الجزء 29

 

 

تفسير سورة الملك

 

وهي مكية.

قال أحمد:حدثنا حجاج بن محمد وابن جعفر قالا حدثنا شعبة، عن قتادة، عن عباس الجُشَمي، عن أبي هُرَيرة، عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قال:إن سورة في القرآن ثلاثين آية شَفَعت لصاحبها حتى غُفر له: ( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ) .

ورواه أهل السنن الأربعة، من حديث شعبة، به وقال الترمذي:هذا حديث حسن.

وقد روى الطبراني والحافظ الضياء المقدسي، من طريق سَلام بن مسكين عن ثابت، عن أنس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « سورة في القرآن خَاصَمت عن صاحبها حتى أدخلته الجنة: ( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ) . »

وقال الترمذي:حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، حدثنا يحيى بن مالك النُكري، عن أبيه، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس قال:ضرب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خباءه على قبر، وهو لا يحسب أنه قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها، فأتى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله، ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر، فإذا إنسان يقرأ سورة الملك « تَبَارَكَ » حتى ختمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « هي المانعة، هي المنجية، تنجيه من عذاب القبر » ثم قال: « هذا حديث غريب من هذا الوجه. وفي الباب عن أبي هريرة. ثم روى الترمذي أيضا من طريق ليث بن أبي سليم، عن أبي الزبير، عن جابر:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ ( الم * تَنْزِيلُ ) [ سورة السجدة ] ، و ( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ) . وقال ليث عن طاوس:يفضلان كل سورة في القرآن بسبعين حسنة . »

وقال الطبراني:حدثنا محمد بن الحسين بن عجلان الأصبهاني، حدثنا سلمة بن شبيب، حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي » يعني: ( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ) .

هذا حديث غريب، وإبراهيم ضعيف، وقد تقدم مثله في سورة « يس » وقد روى هذا الحديث عبد بن حُمَيد في مسنده بأبسط من هذا، فقال:

حدثنا إبراهيم بن الحكم، عن أبيه، عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال لرجل:ألا أتحفك بحديث تفرح به؟ قال:بلى. قال اقرأ: ( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ) وعلمها أهلك وجميع ولدك وصبيان بيتك وجيرانك، فإنها المنجية والمجادلة، تجادل - أو تخاصم- يوم القيامة عند ربها لقارئها، وتطلب له أن [ ينجيه ] من عذاب النار، وينجي بها صاحبها من عذاب القبر؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لوددتُ أنها في قلب كل إنسان من أمتي » .

وقد روى الحافظ ابن عساكر في تاريخه، في ترجمة أحمد بن نصر بن زياد، أبي عبد الله القرشي النيسابوري المقرئ الزاهد الفقيه، أحد الثقات الذين روى عنهم البخاري ومسلم، ولكن في غير الصحيحين، وروى عنه الترمذي وابن ماجة وابن خزيمة. وعليه تفقه في مذهب أبي عُبَيد بن حَرْبَويه، وخلق سواهم، ساق بسنده من حديثه عن فرات بن السائب، عن الزهري، عن أنس بن مالك قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن رجلا ممن كان قبلكم مات، وليس معه شيء من كتاب الله إلا ( تَبَارَكَ ) ، فلما وضع في حفرته أتاه المَلَك فثارت السورة في وجهه، فقال لها:إنك من كتاب الله، وأنا أكره مساءتك، وإني لا أملك لك ولا له ولا لنفسي ضرا ولا نفعا، فإن أردت هذا به فانطلقي إلى الرب تبارك وتعالى فاشفعي له. فتنطلق إلى الرب فتقول:يا رب، إن فلانًا عَمَد إليَّ من بين كتابك فتَعَلَّمني وتلاني أفتحرقه أنت بالنار وتعذبه وأنا في جوفه؟ فإن كنت فاعلا ذاك به فامحني من كتابك. فيقول:ألا أراك غضبت؟ فتقول:وحُقّ لي أن أغضب. فيقول:اذهبي فقد وهبته لك، وشَفّعتك فيه. قال:فتجيء فيخرج الملك، فيخرج كاسف البال لم يَحْلَ منه بشيء. قال:فتجيء فتضع فاها على فيه، فتقول مرحبا بهذا الفم، فربما تلاني، ومرحبا بهذا الصدر، فربما وعاني، ومرحبا بهاتين القدمين، فربما قامتا بي. وتؤنسه في قبره مخافة الوحشة عليه » . قال:فلما حَدّث بهذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لم يبق صغير ولا كبير ولا حُرّ ولا عبد، إلا تعلمها، وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم المنجية .

قلت:وهذا حديث منكر جدا، وفرات بن السائب هذا ضعفه الإمام أحمد، ويحيى بن معين، والبخاري، وأبو حاتم، والدارقطني وغير واحد. وقد ذكره ابن عساكر من وجه آخر، عن الزهري، من قوله مختصرا. وروى البيهقي في كتاب « إثبات عذاب القبر » عن ابن مسعود موقوفًا ومرفوعًا ما يشهد لهذا وقد كتبناه في كتاب الجنائز من الأحكام الكبرى، ولله الحمد .

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 1 ) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ( 2 ) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ( 3 ) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ( 4 ) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ ( 5 )

يمجد تعالى نفسه الكريمة، ويخبر أنه بيده الملك، أي:هو المتصرف في جميع المخلوقات بما يشاء لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل لقهره وحكمته وعدله. ولهذا قال: ( وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )

ثم قال: ( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ ) واستدل بهذه الآية من قال:إن الموت أمر وجودي لأنه مخلوق. ومعنى الآية:أنه أوجد الخلائق من العدم، ليبلوهم ويختبرهم أيهم أحسن عملا؟ كما قال: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ [ البقرة:28 ] فسمى الحال الأول - وهو العدم- موتًا، وسمى هذه النشأة حياة. ولهذا قال: ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [ البقرة:28 ] .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا صفوان، حدثنا الوليد، حدثنا خُلَيْد، عن قتادة في قوله: ( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ ) قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن الله أذل بني آدم بالموت، وجعل الدنيا دار حياة ثم دار موت، وجعل الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء » .

ورواه مَعْمَر، عن قتادة .

وقوله: ( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا ) أي:خير عملا كما قال محمد بن عَجْلان:ولم يقل أكثر عملا.

ثم قال: ( وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ) أي:هو العزيز العظيم المنيع الجناب، وهو مع ذلك غفور لمن تاب إليه وأناب، بعدما عصاه وخالف أمره، وإن كان تعالى عزيزا، هو مع ذلك يغفر ويرحم ويصفح ويتجاوز.

ثم قال: ( الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ) أي:طبقة بعد طبقة، وهل هن متواصلات بمعنى أنهن علويات بعضهم على بعض، أو متفاصلات بينهن خلاء؟ فيه قولان، أصحهما الثاني، كما دل على ذلك حديث الإسراء وغيره.

وقوله: ( مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ ) أي:بل هو مصطحب مستو، ليس فيه اختلاف ولا تنافر ولا مخالفة، ولا نقص ولا عيب ولا خلل؛ ولهذا قال: ( فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ) أي:انظر إلى السماء فتأملها، هل ترى فيها عيبًا أو نقصًا أو خللا؛ أو فطورًا؟.

قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، والثوري، وغيرهم في قوله: ( فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ) أي:شقوق.

وقال السدي: ( هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ) أي:من خُروق. وقال ابن عباس في رواية: ( مِنْ فُطُورٍ ) أي:من وُهِيّ وقال قتادة: ( هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ) أي:هل ترى خَلَلا يا ابن آدم؟.

وقوله: ( ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ ) قال:مرتين. ( يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا ) قال ابن عباس:ذليلا؟ وقال مجاهد، وقتادة:صاغرًا.

( وَهُوَ حَسِيرٌ ) قال ابن عباس:يعني:وهو كليل. وقال مجاهد، وقتادة، والسدي:الحسير:المنقطع من الإعياء.

ومعنى الآية:إنك لو كررت البصر، مهما كررت، لانقلب إليك، أي:لرجع إليك البصر، ( خَاسِئًا ) عن أن يرى عيبًا أو خللا ( وَهُوَ حَسِيرٌ ) أي:كليل قد انقطع من الإعياء من كثرة التكرر، ولا يرى نقصًا.

ولما نفى عنها في خلقها النقص بين كمالها وزينتها فقال: ( وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ) وهي الكواكب التي وضعت فيها من السيارات والثوابت.

وقوله: ( وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ ) عاد الضمير في قوله: ( وَجَعَلْنَاهَا ) على جنس المصابيح لا على عينها؛ لأنه لا يرمي بالكواكب التي في السماء، بل بشهب من دونها، وقد تكون مستمدة منها، والله أعلم.

وقوله: ( وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ ) أي:جعلنا للشياطين هذا الخزي في الدنيا، وأعتدنا لهم عذاب السعير في الأخرى، كما قال:في أول الصافات: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [ الصافات:6 - 10 ] .

قال قتادة:إنما خلقت هذه النجوم لثلاث خصال:خلقها الله زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك فقد قال برأيه وأخطأ حظه، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم.

وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( 6 ) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ ( 7 ) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ( 8 ) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ ( 9 ) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ( 10 ) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ ( 11 )

يقول تعالى: ( وَ ) أعتدنا ( لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) أي:بئس المآل والمنقلب. ( إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا ) قال ابن جرير:يعني الصياح.

( وَهِيَ تَفُورُ ) قال الثوري:تغلي بهم كما يغلي الحَبّ القليل في الماء الكثير.

وقوله: ( تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ ) أي:يكاد ينفصل بعضها من بعض، من شدة غيظها عليهم وحنقها بهم، ( كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ * فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نـزلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ ) يذكر تعالى عدله في خلقه، وأنه لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه وإرسال الرسول إليه، كما قال: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا [ الإسراء:15 ] وقال تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [ الزمر:71 ] . وهكذا عادوا على أنفسهم بالملامة، وندموا حيث لا تنفعهم الندامة، فقالوا: ( لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) أي:لو كانت لنا عقول ننتفع بها أو نسمع ما أنـزله الله من الحق، لما كنا على ما كنا عليه من الكفر بالله والاغترار به، ولكن لم يكن لنا فهم نعي به ما جاءت به الرسل، ولا كان لنا عقل يرشدنا إلى اتباعهم، قال الله تعالى: ( فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ )

قال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مُرَّة، عن أبي البَخْتَريّ الطائي قال:أخبرني من سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لن يهلك الناس حتى يُعذِروا من أنفسهم » وفي حديث آخر: « لا يدخل أحد النار، إلا وهو يعلم أن النار أولى به من الجنة » .

إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ( 12 )

يقول تعالى مخبرًا عمن يخاف مقام ربه فيما بينه وبينه إذا كان غائبًا عن الناس، فينكف عن المعاصي ويقوم بالطاعات، حيث لا يراه أحد إلا الله، بأنه له مغفرة وأجر كبير، أي:يكفر عنه ذنوبه، ويجازى بالثواب الجزيل، كما ثبت في الصحيحين: « سبعة يظلهم الله تعالى في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله » ، فذكر منهم: « رجلا دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال:إني أخاف الله، ورجلا تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه » .

وقال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده:حدثنا طالوت بن عباد، حدثنا الحارث بن عبيد، عن ثابت، عن أنس قال:قالوا:يا رسول الله، إنا نكون عندك على حال، فإذا فارقناك كنا على غيره؟ قال: « كيف أنتم وربكم؟ » قالوا:الله ربنا في السر والعلانية. قال: « ليس ذلكم النفاق » .

لم يروه عن ثابت إلا الحارث بن عُبَيد فيما نعلمه.

 

وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 13 ) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ( 14 ) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ( 15 )

ثم قال تعالى منبهًا على أنه مطلع على الضمائر والسرائر: ( وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) أي:بما خطر في القلوب.

( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ) ؟ أي:ألا يعلم الخالق. وقيل:معناه ألا يعلم الله مخلوقه؟ والأول أولى، لقوله: ( وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ )

ثم ذكر نعمته على خلقه في تسخيره لهم الأرض وتذليله إياها لهم، بأن جعلها قارة ساكنة لا تمتد ولا تضطرب بما جعل فيها من الجبال، وأنبع فيها من العيون، وسلك فيها من السبل، وهيأها فيها من المنافع ومواضع الزروع والثمار، فقال: ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا ) أي:فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات، واعلموا أن سعيكم لا يجدي عليكم شيئًا، إلا أن ييسره الله لكم؛ ولهذا قال: ( وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ) فالسعي في السبب لا ينافي التوكل، كما قال الإمام أحمد:

حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا حَيْوَة، أخبرني بكر بن عمرو، أنه سمع عبد الله بن هُبَيْرة يقول:إنه سمع أبا تميم الجَيشاني يقول:إنه سمع عمر بن الخطاب يقول:إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تَغْدُو خِمَاصًا وتَرُوح بِطَانًا » .

رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث ابن هبيرة وقال الترمذي:حسن صحيح. فأثبت لها رواحا وغدوا لطلب الرزق، مع توكلها على الله، عز وجل، وهو المسَخِّر المسير المسبب. ( وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) أي:المرجع يوم القيامة.

قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي: ( مَنَاكِبِهَا ) أطرافها وفجاجها ونواحيها. وقال ابن عباس وقتادة: ( مَنَاكِبِهَا ) الجبال.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن حكام الأزدي، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن يونس بن جبير، عن بشير بن كعب:أنه قرأ هذه الآية: ( فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا ) فقال لأم ولد له:إن علمت ( مَنَاكِبِهَا ) فأنت عتيقة. فقالت:هي الجبال. فسأل أبا الدرداء فقال:هي الجبال.

أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ( 16 ) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ( 17 ) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ( 18 ) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ ( 19 )

وهذا أيضًا من لطفه ورحمته بخلقه أنه قادر على تعذيبهم، بسبب كفر بعضهم به وعبادتهم معه غيره وهو مع هذا يحلم ويصفح، ويؤجل ولا يعجل، كما قال: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا [ فاطر:45 ] .

وقال هاهنا: ( أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ) أي:تذهب وتجيء وتضطرب، ( أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ) أي:ريحا فيها حصباء تدمغكم، كما قال: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا [ الإسراء:68 ] . وهكذا توعدهم هاهنا بقوله: ( فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ) أي:كيف يكون إنذاري وعاقبة من تخلف عنه وكذب به.

ثم قال: ( وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) أي:من الأمم السالفة والقرون الخالية، ( فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ) أي:فكيف كان إنكاري عليهم ومعاقبتي لهم؟ أي:عظيمًا شديدًا أليمًا.

ثم قال تعالى: ( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ) أي:تارة يصففن أجنحتهن في الهواء، وتارة تجمع جناحًا وتنشر جناحًا ( مَا يُمْسِكُهُنَّ ) أي:في الجو ( إِلا الرَّحْمَنُ ) أي:بما سخر لهن من الهواء، من رحمته ولطفه، ( إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ ) أي:بما يصلح كل شيء من مخلوقاته. وهذه كقوله: أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [ النحل:79 ] .

أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِي غُرُورٍ ( 20 ) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ ( 21 ) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 22 ) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ ( 23 ) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( 24 ) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 25 ) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ( 26 )

يقول تعالى للمشركين الذين عبدوا غيره، يبتغون عندهم نصرًا ورزقًا، مُنكرًا عليهم فيما اعتقدوه، ومُخبرا لهم أنه لا يحصل لهم ما أملوه، فقال: ( أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ ) أي:ليس لكم من دونه من ولي ولا واق، ولا ناصر لكم غيره؛ ولهذا قال: ( إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِي غُرُورٍ )

ثم قال: ( أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ ) ؟! أي:من هذا الذي إذا قطع الله رزقه عنكم يرزقكم بعده؟! أي:لا أحد يعطي ويمنع ويخلق ويرزق، وينصر إلا الله، عز وجل، وحده لا شريك له، أي:وهم يعلمون ذلك، ومع هذا يعبدون غيره؛ ولهذا قال: ( بَلْ لَجُّوا ) أي:استمروا في طغيانهم وإفكهم وضلالهم ( فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ ) أي:في معاندة واستكبارًا ونفورًا على أدبارهم عن الحق، [ أي ] لا يسمعون له ولا يتبعونه.

ثم قال: ( أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) ؟:وهذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، فالكافر مثله فيما هو فيه كمثل من يمشي مُكبّا على وجهه، أي:يمشي منحنيا لا مستويا على وجهه، أي:لا يدري أين يسلك ولا كيف يذهب؟ بل تائه حائر ضال، أهذا أهدى ( أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا ) أي:منتصب القامة ( عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) أي:على طريق واضح بين، وهو في نفسه مستقيم، وطريقه مستقيمة. هذا مثلهم في الدنيا، وكذلك يكونون في الآخرة. فالمؤمن يحشر يمشي سويًا على صراط مستقيم، مُفض به إلى الجنة الفيحاء، وأما الكافر فإنه يحشر يمشي على وجهه إلى نار جهنم، احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ

قال الإمام أحمد، رحمه الله:حدثنا ابن نُمَير، حدثنا إسماعيل، عن نُفَيع قال:سمعت أنس بن مالك يقول:قيل:يا رسول الله، كيف يحشر الناس على وجوههم؟ فقال: « أليس الذي أمشاهم على أرجلهم قادرًا على أن يمشيهم على وجوههم » .

وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من طريق [ يونس بن محمد، عن شيبان، عن قتادة، عن أنس، به نحوه ] .

وقوله: ( قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ ) أي:ابتدأ خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا، ( وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ ) أي:العقول والإدراك، ( قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ ) أي:قلما تستعملون هذه القوى التي أنعم الله بها عليكم، في طاعته وامتثال أوامره وترك زواجره.

( قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ ) أي:بثكم ونشركم في أقطار الأرض وأرجائها، مع اختلاف ألسنتكم في لغاتكم وألوانكم، وحلاكم وأشكالكم وصوركم، ( وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) أي:تجمعون بعد هذا التفرق والشتات، يجمعكم كما فرقكم ويعيدكم كما بدأكم.

ثم قال مخبرًا عن الكفار المنكرين للمعاد المستبعدين وقوعه: ( وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) أي:متى [ يقع ] هذا الذي تخبرنا بكونه من الاجتماع بعد هذا التفرق؟ ( قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ ) أي:لا يعلم وقت ذلك على التعيين إلا الله، عز وجل، لكنه أمرني أن أخبركم أن هذا كائن وواقع لا محالة فاحذروه، ( وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) وإنما علي البلاغ، وقد أديته إليكم.

 

فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ ( 27 )

قال الله تعالى: ( فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) أي:لما قامت القيامة وشاهدها الكفار، ورأوا أن الأمر كان قريبا؛ لأن كل ما هو آتٍ آتٍ وإن طال زمنه، فلما وقع ما كذبوا به ساءهم ذلك، لما يعلمون ما لهم هناك من الشر، أي:فأحاط بهم ذلك، وجاءهم من أمر الله ما لم يكن لهم في بال ولا حساب، وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [ الزمر:47 ، 48 ] ؛ ولهذا يقال لهم على وجه التقريع والتوبيخ: ( هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ ) أي:تستعجلون.

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( 28 ) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 29 ) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ( 30 )

يقول تعالى: ( قُلْ ) يا محمد لهؤلاء المشركين بالله الجاحدين لنعمه: ( أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) أي:خَلِّصوا أنفسكم، فإنه لا منقذ لكم من الله إلا التوبة والإنابة، والرجوع إلى دينه، ولا ينفعكم وقوع ما تتمنون لنا من العذاب والنَّكَال، فسواء عذبنا الله أو رحمنا، فلا مناص لكم من نكاله وعذابه الأليم الواقع بكم.

ثم قال: ( قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا ) أي:آمنا برب العالمين الرحمن الرحيم، وعليه توكلنا في جميع أمورنا، كما قال: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [ هود:123 ] . ولهذا قال: ( فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) ؟ أي:منا ومنكم، ولمن تكون العاقبة في الدنيا والآخرة؟.

ثم قال: ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا ) أي:ذاهبا في الأرض إلى أسفل، فلا يُنَال بالفئوس الحداد، ولا السواعد الشداد، والغائر:عكس النابع؛ ولهذا قال: ( فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ) أي:نابع سائح جار على وجه الأرض، لا يقدر على ذلك إلا الله، عز وجل، فمن فضله وكرمه [ أن ] أنبع لكم المياه وأجراها في سائر أقطار الأرض، بحسب ما يحتاج العباد إليه من القلة والكثرة، فلله الحمد والمنة.

[ آخر تفسير سورة « تبارك » ولله الحمد ]

 

تفسير سورة « ن »

 

وهي مدنية.

بسم الله الرحمن الرحيم

ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ( 1 ) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ( 2 ) وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ( 3 ) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ( 4 ) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ( 5 ) بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ ( 6 ) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ( 7 )

قد تقدم الكلام على حروف الهجاء في أول « سورة البقرة » ، وأن قوله: ( ن ) كقوله: ص ق ونحو ذلك من الحروف المقطعة في أوائل السور، وتحرير القول في ذلك بما أغنى عن إعادته.

وقيل:المراد بقوله: ( ن ) حوت عظيم على تيار الماء العظيم المحيط، وهو حامل للأرضين السبع، كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير:

حدثنا ابن بشار، حدثنا يحيى، حدثنا سفيان - هو الثوري- حدثنا سليمان - هو الأعمش- عن أبي ظَبْيان، عن ابن عباس قال:أول ما خلق الله القلم قال:اكتب. قال:وما أكتب؟ قال:اكتب القَدَر. فجرى بما يكون من ذلك اليوم إلى يوم قيام الساعة. ثم خلق « النون » ورفع بخار الماء، ففُتِقت منه السماء، وبسطت الأرض على ظهر النون، فاضطرب النون فمادت الأرض، فأثبتت بالجبال، فإنها لتفخر على الأرض .

وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن سِنان، عن أبي معاوية، عن الأعمش، به. وهكذا رواه شعبة، ومحمد بن فُضَيل، وَوَكِيع، عن الأعمش، به. وزاد شعبة في روايته:ثم قرأ: ( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ) وقد رواه شريك، عن الأعمش، عن أبي ظبيان - أو مجاهد- عن ابن عباس، فذكر نحوه. ورواه مَعْمَر، عن الأعمش:أن ابن عباس قال... فذكره، ثم قرأ: ( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ) ثم قال ابن جرير:حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن عطاء، عن أبي الضُّحَى، عن ابن عباس قال:إن أول شيء خلق ربي، عز وجل، القلم، ثم قال له:اكتب. فكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة. ثم خلق « النون » فوق الماء، ثم كبس الأرض عليه .

وقد روى الطبراني ذلك مرفوعًا فقال:حدثنا أبو حبيب زيد بن المهتدي المروذي حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني، حدثنا مُؤَمَّل بن إسماعيل، حدثنا حماد بن زيد، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضحى مسلم بن صَبِيح، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن أول ما خلق الله القلم والحوت، قال للقلم:اكتب، قال:ما أكتب، قال:كل شيء كائن إلى يوم القيامة » . ثم قرأ: ( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ) فالنون:الحوت. والقلم:القلم .

حديث آخر في ذلك:رواه ابن عساكر عن أبي عبد الله مولى بني أمية، عن أبي صالح، عن أبي هُرَيرة:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن أول شيء خلقه الله القلم، ثم خلق » النون « وهي:الدواة. ثم قال له:اكتب. قال وما أكتب؟ قال:اكتب ما يكون - أو:ما هو كائن- من عمل أو رزق أو أثر أو أجل. فكتب ذلك إلى يوم القيامة، فذلك قوله: ( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ) ثم ختم على القلم فلم يتكلم إلى يوم القيامة، ثم خلق العقل وقال:وعزتي لأكملنك فيمن أحببت، ولأنقصنك ممن أبغضت » .

وقال ابن أبي نَجِيح:إن إبراهيم بن أبي بكر أخبره عن مجاهد قال:كان يقال:النون:الحوت [ العظيم ] الذي تحت الأرض السابعة.

وذكر البغوي وجماعة من المفسرين:إن على ظهر هذا الحوت صخرة سمكها كغلظ السماوات والأرض، وعلى ظهرها ثور له أربعون ألف قرن، وعلى متنه الأرضون السبع وما فيهن وما بينهن فالله أعلم. ومن العجيب أن بعضهم حمل على هذا المعنى الحديث الذي رواه الإمام أحمد:

حدثنا إسماعيل، حدثنا حُمَيد، عن أنس:أن عبد الله بن سلام بَلَغه مَقْدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأتاه فسأله عن أشياء، قال:إني سائلك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي، قال:ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينـزع إلى أبيه؟ والولد ينـزع إلى أمه؟ قال: « أخبرني بهن جبريل آنفًا » . قال ابن سلام:فذاك عدو اليهود من الملائكة. قال: « أما أول أشراط الساعة فنار تَحشرهم من المشرق إلى المغرب. وأول طعام يأكله أهل الجنة زيادةُ كبد حوت. وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نـزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نـزعت » .

