أصحابُ بئر معونة، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا سبعين، وأفلت منهم عمرو بن أمية الضمري، فلما كان في أثناء الطريق راجعًا إلى المدينة قتل رجلين من بني عامر، وكان معهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمان لم يعلم به عمرو، فلما رجع أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لقد قتلت رجلين، لأدينَّهما » وكان بين بني النضير وبني عامر حلف وعهد، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعينهم في دية ذينك الرجلين، وكان منازل بني النضير ظاهر المدينة على أميال منها شرقيها.

قال محمد بن إسحاق بن يسار في كتابه السيرة:ثم خرج رسول الله إلى بني النضير، يستعينهم في دية ذينك القتيلين من بني عامر، اللذين قتل عمرو بن أمية الضمري؛ للجوار الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد لهما، فيما حدثني يزيد بن رُومان، وكان بين بني النضير وبني عامر عَقد وحلف. فلما أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية ذينك القتيلين قالوا:نعم، يا أبا القاسم، نعينك على ما أحببت، مما استعنت بنا عليه. ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا:إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه - ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم- فَمَن رجل يعلو على هذا البيت، فيلقي عليه صخرة، فيريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب أحدُهم، فقال:أنا لذلك، فصعَدَ ليلقي عليه صخرة كما قال، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، فيهم أبو بكر وعمر وعلي، رضي الله عنهم. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعًا إلى المدينة، فلما استلبث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قاموا في طلبه فلقوا رجلا مقبلا من المدينة، فسألوه عنه، فقال:رأيته داخلا المدينة. فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهوا إليه، فأخبرهم الخبر بما كانت يهود أرادت من الغدر به، وأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والمسير إليهم. ثم سار حتى نـزل بهم فتحصنوا منه في الحصون، فأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخل والتَّحريق فيها. فنادوه:أن يا محمد، قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها؟

وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج، منهم عبد الله بن أبي [ بن ] سلول، ووديعة، ومالك بن أبي قوقل وسُوَيد وداعس، قد بعثوا إلى بني النضير:أن اثبتوا وتَمَنَّعوا فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خَرَجنا معكم فتربصوا ذلك من نصرهم، فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة، ففعل، فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه، فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به. فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام، وَخَلّوا الأموال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت لرسول الله خاصة يضعها حيث شاء، فقسمها على المهاجرين الأولين دون الأنصار. إلا أن سهل بن حُنَيف وأبا دُجانة سماك بن خَرشَة ذكرا فَقْرًا، فأعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال:ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان:يامين بن عُمَير بن كعب بن عمرو بن جحاش، وأبو سعد بن وهب أسلما على أموالهما فأحرزاها.

قال:ابن إسحاق:قد حدثني بعض آل يامين:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليامين: « ألم تر ما لقيتُ من ابن عمك، وما هم به من شأني » . فجعل يامين بن عُمَير لرجل جُعل علي أن يقتل عمرو بن جحاش، فقتله فيما يزعمون.

قال ابن إسحاق:ونـزل في بني النضير سورة الحشر بأسرها .

وهكذا روي يونس بن بُكَيْر، عن ابن إسحاق، بنحو ما تقدم .

فقوله: ( هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ) يعني:بني النضير ( مِنْ دِيَارِهِمْ لأوَّلِ الْحَشْرِ ) .

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن أبي سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:من شك في أن أرض المحشر هاهنا - يعني الشام فَلْيَتْل هذه الآية: ( هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأوَّلِ الْحَشْرِ ) قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اخرجوا » . قالوا:إلى أين؟ قال: « إلى أرض المحشر » .

وحدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة، عن عوف، عن الحسن قال:لما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير، قال: « هذا أول الحشر، وأنا على الأثر » .

ورواه ابن جرير، عن بُنْدَار، عن ابن أبي عدي، عن عوف، عن الحسن، به .

وقوله: ( مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا ) أي:في مدة حصاركم لهم وقصَرها، وكانت ستة أيام، مع شدة حصونهم ومنعتها؛ ولهذا قال: ( وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ) أي:جاءهم من أمر الله ما لم يكن لهم في بال، كما قال في الآية الأخرى: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ [ النحل:26 ] .

وقوله: ( وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ) أي:الخوف والهَلَع والجَزَع، وكيف لا يحصل لهم ذلك وقد حاصرهم الذي نُصر بالرعب مسيرةَ شهر، صلوات الله وسلامه عليه.

وقوله: ( يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ) قد تقدم تفسير ابن إسحاق لذلك، وهو نقض ما استحسنوه من سقوفهم وأبوابهم، وتَحملها على الإبل، وكذا قال عروة بن الزبير، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغير واحد.

وقال مقاتل ابن حيان:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتلهم، فإذا ظهر على دَرْب أو دار، هدم حيطانها ليتسع المكان للقتال. وكان اليهود إذا علوا مكانًا أو غلبوا على درب أو دار، نقبوا من أدبارها ثم حصنوها ودربوها، يقول الله تعالى: ( فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ ) .

وقوله: ( وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا ) أي:لولا أن كتب الله عليهم هذا الجلاء، وهو النفي من ديارهم وأموالهم، لكان لهم عند الله عذاب آخر من القتل والسبي، ونحو ذلك، قاله الزهري، عن عُرْوَة، والسُّدِّي وابن زيد؛ لأن الله قد كتب عليهم أنه سيعذبهم في الدار الدنيا مع ما أعد لهم في الآخرة من العذاب في نار جهنم.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن صالح - كاتب الليث- حدثني الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب قال:أخبرني عروة بن الزبير قال:ثم كانت وقعة بني النضير، وهم طائفة من اليهود، على رأس ستة أشهر من وقعة بدر. وكان منـزلهم بناحية من المدينة، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نـزلوا من الجلاء، وأن لهم ما أقَلَّت الإبل من الأموال والأمتعة إلا الحلقة، وهي السلاح، فأجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الشام. قال:والجلاء أنه كُتب عليهم في آي من التوراة، وكانوا من سبط لم يصبهم الجلاء قبل ما سلط عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنـزل الله فيهم: ( سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ ) إلى قوله وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ .

وقال عكرمة:الجلاء:القتل. وفي رواية عنه:الفناء.

وقال قتادة:الجلاء:خروج الناس من البلد إلى البلد.

وقال الضحاك:أجلاهم إلى الشام، وأعطى كل ثلاثة بعيرًا وسقاء، فهذا الجلاء.

وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي:أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أحمد بن كامل القاضي، حدثنا محمد بن سعيد العوفي، حدثني أبي، عن عمي، حدثني أبي عن جدي، عن ابن عباس قال:كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حاصرهم حتى بلغ منهم كل مَبْلَغ، فأعطوه ما أراد منهم، فصالحهم على أن يحقن لهم دمائهم، وأن يخرجهم من أرضهم ومن ديارهم وأوطانهم، وأن يسيرهم إلى أذرعات الشام، وجعل لكل ثلاثة منهم بعيرًا وسقاء، والجلاء إخراجهم من أرضهم إلى أرض أخرى

وروي أيضًا من حديث يعقوب بن محمد الزهري، عن إبراهيم بن جعفر بن محمود بن محمد بن مسلمة، عن أبيه، عن جده، عن محمد بن مسلمة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى بني النضير، وأمره أن يؤجلهم في الجلاء ثلاث ليال .

وقوله: ( وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ) أي:حتم لازم لا بد لهم منه.

 

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 4 ) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ( 5 )

وقوله: ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) أي:إنما فَعلَ الله بهم ذلك وسَلَّط عليهم رسوله وعباده المؤمنين؛ لأنهم خالفوا الله ورسوله، وكذبوا بما أنـزل الله على رسله المتقدمين في البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهم يعرفون ذلك كما يعرفون أبناءهم، ثم قال: ( وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) .

وقوله تعالى: ( مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ) اللين:نوع من التمر، وهو جيد.

قال:أبو عبيدة:وهو ما خالف العجوة والبَرْنِيّ من التمر.

وقال كثيرون من المفسرين:اللينة:ألوان التمر سوى العجوة.

قال:ابن جرير:هو جميع النخل. ونقله عن مجاهد:وهو البُوَيرة أيضًا؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حاصرهم أمر بقطع نخيلهم إهانة لهم، وإرهابًا وإرعابًا لقلوبهم. فروى محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان، وقتادة، ومقاتل بن حيان أنهم قالوا: [ فبعث بنو النضير ] يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم:إنك تنهى عن الفساد، فما بالك تأمر بقطع الأشجار؟ فأنـزل الله هذه الآية الكريمة، أي:ما قطعتم وما تركتم من الأشجار، فالجميع بإذن الله ومشيئته وقدرته ورضاه، وفيه نكاية بالعدو وخزي لهم، وإرغام لأنوفهم.

وقال مجاهد:نهى بعض المهاجرين بعضًا عن قطع النخل، وقالوا:إنما هي مغانم المسلمين. فنـزل القرآن بتصديق من نهى عن قطعه، وتحليل من قطعه من الإثم، وإنما قطعه وتركه بإذنه. وقد روي نحو هذا مرفوعًا، فقال النسائي:أخبرنا الحسن بن محمد، عن عفان، حدثنا حفص بن غياث، حدثنا حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله: ( مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ) قال:يستنـزلونهم من حصونهم وأمروا بقطع النخل، فحاك في صدورهم، فقال المسلمون:قطعنا بعضًا وتركنا بعضًا، فلنسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم:هل لنا فيما قطعنا من أجر؟ وهل علينا فيما تركنا من وزر؟ فأنـزل الله: ( مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ )

وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده:حدثنا سفيان بن وَكِيع، حدثنا حفص، عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن جابر - وعن أبي الزبير، عن جابر- قال:رخص لهم في قطع النخل، ثم شدد عليهم فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا:يا رسول الله، علينا إثم فيما قطعنا؟ أو علينا وزر فيما تركنا؟ فأنـزل الله، عز وجل: ( مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ ) .

وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع نخل بني النضير وحَرّق.

وأخرجه صاحبا الصحيح من رواية موسى بن عقبة، بنحوه ولفظ البخاري من طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر قال:حاربت النضيرُ وقريظة، فأجلى بني النضير وأقر قريظة ومَنّ عليهم حتى حاربت قريظة فقتل من رجالهم وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين، إلا بعضهم لحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فأمَّنهم وأسلموا، وأجلى يهود المدينة كلهم بني قينقاع، وهم رهط عبد الله بن سلام، ويهود بني حارثة، وكلّ يهود بالمدينة.

ولهما أيضًا عن قتيبة، عن الليث بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حَرّق نخل بني النضير وقطع - وهي البُوَيرةُ- فأنـزل الله، عز وجل فيه: ( مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ) .

وللبخاري، رحمه الله، من رواية جُوَيْرية بن أسماء عن نافع، عن عبد الله بن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حَرّق نخل بني النضير . ولها يقول حسان بن ثابت، رضي الله عنه:

وَهَــان عَــلى سَـراة بنـي لُـؤيّ حَـــريق بـــالبُوَيْرة مُسْــتَطيرُ

فأجابه أبو سفيان بن الحارث يقول:

أدَام اللــهُ ذلــكَ مــن صَنيــع وَحَــرّق فــي نَوَاحيهــا السَّـعير

سَـــتَعلم أيُّنــا منْهــا بِــنـزهٍ وَتَعْلـــمُ أيّ أرْضينَـــا نَضِــيرُ

كذا رواه البخاري ولم يذكره ابن إسحاق.

وقال محمد ابن إسحاق:وقال كعب بن مالك يذكر إجلاء بني النضير وقتل ابن الأشرف:

لَقَــــد خَــزيتبغَدْرَتِها الحُبُور كَــذَاكَ الدهـرُ ذو صَـرْف يَـدُورُ

وَذَلـــك أنَّهــم كفَــرُوا بِــرَبّ عَظيـــم أمــرُهُ أمــرٌ كَبِــيرُ

وقَــد أوتــوا معًـا فَهمًـا وعلمـا وَجَــاءهُمُ مــن اللــه النَّذيــرُ

نَذيــر صَــــادق أدّى كتــابا وآيــــات مُبَيَّنَــــةً تُنـــيرُ

فقـــال ما أتيت بــأمر صـدق وأنـــت بمنكــر منــا جَــديرُ

فقــال:بَــلى لقــد أديـتُ حقًـا يُصَــدّقني بــه الفَهــم الخَــبيرُ

فَمــن يَتْبعــه يُهــدَ لِكُـل رُشـد وَمَــن يَكفُــر بـه يُجـزَ الكَفُـورُ

فَلَمَّــا أْشــربُوا غَــدْرًا وكُفْــرًا وَجَــدّ بهــم عـن الحَـقّ النّفـورُ

أرَى اللــه النبـيّ بِــرَأي صـدْق وكــانَ اللــه يَحــكُم لا يَجُــورُ

فَــــأيَّدَهُ وَسَـــلَّطَه عَلَيهـــم وكــانَ نَصــيرهُ نعْـــم النَّصـيرُ

فَغُــودرَ منْهمُــو كَـعـب صريعًـا فَــذَلَّتْ بعــدَ مَصْرَعـة النَّضــيرُ

عَــلى الكَــفَّين ثــمَّ وقَـدْ عَلَتْـهُ بأيدينــــا مُشَـــهَّرة ذكُـــورُ

بـــأمْر مُحَـــمَّد إذ دَس لَيـــلا إلــى كَــعـب أخَـا كَـعب يَسـيرُ

فَمَـــا كَــرَه فَأنـزلَــه بِمَكْــر وَمحــمودُ أخُــو ثقَــة جَسُــورُ

فَتلْــك بَنُـو النَّضـير بـدار سَـوء أبَــارَهُمُ بمــا اجــترموا المُبـيرُ

غَــداة أتـاهُمُ فـي الزّحْـف رَهـوًا رَسُــولُ اللــه وَهـوَ بهـم بَصـيرُ

وَغَسَّـــانُ الحمـــاةُ مُــوازرُوه عَــلَى الأعـداء وهـو لهـم وَزيـرُ

فَقَــالَ:الســلم ويحــكمُ فَصَـدّوا وَحَــالفَ أمْـــرَهم كَــذبٌ وَزُورُ

فَذَاقُــوا غــبّ أمْــرهم دَبَــالا لكُـــلّ ثَلاثَـــة منهُــم بَعــيرُ

وَأجــلوا عَـــامدين لقَينُقَـــاع وَغُـــودرَ مِنْهُـــم نَخْــل ودُورُ

قال:وكان مما قيل من الأشعار في بني النضير قولُ ابن لُقَيم العَبْسيّ - ويقال:قالها قيس بن بحر بن طريف، قال ابن هشام الأشجعي:

أهــلي فـدَاءٌ لامـرئ غَـير هَـالك أحَــلّ اليهودَ بالحَسِـي المُزَنَّم

يَقيلُـونَ فـي جَـمْر الغَضـاة وبُدّلُـوا أهَيضــبَ عــودا بـالوَدي المُكَـمَّم

فــإن يَـكُ ظَنـي صَادقًـا بمُحَــمد يَـرَوا خَيلَـه بيـنَ الصّـلا وَيَرمْـرَم

يَـؤمّ بهـا عَمـرو بـنُ بُهثَـةَ إنَّهُـمْ عَـــدُو مـا حَـيّ صَـديق كمُجْـرم

عَلَيهـنّ أبطـالُ مَسـاعيرُ في الـوَغَى يَهُــزّونَ أطـرافَ الوَشـيج المُقَـوّم

وكُــلّ رَقيــق الشَّــفرتَين مُهَنَّـدٍ تُـورثْنَ مـن أزْمـان عـاد وَجُـرْهُمِ

فَمَــن مُبلـغٌ عَنـي قُرَيشًـا رسَـالة فَهَـلْ بَعـدَهُم فـي المجْـد من مُتَكرّم

بــأنّ أخــاكمُ فــاعلَمنّ مُحَــمَّدًا تَليـدُ النَّـدى بيـنَ الحَجُـون وزَمْـزَم

فَدينُـوا لـه بـالحقّ تَجْسُـمْ أمُـورُكم وتَسْـمُوا مـنَ الدنْيـا إلـى كُل مُعْظَم

نبــي تلافَتــه مـنَ اللـه رَحَمـةٌ ولا تَسْــألُوهُ أمْــرَ غَيـب مُرَجَّـم

فَقَـدْ كـانَ فـي بَـدْر لَعَمْـري عِبرَةٌ لَكُــم يـا قُـرَيش والقَليـب المُلَمَّـم

غَـدَاة أتَـى فـي الخَزْرَجيَّـةِ عـامِدًا إليكُــم مُطيعًــا للعَظيــمِ المُكَـرّم

مُعَانًـا بـرُوح القُـدْس يَنْكـي عَـدوه رَسُـولا مِـنَ الرّحـمن حَقّـا بِمَعْلـم

رَسُـولا مِـنَ الرّحـمن يَتْلُـو كِتابَـهُ فَلَمّــا أنــارَ الحَــقّ لـم يَتَلعْثَـم

أرَى أمْــرَهُ يَـزْدَادُ فـي كُـلّ مَوْطن عُلُــوّا لأمــرْ حَمَّـه اللـهُ مُحْـكَم

وقد أورد ابن إسحاق، رحمه الله، هاهنا أشعارًا كثيرة، فيها آداب ومواعظ وحكم، وتفاصيل للقصة، تركنا باقيها اختصارًا واكتفاء بما ذكرناه، ولله الحمد والمنة.

قال ابن إسحاق:كانت وقعة بني النضير بعد وقعة أحد وبعد بئر معونة. وحكى البخاري، عن الزهري، عن عروة أنه قال:كانت وقعة بني النضير بعد بدر بستة أشهر .

وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 6 ) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 7 )

يقول تعالى مبينًا لمال الفيء وما صفته؟ وما حكمه؟ فالفيء:كلّ مال أخذ من الكفار بغير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب، كأموال بني النضير هذه، فإنها مما لم يُوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، أي:لم يقاتلوا الأعداء فيها بالمبارزة والمصاولة، بل نـزل أولئك من الرعب الذي ألقى الله في قلوبهم من هيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأفاءه الله على رسوله؛ ولهذا تصرف فيه كما شاء، فردّه على المسلمين في وجوه البر والمصالح التي ذكرها الله، عز وجل، في هذه الآيات، فقال: ( وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ ) أي:من بني النضير ( فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ ) يعني:الإبل، ( وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) أي:هو قدير لا يغالب ولا يمانع، بل هو القاهر لكل شيء.

ثم قال: ( مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ) أي:جميع البلدان التي تُفتَح هكذا، فحكمها حكم أموال بني النضير؛ ولهذا قال: ( فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ) إلى آخرها والتي بعدها. فهذه مصارفُ أموال الفيء ووجوهه.

قال الإمام أحمد:حدثنا سفيان، عن عمرو ومَعْمَر، عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحَدَثان، عن عمر، رضي الله عنه، قال:كانت أموال بني النضير مما أفاء الله إلى رسوله مما لم يُوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة فكان ينفق على أهله منها نفقة سنته - وقال مَرّة:قوت سنته- وما بقي جعله في الكُرَاع والسلاح في سبيل الله، عز وجل.

هكذا أخرجه أحمد هاهنا مختصرًا، وقد أخرجه الجماعة في كتبهم - إلا ابن ماجة- من حديث سفيان، عن عمرو بن دينار، عن الزهري، به وقد رويناه مطولا فقال أبو داود، رحمه الله:

حدثنا الحسن بن علي ومحمد بن يحيى بن فارس - المعنى واحد- قالا حدثنا بشرِ بن عُمَر الزهراني، حدثني مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس قال:أرسل إليَّ عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، حين تعالى النهار، فجئته فوجدته جالسًا على سرير مُفضيًا إلى رُماله، فقال حين دخلت عليه:يا مال، إنه قد دَفّ أهل أبيات من قومك، وقد أمرت فيهم بشيء، فاقسم فيهم. قلت:لو أمرتَ غيري بذلك؟ فقال:خذه. فجاءه يرفا، فقال:يا أمير المؤمنين، هل لك في عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص؟ فقال:نعم. فأذن لهم فدخلوا، ثم جاءه يرفا فقال:يا أمير المؤمنين، هل لك في العباس وعلي؟ قال:نعم. فأذن لهم فدخلوا، فقال العباس:يا أمير المؤمنين، اقض بيني وبين هذا - يعني:عليًا- فقال بعضهم:أجل يا أمير المؤمنين، اقض بينهما وأرحهما. قال مالك بن أوس:خُيّل إليَّ أنهما قَدّما أولئك النفر لذلك. فقال عمر، رضي الله عنه:اتئدا. ثم أقبل على أولئك الرهط فقال:أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا نُورَث، ما تركنا صدقة » . قالوا:نعم. ثم أقبل على عليّ والعباس فقال:أنشدُكُما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا نورث، ما تركنا صدقة » . فقالا نعم. فقال:فإن الله خص رسوله بخاصة لم يخص بها أحدًا من الناس، فقال: ( وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) فكان الله أفاء إلى رسوله أموال بني النضير، فوالله ما استأثر بها عليكم ولا أحرزها دونكم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ منها نفقة سنة - أو:نفقته ونفقة أهله سنة- ويجعل ما بقي أسوة المال. ثم أقبل على أولئك الرهط فقال:أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض:هل تعلمون ذلك؟ قالوا:نعم. ثم أقبل على عليٍّ والعباس فقال:أنشدُكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض:هل تعلمان ذلك؟ قالا نعم. فلما تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر: « أنا وليّ رسول الله » ، فجئت أنتَ وهذا إلى أبي بكر، تطلب أنت ميراثك عن ابن أخيك، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها، فقال أبو بكر، رضي الله عنه:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا نورث، ما تركنا صدقة » . والله يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق. فوليها أبو بكر، فلما توفي قلتُ:أنا وَلِيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ووليّ أبي بكر، فَوليتها ما شاء الله أن أليها، فجئت أنت وهذا، وأنتما جَميع وأمركما واحد، فسألتمانيها، فقلت:إن شئتما فأنا أدفعها إليكما على أنّ عليكما عهد الله أن تلياها بالذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يليها، فأخذتماها مني على ذلك، ثم جئتماني لأقضي بينكما بغير ذلك. والله لا أقضي بينكما بغير ذلك حتى تقوم الساعة، فإن عَجَزتُما عنها فَرُدّاها إلي.

أخرجوه من حديث الزهري، به . وقال الإمام أحمد:

حدثنا عارم وعفان قالا حدثنا معتمر، سمعت أبي يقول:حدثنا أنس بن مالك، عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أن الرجل كان يجعل له من ماله النخلات، أو كما شاء الله، حتى فُتحَت عليه قريظة والنضير. قال:فجعل يَرُدّ بعد ذلك، قال:وإن أهلي أمروني أن آتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسأله الذي كان أهله أعطوه أو بعضه، وكان نبي الله صلى الله عليه وسلم قد أعطاه أمّ أيمن، أو كما شاء الله، قال:فسألتُ النبي صلى الله عليه وسلم فأعطانيهن، فجاءت أم أيمن فجعلت الثوبَ في عنقي وجعلت تقول:كلا والله الذي لا إله إلا هو لا يُعطيكَهُنّ وقد أعطانيهن، أو كما قالت، فقال نبي الله: « لك كذا وكذا » . قال:وتقول: كلا والله. قال ويقول: « لك كذا وكذا » . قال:وتقول:كلا والله. قال: « ويقول:لك كذا وكذا » . قال:حتى أعطاها، حسبت أنه قال:عشرة أمثال أو قال قريبًا من عشرة أمثاله، أو كما قال.

رواه البخاري ومسلم من طُرُق عن معتمر، به .

وهذه المصارف المذكورة في هذه الآية هي المصارف المذكورة في خُمس الغَنيمة. وقد قدمنا الكلام عليها في سورة « الأنفال » بما أغنى عن إعادته هاهنا، ولله الحمد .

وقوله: ( كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ) أي:جعلنا هذه المصارف لمال الفيء لئلا يبقى مأكلة يتغلب عليها الأغنياء ويتصرفون فيها، بمحض الشهوات والآراء، ولا يصرفون منه شيئًا إلى الفقراء.

وقوله: ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) أي:مهما أمركم به فافعلوه، ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمر بخير وإنما ينهى عن شر.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا يحيى بن أبي طالب، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن العوفي، عن يحيى بن الجزار، عن مسروق قال:جاءت امرأة إلى ابن مسعود فقالت:بلغني أنك تنهى عن الواشمة والواصلة، أشيء وجدته في كتاب الله أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال:بلى، شيء وجدته في كتاب الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت:والله لقد تصفحت ما بين دفتي المصحف فما وجدت فيه الذي تقول!. قال:فما وجدت فيه: ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) ؟ قالت:بلى. قال:فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن الواصلة والواشمة والنامصة. قالت:فلعله في بعض أهلك. قال:فادخلي فانظري. فدخلت فَنَظرت ثم خرجَت، قالت:ما رأيتُ بأسا. فقال لها:أما حفظت وصية العبد الصالح: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ

وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن منصور، [ عن إبراهيم ] عن علقمة، عن عبد الله - هو ابن مسعود- قال:لعن الله الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات، والمُتفَلجات للحُسْن، المغيرات خلق الله، عز وجل. قال:فبلغ امرأة في البيت يقال لها: « أم يعقوب » ، فجاءت إليه فقالت:بلغني أنك قلت كيتَ وكيتَ. قال:ما لي لا ألعن من لعن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وفي كتاب الله. فقالت:إني لأقرأ ما بين لوحيه فما وجدته. فقال:إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه. أما قرأت: ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) ؟ قالت:بلى. قال:فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه. قالت: [ إني ] لأظن أهلك يفعلونه. قال:اذهبي فانظري. فذهَبت فلم تر من حاجتها شيئا، فجاءت فقالت:ما رأيتُ شيئًا. قال:لو كانت كذلك لم تُجَامعنا.

أخرجاه في الصحيحين، من حديث سفيان الثوري .

وقد ثبت في الصحيحين أيضًا عن أبي هُرَيرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه » . .

وقال النسائي:أخبرنا أحمد بن سعيد، حدثنا يزيد، حدثنا منصور بن حيان، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عُمَر وابن عباس:أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم:أنه نهى عن الدُّباء والحَنْتَم والنَّقير والمزَفَّت، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) .

وقوله: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) أي:اتقوه في امتثال أوامره وترك زواجره؛ فإنه شديد العقاب لمن عصاه وخالف أمره وأباه، وارتكب ما عنه زجره ونهاه.

لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( 8 ) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 9 )

يقول تعالى مبينًا حال الفقراء المستحقين لمال الفيء أنهم ( الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ) أي:خرجوا من ديارهم وخالفوا قومهم ابتغاء مرضاة الله ورضوانه ( وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) أي:هؤلاء الذين صَدَقوا قولهم بفعلهم، وهؤلاء هم سادات المهاجرين.

ثم قال تعالى مادحًا للأنصار، ومبينًا فضلهم وشرفهم وكرمهم وعدم حَسَدهم، وإيثارهم مع الحاجة، فقال: ( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) أي:سكنوا دار الهجرة من قبل المهاجرين وآمنوا قبل كثير منهم.

قال عمر:وأوصي الخليفة [ من ] بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم كرامتهم. وأوصيه بالأنصار خيرًا الذين تَبوّءوا الدار والإيمان من قبل، أن يقبل من محسنهم، وأن يعفو عن مسيئهم. رواه البخاري هاهنا أيضًا .

وقوله: ( يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ ) أي:مِنْ كَرَمهم وشرف أنفسهم، يُحبّون المهاجرين ويواسونهم بأموالهم.

قال الإمام أحمد:حدثنا يزيد، حدثنا حميد، عن أنس قال:قال المهاجرون:يا رسول الله، ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساةً في قليل ولا أحسن بذلا في كثير، لقد كَفَونا المؤنة، وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله! قال: « لا ما أثنيتم عليهم ودَعَوتُمُ الله لهم » .

لم أره في الكتب من هذا الوجه.

وقال البخاري:حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سفيان، عن يحيى بن سعيد، سمع أنس بن مالك حين خرج معه إلى الوليد قال:دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار أن يُقطع لهم البحرين، قالوا:لا إلا أن تُقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها. قال: « إما لا فاصبروا حتى تلقوني، فإنه سيصيبكم [ بعدي ] أثرة » .

تفرد به البخاري من هذا الوجه

قال البخاري:حدثنا الحكم بن نافع، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال:قالت الأنصار:اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل. قال:لا. فقالوا:تكفونا المؤنَةَ ونَشرككُم في الثمرة؟ قالوا:سمعنا وأطعنا. تفرد به دون مسلم .

( وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا ) أي:ولا يجدون في أنفسهم حسدًا للمهاجرين فيما فضلهم الله به من المنـزلة والشرف، والتقديم في الذكر والرتبة.

قال:الحسن البصري: ( وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً ) يعني:الحسد.

( مِمَّا أُوتُوا ) قال قتادة:يعني فيما أعطي إخوانهم. وكذا قال ابن زيد. ومما يستدل به على هذا المعنى ما رواه الإمام أحمد حيث قال:حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن الزهري، عن أنس قال:كنا جُلوسًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة » . فطلع رجل من الأنصار تَنظُف لحيته من وضوئه، قد تَعَلَّق نعليه بيده الشمال، فلما كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى. فلما كان اليوم الثالث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضًا، فطلع ذلك الرجل على مثل حالته الأولى فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال:إني لاحيت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثًا، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت. قال:نعم. قال أنس:فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الثلاث الليالي فلم يره يقوم من الليل شيئًا، غير أنه إذا تَعارّ تقلب على فراشه، ذكر الله وكبر، حتى يقوم لصلاة الفجر. قال عبد الله:غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًا، فلما مضت الثلاث ليال وكدت أن أحتقر عمله، قلت:يا عبد الله، لم يكن بيني وبين أبي غَضَب ولا هَجْر ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرَار « يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة » . فطلعت أنت الثلاث المرار فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملكَ فأقتدي به، فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ قال:ما هو إلا ما رأيت. فلما وليت دعاني فقال:ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجدُ في نفسي لأحد من المسلمين غِشّا، ولا أحسدُ أحدًا على خير أعطاه الله إياه. قال عبد الله:هذه التي بلغت بك، وهي التي لا تطاق .

ورواه النسائي في اليوم والليلة، عن سُوَيد بن نصر، عن ابن المبارك، عن معمر به وهذا إسناد صحيح على شرط الصحيحين، لكن رواه عقيل وغيره عن الزهري، عن رجل، عن أنس . فالله أعلم.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: ( وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا ) يعني ( مِمَّا أُوتُوا ) المهاجرون. قال:وتكلم في أموال بني النضير بعض من تكلم من الأنصار، فعاتبهم الله في ذلك، فقال: وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قال:وقال رسول الله: « إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم » . فقالوا:أموالنا بيننا قطائع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أو غير ذلك؟ » . قالوا:وما ذاك يا رسول الله؟ قال: « هم قوم لا يعرفون العمل، فتكفونهم وتقاسمونهم الثمر » . فقالوا:نعم يا رسول الله

وقوله: ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) يعني:حاجة، أي:يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدءون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك.

وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « أفضلُ الصدقة جُهْدُ المُقِلّ » . وهذا المقام أعلى من حال الذين وَصَف اللهُ بقوله: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ [ الإنسان:8 ] . وقوله: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ [ البقرة:177 ] .

فإن هؤلاء يتصدقون وهم يحبون ما تصدقوا به، وقد لا يكون لهم حاجة إليه ولا ضرورة به، وهؤلاء آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إلى ما أنفقوه. ومن هذا المقام تصدق الصديق، رضي الله عنه، بجميع ماله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما أبقيت لأهلك؟ » . فقال:أبقيت لهم الله ورسوله. وهذا الماء الذي عُرض على عكرمة وأصحابه يوم اليرموك، فكل منهم يأمر بدفعه إلى صاحبه، وهو جريح مثقل أحوجَ ما يكون إلى الماء، فرده الآخر إلى الثالث، فما وصل إلى الثالث حتى ماتوا عن آخرهم ولم يشربه أحد منهم، رضي الله عنهم وأرضاهم.

وقال البخاري:حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن كثير، حدثنا أبو أسامة، حدثنا فُضيل بن غَزوان، حدثنا أبو حازم الأشجعي، عن أبي هُرَيرة قال:أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله، أصابني الجهدُ، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « ألا رجل يُضَيّفُ هذا الليلة، رحمه الله؟ » . فقام رجل من الأنصار فقال:أنا يا رسول الله. فذهب إلى أهله فقال لامرأته:ضَيفُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تَدّخريه شيئًا. فقالت:والله ما عندي إلا قوتُ الصبية. قال:فإذا أراد الصبيةُ العَشَاء فنوّميهم وتعالى فأطفئي السراج ونَطوي بطوننا الليلة. ففعلَت، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: « لقد عجب الله، عز وجل - أو:ضحك- من فلان وفلانة » . وأنـزل الله عز وجل: ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) .