ورواه البخاري من طرق عن حُمَيد، ورواه مسلم أيضا وله من حديث ثوبان - مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم- نحو هذا. وفي صحيح مسلم من حديث أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان:أن حبرًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسائل، فكان منها أن قال:فما تحفتهم؟ - يعني أهل الجنة حين يدخلون الجنة- قال: « زيادة كبد الحوت » . قال:فما غذاؤهم على أثرها؟ قال: « ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها » . قال:فما شرابهم عليه؟ قال: « من عين فيها تسمى سلسبيلا » .

وقيل:المراد بقوله: ( ن ) لوح من نور.

قال ابن جرير:حدثنا الحسين بن شبيب المكتب، حدثنا محمد بن زياد الجزري، عن فرات بن أبي الفرات، عن معاوية بن قُرّة، عن أبيه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ) لوح من نور، وقلم من نور، يجري بما هو كائن إلى يوم القيامة وهذا مرسل غريب.

وقال ابن جُرَيج أخبرت أن ذلك القلم من نور طوله مائة عام.

وقيل:المراد بقوله: ( ن ) دواة، والقلم:القلم. قال ابن جرير:

حدثنا عبد الأعلى، حدثنا ابن ثور، عن مَعْمَر، عن الحسن وقتادة في قوله: ( ن ) قالا هي الدواة.

وقد روي في هذا حديث مرفوع غريب جدًا فقال ابن أبي حاتم:

حدثنا أبي، حدثنا هشام بن خالد، حدثنا الحسن بن يحيى، حدثنا أبو عبد الله مولى بني أمية، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « خلق الله النون، وهي الدواة » .

وقال ابن جرير:حدثنا ابن حميد، حدثنا يعقوب، حدثنا أخي عيسى بن عبد الله، حدثنا ثابت الثمالي، عن ابن عباس قال:إن الله خلق النون - وهي الدواة- وخلق القلم، فقال:اكتب. قال:وما أكتب؟ قال:اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل معمول، به بر أو فجور، أو رزق مقسوم حلال أو حرام. ثم ألزم كل شيء من ذلك، شأنه:دخوله في الدنيا، ومقامه فيها كم؟ وخروجه منها كيف؟ ثم جعل على العباد حفظة، وللكتاب خزانًا، فالحفظة ينسخون كل يوم من الخزان عمل ذلك اليوم، فإذا فني الرزق وانقطع الأثر وانقضى الأجل، أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم، فتقول لهم الخزنة:ما نجد لصاحبكم عندنا شيئًا فترجع الحفظة فيجدونهم قد ماتوا. قال:فقال ابن عباس:ألستم قومًا عَرَبا تسمعون الحفظة يقولون: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [ الجاثية:29 ] ؟ وهل يكون الاستنساخ إلا من أصل .

وقوله: ( والقلم ) الظاهر أنه جنس القلم الذي يكتب به كقوله اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [ العلق:3 - 5 ] . فهو قسم منه تعالى، وتنبيه لخلقه على ما أنعم به عليهم من تعليم الكتابة التي بها تنال العلوم؛ ولهذا قال: ( وَمَا يَسْطُرُونَ ) قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة:يعني:وما يكتبون.

وقال أبو الضُّحى، عن ابن عباس: ( وَمَا يَسْطُرُونَ ) أي:وما يعملون.

وقال السدي: ( وَمَا يَسْطُرُونَ ) يعني الملائكة وما تكتب من أعمال العباد.

وقال آخرون:بل المراد هاهنا بالقلم الذي أجراه الله بالقدر حين كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرضين بخمسين ألف سنة. وأوردوا في ذلك الأحاديث الواردة في ذكر القلم، فقال ابن أبي حاتم:

حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان ويونس بن حبيب قالا حدثنا أبو داود الطيالسي، حدثنا عبد الواحد بن سُليم السلمي، عن عطاء - هو ابن أبي رباح- حدثني الوليد بن عبادة بن الصامت قال:دعاني أبي حين حضره الموت فقال:إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن أول ما خلق الله القلم، فقال له:اكتب. قال:يا رب وما أكتب؟ قال:اكتب القدر [ ما كان ] وما هو كائن إلى الأبد » .

وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد من طرق، عن الوليد بن عبادة، عن أبيه، به وأخرجه الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي، به وقال:حسن صحيح غريب. ورواه أبو داود في كتاب « السنة » من سننه، عن جعفر بن مسافر، عن يحيى بن حسان، عن ابن رباح، عن إبراهيم بن أبي عبلة عن أبي حفصة - واسمه حُبَيش بن شُريح الحَبشي الشامي- عن عبادة، فذكره .

وقال ابن جرير:حدثنا محمد بن عبد الله الطوسي، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق، أنبأنا عبد الله بن المبارك، حدثنا رباح بن زيد، عن عمر بن حبيب، عن القاسم بن أبي بَزة عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن أول شيء خلقه الله القلم فأمره فكتب كل شيء » . غريب من هذا الوجه، ولم يخرجوه

وقال ابن أبي نَجيح، عن مجاهد: ( وَالْقَلَمِ ) يعني:الذي كتب به الذكر. .

وقوله: ( وَمَا يَسْطُرُونَ ) أي:يكتبون كما تقدم.

وقوله: ( مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ) أي:لست، ولله الحمد، بمجنون، كما قد يقوله الجهلة من قومك، المكذبون بما جئتهم به من الهدى والحق المبين، فنسبوك فيه إلى الجنون، ( وَإِنَّ لَكَ لأجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ) أي:بل لك الأجر العظيم، والثواب الجزيل الذي لا ينقطع ولا يبيد، على إبلاغك رسالة ربك إلى الخلق، وصبرك على أذاهم. ومعنى ( غَيْرُ مَمْنُونٍ ) أي:غير مقطوع كقوله: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [ هود:108 ] فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [ التين:6 ] أي:غير مقطوع عنهم. وقال مجاهد: غَيْرُ مَمْنُونٍ أي:غير محسوب، وهو يرجع إلى ما قلناه.

وقوله: ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) قال العوفي، عن ابن عباس:أي:وإنك لعلى دين عظيم، وهو الإسلام. وكذلك قال مجاهد، وأبو مالك، والسدي، والربيع بن أنس، والضحاك، وابن زيد.

وقال عطية:لعلى أدب عظيم. وقال مَعْمَر، عن قتادة:سُئلت عائشةُ عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت:كان خلقه القرآن، تقول كما هو في القرآن.

وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة قوله: ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) ذكر لنا أن سعد بن هشام سأل عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت:ألست تقرأ القرآن؟ قال:بلى. قالت:فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن.

وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة، عن زُرارة بن أوفى عن سعد بن هشام قال:سألت عائشة فقلت:أخبريني يا أم المؤمنين - عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت:أتقرأ القرآن؟ فقلتُ:نعم. فقالت:كان خلقه القرآن .

هذا حديث طويل. وقد رواه الإمام مسلم في صحيحه، من حديث قتادة بطوله وسيأتي في سورة « المزمل » إن شاء الله تعالى.

وقال الإمام أحمد:حدثنا إسماعيل، حدثنا يونس، عن الحسن قال:سألت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت:كان خلقه القرآن .

وقال الإمام أحمد:حدثنا أسود، حدثنا شريك، عن قيس بن وهب، عن رجل من بني سواد قال:سألت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت:أما تقرأ القرآن: ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) ؟ قال:قلت:حدثيني عن ذاك. قالت:صنعت له طعامًا، وصنعت له حفصة طعامًا، فقلت لجاريتي:اذهبي فإن جاءت هي بالطعام فوضعته قبلُ فاطرحي الطعام! قالت:فجاءت بالطعام. قالت:فألقت الجارية، فوقعت القصعة فانكسرت - وكان نِطْعًا - قالت:فجمعه رسول الله وقال: « اقتضوا - أو:اقتضى- شك أسود - ظَرفًا مكان ظَرفِك » . قالت:فما قال شيئًا .

وقال ابن جرير:حدثنا عبيد بن آدم بن أبي أياس، حدثنا أبي، حدثنا المبارك بن فضالة، عن الحسن، عن سعد بن هشام:قال:أتيت عائشة أم المؤمنين فقلت لها:أخبريني بخلُق النبي صلى لله عليه وسلم. فقالت:كان خلقه القرآن. أما تقرأ: ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ )

وقد روى أبو داود والنسائي، من حديث الحسن، نحوه

وقال ابن جرير:حدثني يونس، أنبأنا ابن وهب، وأخبرني معاوية بن صالح، عن أبي الزاهرية، عن جُبَير بن نفير قال:حججتُ فدخلتُ على عائشة، رضي الله عنها، فسألتها عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت:كان خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن.

وهكذا رواه أحمد، عن عبد الرحمن بن مهدي. ورواه النسائي في التفسير، عن إسحاق بن منصور، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح، به

ومعنى هذا أنه، عليه السلام، صار امتثالُ القرآن، أمرًا ونهيًا، سجية له، وخلقًا تَطَبَّعَه، وترك طبعه الجِبِلِّي، فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه. هذا مع ما جَبَله الله عليه من الخلق العظيم، من الحياء والكرم والشجاعة، والصفح والحلم، وكل خلق جميل. كما ثبت في الصحيحين عن أنس قال:خدمتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي: « أف » قط، ولا قال لشيء فعلته:لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله:ألا فعلته؟ وكان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا ولا مَسسْتُ خزًا ولا حريرًا ولا شيئًا كان ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شَمَمْتُ مسكًا ولا عطرًا كان أطيب من عَرَق رسول الله صلى الله عليه وسلم

وقال البخاري: [ حدثنا أحمد بن سعيد أبو عبد الله ] حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا إبراهيم بن يوسف، عن أبيه، عن أبي إسحاق قال:سمعت البراء يقول:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجها، وأحسن الناس خلقًا، ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير

والأحاديث في هذا كثيرة، ولأبي عيسى الترمذي في هذا كتاب « الشمائل » .

قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن الزهري، عن عُرْوَة، عن عائشة قالت:ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادمًا له قط، ولا امرأة، ولا ضرب بيده شيئًا قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله. ولا خُيِّر بين شيئين قط إلا كان أحبهما إليه أيسرهما حتى يكون إثمًا، فإذا كان إثما كان أبعد الناس من الإثم، ولا انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه إلا أن تنتهك حرمات الله، فيكون هو ينتقم لله، عز وجل

وقال الإمام أحمد:حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن محمد بن عَجْلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هُرَيرة قال:قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: « إنما بُعِثتُ لأتمم صالح الأخلاق » . تفرد به

وقوله: ( فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ ) أي:فستعلم يا محمد، وسيعلم مخالفوك ومكذبوك:من المفتون الضال منك ومنهم. وهذا كقوله تعالى: سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ [ القمر:26 ] ، وكقوله: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [ سبأ:24 ] .

قال ابن جريج:قال ابن عباس في هذه الآية:ستعلم ويعلمون يوم القيامة.

وقال العوفي، عن ابن عباس: ( بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ ) أي:الجنون. وكذا قال مجاهد، وغيره. وقال قتادة وغيره: ( بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ ) أي:أولى بالشيطان.

ومعنى المفتون ظاهر، أي:الذي قد افتتن عن الحق وضل عنه، وإنما دخلت الباء في قوله: ( بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ ) لتدل على تضمين الفعل في قوله: ( فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ) وتقديره:فستعلم ويعلمون، أو:فستُخْبَر ويُخْبَرون بأيكم المفتون. والله أعلم.

ثم قال تعالى: ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) أي:هو يعلم تعالى أي الفريقين منكم ومنهم هو المهتدي، ويعلم الحزب الضال عن الحق.

فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ( 8 ) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ( 9 ) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ ( 10 ) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ( 11 ) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ( 12 ) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ( 13 ) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ ( 14 ) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ( 15 )

يقول تعالى:كما أنعمنا عليك وأعطيناك الشرع المستقيم والخلق العظيم ( فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ) ( وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ) قال ابن عباس:لو تُرَخِّص لهم فَيُرَخِّصون.

وقال مجاهد:ودوا لو تركن إلى آلهتهم وتترك ما أنت عليه من الحق.

ثم قال تعالى: ( وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ ) وذلك أن الكاذب لضعفه ومهانته إنما يتقي بأيمانه الكاذبة التي يجترئ بها على أسماء الله تعالى، واستعمالها في كل وقت في غير محلها.

قال ابن عباس:المهين الكاذب. وقال مجاهد:هو الضعيف القلب. قال الحسن:كل حلاف مكابر مهين ضعيف.

وقوله ( هَمَّازٍ ) قال ابن عباس وقتادة:يعني الاغتياب.

( مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ) يعني:الذي يمشي بين الناس، ويحرش بينهم وينقل الحديث لفساد ذات البين وهي الحالقة، وقد ثبت في الصحيحين من حديث مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس قال:مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: « إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة » الحديث. وأخرجه بقية الجماعة في كتبهم، من طرق عن مجاهد، به .

وقال أحمد:حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن هَمّام؛ أن حُذَيفة قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « لا يدخل الجنة قَتَّات » .

رواه الجماعة - إلا ابن ماجة- من طرق، عن إبراهيم، به .

وحدثنا عبد الرزاق، حدثنا الثوري، عن منصور، عن إبراهيم، عن همام، عن حذيفة قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « لا يدخل الجنة قتات » يعني:نماما .

وحدثنا يحيى بن سعيد القطان أبو سعيد الأحول، عن الأعمش، حدثني إبراهيم - منذ نحو ستين سنة- عن همام بن الحارث قال:مر رجل على حذيفة فقيل:إن هذا يرفع الحديث إلى الأمراء. فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - أو:قال- :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يدخل الجنة قتات » .

وقال أحمد:حدثنا هاشم، حدثنا مهدي، عن واصل الأحدب، عن أبي وائل قال:بلغ حذيفة عن رجل أنه ينم الحديث، فقال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا يدخل الجنة نمام » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا مَعْمَر، عن ابن خُثَيم، عن شَهْر بن حَوْشَب، عن أسماء بنت يزيد بن السكن؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ألا أخبركم بخياركم؟ » . قالوا:بلى يا رسول الله. قال: « الذين إذا رُؤوا ذُكر الله، عز وجل » . ثم قال: « ألا أخبركم بشراركم؟ المشاءون بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، والباغون للبرآء العَنَت » .

ورواه ابن ماجة، عن سويد بن سعيد، عن يحيى بن سليم، عن ابن خُثَيم، به .

وقال الإمام أحمد حدثنا سفيان، عن ابن أبي حُسَين، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غَنْم - يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم: « خيار عباد الله الذين إذا رؤوا ذكر الله، وشرار عباد الله المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبرآء العنت »

وقوله ( مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ) أي:يمنع ما عليه وما لديه من الخير ( مُعْتَدٍ ) في متناول ما أحل الله له، يتجاوز فيها الحد المشروع ( أَثِيمٍ ) أي:يتناول المحرمات.

وقوله: ( عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ) أما العتل:فهو الفظ الغليظ الصحيح، الجموع المَنُوعُ.

وقال الإمام أحمد:حدثنا وَكِيع وعبد الرحمن، عن سفيان، عن مَعْبَد بن خالد، عن حارثة بن وهب قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ألا أنبئكم بأهل الجنة؟ كل ضعيف مُتَضَعَّف لو أقسم على الله لأبره، ألا أنبئكم بأهل النار؟ كل عُتل جَوّاظ مستكبر » . وقال وَكِيع: « كل جَوَّاظ جعظري مستكبر » .

أخرجاه في الصحيحين بقية الجماعة، إلا أبا داود، من حديث سفيان الثوري وشعبة، كلاهما عن معبد بن خالد، به .

وقال الإمام أحمد أيضًا:حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا موسى بن علي قال:سمعت أبي يحدِّث عن عبد الله بن عمرو بن العاص؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند ذكر أهل النار: « كل جعظري جواظ مستكبر جماع مناع » . تفرد به أحمد .

قال أهل اللغة:الجعظري:الفَظُّ الغَليظ، والجَوّاظ:الجَمُوع المَنُوع.

وقال الإمام أحمد:حدثنا وَكِيع، حدثنا عبد الحميد، عن شَهْر بن حَوْشب، عن عبد الرحمن بن غَنْم، قال:سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العُتلِّ الزنيم، فقال: « هو الشديد الخَلْق المصحح، الأكول الشروب، الواجد للطعام والشراب، الظلوم للناس، رحيب الجوف » .

وبهذا الإسناد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يدخل الجنة الجَواظ الجعظري، العتل الزنيم » وقد أرسله أيضًا غير واحد من التابعين.

وقال ابن جرير:حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا ابن ثور، عن مَعْمر، عن زيد بن أسلم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « تبكي السماء من عبد أصح الله جسمه، وأرحب جوفه، وأعطاه من الدنيا مِقضَمًا فكان للناس ظلومًا. قال:فذلك العُتُل الزنيم » .

وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريقين مرسلين، ونص عليه غير واحد من السلف، منهم مجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة، وغيرهم:أن العتل هو:المُصحَّح الخَلْق، الشديد القوي في المأكل والمشرب والمنكح، وغير ذلك، وأما الزنيم فقال البخاري:

حدثنا محمود، حدثنا عُبَيد الله، عن إسرائيل، عن أبي حَصِين، عن مجاهد، عن ابن عباس: ( عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ) قال:رجلٌ من قريش له زَنمة مثل زَنَمة الشاة.

ومعنى هذا:أنه كان مشهورًا بالشر كشهرة الشاة ذات الزنمة من بين أخواتها. وإنما الزنيم في لغة العرب:هو الدّعِيُّ في القوم. قاله ابن جرير وغير واحد من الأئمة، قال:ومنه قول حسان بن ثابت، يعني يذم بعض كفار قريش:

وأنتَ زَنيـم نِيـطَ فـي آل هاشم كَمَـا نِيـطَ خَـلْفَ الرّاكِب القَدَحُ الفَرْدُ

وقال آخر:

زَنيمٌ لَيْسَ يُعــرَفُ مَـن أبـوهُ بَغـــيُّ الأم ذُو حَسَـــب لَئــيم

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا عمار بن خالد الواسطي، حدثنا أسباط، عن هشام، عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس في قوله: ( زَنِيمٍ ) قال:الدعيُّ الفاحش اللئيم. ثم قال ابن عباس:

زَنيــمٌ تَداعــاه الرجــالُ زيـادَةً كَمـا زيـدَ فـي عَرضِ الأديم الأكَارعُ

وقال العوفي عن ابن عباس:الزنيم:الدعي. ويقال:الزنيم:رجل كانت به زنمة، يعرف بها. ويقال:هو الأخنس بن شَريق الثقفي، حليف بني زهرة. وزعم أناس من بني زهرة أن الزنيم الأسودُ بن عبد يغوث الزهري، وليس به.

وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن ابن عباس:أنه زعم أن الزنيم المُلحَق النسب.

وقال ابن أبي حاتم:حدثني يونس حدثنا ابن وهب، حدثني سليمان بن بلال، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد بن المُسيَّب، أنه سمعه يقول في هذه الآية: ( عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ) قال سعيد:هو الملصق بالقوم، ليس منهم.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا عقبة بن خالد، عن عامر بن قدامة قال:سئل عكرمة عن الزنيم، قال:هو ولد الزنا.

وقال الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله تعالى: ( عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ) قال:يعرف المؤمن من الكافر مثل الشاة الزنماء. والزنماء من الشياه:التي في عنقها هَنتان معلقتان في حلقها. وقال الثوري، عن جابر، عن الحسن، عن سعيد بن جبير قال:الزنيم:الذي يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها. والزنيم:الملصق. رواه ابن جرير.

وروى أيضا من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال في الزنيم:قال:نُعِتَ فلم يعرف حتى قيل:زنيم. قال:وكانت له زَنَمَةٌ في عنقه يُعرَف بها. وقال آخرون:كان دَعيًا.

وقال ابن جرير:حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن أصحاب التفسير قالوا هو الذي تكون له زَنَمَة مثل زنمة الشاة.

وقال الضحاك:كانت له زَنَمَة في أصل أذنه، ويقال:هو اللئيم الملصق في النسب.

وقال أبو إسحاق:عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:هو المريب الذي يعرف بالشر.

وقال مجاهد:الزنيم الذي يعرف بهذا الوصف كما تعرف الشاة. وقال أبو رَزِين:الزنيم علامة الكفر. وقال عكرمة:الزنيم الذي يعرف باللؤم كما تعرف الشاة بزنمتها.

والأقوال في هذا كثيرة، وترجع إلى ما قلناه، وهو أن الزنيم هو:المشهور بالشر، الذي يعرف به من بين الناس، وغالبًا يكون دعيًا وله زنا، فإنه في الغالب يتسلط الشيطان عليه ما لا يتسلط على غيره، كما جاء في الحديث: « لا يدخل الجنة ولد زنا » وفي الحديث الآخر: « ولد الزنا شَرُّ الثلاثة إذا عمل بعمل أبويه » .

وقوله: ( أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ) يقول تعالى:هذا مقابلة ما أنعم الله عليه من المال والبنين، كفر بآيات الله وأعرض عنها، وزعم أنها كَذب مأخوذ من أساطير الأولين، كقوله: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّر * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ قال الله تعالى: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [ المدثر:11 - 26 ] . قال تعالى هاهنا: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ

 

سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ( 16 )

قال ابن جرير:سنبين أمره بيانًا واضحًا، حتى يعرفوه ولا يخفى عليهم، كما لا تخفى السمة على الخراطيم وهكذا قال قتادة: ( سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ) شين لا يفارقه آخر ما عليه. وفي رواية عنه:سيما على أنفه. وكذا قال السدي.

وقال العوفي، عن ابن عباس: ( سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ) يقاتل يوم بدر، فيُخطم بالسيف في القتال. وقال آخرون: ( سَنَسِمُهُ ) سمة أهل النار، يعني نسود وجهه يوم القيامة، وعبر عن الوجه بالخرطوم. حكى ذلك كله أبو جعفر ابن جرير، ومال إلى أنه لا مانع من اجتماع الجميع عليه في الدنيا والآخرة، وهو مُتّجه.

وقد قال ابن أبي حاتم في سورة عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ حدثنا أبي، حدثنا أبو صالح كاتب الليث، حدثني الليث حدثني خالد عن سعيد، عن عبد الملك بن عبد الله، عن عيسى بن هلال الصدفي، عن عبد الله بن عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إن العبد يكتب مؤمنًا أحقابًا ثم أحقابا ثم يموت والله عليه ساخط. وإن العبد يكتب كافرًا أحقابًا ثم أحقابًا، ثم يموت والله عليه راض. ومن مات هَمَّازًا لمَّازًا مُلَقَّبا للناس، كان علامته يوم القيامة أن يسميه الله على الخرطوم، من كلا الشفتين » .

إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ( 17 ) وَلا يَسْتَثْنُونَ ( 18 ) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ ( 19 ) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ( 20 ) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ ( 21 ) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ ( 22 ) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ( 23 ) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ ( 24 ) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ ( 25 ) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ( 26 ) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ( 27 ) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ ( 28 ) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ( 29 ) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ ( 30 ) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ ( 31 ) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ ( 32 ) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ( 33 )

هذا مَثَل ضَرَبه الله تعالى لكفار قريش فيما أهدى إليهم من الرحمة العظيمة، وأعطاهم من النعم الجسيمة، وهو بَعْثُهُ محمدًا صلى الله عليه وسلم إليهم، فقابلوه بالتكذيب والرد والمحاربة؛ ولهذا قال: ( إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ ) أي:اختبرناهم، ( كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ) وهي البستان المشتمل على أنواع الثمار والفواكه ( إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ) أي:حلفوا فيما بينهم لَيجُذَّنَ ثَمرها ليلا لئلا يعلم بهم فقير ولا سائل، ليتوفر ثمرها عليهم ولا يتصدقوا منه بشيء، ( وَلا يَسْتَثْنُونَ ) أي:فيما حلفوا به. ولهذا حنثهم الله في أيمانهم، فقال: ( فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ ) أي:أصابتها آفة سماوية، ( فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ) قال ابن عباس:أي كالليل الأسود. وقال الثوري، والسدي:مثل الزرع إذا حُصِد، أي هشيمًا يبسًا.

وقال ابن أبي حاتم:ذكر عن أحمد بن الصباح:أنبأنا بشر بن زاذان، عن عمر بن صبح عن ليث بن أبي سليم، عن عبد الرحمن بن سابط، عن ابن مسعود قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إياكم والمعاصي، إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقًا قد كان هُيِّئ له » ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ) قد حرموا خَير جَنّتهم بذنبهم .

( فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ ) أي:لما كان وقت الصبح نادى بعضهم بعضًا ليذهبوا إلى الجَذَاذ،

( أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ ) أي:تريدون الصرام. قال مجاهد:كان حرثهم عِنَبًا.

( فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ) أي:يتناجون فيما بينهم بحيث لا يُسمعون أحدًا كلامهم. ثم فسر الله عالم السر والنجوى ما كانوا يتخافتون به، فقال: ( فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ ) أي:يقول بعضهم لبعض:لا تمكنوا اليوم فقيرًا يدخلها عليكم!

قال الله تعالى: ( وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ ) أي:قوة وشدة. وقال مجاهد: ( وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ ) أي:جد وقال عكرمة:غيظ. وقال الشعبي: ( عَلَى حَرْدٍ ) على المساكين. وقال السدي: ( عَلَى حَرْدٍ ) أي:كان اسم قريتهم حرد. فأبعد السدي في قوله هذا!

( قَادِرِينَ ) أي:عليها فيما يزعمون ويَرومون.

( فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ) أي:فلما وصلوا إليها وأشرفوا عليها، وهي على الحالة التي قال الله، عز وجل، قد استحالت عن تلك النضارة والزهرة وكثرة الثمار إلى أن صارت سوداء مُدْلَهِمَّة، لا ينتفع بشيء منها، فاعتقدوا أنهم قد أخطئوا الطريق؛ ولهذا قالوا: ( إِنَّا لَضَالُّونَ ) أي:قد سلكنا إليها غير الطريق فتُهنا عنها. قاله ابن عباس وغيره. ثم رجعوا عما كانوا فيه، وتيقنوا أنها هي فقالوا: ( بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ) أي:بل هذه هي، ولكن نحن لا حَظّ لنا ولا نصيب.

( قَالَ أَوْسَطُهُمْ ) قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومحمد بن كعب، والربيع بن أنس، والضحاك، وقتادة:أي:أعدلهم وخيرهم: ( أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ ) ! قال مجاهد، والسدي، وابن جريج: ( لَوْلا تُسَبِّحُونَ ) أي:لولا تستثنون. قال السدي:وكان استثناؤهم في ذلك الزمان تسبيحًا.

وقال ابن جريج:هو قول القائل:إن شاء الله. وقيل:معناه: ( قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ ) أي:هلا تسبحون الله وتشكرونه على ما أعطاكم وأنعم به عليكم، ( قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ) أتوا بالطاعة حيث لا تنفع، وندموا واعترفوا حيث لا ينجع؛ ولهذا قالوا: ( إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ ) أي:يلوم بعضهم بعضًا على ما كانوا أصروا عليه من منع المساكين من حق الجذاذ، فما كان جواب بعضهم لبعض إلا الاعتراف بالخطيئة والذنب، ( قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ ) أي:اعتدينا وبَغَينا وطغينا وجاوزنا الحد حتى أصابنا ما أصابنا، ( عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ ) قيل:رغبوا في بذلها لهم في الدنيا. وقيل:احتسبوا ثوابها في الدار الآخرة، والله أعلم.

ثم قد ذكر بعض السلف أن هؤلاء قد كانوا من أهل اليمن - قال سعيد بن جبير:كانوا من قرية يقال لها ضروان على ستة أميال من صنعاء. وقيل:كانوا من أهل الحبشة- وكان أبوهم قد خلف لهم هذه الجنة، وكانوا من أهل الكتاب، وقد كان أبوهم يسير فيها سيرة حسنة، فكان ما استغله منها يرد فيها ما يحتاج إليها ويدّخر لعياله قوت سنتهم، ويتصدق بالفاضل. فلما مات ورثه بنوه، قالوا:لقد كان أبونا أحمقَ إذ كان يصرف من هذه شيئًا للفقراء، ولو أنَّا منعناهم لتوفر ذلك علينا. فلما عزموا على ذلك عُوقِبوا بنقيض قصدهم، فأذهب الله ما بأيديهم بالكلية، رأس المال الربح والصدقة، فلم يبق لهم شيء.

قال الله تعالى: ( كَذَلِكَ الْعَذَابُ ) أي:هكذا عذاب من خالف أمر الله، وبخل بما آتاه الله وأنعم به عليه، ومنع حق المسكين والفقراء وذوي الحاجات، وبدل نعمة الله كفرا ( وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) أي:هذه عقوبة الدنيا كما سمعتم، وعذاب الآخرة أشق. وقد ورد في حديث رواه الحافظ البيهقي من طريق جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الجداد بالليل، والحصاد بالليل .

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( 34 ) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ( 35 ) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ( 36 ) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ( 37 ) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ ( 38 ) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ ( 39 ) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ ( 40 ) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ( 41 )

لما ذكر [ الله ] تعالى حال أهل الجنة الدنيوية، وما أصابهم فيها من النقمة حين عصوا الله، عز وجل، وخالفوا أمره، بين أن لمن اتقاه وأطاعه في الدار الآخرة جنات النعيم التي لا تَبيد ولا تفرغ ولا ينقضي نعيمها.

ثم قال: ( أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ) ؟ أي:أفنساوي بين هؤلاء وهؤلاء في الجزاء؟ كلا ورب الأرض والسماء؛ ولهذا قال ( مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) ! أي:كيف تظنون ذلك؟.

ثم قال: ( أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ ) يقول:أفبأيديكم كتاب منـزل من السماء تدرسونه وتحفظونه وتتداولونه بنقل الخلف عن السلف، مُتضمن حكما مؤكدًا كما تدعونه؟ ( إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ ) أي:أمعكم عهود منا ومواثيق مؤكدة، ( إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ ) أي:أنه سيحصل لكم ما تريدون وتشتهون، ( سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ ) ؟ أي:قل لهم:من هو المتضمن المتكفل بهذا؟

( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ ) أي:من الأصنام والأنداد، ( فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ )

يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ ( 42 )

لما ذكر تعالى أن للمتقين عنده جنات النعيم، بين متى ذلك كائن وواقع، فقال: ( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ ) يعني:يوم القيامة وما يكون فيه من الأهوال والزلازل والبلاء والامتحان والأمور العظام. وقد قال البخاري هاهنا:

حدثنا آدم، حدثنا الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يَسَار، عن أبي سعيد الخدري قال:سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « يَكشِفُ رَبّنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طَبَقًا واحدًا » .

وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وفي غيرهما من طرق وله ألفاظ، وهو حديث طويل مشهور.

وقد قال عبد الله بن المبارك، عن أسامة بن زيد، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس: ( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ) قال:هو يوم كَرْب وشدة. رواه ابن جرير ثم قال:

حدثنا ابن حميد، حدثنا مِهْران، عن سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم، عن ابن مسعود - أو:ابن عباس، الشك من ابن جرير- : ( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ) قال:عن أمر عظيم، كقول الشاعر:

وقامت الحرب بنا عن ساق

وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: ( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ) قال:شدة الأمر

وقال ابن عباس:هي أول ساعة تكون في يوم القيامة.

وقال ابن جُرَيح، عن مجاهد: ( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ) قال:شدة الأمر وجده.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: ( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ) هو الأمر الشديد المُفظِع من الهول يوم القيامة.

وقال العوفي، عن ابن عباس قوله: ( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ) يقول:حين يكشف الأمر وتبدو الأعمال. وكشفه دخول الآخرة، وكشف الأمر عنه. وكذا روى الضحاك وغيره عن ابن عباس. أورد ذلك كله أبو جعفر بن جرير ثم قال:

حدثني أبو زيد عمر بن شَبَّة، حدثنا هارون بن عمر المخزومي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا أبو سعيد روح بن جناح، عن مولى لعمر بن عبد العزيز، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ) قال: « عن نور عظيم، يخرون له سجدًا » .

ورواه أبو يعلى، عن القاسم بن يحيى، عن الوليد بن مسلم، به وفيه رجل مبهم والله أعلم.

 

خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ( 43 ) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ( 44 ) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ( 45 ) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ( 46 ) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ( 47 )

وقوله: ( خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ) أي:في الدار الآخرة بإجرامهم وتكبرهم في الدنيا، فعوقبوا بنقيض ما كانوا عليه. ولما دعوا إلى السجود في الدنيا فامتنعوا منه مع صحتهم وسلامتهم كذلك عوقبوا بعدم قدرتهم عليه في الآخرة، إذا تجلى الرب، عز وجل، فيسجد له المؤمنون، لا يستطيع أحد من الكافرين ولا المنافقين أن يسجُد، بل يعود ظهر أحدهم طبقًا واحدًا، كلما أراد أحدهم أن يسجد خَرّ لقفاه، عكس السجود، كما كانوا في الدنيا، بخلاف ما عليه المؤمنون.

ثم قال تعالى: ( فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ ) يعني:القرآن. وهذا تهديد شديد، أي:دعني وإياه مني ومنه، أنا أعلم به كيف أستدرجه، وأمده في غيه وأنظر ثم آخذه أخذ عزيز مقتدر؛ ولهذا قال: ( سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ) أي:وهم لا يشعرون، بل يعتقدون أن ذلك من الله كرامة، وهو في نفس الأمر إهانة، كما قال: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ [ المؤمنون:55، 56 ] ، وقال: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [ الأنعام:44 ] . ولهذا قال هاهنا: ( وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ) أي:وأؤخرهم وأنظرهم وأمدهم وذلك من كيدي ومكري بهم؛ ولهذا قال تعالى: ( إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ) أي:عظيم لمن خالف أمري، وكذب رسلي، واجترأ على معصيتي.

وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إن الله تعالى ليُمْلي للظالم، حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْه » . ثم قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [ هود:102 ] .

وقوله: ( أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ * أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ) تقدم تفسيرهما في سورة « الطور » والمعنى في ذلك:أنك يا محمد تدعوهم إلى الله، عز وجل، بلا أجر تأخذه منهم، بل ترجو ثواب ذلك عند الله، عز وجل، وهم يكذبون بما جئتهم به، بمجرد الجهل والكفر والعناد.

فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ( 48 ) لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ ( 49 ) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ( 50 ) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ( 51 ) وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ( 52 )

يقول تعالى: ( فَاصْبِرْ ) يا محمد على أذى قومك لك وتكذيبهم؛ فإن الله سيحكم لك عليهم، ويجعل العاقبة لك ولأتباعك في الدنيا والآخرة، ( وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ ) يعني:ذا النون، وهو يونس بن متى، عليه السلام، حين ذهب مُغَاضِبًا على قومه، فكان من أمره ما كان من ركوبه في البحر والتقام الحوت له، وشرود الحوت به في البحار وظلمات غمرات اليم، وسماعه تسبيح البحر بما فيه للعلي القدير، الذي لا يُرَدّ ما أنفذه من التقدير، فحينئذ نادى في الظلمات. أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [ الأنبياء:87 ] . قال الله فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [ الأنبياء:88 ] ، وقال تعالى: فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [ الصافات:143، 144 ] وقال هاهنا: ( إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ) قال ابن عباس، ومجاهد، والسدي:وهو مغموم. وقال عطاء الخراساني، وأبو مالك:مكروب. وقد قدمنا في الحديث أنه لما قال: لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ خرجت الكلمة تَحُفّ حول العرش، فقالت الملائكة:يا رب، هذا صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة. فقال الله:أما تعرفون هذا؟ قالوا:لا. قال:هذا يونس. قالوا:يا رب، عبدك الذي لا يزال يرفع له عمل صالح ودعوة مجابة؟ قال:نعم. قالوا:أفلا ترحم ما كان يعمله في الرخاء فتنجيه من البلاء؟ فأمر الله الحوت فألقاه بالعراء؛ ولهذا قال تعالى: ( فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ )

وقد قال الإمام أحمد:حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا ينبغي لأحد أن يقول:أنا خير من يونس بن متى » .

ورواه البخاري من حديث سفيان الثوري وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة .

وقوله: ( وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ ) قال ابن عباس، ومجاهد، وغيرهما: ( لَيُزْلِقُونَكَ ) لينفذونك بأبصارهم، أي:ليعينونك بأبصارهم، بمعنى:يحسدونك لبغضهم إياك لولا وقاية الله لك، وحمايته إياك منهم. وفي هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق، بأمر الله، عز وجل، كما وردت بذلك الأحاديث المروية من طرق متعددة كثيرة .

حديث أنس بن مالك، رضي الله عنه:قال أبو داود:حدثنا سليمان بن داود العَتَكي، حدثنا شريك ( ح ) ، وحدثنا العباس العَنْبَريّ، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا شريك، عن العباس بن ذَرِيح، عن الشعبي - قال العباس:عن أنس- قال:قال النبي صلى الله عليه وسلم: « لا رقية إلا من عين أو حُمة أو دم لا يرقأ » . لم يذكر العباس العين. وهذا لفظ سليمان .

حديث بُرَيدة بن الحُصَيب، رضي الله عنه:قال أبو عبد الله ابن ماجة:حدثنا محمد بن عبد الله بن نُمَير، حدثنا إسحاق بن سليمان، عن أبي جعفر الرازي، عن حُصَين، عن الشعبي، عن بُرَيدة بن الحصيب قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا رقية إلا من عين أو حُمة » .

هكذا رواه ابن ماجة وقد أخرجه مسلم في صحيحه، عن سعيد بن منصور، عن هشيم، عن حُصَين بن عبد الرحمن، عن عامر الشعبي، عن بريدة موقوفًا، وفيه قصة وقد رواه شعبة، عن حصين، عن الشعبي، عن بريدة. قاله الترمذي وروى هذا الحديث الإمام البخاري من حديث محمد بن فضيل، وأبو داود من حديث مالك بن مِغْول، والترمذي من حديث سفيان بن عيينة، ثلاثتهم عن حصين، عن عامر عن الشعبي، عن عمران بن حُصَين موقوفًا .

حديث أبي جندب بن جنادة:قال الحافظ أبو يعلى الموصلي، رحمه الله:حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة بن البِرِند السامي، حدثنا ديلم بن غَزوان، حدثنا وهْب بن أبي دبي، عن أبي حرب عن أبي ذر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن العين لتولع الرجلَ بإذن الله، فيتصاعد حالقا، ثم يتردى منه » إسناده غريب، ولم يخرجوه .

حديث حابس التميمي:قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الصمد، حدثنا حرب، حدثنا يحيى بن أبي كثير، حدثني حَيَّة بن حابس التميمي:أن أباه أخبره:أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « لا شيء في الهام، والعين حق، وأصدق الطيَرَة الفَألُ » .

وقد رواه الترمذي عن عمرو بن علي، عن أبي غسان يحيى بن كثير، عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، به ثم قال:غريب. قال:وروى شيبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن حَيَّة بن حابس، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قلت:كذلك رواه الإمام أحمد، عن حسن بن موسى وحُسَين بن محمد، عن شيبان، يحيى بن أبي كثير، عن حَيَّة، حدثه عن أبيه، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا بأس في الهام، والعين حق، وأصدق الطيرة الفأل » .

حديث ابن عباس:قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الله بن الوليد، عن سفيان، عن دُوَيد، حدثني إسماعيل بن ثوبان، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « العين حق، العين حق، تستنـزل الحالق » غريب.

طريق أخرى:قال مسلم في صحيحه:حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، أخبرنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا وُهَيب، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « العين حق، ولو كان شيء سَابَقَ القَدَرَ سَبَقَت العين، وإذا اغْتُسلتم فاغسلوا » . انفرد به دون البخاري .

وقال عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن منصور، عن المِنْهال بن عمرو، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعَوِّذ الحسن والحسين، يقول: « أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهَامَّة، ومن كل عين لامَّة » ، ويقول هكذا كان إبراهيم يُعَوِّذ إسحاق وإسماعيل، عليهما السلام « . »

أخرجه البخاري وأهل السنن من حديث المنهال، به

حديث أبي أمامة أسعد بن سهل بن حنيف، رضي الله عنه: « قال ابن ماجة:حدثنا هشام بن عمار، حدثنا سفيان، عن الزهري، عن أبي أمامة ابن سهل بن حُنَيف قال:مر عامر بن ربيعة بسهل بن حُنَيف، وهو يغتسل، فقال:لم أر كاليوم ولا جلدَ مخبأة. فما لبث أن لُبِطَ به، فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له:أدرك سهلا صريعًا. قال: » من تتهمون به؟ « . قالوا:عامر بن ربيعة. قال: » علام يقتل أحدكم أخاه؟ إذا رأى أحدكم من أخيه ما يُعجبه فَلْيَدعُ له بالبركة « . ثُم دعا بماء فأمر عامرًا أن يتوضأ فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، وركبتيه، ودَاخِلة إزاره، وأمره أن يصب عليه. »

قال سفيان:قال مَعْمَر، عن الزهري:وأمر أن يكفَأ الإناء من خلفه .

وقد رواه النسائي، من حديث سفيان بن عيينة ومالك بن أنس، كلاهما عن الزهري، به. ومن حديث سفيان بن عيينة أيضًا عن معمر، عن الزهري، عن أبي أمامة:ويكفَأ الإناء من خلفه. ومن حديث ابن أبي ذئب عن الزهري، عن أبي أمامة أسعد بن سهل بن حُنَيف، عن أبيه، به. ومن حديث مالك أيضًا، عن محمد بن أبي أمامة بن سهل، عن أبيه، به .

حديث أبي سعيد الخدري:قال ابن ماجة:حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عباد، عن الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من أعين الجان وأعين الإنس. فلما نـزل المعوذتان أخذ بهما وترك ما سوى ذلك.

ورواه الترمذي والنسائي من حديث سعيد بن إياس أبي مسعود الجُرَيري، به وقال الترمذي:حسن.

حديث آخر عنه:قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثني أبي، حدثني عبد العزيز بن صُهيب، حدثني أبو نضرة، عن أبي سعيد:أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:اشتكيت يا محمد؟ قال: « نعم » . قال باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس و عين يشفيك، باسم الله أرقيك .

ورواه عن عفان، عن عبد الوارث، مثله. ورواه مسلم وأهل السنن - إلا أبا داود- من حديث عبد الوارث، به .

وقال الإمام أحمد أيضًا:حدثنا عفان، حدثنا وهيب، حدثنا داود، عن أبي نَضرة، عن أبي سعيد - أو:جابر بن عبد الله؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتكى، فأتاه جبريل فقال:باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من كل حاسد وعين والله يُشفيك .

ورواه أيضًا، عن محمد بن عبد الرحمن الطفاوي، عن داود، عن أبي نَضرة، عن أبي سعيد به .

قال أبو زُرْعَة الرازي:روى عبد الصمد بن عبد الوارث، عن أبيه، عن عبد العزيز، عن أبي نضرة، وعن عبد العزيز، عن أنس، في معناه، وكلاهما صحيح.

حديث أبي هُرَيرة:قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا مَعْمَر، عن هَمَّام بن مُنَبِّه قال:هذا ما حدثنا أبو هُرَيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن العين حق » .

أخرجاه من حديث عبد الرزاق .

وقال ابن ماجة:حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا إسماعيل بن عُلَيَّة، عن الجُرَيري، عن مُضَارب بن حَزن، عن أبي هُرَيرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « العين حق » .تفرد به.

ورواه أحمد، عن إسماعيل بن عُلَيَّة، عن سعيد الجريري، به .

وقال الإمام أحمد حدثنا ابن نمير، حدثنا ثور - يعني ابن يزيد- عن مكحول، عن أبي هُرَيرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « العين حق، ويحضُرها الشيطانُ، وحسد ابن آدم »

وقال أحمد:حدثنا خلف بن الوليد، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن قيس:سُئل أبو هُرَيرة:هل سمعت رسول الله يقول:الطيرة في ثلاث:في المسكن والفرس والمرأة؟ قال:قلت:إذًا أقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل! ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « أصدق الطيرة الفألُ، والعين حق » .

حديث أسماء بنت عُمَيس:قال الإمام أحمد:حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عُروةَ بن عامر، عن عُبَيد بن رفاعة الزُرقي قال:قالت أسماء:يا رسول الله، إن بني جعفر تصيبهم العين، أفأسترقي لهم؟ قال: « نعم، فلو كان شيء يسبق القدرَ لسبقته العين » .

وكذا رواه الترمذي وابن ماجة من حديث سفيان بن عيينة، به ورواه الترمذي أيضًا والنسائي، من حديث عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن أيوب، عن عمرو بن دينار، عن عُرْوَة بن عامر، عن عُبَيد بن رفاعة، عن أسماء بنت عميس، به وقال الترمذي:حسن صحيح.

حديث عائشة، رضي الله عنها:قال ابن ماجة:حدثنا علي بن أبي الخَصِيب، حدثنا وَكِيع، عن سفيان، ومِسْعَر، عن معبد بن خالد، عن عبد الله بن شَدَّاد، عن عائشة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تسترقي من العين .

ورواه البخاري عن محمد بن كثير، عن سفيان، عن معبد بن خالد، به. وأخرجه مسلم من حديث سُفيانَ ومِسْعَر، كلاهما عن معبد، به ثم قال ابن ماجة:

حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو هشام المخزومي، حدثنا وُهَيب، عن أبي واقد، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة قالت:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « استعيذوا بالله فإن النفس حق » . تفرد به

وقال أبو داود:حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت:كان يؤمر العائن فيتوضأ ويغسل منه المَعين .

حديث سهل بن حُنَيف:قال الإمام أحمد:حدثنا حُسَين بن محمد، حدثنا أبو أويس حدثنا الزهري، عن أبي أمامة بن سَهل بن حُنَيف:أن أباه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وساروا معه نحو مكة، حتى إذا كانوا بشعب الخَرَار - من الجحفة- اغتسل سهلُ بن حُنَيف - وكان رجلا أبيض حَسن الجسم والجلد- فنظر إليه عامر بن ربيعة، أخو بني عدي بن كعب، وهو يغتسل، فقال:ما رأيت كاليوم ولا جلد مُخَبَّأة. فلُبِطَ سهل، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له:يا رسول الله، هل لك في سهل. والله ما يرفع رأسه ولا يُفيق. قال: « هل تتهمون فيه من أحد؟ » . قالوا:نظر إليه عامر بن ربيعة. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عامرا، فتغيظ عليه، وقال: « علام يقتل أحدكم أخاه، هلا إذا رأيت ما يعجبك بَركت؟ » . ثم قال له: « اغتسل له » - فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه ودَاخلَة إزاره في قَدح- ثم صُب ذلك الماء عليه. يَصُبَه رجل على رأسه وظهره من خلفه، ثم يكفأ . القدح وراءه. ففعل ذلك، فراح سهل مع الناس، ليس به بأس .

حديث عامر بن ربيعة: « قال الإمام أحمد في مسند عامر:حدثنا وَكِيع، حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن عيسى، عن أمَيّة بن هند بن سهل بن حُنَيْف، عن عبد الله بن عامر قال:انطلق عامر بن ربيعة وسهل بن حنيف يريدان الغسل، قال:فانطلقا يلتمسان الخمرَ - قال:فوضع عامر جُبَّة كانت عليه من صوف، فنظرت إليه فأصبته بعيني فنـزل الماء يغتسل. قال:فسمعت له في الماء فرقعة، فأتيته فناديته ثلاثا فلم يجبني. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته. قال:فجاء يمشي فخاض الماء كأني أنظر إلى بياض ساقيه، قال:فضرب صدره بيده ثم قال: » اللهم اصرف عنه حرها وبردها ووصبها « . قال:فقام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: » إذا رأى أحدكم من أخيه، أو من نفسه أو من ماله، ما يعجبه، فَليُبَرِّك، فإن العين حق « . »

حديث جابر:قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده:حدثنا محمد بن مَعْمَر، حدثنا أبو داود، حدثنا طالب بن حبيب بن عمرو بن سهل الأنصاري - ويقال له:ابن الضَجِيع، ضجيع حمزة، رضي الله عنه- حدثني عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله، عن أبيه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أكثر من يموت من أمتي بعد كتاب الله وقضائه وقدره بالأنفس » .

قال البزار:يعني العين. قال ولا نعلم يروى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد.

قلت:بل قد روي من وجه آخر عن جابر؛ قال الحافظ أبو عبد الرحمن محمد بن المنذر الهروي - المعروف بشَكَّر- في كتاب العجائب، وهو مشتمل على فوائد جليلة وغريبة:حدثنا الرهاوي، حدثنا يعقوب بن محمد، حدثنا علي بن أبي علي الهاشمي، حدثنا محمد بن المُنكَدر، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « العين حق، لتُورِد الرجل القبر، والجمل القِدر، وإن أكثر هلاك أمتي في العين » .

ثم رواه عن شعيب بن أيوب، عن معاوية بن هشام، عن سفيان، عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « قد تُدخل الرجلَ العينُ في القبر، وتدخل الجمل القدر » .

حديث عبد الله بن عمرو: « قال الإمام أحمد:حدثنا قتيبة، حدثنا رشدين بن سعد، عن الحسن بن ثوبان، عن هشام بن أبي رُقية، عن عبد الله بن عمرو قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: » لا عدوى ولا طيرةَ، ولا هَامة ولا حَسَد، والعين حق « . تفرد به أحمد . »

حديث عن علي:روى الحافظ ابن عساكر من طريق خَيْثمة بن سليمان الحافظ:حدثنا عبيد بن محمد الكَشَوري، حدثنا عبد الله بن عبد الله بن عبد ربه البصري، عن أبي رجاء، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي؛ أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فوافقه مغتما، فقال:يا محمد، ما هذا الغم الذي أراه في وجهك؟ قال: « الحسن والحسين أصابتهما عين » . قال:صَدَق بالعين، فإن العين حق، أفلا عوذتهما بهؤلاء الكلمات؟ قال: « وما هن يا جبريل؟ » . قال:قل:اللهم ذا السلطان العظيم، ذا المن القديم، ذا الوجه الكريم، ولي الكلمات التامات، والدعوات المستجابات، عاف الحسن والحسين من أنفس الجن، وأعين الإنس. فقالها النبي صلى الله عليه وسلم فقاما يلعبان بين يديه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « عَوِّذوا أنفسكم ونساءكم وأولادكم بهذا التعويذ، فإنه لم يتعوذ المتعوذون بمثله » .