وكذا رواه البخاري في موضع آخر، ومسلم والترمذي والنسائي من طرق، عن فضيل بن غزوان، به نحوه . وفي رواية لمسلم تسمية هذا الأنصاري بأبي طلحة، رضي الله عنه.

وقوله: ( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) أي:من سلم من الشح فقد أفلح وأنجح.

قال أحمد:حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا داود بن قيس الفراء، عن عُبَيد الله بن مِقْسَم، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إياكم والظلّم، فإن الظُّلم ظلماتٌ يوم القيامة، واتقوا الشُحَّ، فإن الشّحَّ أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سَفَكُوا دماءهم واستَحلُّوا محارمهم » .

انفرد بإخراجه مسلم، فرواه عن القَعْنَبِيّ، عن داود بن قيس، به .

وقال الأعمش وشعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن الحارث، عن زهير بن الأقمر، عن عبد الله بن عمرو قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اتقوا الظُّلْم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الفُحْش، فإن الله لا يحب الفحش ولا التَّفَحُّشَ، وإياكم والشُّحَّ؛ فإنه أهلكَ من كان قبلكم، أمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالفجور ففجروا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا » .

ورواه أحمد وأبو داود من طريق شعبة، والنسائي من طريق الأعمش، كلاهما عن عمرو بن مُرّة، به .

وقال الليث، عن يزيد [ بن الهاد ] عن سُهَيل بن أبي صالح، عن صفوان بن أبي يزيد، عن القعقاع بن اللجلاج عن أبي هريرة، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخانُ جهنم في جوف عبد أبدًا، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدًا » .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا عبدة بن سليمان، أخبرنا ابن المبارك، حدثنا المسعودي، عن جامع بن شداد، عن الأسود بن هلال قال:جاء رجل إلى عبد الله فقال:يا أبا عبد الرحمن، إني أخاف أن أكون قد هلكت فقال له عبد الله:وما ذاك؟ قال:سمعت الله يقول: ( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) وأنا رجل شحيح، لا أكاد أن أخرج من يدي شيئًا! فقال عبد الله: « ليس ذلك بالشح الذي ذكر الله في القرآن، إنما الشح الذي ذكر الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلمًا، ولكن ذلك البخل، وبئس الشيء البخل »

وقال سفيان الثوري، عن طارق بن عبد الرحمن، عن سعيد بن جبير، عن أبي الهياج الأسدي قال:كنت أطوف بالبيت، فرأيت رجلا يقول: « اللهم قني شح نفسي » . لا يزيد على ذلك، فقلت له، فقال: « إني إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن ولم أفعل » ، وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنه، رواه ابن جرير

وقال ابن جرير:حدثني محمد بن إسحاق، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، حدثنا إسماعيل بن عَيّاش، حدثنا مُجَمع بن جارية الأنصاري، عن عمه يزيد بن جارية، عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « بَرِئ من الشح مَن أدى الزكاة، وقَرَى الضيف، وأعطى في النائبة » .

 

وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ( 10 )

وقوله: ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) هؤلاء هم القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم من مال الفيء، وهم المهاجرون ثم الأنصار، ثم التابعون بإحسان، كما قال في آية براءة: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ [ التوبة:100 ] فالتابعون لهم بإحسان هم:المتبعون لآثارهم الحسنة وأوصافهم الجميلة، الداعون لهم في السر والعلانية؛ ولهذا قال في هذه الآية الكريم: ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ ) أي:قائلين: ( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا ) أي:بغضًا وحسدًا ( لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) وما أحسن ما استنبط الإمام مالك من هذه الآية الكريمة:أن الرافضي الذي يسبّ الصحابة ليس له في مال الفيء نصيب لعدم اتصافه بما مدح الله به هؤلاء في قولهم: ( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي، حدثنا محمد بن بشر، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت:أمروا أن يستغفروا لهم، فسبوهم! ثم قرأت هذه الآية: ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ ) الآية.

وقال إسماعيل بن عُلَية، عن عبد الملك بن عمير، عن مسروق، عن عائشة قالت:أمرتم بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فسببتموهم. سمعتُ نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: « لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها » . رواه البغوي ..

وقال أبو داود:حدثنا مُسَدَّد، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا أيوب، عن الزهري قال:قال عمر، رضي الله عنه: وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ قال الزهري:قال عمر:هذه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، قُرى [ عربية:فَدَك وكذا ] وكذا، فما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربي واليتامي والمساكين وابن السبيل وللفقراء الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ ) فاستوعبت هذه الآية الناس، فلم يبق أحد من المسلمين إلا له فيها حق - قال أيوب:أو قال:حظ- إلا بعض من تملكون من أرقائكم. كذا رواه أبو داود، وفيه انقطاع .

وقال ابن جرير:حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا ابن ثور، عن مَعْمَر، عن أيوب، عن عكرمة ابن خالد، عن مالك بن أوس بن الحَدَثان قال:قرأ عمر بن الخطاب: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ حتى بلغ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [ التوبة:60 ] ، ثم قال هذه لهؤلاء، ثم قرأ: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى [ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ] [ الأنفال:41 ] ، ثم قال:هذه لهؤلاء، ثم قرأ: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى حتى بلغ للفقراء وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ ) ثم قال:استوعبت هذه الآية المسلمين عامة، وليس أحد إلا له فيها حق ، ثم قال:لئن عشت ليأتين الراعي - وهو بَسرو حِمير- نصيبه فيها، لم يعرق فيها جبينه.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( 11 ) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ ( 12 ) لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ( 13 ) لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ( 14 ) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 15 ) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ( 16 )

يخبر تعالى عن المنافقين كعبد الله بن أبي وأضرابه، حين بعثوا إلى يهود بني النضير يَعدُونهم النصر من أنفسهم، فقال تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ ) قال الله تعالى: ( وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) أي:لكاذبون فيما وعدوهم به إما أنهم قالوا لهم قولا من نيتهم ألا يفوا لهم به، وإما أنهم لا يقع منهم الذي قالوه؛ ولهذا قال: ( وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ ) أي:لا يقاتلون معهم، ( وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ ) أي:قاتلوا معهم ( لَيُوَلُّنَّ الأدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ ) وهذه بشارة مستقلة بنفسها.

ثم قال تعالى: ( لأنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ) أي:يخافون منكم أكثر من خوفهم من الله، كقوله: إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً [ النساء:77 ] ؛ ولهذا قال: ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ )

ثم قال ( لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ ) يعني:أنهم من جُبنهم وهَلَعهم لا يقدرون على مواجهة جيش الإسلام بالمبارزة والمقابلة بل إما في حصون أو من وراء جدر محاصرين، فيقاتلون للدفع عنهم ضرورة.

ثم قال ( بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ) أي:عداوتهم [ فيما ] بينهم شديدة، كما قال: وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [ الأنعام:65 ] ؛ ولهذا قال: ( تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ) أي:تراهم مجتمعين فتحسبهم مؤتلفين، وهم مختلفون غاية الاختلاف.

قال:إبراهيم النخعي:يعني:أهل الكتاب والمنافقين ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ )

ثم قال: ( كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) قال مجاهد، والسدى، ومقاتل بن حيان: [ يعني ] كمثل ما أصاب كفار قريش يوم بدر.

وقال ابن عباس: ( كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) يعني:يهود بني قينقاع. وكذا قال قتادة، ومحمد ابن إسحاق.

وهذا القول أشبه بالصواب، فإن يهود بني قينقاع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجلاهم قبل هذا.

وقوله: ( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ ) يعني:مثل هؤلاء اليهود في اغترارهم بالذين وعدوهم النصر من المنافقين، وقول المنافقين لهم: ( وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ ) ثم لما حقت الحقائق وجَدَّ بهم الحصار والقتال، تخلوا عنهم وأسلموهم للهلكة، مثالهم في هذا كمثل الشيطان إذ سول للإنسان - والعياذ بالله- الكفر، فإذا دخل فيما سوله تبرأ منه وتنصل، وقال: ( إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ )

وقد ذكر بعضهم هاهنا قصة لبعض عباد بني إسرائيل هي كالمثال لهذا المثل، لا أنها المرادة وحدها بالمثل، بل هي منه مع غيرها من الوقائع المشاكله لها، فقال ابن جرير:

حدثنا خلاد بن أسلم، أخبرنا النضر بن شُمَيْل، أخبرنا شعبة، عن أبي إسحاق، سمعت عبد الله بن نَهِيك قال:سمعت عليًا، رضي الله عنه، يقول:إن راهبًا تعبد ستين سنة، وإن الشيطان أراده فأعياه، فعمد إلى امرأة فأجنَّها ولها إخوة، فقال لإخوتها:عليكم بهذا القس فيداويها. قال:فجاءوا بها إليه فداواها، وكانت عنده، فبينما هو يوما عندها إذ أعجبته، فأتاها فحملت، فعمد إليها فقتلها، فجاء إخوتها، فقال الشيطان للراهب:أنا صاحبك، إنك أعييتني، أنا صنعت هذا بك فأطعني أنجك مما صنعت بك، فاسجد لي سجدة. فسجد له، فلما سجد له قال:إني بريء منك، إني أخاف الله رب العالمين، فذلك قوله: ( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ) .

وقال ابن جرير:حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي، حدثنا أبي، عن أبيه، عن جده، عن الأعمش، عن عمارة، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية: ( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ) قال:كانت امرأة ترعى الغنم، وكان لها أربعة أخوة، وكانت تأوي بالليل إلى صومعة راهب. قال:فنـزل الراهب ففجَر بها، فحملت، فأتاه الشيطان فقال له:اقتلها ثم ادفنها، فإنك رجل مُصدَّق يسمع قولك. فقتلها ثم دفنها. قال:فأتى الشيطانُ إخوتها في المنام فقال لهم:إن الراهب صاحب الصومعة فجَر بأختكم، فلما أحبلها قتلها ثم دفنها في مكان كذا وكذا. فلما أصبحوا قال رجل منهم:والله لقد رأيت البارحة رؤيا ما أدري أقصها عليكم أم أترك؟ قالوا:لا بل قصها علينا. قال:فقصها، فقال الآخر:وأنا والله لقد رأيت ذلك، فقال الآخر:وأنا والله لقد رأيت ذلك. فقالوا:فوالله ما هذا إلا لشيء. قال:فانطلقوا فاستعدوا ملكهم على ذلك الراهب، فأتوه فأنـزلوه ثم انطلقوا به فلقيه الشيطان فقال:إني أنا الذي أوقعتك في هذا، ولن ينجيك منه غيري، فاسجد لي سجدة واحدةً وأنجيك مما أوقعتك فيه. قال:فسجد له، فلما أتوا به مَلكهم تَبَرأ منه، وأُخِذَ فقتل .

وكذا روي عن ابن عباس، وطاوس، ومقاتل بن حيان، نحو ذلك. واشتهر عند كثير من الناس أن هذا العابد هو برصيصا، والله أعلم. وهذه القصة مخالفة لقصة جُرَيج العابد، فإن جريجًا اتهمته امرأة بَغي بنفسها، وادعت أن حَملها منه، ورفعت أمره إلى ولي الأمر، فأمر به فأنـزل من صومعته وخُربت صومعته وهو يقول:ما لكم؟ ما لكم؟ فقالوا:يا عدو الله، فعلت بهذه المرأة كذا وكذا. فقال:جريج:اصبروا. ثم أخذ ابنها وهو صغير جدًا ثم قال:يا غلام، من أبوك؟ قال أبي الراعي - وكانت قد أمكنته من نفسها فحملت منه- فلما رأى بنو إسرائيل ذلك عظموه كلهم تعظيمًا بليغًا وقالوا:نعيد صومعتك من ذهب. قال:لا بل أعيدوها من طين، كما كانت.

 

فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ( 17 )

وقوله: ( فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا ) أي:فكانت عاقبة الآمر بالكفر والفاعل له، وتصيرهما إلى نار جهنم خالدين فيها، ( وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ) أي:جزاء كل ظالم.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( 18 ) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( 19 ) لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ( 20 )

قال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عون بن أبي جُحَيْفة، عن المنذر ابن جرير، عن أبيه قال:كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، قال:فجاءه قوم حُفَاة عُراة مُجْتَابي النمار - أو:العَبَاء- مُتَقَلِّدي السيوف عامتهم من مُضَر، بل كلهم من مضر، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، قال:فدخل ثم خرج، فأمر بلالا فأذن وأقام الصلاة، فصلى ثم خطب، فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ إلى آخر الآية: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [ النساء:1 ] . وقرأ الآية التي في الحشر: ( وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ) تَصَدَّق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُرِّه، من صاع تمره - حتى قال- :ولو بشق تمرة « . قال:فجاء رجل من الأنصار بصُرة كادت كفه تَعجز عنها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه كأنه مُذْهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: » مَن سَنَّ في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن يَنقُص من أجورهم شيء، ومن سَنَّ في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وِزْرُها ووزر من عمل بها، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء « .»

انفرد بإخراجه مسلم من حديث شعبه، بإسناد مثله .

فقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ) أمر بتقواه، وهي تشمل فعل ما به أمر، وترك ما عنه زجر.

وقوله: ( وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ) أي:حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وانظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم، ( وَاتَّقُوا اللَّهَ ) تأكيد ثان، ( إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) أي:اعلموا أنه عالم بجميع أعمالكم وأحوالكم لا تخفى عليه منكم خافية، ولا يغيب عنه من أموركم جليل ولا حقير.

وقال ( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ) أي:لا تنسوا ذكر الله فينسيكم العمل لمصالح أنفسكم التي تنفعكم في معادكم، فإن الجزاء من جنس العمل؛ ولهذا قال: ( أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) أي:الخارجون عن طاعة الله، الهالكون يوم القيامة، الخاسرون يوم معادهم، كما قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [ المنافقون:9 ] .

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني:حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة الحوطي، حدثنا [ أبو ] المغيرة، حدثنا حَريز بن عثمان، عن نعيم بن نَمحة قال:كان في خطبة أبي بكر الصديق، رضي الله عنه:أما تعلمون أنكم تغدون وتروحون لأجل معلوم؟ فمن استطاع أن يقضي الأجل وهو في عمل الله، عز وجل، فليفعل، ولن تنالوا ذلك إلا بالله، عز وجل. إن قومًا جعلوا آجالهم لغيرهم، فنهاكم الله تكونوا أمثالهم: ( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ) أين من تعرفون من إخوانكم؟ قدموا على ما قدموا في أيام سلفهم، وخلوا بالشقوة والسعادة، أين الجبارون الأولون الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط؟ قد صاروا تحت الصخر والآبار، هذا كتاب الله لا تفنى عجائبه فاستضيئوا منه ليوم ظلمة، [ وائتضحوا بسنائه وبيانه ] إن الله أثنى على زكريا وأهل بيته فقال: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [ الأنبياء:90 ] ، لا خير في قول لا يراد به وجه الله، ولا خير في مال لا ينفق في سبيل الله، ولا خير فيمن يغلب جهله حلمه، ولا خير فيمن يخاف في الله لومة لائم .

هذا إسناد جيد، ورجاله كلهم ثقات، وشيخ حَريز بن عثمان، وهو نعيم بن نمحة، لا أعرفه بنفي ولا إثبات، غير أن أبا داود السجستاني قد حكم بأن شيوخ حَريز كلهم ثقات. وقد روي لهذه الخطبة شواهد من وجوه أخر، والله أعلم.

وقوله: ( لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ) أي لا يستوي هؤلاء وهؤلاء في حكم الله يوم القيامة، كما قال: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [ الجاثية:21 ] ، وقال وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ الآية [ غافر:58 ] . قال: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ ص:28 ] ؟ في آيات أخر دالات على أن الله، سبحانه، يكرم الأبرار، ويهين الفجار؛ ولهذا قال هاهنا: ( أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ) أي:الناجون المسلمون من عذاب الله، عز وجل.

لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ( 21 ) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ( 22 ) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 23 ) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 24 )

يقول تعالى معظمًا لأمر القرآن، ومبينا علو قدره، وأنه ينبغي وأن تخشع له القلوب، وتتصدع عند سماعه لما فيه من الوعد والوعيد الأكيد: ( لَوْ أَنـزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ) أي:فإن كان الجبل في غلظته وقساوته، لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه، لخشع وتصدع من خوف الله، عز وجل، فكيف يليق بكم أيها البشر ألا تلين قلوبكم وتخشع، وتتصدع من خشية الله، وقد فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه؟ ولهذا قال تعالى: ( وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) .

قال العوفي:عن ابن عباس في قوله: ( لَوْ أَنـزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ [ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا ] ) إلى آخرها، يقول:لو أني أنـزلت هذا القرآن على جبل حَمّلته إياه، لتصدع وخشع من ثقله، ومن خشية الله. فأمر الله الناس إذا نـزل عليهم القرآنُ أن يأخذوه بالخشية الشديدة والتخشع. ثم قال:كذلك يضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتفكرون. وكذا قال قتادة، وابن جرير.

وقد ثبت في الحديث المتواتر:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عمل له المنبر، وقد كان يوم الخطبة يقف إلى جانب جذع من جذوع المسجد، فلما وضع المنبر أول ما وضع، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليخطب فجاوز الجذع إلى نحو المنبر، فعند ذلك حَنّ الجذع وجعل يئن كما يئن الصبي الذي يُسَكَّن ، لما كان يُسمَع من الذكر والوحي عنده. ففي بعض روايات هذا الحديث قال الحسن البصري بعد إيراده: « فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجذع » . وهكذا هذه الآية الكريمة، إذا كانت الجبال الصم لو سمعت كلام الله وفهمته، لخشعت وتصدعت من خشيته فكيف بكم وقد سمعتم وفهمتم؟ وقد قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى الآية [ الرعد:31 ] . وقد تقدم أن معنى ذلك:أي لكان هذا القرآن. وقال تعالى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [ البقرة:74 ] .

ثم قال تعالى: ( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) أخبر تعالى أنه الذي لا إله إلا هو فلا رب غيره، ولا إله للوجود سواه، وكل ما يعبد من دونه فباطل، وأنه عالم الغيب والشهادة، أي:يعلم جميع الكائنات المشاهدات لنا والغائبات عنا فلا يخفى عليه شيء في الأرض، ولا في السماء من جليل وحقير وصغير وكبير، حتى الذر في الظلمات.

وقوله: ( هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) قد تقدم الكلام على ذلك في أول التفسير، بما أغنى عن إعادته هاهنا. والمراد أنه ذو الرحمة الواسعة الشاملة لجميع المخلوقات، فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، وقد قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [ الأعراف:156 ] ، وقال كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [ الأنعام:54 ] ، وقال قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [ يونس:58 ] .

وقوله ( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ ) أي:المالك لجميع الأشياء المتصرف فيها بلا ممانعة ولا مدافعة.

وقوله: ( الْقُدُّوسُ ) قال وهب بن منبه:أي الطاهر. وقال مجاهد، وقتادة:أي المبارك:وقال ابن جريج:تقدسه الملائكة الكرام.

( السَّلامُ ) أي:من جميع العيوب والنقائص؛ بكماله في ذاته وصفاته وأفعاله.

وقوله: ( الْمُؤْمِنُ ) قال الضحاك، عن ابن عباس: [ أي ] أمن خلقه من أن يظلمهم. وقال قتادة:أمَّن بقوله:إنه حق. وقال ابن زيد:صَدّق عبادَه المؤمنين في أيمانهم به.

وقوله: ( الْمُهَيْمِنُ ) قال ابن عباس وغير واحد:أي الشاهد على خلقه بأعمالهم، بمعنى:هو رقيب عليهم، كقوله: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [ البروج:9 ] ، وقوله ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ [ يونس:46 ] .

وقوله: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ الآية [ الرعد:33 ] .

وقوله: ( الْعَزِيزُ ) أي:الذي قد عزّ كل شيء فقهره، وغلب الأشياء فلا ينال جنابه؛ لعزته وعظمته وجبروته وكبريائه؛ ولهذا قال: ( الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ) أي:الذي لا تليق الجَبْريّة إلا له، ولا التكبر إلا لعظمته، كما تقدم في الصحيح: « العَظَمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدًا منهما عَذَّبته » .

وقال قتادة:الجبار:الذي جَبَر خلقه على ما يشاء.

وقال ابن جرير:الجبار:المصلحُ أمورَ خلقه، المتصرف فيهم بما فيه صلاحهم.

وقال قتادة:المتكبر:يعني عن كل سوء.

ثم قال: ( سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

وقوله: ( هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ) الخلق:التقدير، والبَراء:هو الفري، وهو التنفيذ وإبراز ما قدره وقرره إلى الوجود، وليس كل من قدر شيئًا ورتبه يقدر على تنفيذه وإيجاده سوى الله، عز وجل. قال الشاعر يمدح آخر

ولأنـــت تَفــري مــا خَــلَقت وبعـضُ القـوم يَخـلُق ثـم لا يَفْري

أي:أنت تنفذ ما خلقت، أي:قدرت، بخلاف غيرك فإنه لا يستطيع ما يريد. فالخلق:التقدير. والفري:التنفيذ. ومنه يقال:قدر الجلاد ثم فَرَى، أي:قطع على ما قدره بحسب ما يريده.

وقوله تعالى: ( الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ) أي:الذي إذا أراد شيئًا قال له:كن، فيكون على الصفة التي يريد، والصورة التي يختار. كقوله: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [ الانفطار:8 ] ولهذا قال: ( الْمُصَوِّرُ ) أي:الذي ينفذ ما يريد إيجاده على الصفة التي يريدها.

وقوله: ( لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى ) قد تقدم الكلام على ذلك في « سورة الأعراف » ، وذكر الحديث المروي في الصحيحين عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن لله تعالى تسعة وتسعين اسمًا، مائة إلا واحدًا، من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر » . وتقدم سياق الترمذي وابن ماجة له، عن أبي هريرة أيضا، وزاد بعد قوله: « وهو وتر يحب الوتر » - واللفظ للترمذي- : « هو الله الذي لا إله إلا هو، الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الولي، المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرءوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور » .

وسياق ابن ماجة بزيادة ونقصان، وتقديم وتأخير، وقد قدمنا ذلك مبسوطًا مطولا بطرقه وألفاظه بما أغنى عن إعادته هنا .

وقوله: ( يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) كقوله تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [ الإسراء:44 ] .

وقوله: ( وَهُوَ الْعَزِيزُ ) أي:فلا يرام جَنَابه ( الحَكِيمُ ) في شرعه وقدره. وقد قال الإمام أحمد:

حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا خالد - يعني:ابن طَهْمَان، أبو العلاء الخَفَّاف- حدثنا نافع ابن أبي نافع، عن مَعقِل بن يسار، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من قال حين يصبح ثلاث مرات:أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر، وَكَّل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، وإن مات في ذلك اليوم مات شهيدًا، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنـزلة » .

ورواه الترمذي عن محمود بن غَيْلان، عن أبي أحمد الزبيري، به ، وقال:غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

 

تفسير سورة الممتحنة

 

وهي مدنية.

بسم الله الرحمن الرحيم

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ( 1 ) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ( 2 ) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 3 )

كان سبب نـزول صدر هذه السورة الكريمة قصة حاطب بن أبي بلتعة، وذلك أن حاطبًا هذا كان رجلا من المهاجرين، وكان من أهل بدر أيضًا، وكان له بمكة أولاد ومال ، ولم يكن من قريش أنفسهم، بل كان حليفًا لعثمان. فلما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة لما نقض أهلها العهد، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالتجهيز لغزوهم، وقال: « اللهم، عَمِّ عليهم خبرنا » . فعمد حاطب هذا فكتب كتابًا، وبعثه مع امرأة من قريش إلى أهل مكة، يعلمهم بما عزم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم [ من غزوهم ] ، ليتخذ بذلك عندهم يدًا، فأطلع الله رسوله على ذلك استجابة لدعائه. فبعث في أثر المرأة فأخذ الكتاب منها، وهذا بين في هذا الحديث المتفق على صحته. قال الإمام أحمد:

حدثنا سفيان، عن عَمْرو، أخبرني حَسَن بن محمد بن علي، أخبرني عُبَيد الله بن أبي رافع - وقال مرة:إن عبيد الله بن أبي رافع أخبره:أنه سمع عليًا، رضي الله عنه، يقول:بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد، فقال: « انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظَعِينة معها كتاب، فخذوه منها » . فانطلقنا تَعَادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، قلنا:أخرجي الكتاب. قالت:ما معي كتاب. قلنا:لتخرجن الكتاب أو لنُلقين الثياب. قال:فأخرجت الكتاب من عِقَاصها، فأخذنا الكتاب فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه:من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين بمكة، يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا حاطب، ما هذا؟ » . قال:لا تعجل علي، إني كنت امرأ مُلصَقًا في قريش، ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم بمكة، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يدًا يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفرًا ولا ارتدادًا عن ديني ولا رضى بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنه صَدَقكم » . فقال عمر:دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال: « إنه قد شهد بدرًا، ما يدريك لَعَلّ الله اطلع إلى أهل بدر فقال:اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم » .

وهكذا أخرجه الجماعة إلا ابن ماجه، من غير وجه، عن سفيان بن عُيَينة، به . وزاد البخاري في كتاب « المغازي » :فأنـزل الله السورة: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ) . وقال في كتاب التفسير:قال عمرو:ونـزلت فيه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ) قال : « لا أدري الآية في الحديث أو قال عمرو » . قال البخاري:قال علي - يعني:ابن المديني- :قيل لسفيان في هذا:نـزلت ( لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ) ؟ فقال سفيان:هذا في حديث الناس، حفظته من عمرو، ما تركت منه حرفًا، وما أرى أحدًا حفظه غيري .

وقد أخرجاه في الصحيحين من حديث حُصَين بن عبد الرحمن، عن سعد بن عُبَيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي قال:بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مَرْثَد، والزبير بن العوام، وكلنا فارس، وقال:انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب إلى المشركين:فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا:الكتابُ؟ فقالت:ما معي كتاب. فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتابًا، فقلنا:ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم! لتخرجن الكتاب أو لنُجردنك. فلما رأت الجد أهوت إلى حُجْزتها وهي مُحتَجِزة بكساء فأخرجته. فانطلقنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر:يا رسول الله، قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فَدعني فلأضْرِب عنقه. فقال: « ما حملك على ما صنعت؟ » . قال:والله ما بي إلا أن أكون مؤمنًا بالله ورسوله، أردت أن تكون لي عند القوم يَدٌ يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هنالك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله. فقال: « صدق، لا تقولوا له إلا خيرًا » . فقال عمر:إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه. فقال: « أليس من أهل بدر؟ » فقال: « لعل الله قد اطلع إلى أهل بدر فقال:اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة - أو: قد غفرت لكم » . فدَمِعت عينا عُمر، وقال:الله ورسوله أعلم .

هذا لفظ البخاري في « المغازي » في غزوة بدر، وقد روي من وجه آخر عن علي قال ابن أبي حاتم:

حدثنا علي بن الحسن الهِسْنجَاني، حدثنا عبيد بن يعيش، حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي، عن أبي سِنان - هو سعيد بن سنان- عن عمرو بن مُرة الجَمَلي، عن أبي البختري الطائي ، عن الحارث، عن علي قال:لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي مكة، أسرّ إلى أناس من أصحابه أنه يريد مكة، فيهم حاطب بن أبي بلتعة وأفشى في الناس أنه يريد خيبر. قال:فكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم. فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مَرْثد، وليس منا رجل إلا وعنده فرس، فقال: « ائِتوا روضة خاخ، فإنكم ستلقون بها امرأة معها كتاب، فخذوه منها » . فانطلقنا حتى رأيناها بالمكان الذي ذَكَر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلنا لها:هات الكتاب. فقالت:ما معي كتاب. فوضعنا متاعها وفتشناها فلم نجده في متاعها، فقال أبو مرثد:لعله ألا يكون معها. فقلت:ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا . فقلنا لها:لتخرجِنَّه أو لنُعرينَّك. فقالت:أما تتقون الله؟! ألستم مسلمين؟ فقلنا:لتخرجنه أو لنعرينَّك. قال عمرو بن مرة:فأخرجته من حُجُزَتها. وقال حبيب بن أبي ثابت:أخرجته من قُبُلها. فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا الكتاب من حاطب بن أبي بلتعة. فقام عمر فقال:يا رسول الله، خان الله ورسوله، فائذن لي فلأضرب عنقه. فقال رسول الله: « أليس قد شهد بدرًا؟ » . قالوا:بلى. وقال عمر:بلى، ولكنه قد نكث وظاهر أعداءك عليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « فلعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال:اعملوا ما شئتم، إني بما تعملون بصير » . ففاضت عينا عمر وقال:الله ورسوله أعلم. فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حاطب فقال: « يا حاطب، ما حملك على ما صنعت؟ » . فقال:يا رسول الله، إني كنت امرأ مُلصَقًا في قريش، وكان لي بها مال وأهل، ولم يكن من أصحابك أحد إلا وله بمكة من يمنع أهله وماله، فكتبت إليهم بذلك ووالله- يا رسول الله- إني لمؤمن بالله ورسوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « صدق حاطب، فلا تقولوا لحاطب إلا خيرًا » . قال حبيب بن أبي ثابت:فأنـزل الله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ) الآية.

وهكذا رواه ابن جرير عن ابن حميد عن مِهْران، عن أبي سنان - سعيد بن سنان- بإسناده مثله . وقد ذكر ذلك أصحاب المغازي والسير، فقال محمد بن إسحَاق بن يَسَار في السيرة.

حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عُرْوَة بن الزبير وغيره من علمائنا قال:لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابًا إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر في السير إليهم، ثم أعطاه امرأة - زعم محمد بن جعفر أنها من مزينة، وزعم غيره أنها:سارة، مولاة لبني عبد المطلب- وجعل لها جُعلا على أن تبلغه قُريشًا فجعلته في رأسها، ثم فتلت عليه قرونها، ثم خرجت به. وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبرُ من السماء بما صنع حاطب، فبعث عليّ بن أبي طالب والزبير بن العوام فقال: « أدركا امرأة قد كتب معها حاطب بكتاب إلى قريش، يحذرهم ما قد أجمعنا له من أمرهم » .

فخرجا حتى أدركاها بالخُلَيفْة - خليفة بني أبي أحمد- فاستنـزلاها بالخليفة، فالتمسا في رحلها فلم يجدا شيئًا، فقال لها علي بن أبي طالب:إني أحلف بالله ما كذب رسول الله وما كذبنا ولتُخرجِنَّ لنا هذا الكتاب أو لنكشفنَّك. فلما رأت الجِدّ منه قالت:أعرض. فأعرض، فحلت قُرون رأسها، فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليه. فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا رسول الله حاطبًا فقال: « يا حاطب ما حملك على هذا؟ » . فقال:يا رسول الله، أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله ما غَيَّرت ولا بَدّلت، ولكني كنت امرأ ليس لي في القوم من أهل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم وَلَد وأهل فصانعتهم عليهم فقال عمر بن الخطاب:يا رسول الله، دعني فَلأضرب عنقه، فإن الرجل قد نافق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « وما يدريك يا عمر! لعل الله قد اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر فقال:اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم » . فأنـزل الله، عز وجل، في حاطب: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ) إلى قوله: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [ الممتحنة:4 ] إلى آخر القصة .

وروى مَعْمَر، عن الزهري، عن عُرْوَة نحو ذلك. وهكذا ذكر مقاتل بن حيان:أن هذه الآيات نـزلت في حاطب بن أبي بلتعة:أنه بعث سارة مولاة بني هاشم، وأنه أعطاها عشرة دراهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث في أثرها عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، رضي الله عنهما، فأدركاها بالجحفة... وذكر تمام القصة كنحو ما تقدم. وعن السدي قريبا منه. وهكذا قال العوفي، عن ابن عباس، ومجاهد وقتادة، وغير واحد:أن هذه الآيات نـزلت في حاطب بن أبي بلتعة.

فقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ ) يعني:المشركين والكفار الذين هم محاربون لله ولرسوله وللمؤمنين، الذين شرع الله عداوتهم ومصارمتهم، ونهى أن يتخذوا أولياء وأصدقاء وأخلاء، كما قال يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [ المائدة:51 ] . وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [ المائدة:57 ] وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا [ النساء:144 ] . وقال تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [ آل عمران:28 ] ؛ ولهذا قَبِل رسول الله صلى الله عليه وسلم عُذْرَ حاطب لما ذكر أنه إنما فعل ذلك مصانعة لقريش، لأجل ما كان له عندهم من الأموال والأولاد.

ويذكر هاهنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد:

حدثنا مصعب بن سلام، حدثنا الأجلح، عن قيس بن أبي مسلم، عن ربعي بن حرّاش، سمعت حُذيفة يقول:ضَرَب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمثالا واحدًا وثلاثة وخمسة وسبعة، وتسعة، وأحد عشر - قال:فضرب لنا منها مثلا وترك سائرها، قال: « إن قومًا كانوا أهل ضعف ومسكنة، قاتلهم أهل تجبر وعداء، فأظهر الله أهل الضعف عليهم، فَعَمَدوا إلى عَدُوهم فاستعملوهم وسلّطوهم، فأسخطوا الله عليهم إلى يوم يلقونه » .