قال الخطيب البغدادي:تفرد بروايته أبو رجاء محمد بن عبيد الله الحَيَطي من أهل تُسْتَر. ذكره ابن عساكر في ترجمة « طراد بن الحسين » ، من تاريخه .

وقوله: ( وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ) أي:يزدرونه بأعينهم ويؤذونه بألسنتهم، ويقولون: ( إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ) أي:لمجيئه بالقرآن، قال الله تعالى ( وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ )

 

تفسير سورة الحاقة

 

وهي مكية.

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَاقَّةُ ( 1 ) مَا الْحَاقَّةُ ( 2 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ ( 3 ) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ ( 4 ) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ( 5 ) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ( 6 ) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ( 7 ) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ( 8 )

الحاقةُ من أسماء يوم القيامة؛ لأن فيها يَتَحقَّقُ الوَعدُ والوَعيد؛ ولهذا عَظَّم تعالى أمرَها فقال: ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ ) ؟

ثم ذكر تعالى إهلاكه الأمم المكذبين بها فقال تعالى: ( فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ) وهي الصيحة التي أسكتتهم، والزلزلة التي أسكنتهم. هكذا قال قتادة:الطاغية الصيحة. وهو اختيار ابن جرير .

وقال مجاهد:الطاغية الذنوب. وكذا قال الربيع بن أنس، وابن زيد:إنها الطغيان، وقرأ ابن زيد: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا [ الشمس:11 ] .

وقال السُّدِّي: ( فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ) قال:يعني:عاقر الناقة.

( وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ ) أي:باردة. قال قتادة، والربيع، والسدي، والثوري: ( عاتية ) أي:شديدة الهبوب. قال قتادة:عتت عليهم حتى نَقَّبت عن أفئدتهم.

وقال الضحاك: ( صرصر ) باردة ( عاتية ) عتت عليهم بغير رحمة ولا بركة. وقال علي وغيره:عتت على الخزنة فخرجت بغير حساب.

( سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ ) أي:سلطها عليهم ( سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا ) أي:كوامل متتابعات مشائيم.

قال ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والثوري، وغير واحد ( حسوما ) متتابعات.

وعن عكرمة والربيع:مشائيم عليهم، كقوله: فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ [ فصلت:16 ] قال الربيع:وكان أولها الجمعة. وقال غيره الأربعاء. ويقال:إنها التي تسميها الناس الأعجاز؛ وكأن الناس أخذوا ذلك من قوله تعالى: ( فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ) وقيل:لأنها تكون في عجز الشتاء، ويقال:أيام العجوز؛ لأن عجوزًا من قوم عاد دخلت سَرَبا فقتلها الريح في اليوم الثامن. حكاه البغوي والله أعلم.

قال ابن عباس: ( خاوية ) خربة. وقال غيره:بالية، أي:جعلت الريح تضرب بأحدهم الأرض فيخر ميتًا على أم رأسه، فينشدخ رأسه وتبقى جثته هامدة كأنها قائمة النخلة إذا خرت بلا أغصان.

وقد ثبت في الصحيحين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « نُصِرْتُ بالصَّبا، وأهلكَت عادٌ بالدَّبور » .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا محمد بن يحيى بن الضِّريس العبدي، حدثنا ابن فُضَيل، عن مسلم، عن مجاهد، عن ابن عمر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما فتح الله على عاد من الريح التي أهلكوا فيها إلا مثل موضع الخاتم، فَمرّت بأهل البادية فحملتهم ومواشيهم وأموالهم، فجعلتهم بين السماء والأرض. فلما رأى ذلك أهل الحاضرة الريح وما فيها قالوا:هذا عارض ممطرنا. فألقت أهل البادية ومواشيهم على أهل الحاضرة » .

وقال الثوري عن ليث، عن مجاهد:الريح لها جناحان وذنب.

( فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ) ؟ أي:هل تحس منهم من أحد من بقاياهم أنه ممن ينتسب إليهم؟ بل بادوا عن آخرهم ولم يجعل الله لهم خَلفَا.

 

وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ ( 9 ) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً ( 10 ) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ( 11 ) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ( 12 )

ثم قال تعالى: ( وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ ) قُرئ بكسر القاف، أي:ومن عنده في زمانه من أتباعه من كفار القبط. وقرأ آخرون بفتحها، أي:ومن قبله من الأمم المشبهين له.

وقوله: ( والمؤتفكات ) وهم المكذبون بالرسل. ( بالخاطئة ) أي بالفعلة الخاطئة، وهي التكذيب بما أنـزل الله.

قال الربيع: ( بالخاطئة ) أي:بالمعصية وقال مجاهد:بالخطايا.

ولهذا قال:تعالى ( فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ ) وهذا جنس، أي:كُلّ كذّبَ رسول الله إليهم. كما قال: كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ [ ق:14 ] . ومن كذب رسول الله فقد كذب بالجميع، كما قال: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [ الشعراء:105 ] ، كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ [ الشعراء:123 ] . كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ [ الشعراء:141 ] وإنما جاء إلى كل أمة رسول واحد؛ ولهذا قال هاهنا: ( فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً ) أي:عظيمة شديدة أليمة.

قال مجاهد: ( رابية ) شديدة. وقال السدي:مهلكة.

ثم قال الله تعالى: ( إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ ) أي:زاد على الحد بإذن الله وارتفع على الوجود. وقال ابن عباس وغيره: ( طَغَى الْمَاءُ ) كثر - وذلك بسبب دعوة نوح، عليه السلام، على قومه حين كذبوه وخالفوه، فعبدوا غير الله فاستجاب الله له وعَمّ أهل الأرض بالطوفان إلا من كان مع نوح في السفينة، فالناس كلهم من سلالة نوح وذريته.

وقال ابن جرير:حدثنا ابن حميد، حدثنا مِهْرَان، عن أبي سنان سعيد بن سنان، عن غير واحد، عن علي بن أبي طالب قال:لم تنـزل قطرة من ماء إلا بكيل على يدي ملك، فلما كان يوم نوح أذن للماء دون الخزان، فطغى الماء على الخزان فخرج، فذلك قول الله: ( إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ) ولم ينـزل شيء من الريح إلا بكيل على يدي ملك، إلا يوم عاد، فإنه أذن لها دون الخزان فخرجت، فذلك قوله: ( بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ) عتت على الخزان .

ولهذا قال تعالى ممتنًا على الناس: ( إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ) وهي السفينة الجارية على وجه الماء، ( لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً ) عاد الضمير على الجنس لدلالة المعنى عليه، أي:وأبقينا لكم من جنسها ما تركبون على تيار الماء في البحار، كما قال: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ [ الزخرف:12 ، 13 ] ، وقال تعالى: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ [ يس:41، 42 ] .

وقال قتادة:أبقى الله السفينة حتى أدركها أوائل هذه الأمة. والأول أظهر؛ ولهذا قال: ( وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ) أي:وتفهم هذه النعمة، وتذكرها أذن واعية.

قال ابن عباس:حافظة سامعة وقال قتادة: ( أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ) عقلت عن الله فانتفعت بما سمعت من كتاب الله، وقال الضحاك: ( وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ) سمعتها أذن ووعت. أي:من له سمع صحيح وعقل رجيح. وهذا عام فيمن فهم، ووعى.

وقد قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو زُرْعة الدمشقي، حدثنا العباس بن الوليد بن صبح الدمشقي، حدثنا زيد بن يحيى، حدثنا علي بن حوشب، سمعت مكحولا يقول:لما نـزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « سألت ربي أن يجعلها أذُنَ عَلِيّ » . [ قال مكحول ] فكان عَلِيّ يقول:ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط فنسيته.

وهكذا رواه ابن جرير، عن علي بن سهل، عن الوليد بن مسلم، عن علي بن حوشب، عن مكحول به. وهو حديث مرسل.

وقد قال ابن أبي حاتم أيضا:حدثنا جعفر بن محمد بن عامر، حدثنا بشر بن آدم، حدثنا عبد الله بن الزبير أبو محمد - يعني والد أبي أحمد الزبيري- حدثني صالح بن الهيثم، سمعت بريدة الأسلمي يقول:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: « إني أمرت أن أدنيك ولا أقصيك، وأن أعلمك وأن تعي، وحُقّ لك أن تعي » . قال:فنـزلت هذه الآية ( وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ )

ورواه ابن جرير عن محمد بن خلف، عن بشر بن آدم، به ثم رواه ابن جرير من طريق آخر عن داود الأعمى، عن بُرَيدة، به. ولا يصح أيضا.

فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ ( 13 ) وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ( 14 ) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ( 15 ) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ( 16 ) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ( 17 ) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ( 18 )

يقول تعالى مخبرا عن أهوال يوم القيامة، وأول ذلك نفخة الفزع، ثم يعقبها نفخة الصعق حين يُصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم بعدها نفخة القيام لرب العالمين والبعث والنشور، وهي هذه النفخة. وقد أكدها هاهنا بأنها واحدة لأن أمر الله لا يخالف ولا يمانع، ولا يحتاج إلى تكرار وتأكيد.

وقال الربيع:هي النفخة الأخيرة. والظاهر ما قلناه؛ ولهذا قال هاهنا: ( وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ) أي:فمدت مَدّ الأديم العُكَاظي، وتَبَدّلت الأرض غير الأرض، ( فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ) أي:قامت القيامة . ( وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ) قال سِماك، عن شيخ من بني أسد، عن علي قال:تنشق السماء من المجرة. رواه ابن أبي حاتم.

وقال ابن جريج:هي كقوله: وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا [ النبأ:19 ] .

وقال ابن عباس:منخرقة، والعرش بحذائها.

( وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا ) الملك:اسم جنس، أي:الملائكة على أرجاء السماء.

قال ابن عباس:على ما لم يَهِ منها، أي:حافتها. وكذا قال سعيد بن جبير، والأوزاعي. وقال الضحاك:أطرافها. وقال الحسن البصري:أبوابها. وقال الربيع بن أنس في قوله: ( وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا ) يقول:على ما استدق من السماء، ينظرون إلى أهل الأرض.

وقوله: ( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ) أي:يوم القيامة يحمل العرش ثمانية من الملائكة. ويحتمل أن يكون المراد بهذا العرش العرش العظيم، أو:العرش الذي يوضع في الأرض يوم القيامة لفصل القضاء، والله أعلم بالصواب. وفي حديث عبد الله بن عَميرة، عن الأحنف بن قيس، عن العباس بن عبد المطلب، في ذكر حَمَلة العرش أنهم ثمانية أوعال .

وقال ابن أبى حاتم:حدثنا أبو سعيد يحيى بن سعيد حدثنا زيد بن الحباب، حدثني أبو السمح البصري، حدثنا أبو قَبيل حُيَي بن هانئ:أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول:حملة العرش ثمانية، ما بين مُوق أحدهم إلى مؤخر عينه مسيرة مائة عام.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي قال:كتب إليّ أحمد بن حفص بن عبد الله النيسابوري:حدثني أبي، حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن موسى بن عقبة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أذنَ لي أن أحدثكم عن ملك من حَمَلة العرش:بُعْدُ ما بين شحمة أذنه وعنقه بخفق الطير سبعمائة عام » .

وهذا إسناد جيد، رجاله ثقات. وقد رواه أبو داود في كتاب « السنة » من سننه:حدثنا أحمد بن حفص بن عبد الله، حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن موسى بن عقبة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش:أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام » . هذا لفظ أبي داود .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا يحيى بن المغيرة، حدثنا جرير، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جبير في قوله: ( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ) قال:ثمانية صفوف من الملائكة. قال:ورُوي عن الشعبي [ وعكرمة ] والضحاك. وابن جُرَيْج، مثل ذلك. وكذا روى السُّدِّي عن أبي مالك، عن ابن عباس:ثمانية صفوف. وكذا روى العوفي، عنه.

وقال الضحاك، عن ابن عباس:الكَرُوبيّون ثمانية أجزاء، كل جنس منهم بقدر الإنس والجن والشياطين والملائكة.

وقوله: أي تعرضون على عالم السر والنجوى الذي لا يخفى عليه شيء من أموركم، بل هو عالم بالظواهر والسرائر والضمائر؛ ولهذا قال: ( لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ )

وقد قال ابن أبي الدنيا:أخبرنا إسحاق بن إسماعيل، أخبرنا سفيان بن عيينة، عن جعفر بن بُرْقان، عن ثابت بن الحجاج قال:قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه:حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن تُوزَنوا، فإنه أخف عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وَتَزَيَّنُوا للعرض الأكبر: ( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ) .

وقال الإمام أحمد:حدثنا وَكِيع، حدثنا علي بن علي بن رفاعة، عن الحسن، عن أبي موسى قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فأما عرضتان فجدالٌ ومعاذيرُ، وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي، فآخذ بيمينه وآخذ بشماله » .

ورواه ابن ماجة، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وَكِيع، به وقد رواه الترمذي عن أبي كُرَيْب عن وكيع عن علي بن علي، عن الحسن، عن أبي هريرة، به .

وقد روى ابنُ جرير عن مجاهد بن موسى، عن يزيد، بن سليم بن حيان، عن مروان الأصغر، عن أبي وائل، عن عبد الله قال:يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات:عرضتان، معاذير وخصومات، والعرضة الثالثة تطير الصحف في الأيدي. ورواه سعيد بن أبي عَروبة، عن قتادة مرسلا مثله .

فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ ( 19 ) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ ( 20 ) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ( 21 ) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ( 22 ) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ( 23 ) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ( 24 )

يخبر تعالى عن سعادة من أوتى كتابه يوم القيامة بيمينه، وفرحه بذلك، وأنه من شدة فرحه يقول لكل من لقيه: ( هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ ) أي:خذوا اقرؤوا كتابيه؛ لأنه يعلم أن الذي فيه خير وحسنات محضة؛ لأنه ممن بَدل الله سيئاته حسنات.

قال عبد الرحمن بن زيد:معنى: ( هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ ) أي:ها اقرؤوا كتابيه، و « ؤم » زائدة. كذا قال، والظاهر أنها بمعنى:هاكم.

وقد قال ابن أبى حاتم حدثنا:بشر بن مطر الواسطي، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا عاصم الأحول، عن أبي عثمان قال:المؤمن يعطى كتابه [ بيمينه ] في ستر من الله، فيقرأ سيئاته، فكلما قرأ سيئةً تغير لونه حتى يمر بحسناته فيقرؤها، فيرجع إليه لونه. ثم ينظر فإذا سيئاته قد بدلت حسنات، قال:فعند ذلك يقول: ( هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ )

وحدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن الوليد بن سلمة، حدثنا روح بن عبادة، حدثنا موسى بن عبيدة أخبرني عبد الله بن عبد الله بن حنظلة - غسيل الملائكة- قال:إن الله يَقِفُ عبده يوم القيامة فيبدي سيئاته في ظهر صحيفته، فيقول له:أنت عملت هذا؟ فيقول:نعم أي رب. فيقول له إني لم أفضحك به، وإني قد غفرت لك. فيقول عند ذلك: ( هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ ) حين نجا من فَضْحه يوم القيامة.

وقد تقدم في الصحيح حديثُ ابن عمر حين سئل عن النجوى، فقال:سمعت النبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: « يُدْنِي اللهُ العبدَ يوم القيامة، فيُقَرِّره بذنوبه كلها، حتى إذا رأى أنه قد هلك قال الله:إني سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم. ثم يُعطَى كتابَ حسناته بيمينه، وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد: هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [ هود:18 ] . »

وقوله: ( إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ ) أي:قد كنت موقنا في الدنيا أن هذا اليوم كائن لا محالة، كما قال: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ [ البقرة:46 ] .

قال الله: ( فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ) أي:مرضية، ( فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ) أي:رفيعة قصورها، حسان حورها، نعيمة دورها، دائم حبورها.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أبو عُتْبَةَ الحسن بن علي بن مسلم السَّكُوني، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن سعيد بن يوسف، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلام الأسود قال:سمعتُ أبا أمامة قال:سأل رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم:هل يتزاور أهل الجنة؟ قال: « نعم، إنه ليهبط أهل الدرجة العليا إلى أهل الدرجة السفلى، فيحيونهم ويسلمون عليهم، ولا يستطيع أهل الدرجة السفلى يصعدون إلى الأعلين، تقصر بهم أعمالهم »

وقد ثبت في الصحيح: « إن الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض » .

وقوله: ( قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ) قال البراء بن عازب:أي قريبة، يتناولها أحدهم، وهو نائم على سريره. وكذا قال غير واحد.

قال الطبراني: [ حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري ] عن عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن عطاء بن يسار، عن سلمان الفارسي قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يدخل أحد الجنة إلا بجواز: ( بسم الله الرحمن الرحيم ) هذا كتاب من الله لفلان بن فلان، أدخلوه جنة عالية، قطوفها دانية » .

وكذا رواه الضياء في صفة الجنة من طريق سعدان بن سعيد، بن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:يعطى المؤمن جَوَازا على الصراط: ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ، هذا كتاب من الله العزيز الحكيم لفلان، أدخلوه جنة عالية، قطوفها دانية « . »

وقوله: ( كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ ) أي:يقال لهم ذلك؛ تفضلا عليهم، وامتنانا وإنعاما وإحسانا. وإلا فقد ثبت في الصحيح، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « اعملوا وَسَدِّدوا وقَاربُوا واعلموا أن أحدا منكم لن يدخلَه عملُه الجنةَ » . قالوا:ولا أنت يا رسول الله؟ قال: « ولا أنا، إلا أن يَتَغَمَّدني الله برحمة منه وفضل » .

وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ( 25 ) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ( 26 ) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ( 27 ) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ ( 28 ) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ( 29 ) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ( 30 ) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ( 31 ) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ ( 32 ) إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ( 33 ) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ( 34 )

وهذا إخبار عن حال الأشقياء إذا أعطي أحدهم كتابه في العَرَصات بشماله، فحينئذ يندم غاية الندم، فيقول: ( فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ )

قال الضحاك:يعني موتة لا حياة بعدها. وكذا قال محمد بن كعب، والربيع، والسدي.

وقال قتادة:تمنى الموت، ولم يكن شيء في الدنيا أكره إليه منه.

( مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ) أي:لم يدفع عني مالي ولا جاهي عذابَ الله وبَأسه، بل خَلَص الأمر إليَّ وحدي، فلا معين لي ولا مجير. فعندها يقول الله، عز وجل: ( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ) أي:يأمر الزبانية أن تأخذه عنْفًا من المحشر، فَتَغُله، أي:تضع الأغلال في عنقه، ثم تُورده إلى جهنم فتصليه إياها، أي:تغمره فيها.

قال ابن أبي حاتم حدثنا:أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد، عن عمرو بن قيس، عن المِنْهَال بن عمرو قال:إذا قال الله، عز وجل ( خذوه ) ابتدره سبعون ألف ملك، إن الملك منهم ليقول هكذا، فيلقي سبعين ألفا في النار.

وروى ابن أبي الدنيا في « الأهوال » :أنه يبتدره أربعمائة ألف، ولا يبقى شيء إلا دَقَه، فيقول:ما لي ولك؟ فيقول:إن الرب عليك غضبان، فكل شيء غضبان عليك.

وقال الفضيل - هو ابن عياض- :إذا قال الرب، عز وجل: ( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ) ابتدره سبعون ألفا ملك، أيهم يجعل الغل في عنقه.

( ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ) أي:اغمروه فيها.

وقوله: ( ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ ) قال كعب الأحبار:كل حلقة منها قدر حديد الدنيا.

وقال العَوفي عن ابن عباس، وابن جرير:بذراع الملك. وقال ابن جريج، قال ابن عباس: ( فاسلكوه ) تدخل في استه ثم تخرج من فيه، ثم ينظمون فيها كما ينظم الجراد في العود حين يشوى.

وقال العوفي، عن ابن عباس:يسلك في دبره حتى يخرج من منخريه، حتى لا يقوم على رجليه.

وقال الإمام أحمد:حدثنا علي بن إسحاق، أخبرنا عبد الله، أخبرنا سعيد بن يزيد، عن أبي السمح، عن عيسى بن هلال الصَّدَفي، عن عبد الله بن عمرو قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لو أن رَصَاصة مثل هذه - وأشار إلى [ مثل ] جُمْجُمة- أرسلت من السماء إلى الأرض، وهي مسيرة خمسمائة سنة، لبلغت الأرض قبل الليل، ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة، لسارت أربعين خريفًا الليلَ والنهارَ، قبل أن تبلغ قعرها أو أصلها » .

وأخرجه الترمذي، عن سُوَيْد بن نصر عن عبد الله بن المبارك، به قال:هذا حديث حسن.

وقوله: ( إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ) أي:لا يقوم بحق الله عليه من طاعته وعبادته، ولا ينفع خلقه ويؤدي حقهم؛ فإن لله على العباد أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئا، وللعباد بعضهم على بعض حقّ الإحسان والمعاونة على البر والتقوى؛ ولهذا أمر الله بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وقبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: « الصلاة، وما ملكت أيمانكم » .

 

فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ ( 35 ) وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ ( 36 ) لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُونَ ( 37 )

وقوله: ( فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُونَ ) أي:ليس له اليوم من ينقذه من عذاب الله، لا حميم - وهو القريب- ولا شفيع يطاع، ولا طعام له هاهنا إلا من غسلين.

قال قتادة:هو شر طعام أهل النار. وقال الربيع، والضحاك:هو شجرة في جهنم.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا منصور بن مزاحم، حدثنا أبو سعيد المؤدب، عن خُصَيف، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:ما أدري ما الغسلين، ولكني أظنه الزقوم.

وقال شَبِيب بن بشر، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:الغسلين:الدم والماء يسيل من لحومهم. وقال علي بن أبي طلحة عنه:الغسلين:صديد أهل النار.

فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ( 38 ) وَمَا لا تُبْصِرُونَ ( 39 ) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ( 40 ) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ ( 41 ) وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ ( 42 ) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 43 )

يقول تعالى مُقسمًا لخلقه بما يشاهدونه من آياته في مخلوقاته الدالة على كماله في أسمائه وصفاته، وما غاب عنهم مما لا يشاهدونه من المغيبات عنهم:إن القرآن كلامُه ووحيه وتنـزيلُه على عبده ورسوله، الذي اصطفاه لتبليغ الرسالة وأداء الأمانة، فقال: ( فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) يعني:محمدًا، أضافه إليه على معنى التبليغ؛ لأن الرسول من شأنه أن يبلغ عن المرسل؛ ولهذا أضافه في سورة التكوير إلى الرسول الملكي: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وهذا جبريل، عليه السلام.

ثم قال: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ يعني:محمدًا صلى الله عليه وسلم وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ يعني:أن محمدا رأى جبريل على صورته التي خلقه الله عليها، وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ أي:بمتهم وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ [ التكوير:19 - 25 ] ،وهكذا قال هاهنا: ( وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ ) ،فأضافه تارة إلى قول الرسول الملكي، وتارة إلى الرسول البشري؛ لأن كلا منهما مبلغ عن الله ما استأمنه عليه من وحيه وكلامه؛ ولهذا قال: ( تَنـزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ )

قال الإمام أحمد:حدثنا ابن المغيرة، حدثنا صفوان، حدثنا شُرَيح بن عبيد الله قال:قال عمر بن الخطاب:خرجت أتعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن أسلم، فوجدته قد سبقني إلى المسجد، فقمت خلفه، فاستفتح سورة الحاقة، فجعلت أعجب من تأليف القرآن، قال:فقلت:هذا والله شاعر كما قالت قريش. قال:فقرأ: ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ ) قال:فقلت:كاهن. قال فقرأ: ( وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنـزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ * لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ) إلى آخر السورة. قال:فوقع الإسلام في قلبي كل موقع .

فهذا من جملة الأسباب التي جعلها الله تعالى مؤثرة في هداية عمر بن الخطاب، كما أوردنا كيفية إسلامه في سيرته المفردة، ولله الحمد .

وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ ( 44 ) لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ( 45 ) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ( 46 ) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ( 47 ) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ( 48 ) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ ( 49 ) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ( 50 ) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ( 51 ) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ( 52 )

يقول تعالى: ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا ) أي:محمد صلى الله عليه وسلم لو كان كما يزعمون مفتريا علينا، فزاد في الرسالة أو نقص منها، أو قال شيئا من عنده فنسبه إلينا، وليس كذلك، لعاجلناه بالعقوبة. ولهذا قال ( لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ) قيل:معناه لانتقمنا منه باليمين؛ لأنها أشد في البطش، وقيل:لأخذنا منه بيمينه.

( ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ) قال ابن عباس:وهو نياط القلب، وهو العِرْقُ الذي القلب معلق فيه. وكذا قال عكرمة، وسعيد بن جبير، والحكم، وقتادة، والضحاك، ومسلم البَطِين، وأبو صخر حُميد بن زياد.

وقال محمد بن كعب:هو القلب ومَرَاقَّه وما يليه.

وقوله: ( فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ) أي:فما يقدر أحد منكم على أن يحجز بيننا وبينه إذا أردنا به شيئا من ذلك. والمعنى في هذا بل هو صادق بار راشد؛ لأن الله، عز وجل، مقرر له ما يبلغه عنه، ومؤيد له بالمعجزات الباهرات والدلالات القاطعات.

ثم قال: ( وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ) يعني:القرآن كما قال: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [ فصلت:44 ] .

ثم قال ( وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ ) أي:مع هذا البيان والوضوح، سيوجد منكم من يكذب بالقرآن.

ثم قال: ( وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ) قال ابن جرير:وإن التكذيب لحسرة على الكافرين يوم القيامة وحكاه عن قتادة بمثله.

وروى ابن أبي حاتم، من طريق السدي ، عن أبي مالك: ( وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ) يقول:لندامة. ويحتمل عود الضمير على القرآن، أي:وإن القرآن والإيمان به لحسرة في نفس الأمر على الكافرين، كما قال: كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لا يُؤْمِنُونَ بِهِ [ الشعراء:200، 201 ] ، وقال تعالى: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ [ سبأ:54 ] ولهذا قال ها هنا: ( وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ) أي:الخبر الصدق الحق الذي لا مرية فيه ولا شك ولا ريب.

ثم قال: ( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) أي:الذي أنـزل هذا القرآن العظيم. [ آخر تفسير سورة « الحاقة » ، ولله الحمد ]

 

تفسير سورة سأل سائل

 

وهي مكية.

بسم الله الرحمن الرحيم

سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ( 1 ) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ( 2 ) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ ( 3 ) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ( 4 ) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا ( 5 ) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ( 6 ) وَنَرَاهُ قَرِيبًا ( 7 )

( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ) فيه تضمين دل عليه حرف « الباء » ، كأنه مُقَدر:يستعجل سائل بعذاب واقع. كقوله: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ أي:وعذابه واقع لا محالة.

قال النسائي:حدثنا بشر بن خالد، حدثنا أبو أسامة، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن المِنْهَال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ) قال:النضر بن الحارث بن كَلَدَة.

وقال العوفي، عن ابن عباس: ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ) قال:ذلك سؤال الكفار عن عذاب الله وهو واقع.

وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد في قوله:تعالى ( سَأَلَ سَائِلٌ ) دعا داع بعذاب واقع يقع في الآخرة، قال:وهو قولهم: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [ الأنفال:32 ] .

وقال ابن زيد وغيره: ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ) أي:واد في جهنم، يسيل يوم القيامة بالعذاب. وهذا القول ضعيف، بعيد عن المراد. والصحيح الأول لدلالة السياق عليه.

وقوله: ( وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ ) أي:مُرصد مُعَدّ للكافرين.

وقال ابن عباس: ( وَاقِعٍ ) جاء ( لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ) أي:لا دافع له إذا أراد الله كونه؛ ولهذا قال ( مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ ) قال الثوري، عن الأعمش، عن رجل، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: ( ذِي الْمَعَارِجِ ) قال:ذو الدرجات.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( ذِي الْمَعَارِجِ ) يعني:العلو والفواضل.

وقال مجاهد: ( ذِي الْمَعَارِجِ ) معارج السماء. وقال قتادة:ذي الفواضل والنعم.

وقوله: ( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ) قال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة: ( تَعْرُجُ ) تصعد.

وأما الروح فقال أبو صالح:هم خلق من خلق الله. يشبهون الناس، وليسوا أناسا.

قلت:ويحتمل أن يكون المراد به جبريل، ويكون من باب عطف الخاص على العام. ويحتمل أن يكون اسم جنس لأرواح بني آدم، فإنها إذا قبضت يُصعد بها إلى السماء، كما دل عليه حديث البراء. وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، من حديث المِنْهَال، عن زاذان، عن البراء مرفوعًا - الحديث بطوله في قبض الروح الطيبة- قال فيه: « فلا يزال يصعد بها من سماء إلى سماء حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة » . والله أعلم بصحته، فقد تُكلم في بعض رواته، ولكنه مشهور، وله شاهد في حديث أبي هريرة فيما تقدم من رواية الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة، من طريق ابن أبي ذئب، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن سعيد بن يسار، عنه وهذا إسناد رجاله على شرط الجماعة، وقد بسطنا لفظه عند قوله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [ إبراهيم:27 ] .

وقوله: ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) فيه أربعة أقوال:

أحدهما:أن المراد بذلك مسافة ما بين العرش العظيم إلى أسفل السافلين، وهو قرار الأرض السابعة، وذلك مسيرة خمسين ألف سنة، هذا ارتفاع العرش عن المركز الذي في وسط الأرض السابعة. وذلك اتساع العرش من قطر إلى قطر مسيرة خمسين ألف سنة، وأنه من ياقوتة حمراء، كما ذكره ابن أبي شيبة في كتاب صفة العرش. وقد قال ابن أبي حاتم عند هذه الآية:

حدثنا أحمد بن سلمة، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا حَكَّام، عن عُمَر بن معروف، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس قوله: ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) قال:منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى منتهى أمره من فوق السماوات مقدار خمسين ألف سنة ويوم كان مقداره ألف سنة. يعني بذلك:تَنـزل الأمر من السماء إلى الأرض، ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد فذلك مقداره ألف سنة؛ لأن ما بين السماء والأرض مقدار مسيرة خمسمائة سنة.

وقد رواه ابن جرير عن ابن حميد، عن حَكَّام بن سلم، عن عُمَر بن معروف، عن ليث، عن مجاهد قوله، لم يذكر ابن عباس .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطُّنافِسيّ، حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا نوح المؤدب، عن عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه، عن ابن عباس قال:غلظ كل أرض خمسمائة عام، وبين كل أرض إلى أرض خمسمائة عام، فذلك سبعة آلاف عام. وغلظ كل سماء خمسمائة عام، وبين السماء إلى السماء خمسمائة عام، فذلك أربعة عشر ألف عام، وبين السماء السابعة وبين العرش مسيرة ستة وثلاثين ألف عام، فذلك قوله: ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ )

القول الثاني:أن المراد بذلك مدة بقاء الدنيا منذ خلق الله هذا العالم إلى قيام الساعة، قال ابن أبي حاتم:

حدثنا أبو زُرْعَة، أخبرنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا ابن أبي زائدة، عن ابن جريج، عن مجاهد: ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) قال:الدنيا عمرها خمسون ألف سنة. وذلك عمرها يوم سماها الله تعالى يوم، ( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ ) قال:اليوم:الدنيا.

وقال عبد الرزاق:أخبرنا مَعْمَر، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد - وعن الحكم بن أبان، عن عكرمة: ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) قال:الدنيا من أولها إلى آخرها مقدار خمسين ألف سنة، لا يدري أحدٌ كم مضى، ولا كم بقي إلا الله، عز وجل .

القول الثالث:أنه اليوم الفاصل بين الدنيا والآخرة، وهو قول غريب جدًا. قال ابن أبي حاتم:

حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان، حدثنا بُهلول بن المورق حدثنا موسى بن عبيدة، أخبرني محمد بن كعب: ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) قال:هو يوم الفصل بين الدنيا والآخرة.

القول الرابع:أن المراد بذلك يوم القيامة، قال ابن أبي حاتم:

حدثنا أحمد بن سنان الواسطي، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن إسرائيل، عن سِمَاك، عن عكرمة، عن ابن عباس: ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) قال:يوم القيامة. هذا وإسناده صحيح. ورواه الثوري عن سماك بن حرب، عن عكرمة ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) يوم القيامة. وكذا قال الضحاك، وابن زيد.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) قال:فهذا يوم القيامة، جعله الله تعالى على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة.

وقد وردت أحاديث في معنى ذلك، قال الإمام أحمد:

حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا دَرّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد قال:قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) ما أطول هذا اليوم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « والذي نفسي بيده، إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا » .

ورواه ابن جرير، عن يونس، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن دراج، به إلا أن دَرّاجا وشيخه ضعيفان، والله أعلم.

وقال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي عمرو الغُداني قال:كنت عند أبي هُرَيرة فمر رجل من بني عامر بن صعصعة، فقيل له:هذا أكثر عامري مالا. فقال أبو هريرة:ردوه فقال:نبئت أنك ذو مال كثير؟ فقال العامري:أي والله، إن لي لمائة حُمْرًا و مائة أدمًا، حتى عد من ألوان الإبل، وأفنان الرقيق، ورباط الخيل فقال أبو هريرة:إياك وأخفاف الإبل وأظلافَ النعم - يُرَدّد ذلك عليه، حتى جعل لونُ العامري يتغير- فقال:ما ذاك يا أبا هُرَيرة؟ قال:سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من كانت له إبلٌ لا يعطي حقها في نجدتها ورِسْلها - قلنا يا رسول الله:ما نجدتُها ورِسْلُها؟ قال: » في عُسرها ويسرها- « فإنها تأتي يوم القيامة كأغذّ ما كانت وأكثره وأسمنه وآشره، حتى يبطح لها بقاع قَرقَر، فتطؤه بأخفافها، فإذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله، وإذا كانت له بقر لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها، فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأكثره وأسمنه وآشره ثم يبطح لها بقاع قَرقَر فتطؤه كل ذات ظلف بظلفها، وتنطحه كل ذات قرن بقرنها، إذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله. وإذا كانت له غنم لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها، فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأسمنه وآشره، حتى يبطح لها بقاع قَرقَر، فتطؤه كل ذات ظلف بظلفها وتنطحه كل ذات قرن بقرنها، ليس فيها عَقصاء ولا عضباء، إذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين الناس، فيرى سبيله » . قال العامري:وما حق الإبل يا أبا هريرة؟ قال:أن تعطي الكريمة، وتمنح الغَزيرَة، وتفقر الظهر، وتَسقيَ اللبن وتُطرقَ الفحل.

وقد رواه أبو داود من حديث شعبة، والنسائي من حديث سعيد بن أبي عَرُوبة، كلاهما عن قتادة، به .

طريق أخرى لهذا الحديث:قال الإمام أحمد:حدثنا أبو كامل، عن سُهَيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما من صاحب كنـز لا يؤدي حقه إلا جعل صفائح يحمى عليها في نار جهنم، فتكوى بها بجهته وجنبه وظهره، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار » . وذكر بقية الحديث في الغنم والإبل كما تقدم، وفيه: « الخيل الثلاثة؛ لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر » إلى آخره .

ورواه مسلم في صحيحه بتمامه منفردًا به دون البخاري، من حديث سُهَيل عن أبيه، عن أبي هُرَيرة وموضع استقصاء طرقه وألفاظه في كتاب الزكاة في « الأحكام » ، والغرض من إيراده هاهنا قوله: « حتى يحكم الله بين عباده، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة » .

وقد روى ابن جرير عن يعقوب عن ابن عُلَيَّة وعبد الوهاب، عن أيوب، عن ابن أبي مُلَيْكة قال:سأل رجل ابن عباس عن قوله: ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) قال:فاتهمه، فقيل له فيه، فقال:ما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة؟ فقال:إنما سألتك لتحدثني. قال:هما يومان ذكرهما الله، الله أعلم بهما، وأكره أن أقول في كتاب الله بما لا أعلم .

وقوله: ( فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا ) أي:اصبر يا محمد على تكذيب قومك لك، واستعجالهم العذاب استبعادًا لوقوعه، كقوله: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ [ الشورى:18 ] قال: ( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ) أي:وقوع العذاب وقيام الساعة يراه الكفرة بعيد الوقوع، بمعنى مستحيل الوقوع، ( وَنَرَاهُ قَرِيبًا ) أي:المؤمنون يعتقدون كونه قريبا، وإن كان له أمد لا يعلمه إلا الله، عز وجل، لكن كل ما هو آت فهو قريب وواقع لا محالة.

يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ( 8 ) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ( 9 ) وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ( 10 )

يقول تعالى:العذابُ واقع بالكافرين ( يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ) قال ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والسدي، وغير واحد، كدرْديّ الزيت، ( وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ) أي:كالصوف المنفوش، قاله مجاهد، وقتادة، والسدي. وهذه الآية كقوله تعالى: وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [ القارعة:5 ] .

وقوله: وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا أي:لا يسأل القريب عن حاله، وهو يراه في أسوأ الأحوال، فتشغله نفسه عن غيره.

 

يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ( 11 ) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ( 12 ) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ( 13 ) وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ ( 14 ) كَلا إِنَّهَا لَظَى ( 15 ) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى ( 16 ) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى ( 17 ) وَجَمَعَ فَأَوْعَى ( 18 )

قال العوفي عن ابن عباس:يعرف بعضهم بعضا، ويتعارفون بينهم، ثم يفر بعضهم من بعض بعد ذلك، يقول: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ

وهذه الآية الكريمة كقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [ لقمان:33 ] . وكقوله: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [ فاطر:18 ] . وكقوله: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [ المؤمنون:101 ] . وكقوله: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [ عبس:34 - 37 ] .

وقوله: ( يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ * كَلا ) أي:لا يقبل منه فداء ولو جاء بأهل الأرض، وبأعز ما يجده من المال، ولو بملء الأرض ذهبًا، أو من ولده الذي كان في الدنيا حُشَاشة كبده، يود يوم القيامة إذا رأى الأهوال أن يفتدي من عذاب الله به، ولا يقبل منه. قال مجاهد والسدي: ( فَصِيلَتِهِ ) قبيلته وعشيرته. وقال عكرمة:فَخذه الذي هو منهم. وقال أشهب، عن مالك: ( فَصِيلَتِهِ ) أمه.

وقوله: ( إِنَّهَا لَظَى ) يصف النار وشدة حرها ( نـزاعَةً لِلشَّوَى ) قال ابن عباس، ومجاهد:جلدة الرأس. وقال العوفي، عن ابن عباس: ( نـزاعَةً لِلشَّوَى ) الجلود والهام. وقال مجاهد:ما دون العظم من اللحم. وقال سعيد بن جبير:العصب. والعقب. وقال أبو صالح: ( نـزاعَةً لِلشَّوَى ) يعني:أطراف اليدين والرجلين. وقال أيضا:نـزاعة لحم الساقين. وقال الحسن البصري، وثابت البناني: ( نـزاعَةً لِلشَّوَى ) أي:مكارم وجهه. وقال الحسن أيضا:تحرق كل شيء فيه، ويبقى فؤاده يصيح. وقال قتادة: ( نـزاعَةً لِلشَّوَى ) أي:نـزاعة لهامته ومكارم وَجهه وخَلْقَه وأطرافه. وقال الضحاك:تبري اللحم والجلد عن العظم، حتى لا تترك منه شيئًا. وقال ابن زيد:الشوى:الآراب العظام. فقوله:نـزاعة، قال:تقطع عظامهم، ثم يُجَدد خلقهم وتبدل جلودهم.

وقوله: ( تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى ) أي:تدعو النار إليها أبناءها الذين خلقهم الله لها، وقدر لهم أنهم في الدار الدنيا يعملون عملها، فتدعوهم يوم القيامة بلسان طَلق ذَلِق، ثم تلتقطهم من بين أهل المحشر كما يلتقط الطير الحب. وذلك أنهم - كما قال الله، عز وجل- كانوا ممن ( أَدْبَرَ وَتَوَلَّى ) أي:كذب بقلبه، وترك العمل بجوارحه ( وَجَمَعَ فَأَوْعَى ) أي:جمع المال بعضه على بعض فأوعاه، أي:أوكاه ومنع حق الله منه من الواجب عليه في النفقات ومن إخراج الزكاة. وقد ورد في الحديث: « ولا تُوعي فَيُوعي الله عليك » وكان عبد الله بن عُكيم لا يربط له كيسا ويقول:سمعت الله يقول: ( وَجَمَعَ فَأَوْعَى )

وقال الحسن البصري:يا ابن آدم، سمعتَ وعيدَ الله ثم أوعيتَ الدنيا.

وقال قتادة في قوله: ( وَجَمَعَ فَأَوْعَى ) قال:كان جَمُوعًا قمُومًا للخَبيث.

إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ( 19 ) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ( 20 ) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ( 21 ) إِلا الْمُصَلِّينَ ( 22 ) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ ( 23 ) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ( 24 ) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ( 25 ) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ( 26 ) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ( 27 ) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ( 28 ) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ( 29 ) إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ( 30 ) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ( 31 ) وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ( 32 ) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ( 33 ) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ( 34 ) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ( 35 )

يقول تعالى مخبرًا عن الإنسان وما هو مجبول عليه من الأخلاق الدنيئة: ( إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ) ثم فسره بقوله: ( إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ) أي:إذا أصابه الضر فزع وجزع وانخلع قلبه من شدة الرعب، وأيس أن يحصل له بعد ذلك خير.

( وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ) أي:إذا حصلت له نعمة من الله بخل بها على غيره، ومنع حق الله فيها.

وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا موسى بن عُلَيّ بنُ رَباح:سمعت أبي يحدث عن عبد العزيز بن مروان بن الحكم قال:سمعت أبا هُرَيرة يقول:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « شر ما في رجل شُحٌ هالع، وجبن خالع » .

ورواه أبو داود عن عبد الله بن الجراح، عن أبي عبد الرحمن المقري، به وليس لعبد العزيز عنده سواه.

ثم قال: ( إِلا الْمُصَلِّينَ ) أي:الإنسان من حيث هو متصف بصفات الذم إلا من عصمه الله ووفقه، وهداه إلى الخير ويسر له أسبابه، وهم المصلون ( الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ ) قيل:معناه يحافظون على أوقاتهم وواجباتهم. قاله ابن مسعود، ومسروق، وإبراهيم النخعي.

وقيل:المراد بالدوام هاهنا السكون والخشوع، كقوله: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [ المؤمنون:1، 2 ] . قاله عتبة بن عامر. ومنه الماء الدائم، أي:الساكن الراكد.

وقيل:المراد بذلك الذين إذا عملوا عملا داوموا عليه وأثبتوه، كما جاء في الصحيح عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قَلّ » . وفي لفظ: « ما داوم عليه صاحبه » ، قالت:وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملا داوم عليه. وفي لفظ:أثبته .

وقال قتادة في قوله: ( الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ ) ذُكر لنا أن دانيال، عليه السلام، نعت أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقال:يصلون صلاة لو صلاها قوم نوح ما غرقوا، أو قوم عاد ما أرسلت عليهم الريح العقيم، أو ثمود ما أخذتهم الصيحة. فعليكم بالصلاة فإنها خُلُق للمؤمنين حسن.

وقوله: ( وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) أي:في أموالهم نصيب مقرر لذوي الحاجات. وقد تقدم الكلام على ذلك في « سورة الذاريات » .

وقوله: ( وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ) أي:يوقنون بالمعاد والحساب والجزاء، فهم يعملون عمل من يرجو الثواب ويخاف العقاب؛ ولهذا قال: ( وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ) أي:خائفون وجلون، ( إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ) أي:لا يأمنه أحد ممن عقل عن الله أمره إلا بأمان من الله تبارك وتعالى.

وقوله: ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ) أي:يكفونها عن الحرام ويمنعونها أن توضع في غير ما أذن الله [ فيه ] ولهذا قال: ( إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ) أي:من الإماء، ( فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ) وقد تقدم تفسير ذلك في أول سورة ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) بما أغنى عنى إعادته هاهنا.

وقوله: ( وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ) أي:إذا اؤتمنوا لم يخونوا، وإذا عاهدوا لم يغدروا. وهذه صفات المؤمنين، وضدها صفات المنافقين، كما ورد في الحديث الصحيح: « آية المنافق ثلاث:إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان » . وفي رواية: « إذا حَدَّث كذب، وإذا عاهد غَدَر، وإذا خاصم فجر » .

وقوله: ( وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ) أي:محافظون عليها لا يزيدون فيها، ولا ينقصون منها، ولا يكتمونها، وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [ البقرة:283 ] .

ثم قال: ( وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ) أي:على مواقيتها وأركانها وواجباتها ومستحباتها، فافتتح الكلام بذكر الصلاة واختتمه بذكرها، فدل على الاعتناء بها والتنويه بشرفها، كما تقدم في أول سورة: ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) ؛ سواء لهذا قال هناك: أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [ المؤمنون:10، 11 ] وقال هاهنا: ( أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ) أي:مكرمون بأنواع الملاذ والمسار.

فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ( 36 ) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ ( 37 ) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ( 38 ) كَلا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ( 39 )

يقول تعالى منكرًا على الكفار الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهم مشاهدون له، ولما أرسله الله به من الهدى وما أيده الله به من المعجزات الباهرات، ثم هم مع هذا كله فارون منه، متفرقون عنه، شاردون يمينًا وشمالا فِرَقًا فِرَقًا، وشِيعًا شِيعًا، كما قال تعالى: فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [ المدثر:49، 51 ] الآية وهذه مثلها؛ فإنه قال تعالى: ( فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ) أي:فما لهؤلاء الكفار الذين عندك يا محمد ( مُهْطِعِينَ ) أي مسرعين نافرين منك، كما قال الحسن البصري: ( مُهْطِعِينَ ) أي:منطلقين، ( عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ ) واحدها عزَةٌ، أي:متفرقين. وهو حال من مهطعين، أي:في حال تفرقهم واختلافهم، كما قال الإمام أحمد في أهل الأهواء:فهم مخالفون للكتاب، مختلفون في الكتاب، متفقون على مخالفة الكتاب.

وقال العوفي، عن ابن عباس: ( فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ) قال:قبلك ينظرون، ( عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ ) قال:العزين:العُصَب من الناس، عن يمين وشمال معرضين يستهزئون به.

وقال ابن جرير:حدثنا ابن بشار. حدثنا أبو عامر، حدثنا قرة، عن الحسن في قوله: ( عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ ) متفرقين، يأخذون يمينًا وشمالا يقولون:ما قال هذا الرجل؟

وقال قتادة: ( مُهْطِعِينَ ) عامدين، ( عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ ) أي:فِرَقًا حول النبي صلى الله عليه وسلم لا يرغبون في كتاب الله، ولا في نبيه صلى الله عليه وسلم.

وقال الثوري، وشعبة، وعيسى بن يونس وعَبْثَر بن القاسم ومحمد بن فضيل، ووَكِيع، ويحيى القطان، وأبو معاوية، كلهم عن الأعمش، عن المسيب بن رافع، عن تميم بن طرفة، عن جابر بن سمرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم وهم حلق، فقال: « ما لي أراكم عزين؟ »

رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن جرير، من حديث الأعمش، به

وقال ابن جرير:حدثنا محمد بن بشار، حدثنا مُؤَمَّل، حدثنا سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة:رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم حِلَق حِلق، فقال: « ما لي أراكم عزين؟ » .

وهذا إسناد جيد، ولم أره في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه.

وقوله: ( أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ) أي:أيطمع هؤلاء - والحالة هذه- من فرارهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم ونفارهم عن الحق - أن يدخلوا جنات النعيم؟ كلا بل مأواهم الجحيم.

ثم قال تعالى مقررًا لوقوع المعاد والعذاب بهم الذي أنكروا كونه واستبعدوا وجوده، مستدلا عليهم بالبداءة التي الإعادة أهون منها وهم معترفون بها، فقال ( إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ) أي:من المني الضعيف، كما قال: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ [ المرسلات:20 ] . وقال: فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ [ الطارق:5 - 10 ] .

 

فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ ( 40 ) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ( 41 ) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ( 42 ) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ( 43 ) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ( 44 )

ثم قال: ( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ ) أي:الذي خلق السماوات والأرض، وجعل مشرقا ومغربا، وسخر الكواكب تبدو من مشارقها وتغيب في مغاربها. وتقدير الكلام:ليس الأمر كما يزعمون أن لا معاد ولا حساب، ولا بعث ولا نشور، بل كل ذلك واقع وكائن لا محالة. ولهذا أتى ب « لا » في ابتداء القسم ليدل على أن المقسم عليه نفي، وهو مضمون الكلام، وهو الرد على زعمهم الفاسد في نفي يوم القيامة، وقد شاهدوا من عظيم قدرة الله تعالى ما هو أبلغ من إقامة القيامة، وهو خلق السماوات والأرض، وتسخير ما فيهما من المخلوقات من الحيوانات والجمادات، وسائر صنوف الموجودات؛ ولهذا قال تعالى: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [ غافر:57 ] وقال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ الأحقاف:33 ] . وقال تعالى في الآية الأخرى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [ يس:81، 82 ] . وقال هاهنا: ( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ ) أي:يوم القيامة نعيدهم بأبدان خير من هذه، فإن قدرته صالحة لذلك، ( وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) أي:بعاجزين. كما قال تعالى: أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ [ القيامة:3، 4 ] . وقال تعالى: نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ [ الواقعة:60، 61 ] .