وقوله: ( يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ) هذا مع ما قبله من التهييج على عداوتهم وعدم موالاتهم؛ لأنهم أخرجوا الرسول وأصحابه من بين أظهرهم، كراهة لما هم عليه من التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده؛ ولهذا قال: ( أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ ) أي:لم يكن لكم عندهم ذنب إلا إيمانكم بالله رب العالمين، كقوله: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [ البروج:8 ] ، وكقوله الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ [ الحج:40 ] .

وقوله: ( إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ) أي:إن كنتم كذلك فلا تتخذوهم أولياء، إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي باغين لمرضاتي عنكم فلا توالوا أعدائي وأعداءكم، وقد أخرجوكم من دياركم وأموالكم حنقًا عليكم وسخطًا لدينكم.

وقوله: ( تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ ) أي:تفعلون ذلك وأنا العالم بالسرائر والضمائر والظواهر ( وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ ) أي:لو قدروا عليكم لما اتقوا فيكم من أذى ينالونكم به بالمقال والفعال. ( وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ) أي:ويحرصون على ألا تنالوا خيرًا، فهم عداوتهم لكم كامنة وظاهرة، فكيف توالون مثل هؤلاء؟ وهذا تهييج على عداوتهم أيضًا.

وقوله: ( لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) أي:قراباتكم لا تنفعكم عند الله إذا أراد الله بكم سوءًا، ونفعهم لا يصل إليكم إذا أرضيتموهم بما يسخط الله، ومن وافق أهله على الكفر ليرضيهم فقد خاب وخَسِر وضَلّ عمله، ولا ينفعه عند الله قرابته من أحد، ولو كان قريبًا إلى نبي من الأنبياء. قال الإمام أحمد:

حدثنا عفان، حدثنا حماد، عن ثابت، عن أنس، أن رجلا قال:يا رسول الله:أين أبي؟ قال: « في النار » فلما قَفَّى دعاه فقال: « إن أبي وأباك في النار » .

ورواه مسلم وأبو داود، من حديث حماد بن سلمة، به .

قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ( 4 ) رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 5 )

يقول تعالى لعباده المؤمنين الذين أمرهم بمصارمة الكافرين وعداوتهم ومجانبتهم والتبري منهم: ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ) أي:وأتباعه الذين آمنوا معه ( إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ ) أي:تبرأنا منكم ( وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ ) أي:بدينكم وطريقكم، ( وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا ) يعني:وقد شُرعت العداوة والبغضاء من الآن بيننا وبينكم، ما دمتم على كفركم فنحن أبدًا نتبرأ منكم ونبغضكم ( حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ) أي:إلى أن تُوحدوا الله فتعبدوه وحده لا شريك له، وتخلعوا ما تعبدون معه من الأنداد والأوثان.

وقوله: ( إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ) أي:لكم في إبراهيم وقومه أسوة حسنة تتأسون بها، إلا في استغفار إبراهيم لأبيه، فإنه إنما كان عن مَوعِدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه. وذلك أن بعض المؤمنين كانوا يَدعون لآبائهم الذين ماتوا على الشرك ويستغفرون لهم، ويقولون:إن إبراهيم كان يستغفر لأبيه، فأنـزل الله، عز وجل: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [ التوبة:113 - 114 ] . وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ) إلى قوله: ( إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ) أي: ليس لكم في ذلك أسوة، أي:في الاستغفار للمشركين، هكذا قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، ومقاتل، والضحاك وغير واحد.

ثم قال تعالى مخبرًا عن قول إبراهيم والذين معه، حين فارقوا قومهم وتبرءوا منهم، فلجئوا إلى الله وتضرّعوا إليه فقالوا: ( رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) أي:توكلنا عليك في جميع الأمور، وسَلَّمنا أمورَنا إليك، وفوضناها إليك ( وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) أي:المعاد في الدار الآخرة.

( رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) قال مجاهد:معناه:لا تعذبنا بأيديهم، ولا بعذاب من عندك، فيقولوا:لو كان هؤلاء على حق ما أصابهم هذا. وكذا قال الضحاك.

وقال قتادة لا تُظْهِرهم علينا فيفتتنوا بذلك، يرون أنهم إنما ظهروا علينا لحق هم عليه. واختاره ابن جرير .

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:لا تسلطهم علينا فيفتنونا.

وقوله: ( وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) أي:واستر ذنوبنا عن غيرك، واعف عنها فيما بيننا وبينك، ( إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) أي:الذي لا يُضَام من لاذ بجنابك ( الْحَكِيم ) في أقوالك وأفعالك وشرعك وقدرك.

 

لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ( 6 )

ثم قال تعالى: ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ ) وهذا تأكيد لما تقدم ومستثنى منه ما تقدم أيضًا لأن هذه الأسوة المثبتة هاهنا هي الأولى بعينها.

وقوله: ( لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ ) تهييج إلى ذلك كل مقر بالله والمعاد.

وقوله: ( وَمَنْ يَتَوَلَّ ) أي:عما أمر الله به، ( فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) كقوله إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [ إبراهيم:8 ] .

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: ( الْغَنِيُّ ) الذي [ قد ] كمل في غناه، وهو الله، هذه صفته لا تنبغي إلا له، ليس له كفء، وليس كمثله شيء، سبحان الله الواحد القهار. ( الْحَمِيدُ ) المستحمد إلى خلقه، أي:هو المحمود في جميع أفعاله وأقواله، لا إله غيره، ولا رب سواه.

عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 7 ) لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( 8 ) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( 9 )

يقول تعالى لعباده المؤمنين بعد أن أمرهم بعداوة الكافرين: ( عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً ) أي:محبة بعد البِغْضَة، ومودة بعد النَّفرة، وألفة بعد الفرقة. ( وَاللَّهُ قَدِيرٌ ) أي:على ما يشاء من الجمع بين الأشياء المتنافرة والمتباينة والمختلفة، فيؤلف بين القلوب بعد العداوة والقساوة، فتصبح مجتمعة متفقة، كما قال تعالى ممتنًا على الأنصار: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا الآية [ آل عمران:103 ] . وكذا قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: « ألم أجِدْكُم ضُلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألَّفَكُم الله بي؟ » . وقال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [ الأنفال:62 - 63 ] . وفي الحديث « أحبِبْ حَبيبَكَ هونًا مّا، فعسى أن يكونَ بَغيضَكَ يومًا ما. وأبغِض بغيضَك هونًا ما، فعسى أن يكون حبيبك يومًا ما » . وقال الشاعر

وَقَـد يجـمعُ اللـهُ الشـتيتين بعـد ما يَظُنــان كُــل الظــنّ ألا تَلاقَيـا

وقوله تعالى: ( وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) أي:يغفر للكافرين كفرهم إذا تابوا منه وأنابوا إلى ربهم وأسلموا له، وهو الغفور الرحيم بكل من تاب إليه، من أيّ ذنب كان.

وقد قال مقاتل بن حيان:إن هذه الآية نـزلت في أبي سفيان، صخر بن حرب، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ابنته فكانت هذه مودة ما بينه وبينه.

وفي هذا الذي قاله مقاتل نظر؛ فإن رسول تزوج بأم حبيبة بنت أبي سفيان قبل الفتح، وأبو سفيان إنما أسلم ليلة الفتح بلا خلاف. وأحسن من هذا ما رواه بن أبي حاتم حيث قال:

قُرئ على محمد بن عَزيز:حدثني سلامة، حدثني عقيل، حدثني ابن شهاب؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل أبا سفيان بن حرب على بعض اليمن، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل فلقي ذا الخمار مرتدًا، فقاتله، فكان أول من قاتل في الردة وجاهد عن الدين. قال ابن شهاب:وهو ممن أنـزل الله فيه: ( عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

وفي صحيح مسلم، عن ابن عباس:أن أبا سفيان قال:يا رسول الله، ثلاث أعطنيهنّ. قال: « نعم » . قال:وتؤمّرني أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين. قال: « نعم » . قال:ومعاوية تجعله كاتبًا بين يديك. قال: « نعم » . قال:وعندي أحسن العرب وأجمله، أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها... الحديث. وقد تقدم الكلام عليه .

وقوله تعالى: ( لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ) أي لا ينهاكم عن الإحسان إلى الكفرة الذين لا يقاتلونكم في الدين، كالنساء والضعفة منهم، ( أَنْ تَبَرُّوهُمْ ) أي:تحسنوا إليهم ( وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ) أي:تعدلوا ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) .

قال الإمام أحمد:حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء - هي بنت أبي بكر، رضي الله عنهما- قالت:قَدَمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا، فأتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فقلت:يا رسول الله، إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: « نعم، صلي أمك » أخرجاه .

وقال الإمام أحمد:حدثنا عارم، حدثنا عبد الله بن المبارك، حدثنا مصعب بن ثابت، حدثنا عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه قال:قدمت قُتَيلة على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا:صِنَاب وأقط وسمن، وهي مشركة، فأبت أسماء أن تقبل هديتها تدخلها بيتها، فسألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم، فأنـزل الله، عز وجل: ( لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ) إلى آخر الآية، فأمرها أن تقبل هديتها، وأن تدخلها بيتها.

وهكذا رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، من حديث مصعب بن ثابت، به . وفي رواية لأحمد وابن جرير: « قُتَيلة بنت عبد العزي بن [ عبد ] أسعد، من بني مالك بن حسل . وزاد ابن أبي حاتم: » في المدة التي كانت بين قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم « .»

وقال أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار:حدثنا عبد الله بن شبيب، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو قتادة العدوي، عن ابن أخي الزهري، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة وأسماء أنهما قالتا:قدمت علينا أمنا المدينة، وهي مشركة، في الهدنة التي كانت بين قريش وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا:يا رسول الله، إن أمنا قدمت علينا المدينة راغبةً، أفنصلها؟ قال: « نعم، فَصِلاها » .

ثم قال:وهذا الحديث لا نعلمه يروي عن الزهري، عن عروة، عن عائشة إلا من هذا الوجه.

قلت:وهو منكر بهذا السياق؛ لأن أم عائشة هي أم رومان، وكانت مسلمة مهاجرة وأم أسماء غيرها، كما هو مصرح باسمها في هذه الأحاديث المتقدمة والله أعلم.

وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) تقدم تفسير ذلك في سورة « الحجرات » ، وأورد الحديث الصحيح: « المقسطون على منابر من نور عن يمين العرش، الذين يعدلون في حكمهم، وأهاليهم، وما وَلُوا » .

وقوله: ( إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ ) أي:إنما ينهاكم عن موالاة هؤلاء الذين ناصبوكم العداوة، فقاتلوكم وأخرجوكم، وعاونوا على إخراجكم، ينهاكم الله عن موالاتهم ويأمركم بمعاداتهم. ثم أكد الوعيد على موالاتهم فقال: ( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) كقوله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [ المائدة:51 ] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 10 ) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ( 11 )

تقدم في سورة « الفتح » ذكر صلح الحديبية الذي وقع بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش، فكان فيه: « على ألا يأتيك منا رجل - وإن كان على دينك- إلا رددته إلينا » . وفي رواية: « على أنه لا يأتيك منا أحد - وإن كان على دينك- إلا رددته إلينا » . وهذا قول عروة، والضحاك، وعبد الرحمن بن زيد، والزهري، ومقاتل، والسدي. فعلى هذه الرواية تكون هذه الآية مخصصة للسنة، وهذا من أحسن أمثلة ذلك، وعلى طريقة بعض السلف ناسخة، فإن الله، عز وجل، أمر عباده المؤمنين إذا جاءهم النساء مهاجرات أن يمتحنوهن، فإن عَلِموهن مؤمنات فلا يرجعوهن إلى الكفار، لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن.

وقد ذكرنا في ترجمة عبد الله بن أبي أحمد بن جحش، من المسند الكبير، من طريق أبي بكر بن أبي عاصم، عن محمد بن يحيى الذهلي، عن يعقوب بن محمد، عن عبد العزيز بن عمران، عن مُجَمِّع بن يعقوب، عن حسين بن أبي لُبانة، عن عبد الله بن أبي أحمد قال:هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعَيط في الهجرة، فخرج أخواها عمارة والوليد حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلماه فيها أن يردها إليهما، فنقض الله العهد بينه وبين المشركين في النساء خاصة، ومنعهن أن يُرْدَدْنَ إلى المشركين، وأنـزل الله آية الامتحان .

قال ابن جرير:حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا يونس بن بُكَيْر، عن قيس بن الربيع، عن الأغر بن الصباح، عن خليفة عن حُصَين، عن أبي نصر الأسدي قال:سُئِل ابنُ عباس:كيف كان امتحانُ رسول الله صلى الله عليه وسلم النساءَ؟ قال:كان يمتحنهن:بالله ما خَرجت من بُغض زوج؟ وبالله ما خَرجت رَغبةً عن أرض إلى أرض؟ وبالله ما خرجت التماس دنيا؟ وبالله ما خرجت إلا حبًا لله ولرسوله؟ .

ثم رواه من وجه آخر، عن الأغر بن الصباح، به. وكذا رواه البزار من طريقه، وذكر فيه أن الذي كان يحلفهن عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم له عمر بن الخطاب .

وقال العوفي، عن ابن عباس في قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ) كان امتحانهن أن يَشهدْن أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبد الله ورسوله.

وقال مجاهد: ( فَامْتَحِنُوهُنّ ) فاسألوهن:عما جاء بهن؟ فإن كان بهن غضبٌ على أزواجهن أو سَخْطة أو غيره، ولم يؤمنّ فارجعوهن إلى أزواجهن.

وقال عكرمة:يقال لها:ما جاء بك إلا حب الله ورسوله؟ وما جاء بك عشق رجل منا، ولا فرار من زوجك؟ فذلك قوله: ( فَامْتَحِنُوهُنّ )

وقال قتادة:كانت محنتهن أن يستحلفن بالله:ما أخرجكن النشوز؟ وما أخرجكن إلا حب الإسلام وأهله وحِرص عليه؟ فإذا قلن ذلك قُبِل ذلك منهن.

وقوله: ( فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ) فيه دلالة على أن الإيمان يمكن الاطلاع عليه يقينًا.

وقوله: ( لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ) هذه الآية هي التي حَرّمَت المسلمات على المشركين، وقد كان جائزًا في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة؛ ولهذا كان أبو العاص بن الربيع زوج ابنة النبي صلى الله عليه وسلم زينب، رضي الله عنها، وقد كانت مسلمة وهو على دين قومه، فلما وقع في الأسارى يوم بدر بعثت امرأته زينب في فدائه بقلادة لها كانت لأمها خديجة، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رَقّ لها رقَّةً شَديدَةً، وقال للمسلمين: « إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها فافعلوا » . ففعلوا، فأطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يبعث ابنته إليه، فوفى له بذلك وصدقه فيما وعده، وبعثها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زيد بن حارثة، رضي الله عنه، فأقامت بالمدينة من بعد وقعة بدر، وكانت سنة اثنتين إلى أن أسلم زوجها العاص بن الربيع سنة ثمان فردها عليه بالنكاح الأول، ولم يحدث لها صداقًا، كما قال الإمام أحمد:

حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، حدثنا بن إسحاق، حدثنا داود بن الحصين، عن عكرمة عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على أبي العاص [ ابن الربيع ] وكانت هجرتها قبل إسلامه بست سنين على النكاح الأول، ولم يحدث شهادة ولا صَدَاقًا.

ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجة . ومنهم من يقول: « بعد سنتين » ، وهو صحيح؛ لأن إسلامه كان بعد تحريم المسلمات على المشركين بسنتين. وقال الترمذي: « ليس بإسناده بأس، ولا نعرف وجه هذا الحديث، ولعله جاء من حفظ داود بن الحصين. وسمعت عبد بن حميد يقول:سمعت يزيد بن هارون يذكر عن ابن إسحاق هذا الحديث، وحديث ابن الحجاج - يعني ابن أرطاة- عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ابنته على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد. فقال يزيد:حديث ابن عباس أجودُ إسنادًا والعمل على حديث عمرو بن شعيب » .

قلت:وقد رَوَي حديث الحجاج بن أرطاة، عن عمرو بن شعيب الإمامُ أحمد والترمذي وابن ماجة ، وضعفه الإمام أحمد وغير واحد، والله أعلم.

وأجاب الجمهور عن حديث ابن عباس بأن ذلك كان قضية عين يحتمل أنه لم تنقض عِدّتها منه؛ لأن الذي عليه الأكثرون أنها متى انقضت العدة ولم يسلم انفسخَ نِكاحُها منه.

وقال آخرون:بل إذا انقضت العدة هي بالخيار، إن شاءت أقامت على النكاح واستمرت، وإن شاءت فسخته وذهبت فتزوجت، وحملوا عليه حديث ابن عباس، والله أعلم.

وقوله: ( وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا ) يعني:أزواج المهاجرات من المشركين، ادفعوا إليهم الذي غرموه عليهن من الأصدقة. قاله ابن عباس، ومجاهد وقتادة، والزهري، وغير واحد.

وقوله: ( وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) يعني:إذا أعطيتموهن أصدقتهن فانكحوهن، أي:تزوجوهن بشرطه من انقضاء العدة والولي وغير ذلك.

وقوله: ( وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ) تحريم من الله، عز وجل، على عباده المؤمنين نكاح المشركات، والاستمرار معهن.

وفي الصحيح، عن الزهري، عن عروة، عن المسور ومَرْوان بن الحكم:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية جاء نساءٌ من المؤمنات، فأنـزل الله عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ [ فَامْتَحِنُوهُنَّ ] ) إلى قوله: ( وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ) فطلق عمر بن الخطاب يومئذ امرأتين، تزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان، والأخرى صفوان بن أمية .

وقال ابن ثور، عن مَعْمَر، عن الزهري:أنـزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بأسفل الحديبية، حين صالحهم على أنه من أتاه منهم رده إليهم، فلما جاءه النساء نـزلت هذه الآية، وأمره أن يرد الصداق إلى أزواجهن، وحكم على المشركين مثل ذلك إذا جاءتهم امرأة من المسلمين أن يردوا الصداق إلى زوجها، وقال: ( وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ) وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقال:وإنما حكم الله بينهم بذلك، لأجل ما كان بينهم وبينهم من العهد.

وقال محمد بن إسحاق، عن الزهري:طلق عمر يومئذ قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة، فتزوجها معاوية، وأم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية، وهي أم عُبَيد الله، فتزوجها أبو جهم ابن حذيفة بن غانم، رجل من قومه، وهما على شركهما، وطلق طلحةُ بن عبيد الله أروى بنتَ ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، فتزوجها بعده خالد بن سعيد بن العاص .

وقوله: ( وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ) أي:وطالبوا بما أنفقتم على أزواجكم اللاتي يذهبن إلى الكفار، إن ذهبن، وليطالبوا بما أنفقوا على أزواجهم اللاتي هاجرن إلى المسلمين.

وقوله: ( ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ) أي:في الصلح واستثناء النساء منه، والأمر بهذا كله هو حكم الله يحكم به بين خلقه: ( وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) أي عليم بما يصلح عباده حكيم في ذلك.

ثم قال: ( وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا ) قال مجاهد، وقتادة:هذا في الكفار الذين ليس لهم عهد، إذا فرت إليهم امرأة ولم يدفعوا إلى زوجها شيئًا، فإذا جاءت منهم امرأة لا يدفع إلى زوجها شيء، حتى يدفع إلى زوج الذاهبة إليهم مثل نفقته عليها.

وقال ابن جرير:حدثنا يونس، حدثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن الزهري قال:أقر المؤمنون بحكم الله، فأدوا ما أمروا به من نفقات المشركين التي أنفقوا على نسائهم، وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله فيما فرض عليهم من أداء نفقات المسلمين، فقال الله للمؤمنين به: ( وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ) فلو أنها ذهبت بعد هذه الآية امرأةٌ من أزواج المؤمنين إلى المشركين، رَدّ المؤمنون إلى زوجها النفقة التي أنفق عليها من العَقب الذي بأيديهم، الذي أمروا أن يردوه على المشركين من نفقاتهم التي أنفقوا على أزواجهم اللاتي آمن وهاجرنَ، ثم ردوا إلى المشركين فضلا إن كان بقي لهم. والعقب:ما كان [ بأيدي المؤمنين ] من صداق نساء الكفار حين آمنّ وهاجرن .

وقال العوفي، عن ابن عباس في هذه الآية:يعني إن لحقت امرأة رجل من المهاجرين بالكفار، أمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يعطى من الغنيمة مثل ما أنفق.

وهكذا قال مجاهد: ( فَعَاقَبْتُم ) أصبتم غنيمة من قريش أو غيرهم ( فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا ) يعني:مهر مثلها. وهكذا قال مسروق، وإبراهيم، وقتادة، ومقاتل، والضحاك، وسفيان بن حسين، والزهري أيضًا.

وهذا لا ينافي الأول؛ لأنه إن أمكن الأول فهو أولى، وإلا فمن الغنائم اللاتي تؤخذ من أيدي الكفار. وهذا أوسع، وهو اختيار ابن جرير، ولله الحمد والمنة

 

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 12 )

قال البخاري:حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن أخي ابن شهاب، عن عمه قال:أخبرني عروة أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أخبرته:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ ) إلى قوله: ( غَفُورٌ رَحِيمٌ ) قال عروة:قالت عائشة:فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: « قد بايعتك » ، كلامًا، ولا والله ما مست يده يد امرأة قَطّ في المبايعة، ما يبايعهن إلا بقوله: « قد بايعتك على ذلك » هذا لفظ البخاري .

وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، عن محمد بن المُنْكَدِر، عن أميمة بنت رُقَيقة قالت:أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نساء لنبايعه، فأخذ علينا ما في القرآن: ( أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا ) الآية، وقال: « فيما استطعتن وأطقتن » ، قلنا:الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، قلنا:يا رسول الله، ألا تصافحنا؟ قال « إني لا أصافح النساء، إنما قولي لامرأة واحدة كقولي لمائة امرأة » .

هذا إسناد صحيح، وقد رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة، من حديث سفيان بن عيينة - والنسائي أيضًا من حديث الثوري- ومالك بن أنس كلهم، عن محمد بن المنكدر، به . وقال الترمذي:حسن صحيح، لا نعرفه إلا من حديث محمد بن المنكدر.

وقد رواه أحمد أيضا من حديث محمد بن إسحاق، عن محمد بن المنكدر، عن أميمة، به. وزاد: « ولم يصافح منا امرأة » . وكذا رواه ابن جرير من طريق موسى بن عقبة، عن محمد بن المنكدر، به . ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي جعفر الرازي، عن محمد بن المنكدر:حدثتني أميمة بنت رقيقة - وكانت أخت خديجة خالة فاطمة، من فيها إلى في، فذكره.

وقال الإمام أحمد:حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني سليط بن أيوب بن الحكم بن سُلَيم، عن أمه سلمى بنت قيس - وكانت إحدى خالات رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلت معه القبلتين، وكانت إحدى نساء بني عدي بن النجار- قالت:جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم نبايعه في نسوة من الأنصار، فلما شرط علينا:ألا نشرك بالله شيئًا، ولا نسرق، ولا نـزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف - قال: « ولا تغشُشْن أزواجكن » . قالت:فبايعناه، ثم انصرفنا، فقلت لامرأة منهن:ارجعي فسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم:ما غش أزواجنا؟ قال:فسألته فقال: « تأخذ ماله، فتحابي به غيره » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا إبراهيم بن أبي العباس، حدثنا عبد الرحمن بن عثمان بن إبراهيم بن محمد بن حاطب، حدثني أبي، عن أمه عائشة بنت قُدَامة - يعني:ابن مظعون- قالت:أنا مع أمي رائطة بنت سفيان الخزاعية، والنبي صلى الله عليه وسلم يبايع النسوة ويقول: « أبايعكنّ على أن لا تشركن بالله شيئًا، ولا تسرقن، ولا تزنين، ولا تقتلن أولادكن، ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن، ولا تعصينني في معروف » . [ قالت:فأطرقن. فقال لهن النبي صلى الله عليه وسلم ] قُلن:نعم فيما استطعتن « . فَكُنّ يقلن وأقول معهن، وأمي تُلقّني:قولي أي بنية، نعم [ فيما استطعتُ ] . فكنت أقول كما يقلن »

وقال البخاري:حدثنا أبو مَعْمَر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا أيوب، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية قالت:بَايَعْنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ علينا: ( أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا ) ونهانا عن النياحة، فقبضت امرأة يدها، قالت:أسعدتني فلانة أريد أن أجزيها. فما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فانطلقت ورجعت فبايعها.

ورواه مسلم . وفي رواية: « فما وفى منهن امرأة غيرها، وغير أم سليم ابنة ملحان » .

وللبخاري عن أم عطية قالت:أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند البيعة ألا ننوح، فما وَفّت منا امرأة غير خمس نسوة:أم سليم، وأم العلاء، وابنة أبي سبرة امرأة معاذ، وامرأتان - أو:ابنة أبي سَبرة، وامرأة معاذ، وامرأة أخرى .

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعاهدُ النساءَ بهذه البيعة يوم العيد، كما قال البخاري:

حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حدثنا هارون بن معروف، حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرني ابن جُرَيج:أن الحسن بن مسلم أخبره، عن طاوس، عن ابن عباس قال:شهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، فكلهم يصليها قبل الخطبة ثم يخطب بَعدُ، فنـزل نبي الله صلى الله عليه وسلم، فكأني أنظر إليه حين يُجَلَّس الرجالَ بيده، ثم أقبل يَشقّهم حتى أتى النساء مع بلال فقال: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ) حتى فرغ من الآية كلها. ثم قال حين فرغ: « أنتن على ذلك؟ » . فقالت امرأة واحدة، ولم يجبه غيرها:نعم يا رسول الله - لا يدري الحسن من هي- قال: « فتصدقن » ، قال:وبسط بلال ثوبه فجعلن يلقين الفَتَخَ والخواتيم في ثوب بلال .

وقال الإمام أحمد:حدثنا خلف بن الوليد، حدثنا ابن عياش، عن سليمان بن سُليم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال:جاءت أميمة بنت رقيقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تبايعه على الإسلام، فقال: « أبايعك على ألا تشركي بالله شيئًا، ولا تسرقي، ولا تزني، ولا تقتلي ولدك، ولا تأتي ببهتان تفترينه بين يَديك ورجليك، ولا تنوحي، ولا تبرجي تبرج الجاهلية الأولى »

وقال الإمام أحمد:حدثنا سفيان، عن الزهري، عن أبي إدريس الخولاني، عن عبادة بن الصامت قال:كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال: « تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم - قرأ الآية التي أخذت على النساء ( إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ ) فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به، فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله عليه، فهو إلى الله، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه » . أخرجاه في الصحيحين .

وقال محمد ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد الله اليَزني عن أبي عبد الله عبد الرحمن بن عُسَيلة الصُّنَابجي ، عن عبادة بن الصامت قال:كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلا فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن يفرض الحرب، على ألا نشرك بالله شيئًا، ولا نسرق، ولا نـزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، وقال: « فإن وَفَيتم فلكم الجنة » رواه ابن أبي حاتم.

وقد روي ابن جرير من طريق العوفي، عن ابن عباس:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب فقال: « قل لهن:إن رسول الله يبايعكن على ألا تشركن بالله شيئًا » - وكانت هند بنت عتبة بن ربيعة التي شقت بطن حمزة مُنَكرة في النساء- فقالت: « إني إن أتكلم يعرفني، وإن عرفني قتلني » . وإنما تنكرت فرقًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسكت النسوة اللاتي مع هند، وأبين أن يتكلمن. فقالت هند وهي مُنَكَّرة:كيف تقبل من النساء شيئًا لم تقبله من الرجال؟ ففطن إليها رسول الله وقال لعمر: « قل لهن:ولا تسرقن » . قالت هند:والله إني لأصيب من أبي سفيان الهَنَات، ما أدري أيحلهن لي أم لا؟ قال أبو سفيان:ما أصبت من شيء مضى أو قد بقي، فهو لك حلال. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها، فدعاها فأخذت بيده، فعاذت به، فقال: « أنت هند؟ » . قالت:عفا الله عما سلف. فصرف عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « ولا يزنين » ، فقالت:يا رسول الله، وهل تزني الحرة؟ قال: « لا والله ما تزني الحرة » . فقال: « ولا يقتلن أولادهن » . قالت هند:أنت قتلتهم يوم بدر، فأنت وهم أبصر. قال: ( وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ) قال ( وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) قال:منعهن أن ينحن، وكان أهل الجاهلية يمزقن الثياب ويخدشن الوجوه، ويقطعن الشعور، ويدعون بالثبور. والثبور:الويل .

وهذا أثر غريب، وفي بعضه نكارة، والله أعلم؛ فإن أبا سفيان وامرأته لما أسلما لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيفهما، بل أظهر الصفاء والود له، وكذلك كان الأمر من جانبه، عليه السلام، لهما.

وقال مقاتل بن حيان:أنـزلت هذه الآية يوم الفتح، فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال على الصفا، وعمر يبايع النساء تحتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر بقيته كما تقدم وزاد:فلما قال: ( وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ ) قالت هند:ربيناهم صغارًا فقتلتموهم كبارا. فضحك عمر بن الخطاب حتى استلقى. رواه بن أبي حاتم.

وقال بن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا نصر بن علي، حدثتني عطية بنت سليمان، حدثني عمتي، عن جدتها عن عائشة قالت:جاءت هند بنت عتبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتبايعه، فنظر إلى يدها فقال: « اذهبي فغيري يدك » . فذهبت فغيرتها بحناء، ثم جاءت فقال: « أبايعك على ألا تشركي بالله شيئا » ، فبايعها وفي يدها سواران من ذهب، فقالت:ما تقول في هذين السوارين؟ فقال: « جمرتان من جمر جهنم » .

فقوله: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ ) أي:من جاءك منهن يبايع على هذه الشروط فبايعها، ( عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ ) أي:أموال الناس الأجانب، فأما إذا كان الزوج مقصرًا في نفقتها، فلها أن تأكل من ماله بالمعروف، ما جرت به عادة أمثالها، وإن كان بغير علمه، عملا بحديث هند بنت عتبة أنها قالت:يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شَحِيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني، فهل عليَّ جناح إن أخذت من ماله بغير علمه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك » . أخرجاه في الصحيحين .

وقوله: ( وَلا يَزْنِينَ ) كقوله: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا [ الإسراء:32 ] . وفي حديث سَمُرة ذكرُ عقوبة الزناة بالعذاب الأليم في نار الجحيم .

وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، عن عُرْوة، عن عائشة قالت:جاءت فاطمة بنت عتبة تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ عليها: ( أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ ) الآية، قالت:فوضعت يدها على رأسها حياء، فأعجبه ما رأى منها، فقالت عائشة: أقري أيتها المرأة، فوالله ما بايعنا إلا على هذا. قالت:فنعم إذًا. فبايعها بالآية .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا ابن فضيل، عن حصين، عن عامر - هو الشعبي- قال:بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء، وعلى يده ثوب قد وضعه على كفه، ثم قال: « ولا تقتلن أولادكن » . فقالت امرأة:تقتل آباءهم وتوصينا بأولادهم؟ قال:وكان بعد ذلك إذا جاءت النساء يبايعنه، جمعهن فعرض عليهن، فإذا أقررن رجعن.

وقوله ( وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ ) وهذا يشمل قتله بعد وجوده، كما كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الإملاق، ويعم قتله وهو جنين، كما قد يفعله بعض الجهلة من النساء، تطرح نفسها لئلا تحبل إما لغرض فاسد أو ما أشبهه.

وقوله: ( وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ) قال ابن عباس:يعني لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم. وكذا قال مقاتل. ويؤيد هذا الحديث الذي رواه أبو داود:

حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا بن وهب، حدثنا عمرو - يعني:ابن الحارث- عن ابن الهاد، عن عبد الله بن يونس، عن سعيد المَقْبُري، عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين نـزلت آية الملاعنة: « أيما امرأة أدخَلت على قوم من ليس منهم، فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله جَنّته، وأيما رجل جَحَد ولده وهو ينظر إليه، احتجب الله منه، وفضحه على رءوس الأولين والآخرين » .

وقوله: ( وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) يعني:فيما أمرتهن به من معروف، ونهيتهن عنه من منكر.

قال البخاري:حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبي قال:سمعت الزبير، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس في قوله: ( وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) قال:إنما هو شرط شَرَطه الله للنساء .

وقال ميمون بن مِهْرَان:لم يجعل الله لنبيه طاعة إلا لمعروف والمعروف:طاعة.

وقال ابن زيد:أمر الله بطاعة رسوله، وهو خِيَرة الله من خلقه في المعروف. وقد قال غيره ابن عباس، وأنس بن مالك، وسالم بن أبي الجَعْد، وأبي صالح، وغير واحد:نهاهن يومئذ عن النوح. وقد تقدم حديث أم عطية في ذلك أيضًا.