واختار ابن جرير ( عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ ) أي:أمة تطيعنا ولا تعصينا وجعلها، كقوله: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [ محمد:38 ] . والمعنى الأول أظهر لدلالة الآيات الأخر عليه، والله أعلم.

ثم قال تعالى: ( فَذَرْهُمْ ) أي:يا محمد ( يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا ) أي:دعهم في تكذيبهم وكفرهم وعنادهم، ( حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ) أي:فسيعلمون غب ذلك ويذوقون وباله ( يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ) أي:يقومون من القبور إذا دعاهم الرب، تبارك وتعالى، لموقف الحساب، ينهضون سراعًا كأنهم إلى نصب يوفضون.

قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك:إلى عَلَم يسعون. وقال أبو العالية، ويحيى بن أبي كثير:إلى غاية يسعون إليها.

وقد قرأ الجمهور: « نَصْب » بفتح النون وإسكان الصاد، وهو مصدر بمعنى المنصوب. وقرأ الحسن البصري: ( نُصُبٍ ) بضم النون والصاد، وهو الصنم، أي:كأنهم في إسراعهم إلى الموقف كما كانوا في الدنيا يهرولون إلى النصب إذا عاينوه يوفضون، يبتدرون، أيهم يستلمه أول. وهذا مروي عن مجاهد، ويحيى بن أبي كثير، ومسلم البَطين وقتادة، والضحاك، والربيع بن أنس، وأبي صالح، وعاصم بن بَهْدَلة، وابن زيد، وغيرهم.

وقوله: ( خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ ) أي:خاضعة ( تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ) أي:في مقابلة ما استكبروا في الدنيا عن الطاعة، ( ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ )

آخر تفسير سورة « سأل سائل » ولله الحمد والمنة.

 

تفسير سورة نوح

 

وهي مكية.

بسم الله الرحمن الرحيم

إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 1 ) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ( 2 ) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ ( 3 ) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 4 )

يقول تعالى مخبرا عن نوح، عليه السلام، أنه أرسله إلى قومه آمرا له أن ينذرهم بأس الله قبل حلوله بهم، فإن تابوا وأنابوا رفع عنهم؛ ولهذا قال: ( أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) أي:بين النذارة، ظاهر الأمر واضحه.

( أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ) أي:اتركوا محارمه واجتنبوا مآثمه ( وَأَطِيعُونِ ) فيما آمركم به وأنهاكم عنه.

( يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) أي:إذا فعلتم ما آمرتكم به وصدقتم ما أرسلت به إليكم، غفر الله لكم ذنوبكم.

و « من » هاهنا قيل:إنها زائدة. ولكن القول بزيادتها في الإثبات قليل. ومنه قول بعض العرب: « قد كان من مطر » . وقيل:إنها بمعنى « عن » تقديره:يصفح لكم عن ذنوبكم واختاره ابن جرير وقيل:إنها للتبعيض، أي يغفر لكم الذنوب العظام التي وعدكم على ارتكابكم إياها الانتقام.

( وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) أي:يمد في أعماركم ويدرأ عنكم العذاب الذي إن لم تنـزجروا عما نهاكم عنه، أوقعه بكم.

وقد يستدل بهذه الآية من يقول:إن الطاعة والبر وصلة الرحم، يزاد بها في العمر حقيقة؛ كما ورد به الحديث: « صلة الرحم تزيد في العمر » .

وقوله: ( إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) أي:بادروا بالطاعة قبل حلول النقمة، فإنه إذا أمر [ الله ] تعالى بكون ذلك لا يرد ولا يمانع، فإنه العظيم الذي قهر كل شيء، العزيز الذي دانت لعزته جميع المخلوقات.

قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا ( 5 ) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا ( 6 ) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ( 7 ) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ( 8 ) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ( 9 ) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ( 10 )

يخبر تعالى عن عبده ورسوله نوح، عليه السلام، أنه اشتكى إلى ربه، عز وجل، ما لقي من قومه، وما صبر عليهم في تلك المدة الطويلة التي هي ألف سنة إلا خمسين عاما، وما بين لقومه ووضح لهم ودعاهم إلى الرشد والسبيل الأقوم، فقال: ( رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا ) أي:لم أترك دعاءهم في ليل ولا نهار، امتثالا لأمرك وابتغاء لطاعتك، ( فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا ) أي:كلما دعوتهم ليقتربوا من الحق فَروا منه وحَادُوا عنه،. ( وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ ) أي:سدوا آذانهم لئلا يسمعوا ما أدعوهم إليه. كما أخبر تعالى عن كفار قريش: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [ فصلت:26 ] .

( وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ ) قال ابن جريج، عن ابن عباس:تنكروا له لئلا يعرفهم. وقال سعيد بن جبير، والسدي:غطوا رءوسهم لئلا يسمعوا ما يقول.

( وَأَصَرُّوا ) أي:استمروا على ما هم فيه من الشرك والكفر العظيم الفظيع، ( وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ) أي:واستنكفوا عن اتباع الحق والانقياد له.

( ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ) أي:جهرة بين الناس.

( ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ ) أي:كلاما ظاهرا بصوت عال، ( وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ) أي:فيما بيني وبينهم، عليهم الدعوة لتكون أنجع فيهم.

( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ) أي:ارجعوا إليه وارجعوا عما أنتم فيه وتوبوا إليه من قريب، فإنه من تاب إليه تاب عليه، ولو كانت ذنوبه مهما كانت في الكفر والشرك.

 

يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ( 11 ) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ( 12 ) مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ( 13 ) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ( 14 ) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ( 15 ) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ( 16 ) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا ( 17 ) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا ( 18 ) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا ( 19 ) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا ( 20 )

ولهذا قال: ( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ) أي:متواصلة الأمطار. ولهذا تستحب قراءة هذه السورة في صلاة الاستسقاء لأجل هذه الآية. وهكذا روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب:أنه صعد المنبر ليستسقي، فلم يزد على الاستغفار، وقرأ الآيات في الاستغفار. ومنها هذه الآية ( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ) ثم قال:لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء التي ستنـزل بها المطر.

وقال ابن عباس وغيره:يتبع بعضه بعضا.

وقوله: ( وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ) أي:إذا تبتم إلى الله واستغفرتموه وأطعتموه، كثر الرزق عليكم، وأسقاكم من بركات السماء، وأنبت لكم من بركات الأرض، وأنبت لكم الزرع، وَأَدَرَّ لكم الضرع، وأمدكم بأموال وبنين، أي:أعطاكم الأموال والأولاد، وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمار، وخللها بالأنهار الجارية بينها.

هذا مقام الدعوة بالترغيب. ثم عدل بهم إلى دعوتهم بالترهيب فقال: ( مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ) أي:عظمة قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وقال ابن عباس:لا تعظمون الله حق عظمته، أي:لا تخافون من بأسه ونقمته.

( وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ) قيل:معناه من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة. قاله ابن عباس، وعكرمة، وقتادة، ويحيى بن رافع، والسدي، وابن زيد.

وقوله: ( أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ) ؟ أي:واحدة فوق واحدة، وهل هذا يتلقى من جهة السمع فقط؟ أو هي من الأمور المدركة بالحس، مما علم من التسيير والكسوفات، فإن الكواكب السبعة السيارة يكسف بعضها بعضا، فأدناها القمر في السماء الدنيا وهو يكسف ما فوقه، وعطارد في الثانية، والزهرة في الثالثة، والشمس في الرابعة، والمريخ في الخامسة، والمشترى في السادسة، وزحل في السابعة. وأما بقية الكواكب - وهي الثوابت- ففي فَلَك ثامن يسمونه فَلَكَ الثوابت. والمتشرعون منهم يقولون:هو الكرسي، والفلك التاسع، وهو الأطلس. والأثير عندهم الذي حركته على خلاف حركة سائر الأفلاك، وذلك أن حركته مبدأ الحركات، وهي من المغرب إلى المشرق؛ وسائر الأفلاك عكسه من المشرق إلى المغرب، ومعها يدور سائر الكواكب تبعا، ولكن للسيارة حركة معاكسة لحركة أفلاكها، فإنها تسير من المغرب إلى المشرق. وكل يقطع فلكه بحسبه، فالقمر يقطع فلكه في كل شهر مرة، والشمس في كل سنة مرة، وزحل في كل ثلاثين سنة مرة، وذلك بحسب اتساع أفلاكها وإن كانت حركة الجمع في السرعة متناسبة. هذا ملخص ما يقولونه في هذا المقام، على اختلاف بينهم في مواضع كثيرة، لسنا بصدد بيانها، وإنما المقصود أن الله سبحانه: ( خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ) أي:فاوت بينهما في الاستنارة فجعل كلا منهما أنموذجا على حدة، ليعرف الليل والنهار بمطلع الشمس ومغيبها، وقدر القمر منازل وبروجا، وفاوت نوره، فتارة يزداد حتى يتناهى ثم يشرع في النقص حتى يستسر، ليدل على مضي الشهور والأعوام، كما قال: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [ يونس:5 ] .

وقوله: ( وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتًا ) هذا اسم مصدر، والإتيان به هاهنا أحسن، ( ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا ) أي:إذا متم ( وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا ) أي:يوم القيامة يعيدكم كما بدأكم أول مرة.

( وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ بِسَاطًا ) أي:بسطها ومهدها وقررها وثَبتها بالجبال الراسيات الشم الشامخات.

( لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا ) أي:خلقها لكم لتستقروا عليها وتسلكوا فيها أين شئتم، من نواحيها وأرجائها وأقطارها، وكل هذا مما ينبههم به نوح، عليه السلام على قدرة الله وعظمته في خلق السموات والأرض، ونعمه عليهم فيما جعل لهم من المنافع السماوية والأرضية، فهو الخالق الرزاق، جعل السماء بناء، والأرض مهادا، وأوسع على خلقه من رزقه، فهو الذي يجب أن يعبد ويوحد ولا يشرك به أحد؛ لأنه لا نظير له ولا عَديل له، ولا ند ولا كفء، ولا صاحبة ولا ولد، ولا وزير ولا مشير، بل هو العلي الكبير.

قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَارًا ( 21 ) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا ( 22 ) وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ( 23 ) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا ضَلالا ( 24 )

يقول تعالى مخبرا عن نوح، عليه السلام، أنه أنهى إليه، وهو العليم الذي لا يعزب عنه شيء، أنه مع البيان المتقدم ذكره، والدعوة المتنوعة المتشملة على الترغيب تارة والترهيب أخرى:أنهم عصوه وكذبوه وخالفوه، واتبعوا أبناء الدنيا ممن غفل عن أمر الله، ومتع بمال وأولاد، وهي في نفس الأمر استدراج وإنظار لا إكرام؛ ولهذا قال: ( وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَارًا ) قُرئ ( وَوُلْدُهُ ) بالضم وبالفتح، وكلاهما متقارب.

وقوله: ( وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا ) قال مجاهد: ( كُبَّارًا ) أي عظيمًا. وقال ابن زيد: ( كُبَّارًا ) أي:كبيرا. والعرب تقول:أمر عجيب وعُجَاب وعُجَّاب. ورجل حُسَان. وحُسَّان:وجُمَال وجُمَّال، بالتخفيف والتشديد، بمعنى واحد.

والمعنى في قوله: ( وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا ) أي:باتباعهم في تسويلهم لهم بأنهم على الحق والهدى، كما يقولون لهم يوم القيامة: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا [ سبأ:33 ] ولهذا قال هاهنا: ( وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا * وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ) وهذه أسماء أصنامهم التي كانوا يعبدونها من دون الله.

قال البخاري:حدثنا إبراهيم، حدثنا هشام، عن ابن جريج، وقال عطاء، عن ابن عباس:صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد:أما وَد:فكانت لكلب بدومة الجندل؛ وأما سواع:فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غُطَيف بالجُرُف عند سبأ، أما يُعوقُ:فكانت لهَمْدان، وأما نسر:فكانت لحمير لآل ذي كَلاع، وهي أسماء رجال صالحين من قوم نوح، عليه السلام، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم. ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتَنَسَّخَ العلم عُبِدت

وكذا رُوي عن عكرمة، والضحاك، وقتادة، وابن إسحاق، نحو هذا.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:هذه أصنام كانت تعبد في زمن نوح.

وقال ابن جرير:حدثنا ابن حميد، حدثنا مهران، عن سفيان، عن موسى، عن محمد بن قيس ( [ يَغُوثَ ] وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ) قال:كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم:لو صَوَرناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم. فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال:إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر، فعبدوهم.

وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة شيث، عليه السلام، من طريق إسحاق بن بشر قال:وأخبرني جُويبر ومقاتل، عن الضحاك، عن ابن عباس أنه قال:ولد لآدم عليه السلام، أربعون ولدا، عشرون غلاما وعشرون جارية، فكان ممن عاش منهم:هابيل، وقابيل، وصالح، وعبد الرحمن - والذي كان سماه عبد الحارث- ووَدّ، وكان وَدّ يقال له « شيث » ويقال له: « هبة الله » وكان إخوته قد سَوّدوه، وولد له سَوَاع ويغوث ويعوق ونسر.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أبو عُمَر الدّوريُّ، حدثني أبو إسماعيل المؤدّب، عن عبد الله بن مسلم بن هُرمز عن أبي حزْرَة، عن عروة بن الزبير قال:اشتكى آدم، عليه السلام، وعنده بنوه:ود، ويغوث، [ ويعوق ] وسواع، ونسر - قال وكان وَدّ أكبَرهم وأبرّهم به.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن منصور، حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا يعقوب، عن أبي المطهر قال:ذكروا عند أبي جعفر - وهو قائم يصلي- يزيد بن المهلب، قال:فلما انفتل من صلاته قال:ذكرتم يزيدَ بن المهلب، أما إنه قتل في أول أرض عُبد فيها غيرُ الله. قال:ثم ذكر ودًا - قال:وكان وَدٌّ رجلا مسلما وكان محببا في قومه، فلما مات عسكروا حول قبره في أرض بابل وجزعوا عليه، فلما رأى إبليس جَزَعهم عليه، تشبه في صورة إنسان، ثم قال:إني أرى جزعكم على هذا الرجل، فهل لكم أن أصور لكم مثله، فيكونَ في ناديكم فتذكرونه؟ قالوا: نعم. فصُوِّر لهم مثله، قال:ووضعوه في ناديهم وجعلوا يذكرونه. فلما رأى ما بهم من ذكره قال:هل لكم أن أجعل في منـزل كل واحد منكم تمثالا مثله، فيكون له في بيته فتذكرونه؟ قالوا:نعم. قال:فمثل لكل أهل بيت تمثالا مثله، فأقبلوا فجعلوا يذكرونه به، قال:وأدرك أبناؤهم فجعلوا يرون ما يصنعون به، قال وتناسلوا ودَرَس أمر ذكرهم إياه، حتى اتخذوه إلها يعبدونه من دون الله أولاد أولادهم، فكان أول ما عبد من غير الله:الصنم الذي سموه وَدّا.

وقوله: ( وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا ) يعني:الأصنام التي اتخذوها أضلوا بها خلقا كثيرًا، فإنه استمرت عبادتها في القرون إلى زماننا هذا في العرب والعجم وسائر صنوف بني آدم. وقد قال الخليل، عليه السلام، في دعائه: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ [ إبراهيم:35، 36 ] .

وقوله: ( وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا ضَلالا ) دعاء منه على قومه لتمردهم وكفرهم وعنادهم، كما دعا موسى على فرعون ومثله في قوله: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [ يونس:88 ] وقد استجاب الله لكل من النبيين في قومه، وأغرق أمته بتكذيبهم لما جاءهم به.

مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا ( 25 ) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ( 26 ) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا ( 27 ) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا ( 28 )

يقول تعالى: ( مِمَّا خَطايَاهُمْ ) وقرئ: ( خَطِيئَاتِهِمْ ) ( أُغْرِقُوا ) أي:من كثرة ذنوبهم وعتوهم وإصرارهم على كفرهم ومخالفتهم رسولهم ( أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا ) أي:نقلوا من تيار البحار إلى حرارة النار، ( فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا ) أي:لم يكن لهم معين ولا مُغيث ولا مُجير ينقذهم من عذاب الله كقوله: قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ [ هود:43 ] .

( وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) أي:لا تترك على [ وجه ] الأرض منهم أحدًا ولا تُومُريَّا وهذه من صيغ تأكيد النفي.

قال الضحاك: ( دَيَّارًا ) واحدا. وقال السُّدِّي:الديار:الذي يسكن الدار.

فاستجاب الله له، فأهلك جميع من على وجه الأرض من الكافرين حتى ولد نوح لصلبه الذي اعتزل عن أبيه، وقال: سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [ هود:43 ] .

وقال ابن أبي حاتم:قرئ على يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني شَبيب بن سعد، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لو رحم الله من قوم نوح أحدا، لرحم امرأة، لما رأت الماء حملت ولدها ثم صعدت الجبل، فلما بلغها الماء صعدت به منكبها، فلما بلغ الماء منكبها وضعت ولدها على رأسها، فلما بلغ الماء رأسها رفعت ولدها بيدها. فلو رحم الله منهم أحدا لرحم هذه المرأة » .

هذا حديث غريب، ورجاله ثقات. ونجى الله أصحاب السفينة الذين آمنوا مع نوح، عليه السلام، وهم الذين أمره الله بحملهم معه.

وقوله: ( إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ ) أي:إنك إن أبقيت منهم أحدًا أضلوا عبادك، أي:الذين تخلقهم بعدهم ( وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا ) أي:فاجرًا في الأعمال كافر القلب، وذلك لخبرته بهم ومكثه بين أظهرهم ألف سنة إلا خمسين عاما.

ثم قال: ( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا ) قال الضحاك:يعني:مسجدي، ولا مانع من حمل الآية على ظاهرها، وهو أنه دعا لكل من دخل منـزله وهو مؤمن، وقد قال الإمام أحمد:

حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا حَيْوَة، أنبأنا سالم بن غيلان:أن الوليد بن قيس التُّجِيبِيّ أخبره:أنه سمع أبا سعيد الخدري - أو:عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد:- أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « لا تصحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي » .

ورواه أبو داود والترمذي، من حديث عبد الله بن المبارك، عن حيوة بن شريح، به ثم قال الترمذي:إنما نعرفه من هذا الوجه.

وقوله: ( وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ) دعاء لجميع المؤمنين والمؤمنات، وذلك يَعُم الأحياءَ منهم والأموات؛ ولهذا يستحب مثل هذا الدعاء، اقتداء بنوح، عليه السلام، وبما جاء في الآثار، والأدعية [ المشهورة ] المشروعة.

وقوله: ( وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا ) قال السدي:إلا هلاكا. وقال مجاهد:إلا خسارا، أي:في الدنيا والآخرة.

آخر تفسير سورة « نوح » [ عليه السلام ولله الحمد والمنة ] .

 

تفسير سورة الجن

 

وهي مكية.

بسم الله الرحمن الرحيم

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ( 1 ) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ( 2 ) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا ( 3 ) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا ( 4 ) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ( 5 ) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ( 6 ) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا ( 7 )

يقول تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر قومه:أن الجن استمعوا القرآن فآمنوا به وصدقوه وانقادوا له، فقال تعالى: ( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ ) أي:إلى السداد والنجاح، ( فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ) وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [ الأحقاف:29 ] وقد قدمنا الأحاديث الواردة في ذلك بما أغنى عن إعادته هاهنا.

وقوله: ( وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله تعالى: ( جَدُّ رَبِّنَا ) أي:فعله وأمره وقدرته.

وقال الضحاك، عن ابن عباس:جد الله:آلاؤه وقدرته ونعمته على خلقه.

وروي عن مجاهد وعكرمة:جلال ربنا. وقال قتادة:تعالى جلاله وعظمته وأمره. وقال السدي:تعالى أمر ربنا. وعن أبي الدرداء، ومجاهد أيضا وابن جريج:تعالى ذكره. وقال سعيد بن جبير: ( تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا ) أي:تعالى ربنا.

فأما ما رواه ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ حدثنا سفيان، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس قال:الجد:أب. ولو علمت الجن أن في الإنس جدا ما قالوا:تعالى جَدّ ربنا.

فهذا إسناد جيد، ولكن لست أفهم ما معنى هذا الكلام؛ ولعله قد سقط شيء، والله أعلم. وقوله: ( مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا ) أي:تعالى عن اتخاذ الصاحبة والأولاد، أي:قالت الجن:تنـزه الرب تعالى جلاله وعظمته، حين أسلموا وآمنوا بالقرآن، عن اتخاذ الصاحبة والولد.

ثم قالوا: ( وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا ) قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة، والسدي: ( سَفِيهُنَا ) يعنون:إبليس، ( شَطَطًا ) قال السُّدِّي، عن أبي مالك: ( شَطَطًا ) أي:جورا. وقال ابن زيد:ظلما كبيرا.

ويحتمل أن يكون المراد بقولهم: ( سَفِيهُنَا ) اسم جنس لكل من زعم أن لله صاحبة أو ولدا. ولهذا قالوا: ( وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا ) أي:قبل إسلامه ( عَلَى اللَّهِ شَطَطًا ) أي:باطلا وزورا؛ ( وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ) أي:ما حسبنا أن الإنس والجن يتمالئون على الكذب على الله في نسبة الصاحبة والولد إليه. فلما سمعنا هذا القرآن وآمنا به، علمنا أنهم كانوا يكذبون على الله في ذلك.

وقوله: ( وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ) أي:كنا نرى أن لنا فضلا على الإنس؛ لأنهم كانوا يعوذون بنا، إي:إذا نـزلوا واديا أو مكانا موحشا من البراري وغيرها كما كان عادة العرب في جاهليتها. يعوذون بعظيم ذلك المكان من الجان، أن يصيبهم بشيء يسوؤهم كما كان أحدهم يدخل بلاد أعدائه في جوار رجل كبير وذمامه وخفارته، فلما رأت الجن أن الإنس يعوذون بهم من خوفهم منهم، ( فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ) أي:خوفا وإرهابا وذعرا، حتى تبقوا أشد منهم مخافة وأكثر تعوذا بهم، كما قال قتادة: ( فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ) أي:إثما، وازدادت الجن عليهم بذلك جراءة.

وقال الثوري، عن منصور عن إبراهيم: ( فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ) أي:ازدادت الجن عليهم جرأة.

وقال السدي:كان الرجل يخرج بأهله فيأتي الأرض فينـزلها فيقول:أعوذ بسيد هذا الوادي من الجن أن أضَرّ أنا فيه أو مالي أو ولدي أو ماشيتي، قال:فإذا عاذ بهم من دون الله، رَهقَتهم الجن الأذى عند ذلك.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد يحيى بن سعيد القطان، حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبي، حدثنا الزبير بن الخرِّيت، عن عكرمة قال:كان الجن يَفْرَقُون من الإنس كما يفرَق الإنس منهم أو أشد، وكان الإنس إذا نـزلوا واديا هرب الجن، فيقول سيد القوم:نعوذ بسيد أهل هذا الوادي.

فقال الجن:نراهم يفرقون منا كما نفرق منهم. فدنوا من الإنس فأصابوهم بالخبل والجنون، فذلك قول الله: ( وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا )

وقال أبو العالية، والربيع، وزيد بن أسلم: ( رَهَقًا ) أي:خوفا. وقال العوفي، عن ابن عباس: ( فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ) أي:إثما. وكذا قال قتادة. وقال مجاهد:زاد الكفار طغيانا.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا فروة بن المغراء الكندي، حدثنا القاسم بن مالك - يعني المزني- عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن أبيه، عن كَردم بن أبي السائب الأنصاري قال:خرجت مع أبي من المدينة في حاجة، وذلك أول ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فآوانا المبيت إلى راعي غنم. فلما انتصف الليل جاء ذئب فأخذ حملا من الغنم، فوثب الراعي فقال:يا عامر الوادي، جارك. فنادى مناد لا نراه، يقول:يا سرحان، أرسله. فأتى الحملَ يشتد حتى دخل في الغنم لم تصبه كدمة. وأنـزل الله تعالى على رسوله بمكة ( وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا )

ثم قال:ورُوي عن عبيد بن عمير، ومجاهد، وأبي العالية، والحسن، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النَّخَعي، نحوه.

وقد يكون هذا الذئب الذي أخذ الحمل - وهو ولد الشاة- وكان جنّيا حتى يُرهب الإنسي ويخاف منه، ثم رَدَّه عليه لما استجار به، ليضله ويهينه، ويخرجه عن دينه، والله أعلم.

وقوله: ( وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا ) أي:لن يبعث الله بعد هذه المدة رسولا. قاله الكلبي، وابن جرير.

وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا ( 8 ) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا ( 9 ) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ( 10 )

يخبر تعالى عن الجن حين بعث الله رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم وأنـزل عليه القرآن، وكان من حفظه له أن السماء مُلئَت حرسا شديدًا، وحفظت من سائر أرجائها، وطردت الشياطين عن مقاعدها التي كانت تقعد فيها قبل ذلك؛ لئلا يسترقوا شيئا من القرآن. فيلقوه على ألسنة الكهنة، فيلتبس الأمر ويختلط ولا يدرى من الصادق. وهذا من لطف الله بخلقه ورحمته بعباده، وحفظه لكتابه العزيز، ولهذا قال الجن: ( وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا ) أي:من يروم أن يسترق السمع اليوم يجد له شهابا مرصدا له، لا يتخطاه ولا يتعداه، بل يمحقه ويهلكه، ( وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ) أي:ما ندري هذا الأمر الذي قد حدث في السماء، لا ندري أشر أريد بمن في الأرض، أم أراد بهم ربهم رشدا؟ وهذا من أدبهم في العبارة حيث أسندوا الشر إلى غير فاعل، والخير أضافوه إلى الله عز وجل. وقد ورد في الصحيح: « والشر ليس إليك » . وقد كانت الكواكب يُرمَى بها قبل ذلك، ولكن ليس بكثير بل في الأحيان بعد الأحيان، كما في حديث ابن عباس بينما نحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رمي بنجم فاستنار، فقال: « ما كنتم تقولون في هذا؟ فقلنا:كنا نقول:يولد عظيم، يموت عظيم، فقال: » ليس كذلك، ولكن الله إذا قضى الأمر في السماء « ، وذكر تمام الحديث، وقد أوردناه في سورة » سبأ « بتمامه وهذا هو السبب الذي حملهم على تطلب السبب في ذلك، فأخذوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بأصحابه في الصلاة، فعرفوا أن هذا هو الذي حفظت من أجله السماء، فآمن من آمن منهم، وتمرد في طغيانه من بقي، كما تقدم حديث ابن عباس في ذلك، عند قوله في سورة » الأحقاف « : وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ الآية 29. ولا شك أنه لما حدث هذا الأمر وهو كثرة الشهب في السماء والرمي بها، هال ذلك الإنس والجن وانـزعجوا له وارتاعوا لذلك، وظنوا أن ذلك لخراب العالم - كما قال السدي:لم تكن السماء تحرس إلا أن يكون في الأرض نبي أو دين لله ظاهر، فكانت الشياطين قبل محمد صلى الله عليه وسلم قد اتخذت المقاعد في السماء الدنيا، يستمعون ما يحدث في السماء من أمر. فلما بعث الله محمدًا نبيا، رُجموا ليلة من الليالي، ففزع لذلك أهل الطائف، فقالوا:هلك أهل السماء، لما رأوا من شدة النار في السماء واختلاف الشهب. فجعلوا يعتقون أرقاءهم ويُسَيِّبون مواشيهم، فقال لهم عبد يا ليل بن عمرو بن عمير:ويحكم يا معشر أهل الطائف. أمسكوا عن أموالكم، وانظروا إلى معالم النجوم فإن رأيتموها مستقرة في أمكنتها فلم يهلك أهل السماء، إنما هذا من أجل ابن أبي كبشة - يعني:محمدا صلى الله عليه وسلم- وإن أنتم لم تروها فقد هلك أهل السماء. فنظروا فرأوها، فكفوا عن أموالهم. وفزعت الشياطين في تلك الليلة، فأتوا إبليس فحدثوه بالذي كان من أمرهم، فقال:ائتوني من كل أرض بقبضة من تراب أشمها. فأتوه فَشَم فقال:صاحبكم بمكة. فبعث سبعة نفر من جن نصيبين، فقدموا مكة فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يصلي في المسجد الحرام يقرأ القرآن، فدنوا منه حرصا على القرآن حتى كادت كلاكلهم تصيبه، ثم أسلموا. فأنـزل الله تعالى أمرهم على نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرنا هذا الفصل مستقصى في أول البعث من ( كتاب السيرة ) المطول، والله أعلم، ولله الحمد والمنة.»

وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ( 11 ) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا ( 12 ) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا ( 13 )

يقول مخبرا عن الجن:أنهم قالوا مخبرين عن أنفسهم: ( وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ ) أي:غير ذلك، ( كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ) أي:طرائق متعددة مختلفة وآراء متفرقة.

قال ابن عباس، ومجاهد وغير واحد: ( كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ) أي:منا المؤمن ومنا الكافر.

وقال أحمد بن سليمان النجاد في أماليه، حدثنا أسلم بن سهل بحشل، حدثنا علي بن الحسن بن سليمان - هو أبو الشعثاء الحضرمي، شيخ مسلم- حدثنا أبو معاوية قال:سمعتُ الأعمش يقول:تروح إلينا جني، فقلت له:ما أحب الطعام إليكم؟ فقال الأرز. قال:فأتيناهم به، فجعلت أرى اللقم ترفع ولا أرى أحدا. فقلت:فيكم من هذه الأهواء التي فينا؟ قال:نعم. قلت:فما الرافضة فيكم ؟ قال شرنا. عرضت هذا الإسناد على شيخنا الحافظ أبي الحجاج المِزِّي فقال:هذا إسناد صحيح إلى الأعمش.

وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة العباس بن أحمد الدمشقي قال سمعتُ بعض الجَنّ وأنا في منـزل لي بالليل ينشد:

قُلـوبٌ بَرَاهـا الحـبّ حَـتى تعلَّقـت مَذَاهبُهـا فـي كُـلّ غَـرب وشَــارقِ

تَهيــم بحــب اللـه, واللـهُ رَبُّهـا مُعَلَّقـــةٌ باللـــه دُونَ الخَــلائقِ

وقوله: ( وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا ) أي:نعلم أن قدرة الله حاكمة علينا وأنا لا نعجزه في الأرض، ولو أمعنا في الهرب، فإنه علينا قادر لا يعجزه أحد منا.

( وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ ) يفتخرون بذلك، وهو مفخر لهم، وشرف رفيع وصفة حسنة.

وقولهم: ( فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا ) قال ابن عباس، وقتادة، وغيرهما:فلا يخاف أن يُنقص من حسناته أو يحمل عليه غير سيئاته، كما قال تعالى: فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا [ طه:112 ]

 

وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ( 14 ) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ( 15 ) وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ( 16 ) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ( 17 )

( وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ ) أي:منا المسلم ومنا القاسط، وهو:الجائر عن الحق الناكب عنه، بخلاف المقسط فإنه العادل، ( فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ) أي:طلبوا لأنفسهم النجاة،

( وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ) أي:وقودًا تسعر بهم.

وقوله: ( وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ) اختلف المفسرون في معنى هذا على قولين:

أحدهما:وأن لو استقام القاسطون على طريقة الإسلام وعدلوا إليها واستمروا عليها، ( لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ) أي:كثيرًا. والمراد بذلك سَعَة الرزق. كقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [ المائدة:66 ] وكقوله: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [ الأعراف:96 ] وعلى هذا يكون معنى قوله: ( لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ) أي:لنختبرهم، كما قال مالك، عن زيد بن أسلم: ( لِنَفْتِنَهُمْ ) لنبتليهم، من يستمر على الهداية ممن يرتد إلى الغواية؟.

ذكر من قال بهذا القول:قال العوفي، عن ابن عباس: ( وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ ) يعني بالاستقامة:الطاعة. وقال مجاهد: ( وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ ) قال:الإسلام. وكذا قال سعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب، وعطاء، والسدي، ومحمد بن كعب القرظي.

وقال قتادة: ( وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ ) يقول:لو آمنوا كلهم لأوسعنا عليهم من الدنيا.

وقال مجاهد: ( وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ ) أي:طريقة الحق. وكذا قال الضحاك، واستشهد على ذلك بالآيتين اللتين ذكرناهما، وكل هؤلاء أو أكثرهم قالوا في قوله: ( لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ) أي لنبتليهم به.

وقال مقاتل:فنـزلت في كفار قريش حين مُنعوا المطر سبع سنين.

والقول الثاني: ( وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ ) الضلالة ( لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ) أي:لأوسعنا عليهم الرزق استدراجا، كما قال: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [ الأنعام:44 ] وكقوله: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ [ المؤمنون:55، 56 ] وهذا قول أبي مِجلز لاحق بن حُمَيد؛ فإنه في قوله: ( وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ ) أي:طريقة الضلالة. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وحكاه البغوي عن الربيع بن أنس، وزيد بن أسلم، والكلبي، وابن كيسان. وله اتجاه، ويتأيد بقوله: ( لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ )

وقوله: ( وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ) أي:عذابا شاقا شديدًا موجعًا مؤلما.

قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، وابن زيد: ( عَذَابًا صَعَدًا ) أي:مشقة لا راحة معها.

وعن ابن عباس:جبل في جهنم. وعن سعيد بن جبير:بئر فيها.

وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ( 18 ) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ( 19 ) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ( 20 ) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا ( 21 ) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ( 22 ) إِلا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ( 23 ) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا ( 24 )

يقول تعالى آمرًا عباده أن يُوَحِّدوه في مجال عبادته، ولا يُدْعى معه أحد ولا يشرك به كما قال قتادة في قوله: ( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ) قال:كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبِيَعِهِم، أشركوا بالله، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يوحدوه وحده.

وقال ابن أبي حاتم:ذكر علي بن الحسين:حدثنا إسماعيل بن بنت السدي، أخبرنا رجل سماه، عن السدي، عن أبي مالك - أو أبي صالح- عن ابن عباس في قوله: ( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ) قال:لم يكن يوم نـزلت هذه الآية في الأرض مسجد إلا المسجد الحرام، ومسجد إيليا:بيت المقدس.

وقال الأعمش:قالت الجن:يا رسول الله، ائذن لنا نشهد معك الصلوات في مسجدك. فأنـزل الله: ( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ) يقول:صلوا، لا تخالطوا الناس.

وقال ابن جرير:حدثنا ابن حميد، حدثنا مهران، حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن محمود عن سعيد بن جبير: ( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ ) قال:قالت الجن لنبي الله صلى الله عليه وسلم:كيف لنا أن نأتي المسجد ونحن ناءون [ عنك ] ؟، وكيف نشهد الصلاة ونحن ناءون عنك؟ فنـزلت: ( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا )

وقال سفيان، عن خُصَيْف، عن عكرمة:نـزلت في المساجد كلها.

وقال سعيد بن جبير. نـزلت في أعضاء السجود، أي:هي لله فلا تسجدوا بها لغيره. وذكروا عند هذا القول الحديث الصحيح، من رواية عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أمرت أن أسجد على سبعة أعظم:على الجبهة - أشار بيديه إلى أنفه- واليدين والركبتين وأطراف القدمين »

وقوله: ( وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ) قال العوفي، عن ابن عباس يقول:لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن كادوا يركبونه؛ من الحرص، لما سمعوه يتلو القرآن، ودنوا منه فلم يعلم بهم حتى أتاه الرسول فجعل يقرئه: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ يستمعون القرآن.

هذا قول، وهو مروي عن الزبير بن العوام، رضي الله عنه.

وقال ابن جرير:حدثني محمد بن معمر، حدثنا أبو مسلم، عن أبي عَوَانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:قال الجن لقومهم: ( وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ) قال:لما رأوه يصلي وأصحابه، يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده، قالوا:عجبوا من طواعية أصحابه له، قال:فقالوا لقومهم: ( لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا )

وهذا قول ثان، وهو مروي عن سعيد بن جبير أيضا.

وقال الحسن:لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « لا إله إلا الله » ويدعو الناس إلى ربهم، كادت العرب تلبد عليه جميعًا.

وقال قتادة في قوله: ( وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ) قال:تَلَبَّدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه، فأبى الله إلا أن ينصره ويمضيه ويظهره على من ناوأه.

هذا قول ثالث، وهو مروي عن ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقول ابن زيد، واختيار ابن جرير، وهو الأظهر لقوله بعده: ( قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ) أي:قال لهم الرسول- لما آذوه وخالفوه وكذبوه وتظاهروا عليه، ليبطلوا ما جاء به من الحق واجتمعوا على عداوته: ( إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي ) أي:إنما أعبد ربي وحده لا شريك له، وأستجير به وأتوكل عليه، ( وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا )

وقوله: ( قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا ) أي:إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ، وعبد من عباد الله ليس إليّ من الأمر شيء في هدايتكم ولا غوايتكم، بل المرجع في ذلك كله إلى الله عز وجل.

ثم أخبر عن نفسه أيضا أنه لا يجيره من الله أحد، أي:لو عصيته فإنه لا يقدر أحد على إنقاذي من عذابه، ( وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ) قال مجاهد، وقتادة، والسدي:لا ملجأ. وقال قتادة أيضا: ( قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ) أي:لا نصير ولا ملجأ. وفي رواية:لا ولي ولا موئل.

وقوله تعالى: ( إِلا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ ) قال بعضهم:هو مستثنى من قوله: ( لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا ) ( إِلا بَلاغًا ) ويحتمل أن يكون استثناء من قوله: ( لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ ) أي:لا يجيرني منه ويخلصني إلا إبلاغي الرسالة التي أوجب أداءها عليّ، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [ المائدة:67 ]

وقوله: ( وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ) أي:أنما أبلغكم رسالة الله، فمن يعص بعد ذلك فله جزاء على ذلك نار جهنم خالدين فيها أبدًا، أي لا محيد لهم عنها، ولا خروج لهم منها.

وقوله: ( حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا ) أي:حتى إذا رأى هؤلاء المشركون من الجن والإنس ما يوعدون يوم القيامة فسيعلمون يومئذ من أضعف ناصرًا وأقل عددًا، هم أم المؤمنون الموحدون لله عز وجل، أي:بل المشركين لا ناصر لهم بالكلية، وهم أقل عددًا من جنود الله عز وجل.

قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا ( 25 ) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ( 26 ) إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ( 27 ) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ( 28 )

يقول تعالى آمرًا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس:إنه لا علم له بوقت الساعة، ولا يدري أقريب وقتها أم بعيد؟ ( قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا ) ؟ أي:مدة طويلة.

وفي هذه الآية الكريمة دليل على أن الحديث الذي يتداوله كثير من الجهلة من أنه عليه السلام، لا يؤلف تحت الأرض، كذب لا أصل له، ولم نره في شيء من الكتب. وقد كان صلى الله عليه وسلم يسأل عن وقت الساعة فلا يجيب عنها، ولما تَبدَّى له جبريل في صورة أعرابي كان فيما سأله أن قال:يا محمد، فأخبرني عن الساعة؟ قال: « ما المسئول عنها بأعلم من السائل » ولما ناداه ذلك الأعرابي بصوت جَهوريّ فقال:يا محمد، متى الساعة؟ قال: « ويحك. إنها كائنة، فما أعددت لها؟ » . قال:أما إني لم أعد لها كثير صلاة ولا صيام، ولكني أحب الله ورسوله. قال: « فأنت مع من أحببت » . قال أنس:فما فرح المسلمون بشيء فرحهم بهذا الحديث

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا محمد بن مُصفَى، حدثنا محمد بن حمير حدثني أبو بكر بن أبي مريم، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « يا بني آدم، إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى، والذي نفسي بيده، إنما توعدون لآت »

وقد قال أبو داود في آخر « كتاب الملاحم » :حدثنا موسى بن سهيل، حدثنا حجاج بن إبراهيم، حدثنا ابن وهب، حدثني معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جُبَير، عن أبيه، عن أبي ثَعلبة الخُشني قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لن يعجز الله هذه الأمة من نصف يوم »

انفرد به أبو داود، ثم قال أبو داود:

حدثنا عمرو بن عثمان. حدثنا أبو المغيرة، حدثني صفوان، عن شُرَيح بن عبيد، عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إني لأرجو ألا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم » . قيل لسعد:وكم نصف يوم؟ قال:خمسمائة عام. انفرد به أبو داود

وقوله: ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ) هذه كقوله تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ [ البقرة:255 ] وهكذا قال هاهنا:إنه يعلم الغيب والشهادة، وإنه لا يطلع أحد من خلقه على شيء من علمه إلا مما أطلعه تعالى عليه؛ ولهذا قال: ( فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ) وهذا يعم الرسول الملكي والبشري.

ثم قال: ( فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ) أي:يختصه بمزيد معقبات من الملائكة يحفظونه من أمر الله، ويساوقونه على ما معه من وحي الله؛ ولهذا قال: ( لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا )

وقد اختلف المفسرون في الضمير الذي في قوله: ( لِيَعْلَمَ ) إلى من يعود؟ فقيل:إنه عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

قال ابن جرير:حدثنا ابن حميد، حدثنا يعقوب القمي عن جعفر، عن سعيد بن جبير في قوله: ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ) قال:أربعة حفظة من الملائكة مع جبريل، ( لِيَعْلَمَ ) محمد صلى الله عليه وسلم ( أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا )

ورواه ابن أبي حاتم من حديث يعقوب القمي به. وهكذا رواه الضحاك، والسدي، ويزيد بن أبي حبيب.

وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر عن قتادة: ( لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ ) قال:ليعلم نبي الله أن الرسل قد بلغت عن الله، وأن الملائكة حفظتها ودفعت عنها. وكذا رواه سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة. واختاره ابن جرير.

وقيل غير ذلك، كما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله: ( إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ) قال:هي معقبات من الملائكة يحفظون النبي من الشيطان، حتى يتبين الذي أرسل به إليهم، وذلك حين يقول، ليعلم أهل الشرك أن قد أبلغوا رسالات ربهم.

وكذا قال ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ ) قال:ليعلم من كذب الرسل أن قد أبلغوا رسالات ربهم. وفي هذا نظر.

وقال البغوي:قرأ يعقوب: « ليُعلَم » بالضم، أي:ليعلم الناس أن الرسل بُلّغوا.

ويحتمل أن يكون الضمير عائدًا إلى الله عز وجل، وهو قول حكاه ابن الجوزي في « زاد المسير » ويكون المعنى في ذلك:أنه يحفظ رسله بملائكته ليتمكنوا من أداء رسالاته، ويحفظ ما بُيِّن إليهم من الوحي؛ ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم، ويكون ذلك كقوله: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [ البقرة:143 ] وكقوله: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ [ العنكبوت:11 ] إلى أمثال ذلك، مع العلم بأنه تعالى يعلم الأشياء قبل كونها قطعا لا محالة؛ ولهذا قال بعد هذا: ( وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ) .

 

تفسير سورة المزمل

 

وهي مكية

قال الحافظ أبو بكر [ أحمد ] بن عمرو بن عبد الخالق البزار:حدثنا محمد بن موسى القطان الواسطي، حدثنا معلى بن عبد الرحمن، حدثنا شريك، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر قال:اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا:سموا هذا الرجل اسمًا تصدر الناس عنه. فقالوا:كاهن. قالوا:ليس بكاهن. قالوا:مجنون قالوا:ليس بمجنون. قالوا:ساحر. قالوا:ليس بساحر. فتفرق المشركون على ذلك، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فتزمل في ثيابه وتدثر فيها. فأتاه جبريل، عليه السلام، فقال: « يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ » « يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ » .

ثم قال البزار:معلى بن عبد الرحمن:قد حدث عنه جماعة من أهل العلم، واحتملوا حديثه، لكن تفرد بأحاديث لا يتابع عليها.

بسم الله الرحمن الرحيم

يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ( 1 ) قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا ( 2 ) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا ( 3 ) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا ( 4 ) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا ( 5 ) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا ( 6 ) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا ( 7 ) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا ( 8 ) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا ( 9 )

يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يترك التزمل، وهو:التغطي في الليل، وينهض إلى القيام لربه عز وجل، كما قال تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [ السجدة:16 ] وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ممتثلا ما أمره الله تعالى به من قيام الليل، وقد كان واجبًا عليه وحده، كما قال تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [ الإسراء:79 ] وهاهنا بين له مقدار ما يقوم، فقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا )

قال ابن عباس، والضحاك، والسدي: ( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ) يعني:يا أيها النائم . وقال قتادة:المزمل في ثيابه، وقال إبراهيم النخعي:نـزلت وهو متزمل بقطيفة.

وقال شبيب بن بِشر، عن عكرمة، عن ابن عباس: ( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ) قال:يا محمد، زُمّلتَ القرآن.

وقوله: ( نِصْفَهُ ) بدل من الليل ( أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ) أي:أمرناك أن تقوم نصف الليل بزيادة قليلة أو نقصان قليل، لا حرج عليك في ذلك.

وقوله: ( وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا ) أي:اقرأه على تمهل، فإنه يكون عونا على فهم القرآن وتدبره. وكذلك كان يقرأ صلوات الله وسلامه عليه، قالت عائشة:كان يقرأ السورة فيرتلها، حتى تكون أطول من أطول منها. وفي صحيح البخاري، عن أنس:أنه سئل عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:كانت مدًا، ثم قرأ ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) يمد بسم الله، ويمد الرحمن، ويمد الرحيم.

وقال ابن جُرَيج، عن ابن أبي مُلَيكة عن أم سلمة:أنها سُئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت:كان يقطع قراءته آية آية، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي.

وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن عاصم، عن زرّ، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « يقال لصاحب القرآن:اقرأ وارْقَ، ورَتِّل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منـزلتك عند آخر آية تقرؤها » .

ورواه أبو داود، والترمذي والنسائي، من حديث سفيان الثوري، به وقال الترمذي:حسن صحيح.

وقد قدمنا في أول التفسير الأحاديث الدالة على استحباب الترتيل وتحسين الصوت بالقراءة، كما جاء في الحديث: « زَيِّنوا القرآن بأصواتكم » ، و « ليس منا من لم يَتَغَنَّ بالقرآن » ، و « لقد أوتي هذا مزمار من مزامير آل داود » يعني:أبا موسى، فقال أبو موسى:لو كنت أعلم أنك كنت تسمع قراءتي لحبَّرْته لك تحبيرا.

وعن ابن مسعود أنه قال:لا تنثروه نثر الرمل ولا تهذّوه هذّ الشعر، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة. رواه البغوي.

وقال البخاري:حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا عمرو بن مرة:سمعت أبا وائل قال:جاء رجل إلى ابن مسعود فقال:قرأت المفصل الليلة في ركعة. فقال:هذّا كهذّ الشعر. لقد عرفت النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن. فذكر عشرين سورة من المُفَصّل سورتين في ركعة.

وقوله: ( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا ) قال الحسن، وقتادة:أي العمل به.

وقيل:ثقيلٌ وقت نـزوله؛ من عظمته. كما قال زيد بن ثابت:أنـزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي، فكادت تُرض فَخذي.

وقال الإمام أحمد:حدثنا قتيبة، حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمرو بن الوليد، عن عبد الله بن عمرو قال:سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت:يا رسول الله، هل تحس بالوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أسمعُ صَلاصيل، ثم أسكتُ عند ذلك، فما من مرة يوحى إلي إلا ظننت أن نفسي تفيض » ، تفرد به أحمد.

وفي أول صحيح البخاري عن عبد الله بن يوسف، عن مالك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة:أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم:كيف يأتيك الوحي؟ فقال: « أحيانا يأتيني في مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عَلَيّ، فَيَفْصِمُ عني وقد وَعَيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول » . قالت عائشة:ولقد رأيته ينـزل عليه الوحي صلى الله عليه وسلم في اليوم الشديد البرد، فَيَفْصِمُ عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا هذا لفظه.

وقال الإمام أحمد:حدثنا سليمان بن داود، أخبرنا عبد الرحمن، عن هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن عائشة قالت:إن كان ليوحَى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته، فتضرب بِجرَانها.

وقال ابن جرير:حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا ابن ثور، عن مَعْمَر، عن هشام بن عروة، عن أبيه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته، وضعت جرانها، فما تستطيع أن تحرك حتى يُسَرّى عنه.

وهذا مرسل. الجران:هو باطن العنق.

واختار ابن جرير أنه ثقيل من الوجهين معا، كما قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:كما ثقل في الدنيا ثقل يوم القيامة في الموازين.

وقوله: ( إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا ) قال أبو إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:نشأ:قام بالحبشة.

وقال عمر، وابن عباس، وابن الزبير:الليل كله ناشئة. وكذا قال مجاهد، وغير واحد، يقال:نشأ:إذا قام من الليل. وفي رواية عن مجاهد:بعد العشاء. وكذا قال أبو مِجْلَز، وقتادة، وسالم وأبو حازم، ومحمد بن المنكدر.

والغرض أن ناشئة الليل هي:ساعاته وأوقاته، وكل ساعة منه تسمى ناشئة، وهي الآنات. والمقصود أن قيام الليل هو أشد مواطأة بين القلب واللسان، وأجمع على التلاوة؛ ولهذا قال: ( هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا ) أي:أجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهمها من قيام النهار؛ لأنه وقت انتشار الناس ولَغَط الأصوات وأوقات المعاش.

[ وقد ] قال الحافظ أبو يعلى الموصلي:حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، حدثنا أبو أسامة، حدثنا الأعمش، أن أنس بن مالك قرأ هذه الآية: « إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأصوب قيلا » فقال له رجل:إنما نقرؤها ( وَأَقْوَمُ قِيلا ) فقال له:إن أصوب وأقوم وأهيأ وأشباه هذا واحد.

ولهذا قال: ( إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا ) قال ابن عباس، وعكرمة، وعطاء بن أبي مسلم:الفراغ والنوم.