وقال ابن جرير:حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة في هذه الآية:ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أخذ عليهن النياحة، ولا تحدثن الرجال إلا رجلا منكن محرمًا. فقال عبد الرحمن بن عوف:يا نبي الله، إن لنا أضيافًا، وإنا نغيب عن نسائنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ليس أولئك عَنَيتُ، ليس أولئك عَنَيتُ » .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا إبراهيم بن موسى الفراء، أخبرنا ابن أبي زائدة، حدثني مبارك، عن الحسن قال:كان فيما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم: « ألا تحدثن الرجال إلا أن تكون ذات محرم، فإن الرجل لا يزال يحدث المرأة حتى يَمذي بين فخذيه » .

وقال ابن جرير:حدثنا ابن حميد، حدثنا هارون، عن عمرو، عن عاصم عن ابن سيرين، عن أم عطية الأنصارية قالت:كان فيما اشتُرط علينا من المعروف حين بايعنا ألا ننوح، فقالت امرأة من بني فلان:إن بني فلان أسعدوني، فلا حتى أجزيهم فانطلقتْ فأسعَدتْهُمْ ثم جاءت فبايعت، قالت:فما وفى منهن غيرها، وغير أم سليم ابنة مِلْحان أم أنس بن مالك .

وقد روى البخاري هذا الحديث من طريق حفصة بنت سيرين، عن أم عطية نسيبة الأنصارية رضي الله عنها وقد روي نحوه من وجه آخر أيضًا.

وقال ابن جرير:حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا أبو نُعَيم، حدثنا عُمَر بن فروخ القَتَّات، حدثني مصعب بن نوح الأنصاري قال:أدركت عجوزًا لنا كانت فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت:فأتيته لأبايعه، فأخذ علينا فيما أخذ ألا تنحن. فقالت عجوز:يا رسول الله إن ناسًا قد كانوا أسعدوني على مصائب أصابتني، وأنهم قد أصابتهم مصيبة، فأنا أريد أسعدهم. قال: « فانطلقي فكافئيهم » . فانطلقت فكافأتهم، ثم إنها أتته فبايعته، وقال:هو المعروف الذي قال الله عز وجل: ( وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا القَعْنَبِي ، حدثنا الحجاج بن صفوان، عن أسيد بن أبي أسيد البراد، عن امرأة من المبايعات قالت:كان فيما أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم:أن لا نعصيه في معروف:أن لا نخمش وجوهًا ولا ننشر شعرًا، ولا نشق جيبا، ولا ندعو ويلا.

وقال ابن جرير:حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا وَكِيع، عن يزيد مولي الصهباء، عن شهر بن حَوشب، عن أم سلمة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ( وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) قال: « النوح » .

ورواه الترمذي في التفسير، عن عبد بن حُمَيد، عن أبي نُعَيم - وابن ماجه، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع- كلاهما عن يزيد بن عبد الله الشيباني مولي الصهباء، به وقال الترمذي:حسن غريب.

وقال ابن جرير:حدثنا محمد بن سنان القزاز، حدثنا إسحاق بن إدريس، حدثنا إسحاق بن عثمان أبو يعقوب، حدثني إسماعيل بن عبد الرحمن بن عطية، عن جدته أم عطية قالت:لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع نساء الأنصار في بيت، ثم أرسل إلينا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فقام على الباب وسلم علينا، فرددن - أو:فرددنا- عليه السلام، ثم قال: « أنا رَسُولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إليكن » . قالت:فقلنا:مرحبًا برسول الله وبرسول رسول الله. فقال: « تبايعن على ألا تشركن بالله شيئا، ولا تسرقن ولا تزنين؟ » قالت:فقلنا:نعم. قالت:فمد يده من خارج الباب - أو:البيت- ومددنا أيدينا من داخل البيت، ثم قال: « اللهم اشهد » . قالت:وأمرنا في العيدين أن نخرج فيه الحُيَّض والعواتق، ولا جمعة علينا، ونهانا عن اتباع الجنائز. قال إسماعيل:فسألت جدتي عن قوله: ( وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) قالت:النياحة .

وفي الصحيحين من طريق الأعمش، عن عبد الله بن مُرة، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ليس منا من ضَرَب الخدود، وشَقَّ الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية » .

وفي الصحيحين أيضًا عن أبي موسى:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة والحالقة والشاقة .

وقال الحافظ أبو يعلى:حدثنا هُدْبَة بن خالد، حدثنا أبان بن يزيد، حدثنا يحيى بن أبي كثير:أن زيدًا حدثه:أن أبا سلام حدثه:أن أبا مالك الأشعري حدثه:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن:الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة. وقال:النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قَطران ودرع من جَرَب » .

ورواه مسلم في صحيحه منفردًا به، من حديث أبان بن يزيد العطار، به .

وعن أبي سعيد:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن النائحة والمستمعة. رواه أبو داود

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ( 13 )

ينهى تبارك وتعالى عن موالاة الكافرين في آخر « هذه السورة » كما نهى عنها في أولها فقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ) يعني:اليهود والنصارى وسائر الكفار، ممن غضب الله عليه ولعنه واستحق من الله الطرد والإبعاد، فكيف توالونهم وتتخذونهم أصدقاء وأخلاء وقد يئسوا من الآخرة، أي:من ثواب الآخرة ونعيمها في حكم الله عز وجل. وقوله: ( كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ) فيه قولان، أحدهما:كما يئس الكفار الأحياء من قراباتهم الذين في القبور أن يجتمعوا بهم بعد ذلك؛ لأنهم لا يعتقدون بعثا ولا نشورا، فقد انقطع رجاؤهم منهم فيما يعتقدونه.

قال العوفي، عن ابن عباس: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ) إلى آخر السورة، يعني من مات من الذين كفروا فقد يئس الأحياء من الذين كفروا أن يرجعوا إليهم أو يبعثهم الله عز وجل.

وقال الحسن البصري: ( كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ) قال:الكفار الأحياء قد يئسوا من الأموات.

وقال قتادة:كما يئس الكفار أن يرجع إليهم أصحاب القبور الذين ماتوا. وكذا قال الضحاك. رواهن ابن جرير.

والقول الثاني:معناه:كما يئس الكفار الذين هم في القبور من كل خير.

قال الأعمش، عن أبي الضُّحَى، عن مسروق، عن ابن مسعود: ( كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ) قال:كما يئس هذا الكافر إذا مات وعاين ثوابه واطلع عليه. وهذا قول مجاهد، وعكرمة، ومقاتل، وابن زيد، والكلبي، ومنصور. وهو اختيار ابن جرير.

 

تفسير سورة الصف

 

وهي مدنية.

قال الإمام أحمد رحمه الله:حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن المبارك، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة - وعن عطاء بن يسار، عن أبي سلمة، عن عبد الله بن سلام قال:تذاكرنا:أيكم يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسأله:أي الأعمال أحب إلى الله؟ فلم يقم أحد منا، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا رجلا فجمعنا فقرأ علينا هذه السورة، يعني سورة الصف كلها. هكذا رواه الإمام أحمد

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا العباس بن الوليد بن مَزْيد البيروتي قراءة قال:أخبرني أبي، سمعت الأوزاعي، حدثني يحيى بن أبي كثير، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، حدثني عبد الله بن سلام. أن أناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا:لو أرسلنا إلى رسول الله نسأله عن أحب الأعمال إلى الله عز وجل؟ فلم يذهب إليه أحد منا، وهبنا أن نسأله عن ذلك، قال:فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر رجلا رجلا حتى جمعهم، ونـزلت فيهم هذه السورة: ( سبح ) الصف قال عبد الله بن سلام:فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها. قال أبو سلمة:وقرأها علينا عبد الله بن سلام كلها، قال يحيى بن أبي كثير وقرأها علينا أبو سلمة كلها. قال الأوزاعي:وقرأها علينا يحيى بن أبي كثير كلها. قال أبي:وقرأها علينا الأوزاعي كلها.

وقد رواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي:حدثنا محمد بن كثير، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عبد الله بن سلام قال:قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكرنا، فقلنا:لو نعلم:أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل لعملناه. فأنـزل الله: « سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * [ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ] قال عبد الله بن سلام:فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو سلمة:فقرأها علينا ابن سلام. قال يحيى:فقرأها علينا أبو سلمة. قال ابن كثير:فقرأها علينا الأوزاعي. قال عبد الله:فقرأها علينا ابن كثير.»

ثم قال الترمذي:وقد خولف محمد بن كثير في إسناد هذا الحديث عن الأوزاعي، فروى ابن المبارك، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن سلام - أو:عن أبي سلمة، عن عبد الله بن سلام

قلت:وهكذا رواه الإمام أحمد، عن يعمر، عن ابن المبارك، به

قال الترمذي:وروى الوليد بن مسلم هذا الحديث عن الأوزاعي، نحو رواية محمد بن كثير.

قلت:وكذا رواه الوليد بن يزيد، عن الأوزاعي، كما رواه ابن كثير.

قلت:وقد أخبرني بهذا الحديث الشيخ المسند أبو العباس أحمد بن أبي طالب الحجار قراءة عليه وأنا أسمع، أخبرنا أبو المُنَجَّا عبد الله بن عُمَر بن اللَّتي أخبرنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شُعَيب السَّجْزيّ قال:أخبرنا أبو الحسن بن عبد الرحمن بن المظفر بن محمد بن داود الداودي، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حَمَّوَية السرَخسِيّ، أخبرنا عيسى بن عُمَر بن عمران السمرقندي، أخبرنا الإمام الحافظ أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي بجميع مسنده أخبرنا محمد بن كثير، عن الأوزاعي... فذكر بإسناده مثله، وتسلسل لنا قراءتها إلى شيخنا أبي العباس الحجار، ولم يقرأها، لأنه كان أميا، وضاق الوقت عن تلقينها إياه. ولكن أخبرني الحافظ الكبير أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، رحمه الله:أخبرنا القاضي تقي الدين سليمان بن الشيخ أبي عمر، أخبرنا أبو المنجا بن اللَّتي فذكره بإسناده، وتَسلل لي من طريقة، وقرأها علي بكمالها، ولله الحمد والمنة.

بسم الله الرحمن الرحيم

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 1 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ( 2 ) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ( 3 ) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ( 4 )

تقدم الكلام على قوله: ( سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) غير مرة، بما أغنى عن إعادته.

وقوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) ؟ إنكار على من يَعد عدَةً، أو يقول قولا لا يفي به، ولهذا استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من علماء السلف إلى أنه يجب الوفاء بالوعد مطلقا، سواء ترتب عليه غُرم للموعود أم لا. واحتجوا أيضا من السنة بما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « آية المنافق ثلاث:إذا حَدَّث كذب، إذا وَعَد أخلف، وإذا اؤتمن خان » وفي الحديث الآخر في الصحيح: « أربع من كن فيه كان منافقا خالصًا، ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خَصْلَة من نفاق حتى يَدَعها » - فذكر منهن إخلاف الوعد. وقد استقصينا الكلام على هذين الحديثين في أول « شرح البخاري » ، ولله الحمد والمنة. ولهذا أكد الله تعالى هذا الإنكار عليهم بقوله: ( كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ )

وقد روى الإمام أحمدُ وأبو داود، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال:أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم [ في بيتنا ] وأنا صبي قال:فذهبت لأخرج لألعب، فقالت أمي:يا عبد الله:تعال أعطك. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: « وما أردت أن تُعطِيه؟ » . قالت:تمرا. فقال: « أما إنك لو لم تفعلي كُتِبت عليك كِذْبة »

وذهب الإمام مالك، رحمه الله، إلى أنه إذا تعلق بالوعد غُرم على الموعود وجب الوفاء به، كما لو قال لغيره: « تزوج ولك علي كل يوم كذا » . فتزوجَ، وجب عليه أن يعطيه ما دام كذلك، لأنه تعلق به حق آدمي، وهو مبني على المضايقة. وذهب الجمهور إلى أنه لا يجب مطلقا، وحملوا الآية على أنها نـزلت حين تمنوا فَرضِيَّة الجهاد عليهم، فلما فرض نكل عنه بعضهم، كقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا * أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [ النساء:77، 78 ] . وقال تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ الآية [ محمد:20 ] وهكذا هذه الآية معناها، كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) قال:كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون:لَوَدِدْنَا أن الله - عز وجل- دلنا على أحب الأعمال إليه، فنعملَ به. فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إيمانٌ به لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به. فلما نـزل الجهاد كره ذلك أناس من المؤمنين، وشق عليهم أمره، فقال الله سبحانه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) ؟. وهذا اختيار ابن جرير .

وقال مقاتل بن حَيّان:قال المؤمنون:لو نعلم أحبّ الأعمال إلى الله لعملنا به. فدلهم الله على أحب الأعمال إليه، فقال: ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا ) فبين لهم، فابتلوا يوم أحد بذلك، فولوا عن النبي صلى الله عليه وسلم مدبرين، فأنـزل الله في ذلك: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) ؟ وقال:أحبكم إلي من قاتل في سبيلي.

ومنهم من يقول:أنـزلت في شأن القتال، يقول الرجل: « قاتلت » ، ولم يقاتل وطعنت « ولم يطعن و » ضربت « ، ولم يضرب و » صبرت « ، ولم يصبر.»

وقال قتادة، والضحاك:نـزلت توبيخًا لقوم كانوا يقولون: « قتلنا، ضربنا، طعنا، وفعلنا » . ولم يكونوا فعلوا ذلك.

وقال ابن يزيد:نـزلت في قوم من المنافقين، كانوا يَعدون المسلمين النصرَ، ولا يَفُون لهم بذلك.

وقال مالك، عن زيد بن أسلم: ( لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) ؟، قال:في الجهاد.

وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: ( لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) إلى قوله: ( كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ) فما بين ذلك:في نفر من الأنصار، فيهم عبد الله بن رواحة، قالوا في مجلس:لو نعلم أيّ الأعمال أحبّ إلى الله، لعملنا بها حتى نموت. فأنـزل الله هذا فيهم. فقال عبد الله بن رواحة:لا أبرح حبيسا في سبيل الله حتى أموت. فقتل شهيدًا.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا فروة بن أبي المغراء، حدثنا علي بن مُسْهِر عن داود بن أبي هند، عن أبي حرب بن أبي الأسود الديلي عن أبيه قال:بعث أبو موسى إلى قراء أهل البصرة، فدخل عليه منهم ثلاثمائة رجل، كلهم قد قرأ القرآن، فقال. أنتم قراء أهل البصرة وخيارهم. وقال:كنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات، فأنسيناها، غير أني قد حفظت منها: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) فتكتب شهادة في أعناقكم، فتسألون عنها يوم القيامة.

ولهذا قال الله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ) فهذا إخبار منه تعالى بمحبة عباده المؤمنين إذا اصطفوا مواجهين لأعداء الله في حومة الوغى، يقاتلون في سبيل الله مَن كفر بالله، لتكون كلمة الله هي العليا، ودينه هو الظاهر العالي على سائر الأديان.

وقال الإمام أحمد:حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا هُشَيْم، قال مُجالد أخبرنا عن أبي الودَّاك، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ثلاث يضحك الله إليهم:الرجل يقوم من الليل، والقوم إذا صفوا للصلاة، والقوم إذا صفوا للقتال » .

ورواه ابن ماجه من حديث مجالد، عن أبي الوَدَّاك جبر بن نوف، به .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أبو نُعَيم الفضل بن دُكَيْن، حدثنا الأسود - يعني ابن شيبان- حدثني يزيد بن عبد الله بن الشِّخِّير قال:قال مُطرَف:كان يبلغني عن أبي ذر حديث كنت أشتهي لقاءه، فلقيته فقلت:يا أبا ذر، كان يبلغني عنك حديث، فكنت أشتهي لقاءك، فقال:لله أبوك ‍‍‍‍‍‍‍! فقد لقيت، فهات. فقلت:كان يبلغني عنك أنك تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثكم أن الله يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة؟ قال:أجل، فلا إخالني أكذب على خليلي صلى الله عليه وسلم. قلت:فمن هؤلاء الثلاثة الذين يحبهم الله؟ قال:رجل غزا في سبيل الله، خرج محتسبا مجاهدا فلقي العدو فقتل، وأنتم تجدونه في كتاب الله المنـزل، ثم قرأ ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ) وذكر الحديث.

هكذا أورد هذا الحديث من هذا الوجه بهذا السياق، وبهذا اللفظ، واختصره. وقد أخرجه الترمذي والنسائي من حديث شعبة، عن منصور بن المعتمر، عن رِبْعَي بن حِرَاش، عن زيد بن ظَبْيان، عن أبي ذَرّ بأبسط من هذا السياق وأتم وقد أوردناه في موضع آخر، ولله الحمد.

وعن كعب الأحبار أنه قال:يقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: « عبدي المتوكل المختار ليس بفَظّ ولا غَليظ ولا صَخَّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر مولده بمكة، وهجرته بطابة، وملكه بالشام، وأمته الحمادون يحمَدُون الله على كلّ حال، وفي كل منـزلة، لهم دَوِيٌّ كدوي النحل في جو السماء بالسحَر، يُوَضّون أطرافهم، ويأتزرون على أنصافهم، صفهم في القتال مثل صفهم في الصلاة » . ثم قرأ: ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ) رعاة الشمس، يصلون الصلاة حيث أدركتهم، ولو على ظهر دابة « رواه بن أبي حاتم.»

وقال سعيد بن جبير في قوله ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا ) قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقاتل العدو إلا أن يصافهم، وهذا تعليم من الله للمؤمنين. قال:وقوله: ( كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ) ملتصق بعضه في بعض، من الصف في القتال.

وقال مقاتل بن حيان:ملتصق بعضه إلى بعض.

وقال ابن عباس: ( كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ) مُثَبّت، لا يزول، ملصق بعضه ببعض.

وقال قتادة: ( كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ) ألم تر إلى صاحب البنيان، كيف لا يحب أن يختلف بنيانه؟ فكذلك الله عز وجل [ يحب أن ] لا يختلف أمره، وإن الله صف المؤمنين في قتالهم وصفهم في صلاتهم، فعليكم بأمر الله، فإنه عصمة لمن أخذ به. أورد ذلك كله ابن أبي حاتم.

وقال ابن جرير:حدثني سعيد بن عَمرو السكوني، حدثنا بَقِيَّة بن الوليد، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن يحيى بن جابر الطائي، عن أبي بحرية قال:كانوا يكرهون القتال على الخيل، ويستحبون القتال على الأرض، لقول الله عز وجل: ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ) قال:وكان أبو بحرية يقول:إذا رأيتموني التفتُّ في الصف فَجَثُوا في لَحيي

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( 5 )

يقول تعالى مخبرًّا عن عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام أنه قال لقومه: ( لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ) أي:لم توصلون الأذى إليّ وأنتم تعلمون صدقي فيما جئتكم به من الرسالة؟. وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أصاب من الكفار من قومه وغيرهم، وأمر له بالصبر؛ ولهذا قال: « رحمة الله على موسى:لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر » وفيه نهي للمؤمنين أن ينالوا من النبي صلى الله عليه وسلم أو يُوَصّلوا إليه أذى، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [ الأحزاب:69 ]

وقوله: ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) أي:فلما عدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به، أزاغ الله قلوبهم عن الهدى، وأسكنها الشك والحيرة والخذلان، كما قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [ الأنعام:110 ] وقال: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [ النساء:115 ] ولهذا قال الله تعالى في هذه الآية: ( وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) .

 

وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ( 6 )

وقوله: ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) يعني:التوراة قد بَشَّرَت بي، وأنا مصداقُ ما أخبرت عنه، وأنا مُبَشّر بمن بعدي، وهو الرسول النبي الأمي العربي المكي أحمد. فعيسى، عليه السلام، وهو خاتم أنبياء بني إسرائيل، وقد أقام في ملأ بني إسرائيل مبشرًا بمحمد، وهو أحمد خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي لا رسالة بعده ولا نبوة. وما أحسن ما أورد البخاري الحديثَ الذي قال فيه:

حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، عن الزهري قال:أخبرني محمد بن جُبَير بن مُطعم، عن أبيه قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن لي أسماء:أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يَمحُو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب » .

ورواه مسلم، من حديث الزهري، به نحوه

وقال أبو داود الطيالسي:حدثنا المسعودي، عن عمرو بن مُرّة، عن أبي عُبَيدة، عن أبي موسى قال:سَمَّى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نَفسه أسماءً، منها ما حفظنا فقال: « أنا محمد، وأنا أحمد، والحاشر، والمقفي، ونبي الرحمة، والتوبة، والملحمة » .

ورواه مسلم من حديث الأعمش، عن عمرو بن مرة، به

وقد قال الله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ [ الأعراف:157 ] وقال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [ آل عمران:81 ]

قال ابن عباس:ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد:لئن بعث محمد وهو حي ليتبعنه، وأخذ عليه أن يأخذ على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليتبعنه وينصرنه.

وقال محمد بن إسحاق:حدثني ثور بن يَزيد، عن خالد بن مَعْدَانَ، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا:يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك. قال: « دعوة أبي إبراهيم، وبُشْرَى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام » .

وهذا إسناد جيد. ورُوي له شواهد من وجوه أخر، فقال الإمام أحمد:

حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا معاوية بن صالح، عن سعيد بن سُوَيد الكلبي، عن عبد الأعلى بن هلال السلمي، عن العِرْباض بن سارية قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجَدلٌ في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك دَعْوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين يَرَين » .

وقال أحمد أيضا:حدثنا أبو النضر، حدثنا الفرج بن فضالة، حدثنا لقمان بن عامر قال:سمعت أبا أمامة قال:قلت يا نبي الله، ما كان بدء أمرك؟ قال: « دعوة أبي إبراهيم، وبُشْرَى عيسى، ورأت أمي أنه يخرجُ منها نور أضاءت له قصورُ الشام »

وقال أحمد أيضا:حدثنا حسن بن موسى:سمعت خُدَيجًا أخا زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عتبة، عن عبد الله بن مسعود قال:بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ونحن نحوٌ من ثمانين رجلا منهم:عبد الله بن مسعود، وجعفر، وعبد الله بن [ عُرْفُطَة ] وعثمان بن مظعون، وأبو موسى. فأتوا النجاشي، وبعثَت قريش عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد بهدية، فلما دخلا على النجاشي سَجَدا له، ثم ابتدراه عن يمينه وعن شماله، ثم قالا له:إن نفرًا من بني عمنا نـزلوا أرضك، ورغبوا عنا وعن ملتنا. قال:فأين هم؟ قالا هم في أرضك، فابعث إليهم. فبعث إليهم. فقال جعفر:أنا خطيبكم اليوم. فاتبعوه فسلَّم ولم يسجد، فقالوا له:ما لك لا تسجد للملك؟ قال:إنا لا نسجد إلا لله عز وجل. قال وما ذاك؟ قال:إن الله بعث إلينا رسوله، فأمرنا ألا نسجد لأحد إلا لله عز وجل، وأمرنا بالصلاة والزكاة.

قال عمرو بن العاص:فإنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم. قال:ما تقولون في عيسى ابن مريم وأمه؟ قالوا:نقول كما قال الله عز وجل:هو كلمة الله وروحه ألقاها إلى العذراء البَتُول، التي لم يمسها بَشَر ولم يَفْرضْها ولد. قال:فرفع عودًا من الأرض ثم قال:يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان، والله ما يزيدون على الذي نقول فيه، ما يساوي هذا. مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي نجد في الإنجيل، وأنه الذي بشر به عيسى ابن مريم. انـزلوا حيث شئتم، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا أحمل نعليه وأوضئه. وأمَرَ بهدية الآخرَين فردت إليهما، ثم تعجل عبد الله بن مسعود حتى أدرك بدرًا، وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم استغفر له حين بلَغه موته

وقد رُويت هذه القصةُ عن جعفر وأم سلمة رضي الله عنهما، وموضع ذلك كتاب السيرة. والمقصد أن الأنبياء عليهم السلام لم تزل تنعته وتحكيه في كتبها على أممها، وتأمرهم باتباعه ونصره وموازرته إذا بعث. وكان ما اشتهر الأمر في أهل الأرض على لسان إبراهيم الخليل والد الأنبياء بعده، حين دعا لأهل مكة أن يبعث الله فيهم رسولا منهم، وكذا على لسان عيسى ابن مريم؛ ولهذا قالوا: « أخبرنا عن بَدْء أمرك » يعني:في الأرض، قال: « دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى ابن مريم، ورؤيا أمي التي رأت » أي:ظهر في أهل مكة أثر ذلك والإرهاص بذكره صلوات الله وسلامه عليه.

وقوله: ( فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ) قال ابن جريج وابن جرير: ( فَلَمَّا جَاءَهُمْ ) أحمد، أي:المُبَشَّر به في الأعصار المتقادمة، المُنَوَّه بذكره في القرون السالفة، لما ظهر أمره وجاء بالبينات قال الكفرة والمخالفون: ( هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ )

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 7 ) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ( 8 ) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ( 9 )

يقول تعالى: ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإسْلامِ ) أي:لا أحد أظلم ممن يفتري الكذب على الله ويجعل له أندادا وشركاء، وهو يدعى إلى التوحيد والإخلاص؛ ولهذا قال: ( وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )

ثم قال: ( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ ) أي:يحاولون أن يَرُدّوا الحق بالباطل، ومثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس بفيه، وكما أن هذا مستحيل كذلك ذاك مستحيل ؛ ولهذا قال: ( وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) وقد تقدم الكلام على هاتين الآيتين في سورة « براءة » ، بما فيه كفاية، ولله الحمد والمنة

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( 10 ) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 11 ) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 12 ) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( 13 )

تقدم في حديث عبد الله بن سلام أن الصحابة، رضي الله عنهم، أرادوا أن يسألوا عن أحب الأعمال إلى الله عز وجل ليفعلوه، فأنـزل الله هذه السورة، ومن جملتها هذا الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) ثم فسر هذه التجارة العظيمة التي لا تبور، والتي هي محصلة للمقصود ومزيلة للمحذور فقال: ( تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) أي:من تجارة الدنيا، والكد لها والتصدي لها وحدها.

ثم قال: ( يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) أي:إن فعلتم ما أمرتكم به ودللتكم عليه، غفرت لكم الزلات، وأدخلتكم الجنات، والمساكن الطيبات، والدرجات العاليات؛ ولهذا قال: ( وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )

ثم قال: ( وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا ) أي:وأزيدكم على ذلك زيادة تحبونها، وهي: ( نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ) أي:إذا قاتلتم في سبيله ونصرتم دينه، تكفل الله بنصركم. قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [ محمد:7 ] وقال تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [ الحج:40 ] وقوله ( وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ) أي:عاجل فهذه الزيادة هي خير الدنيا موصول بنعيم الآخرة، لمن أطاع الله ورسوله، ونصر الله ودينه؛ ولهذا قال: ( وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ )

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ( 14 )

يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين أن يكونوا أنصار الله في جميع أحوالهم، بأقوالهم وأفعالهم وأنفسهم وأموالهم، وأن يستجيبوا لله ولرسوله، كما استجاب الحواريون لعيسى حين قال: ( مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ) ؟ أي:معيني في الدعوة إلى الله عز وجل؟ ( قَالَ الْحَوَارِيُّونَ ) - وهم أتباع عيسى عليه السلام- : ( نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ) أي:نحن أنصارك على ما أرسلت به ومُوَازروك على ذلك؛ ولهذا بعثهم دعاةً إلى الناس في بلاد الشام في الإسرائيليين واليونانيين. وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في أيام الحج: « من رجل يُؤويني حتى أبلغ رسالة ربي، فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي » حتى قيَّض الله عز وجل له الأوس والخزرج من أهل المدينة، فبايعوه ووازروه، وشارطوه أن يمنعوه من الأسود والأحمر إن هو هاجر إليهم، فلما هاجر إليهم بمن معه من أصحابه وَفَوا له بما عاهدوا الله عليه؛ ولهذا سماهم الله ورسوله:الأنصار، وصار ذلك علما عليهم، رضي الله عنهم، وأرضاهم. وقوله: ( فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ ) أي:لما بلغ عيسى ابن مريم عليه السلام رسالة ربه إلى قومه، ووازره من وازره من الحواريين، اهتدت طائفة من بني إسرائيل بما جاءهم به، وضلت طائفة فخرجت عما جاءهم به، وجحدوا نبوته، ورموه وأمه بالعظائم، وهم اليهود - عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة- وغلت فيه طائفة ممن اتبعه، حتى رفعوه فوق ما أعطاه الله من النبوة، وافترقوا فِرَقا وشِيَعا، فمن قائل منهم:إنه ابن الله. وقائل:إنه ثالث ثلاثة:الأب، والابن، وروح القدس. ومن قائل:إنه الله. وكل هذه الأقوال مفصلة في سورة النساء.

وقوله: ( فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ ) أي:نصرناهم على من عاداهم من فِرَق النصارى، ( فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ) أي:عليهم، وذلك ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله.

حدثني أبو السائب، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المِنْهال - يعني ابن عمرو- عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:لما أراد الله عز وجل أن يرفع عيسى إلى السماء، خرج إلى أصحابه وهم في بيت اثنا عشر رجلا من عين في البيت، ورأسه يقطر ماء، فقال:إن منكم من يكفر بي اثنتي عشر مرة بعد أن آمن بي. قال:ثم قال:أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني، ويكون معي في درجتي؟ قال:فقام شاب من أحدثهم سنا فقال:أنا. قال:فقال له:اجلس. ثم أعاد عليهم، فقام الشاب فقال:أنا. فقال له:اجلس. ثم عاد عليهم فقام الشاب، فقال:أنا. فقال:نعم، أنت ذاك. قال:فألقي عليه شبه عيسى، ورُفع عيسى عليه السلام من روزَنة في البيت إلى السماء، قال:وجاء الطلَبُ من اليهود، فأخذوا شِبهَه فقتلوه وصلبوه، وكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به، فتفرقوا فيه ثلاث فرق. فقالت فرقة:كان الله فينا ما شاء، ثم صعد إلى السماء. وهؤلاء اليعقوبية. وقالت فرقة:كان فينا ابن الله ما شاء، ثم رفعه إليه وهؤلاء النسطورية، وقالت فرقة كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه اليه، وهؤلاء المسلمون فتظاهرت الكافرتان على المسلمة، فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، ( فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ ) يعني:الطائفة التي كفرت من بني إسرائيل في زمن عيسى، والطائفة التي آمنت في زمن عيسى، ( فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ) بإظهار محمد صلى الله عليه وسلم دينهم على دين الكفار ( فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ )

هذا لفظه في كتابه عند تفسير هذه الآية الكريمة. وهكذا رواه النسائي عند تفسير هذه الآية من سننه، عن أبي كُرَيْب عن محمد بن العلاء، عن أبي معاوية، بمثله سواء .

فأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا يزالون ظاهرين على الحق، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك، وحتى يقاتل آخرهم الدجال مع المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، كما وردت [ بذلك ] الأحاديث الصحاح، والله أعلم.

 

تفسير سورة الجمعة

 

وهي مدنية.

عن ابن عباس، وأبي هريرة:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين. رواه مسلم في صحيحه

.

بسم الله الرحمن الرحيم

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ( 1 ) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 2 ) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 3 ) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( 4 )

يخبر تعالى أنه يُسبّح له ما في السموات وما في الأرض، أي:من جميع المخلوقات ناطقها وجامدها، كما قال: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [ الإسراء:44 ]

ثم قال: ( الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ ) أي:هو مالك السموات والأرض المتصرف فيهما بحكمه، وهو ( الْقُدُّوسِ ) أي:المنـزه عن النقائص، الموصوف بصفات الكمال ( الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) تقدم تفسيره غير مرة.

وقوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ ) الأميون هم:العرب كما قال تعالى: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [ آل عمران:20 ] وتخصيص الأميين بالذكر لا ينفي من عداهم، ولكن المنة عليهم أبلغ وآكد، كما في قوله: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [ الزخرف:44 ] وهو ذكر لغيرهم يتذكرون به. وكذا قوله: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [ الشعراء:214 ] وهذا وأمثاله لا ينافي قوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [ الأعراف:158 ] وقوله: لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [ الأنعام:19 ] وقوله إخبارا عن القرآن: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [ هود:17 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على عموم بعثته صلوات الله وسلامه عليه إلى جميع الخلق أحمرهم وأسودهم، وقد قدمنا تفسير ذلك في سورة الأنعام، بالآيات والأحاديث الصحيحة، ولله الحمد والمنة.