وقال أبو العالية، ومجاهد، وابن مالك، والضحاك، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، وسفيان الثوري:فراغًا طويلا.

وقال قتادة:فراغا وبغية ومنقلبا.

وقال السدي: ( سَبْحًا طَوِيلا ) تطوعا كثيرًا.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: ( [ إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ ] سَبْحًا طَوِيلا ) قال:لحوائجك، فَأفْرغ لدينك الليل. قال:وهذا حين كانت صلاة الليل فريضة، ثم إن الله من على العباد فخففها ووضعها، وقرأ: ( قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا ) إلى آخر الآية، ثم قال: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ حتى بلغ: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ [ الليل نصفة أو ثلثه. ثم جاء أمر أوسع وأفسح وضع الفريضة عنه وعن أمته ] فقال:قال: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [ الإسراء:79 ] وهذا الذي قاله كما قاله.

والدليل عليه ما رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال:حدثنا يحيى، حدثنا سعيد ابن أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن زُرارة بن أوفى، عن سعيد بن هشام:أنه طلق امرأته ثم ارتحل إلى المدينة ليبيع عقارًا له بها ويجعله في الكُرَاع والسلاح، ثم يجاهد الروم حتى يموت. فلقي رهطًا من قومه فحدثوه أن رهطًا من قومه ستة أرادوا ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « أليس لكم فيّ أسوة ؟ » فنهاهم عن ذلك، فأشهدهم على رَجعتها، ثم رجع إلينا فأخبرنا أنه أتى ابن عباس فسأله عن الوتر فقال:ألا أنبئك بأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال:نعم قال:ائت عائشة فاسألها ثم ارجع إليّ فأخبرني بردها عليك. قال:فأتيت على حكيم بن أفلحَ فاستلحقتُه إليها، فقال:ما أنا بقاربها؛ إني نهيتها أن تقول في هاتين الشيعتين شيئًا، فأبت فيهما إلا مُضِيًا. فأقسمتُ عليه، فجاء معي، فدخلنا عليها فقالت:حكيم؟ وعرفته، قال:نعم. قالت:من هذا معك؟ قال:سعيد بن هشام. قالت:من هشام؟ قال:ابن عامر. قال:فترحمت عليه وقالت:نعم المرء كان عامر. قلت:يا أم المؤمنين، أنبئينى عن خلق رسول صلى الله عليه وسلم؟ قالت:ألست تقرأ القرآن؟ قلت:بلى قالت:فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن. فَهممت أن أقوم، ثم بدا لي قيامُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت:يا أم المؤمنين، أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم.ألست تقرأ هذه السورة: ( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ) ؟ قلت:بلى. قالت:فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهرًا، ثم أنـزل الله التخفيف في آخر هذه السورة، فصار قيام الليل تطوعًا من بعد فريضة. فهممت أن أقوم، ثم بدا لي وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت:يا أم المؤمنين، أنبئيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت:كنا نعد له سِواكه وطَهُوره، فيبعثه الله لما شاء أن يبعثه من الليل، فيتسوك ثم يتوضأ ثم يصلي ثماني ركعات لا يجلس فيهن إلا عند الثامنة، فيجلس ويذكر ربه تعالى ويدعو [ ويستغفر ثم ينهض وما يسلم. ثم يصلي التاسعة فيقعد فيحمد ربه ويذكره ويدعو ] ثم يسلم تسليمًا يسمعنا، ثم يصلي ركعتين وهو جالس بعد ما يسلم. فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني. فلما أسن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذه اللحم، أوتر بسبع، ثم صلى ركعتين وهو جالس بعدما يسلم، فتلك تسع يا بني. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها، وكان إذا شَغَله عن قيام الليل نوم أو وَجَع أو مرض، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة، ولا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة، ولا قام ليلة حتى أصبح، ولا صام شهرًا كاملا غير رمضان.

فأتيت ابن عباس فحدثته بحديثها، فقال:صدقت، أما لو كنت أدخل عليها لأتيتها حتى تشافهني مشافهة.

هكذا رواه الإمام أحمد بتمامه. وقد أخرجه مسلم في صحيحه، من حديث قتادة، بنحوه.

طريق أخرى عن عائشة في هذا المعنى:قال ابن جرير:حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا زيد بن الحُبَاب - وحدثنا ابن حميد، حدثنا مِهْران قالا جميعا، واللفظ لابن وكيع:عن موسى بن عُبَيدة، حدثني محمد بن طَحْلاء، عن أبي سلمة، عن عائشة قالت:كنت أجعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصيرا يُصَلي عليه من الليل، فتسامع الناس به فاجتمعوا، فخرج كالمغضب - وكان بهم رحيما، فخشي أن يكتب عليهم قيام الليل- فقال: « أيها الناس، اكلَفُوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يَمَلّ من الثواب حتى تملوا من العمل، وخير الأعمال ما ديمَ عليه » . ونـزل القرآن: ( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ) حتى كان الرجل يربط الحبل ويتعلق، فمكثوا بذلك ثمانية أشهر، فرأى الله ما يبتغون من رضوانه، فرحمهم فردهم إلى الفريضة، وترك قيام الليل.

ورواه ابن أبي حاتم من طريق موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف. والحديث في الصحيح بدون زيادة نـزول هذه السورة، وهذا السياق قد يُوهم أن نـزول هذه السورة بالمدينة، وليس كذلك، وإنما هي مكية. وقوله في هذا السياق:إن بين نـزول أولها وآخرها ثمانية أشهر - غريب؛ فقد تقدم في رواية أحمد أنه كان بينهما سنة.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة، عن مِسْعَر، عن سِماك الحنفي، سمعت ابن عباس يقول:أول ما نـزل:أول المزمل، كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان، وكان بين أولها وآخرها قريب من سنة.

وهكذا رواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب، عن أبي أسامة، به.

وقال الثوري ومحمد بن بشر العَبدي، كلاهما عن مسعر، عن سماك، عن ابن عباس:كان بينهما سنة. وروى ابن جرير، عن أبي كريب، عن وكيع، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، مثله.

وقال ابن جرير:حدثنا ابن حميد، حدثنا مِهْرَان، عن سفيان، عن قيس بن وهب، عن أبي عبد الرحمن قال:لما نـزلت: ( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ) قاموا حولا حتى ورمت أقدامهم وسُوقُهم، حتى نـزلت: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ قال:فاستراح الناس.

وكذا قال الحسن البصري.

وقال ابن أبي حاتم: [ حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا عُبَيد الله بن عمر القواريري، حدثنا معاذ بن هشام، حدثنا أبي ] عن قتادة، عن زُرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام قال:فقلت - يعني لعائشة- :أخبرينا عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت:ألست تقرأ: ( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ) ؟ قلت:بلى. قالت:فإنها كانت قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حتى انتفخت أقدامهم، وحُبس آخرها في السماء ستة عشر شهرًا، ثم نـزل.

وقال مَعْمَر، عن قتادة: ( قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا ) قاموا حولا أو حولين، حتى انتفخت سوقُهم وأقدامهم فأنـزل الله تخفيفها بعد في آخر السورة.

وقال ابن جرير:حدثنا ابن حُميد، حدثنا يعقوب القمي عن جعفر، عن سعيد - هو ابن جبير- قال:لما أنـزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم: ( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ) قال:مكث النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الحال عشر سنين يقوم الليل، كما أمره، وكانت طائفة من أصحابه يقومون معه، فأنـزل الله عليه بعد عشر سنين: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ إلى قوله: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ فخفف الله تعالى عنهم بعد عشر سنين.

ورواه ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن عمرو بن رافع، عن يعقوب القمي به.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا * [ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا ) فأمر الله نبيه والمؤمنين بقيام الليل إلا قليلا ] فشق ذلك على المؤمنين، ثم خفف الله عنهم ورحمهم، فأنـزل بعد هذا: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ إلى قوله: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ فوسع الله - وله الحمد- ولم يضيق.

وقوله: ( وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا ) أي:أكثر من ذكره، وانقطع إليه، وتفرغ لعبادته إذا فرغت من أشغالك، وما تحتاج إليه من أمور دنياك، كما قال: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ [ الشرح:7 ] أي:إذا فرغت من مهامك فانصب في طاعته وعبَادَته، لتكون فارغ البال. قاله ابن زيد بمعناه أو قريب منه.

وقال ابن عباس ومجاهد، وأبو صالح، وعطية، والضحاك، والسدي: ( وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا ) أي:أخلص له العبادة.

وقال الحسن:اجتهد وبتّل إليه نفسك.

وقال ابن جرير:يقال للعابد:متبتل، ومنه الحديث المروي:أنه نهى عن التَّبتُّل، يعني:الانقطاع إلى العبادة وترك التزوج.

وقوله: ( رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا ) أي:هو المالك المتصرف في المشارق والمغارب لا إله إلا هو، وكما أفردته بالعبادة فأفرده بالتوكل، ( فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا ) كما قال في الآية الأخرى: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [ هود:123 ] وكقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وآيات كثيرة في هذا المعنى، فيها الأمر بإفراد العبادة والطاعة لله، وتخصيصه بالتوكل عليه.

وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا ( 10 ) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا ( 11 ) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا وَجَحِيمًا ( 12 ) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا ( 13 ) يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلا ( 14 ) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا ( 15 ) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلا ( 16 ) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا ( 17 ) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولا ( 18 )

يقول تعالى آمرًا رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يقوله من كذبه من سفهاء قومه، وأن يهجرهم هجرًا جميلا وهو الذي لا عتاب معه. ثم قال له متوعدًا لكفار قومه ومتهددًا - وهو العظيم الذي لا يقوم لغضبه شيء- :

( وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ ) أي:دعني والمكذبين المترفين أصحابَ الأموال، فإنهم على الطاعة أقدر من غيرهم وهم يطالبون من الحقوق بما ليس عند غيرهم، ( وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا ) أي:رويدا، كما قال: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [ لقمان:24 ] ؛ ولهذا قال هاهنا: ( إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا ) وهي:القيود. قاله ابن عباس، وعكرمة، وطاوس، ومحمد بن كعب، وعبد الله بن بريدة، وأبو عمران الجوني، وأبو مِجلَز، والضحاك، وحماد بن أبي سلمان، وقتادة والسدي، وابن المبارك والثوري، وغير واحد، ( وَجَحِيمًا ) وهي السعير المضطرمة.

( وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ ) قال ابن عباس:ينشب في الحلق فلا يدخل ولا يخرج.

( وَعَذَابًا أَلِيمًا * يَوْمَ تَرْجُفُ الأرْضُ وَالْجِبَالُ ) أي:تزلزل، ( وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلا ) أي:تصير ككثبان الرمل بعد ما كانت حجارة صماء، ثم إنها تنسف نسفا فلا يبقى منها شيء إلا ذهب، حتى تصير الأرض قاعًا صفصفا، لا ترى فيها عوجًا، أي:واديا، ولا أمتا، أي:رابية، ومعناه:لا شيء ينخفض ولا شيء يرتفع.

ثم قال مخاطبًا لكفار قريش، والمراد سائر الناس: ( إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ ) أي:بأعمالكم، ( كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلا ) قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي، والثوري: ( أَخْذًا وَبِيلا ) أي:شديدا، أي فاحذروا أنتم أن تكذبوا هذا الرسول، فيصيبكم ما أصاب فرعون، حيث أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، كما قال تعالى: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى [ النازعات:25 ] وأنتم أولى بالهلاك والدمار إن كذبتم؛ لأن رسولكم أشرف وأعظم من موسى بن عمران. ويُروَى عن ابن عباس ومجاهد.

وقوله: ( فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا ) يحتمل أن يكون ( يَوْمًا ) معمولا لتتقون، كما حكاه ابن جرير عن قراءة ابن مسعود: « فكيف تخافون أيها الناس يوما يجعل الولدان شيبا إن كفرتم بالله ولم تصدقوا به » ؟ ويحتمل أن يكون معمولا لكفرتم، فعلى الأول:كيف يحصلُ لكم أمان من يوم هذا الفزع العظيم إن كفرتم؟ وعلى الثاني:كيف يحصل لكم تقوى إن كفرتم يوم القيامة وجحدتموه؟ وكلاهما معنى حسن، ولكن الأول أولى، والله أعلم.

ومعنى قوله: ( يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا ) أي:من شدة أهواله وزلازله وبلابله، وذلك حين يقول الله لآدم:ابعث بعث النار. فيقول مِن كم؟ فيقول:من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة.

قال الطبراني:حدثنا يحيى بن أيوب العلاف، حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا نافع بن يزيد، حدثنا عثمان بن عطاء الخراساني، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: ( يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا ) قال: « ذلك يوم القيامة، وذلك يوم يقول الله لآدم:قم فابعث من ذريتك بعثا إلى النار. قال:من كم يا رب؟ قال:من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، وينجو واحد » . فاشتد ذلك على المسلمين، وعرف ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال حين أبصر ذلك في وجوههم: « إن بني آدم كثير، وإن يأجوج ومأجوج من ولد آدم، وإنه لا يموت منهم رجل حتى يرثه لصلبه ألف رجل. ففيهم وفي أشباههم جنة لكم » .

هذا حديث غريب، وقد تقدم في أول سورة الحج ذكر هذه الأحاديث.

وقوله: ( السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ ) قال الحسن، وقتادة:أي بسببه من شدته وهوله. ومنهم من يعيد الضمير على الله عز وجل. وروي عن ابن عباس ومجاهد، وليس بقوي؛ لأنه لم يجر له ذكر هاهنا.

وقوله تعالى: ( كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولا ) أي:كان وعد هذا اليوم مفعولا أي واقعًا لا محالة، وكائنا لا محيد عنه.

إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا ( 19 )

يقول تعالى: ( إِنَّ هَذِهِ ) أي:السورة ( تَذْكِرَةٌ ) أي:يتذكر بها أولو الألباب؛ ولهذا قال: ( فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا ) أي:ممن شاء الله هدايته، كما قيده في السورة الأخرى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [ الإنسان:30 ] .

 

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 20 )

ثم قال: ( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ) أي:تارة هكذا، وتارة هكذا، وذلك كله من غير قصد منكم، ولكن لا تقدرون على المواظبة على ما أمركم به من قيام الليل؛ لأنه يشق عليكم؛ ولهذا قال: ( وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ) أي:تارة يعتدلان، وتارة يأخذ هذا من هذا، أو هذا من هذا، ( عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ ) أي:الفرض الذي أوجبه عليكم ( فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) أي:من غير تحديد بوقت، أي:ولكن قوموا من الليل ما تيسر. وعبر عن الصلاة بالقراءة، كما قال في سورة سبحان: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ أي:بقراءتك، وَلا تُخَافِتْ بِهَا

وقد استدل أصحاب الإمام أبي حنيفة، رحمه الله، بهذه الآية، وهي قوله: ( فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) على أنه لا يتعين قراءة الفاتحة في الصلاة، بل لو قرأ بها أو بغيرها من القرآن، ولو بآية، أجزأه؛ واعتضدوا بحديث المسيء صلاته الذي في الصحيحين: « ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن » .

وقد أجابهم الجمهور بحديث عبادة بن الصامت، وهو في الصحيحين أيضا:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب » وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « كل صلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خِدَاج، فهي خِدَاج، فهي خِدَاج، غير تمام » . وفي صحيح ابن خزيمة عن أبي هريرة مرفوعًا: « لا تجزئ صلاة من لم يقرأ بأم القرآن » .

وقوله: ( عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) أي:علم أن سيكون من هذه الأمة ذوو أعذار في ترك قيام الليل، من مرضى لا يستطيعون ذلك، ومسافرين في الأرض يبتغون من فضل الله في المكاسب والمتاجر، وآخرين مشغولين بما هو الأهم في حقهم من الغزو في سبيل الله وهذه الآية - بل السورة كلها- مكية، ولم يكن القتال شُرع بعد، فهي من أكبر دلائل النبوة، لأنه من باب الإخبار بالمغيبات المستقبلة. ولهذا قال: ( فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ) أي:قوموا بما تيسر عليكم منه.

قال ابن جرير:حدثنا يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن أبي رجاء محمد، قال:قلت للحسن:يا أبا سعيد، ما تقول في رجل قد استظهر القرآن كله عن ظهر قلبه، ولا يقوم به، إنما يصلي المكتوبة؟ قال:يتوسَّدُ القرآن، لعن الله ذاك، قال الله تعالى للعبد الصالح: وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ [ يوسف:68 ] وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قلت:يا أبا سعيد، قال الله: ( فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) ؟ قال:نعم، ولو خمس آيات.

وهذا ظاهر من مذهب الحسن البصري:أنه كان يرى حقًا واجبًا على حَمَلة القرآن أن يقوموا ولو بشيء منه في الليل؛ ولهذا جاء في الحديث:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل نام حتى أصبح، فقال: « ذاك رجل بال الشيطان في أذنه » . فقيل معناه:نام عن المكتوبة. وقيل:عن قيام الليل. وفي السنن: « أوتِرُوا يا أهل القرآن. » وفي الحديث الآخر: « من لم يوتر فليس منا » .

وأغرب من هذا ما حكي عن أبي بكر عبد العزيز، من الحنابلة، من إيجابه قيام شهر رمضان، فالله أعلم.

وقال الطبراني:حدثنا أحمد بن سعيد بن فرقد الجُدّي، حدثنا أبو [ حمة ] محمد بن يوسف الزبيدي، حدثنا عبد الرحمن، [ عن محمد بن عبد الله ] بن طاوس - من ولد طاوس- عن أبيه، عن طاوس، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ) قال: « مائة آية » .

وهذا حديث غريب جدًا لم أره إلا في معجم الطبراني، رحمه الله.

وقوله: ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ) أي:أقيموا صلاتكم الواجبة عليكم، وآتوا الزكاة المفروضة. وهذا يدل لمن قال:إن فرض الزكاة نـزل بمكة، لكن مقادير النّصب والمَخْرَج لم تُبَين إلا بالمدينة. والله أعلم.

وقد قال ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وغير واحد من السلف:إن هذه الآية نَسَخت الذي كان الله قد أوجبه على المسلمين أولا من قيام الليل. واختلفوا في المدة التي بينهما على أقوال كما تقدم. وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لذلك الرجل: « خمس صلوات في اليوم والليلة » . قال:هل عليّ غيرها؟ قال: « لا إلا أن تَطوّع » .

وقوله تعالى: ( وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ) يعني:من الصدقات، فإن الله يجازي على ذلك أحسن الجزاء وأوفره، كما قال: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [ البقرة:245 ] .

وقوله: ( وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ) أي:جميع ما تقدموه بين أيديكم فهو [ خير ] لكم حاصل، وهو خير مما أبقيتموه لأنفسكم في الدنيا.

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي:حدثنا أبو خَيْثَمة، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الحارث بن سُوَيد قال:قال عبد الله:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه؟ » . قالوا:يا رسول الله، ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه. قال: « اعلموا ما تقولون » . قالوا:ما نعلم إلا ذلك يا رسول الله؟ قال: « إنما مال أحدكم ما قَدّم ومال وارثه ما أخر » .

ورواه البخاري من حديث حفص بن غياث، والنسائي من حديث أبي معاوية، كلاهما عن الأعمش، به.

ثم قال تعالى: ( وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) أي:أكثروا من ذكره واستغفاره في أموركم كلها؛ فإنه غفور رحيم لمن استغفره.

آخر تفسير سورة « المزمل » ولله الحمد.

 

تفسير سورة المدثر

 

وهي مكية.

بسم الله الرحمن الرحيم

يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ( 1 ) قُمْ فَأَنْذِرْ ( 2 ) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ( 3 ) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ( 4 ) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ( 5 ) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ( 6 ) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ( 7 ) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ( 8 ) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ( 9 ) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ( 10 )

ثبت في صحيح البخاري [ من حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة ] عن جابر أنه كان يقول:أول شيء نـزل من القرآن: ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ )

وخالفه الجمهور فذهبوا إلى أن أول القرآن نـزولا قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ كما سيأتي [ بيان ] ذلك هناك.

قال البخاري:حدثنا يحيى، حدثنا وَكِيع، عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير قال:سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نـزل من القرآن، قال: ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) قلت:يقولون: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ؟ فقال أبو سلمة:سألت جابر بن عبد الله عن ذلك، وقلتُ له مثل ما قلتَ لي، فقال جابر:لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « جاورت بحرَاء، فلما قضيت جواري هبطتُ فنُوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئًا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئًا، ونظرت أمامي فلم أر شيئًا، ونظرت خلفي فلم أر شيئًا. فرفعت رأسي فرأيت شيئًا، فأتيت خديجة فقلت:دثروني. وصبوا علي ماء باردا. قال:فدثروني وصبوا علي ماء باردا قال:فنـزلت ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) »

هكذا ساقه من هذا الوجه. وقد رواه مسلم من طريق عُقَيل، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة قال:أخبرني جابر بن عبد الله:أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي: « فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتًا من السماء، فرفعت بصري قبَلَ السماء، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فَجَثَثْتُ منه حتى هَوَيتُ إلى الأرض، فجئت إلى أهلي، فقلت:زملوني زملوني. فزملوني ، فأنـزل الله ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ ) إلى: ( فَاهْجُرْ ) - قال أبو سلمة:والرجز:الأوثان - ثم حَميَ الوحيُ وتَتَابع » .

هذا لفظ البخاري وهذا السياق هو المحفوظ، وهو يقتضي أنه قد نـزل الوحي قبل هذا، لقوله: « فإذا الملك الذي جاءني بحراء » ، وهو جبريل حين أتاه بقوله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ثم إنه حصل بعد هذا فترة، ثم نـزل الملك بعد هذا. ووجه الجمع أن أول شيء نـزل بعد فترة الوحي هذه السورة، كما قال الإمام أحمد:

حدثنا حجاج، حدثنا لَيْث، حدثنا عُقَيل، عن ابن شهاب قال:سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول:أخبرني جابر بن عبد الله:أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ثم فتر الوحي عني فترة، فبينا أنا أمشي سمعتُ صوتًا من السماء، فرفعت بصري قِبَل السماء، فإذا الملك الذي جاءني [ بحراء الآن ] قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فَجُثت منه فَرَقًا، حتى هَوَيت إلى الأرض، فجئت أهلي فقلت لهم:زملوني زملوني. فزملوني، فأنـزل الله: ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) ثم حمي الوحي [ بعدُ ] وتتابع » . أخرجاه من حديث الزهري، به .

وقال الطبراني:حدثنا محمد بن علي بن شعيب السمسار، حدثنا الحسن بن بشر البَجَلي، حدثنا المعافى بن عمران، عن إبراهيم بن يزيد، سمعت ابن أبي مُلَيْكة يقول:سمعت ابن عباس يقول:إن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاما، فلما أكلوا. قال:ما تقولون في هذا الرجل؟ فقال بعضهم:ساحر. وقال بعضهم ليس بساحر. وقال بعضهم:كاهن. وقال بعضهم:ليس بكاهن. وقال بعضهم:شاعر. وقال بعضهم ليس بشاعر. وقال بعضهم: [ بل ] سحر يُؤثر. فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحزنَ وقَنعَ رأسه، وتَدَثَّر، فأنـزل الله ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ) .

فقوله ( قُمْ فَأَنْذِرْ ) أي:شمر عن ساق العزم، وأنذر الناس. وبهذا حصل الإرسال، كما حصل بالأول النبوة.

( وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) أي:عظم.

وقوله: ( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ) قال الأجلح الكندي، عن عكرمة، عن ابن عباس:أنه أتاه رجل فسأله عن هذه الآية: ( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ) قال:لا تلبسها على معصية ولا على غَدْرَة. ثم قال:أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفي:

فَــإني بحـمد اللـه لا ثـوبَ فَـاجر لبســتُ ولا مــن غَــدْرَة أتَقَنَّـعُ

وقال ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس [ في هذه الآية ] ( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ) قال:في كلام العرب:نَقِي الثياب. وفي رواية بهذا الإسناد:فطهر من الذنوب. وكذا قال إبراهيم، الشعبي، وعطاء.

وقال الثوري، عن رجل، عن عطاء، عن ابن عباس في هذه الآية: ( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ) قال:من الإثم. وكذا قال إبراهيم النخعي.

وقال مجاهد: ( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ) قال:نفسك، ليس ثيابه. وفي رواية عنه: ( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ) عملك فأصلح، وكذا قال أبو رَزِين. وقال في رواية أخرى: ( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ) أي:لست بكاهن ولا ساحر، فأعرض عما قالوا.

وقال قتادة: ( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ) أي:طهرها من المعاصي، وكانت العرب تسمي الرجل إذا نكث ولم يف بعهد الله إنه لَمُدنَس الثياب. وإذا وفى وأصلح:إنه لمطهر الثياب.

وقال عكرمة، والضحاك:لا تلبسها على معصية.

وقال الشاعر

إذا المـرءُ لـم يَدْنَس منَ اللؤم عِرْضُه فَكُـــلّ ردَاء يَرْتَديـــه جَــميلُ

وقال العوفي ، عن ابن عباس: ( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ) [ يعني ] لا تك ثيابك