وهذه الآية هي مصداق إجابة الله لخليله إبراهيم، حين دعا لأهل مكة أن يبعث الله فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة. فبعثه الله سبحانه وتعالى وله الحمد والمنة، على حين فترة من الرسل، وطُمُوس من السبل، وقد اشتدت الحاجة إليه، وقد مقت الله أهلَ الأرض عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب - أي:نـزرا يسيرا- ممن تمسك بما بعث الله به عيسى ابن مريم عليه السلام؛ ولهذا قال تعالى: ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) وذلك أن العرب كانوا [ قديما ] متمسكين بدين إبراهيم [ الخليل ] عليه السلام فبدلوه وغيروه، وقلبوه وخالفوه، واستبدلوا بالتوحيد شركا وباليقين شكا، وابتدعوا أشياء لم يأذن بها الله وكذلك أهل الكتابين قد بدلوا كتبهم وحرفوها وغيروها وأولوها، فبعث الله محمدًا صلوات الله وسلامه عليه بشرع عظيم كامل شامل لجميع الخلق، فيه هدايتهم، والبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمر معاشهم ومعادهم، والدعوة لهم إلى ما يقربهم إلى الجنة، ورضا الله عنهم، والنهي عما يقربهم إلى النار وسخط الله. حاكم، فاصل لجميع الشبهات والشكوك والريب في الأصول والفروع. وجمَعَ له تعالى، وله الحمد والمنة، جميع المحاسن ممن كان قبله، وأعطاه ما لم يُعطِ أحدًا من الأولين، ولا يعطيه أحدًا من الآخرين، فصلوات الله وسلامه عليه [ دائمًا ] إلى يوم الدين.

وقوله: ( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) قال الإمام أبو عبد الله البخاري رحمه الله.

حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا سليمان بن بلال، عن ثور، عن أبي الغَيث، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنـزلت عليه سورة الجمعة: ( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ) قالوا:من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعهم حتى سئل ثلاثا، وفينا سلمان الفارسي، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان ثم قال: « لو كان الإيمان عند الثُّرَيَّا لناله رجال - أو:رجل- من هؤلاء » .

ورواه مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن أبي حاتم، وابن جرير، من طرق عن ثور بن زيد الدِّيلي عن سالم أبي الغيث، عن أبي هريرة، به

ففي هذا الحديث دليل على أن هذه السورة مدنية، وعلى عموم بعثته صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس؛ لأنه فسر قوله: ( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ ) بفارس؛ ولهذا كتب كتبه إلى فارس والروم وغيرهم من الأمم، يدعوهم إلى الله عز وجل، وإلى اتباع ما جاء به؛ ولهذا قال مجاهد وغير واحد في قوله: ( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ) قال:هم الأعاجم، وكل من صدق النبي صلى الله عليه وسلم من غير العرب.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا أبو محمد عيسى بن موسى، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعدي قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن في أصلاب أصلاب أصلاب رجال [ من أصحابي رجالا ] ونساء من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب » ثم قرأ: ( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ) يعني:بقية من بقي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

وقوله: ( وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) أي:ذو العزة والحكمة في شرعه وقدره.

وقوله: ( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) يعني:ما أعطاه الله محمدا صلى الله عليه وسلم من النبوة العظيمة، وما خص به أمته من بعثته صلى الله عليه وسلم إليهم.

مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 5 ) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 6 ) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ( 7 ) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 8 )

يقول تعالى ذامًّا لليهود الذين أعطوا التوراة وحملوها للعمل بها، فلم يعملوا بها، مثلهم في ذلك كمثل الحمار يحمل أسفارا، أي:كمثل الحمار إذا حمل كتبا لا يدري ما فيها، فهو يحملها حملا حسيا ولا يدري ما عليه. وكذلك هؤلاء في حملهم الكتاب الذي أوتوه، حفظوه لفظا ولم يفهموه ولا عملوا بمقتضاه، بل أولوه وحرفوه وبدلوه، فهم أسوأ حالا من الحمير؛ لأن الحمار لا فهمَ له، وهؤلاء لهم فهوم لم يستعملوها؛ ولهذا قال في الآية الأخرى: أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [ الأعراف:179 ] وقال هاهنا: ( بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )

وقال الإمام أحمد رحمه الله:حدثنا ابن نُمَير، عن مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب، فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا، والذي يقول له » أنصت « ، ليس له جمعة »

ثم قال تعالى: ( قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) أي:إن كنتم تزعمون أنكم على هدى، وأن محمدا وأصحابه على ضلالة، فادعوا بالموت على الضال من الفئتين ( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) فيما تزعمونه.

قال الله تعالى: ( وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ) أي:بما يعلمون لهم من الكفر والظلم والفجور، ( وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) وقد قدمنا في سورة « البقرة » الكلام على هذه المباهلة لليهود، حيث قال تعالى: قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [ البقرة:94 - 96 ] وقد أسلفنا الكلام هناك وبينا أن المراد أن يدعوا على الضال من أنفسهم أو خصومهم، كما تقدمت مباهلة النصارى في آل عمران: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [ آل عمران:61 ] ومباهلة المشركين في سورة مريم: قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا [ مريم:75 ]

وقد قال الإمام أحمد:حدثنا إسماعيل بن يزيد الرقي أبو يزيد، حدثنا فرات، عن عبد الكريم بن مالك الجزري، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:قال أبو جهل لعنه الله:إن رأيتُ محمدا عند الكعبة لآتينَّه حتى أطأ على عُنُقه. قال:فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لو فعل لأخذَته الملائكة عيانًا، ولو أن اليهود تَمَنَّوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار. ولو خرج الذين يُباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون مالا ولا أهلا. »

رواه البخاري والترمذي، والنسائي، من حديث عبد الرزاق عن معمر، عن عبد الكريم، [ به ] قال البخاري: « وتبعه عمرو بن خالد، عن عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم » . ورواه النسائي، أيضا عن عبد الرحمن بن عبد الله الحلَبِي، عن عبيد الله بن عمرو الرقي، به أتم

وقوله تعالى: ( قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) كقوله تعالى في سورة النساء: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [ النساء:78 ]

وفي معجم الطبراني من حديث معاذ محمد بن محمد الهذلي، عن يونس، عن الحسن، عن سَمُرَة مرفوعا: « مثل الذي يفر من الموت كمثل الثعلب تطلبه الأرض بدين، فجاء يسعى حتى إذا أعيا وانبهر دخل جحره، فقالت له الأرض:يا ثعلب ديني. فخرج له حُصَاص، فلم يزل كذلك حتى تقطعت عنقه، فمات » .

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 9 ) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( 10 )

إنما سميت الجمعة جمعة؛ لأنها مشتقة من الجمع، فإن أهل الإسلام يجتمعون فيه في كل أسبوع مَرَّةً بالمعابد الكبار وفيه كَمُل جميع الخلائق، فإنه اليوم السادس من الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض. وفيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها. وفيه تقوم الساعة. وفيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه كما ثبتت بذلك الأحاديث الصحاح

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا عَبِيدة بن حُمَيد، عن منصور، عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن علقمة، عن قَرْثَع الضبي، حدثنا سلمان قال:قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: « يا سلمان، ما يوم الجمعة؟ » . قلت:الله ورسوله أعلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يوم جُمع فيه أبواك - أو أبوكم »

وقد رُوي عن أبي هُريرة، من كلامه، نحو هذا، فالله أعلم.

وقد كان يقال له في اللغة القديمة يوم العروبة. وثبت أن الأمم قبلنا أمروا به فَضَلّوا عنه، واختار اليهود يوم السبت الذي لم يقع فيه خلق واختار النصارى يومَ الأحد الذي ابتدئ فيه الخلق، واختار الله لهذه الأمة [ يوم ] الجمعة الذي أكمل الله فيه الخَليقَةَ، كما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن همام بن مُنَبِّه قال:هذا ما حدثنا أبو هُرَيرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا. ثم هذا يَومُهم الذي فَرض الله عليهم، فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تَبَعٌ، اليهود غدًا، والنصارى بعد غد » لفظ البخاري.

وفي لفظ لمسلم: « أضل الله من كان قبلنا فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد. فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، المقضي بينهم قبل الخلائق » .

وقد أمر الله المؤمنين بالاجتماع لعبادته يوم الجمعة، فقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ) أي:اقصدوا واعمدوا واهتموا في مَسيركم إليها، وليس المراد بالسعي هاهنا المشي السريع، وإنما هو الاهتمام بها، كقوله تعالى: وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ [ الإسراء:19 ] وكان عمر بن الخطاب وابن مسعود رضي الله عنهما يقرآنها: « فامضوا إلى ذكر الله » . فأما المشي السريع إلى الصلاة فقد نهي عنه، لما أخرجاه في الصحيحين، عن أبي هُرَيرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة، وعليكم السكينة والوقار، ولا تُسرِعوا، فما أدركتم فصَلُّوا، وما فاتكم فأتموا » . لفظ البخاري

وعن أبي قتادة قال:بينما نحن نُصَلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ سمع جَلَبة رجال، فلما صلى قال: « ما شأنكم؟ » . قالوا:استعجلنا إلى الصلاة. قال: « فلا تفعلوا، إذا أتيتم الصلاة فامشوا وعليكم بالسكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا » . أخرجاه

وقال عبد الرزاق:أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون، ولكن ائتوها تمشون، وعليكم السكينة والوقار، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا » .

رواه الترمذي، من حديث عبد الرزاق كذلك وأخرجه من طريق يزيد بن زُرَيع، عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، بمثله

قال الحسن أما والله ما هو بالسعي على الأقدام، ولقد نُهُوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار، ولكن بالقلوب والنية والخشوع.

وقال قتادة في قوله: ( فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ) يعني:أن تسعى بقلبك وعملك، وهو المشي إليها، وكان يتأولُ قوله تعالى: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ [ الصافات:102 ] أي:المشي معه. روي عن محمد بن كعب، وزيد بن أسلم، وغيرهما نحو ذلك.

ويستحَب لمن جاء الجمعة أن يغتسل قبل مجيئه إليها، لما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عُمَر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إذا جاء أحدُكم الجمعةَ فَلْيغتسل »

ولهما عن أبي سعيد، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « غُسلُ يوم الجمعة واجب على كل مُحتَلِم »

وعن أبي هُرَيرة، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « حق لله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام، يغسل رأسه وجسده » . رواه مسلم

وعن جابر، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « على كل رجل مسلم في كل سبعة أيام غسل يوم، وهو يوم الجمعة » . رواه أحمد، والنسائي، وابن حبان

وقال الإمام أحمد:حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن المبارك، عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن أوس بن أوس الثقفي قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من غَسَّل واغتسل يوم الجمعة، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام واستمع ولم يَلْغُ كان له بكل خطوة أجر سنة، صيامها وقيامها » .

وهذا الحديث له طرق وألفاظ، وقد أخرجه أهل السنن الأربعة وحَسَّنَهُ الترمذي

وعن أبي هُرَيرة، رضي الله عنه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من اغتسل يوم الجمعة غُسلَ الجنابة، ثم راح فكأنما قرب بدنه، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر » أخرجاه

ويستحب له أن يلبس أحسن ثيابه، ويتطيب ويتسوك، ويتنظف ويتطهر. وفي حديث أبي سعيد المتقدم: « غسلُ يوم الجمعة واجب على كل محتلم، والسواكُ، وأن يَمَس من طيب أهله » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن إبراهيم التيمي، عن عمران بن أبي يحيى، عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبي أيوب الأنصاري:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من اغتسل يوم الجمعة ومَس من طيب أهله - إن كان عنده- ولبس من أحسن ثيابه، ثم خرج حتى يأتي المسجد فيركع - إن بدا له- ولم يُؤذ أحدا، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي، كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى »

وفي سنن أبي داود وابن ماجه، عن عبد الله بن سلام، رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: « ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مِهْنَته »

وعن عائشة رضي الله عنها:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم الجمعة، فرأى عليهم ثياب النّمار، فقال: « ما على أحدكم إن وجد سَعَة أن يتخذ ثوبين لجمعته، سوى ثوبي مهنته » . رواه ابن ماجه

وقوله تعالى: ( إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ ) المراد بهذا النداء هو النداء الثاني الذي كان يفعل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج فجلس على المنبر، فإنه كان حينئذ يؤذن بين يديه، فهذا هو المراد، فأما النداء الأول الذي زاده أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه، فإنما كان هذا لكثرة الناس، كما رواه البخاري رحمه الله حيث قال:حدثنا آدم - هو ابن أبي إياس- حدثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن السائب بن يزيد قال:كان النداء يوم الجمعة أولهُ إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما كان عثمان [ بعد زمن ] وكثر الناس، زاد النداء الثاني على الزوراء يعني:يؤذن به على الدار التي تسمى بالزوراء، وكانت أرفع دار بالمدينة، بقرب المسجد.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أبو نعيم، حدثنا محمد بن راشد المكحولى، عن مكحول:أن النداء كان في يوم الجمعة مؤذن واحد حين يخرج الإمام، ثم تقام الصلاة، وذلك النداء الذي يحرم عنده البيع والشراء إذا نودي به، فأمر عثمان، رضي الله عنه، أن ينادى قبل خروج الإمام حتى يجتمع الناس.

وإنما يؤمر بحضور الجمعة [ الرجال ] الأحرار دون النساء والعبيد والصبيان، ويعذر المسافر والمريض، وقَيّم المريض، وما أشبه ذلك من الأعذار، كما هو مقرر في كتب الفروع.

وقوله: ( وَذَرُوا الْبَيْعَ ) أي:اسعوا إلى ذكر الله واتركوا البيع إذا نودي للصلاة:ولهذا اتفق العلماء رضي الله عنهم على تحريم البيع بعد النداء الثاني. واختلفوا:هل يصح إذا تعاطاه متعاط أم لا؟ على قولين، وظاهر الآية عدم الصحة كما هو مقرر في موضعه، والله أعلم.

وقوله: ( ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) أي:ترككم البيع وإقبالكم إلى ذكر الله وإلى الصلاة خيرٌ لكم، أي:في الدنيا والآخرة إن كنتم تعلمون.

وقوله: ( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ ) أي:فُرغ منها، ( فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ) لَمَّا حَجَر عليهم في التصرف بعد النداء وأمرهم بالاجتماع، أذن لهم بعد الفراغ في الانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله. كما كان عرَاك بن مالك رضي الله عنه إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد، فقال:اللهم إني أجبتُ دعوتَك، وصليتُ فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك، وأنت خير الرازقين. رواه ابن أبي حاتم.

وروي عن بعض السلف أنه قال:من باع واشترى في يوم الجمعة بعد الصلاة، بارك الله له سبعين مرة، لقول الله تعالى: ( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ )

وقوله: ( وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) أي:حال بيعكم وشرائكم، وأخذكم وعَطَائكم، اذكروا الله ذكرا كثيرا، ولا تشغلكم الدنيا عن الذي ينفعكم في الدار الآخرة؛ ولهذا جاء في الحديث: « من دخل سوقا من الأسواق فقال:لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير كُتبت له ألفُ ألف حَسنة، ومُحي عنه ألفُ ألف سَيئة »

وقال مجاهد:لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرا، حتى يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجعا.

وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( 11 )

يعاتب تبارك وتعالى على ما كان وقع من الانصراف عن الخطبة يوم الجمعة إلى التجارة التي قدمت المدينة يومئذ، فقال تعالى: ( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا ) أي:على المنبر تخطب. هكذا ذكره غير واحد من التابعين، منهم:أبو العالية، والحسن، وزيد بن أسلم، وقتادة.

وزعم مقاتل بن حيان:أن التجارة كانت لدحية بن خليفة قبل أن يسلم، وكان معها طبل، فانصرفوا إليها وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمًا على المنبر إلا القليل منهم. وقد صَحّ بذلك الخبر، فقال الإمام أحمد:

حدثنا ابن إدريس، عن حُصَين، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر قال:قَدمَت عيرٌ المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فخرج الناس وبقي اثنا عشر رجلا فنـزلت: ( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا )

أخرجاه في الصحيحين، من حديث سالم، به

وقال الحافظ أبو يعلى:حدثنا زكريا بن يحيى، حدثنا هُشَيم، عن حُصَين، عن سالم بن أبي الجعد وأبي سفيان، عن جابر بن عبد الله قال:بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فقدمت عيرٌ إلى المدينة، فابتدرها أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « والذي نفسي بيده، لو تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد، لسال بكم الوادي نارًا » ونـزلت هذه الآية: ( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا ) وقال:كان في الاثني عشر الذين ثَبَتُوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:أبو بكر، وعمر، رضي الله عنهما .

وفي قوله: ( وَتَرَكُوكَ قَائِمًا ) دليل على أن الإمام يخطب يوم الجمعة قائما. وقد رَوَى مسلم في صحيحه عن جابر بن سَمُرَة قال:كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان يجلس بينهما، يقرأ القرآن ويذكر الناس.

ولكن هاهنا شيء ينبغي أن يُعلَم وهو:أن هذه القصة قد قيل:إنها كانت لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدّم الصلاة يوم الجمعة على الخطبة، كما رواه أبو داود في كتاب المراسيل:حدثنا محمود بن خالد، عن الوليد، أخبرني أبو معاذ بُكَير بن مَعروف، أنه سمع مُقَاتل بن حَيَّان يقول: « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي يوم الجمعة قبل الخطبة مثل العيدين، حتى إذا كان يوم والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، وقد صلى الجمعة، فدخل رجل فقال:إن دحيةَ بن خليفة قد قدمَ بتجارة يعني:فانفضوا، ولم يبق معه إلا نفر يسير.»

وقوله: ( قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ ) أي:الذي عند الله من الثواب في الدار الآخرة ( خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) أي:لمن توكل عليه، وطلب الرزق في وقته.

 

تفسير سورة المنافقون

 

وهي مدنية

بسم الله الرحمن الرحيم

إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ( 1 ) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 2 ) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ ( 3 ) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ( 4 )

يقول تعالى مخبرًا عن المنافقين:إنهم إنما يتفوهون بالإسلام إذا جاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فأما في باطن الأمر فليسوا كذلك، بل على الضدّ من ذلك؛ ولهذا قال تعالى: ( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ) أي:إذا حَضَروا عندك واجهوك بذلك، وأظهروا لك ذلك، وليسوا كما يقولون:ولهذا اعترض بجملة مخبرة أنه رسول الله، فقال: ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ )

ثم قال: ( وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ) أي:فيما أخبروا به، وإن كان مطابقًا للخارج؛ لأنهم لم يكونوا يعتقدون صحة ما يقولون ولا صدقه؛ ولهذا كذبهم بالنسبة إلى اعتقادهم.

وقوله: ( اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) أي:اتقوا الناس بالأيمان الكاذبة والحَلْفات الآثمة، ليصدقوا فيما يقولون، فاغتر بهم من لا يعرف جلية أمرهم، فاعتقدوا أنهم مسلمون فربما اقتدى بهم فيما يفعلون وصدقهم فيما يقولون، وهم من شأنهم أنهم كانوا في الباطن لا يألون الإسلام وأهله خَبَلا فحصل بهذا القدر ضرر كبير على كثير من الناس ولهذا قال تعالى: ( فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ولهذا كان الضحاك بن مُزَاحم يقرؤها: « اتَّخَذُوا إيمَانَهُمْ جُنَّةً » أي:تصديقهم الظاهر جُنَّة، أي:تقية يتقون به القتل. والجمهور يقرؤها: ( أيمانهم ) جمع يمين.

[ وقوله ] ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ ) أي:إنما قُدّر عليهم النفاق لرجوعهم عن الإيمان إلى الكفران، واستبدالهم الضلالة بالهدى ( فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ ) أي:فلا يصل إلى قلوبهم هدى، ولا يخلص إليها خير، فلا تعي ولا تهتدي.

( وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ) أي:كانوا أشكالا حسنة وذوي فصاحة وألسنة، إذا سمعهم السامع يصغي إلى قولهم لبلاغتهم، وهم مع ذلك في غاية الضعف والخَور والهلع والجزع والجبن؛ ولهذا قال: ( يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ) أي:كلما وقع أمر أو كائنة أو خوف، يعتقدون، لجبنهم، أنه نازل بهم، كما قال تعالى: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [ الأحزاب:19 ] فهم جَهَامات وصور بلا معاني. ولهذا قال: ( هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) أي:كيف يُصرَفون عن الهدى إلى الضلال.

وقد قال الإمام أحمد:حدثنا يزيد، حدثنا عبد الملك بن قُدَامة الجُمَحي، عن إسحاق بن بكر بن أبي الفرات، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري. عن أبيه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن للمنافقين علامات يعرفون بها:تحيتهم لعنة، وطعامهم نُهبَة، وغنيمتهم غلول، ولا يقربون المساجد إلا هُجْرا ولا يأتون الصلاة إلا دُبْرا، مستكبرين لا يألَفون ولا يُؤلَفون، خُشُبٌ بالليل، صُخُب بالنهار » . وقال يزيد مَرةً:سُخُبٌ بالنهار

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ( 5 ) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( 6 ) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ ( 7 ) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ( 8 )

يقول تعالى مخبرا عن المنافقين - عليهم لعائن الله- أنهم ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ ) أي:صَدوا وأعرضوا عما قيل لهم، استكبارًا عن ذلك، واحتقارا لما قيل لهم ولهذا قال: ( وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ) ثم جازاهم على ذلك فقال: ( سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) كما قال في سورة « براءة » وقد تقدم الكلام على ذلك، وإيراد الأحاديث المروية هنالك.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا ابنُ أبي عُمَر العَدَني قال:قال سفيان ( لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ ) قال ابن أبي عمر:حوَّلَ سفيان وجهه على يمينه، ونظر بعينه شَزْرا، ثم قال:هم هذا.

وقد ذكر غير واحد من السلف أن هذا السياق كله نـزل في عبد الله بن أبي بن سلول كما سنورده قريبًا إن شاء الله تعالى، وبه الثقة وعليه التكلان.

وقد قال محمد بن إسحاق في السيرة:ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة - يعني مَرْجعَه من أحد- وكان عبد الله بن أبي بن سلول - كما حدثني ابن شهاب الزهري- له مقام يَقُومه كل جُمُعة لا ينُكر، شرفًا له من نفسه ومن قومه، وكان فيهم شريفا، إذا جلس النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وهو يخطب الناس قام، فقال:أيها الناس، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم، أكرمكم الله به، وأعزكم به، فانصروه وعَزّروه، واسمعوا له وأطيعوا. ثم جلس، حتى إذا صنع يوم أُحد ما صَنَع - يعني مرجعه بثلث الجيش- ورجع الناس قام يفعل ذلك كما كان يفعله، فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه وقالوا:اجلس، أي عدو الله، لست لذلك بأهل، وقد صنعتَ ما صنعتَ. فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول:والله لكأنما قلت بَجْرًا؛ أن قُمت أشدد أمره. فلقيه رجال من الأنصار بباب المسجد فقالوا:ويلك. ما لك؟ قال:قمتُ أشدد أمره، فوثب علي رجال من أصحابه يجذبونني ويعنفونني، لكأنما قلت بَجْرًا، أن قمت أشدد أمره. قالوا:ويلك. ارجع يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال:والله ما أبتغي أن يستغفر لي

وقال قتادة والسدي:أنـزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي، وذلك أن غلاما من قرابته انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه بحديث عنه وأمر شديد، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يحلف بالله ويتبرأ من ذلك، وأقبلت الأنصار على ذلك الغلام فلاموه وعَذَموه وأنـزل الله فيه ما تسمعون، وقيل لعدو الله:لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فجعل يلوي رأسه، أي:لست فاعلا

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أبو الربيع الزهراني، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا أيوب، عن سعيد بن جبير:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نـزل منـزلا لم يرتحل حتى يصلي فيه، فلما كانت غزوة تبوك بلغه أنَّ عبدَ الله ابن أبي بن سلول قال: ( لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ ) فارتحل قبل أن ينـزل آخر النهار، وقيل لعبد الله بن أبي:ائت النبي صلى الله عليه وسلم حتى يستغفر لك. فأنـزل الله: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ إلى قوله: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ )

وهذا إسناد صحيح إلى سعيد بن جبير. وقوله:إن ذلك كان في غزوة تبوك، فيه نظر، بل ليس بجيد؛ فإن عبد الله بن أبي بن سلول لم يكن ممن خرج في غزوة تبوك، بل رجع بطائفة من الجيش. وإنما المشهور عند أصحاب المغازي والسير أن ذلك كان في غزوة المُرَيسيع، وهي غزوة بني المصطلق.

قال يونس بن بُكَيْر، عن ابن إسحاق:حدثني محمد بن يحيى بن حبان، وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن عُمَر بن قتادة، في قصة بني المصطلق:فبينا رسول الله مقيم هناك، اقتتل على الماء جَهجاه بن سعيد الغفاري - وكان أجيرا- لعمر بن الخطاب، وسنان بن وَبْر قال ابن إسحاق:فحدثني محمد بن يحيى بن حبان قال:ازدحما على الماء فاقتتلا فقال سنان:يا معشر الأنصار. وقال الجهجاه:يا معشر المهاجرين - وزيد بن أرقم ونفر من الأنصار عند عبد الله بن أبي- فلما سمعها قال:قد ثاورُونا في بلادنا. والله ما مثلُنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال القائل: « سَمن كلبك يأكلك » . والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. ثم أقبل على من عنده من قومه وقال:هذا ما صنعتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو كففتم عنهم لتحولوا عنكم في بلادكم إلى غيرها. فسمعها زيد ابن أرقم، فذهب بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غُلَيّمٌ - وعنده عمر بن الخطاب رضي الله عنه- فأخبره الخبر، فقال عمر رضي الله عنه:يا رسول الله مر عَبّاد بن بشرْ فليضرب عنقه. فقال صلى الله عليه وسلم: « فكيف إذا تحدث الناس - يا عمر- أن محمدا يقتل أصحابه؟ لا ولكن ناد يا عمر في الرحيل » .

فلما بلغ عبد الله بن أبي أن ذلك قد بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، أتاه فاعتذر إليه، وحلف بالله ما قال ما قال عليه زيد بن أرقم - وكان عند قومه بمكان- فقالوا:يا رسول الله، عسى أن يكون هذا الغلام أوهم ولم يثبت ما قال الرجل.

وراح رسول الله صلى الله عليه وسلم مُهجرًا في ساعة كان لا يروح فيها، فلقيه أسيد بن الحضير فسلم عليه بتحية النبوة، ثم قال:والله لقد رُحتَ في ساعة مُنكَرَة ما كنت تروح فيها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أما بلغك ما قال صاحبك ابن أبي؟. زعم أنه إذا قدم المدينة سيخرج الأعز منها الأذل » . قال:فأنت - يا رسول الله- العزيزُ وهو الذليل. ثم قال:يا رسول الله ارفق به فوالله لقد جاء الله بك وإنا لننظم له الخَرزَ لِنُتَوّجه، فإنه ليرى أن قد استلبتَه ملكا.

فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس حتى أمسوا، ليلته حتى أصبحوا، وصَدرَ يومه حتى اشتد الضحى. ثم نـزل بالناس ليشغلهم عما كان من الحديث، فلم يأمن الناس أن وجدوا مَس الأرض فناموا، ونـزلت سورة المنافقين

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي:أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو بكر بن إسحاق، أخبرنا بشر بن موسى، حدثنا الحُميدي، حدثنا سفيان، حدثنا عمرو بن دينار، سمعت جابر بن عبد الله يقول:كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غَزَاة فكَسَعَ رجلٌ من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري:ياللأنصار. وقال المهاجري:يا للمهاجرين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما بال دعوى الجاهلية؟ دعوها فإنها منتنة » . وقال عبد الله بن أبي بن سلول - وقد فعلوها- :والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال جابر:وكان الأنصار بالمدينة أكثر من المهاجرين حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم كثر المهاجرون بعد ذلك، فقال عمر:دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « دعه؛ لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه »

ورواه الإمام أحمد عن حسين بن محمد المروزي، عن سفيان بن عيينة ورواه البخاري عن الحميدي، ومسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وغيره، عن سفيان، به نحوه

وقال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن محمد بن كعب القرظي، عن زيد بن أرقم قال:كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فقال عبد الله بن أبي:لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال:فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، قال:فحلف عبد الله بن أبي أنه لم يكن شيء من ذلك. قال:فلامني قومي وقالوا:ما أردتَ إلى هذا؟ قال:فانطلقت فنمتُ كئيبا حَزينا، قال:فأرسل إلي نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: « إن الله قد أنـزل عُذركَ وصَدَّقك » . قال:فنـزلت هذه الآية ( هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا ) حتى بلغ: ( لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ )

ورواه البخاري عند هذه الآية، عن آدم بن أبي إياس، عن شعبة ثم قال: « وقال ابن أبي زائدة، عن الأعمش، عن عمرو، عن ابن أبي ليلى، عن زيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه الترمذي والنسائي عندها أيضا من حديث شعبة، به »

طريق أخرى عن زيد:قال الإمام أحمد، رحمه الله، حدثنا يحيى بن آدم، ويحيى بن أبي بُكَير قال:حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق قال:سمعت زيد بن أرقم - وقال ابن أبي بُكَير عن زيد بن أرقم- قال:خرجت مع عمي في غزاة، فسمعت عبد الله بن أبي بن سلول يقول لأصحابه:لا تنفقوا على من عند رسول الله، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فذكرت ذلك لعمي فذكره عمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثته فأرسل إلى عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه فحلفوا ما قالوا:فكَذبني رسول الله صلى الله عليه وسلم وصَدَّقه، فأصابني هَمٌ لم يصبني مثله قط، وجلست في البيت، فقال عمي:ما أردت إلا أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتك. قال:حتى أنـزل الله: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قال:فبعث إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها رسول الله على، ثم قال: « إن الله قد صدقك »

ثم قال أحمد أيضا:حدثنا حسن بن موسى، حدثنا زهير، حدثنا أبو إسحاق:أنه سمع زيد ابن أرقم يقول:خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فأصاب الناس شدةٌ، فقال عبد الله بن أبي لأصحابه:لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله. وقال:لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك، فأرسل إلى عبد الله بن أبي فسأله، فاجتهد يمينَه ما فعل. فقالوا:كذب زيد يا رسول الله. فوقع في نفسي ما قالوا، حتى أنـزل الله تصديقي: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قال:ودعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم، فلووا رؤوسهم. وقوله تعالى: كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ قال:كانوا رجالا أجمل شيء.

وقد رواه البخاري ومسلم والنسائي، من حديث زهير ورواه البخاري أيضا والترمذي من حديث إسرائيل، كلاهما عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السَّبيعيّ الهمداني الكوفي، عن زيد، به .

طريق أخرى عن زيد:قال أبو عيسى الترمذي:حدثنا عبد بن حُمَيد، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي سعد الأزدي قال:حدثنا زيد بن أرقم قال:غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان معنا أناس من الأعراب، فكنا نَبتَدرُ الماء، وكان الأعراب يسبقوننا يسبق الأعرابي أصحابه يملأ الحوض، ويجعل حوله حجارة، ويجعل النّطع عليه حتى يجيء أصحابه. قال:فأتى رجل من الأنصار الأعرابي، فأرخى زمام ناقته لتشرب، فأبى أن يدعه، فانتزع حجرًا ففاض الماء، فرفع الأعرابي خشبة، فضرب بها رأس الأنصاري فشجّه، فأتى عبدَ الله بن أبيّ رأسَ المنافقين فأخبره - وكان من أصحابه- فغضب عبد الله بن أبي، ثم قال:لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله - يعني الأعراب- وكانوا يحضرون رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الطعام. فقال عبد الله لأصحابه:إذا انفضوا من عند محمد فائتوا محمدًا بالطعام، فليأكل هو ومن عنده، ثم قال لأصحابه:إذا رجعتم إلى المدينة فليخرج الأعز منها الأذل. قال زيد:وأنا ردف عمي، فسمعت عبد الله فأخبرت عمي، فانطلق فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه رسول الله، فحلف وجحد، قال:فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني، فجاء إلي عمي فقال:ما أردت إلا أن مقتك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبكَ المسلمون. فوقع علي من الغم ما لم يقع على أحد قط، فبينما أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وقد خَفَقْتُ برأسي من الهم، إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فَعَرَك أذني، وضحك في وجهي، فما كان يسرني أن لي بها الخلد في الدنيا، ثم إن أبا بكر لحقني وقال:ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت:ما قال لى رسول الله شيئًا، غير أن عرك أذني وضحك في وجهي. فقال:أبشر. ثم لحقني عمر فقلت له مثل قولي لأبي بكر. فلما أن أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقين.

انفرد بإخراجه الترمذي وقال:هذا حديث حسن صحيح. وهكذا رواه الحافظ البيهقي عن الحاكم عن أبي العباس محمد بن أحمد المحبوبي، عن سعيد بن مسعود، عن عبيد الله بن موسى، به وزاد بعد قوله « سورة المنافقين » ( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ) حتى بلغ: ( هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا ) حتى بلغ: ( لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ )

وقد روى عبد الله بن لهيعة، عن أبي الأسود، عُروَةَ بن الزبير في المغازي - وكذا ذكر موسى بن عقبة في مغازيه أيضا هذه القصة بهذا السياق، ولكن جعلا الذي بَلّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام عبد الله بن أبي بن سلول إنما هو أوس بن أرقم، من بني الحارث بن الخزرج. فلعله مبلغ آخر، أو تصحيف من جهة السمع، والله أعلم.

وقد قال ابن أبي حاتم، رحمه الله:حدثنا محمد بن عزيز الأيلي، حدثنا سلامة، حدثني عقيل، أخبرنى محمد بن مسلم، أن عروة بن الزبير وعمرو بن ثابت الأنصاري أخبراه:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا غزوة المريسيع، وهي التي هدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها مناة الطاغية التي كانت بين قفا المُشَلّل وبين البحر، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فكسر مناة، فاقتتل رجلان في غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك، أحدهما من المهاجرين، والآخر من بَهْز، وهم حلفاء الأنصار، فاستعلى الرجل الذي من المهاجرين على البهزي، فقال البهزي:يا معشر الأنصار، فنصره رجال من الأنصار، وقال المهاجري:يا معشر المهاجرين. فنصره رجال من المهاجرين، حتى كان بين أولئك الرجال من المهاجرين والرجال من الأنصار شيء من القتال، ثم حُجز بينهم فانكفأ كل منافق - أو:رجل في قلبه مرض- إلى عبد الله بن أبيّ بن سلول، فقال:قد كنت تُرْجَى وتَدفع فأصبحت لا تضر ولا تنفع، قد تناصرت علينا الجلابيب - وكانوا يَدْعُون كُلّ حديث هجرة الجلابيب- فقال عبد الله بن أبي عدو الله: [ والله ] لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال مالك بن الدخْشُم - وكان من المنافقين- :أولم أقل لكم لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا. فسمع بذلك عمرُ بن الخطاب، فأقبل يمشي حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله، ائذن لي في هذا الرجل الذي قد أفتن الناس، أضربُ عنقه - يريد عمرُ عبدَ الله بن أبي- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: « أو قاتله أنتَ إن أمرتُك بقتله؟ » . قال:عمر [ نعم ] والله لئن أمرتني بقتله لأضربَنّ عنقه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اجلس » . فأقبل أسيدُ بن الحضير - وهو أحد الأنصار، ثم أحد بني عبد الأشهل- حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله، ائذن لي في هذا الرجل الذي قد أفتن الناس [ حتى ] أضرب عنقه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أوقاتله أنتَ إن أمرتُك بقتله؟ » . قال:نعم، والله لئن أمرتني بقتله لأضربن بالسيف تحت قُرط أذنيه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اجلس » . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « آذنوا بالرحيل » . فَهَجَّرَ بالناس، فسار يومه وليلته والغد حتى مَتَعَ النهار، ثم نـزل. ثم هَجَّر بالناس مثلها، فَصبح بالمدينة في ثلاث سارها من قفا المُشلَّل فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أرسل إلى عمر فدعاه، فقال له رسول الله: « أي ْعمر، أكنت قاتله لو أمرتك بقتله؟ » قال عمر:نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « والله لو قتلته يومئذ لأرغمتَ أنوف رجال لو أمرتهم اليوم بقتله امتثلوه فيتحدث الناسُ أني قد وقعت على أصحابي فأقتلهم صبرًا » . وأنـزل الله عز وجل: ( هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا ) إلى قوله: ( لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ [ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَل ] ) الآية.

وهذا سياق غريب، وفيه أشياء نفيسة لا توجد إلا فيه.

وقال محمد بن إسحاق بن يسار:حدثني عاصم بن عمر بن قتادة:أن عَبدَ الله بن أبي - يعنى لما بلغه ما كان من أمر أبيه- أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبَيّ فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرّ بوالده مني، إني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس، فأقتله، فأقتل مؤمنًا بكافر، فأدخل النار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « بل نترفق به ونحسن صحبته، ما بقي معنا »

وذكر عكرمةُ وابن زيد وغيرهما:أن الناس لما قفلوا راجعين إلى المدينة، وقف عبدُ الله بن عبد الله هذا على باب المدينة، واستل سيفه، فجعل الناس يمرون عليه، فلما جاء أبوه عبد الله بن أبي قال له ابنه:وراءك. فقال:ما لك؟ ويلك. فقال:والله لا تجوز من هاهنا حتى يأذنَ لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه العزيز وأنت الذليل. فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكان إنما يسير ساقة فشكا إليه عبد الله بن أبيّ ابنه، فقال ابنه عبد الله:والله يا رسول الله لا يدخلها حتى تأذن له. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:أما إذ أذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فَجُز الآن.

وقال أبو بكر عبد الله بن الزبير في مسنده:حدثنا سفيان بن عُيَينة، حدثنا أبو هارون المدني قال:قال عبد الله بن عبد الله ابن أبي بن سلول لأبيه:والله لا تدخل المدينة أبدًا حتى تقول:رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الأعز وأنا الأذل. قال وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد أن تقتل أبي، فوالذي بعثك بالحق ما تأملت وجهه قط هيبة له، لئن شئت أن آتيك برأسه لأتينك، فإني أكره أن أرى قاتل أبي \

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( 9 ) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ( 10 ) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( 11 )

يقول تعالى آمرًا لعباده المؤمنين بكثرة ذكره وناهيا لهم عن أن تشغلهم الأموال والأولاد عن ذلك ومخبرًا لهم بأنه من التَهَى بمتاع الحياة الدنيا وزينتها عما خُلِقَ له من طاعة ربه وذكره، فإنه من الخاسرين الذين يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ثم حثهم على الإنفاق في طاعته فقال: ( وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) فكل مُفَرِّط يندم عند الاحتضار، ويسأل طول المدة ولو شيئا يسيرًا، يستعتب ويستدرك ما فاته، وهيهات! كان ما كان، وأتى ما هو آت، وكل بحسب تفريطه، أما الكفار فكما قال [ الله ] تعالى: وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ [ إبراهيم:44 ] وقال تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [ المؤمنون:99 ، 100 ] .

ثم قال تعالى: ( وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) أي:لا ينظر أحدًا بعد حلول أجله، وهو أعلم وأخبر بمن يكون صادقًا في قوله وسؤاله ممن لو رُدّ لعاد إلى شر مما كان عليه؛ ولهذا قال: ( وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) وقال أبو عيسى الترمذي:حدثنا عبد بن حميد، حدثنا جعفر بن عون، حدثنا أبو جَنَاب الكلبي، عن الضحاك بن مُزاحم، عن ابن عباس قال:من كان له مال يبلغه حج بيت ربه، أو تجب عليه فيه زكاةٌ، فلم يفعل، سأل الرجعة عند الموت. فقال رجل:يا ابن عباس، اتق الله، فإنما يسأل الرجعة الكفار. فقال سأتلوا عليك بذلك قرآنا: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ [ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ] وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) قال:فما يوجب الزكاة؟ قال:إذا بلغ المال مائتين فصاعدا. قال:فما يوجب الحج؟ قال:الزاد والبعير.

ثم قال:حدثنا عبد بن حُميَد، حدثنا عبد الرزاق، عن الثوري، عن يحيى بن أبي حَيَّة - وهو أبو جناب الكلبي- عن الضحاك، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه

ثم قال:وقد رواه سفيان بن عيينة وغيره، عن أبي جَنَاب، عن ابن الضحاك، عن ابن عباس، من قوله. وهو أصح، وضعَّف أبا جناب الكلبي.

قلت:رواية الضحاك عن ابن عباس فيها انقطاع، والله أعلم.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا ابن نُفَيل، حدثنا سليمان بن عطاء، عن مسلمة الجهني، عن عمه - يعني أبا مشجعة بن رِبْعِي- عن أبي الدرداء، رضي الله عنه، قال:ذكرنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الزيادة في العمر فقال: « إن الله لا يؤخر نفسًا إذا جاء أجلها، وإنما الزيادة في العمر أن يرزق الله العبدَ ذُرية صالحة يدعون له، فيلحقه دعاؤهم في قبره »

آخر تفسير سورة « المنافقون » ولله الحمد والمنة

 

تفسير سورة التغابن

 

وهي مدنية، وقيل:مكية.

قال الطبراني:حدثنا محمد بن هارون بن محمد بن بكار الدمشقي، حدثنا العباس بن الوليد الخلال، حدثنا الوليد بن الوليد، حدثنا ابن ثوبان، عن عطاء بن أبي رباح، عن عبد الله بن عَمرو، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما من مولود يولد إلا مكتوب في تشبيك رأسه خمس آيات من سورة التغابن »

أورده ابن عساكر في ترجمة « الوليد بن صالح » وهو غريب جدًّا، بل منكر.

بسم الله الرحمن الرحيم

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 1 ) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 2 ) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ( 3 ) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 4 )

هذه السورة هي آخر المُسَبِّحات، وقد تقدم الكلام على تسبيح المخلوقات لبارئها ومالكها؛ ولهذا قال: ( لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ) أي:هو المتصرف في جميع الكائنات، المحمود على جميع ما يخلقه ويقدره.

وقوله: ( وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) أي:مهما أراد كان بلا ممانع ولا مدافع، وما لم يشأ لم يكن.

وقوله: ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ) أي:هو الخالق لكم على هذه الصفة، وأراد منكم ذلك، فلا بد من وجود مؤمن وكافر، وهو البصير بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلال، وهو شهيد على أعمال عباده، وسيجزيهم بها أتم الجزاء؛ ولهذا قال: ( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )

ثم قال: ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ ) أي:بالعدل والحكمة، ( وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ) أي:أحسن أشكالكم، كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [ الانفطار:6- 8 ] وكقوله: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ الآية [ غافر:64 ] وقوله: ( وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) أي:المرجع والمآب.

ثم أخبر تعالى عن علمه بجميع الكائنات السمائية والأرضية والنفسية، فقال: ( يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ )

أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 5 ) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ( 6 )

يقول تعالى مخبرًا عن الأمم الماضين، وما حل بهم من العذاب والنكال؛ في مخالفة الرسل والتكذيب بالحق، فقال: ( أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ) أي:خبرهم وما كان من أمرهم، ( فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ ) أي:وخيم تكذيبهم ورديء أفعالهم، وهو ما حل بهم في الدنيا من العقوبة والخزي ( وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) أي:في الدار الآخرة مضاف إلى هذا الدنيوي. ثم علل ذلك فقال: ( ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ) أي:بالحجج والدلائل والبراهين ( فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا ) ؟ أي:استبعدوا أن تكون الرسالة في البشر، وأن يكون هداهم على يدي بشر مثلهم، ( فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا ) أي:كذبوا بالحق ونكلوا عن العمل، ( وَاسْتَغْنَى اللَّهُ ) أي:عنهم ( وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ )

زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ( 7 ) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 8 ) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 9 )

يقول تعالى مخبرًا عن المشركين والكفار والملحدين أنهم يزعمون أنهم لا يبعثون: ( قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ ) أي:لتُخْبَرُنَّ بجميع أعمالكم، جليلها وحقيرها، صغيرها وكبيرها، ( وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) أي:بعثكم ومجازاتكم.

وهذه هي الآية الثالثة التي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه، عز وجل، على وقوع المعاد ووجوده فالأولى في سورة يونس: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [ يونس:53 ] والثانية في سورة سبأ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ الآية [ سبأ:3 ] والثالثة هي هذه [ ( زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ] )

ثم قال تعالى: ( فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا ) يعني:القرآن ، ( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) أي:فلا تخفى عليه من أعمالكم خافية.

وقوله: ( يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ) وهو يوم القيامة، سمي بذلك لأنه يجمع فيه الأولون والآخرون في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينَفُذَهم البصر، كما قال تعالى: ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [ هود:103 ] وقال تعالى: قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [ الواقعة:49 ، 50 ]

وقوله: ( ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ) قال ابن عباس:هو اسم من أسماء يوم القيامة. وذلك أن أهل الجنة يغبنون أهل النار. وكذا قال قتادة ومجاهد.

وقال مقاتل بن حيان:لا غبن أعظمُ من أن يدخل هؤلاء إلى الجنة، ويُذْهَب بأولئك إلى النار.

قلت:وقد فسر ذلك بقوله تعالى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ وقد تقدم تفسير مثلُ هذه غير مرة.

 

وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( 10 ) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 11 ) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ( 12 ) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ( 13 )

يقول تعالى مخبرًا بما أخبر به في سورة الحديد: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [ الحديد:22 ] وهكذا قال هاهنا: ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ ) قال ابن عباس:بأمر الله، يعني:عن قدره ومشيئته.

( وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) أي:ومن أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره، فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله، هدى الله قلبه، وعَوَّضه عما فاته من الدنيا هُدى في قلبه، ويقينا صادقًا، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه، أو خيرًا منه.

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ) يعني:يهد قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.

وقال الأعمش، عن أبي ظِبْيان قال:كنا عند علقمة فقرئ عنده هذه الآية: ( وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ) فسئل عن ذلك فقال:هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم

وقال سعيد بن جبير، ومقاتل بن حيان: ( وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ) يعني:يسترجع، يقول: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [ البقرة:156 ]

وفي الحديث المتفق عليه: « عجبًا للمؤمن، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرًا له، إن أصابته ضَرَّاء صبر فكان خيرًا له، وإن أصابته سَرَّاء شكر فكان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن »

وقال أحمد:حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا الحارث بن يزيد، عن علي بن رَبَاح؛ أنه سمع جنادة بن أبي أمية يقول:سمعت عبادة بن الصامت يقول:إن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال: « إيمان بالله، وتصديق به، وجهاد في سبيله » . قال:أريد أهونَ من هذا يا رسول الله. قال: « لا تتهم الله في شيء، قضى لك به » . لم يخرجوه

وقوله: ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) أمرٌ بطاعة الله ورسوله فيما شرع، وفعل ما به أمر وترك ما عنه نهى وزجر، ثم قال: ( فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) أي:إن نكلتم عن العمل فإنما عليه ما حُمِّل من البلاغ، وعليكم ما حُمِّلْتم من السمع والطاعة.

قال الزهري:من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم

ثم قال تعالى مخبرًا أنه الأحد الصمد، الذي لا إله غيره، فقال: ( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) فالأول خَبَرٌ عن التوحيد، ومعناه معنى الطلب، أي:وحدوا الإلهية له، وأخلصوها لديه، وتوكلوا عليه، كما قال تعالى: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا [ المزمل:9 ] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 14 ) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ( 15 ) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 16 ) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ( 17 ) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 18 )

يقول تعالى مخبرًا عن الأزواج والأولاد:إن منهم من هو عدو الزوج والوالد، بمعنى:أنه يلتهى به عن العمل الصالح، كقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [ المنافقون:9 ] ؛ ولهذا قال هاهنا: ( فاحذروهم ) قال ابن زيد:يعني على دينكم.

وقال مجاهد: ( إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ ) قال:يحملُ الرجل على قطيعة الرحم أو معصية ربه، فلا يستطيع الرجل مع حبه إلا أن يطيعه. وقال ابن أبي حاتم، حدثنا أبي، حدثنا محمد بن خلف العسقلاني حدثنا الفريابي، حدثنا إسرائيل، حدثنا سمَاك بن حرب، عن عِكْرمة، عن ابن عباس - وسأله رجل عن هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ) - قال:فهؤلاء رجال أسلموا من مكة، فأرادوا أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يَدَعوهم، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم رأوا الناسَ قد فقهوا في الدين، فَهَمُّوا أن يعاقبوهم، فأنـزل الله هذه الآية: ( وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )

وكذا رواه الترمذي عن محمد بن يحيى، عن الفريابي - وهو محمد بن يوسف- به وقال حسن صحيح. ورواه ابن جرير والطبراني، من حديث إسرائيل، به ورُوي من طريق العوفي، عن ابن عباس، نحوه، وهكذا قال عكرمة مولاه سواء.

وقوله: ( إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) يقول تعالى:إنما الأموال والأولاد فتنة، أي:اختبار وابتلاء من الله لخلقه. ليعلم من يطيعه ممن يعصيه.

وقوله: ( وَاللَّهُ عِنْدَهُ ) أي:يوم القيامة ( أَجْرٌ عَظِيمٌ ) كما قال: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ والتي بعدها ] [ آل عمران:14 ، 15 ]

وقال الإمام أحمد:حدثنا زيد بن الحباب، حدثني حُسَين بن واقد، حدثني عبد الله بن بُرَيدة، سمعت أبي بريدة يقول:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فجاء الحسن والحسين، رضي الله عنهما، عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنـزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه، ثم قال: « صدق الله ورسوله، إنما أموالكم وأولادكم فتنة، نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما » .

ورواه أهل السنن من حديث حُسَين بن واقد، به وقال الترمذي:حسن غريب، إنما نعرفه من حديثه.

وقال الإمام أحمد:حدثنا سُرَيج بن النعمان، حدثنا هُشَيْم، أخبرنا مجالد، عن الشعبي، حدثنا الأشعث بن قيس قال:قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد كندة، فقال لي: « هل لك من ولد؟ » قلت:غلام ولد لي في مَخرجَي إليك من ابنة جمد، وَلَوَددْتُ أن بمكانه:شبَعَ القوم. قال: « لا تقولن ذلك، فإن فيهم قرة عين، وأجرًا إذا قبضوا » ، ثم قال: « ولئن قلت ذاك:إنهم لمجبنة مَحْزنة » تفرد به أحمد رحمه الله تعالى.

وقال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا محمود بن بكر، حدثنا أبي، عن عيسى [ بن أبي وائل ] عن ابن أبي ليلى، عن عطية، عن أبي سعيد قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الولد ثمرة القلوب، وإنهم مَجبنة مَبخلة محزنة » ثم قال:لا يعرف إلا بهذا الإسناد

وقال الطبراني:حدثنا هاشم بن مرثد حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش، حدثني أبي، حدثني ضَمْضَمُ بنُ زُرْعَةَ، عن شريح بن عبيد، عن أبي مالك الأشعري؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ليس عدوك الذي إن قتلته كان فوزًا لك، وإن قتلك دخلت الجنة، ولكن الذي لعله عدو لك ولدك الذي خرج من صلبك، ثم أعدى عدو لك مالُك الذي ملكت يمينك »

وقوله تعالى: ( فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) أي:جهدكم وطاقتكم. كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه »

وقد قال بعض المفسرين - كما رواه مالك، عن زيد بن أسلم- إن هذه الآية العظيمة ناسخة للتي في « آل عمران » وهي قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [ آل عمران:102 ]

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو زُرْعَة، حدثني يحيى بن عبد الله بن بُكَيْر، حدثني ابن لَهِيعة، حدثني عطاء - هو ابن دينار- عن سعيد بن جبير في قوله: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ قال:لما نـزلت الآية اشتد على القوم العمل، فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم، فأنـزل الله تخفيفًا على المسلمين: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) فنسخت الآية الأولى.

وروي عن أبي العالية، وزيد بن أسلم، وقتادة، والربيع بن أنس، والسُّدِّيّ، ومُقاتل بن حَيَّان، نحو ذلك.

وقوله: ( وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا ) أي:كونوا منقادين لما يأمركم الله به ورسوله، ولا تحيدوا عنه يمنة ولا يسرة، ولا تقدموا بين يدي الله ورسوله، ولا تتخلفوا عما به أمرتم، ولا تركبوا ما عنه زُجرتم.

وقوله تعالى: ( وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لأنْفُسِكُمْ ) أي:وابذلوا مما رزقكم الله على الأقارب والفقراء والمساكين وذوي الحَاجات، وأحسنوا إلى خلق الله كما أحسن إليكم، يكن خيرًا لكم في الدنيا والآخرة، وإن لا تفعلوا يكن شرًّا لكم في الدنيا والآخرة.

وقوله: ( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) تقدم تفسيره في سورة « الحشر » وذكر الأحاديث الواردة في معنى هذه الآية، بما أغنى عن إعادته ها هنا، ولله الحمد والمنة،

وقوله: ( إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ) أي:مهما أنفقتم من شيء فهو يخلفه، ومهما تصدقتم من شيء فعليه جزاؤه، ونـزل ذلك منـزلة القرض له، كما ثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول: « من يقرض غير ظلوم ولا عديم » ولهذا قال: ( يُضَاعِفْهُ لَكُمْ ) كما تقدم في سورة البقرة: فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [ البقرة:245 ]

( وَيَغْفِرْ لَكُمْ ) أي:ويكفر عنكم السيئات. ولهذا قال: ( وَاللَّهُ شَكُورٌ ) أي:يجزي على القليل بالكثير ( حليم ) أي: [ يعفو و ] يصفح ويغفر ويستر، ويتجاوز عن الذنوب والزلات والخطايا والسيئات.

( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) تقدم تفسيره غير مرة.

 

تفسير سورة الطلاق

 

وهي مدنية.

بسم الله الرحمن الرحيم

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ( 1 )

خُوطب النبي صلى الله عليه وسلم أولا تشريفًا وتكريما، ثم خاطب الأمة تبعًا فقال: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ )

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن ثواب بن سعيد الهباري، حدثنا أسباط بن محمد، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس قال:طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة، فأتت أهلها، فأنـزل الله، عز وجل: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ) فقيل له:راجعها فإنها صوامة قوامة، وهي من أزواجك ونسائك في الجنة.

ورواه ابن جرير، عن ابن بشار، عن عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة... فذكره مرسلا وقد ورد من غير وجه:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها.

وقال البخاري:حدثنا يحيى بن بُكَيْر، حدثنا الليث وعقيل، عن ابن شهاب، أخبرني سالم:أن عبد الله بن عمر أخبره:أنه طلق امرأة له وهي حائض، فذكر عمرُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: « ليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرًا قبل أن يمسها، فتلك العدة التي أمر الله، عز وجل »

هكذا رواه البخاري هاهنا وقد رواه في مواضع من كتابه، ومسلم، ولفظه: « فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء »

ورواه أصحاب الكتب والمسانيد من طرق متعددة وألفاظ كثيرة ومواضع استقصائها كتب الأحكام.

وأمَسُّ لفظ يورَد ها هنا ما رواه مسلم في صحيحه، من طريق ابن جُرَيْج:أخبرني أبو الزبير:أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن - مولى عَزة يسأل ابن عمر- وأبو الزبير يسمع ذلك:كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضًا؟ فقال:طَلَّق ابن عمر امرأته حائضا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:إن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ليراجعها » فَردَّها، وقال: « إذا طهرت فليطلق أو يمسك » . قال ابن عمر:وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ) .

وقال الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله في قوله: ( فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ) قال:الطهر من غير جماع وروي عن ابن عمر وعطاء، ومجاهد، والحسن، وابن سيرين، وقتادة، وميمون بن مِهْران، ومقاتل بن حيان مثل ذلك، وهو رواية عن عكرمة، والضحاك.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله تعالى: ( فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ) قال:لا يطلقها وهي حائض ولا في طهر قد جامعها فيه، ولكن:تتركها حتى إذا حاضت وطهرت طلقها تطليقة.

وقال عكرمة: ( فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ) العدة:الطهر، والقرء الحيضة، أن يطلقها حبلى مستبينا حملها، ولا يطلقها وقد طاف عليها، ولا يدري حبلى هي أم لا.

ومن ها هنا أخذ الفقهاء أحكام الطلاق وقسموه إلى طلاق سنة وطلاق بدعة، فطلاق السنة:أن يطلقها طاهرًا من غير جماع، أو حاملا قد استبان حملها. والبدعى:هو أن يطلقها في حال الحيض، أو في طهر قد جامعها فيه، ولا يدري أحملت أم لا؟ وطلاق ثالث لا سنة فيه ولا بدعة، وهو طلاق الصغيرة والآيسة، وغير المدخول بها، وتحرير الكلام في ذلك وما يتعلق به مستقصى في كتب الفروع، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وقوله ( وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ) أي:احفظوها واعرفوا ابتداءها وانتهاءها؛ لئلا تطول العدة على المرأة فتمتنع من الأزواج. ( وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ ) أي:في ذلك.

وقوله: ( لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ ) أي:في مدة العدة لها حق السكنى على الزوج ما دامت معتدة منه، فليس للرجل أن يخرجها، ولا يجوز لها أيضا الخروج لأنها معتقلة لحق الزوج أيضًا.

وقوله: ( إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) أي:لا يخرجن من بيوتهن إلا أن ترتكب المرأة فاحشة مبينة، فتخرج من المنـزل، والفاحشة المبينة تشمل الزنا، كما قاله ابن مسعود، وابن عباس، وسعيد بن المُسَيَّب، والشعبي، والحسن، وابن سيرين، ومجاهد، وعِكْرمة، وسعيد بن جبير، وأبو قِلابة، وأبو صالح، والضحاك، وزيد بن أسلم، وعطاء الخراساني، والسُّدِّي، وسعيد بن أبي هلال، وغيرهم وتشمل ما ذا نشزَت المرأة أو بَذَت على أهل الرجل وآذتهم في الكلام والفعال، كما قاله أبي بن كعب، وابن عباس، وعكرمة، وغيرهم.

وقوله: ( وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ) أي:شرائعه ومحارمه ( وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ ) أي:يخرج عنها ويتجاوزها إلى غيرها ولا يأتمر بها ( فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) أي:بفعل ذلك.

وقوله: ( لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ) أي:إنما أبقينا المطلقة في منـزل الزوج في مدة العدة، لعل الزوج يندم على طلاقها ويخلق الله في قلبه رَجْعَتَها، فيكون ذلك أيسر وأسهل.

قال الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن فاطمة بنت قيس في قوله: ( لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ) قال:هي الرجعة. وكذا قال الشعبي، وعطاء، وقتادة، والضحاك، ومقاتل ابن حيان، والثوري. ومن هاهنا ذهب من ذهب من السلف ومن تابعهم، كالإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله تعالى إلى أنه لا تجب السكنى للمبتوتة، وكذا المتوفى عنها زوجها، واعتمدوا أيضًا على حديث فاطمة بنت قيس الفهرية، حين طلقها زوجها أبو عمرو بن حفص آخر ثلاث تطليقات، وكان غائبًا عنها باليمن، فأرسل إليها بذلك، فأرسل إليها وكيله بشعير - [ يعني ] نفقة- فَتَسَخَّطته فقال:والله ليس لك علينا نفقة. فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: « ليس لك عليه نفقة » . ولمسلم:ولا سكنى، وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك، ثم قال: « تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدي عند ابن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك » الحديث

وقد رواه الإمام أحمد من طريق أخرى بلفظ آخر، فقال:

حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا مجالد، حدثنا عامر قال:قدمت المدينة فأتيت فاطمة بنت قيس، فحدثتني أن زوجها طلقها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سَرية. قالت:فقال لي أخوه:اخرجي من الدار. فقلت:إن لي نفقة وسكنى حتى يحل الأجل. قال:لا. قالت:فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت:إن فلانا طلقني، وأن أخاه أخرجني ومنعني السكنى والنفقة، [ فأرسل إليه ] فقال: « ما لك ولابنة آل قيس » ، قال:يا رسول الله، إن أخي طلقها ثلاثا جميعًا. قالت:فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « انظري يا بنت آل قيس، إنما النفقة والسكنى للمرأة على زوجها ما كان له عليها رجعة، فإذا لم يكن له عليها رجعة فلا نفقة ولا سكنى. اخرجي فانـزلي على فلانة » . ثم قال: « إنه يُتحَدّث إليها، انـزلي على ابن أم مكتوم، فإنه أعمى لا يراك » وذكر تمام الحديث

وقال أبو القاسم الطبراني:حدثنا أحمد بن عبد الله البزار التُّسْتَريّ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الصواف، حدثنا بكر بن بكار، حدثنا سعيد بن يزيد البجلي، حدثنا عامر الشعبي:أنه دخل على فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس القرشي، وزوجها أبو عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي فقالت:إن أبا عمرو بن حفص أرسل إلي وهو منطلق في جيش إلى اليمن بطلاقي، فسألت أولياءه النفقة علي والسكنى، فقالوا:ما أرسل إلينا في ذلك شيئًا، ولا أوصانا به. فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت:يا رسول الله، إن أبا عمرو بن حفص أرسل إلي بطلاقي، فطلبت السكنى والنفقة علي، فقال:أولياؤه:لم يرسل إلينا في ذلك بشيء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها رجعة، فإذا كانت لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره فلا نفقة لها ولا سكنى » .

وكذا رواه النسائي عن أحمد بن يحيى الصوفي، عن أبي نعيم الفضل بن دُكَيْن، عن سعيد بن يزيد وهو الأحمسي البَجَلي الكوفي. قال أبو حاتم الرازي:وهو شيخ، يروى عنه

فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ( 2 ) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ( 3 )

يقول تعالى:فإذا بلغت المعتدات أجلهن، أي:شارفن على انقضاء العدة وقاربن ذلك، ولكن لم تفرغ العدة بالكلية، فحينئذ إما أن يعزم الزوج على إمساكها، وهو رجعتها إلى عصمة نكاحه والاستمرار بها على ما كانت عليه عنده. ( بِمَعْرُوفٍ ) أي:محسنًا إليها في صحبتها، وإما أن يعزم على مفارقتها ( بِمَعْرُوفٍ ) أي:من غير مقابحة ولا مشاتمة ولا تعنيف، بل يطلقها على وجه جميل وسبيل حسن.

وقوله: ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) أي:على الرجعة إذا عَزَمتم عليها، كما رواه أبو داود وابن ماجة، عن عمران بن حُصَين:أنه سُئِل عن الرجل يطلق امرأته ثم يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال:طَلَّقتَ لغير سنة، ورجعت لغير سنة، وأشهِدْ على طلاقها وعلى رجعتها، ولا تَعُدْ

وقال ابن جريج:كان عطاء يقول: ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) قال:لا يجوز في نكاح ولا طلاق ولا رجاع إلا شاهدا عدل، كما قال الله، عز وجل، إلا أن يكون من عذر.

وقوله: ( ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) أي:هذا الذي أمرناكم به من الإشهاد وإقامة الشهادة، إنما يأتمر به من يؤمن بالله وأنه شرع هذا، ومن يخاف عقاب الله في الدار الآخرة.

ومن ها هنا ذهب الشافعي - في أحد قوليه- إلى وجوب الإشهاد في الرجعة، كما يجب عنده في ابتداء النكاح. وقد قال بهذا طائفة من العلماء، ومن قال بهذا يقول:إن الرجعة لا تصح إلا بالقول ليقع الإشهاد عليها.

وقوله: ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) أي:ومن يتق الله فيما أمره به، وتَرَك ما نهاه عنه، يجعل له من أمره مخرجًا، ويرزقه من حيث لا يحتسب، أي:من جهة لا تخطر بباله.

قال الإمام أحمد:حدثنا يزيد، أخبرنا كَهمس بن الحسن، حدثنا أبو السليل، عن أبي ذر قال:جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو عَلَيَّ هذه الآية: ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) حتى فرغ من الآية، ثم قال: « يا أبا ذر، لو أن الناس كلهم أخذوا بها كفتهم » . وقال:فجعل يتلوها ويُرددها علي حتى نَعَست، ثم قال: « يا أبا ذر، كيف تصنع إن أخرجت من المدينة؟. » قلت:إلى السعة والدّعة أنطلق، فأكون حمامة من حمام مكة. قال: « كيف تصنع إن أخرجت من مكة؟ » . قال:قلت:إلى السعة والدّعة، وإلى الشام والأرض المقدسة. قال: « وكيف تصنع إن أخرجتَ من الشام؟ » . قلت:إذا - والذي بعثك بالحق - أضع سيفي على عاتقي. قال: « أوخير من ذلك؟ » . قلت:أوخير من ذلك؟ قال: « تسمع وتطيع، وإن كان عبدًا حبشيًّا »

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا يعلى بن عبيد، حدثنا زكريا، عن عامر، عن شُتَير بن شكَل قال:سمعت عبد الله بن مسعود يقول:إن أجمع آية في القرآن: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ [ النحل:90 ] وإن أكثر آية في القرآن فرجًا: ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا )

وفي المسند:حدثني مهدي بن جعفر، حدثنا الوليد بن مسلم، عن الحكم بن مصعب، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هَمٍّ فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب »

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ) يقول:ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة، ( وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ )

وقال الربيع بن خثيم: ( يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ) أي:من كل شيء ضاق على الناس.

وقال عكرمة:من طلق كما أمره الله يجعل له مخرجًا. وكذا روي عن ابن عباس، والضحاك.

وقال ابن مسعود، ومسروق: ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ) يعلم أن الله إن شاء منع، وإن شاء أعطى ( مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) أي من حيث لا يدري.

وقال قتادة: ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ) أي:من شبهات الأمور والكرب عند الموت، ( وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) ومن حيث لا يرجو أو لا يأمل.

وقال السدي: ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ ) يطلق للسنة، ويراجع للسنة، وزعم أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له: « عوف بن مالك الأشجعي » كان له ابن، وأن المشركين أسروه، فكان فيهم، وكان أبوه يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشكو إليه مكان ابنه وحاله التي هو بها وحاجته، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره بالصبر، ويقول له: « إن الله سيجعل لك فرجًا » فلم يلبث بعد ذلك إلا يسيرًا أن انفلت ابنه من أيدي العدو فمر بغنم من أغنام العدو، فاستاقها فجاء بها إلى أبيه، وجاء معه بغنى قد أصابه من الغنم، فنـزلت فيه هذه الآية: ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ )

رواه ابن جرير، وروي أيضًا من طريق سالم بن أبي الجعد مرسلا نحوه

وقال الإمام أحمد، حدثنا وكَيع، حدثنا سفيان، عن عبد الله بن عيسى، عن عبد الله بن أبي الجعد، عن ثوبان قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن العبد لَيُحْرَمُ الرزق بالذنب يُصيبُه، ولا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر » .

ورواه النسائي وابن ماجة، من حديث سفيان - وهو الثوري- به

وقال محمد بن إسحاق:جاء مالك الأشجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:له أسر ابني عوف. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أرسل إليه أن رسول الله يأمرك أن تكثر من قول:لا حول ولا قوة إلا بالله » . وكانوا قد شدوه بالقد فسقط القِد عنه، فخرج، فإذا هو بناقة لهم فركبها، وأقبل فإذا بسَرْح القوم الذين كانوا قد شدوه فصاح بهم، فاتبع أولها آخرها، فلم يفجأ أبويه إلا وهو ينادي بالباب، فقال أبوه:عوف ورب الكعبة. فقالت أمه:واسوأتاه. وعوف كيف يقدم لما هو فيه من القد - فاستبقا الباب والخادم، فإذا عوف قد ملأ الفناء إبلا فقص على أبيه أمره وأمر الإبل، فقال أبوه:قفا حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله عنها. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بخبر عوف وخبر الإبل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اصنع بها ما أحببت، وما كنت صانعًا بمالك » . ونـزل: ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ )

رواه ابن أبي حاتم.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، حدثنا إبراهيم بن الأشعث، حدثنا الفضيل بن عياض، عن هشام بن حسان عن عمران بن حُصَين قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من انقطع إلى الله كفاه الله كل مَئُونة، ورزقه من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا وكَلَه إليها »

وقوله: ( وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) قال الإمام أحمد:

حدثنا يونس، حدثنا ليث، حدثنا قيس بن الحجاج، عن حَنَش الصنعاني، عن عبد الله بن عباس:أنه حدثه أنه ركب خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا غلام، إني معلمك كلمات:احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك، لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف » .

وقد رواه الترمذي من حديث الليث بن سعد، وابن لَهِيعة، به وقال:حسن صحيح.

وقال الإمام أحمد:حدثنا وَكِيع، حدثنا بشير بن سلمان، عن سيار أبي الحكم، عن طارق بن شهاب، عن عبد الله - هو ابن مسعود- قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من نـزل به حاجة فأنـزلها بالناس كان قمنًا أن لا تُسَهَّل حاجته، ومن أنـزلها بالله أتاه الله برزق عاجل، أو بموت آجل » .

ثم رواه عن عبد الرزاق، عن سفيان، عن بشير، عن سيار أبي حمزة، ثم قال:وهو الصواب، وسيار أبو الحكم لم يحدث عن طارق

وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ) أي:منفذ قضاياه وأحكامه في خلقه بما يريده ويشاؤه ( قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ) كقوله: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [ الرعد:8 ]

وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ( 4 ) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ( 5 )

يقول تعالى مبينًا لعدة الآيسة - وهي التي قد انقطع عنها الحيض لكبرها- :أنها ثلاثة أشهر، عوضًا عن الثلاثة قروء في حق من تحيض، كما دلت على ذلك آية « البقرة » وكذا الصغار اللائي لم يبلغن سن الحيض أن عدتهن كعدة الآيسة ثلاثة أشهر؛ ولهذا قال: ( وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ )

وقوله: ( إِنِ ارْتَبْتُمْ ) فيه قولان:

أحدهما - وهو قول طائفة من السلف، كمجاهد، والزهري، وابن زيد- :أي إن رأين دما وشككتم في كونه حيضًا أو استحاضة، وارتبتم فيه.

والقول الثاني:إن ارتبتم في حكم عدتهن، ولم تعرفوه فهو ثلاث أشهر. وهذا مروي، عن سعيد بن جبير. وهو اختيار ابن جرير، وهو أظهر في المعنى، وَاحتَجَّ عليه بما رواه عن أبي كُرَيْب وأبي السائب قالا حدثنا ابن إدريس، أخبرنا مطرف، عن عمرو بن سالم قال:قال أبي بن كعب:يا رسول الله، إن عِددًا من عِدد النساء لم تذكر في الكتاب:الصغار والكبار وأولات الأحمال قال:فأنـزل الله عز وجل: ( وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ )

ورواه ابن أبي حاتم بأبسط من هذا السياق فقال:حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن المغيرة، أخبرنا جرير، عن مُطرِّف، عن عمر بن سالم، عن أبي بن كعب قال:قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم:إن ناسا من أهل المدينة لما أنـزلت هذه الآية التي في « البقرة » في عدة النساء قالوا:لقد بقي من عدة النساء عِدَدٌ لم يُذكَرْن في القرآن:الصغار والكبار اللائي قد انقطع عنهن الحيض، وذوات الحمل. قال:فأنـزلت التي في النساء القصرى: ( وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ )

وقوله: ( وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) يقول تعالى:ومن كانت حاملا فعدتها بوضعه، ولو كان بعد الطلاق أو الموت بفُوَاق ناقة في قول جمهور العلماء من السلف والخلف، كما هو نص هذه الآية الكريمة، وكما وردت به السنة النبوية. وقد رُوي عن علي، وابن عباس، رضي الله عنهم أنهما ذهبا في المتوفى عنها زوجها أنها تعتد بأبعد الأجلين من الوضع أو الأشهر، عملا بهذه الآية الكريمة، والتي في سورة « البقرة » . وقد قال البخاري:

حدثنا سعد بن حفص، حدثنا شيبان، عن يحيى قال:أخبرني أبو سلمة قال:جاء رجل إلى ابن عباس - وأبو هريرة جالس- فقال:أفتني في امرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلة. فقال:ابن عباس آخر الأجلين. قلت أنا: ( وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) قال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي - يعني أبا سلمة- فأرسل ابن عباس غلامه كريبا إلى أم سلمة يسألها، فقالت:قُتِل زوج سبيعة الأسلمية وهي حبلى، فوضعت بعد موته بأربعين ليلة، فخطبت، فأنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو السنابل فيمن خطبها

هكذا أورد البخاري هذا الحديث هاهنا مختصرًا. وقد رواه هو ومسلم وأصحاب الكتب مطولا من وجوه أخر وقال الإمام أحمد:

حدثنا حماد بن أسامة، أخبرنا هشام، عن أبيه، عن المسور بن مَخْرَمَة؛ أن سُبَيعَة الأسلمية تُوفي عنها زوجُها وهي حامل، فلم تمكث إلا ليالي حتى وضعت، فلما تَعَلَّت من نفاسها خُطِبت، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النكاح، فأذن لها أن تُنكَح فنُكحت.

ورواه البخاري في صحيحه، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة من طرق عنها كما قال مسلم ابن الحجاج:

حدثني أبو الطاهر، أخبرنا ابن وهب، حدثني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة:أن أباه كتب إلى عمر بن عبد الله بن الأرقم الزهري يأمره أن يدخل على سُبَيعة بنت الحارث الأسلمية فيسألها عن حديثها وعما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استفتته. فكتب عُمر بن عبد الله يخبره أن سبيعة أخبرته أنها كانت تحت سَعد بن خَولة - وكان ممن شهد بدرًا- فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تَنشَب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تَعَلَّت من نفاسها تجملت للخطاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بَعكك فقال لها:مالي أراك متجملة؟ لعلك تَرجين النكاح، إنك والله ما أنت بناكح حتى تَمرَ عليك أربعة أشهر وعشرٌ. قالت سُبيَعة:فلما قال لي ذلك جَمعتُ عليّ ثيابي حين أمسيتُ فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني قد حَلَلت حين وضعتُ حملي، وأمرني بالتزويج إن بدا لي.

هذا لفظ مسلم. ورواه البخاري مختصرًا ثم قال البخاري بعد [ ذلك، أي:بعد ] رواية الحديث الأول عند هذه الآية:

وقال سليمان بن حرب وأبو النعمان:حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد - هو ابن سيرين- قال:كنت في حلقة فيها عبد الرحمن بن أبي ليلى، رحمه الله، وكان أصحابه يعظمونه، فذكر آخر الأجلين، فحدّثتُ بحديث سُبَيعة بنت الحارث عن عبد الله بن عتبة، قال: فَضَمَّزَلي بعض أصحابه، وقال محمد:ففطنت له فقلت:له إني لجريءٌ أن أكذبَ على عبد الله وهو في ناحية الكوفة. قال:فاستحيا وقال:لكن عَمّه لم يقل ذلك. فلقيت أبا عطية مالك بن عامر فسألته، فذهب يحدثني بحديث سُبَيعة، فقلت:هل سمعت عن عبد الله شيئا؟ فقال:كنا عند عبد الله فقال:أتجعلون عليها التغليظ، ولا تجعلون عليها الرخصة؟ نـزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى: ( وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ )

ورواه ابن جرير، من طريق سفيان بن عيينة وإسماعيل بن عُلَيَّة، عن أيوب به مختصرا ورواه النسائي في التفسير عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد بن الحارث، عن ابن عون، عن محمد بن سيرين، فذكره

وقال ابن جرير:حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري، حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا محمد بن جعفر، حدثني ابن شَبْرَمة الكوفي، عن إبراهيم، عن علقمة بن قيس؛ أن عبد الله بن مسعود قال:من شاء لاعنته، ما نـزلت: ( وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) إلا بعد آية المتوفى عنها زوجها. قال:وإذا وضعت المتوفى عنها زوجها فقد حلت. يريد بآية المتوفى عنها زوجها وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [ البقرة:234 ]

وقد رواه النسائي من حديث سعيد بن أبي مريم، به ثم قال ابن جرير:

حدثنا أحمد بن مَنِيع، حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي قال:ذُكِرَ عند ابن مسعود آخر الأجلين، فقال:من شاء قاسمته بالله إن هذه الآية التي في النساء القصرى نـزلت بعد الأربعة الأشهر والعشر ثم قال أجل الحامل أن تضع ما في بطنها .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن سنان الواسطي، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضُّحى، عن مسروق قال:بلغ ابن مسعود أن عليا، رضي الله عنه، يقول:آخر الأجلين. فقال:من شاء لاعنته، إن التي في النساء القُصرَى نـزلت بعد البقرة: ( وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ )

ورواه أبو داود وابن ماجة، من حديث أبي معاوية، عن الأعمش

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد:حدثني محمد بن أبي بكر المقدّمي، أخبرنا عبد الوهاب الثقفي، حدثنا المثنى، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، عن أبي بن كعب قال:قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: ( وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) المطلقة ثلاثا أو المتوفى عنها ؟ فقال: « هي المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها »

هذا حديث غريب جدا، بل منكر؛ لأن في إسناده المثنى بن الصباح، وهو متروك الحديث بمِرّة ولكن رواه ابن أبي حاتم بسند آخر، فقال:

حدثنا محمد بن داود السِّمْناني، حدثنا عمرو بن خالد - يعني:الحراني- حدثنا ابن لَهِيعة، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي بن كعب، أنه لما نـزلت هذه الآية قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:لا أدري أمشتركة أم مبهمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أية آية؟ » . قال: ( أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) المتوفى عنها والمطلقة؟ قال: « نعم » .

وكذا رواه ابن جرير، عن أبي كُرَيْب، عن موسى بن داود، عن ابن لهيعة، به. ثم رواه عن أبي كريب أيضا، عن مالك بن إسماعيل، عن ابن عيينة، عن عبد الكريم بن أبي المخارق أنه حدث عن أبيّ بن كعب قال:سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن: ( وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) قال: « أجل، كل حامل أن تضع ما في بطنها »

عبد الكريم هذا ضعيف، ولم يدرك أُبَيّا.

وقوله: ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ) أي:يسهل له أمره، وييسره عليه، ويجعل له فرجا قريبًا ومخرجًا عاجلا.

ثم قال: ( ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنـزلَهُ إِلَيْكُمْ ) أي:حكمه وشرعه أنـزله إليكم بواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ) أي:يذهب عنه المحذور، ويجزل له الثواب على العمل اليسير.

 

أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ( 6 ) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ( 7 )

يقول تعالى آمرًا عباده إذا طلّق أحدُهم المرأة أن يُسكنَها في منـزل حتى تنقضي عدتها، فقال: ( أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ ) أي:عندكم، ( مِنْ وُجْدِكُمْ ) قال ابن عباس، ومجاهد، وغير واحد:يعني سَعَتكم. حتى قال قتادة:إن لم تجد إلا جنب بيتك فأسكنها فيه.

وقوله: ( وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ) قال مقاتل بن حيان:يعني يضاجرها لتفتدي منه بمالها أو تخرج من مسكنه.

وقال الثوري، عن منصور، عن أبي الضُّحَى: ( وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ) قال:يطلقها، فإذا بقي يومان راجعها.

وقوله: ( وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) قال كثير من العلماء منهم ابن عباس، وطائفة من السلف، وجماعات من الخلف:هذه في البائن، إن كانت حاملا أنفق عليها حتى تضع حملها، قالوا:بدليل أن الرجعية تجب نفقتها، سواء كانت حاملا أو حائلا.

وقال آخرون:بل السياق كله في الرجعيات، وإنما نص على الإنفاق على الحامل وإن كانت رجعية؛ لأن الحمل تطول مدته غالبا، فاحتيج إلى النص على وجوب الإنفاق إلى الوضع؛ لئلا يتوهم أنه إنما تجب النفقة بمقدار مدة العدة.

واختلف العلماء:هل النفقة لها بواسطة الحمل، أم للحمل وحده؟ على قولين منصوصين عن الشافعي وغيره، ويتفرع عليها مسائل مذكورة في علم الفروع.

وقوله: ( فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ ) أي:إذا وضعن حملهن وهن طوالق، فقد بنَّ بانقضاء عدتهن، ولها حينئذ أن ترضع الولد، ولها أن تمتنع منه، ولكن بعد أن تغذيه باللبَّأ - وهو باكورة اللبن الذي لا قوام للولد غالبًا إلا به- فإن أرضعت استحقت أجر مثلها، ولها أن تعاقد أباه أو وليه على ما يتفقان عليه من أجرة؛ ولهذا قال تعالى: ( فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) وقوله: ( وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ ) أي:ولتكن أموركم فيما بينكم بالمعروف، من غير إضرار ولا مضارة، كما قال تعالى في سورة « البقرة » : لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ [ البقرة:233 ]

وقوله: ( وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ) أي:وإن اختلف الرجل والمرأة، فطلبت المرأة أجرة الرضاع كثيرًا ولم يجبها الرجل إلى ذلك، أو بذل الرجل قليلا ولم توافقه عليه، فليسترضع له غيرها. فلو رضيت الأم بما استؤجرت عليه الأجنبية فهي أحق بولدها.

وقوله: ( لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ) أي:لينفق على المولود والده، أو وليه، بحسب قدرته، ( وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا ) كقوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا [ البقرة:286 ] .

روى ابن جرير:حدثنا ابن حميد، حدثنا حَكَّام، عن أبي سنان قال:سأل عمر بن الخطاب عن أبي عبيدة، فقيل:إنه يلبس الغليظ من الثياب، ويأكل أخشن الطعام، فبعث إليه بألف دينار، وقال للرسول:انظر ما يصنع بها إذا هو أخذها:فما لبث أن لبس اللين من الثياب، وأكل أطيب الطعام، فجاءه الرسول فأخبره، فقال:رحمه الله، تأول هذه الآية: ( لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ )

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير:حدثنا هاشم بن مرثد الطبراني، حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش، أخبرني أبي، أخبرني ضَمْضَم بن زُرْعَة، عن شُرَيح بن عبيد، عن أبي مالك الأشعري - واسمه الحارث- قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ثلاثة نفر، كان لأحدهم عشرة دنانير، فتصدق منها بدينار. وكان لآخر عشر أواق، فتصدق منها بأوقية. وكان لآخر مائة أوقية، فتصدق منها بعشر أواق » . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « هم في الأجر سواء، كل قد تصدق بعشر ماله، قال الله تعالى: ( لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ) »

هذا حديث غريب من هذا الوجه.

وقوله: ( سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ) وعد منه تعالى، ووعده حق، لا يخلفه، وهذه كقوله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [ الشرح:5 ، 6 ] .

وقد روى الإمام أحمد حديثا يحسن أن نذكره ها هنا، فقال:حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا عبد الحميد بن بَهْرَام، حدثنا شَهْر بن حَوْشَب قال:قال أبو هريرة:بينما رجل وامرأة له في السلف الخالي لا يقدران على شيء، فجاء الرجل من سفره، فدخل على امرأته جائعا قد أصاب مَسْغَبَةً شديدة، فقال لامرأته:عندك شيء؟ قالت:نعم، أبشر، أتاك رزق الله، فاستحثها، فقال:ويحك! ابتغي إن كان عندك شيء. قالت نعم، هُنَيهة - ترجو رحمة الله- حتى إذا طال عليه الطوى قال:ويحك! قومي فابتغي إن كان عندك شيء فائتيني به، فإني قد بُلغتُ وجَهِدتُ. فقال:نعم، الآن يُنضح التنور فلا تعجل. فلما أن سكت عنها ساعة وتحيّنت أن يقول لها، قالت من عند نفسها:لو قمتُ فنظرتُ إلى تنوري؟ فقامَتْ فنظرَت إلى تَنورها ملآن من جنُوبَ الغنم، ورَحييها تطحنَان. فقامت إلى الرحى فنَفضتها، واستخرجت ما في تنورها من جنوب الغنم.

قال أبو هريرة:فوالذي نفس أبي القاسم بيده، هو قول محمد صلى الله عليه وسلم: « لو أخذت ما في رَحييها ولم تنفضها لطحنتا إلى يوم القيامة »

وقال في موضع آخر:حدثنا أبو عامر، حدثنا أبو بكر، عن هشام، عن محمد - وهو ابن سيرين- عن أبي هريرة قال:دخل رجل على أهله، فلما رأى ما بهم من الحاجة خرج إلى البَرِيَّة، فلما رأت امرأته قامت إلى الرحى فوضعتها، وإلى التنور فسَجَرته، ثم قالت:اللهم ارزقنا. فنظرت، فإذا الجفنة قد امتلأت، قال:وذهبت إلى التنور فوجدته ممتلئًا، قال:فرجع الزوج قال:أصبتم بعدي شيئا؟ قالت امرأته:نعم، من ربنا. قام إلى الرحى، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « أما إنه لو لم ترفعها، لم تزل تدور إلى يوم القيامة »

وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا ( 8 ) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا ( 9 ) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا ( 10 ) رَسُولا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا ( 11 )

يقول تعالى متوعدًا لمن خالف أمره، وكذب رسله، وسلك غير ما شرعه، ومخبرًا عما حل بالأمم السالفة بسبب ذلك، فقال: ( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ ) أي:تمردت وطغت واستكبرت عن اتباع أمر الله ومتابعة رسله، ( فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا ) أي:منكرا فظيعًا.

( فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا ) أي:غبّ مخالفتها، وندموا حيث لا ينفعهم الندم، ( وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ) أي:في الدار الآخرة، مع ما عَجَّل لهم في الدنيا.

ثم قال بعد ما قص من خبر هؤلاء: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الألْبَابِ ) أي:الأفهام المستقيمة، لا تكونوا مثلهم فيصيبكم ما أصابهم يا أولي الألباب، ( الَّذِينَ آمَنُوا ) أي:صدقوا بالله ورسله، ( قَدْ أَنزلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا ) يعني:القرآن. كقوله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [ الحجر:9 ] .

وقوله: ( رَسُولا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ ) قال بعضهم: ( رَسُولا ) منصوب على أنه بدل اشتمال وملابسة؛ لأن الرسول هو الذي بلغ الذكر.

وقال ابن جرير:الصواب أن الرسول ترجمة عن الذكر، يعني تفسيرًا له ولهذا قال تعالى: ( رَسُولا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ ) أي في حال كونها بينة واضحة جلية ( لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) كقوله تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [ إبراهيم:1 ] وقال تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [ البقرة:257 ] أي من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم وقد سمى الله تعالى الوحي الذي أنـزله نورا لما يحصل به من الهدى كما سماه روحا لما يحصل به من حياة القلوب فقال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [ الشورى:52 ] وقوله: ( وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا ) قد تقدم تفسير مثل هذا غير مَرّة بما أغنى عن إعادته .

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ( 12 )

يقول تعالى مخبرا عن قدرته التامة وسلطانه العظيم ليكون ذلك باعثًا على تعظيم ما شرع من الدين القويم ( اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ) كقوله تعالى إخبارًا عن نوح أنه قال لقومه أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا [ نوح:15 ] وقال تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [ الإسراء:44 ] . وقوله تعالى ( وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ ) أي سبعا أيضا ، كما ثبت في الصحيحين « من ظلم قيدَ شِبر من الأرض طُوِّقه من سبع أرضين » وفي صحيح البخاري « خُسِف به إلى سبع أرضين » وقد ذُكِرت طُرقه وألفاظه وعزوه في أول « البداية والنهاية » عند ذكر خلق الأرض ولله الحمد والمنة.

ومن حمل ذلك على سبعة أقاليم فقد أبعد النَّجْعَة ، وأغرق في النـزع وخالف القرآن والحديث بلا مستند . وقد تقدم في سورة الحديد عند قوله: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ [ الآية:3 ] ذكر الأرضين السبع ، وبعد ما بينهن وكثافة كل واحدة منهن خمسمائة عام وهكذا قال ابن مسعود وغيره ، وكذا في الحديث الآخر « ما السماوات السبع وما فيهن وما بينهن والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة » . وقال ابن جرير حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا وَكِيع حدثنا الأعمش عن إبراهيم بن مُهَاجِر عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: ( سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ ) قال لو حدثتكم بتفسيرها لكفرتم وكفركم تكذيبكم بها.

وحدثنا ابن حميد حدثنا يعقوب بن عبد الله بن سعد القُميّ الأشعري عن جعفر بن أبي المغيرة الخزاعي عن سعيد بن جبير، قال:قال رجل لابن عباس ( اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنّ ) الآية. فقال:ابن عباس ما يؤمنك إن أخبرتك بها فتكفر. وقال ابن جرير حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عمرو بن مُرَّة عن أبي الضُّحى عن ابن عباس في هذه الآية ( اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنّ ) قال عمرو قال في كل أرض مثل إبراهيم ونحو ما على الأرض من الخلق.

وقال ابن المثنى في حديثه في كل سماء إبراهيم وقد وروى البيهقي في كتاب الأسماء والصفات هذا الأثر عن ابن عباس بأبسط من هذا [ السياق ] فقال:أنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا أحمد بن يعقوب حدثنا عبيد بن غنام النخعي أنا علي بن حكيم حدثنا شريك عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى عن ابن عباس قال ( اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنّ ) قال سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم وآدم كآدم ونوح كنوح وإبراهيم كإبراهيم وعيسى كعيسى.

ثم رواه البيهقي من حديث شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحى عن ابن عباس في قول الله عز وجل ( اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنّ ) قال في كل أرض نحو إبراهيم عليه السلام.

ثم قال البيهقي إسناد هذا عن ابن عباس صحيح وهو شاذ بمرة لا أعلم لأبي الضحى عليه متابعا والله أعلم

قال الإمام أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا القرشي في كتابه التفكر والاعتبار حدثني إسحاق بن حاتم المدائني حدثنا يحيى بن سليمان عن عثمان بن أبي دهرس قال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى أصحابه وهم سكوت لا يتكلمون فقال: « ما لكم لا تتكلمون؟ » فقال:وا نتفكر في خلق الله عز وجل قال « فكذلك فافعلوا تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا فيه فإن بهذا المغرب أرضا بيضاء نورها ساحتها - أو قال ساحتها نورها - مسيرة الشمس أربعين يومًا بها خلقُ الله تعالى لم يعصُوا الله طَرفة عين قطّ » قالوا فأين الشيطان عنهم؟ قال « ما يدرون خلق الشيطان أم لم يخلق؟ » قالوا أمن ولد آدم؟ قال « لا يدرون خلق آدم أم لم يخلق؟ »

وهذا حديث مرسل وهو منكر جدًّا وعثمان بن أبي دهرش ذكره ابن أبي حاتم في كتابه فقال:روى عن رجل من آل الحكم بن أبي العاص وعنه سفيان بن عيينة ويحيى بن سليم الطائفي وابن المبارك سمعت أبي يقول ذلك.

 

تفسير سورة التحريم

 

وهي مدنية.

بسم الله الرحمن الرحيم

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 1 ) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( 2 ) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ( 3 ) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ( 4 ) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ( 5 )

اختلُف في سبب نـزول صدر هذه السورة، فقيل:نـزلت في شأن مارية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرمها، فنـزل قوله: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ) الآية.

قال أبو عبد الرحمن النسائي:أخبرنا إبراهيم بن يونس بن محمد، حدثنا أبي، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حَرَّمها، فأنـزل الله، عز وجل: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ) ؟ إلى آخر الآية .

وقال ابن جرير:حدثني ابن عبد الرحيم البرقي حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا أبو غسان، حدثني زيد بن أسلم:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصاب أم إبراهيم في بيت بعض نسائه، فقالت:أي رسول الله، في بيتي وعلى فراشي؟! فجعلها عليه حرامًا فقالت:أيْ رسول الله، كيف يَحْرُم عليك الحلال؟ فحلف لها بالله لا يصيبها. فأنـزل الله: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ) ؟ قال زيد:بن أسلم فقوله:أنت عليَّ حرام لغو .

وهكذا روى عبد الرحمن بن زيد، عن أبيه.

وقال ابن جرير أيضًا حدثنا يونس، حدثنا ابن وهب، عن مالك، عن زيد بن أسلم، قال:قل لها: « أنت عليَّ حرام، ووالله لا أطؤك » .

وقال سفيان الثوري وابن عُلَيَّة، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن مسروق قال:آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرم، فعُوتِبَ في التحريم، وأمر بالكفارة في اليمين. رواه ابن جرير. وكذا روي عن قتادة، وغيره، عن الشعبي، نفسه. وكذا قال غير واحد من السلف، منهم الضحاك، والحسن، وقتادة، ومقاتل بن حيان، وروى العوفي، عن ابن عباس القصة مطولة.

وقال ابن جرير:حدثنا سعيد بن يحيى، حدثنا أبي، حدثنا محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عُبَيْد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال:قلت لعمر بن الخطاب من المرأتان؟ قال:عائشة وحفصة. وكان بدء الحديث في شأن أم إبراهيم القبطية، أصابها النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة في نوبتها فَوَجَدت حفصة، فقالت:يا نبي الله، لقد جئت إليَّ شيئا ما جئت إلى أحد من أزواجك، في يومي، وفي دوري، وعلى فراشي. قال: « ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها؟ » . قالت:بلى. فحَرَّمها وقال: « لا تذكري ذلك لأحد » . فذكرته لعائشة، فأظهره الله عليه، فأنـزل الله: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ) الآيات فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفَّر [ عن ] يمينه، وأصاب جاريته .

وقال الهيثم بن كُلَيب في مسنده:حدثنا أبو قِلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا جرير بن حازم، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر قال:قال النبي صلى الله عليه وسلم لحفصة: « لا تخبري أحدًا، وإن أم إبراهيم عليَّ حرام » . فقالت:أتحرم ما أحل الله لك؟ قال: « فوالله لا أقربها » . قال:فلم يقربها حتى أخبرت عائشة. قال فأنـزل الله: ( قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ )

وهذا إسناد صحيح، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، وقد اختاره الحافظ الضياء المقدسي في كتابه المستخرج .

وقال ابن جرير:أيضا حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، حدثنا هشام الدَّسْتُوَائي قال:كتب إلي يحيى يحدث عن يعلى بن حكيم، عن سعيد بن جبير:أن ابن عباس كان يقول في الحرام:يمين تكفرها، وقال ابن عباس: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [ الأحزاب:21 ] يعني:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم جاريته فقال الله: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ) ؟ إلى قوله: ( قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ) فكفر يمينه، فصير الحرام يمينًا .

ورواه البخاري عن معاذ بن فضالة، عن هشام - هو الدستوائي- عن يحيى - هو ابن كثير- عن ابن حكيم - وهو يعلى- عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في الحرام:يمين تُكَفر. وقال ابن عباس: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [ الأحزاب:21 ] .

ورواه مسلم من حديث هشام الدَّسْتُوَائي به .

وقال النسائي:أنا عبد الله بن عبد الصمد بن علي، حدثنا مَخْلد - هو ابن يزيد- حدثنا سفيان، عن سالم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:أتاه رجل فقال:إني جعلت امرأتي عَلَيَّ حَرَاما؟ قال:كذبتَ ليس عليك بحرام. ثم تلا هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ) ؟ عليك أغلظ الكفارات، عتق رقبة.

تفرد به النسائي من هذا الوجه، بهذا اللفظ .

وقال الطبراني:حدثنا محمد بن زكَريا، حدثنا عبد الله بن رجاء، حدثنا إسرائيل، عن مسلم، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ) ؟ قال:حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم سُرَيَّته .

ومن هاهنا ذهب من ذهب من الفقهاء ممن قال بوجوب الكفارة على من حرم جاريته أو زوجته أو طعامًا أو شرابًا أو ملبسًا أو شيئًا من المباحات، وهو مذهب الإمام أحمد وطائفة. وذهب الشافعي إلى أنه لا تجب الكفارة فيما عدا الزوجة والجارية، إذا حَرَّم عينيهما أو أطلق التحريم فيهما في قوله، فأما إن نوى بالتحريم طلاق الزوجة أو عتق الأمة، نفذ فيهما.

وقال ابن أبي حاتم:حدثني أبو عبد الله الظهراني أخبرنا حفص بن عمر العَدَني، أخبرنا الحكم بن أبان، حدثنا عكرمة، عن ابن عباس قال:نـزلت هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ) ؟ في المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا قول غريب، والصحيح أن ذلك كان في تحريمه العَسَل، كما قال البخاري عند هذه الآية:

حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام بن يوسف، عن ابن جُرَيْج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن عائشة قالت:كان النبي صلى الله عليه وسلم يشرب عسلا عند زينب بنت جَحش، ويمكث عندها، فتواطأتُ أنا وحفصةُ على:أيتُنا دخلَ عليها، فلتقل له:أكلتَ مَغَافير؟ إني أجد منك ريح مغافير. قال: « لا ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جَحش، فلن أعود له، وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا » ، ( تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ) .

هكذا أورد هذا الحديث هاهنا بهذا اللفظ، وقال في كتاب « الأيمان والنذور » :حدثنا الحسن بن محمد، حدثنا الحجاج، عن ابن جريج قال:زعم عطاء أنه سمع عُبَيد بن عمير يقول:سمعتُ عائشة تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جَحش ويشرب عندها عَسَلا فتواصيتُ أنا وحفصة أن أيتُنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فَلْتَقُلْ:إني أجد منك ريح مغافير؛ أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ذلك له، فقال: « لا بل شربت عسلا عند زينب بنت جَحش، ولن أعود له » . فنـزلت: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ) ؟ إلى: ( إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ) لعائشة وحفصة ، ( وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا ) لقوله: « بل شربت عسلا » . وقال إبراهيم بن موسى، عن هشام: « ولن أعود له، وقد حلفت، فلا تخبري بذلك أحدًا » .

وهكذا رواه في كتاب « الطلاق » بهذا الإسناد، ولفظه قريب منه . ثم قال:المغافير:شبيه بالصمغ، يكون في الرّمث فيه حلاوة، أغفر الرّمث:إذا ظهر فيه. واحدها مغفور، ويقال:مغافير. وهكذا قال الجوهري، قال:وقد يكون المغفور أيضًا للعُشر والثُّمام والسَّلَم والطلح. قال:والّرمث، بالكسر:مرعى من مراعي الإبل، وهو من الحَمْض. قال:والعرفط:شجر من العضاه ينضَح المغفُور [ منه ] .

وقد روى مسلم هذا الحديث في كتاب « الطلاق » من صحيحه، عن محمد بن حاتم، عن حجاج بن محمد، عن ابن جريج، أخبرني عطاء، عن عُبيد بن عمير، عن عائشة، به، ولفظه كما أورده البخاري في « الأيمان والنذور » .

ثم قال البخاري في كتاب « الطلاق » :حدثنا فروة بن أبي المغراء، حدثنا علي بن مُسْهَر، عن هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن عائشة قالت:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحَلوى والعَسل، وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه، فيدنو من إحداهن. فدخل على حفصة بنت عمر فاحتبس أكثر ما كان يحتبس، فَغِرْتُ فسألت عن ذلك، فقيل لي:أهدت لها امرأة من قومها عُكَّة عَسَل، فسقت النبي صلى الله عليه وسلم منه شربة، فقلت:أما والله لنحتالَن له. فقلت لسودة بنت زَمْعَةَ:إنه سيدنو منك، فإذا دنا منك فقولي:أكلت مغَافير؟ فإنه سيقول ذلك لا. فقولي له:ما هذه الريح التي أجد؟ فإنه سيقول لك:سقتني حفصة شربة عسل. فقولي:جَرَسَتْ نحلُه العُرفُطَ. وسأقول ذلك، وقولي أنت له يا صفية ذلك، قالت - تقول سودة- :والله ما هو إلا أن قام على الباب، فأردت أن أناديه بما أمرتني فرقًا منك، فلما دنا منها قالت له سودة:يا رسول الله، أكلت مغافير؟ قال: « لا » . قالت:فما هذه الريح التي أجد منك؟ قال: « سقتني حفصة شَربة عسل » . قالت:جَرَسَت نَحلُه العرفطَ. فلما دار إليَّ قلت نحو ذلك، فلما دار إلى صفية قالت له مثل ذلك، فلما دار إلى حفصة قالت له:يا رسول الله، ألا أسقيك منه؟ قال: « لا حاجةَ لي فيه » . قالت - تقول سودة- :والله لقد حَرَمْنَاه. قلت لها:اسكتي .

هذا لفظ البخاري. وقد رواه مسلم عن سُوَيد بن سَعيد، عن علي بن مُسْهِر، به. وعن أبي كُرَيْب وهارون بن عبد الله والحسن بن بشر، ثلاثتهم عن أبي أسامة، حماد بن أسامة، عن هشام بن عروة، به وعنده قالت:وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح يعني:الريح الخبيثة؛ ولهذا قلن له:أكلت مغافير لأن ريحها فيه شيء. فلما قال: « بل شربت عسلا » . قلن:جَرَسَت نحلُه العرفطَ، أي:رَعَت نحلُه شَجَر العرفط الذي صَمغُه المغافير؛ فلهذا ظهر ريحُه في العسل الذي شربته.

قال الجوهري:جَرَسَت نحلُه العرفط تَجْرِس:إذا أكلته، ومنه قيل للنحل:جوارس، قال الشاعر:

تَظَلّ عَلَى الثَّمْرَاء مِنها جَوَارسُ

وقال:الجَرْس والجِرْس:الصوت الخفي. ويقال:سمعت جرس الطير:إذا سمعتَ صوت مناقيرها على شيء تأكله، وفي الحديث: « فيسمعون جَرْس طير الجنة » . قال الأصمعي:كنت في مجلس شُعبة قال: « فيسمعون جَرْشَ طير الجنة » بالشين [ المعجمة ] فقلت: « جرس » ؟! فنظر إلي فقال:خذوها عنه، فإنه أعلم بهذا منا .

والغرض أن هذا السياق فيه أن حفصة هي الساقية للعسل، وهو من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن خالته عن عائشة. وفي طريق ابن جريج عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن عائشة أن زينب بنت جَحش هي التي سقت العسل، وأن عائشة وحفصة تواطأتا وتظاهرتا عليه، فالله أعلم. وقد يقال:إنهما واقعتان، ولا بُعْدَ في ذلك، إلا أن كونَهما سببًا لنـزول هذه الآية فيه نظر، والله أعلم.

ومما يدل على أن عائشة وحفصة، رضي الله عنهما، هما المتظاهرتان الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال:حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، عن عُبَيد الله بن عبد الله بن أبي ثور، عن ابن عباس قال:لم أزل حريصًا على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله تعالى: ( إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ) حتى حج عمر وحججت معه، فلما كان ببعض الطريق عدَل عمر وعدلت معه بالإداوة. فتبرز ثم أتاني، فسكبت على يديه فتوضأ، فقلت:يا أمير المؤمنين، من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، اللتان قال الله تعالى: ( إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ) ؟ فقال عمر:واعجبا لك يا ابن عباس - قال الزهري:كره- والله ما سألته عنه ولم يكتمه قال:هي حفصة وعائشة. قال:ثم أخذ يسوق الحديث. قال:كنا مَعشَر قريش قومًا نَغلبُ النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تَغلِبُهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، قال:وكان منـزلي في دار بنى أمية بن زيد بالعَوَالي. قال:فغضَبت يومًا على امرأتي فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تُرَاجِعني، فقالت:ما تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل. قال:فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت:أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت:نعم. قلت:وتهجره إحداكن اليوم إلى الليل؟ قالت:نعم. قلت:قد خاب من فعل ذلك منكن وخَسر، أفتأمنُ إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله، فإذا هي قد هلكت؟ لا تراجعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسأليه شيئًا، وسليني من مالي ما بدا لك، ولا يغرنك إن كانت جارتك هي أوسمُ وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك - يريد عائشة- قال:وكان لي جار من الأنصار، وكنا نتناوب النـزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ينـزل يومًا وأنـزل يومًا، فيأتيني بخبر الوحي وغيره، وآتيه بمثل ذلك. قال:وكنا نتحدث أن غَسَّان تُنعِل الخيل لتغزونا، فنـزل صاحبي يومًا ثم أتى عشاء، فضرب بابي ثم ناداني، فخرجت إليه فقال:حدث أمر عظيم! فقلت:وما ذاك؟ أجاءت غسان؟ قال:لا بل أعظم من ذلك وأطول! طلَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، فقلت:قد خابت حفصةُ وخَسِرت، قد كنت أظن هذا كائنا. حتى إذا صليتُ الصبح شددتُ عليَّ ثيابي ثم نـزلت، فدخلت على حفصة وهي تبكي فقلت:أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت:لا أدري، هو هذا معتزل في هذه المشرَبة فأتيت غلامًا له أسودَ فقلت:استأذن لعمر. فدخل الغلام ثم خرج إليَ فقال:ذكرتك له فصمت. فانطلقت حتى أتيت المنبر، فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم، فجلست قليلا ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام فقلت:استأذن لعمرَ. فدخل ثم خرج فقال:قد ذكرتك له فصمت. فخرجت فجلست إلى المنبر، ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام فقلت:استأذن لعمر. فدخل ثم خرج إلي فقال:قد ذكرتك له فصمتَ. فوليت مدبرًا فإذا الغلام يدعوني فقال:ادخل، قد أذن لك. فدخلتُ فسلمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو متكئ على رُمَال حَصِير.

قال الإمام أحمد:وحدثناه يعقوب في حديث صالح:رُمَال حصير قد أثر في جنبه، فقلت:أطلَّقت يا رسول الله نساءك؟ فرفع رأسه إلي وقال: « لا » . فقلت:الله أكبر، ولو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش قومًا نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قومًا تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، فغضبت على امرأتي يوما، فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت:ما تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل. فقلت:قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر، أفتأمنُ إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله، فإذا هي قد هلكت. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت:يا رسول الله، فَدخَلت على حفصة فقلت:لا يغُرنَّك أن كانت جارتُكِ هي أوسمُ - أو:أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك. فتبسم أخرى، فقلت:أستأنس يا رسول الله. قال: « نعم » . فجلست فرفعت رأسي في البيت، فوالله ما رأيت في البيت شيئًا يرد البصر إلا أهَبَةٌ ثلاثة فقلت:ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أمتك، فقد وسَّع على فارس والروم، وهم لا يعبدون الله. فاستوى جالسًا وقال: « أفي شك أنت يا بن الخطاب؟ أولئك قوم عُجِّلَتْ لهم طيباتهم في الحياة الدنيا » . فقلت:استغفر لي يا رسول الله. وكان أقسم أن لا يدخل عليهن شهرًا؛ من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله، عز وجل .

وقد رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، من طرق، عن الزهري، به وأخرجه الشيخان من حديث يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عُبَيد بن حُنَين، عن ابن عباس، قال:مكثت سنة أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية، فما أستطيع أن أسأله هيبةً له، حتى خرج حاجًا فخرجت معه، فلما رجعنا وكنا ببعض الطريق، عدل إلى الأرَاك لحاجة له، قال:فوقفت حتى فرغ، ثم سرت معه فقلت:يا أمير المؤمنين، من اللتان تظاهرتا على النبي صلى الله عليه وسلم؟ .

هذا لفظ البخاري، ولمسلم:من المرأتان اللتان قال الله تعالى: ( وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ ) ؟ قال:عائشة وحفصة. ثم ساق الحديث بطوله، ومنهم من اختصره.

وقال مسلم أيضًا:حدثني زهير بن حرب، حدثنا عمر بن يونس الحنفي، حدثنا عكرمة بن عمار، عن سِماك بن الوليد - أبي زميل- حدثني عبد الله بن عباس، حدثني عمر بن الخطاب قال:لما اعتزل نبي الله صلى الله عليه وسلم نساءه، دخلت المسجد، فإذا الناس يَنكُتُون بالحصى، ويقولون:طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه! وذلك قبل أن يُؤمَر بالحجاب. فقلت:لأعلمن ذلك اليوم... فذكر الحديث في دخوله على عائشة وحفصة، ووعظه إياهما، إلى أن قال:فدخلت، فإذا أنا برباح غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسكُفَّة المشرَبة، فناديت فقلت:يا رباح، استأذن لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم... فذكر نحو ما تقدم، إلى أن قال:فقلت يا رسول الله ما يَشُقّ عليك من أمر النساء، فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريلَ وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك، وقلما تكلمتُ - وأحمد الله- بكلام إلا رجوتُ أن يكون الله يصدق قولي، ونـزلت هذه الآية، آية التخيير: ( عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ ) ( وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ) فقلت:أطلقتهن؟ قال: « لا » . فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي:لم يطلق نساءه، ونـزلت هذه الآية: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [ النساء:83 ] فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر .

وكذا قال سعيد بن جبير، وعكرمة، ومقاتل بن حيان، والضحاك، وغيرهم: ( وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) أبو بكر وعمر - زاد الحسن البصري:وعثمان. وقال ليث بن أبي سليم، عن مجاهد: ( وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) قال:علي بن أبي طالب.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن أبي عمر، حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين قال:أخبرني رجل ثقة يرفعه إلى علي قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ في ] قوله: ( وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) قال:هو علي بن أبي طالب. إسناده ضعيف. وهو منكر جدًا.

وقال البخاري:حدثنا عمرو بن عون، حدثنا هُشَيم، عن حُميد، عن أنس، قال:قال عمر:اجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه، فقلت لهن: ( عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ ) فنـزلت هذه الآية .

وقد تقدّم أنه وافق القرآن في أماكنَ، منها في نـزول الحجاب، ومنها في أسارى بدر، ومنها قوله:لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؟ فأنـزل الله: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [ البقرة:125 ] .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا [ أبي، حدثنا ] الأنصاري، حدثنا حُمَيد، عن أنس قال:قال عمر بن الخطاب:بلغني شيء كان بين أمهات المؤمنين وبين النبي صلى الله عليه وسلم، فاستقريتهن أقول:لتكفن عن رسول الله أو ليبدلَنّه الله أزواجًا خيرا منكن. حتى أتيت على آخر أمهات المؤمنين، فقالت:يا عمر، أما لي برسول الله ما يعظ نساءه، حتى تعظهن؟! فأمسكت، فأنـزل الله، عز وجل: ( عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا )

وهذه المرأة التي رَدّته عما كان فيه من وَعظ النساء هي أم سلمة، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري .

وقال الطبراني، حدثنا إبراهيم بن نائلة الأصبهاني، حدثنا إسماعيل البجلي، حدثنا أبو عَوَانة، عن أبي سنان، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: ( وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا ) قال:دخلَت حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها وهو يَطَأ مارية، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تخبري عائشة حتى أبشرك ببشارة، فإن أباك يَلي الأمرَ من بعد أبي بكر إذا أنا مت » . فذهبت حفصة فأخبَرتْ عائشة، فقالت عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم:من أنبأك هذا؟ قال: ( نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ) فقالت عائشة:لا أنظر إليك حتى تحرم مارية فحرمها، فأنـزل الله: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ) .

إسناده فيه نظر، وقد تبين مما أوردناه تفسير هذه الآيات الكريمات. ومعنى قوله: ( مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ ) ظاهر.

وقوله ( سَائِحَاتٍ ) أي:صائمات، قاله أبو هريرة، وعائشة، وابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعطاء، ومحمد بن كعب القرظي، وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو مالك، وإبراهيم النخعي، والحسن، وقتادة، والضحاك، والربيع بن أنس، والسُدّيّ، وغيرهم. وتقدم فيه حديث مرفوع عند قوله: السَّائِحُونَ من سورة « براءة » ، ولفظه: « سياحةُ هذه الأمة الصيامُ » .

وقال زيد بن أسلم، وابنه عبد الرحمن: ( سَائِحَاتٍ ) أي:مهاجرات، وتلا عبد الرحمن: السَّائِحُونَ [ التوبة:112 ] أي:المهاجرون. والقول الأول أولى، والله أعلم.

وقوله: ( ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ) أي:منهن ثيبات، ومنهن أبكارا، ليكون ذلك أشهى إلى النفوس، فإن التنوع يبسُط النفسَ؛ ولهذا قال: ( ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا )

وقال أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير:حدثنا أبو بكر بن صدقة، حدثنا محمد بن محمد بن مرزوق، حدثنا عبد الله بن أمية، حدثنا عبد القدوس، عن صالح بن حَيَّان، عن ابن بُرَيدة، عن أبيه: ( ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ) قال:وعد الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أن يزوجه، فالثيب:آسية امرأة فرعون، وبالأبكار:مريم بنت عمران .

وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة « مريم عليها السلام » من طريق سُوَيْد بن سعيد حدثنا محمد بن صالح بن عمر، عن الضحاك ومجاهد، عن ابن عمر قال:جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بموت خديجة فقال:إن الله يقرئها السلام، ويبشرها ببيت في الجنة من قَصَب، بعيد من اللهب لا نَصَب فيه ولا صَخَب، من لؤلؤة جوفاء بين بيت مريم بنت عمران وبيت آسية بنت مزاحم .

ومن حديث أبي بكر الهذلي، عن عكرمة، عن ابن عباس:أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة، وهي في الموت فقال: « يا خديجة، إذا لقيت ضرائرك فأقرئيهن مني السلام » . فقالت:يا رسول الله، وهل تزوجت قبلي؟ قال: « لا » ، ولكن الله زوجني مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وكلثم أخت موسى « . ضعيف أيضًا . »

وقال أبو يعلى:حدثنا إبراهيم بن عرعرة، حدثنا عبد النور بن عبد الله، حدثنا يونس بن شعيب، عن أبي أمامة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أُعْلِمتُ أن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران، وكلثم أخت موسى، وآسية امرأة فرعون » . فقلت:هنيئًا لك يا رسول الله .

وهذا أيضًا ضعيف وروي مرسلا عن ابن أبي داود.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( 6 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 7 )

قال سفيان الثوري، عن منصور، عن رجل، عن علي، رضي الله عنه، في قوله تعالى: ( قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ) يقول:أدبوهم، عَلموهم.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ) يقول:اعملوا بطاعة الله، واتقوا معاصي الله، ومُروا أهليكم بالذكر، ينجيكم الله من النار.

وقال مجاهد: ( قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ) قال:اتقوا الله، وأوصوا أهليكم بتقوى الله. .

وقال قتادة:يأمرهم بطاعة الله، وينهاهم عن معصية الله، وأن يقومَ عليهم بأمر الله، ويأمرهم به ويساعدهم عليه، فإذا رأيت لله معصية، قَدعتهم عنها وزجرتهم عنها.

وهكذا قال الضحاك ومقاتل:حق على المسلم أن يعلم أهله، من قرابته وإمائه وعبيده، ما فرض الله عليهم، وما نهاهم الله عنه.

وفي معنى هذه الآية الحديث الذي رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، من حديث عبد الملك بن الربيع بن سَبْرَة، عن أبيه، عن جده قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، فإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها » .

هذا لفظ أبي داود، وقال الترمذي:هذا حديث حسن.

وروى أبو داود، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك .

قال الفقهاء:وهكذا في الصوم؛ ليكون ذلك تمرينًا له على العبادة، لكي يبلغ وهو مستمر على العبادة والطاعة ومجانبة المعصية وترك المنكر، والله الموفق.

وقوله: ( وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) ( وَقُودُهَا ) أي:حطبها الذي يلقى فيها جُثث بني آدم. ( وَالْحِجَارَةُ ) قيل:المراد بذلك الأصنام التي كانت تعبد لقوله: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [ الأنبياء:98 ] .

وقال ابن مسعود ومجاهد وأبو جعفر الباقر، والسدي:هي حجارة من كبريت - زاد مجاهد:أنتن من الجيفة.

وروى ذلك ابن أبي حاتم، رحمه الله، ثم قال:حدثنا أبي، حدثنا عبد الرحمن بن سنان المنقري، حدثنا عبد العزيز - يعني ابن أبي رَاَّود- قال:بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) وعنده بعض أصحابه، وفيهم شيخ، فقال الشيخ:يا رسول الله، حجارة جهنم كحجارة الدنيا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « والذي نفسي بيده، لَصَخرة من صخر جهنم أعظمُ من جبَال الدنيا كلها » . قال:فوقع الشيخُ مغشيًا عليه، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على فؤاده فإذا هُوَ حَيّ فناداه قال: « يا شيخ » ، قل: « لا إله إلا الله » . فقالها، فبشره بالجنة، قال:فقال أصحابه:يا رسول الله، أمن بيننا؟ قال: « نعم، يقول الله تعالى: ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [ إبراهيم:14 ] هذا حديث مرسل غريب. »

وقوله: ( عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ ) أي:طباعهم غليظة، قد نـزعت من قلوبهم الرحمة بالكافرين بالله، ( شِدَادٌ ) أي:تركيبهم في غاية الشدة والكثافة والمنظر المزعج.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا سلمة بن شبيب، حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان، حدثنا أبي، عن عكرمة أنه قال:إذا وصل أول أهل النار إلى النار، وَجَدوا على الباب أربعمائة ألف من خَزَنة جهنم، سود وجوههم، كالحة أنيابهم، قد نـزع الله من قلوبهم الرحمة، ليس في قلب واحد منهم مثقال ذَرَة من الرحمة، لو طير الطير من منكب أحدهم لطار شهرين قبل أن يبلغ منكبه الآخر، ثم يجدون على الباب التسعة عشر، عرض صدر أحدهم سبعون خريفًا، ثم يهوون من باب إلى باب خمسمائة سنة، ثم يجدون على كل باب منها مثلَ ما وجدوا على الباب الأول، حتى ينتهوا إلى آخرها.

وقوله: ( لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) أي:مهما أمرهم به تعالى يبادروا إليه، لا يتأخرون عنه طرفة عين، وهم قادرون على فعله ليس بهم عجز عنه. وهؤلاء هم الزبانية عياذًا بالله منهم. وقوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) أي:يقال للكفرة يوم القيامة:لا تعتذروا فإنه لا يقبل منكم، وإنما تجزون اليوم بأعمالكم.

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 8 )

ثم قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا ) أي:توبة صادقة جازمة، تمحو ما قبلها من السيئات وتلم شعث التائب وتجمعه، وتكفه عما كان يتعاطاه من الدناءات.

قال ابن جرير:حدثنا ابن مثنى، حدثنا محمد، حدثنا شعبة، عن سِمَاك بن حَرب:سمعت النعمان بن بشير يخطب:سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا ) قال:يذنب الذنب ثم لا يرجع فيه.

وقال الثوري، عن سِماك، عن النعمان، عن عمر قال:التوبة النصوح:أن يتوب من الذنب ثم لا يعود فيه، أو لا يعود فيه.

وقال أبو الأحوص وغيره، عن سماك، عن النعمان، سُئِل عمر عن التوبة النصوح، فقال:أن يتوب الرجل من العمل السيئ، ثم لا يعود إليه أبدًا.

وقال الأعمش، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله: ( تَوْبَةً نَصُوحًا ) قال:يتوب ثم لا يعود.

وقد روي هذا مرفوعًا فقال الإمام أحمد:حدثنا علي بن عاصم، عن إبراهيم الهَجَري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « التوبة من الذنب أن يتوب منه، ثم لا يعود فيه » . تفرد به أحمد من طريق إبراهيم بن مسلم الهَجَري، وهو ضعيف، والموقوف أصح والله أعلم.

ولهذا قال العلماء:التوبة النصوح هو أن يُقلعَ عن الذنب في الحاضر، ويندمَ على ما سلف منه في الماضي، ويعزِم على ألا يفعل في المستقبل. ثم إن كان الحق لآدمي ردّه إليه بطريقه.

قال الإمام أحمد:حدثنا سفيان، عن عبد الكريم، أخبرني زياد بن أبي مريم، عن عبد الله بن مَعقِل قال:دخلت مع أبي عَلى عبد الله بن مسعود فقال:أنت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « الندم توبة؟ » . قال:نعم. وقال مَرَة:نعم سمعته يقول: « الندم توبة » .

ورواه ابن ماجة، عن هشام بن عَمَّار، عن سفيان بن عُيينة، عن عبد الكريم - وهو ابن مالك الجَزَريّ- به .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا الحسن بن عرفة، حدثني الوليد بن بُكَيْر أبو خباب، عن عبد الله بن محمد العَدَوي، عن أبي سِنان البصري، عن أبي قِلابة، عن زِرّ بن حُبَيش، عن أبي بن كعب قال:قيل لنا أشياء تكون في آخر هذه الأمة عند اقتراب الساعة، منها نكاح الرجل امرأته أو أمته في دبرها، وذلك مما حرم الله ورسوله، ويمقت الله عليه ورسوله، ومنها:نكاح الرجل الرجل، وذلك مما حرم الله ورسوله، ويمقت الله عليه ورسوله. ومنها نكاح المرأة المرأة، وذلك مما حرم الله ورسوله، ويمقت الله عليه ورسوله. وليس لهؤلاء صلاة ما أقاموا على هذا، حتى يتوبوا إلى الله توبة نصوحًا. قال زر:فقلت لأبي بن كعب:فما التوبة النصوح؟ فقال:سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « هو الندم على الذنب حينَ يَفرطُ منك، فتستغفرُ الله بندامتك منه عند الحاضر، ثم لا تعود إليه أبدًا » .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن علي، حدثنا عباد بن عمرو، حدثنا أبو عمرو بن العلاء، سمعت الحسن يقول:التوبة النصوح:أن تُبغِض الذنبَ كما أحببته، وتستغفر منه إذا ذكرته.

فأما إذا حَزَم بالتوبة وصَمم عليها فإنها تَجُب ما قبلها من الخطيئات، كما ثبت في الصحيح: « الإسلام يَجُب ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها » .

وهل من شرط التوبة النصوح الاستمرارُ على ذلك إلى الممات، كما تقدم في الحديث وفي الأثر: « لا يعود فيه أبدًا » ، أو يكفي العزم على ألا يعود في تكفير الماضي، بحيث لو وقع منه ذلك الذنب بعد ذلك لا يكون ذلك ضارًا في تكفير ما تقدم، لعموم قوله، عليه السلام: « التوبة تجب ما قبلها؟ » . وللأول أن يحتج بما ثبت في الصحيح أيضًا: « مَن أحسنَ في الإسلام لم يُؤاخَذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر » فإذا كان هذا في الإسلام الذي هو أقوى من التوبة، فالتوبة بطريق الأولى، والله أعلم . وقوله: ( عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) و ( عَسَى ) من الله موجبة، ( يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ) أي:ولا يخزيهم معه يعني:يوم القيامة، ( نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ ) كما تقدم في سورة الحديد.

( يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) قال مجاهد، والضحاك، والحسن البصري وغيرهم:هذا يقوله المؤمنون حين يَرَون يوم القيامة نورَ المنافقين قد طفِئ.

وقال محمد بن نصر المروزي:حدثنا محمد بن مقاتل المروزي، حدثنا ابن المبارك، أخبرنا ابن لَهِيعة، حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، أنه سمع أبا ذر وأبا الدرداء قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أنا أول من يؤذن له في السجود يوم القيامة، وأول من يؤذن له برفع رأسه، فأنظرُ بين يَدَيّ فأعرف أمتي من بين الأمم، وأنظر عن يميني فأعرف أمتي من بين الأمم، وأنظر عن شمالي فأعرف أمتي من بين الأمم » . فقال رجل:يا رسول الله، وكيف تعرف أمتك من بين الأمم. قال: « غُرٌّ مُحجلون من آثار الطُّهور ولا يكون أحد من الأمم كذلك غيرهم، وأعرفهم أنهم يؤتَون كتبهم بأيمانهم، وأعرفهم بسيماهم في وجوههم من أثر السجود، وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا إبراهيم بن إسحاق الطالقاني، حدثنا ابن المبارك، عن يحيى بن حسان، عن رجل من بني كنانة قال:صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فسمعته يقول: « اللهم، لا تخزني يوم القيامة » .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( 9 ) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ( 10 )

يقول تعالى آمرًا رسوله صلى الله عليه وسلم بجهاد الكفار والمنافقين، هؤلاء بالسلاح والقتال، وهؤلاء بإقامة الحدود عليهم، ( وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ) أي:في الدنيا، ( وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) أي:في الآخرة .

ثم قال: ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) أي:في مخالطتهم المسلمين ومعاشرتهم لهم، أن ذلك لا يجدي عنهم شيئًا ولا ينفعهم عند الله، إن لم يكن الإيمان حاصلا في قلوبهم، ثم ذكر المثل فقال: ( امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ ) أي:نبيين رسولين عندهما في صحبتها ليلا ونهارًا يؤاكلانهما ويضاجعانهما ويعاشرانهما أشد العشرة والاختلاط ( فَخَانَتَاهُمَا ) أي:في الإيمان، لم يوافقاهما على الإيمان، ولا صدقاهما في الرسالة، فلم يُجْد ذلك كلَه شيئًا، ولا دفع عنهما محذورا؛ ولهذا قال: ( فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ) أي:لكفرهما، ( وَقِيلَ ) أي:للمرأتين: ( ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) وليس المراد: ( فَخَانَتَاهُمَا ) في فاحشة، بل في الدين، فإن نساء الأنبياء معصوماتٌ عن الوقوع في الفاحشة؛ لحرمة الأنبياء، كما قدمنا في سورة النور.

قال سفيان الثوري، عن موسى بن أبي عائشة، عن سليمان بن قتة:سمعت ابن عباس يقول في هذه الآية ( فَخَانَتَاهُمَا ) قال:ما زنتا، أما امرأة نوح فكانت تخبر أنه مجنون، وأما خيانة امرأة لوط فكانت تدل قومها على أضيافه.

وقال العَوفي، عن ابن عباس قال:كانت خيانتهما أنهما كانتا على عَورتيهما فكانت امرأة نُوح تَطَلع على سر نُوح، فإذا آمن مع نوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به، وأما امرأة لوط فكانت إذا أضاف لوط أحدًا أخبرت به أهل المدينة ممن يعمل السوء.

وهكذا قال عكرمة، وسعيد بن جبير، والضحاك، وغيرهم.

[ وقال الضحاك عن ابن عباس:ما بغت امرأة نبي قط، إنما كانت خيانتهما في الدين ] .

وقد استدل بهذه الآية الكريمة بعضُ العلماء على ضعف الحديث الذي يأثرُه كثير من الناس:من أكل مع مغفور له غفر له. وهذا الحديث لا أصل له، وإنما يروى هذا عن بعض الصالحين أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال:يا رسول الله، أنت قلت:من أكل مع مغفور له غفر؟ قال: « لا ولكني الآن أقوله » .

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( 11 ) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ( 12 )

وهذا مَثَلٌ ضربه الله للمؤمنين أنهم لا تضرهم مخالطة الكافرين إذا كانوا محتاجين إليهم، كما قال تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [ آل عمران:28 ] .

قال:قتادة كان فرعون أعتى أهل الأرض وأبعده فوالله ما ضر امرأته كُفر زوجها حين أطاعت ربها لتعلموا أن الله حَكَمٌ عدل، لا يؤاخذ أحدًا إلا بذنبه.

وقال ابن جرير:حدثنا إسماعيل بن حفص الأبُليّ، حدثنا محمد بن جعفر، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي عن سلمان قال:كانت امرأة فرعون تُعَذَّب في الشمس، فإذا انصرف عنها أظلتها الملائكة بأجنحتها، وكانت ترى بيتها في الجنة.

ثم رواه عن محمد بن عبيد المحاربي عن أسباط بن محمد، عن سليمان التيمي، به .

ثم قال ابن جرير:حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن هشام الدَّسْتُوَائي، حدثنا القاسم بن أبي بَزَّة قال:كانت امرأة فرعون تسأل:من غلب؟ فيقال:غلب موسى وهارون. فتقول:آمنت برب موسى وهارون، فأرسل إليها فرعون فقالت:انظروا أعظم صخرة تجدونها، فإن مضت على قولها فألقوها عليها، وإن رجعت عن قولها فهي امرأته، فلما أتوها رفعت بصرها إلى السماء فأبصرت بيتها في الجنة، فمضت على قولها، وانتزع روحها، وألقيت الصخرة على جسد ليس فيه روح .

فقولها: ( رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ ) قال العلماء:اختارت الجار قبل الدار. وقد ورد شيء من ذلك في حديث مرفوع، ( وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ ) أي:خلصني منه، فإني أبرأ [ إليك ] من عمله، ( وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) وهذه المرأة هي آسية بنت مزاحم، رضي الله عنها.

وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قال:كان إيمانُ امرأة فرعونَ من قبل إيمان امرأة خازن فرعون، وذلك أنها جلست تمشط ابنة فرعون، فوقع المشط من يدها، فقالت تعس من كفر بالله؟ فقالت لها ابنة فرعون:ولك رب غير أبي؟ قالت:ربي ورب أبيك ورب كل شيء اللهُ. فلطمتها بنتُ فرعونَ وضربتها، وأخبرت أباها، فأرسل إليها فرعون فقال:تعبدين ربا غيري؟ قالت:نعم، ربي وربك ورب كل شيء الله. وإياه أعبد فعذبها فرعون وأوتد لها أوتادًا فشد رجليها ويديها وأرسل عليها الحيات، وكانت كذلك، فأتى عليها يومًا فقال لها:ما أنت منتهية؟ فقالت له:ربي وربك وربُ كل شيء الله. فقال لها:إني ذابح ابنك في فيك إن لم تفعلي. فقالت له:اقض ما أنت قاض. فذبح ابنها في فيها، وإن روح ابنها بشرها، فقال لها:أبشري يا أمه، فإن لك عند الله من الثواب كذا وكذا. فصبرت ثم أتى [ عليها ] فرعون يومًا آخر فقال لها مثل ذلك، فقالت له، مثل ذلك، فذبح ابنها الآخر في فيها، فبشرها روحه أيضًا، وقال لها. اصبري يا أمه فإن لك عند الله من الثواب كذا وكذا. قال:وسمعت امرأة فرعون كلامَ روح ابنها الأكبر ثم الأصغر، فآمنت امرأةُ فرعونَ، وقبض الله روح امرأة خازن فرعون، وكشف الغطاء عن ثوبها ومنـزلتها وكرامتها في الجنة لامرأة فرعون حتى رأت فازدادت إيمانًا ويقينًا وتصديقًا، فاطَّلع فرعون على إيمانها، فقال للملأ ما تعلمون من آسية بنت مزاحم؟ فأثنوا عليها، فقال لهم:إنها تعبد غيري. فقالوا له:اقتلها. فأوتد لها أوتادًا فشد يديها ورجليها، فدعت آسية ربها فقالت: ( رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ ) فوافق ذلك أن حضرها، فرعون فضحكت حين رأت بيتها في الجنة، فقال فرعون:ألا تعجبون من جنونها، إنا نعذبها وهي تضحك، فقبض الله روحها، رضي الله عنها .

وقوله: ( وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا ) أي حفظته وصانته. والإحصان:هو العفاف والحرية، ( فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا ) أي:بواسطة المَلَك، وهو جبريل، فإن الله بعثه إليها فتمثل لها في صورة بشر سَوي، وأمره الله تعالى أن ينفخ بفيه في جيب درعها، فنـزلت النفخة فولجت في فرجها، فكان منه الحمل بعيسى، عليه السلام. ولهذا قال: ( فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ ) أي:بقدره وشرعه ( وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ )

قال الإمام أحمد:حدثنا يونس، حدثنا داود بن أبي الفرات، عن عِلْباء، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال:خَطّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض أربعة خطوط، وقال: « أتدرون ما هذا؟ » قالوا:الله ورسوله أعلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أفضل نساء أهل الجنة:خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم ابنة عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون » .

وثبت في الصحيحين من حديث شعبة، عن عمرو بن مُرَة، عن مرة الهمداني، عن أبي موسى الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « كَمُلَ من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران، وخديجة بنت خُوَيلد، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثَّرِيد على سائر الطعام » .

وقد ذكرنا طرق هذه الأحاديث وألفاظها والكلام عليها في قصة عيسى ابن مريم، عليهما السلام، في كتابنا « البداية والنهاية » ولله الحمد والمنة وذكرنا ما ورد من الحديث من أنها تكون هي وآسية بنت مزاحم من أزواجه، عليه السلام، في الجنة عند قوله: ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا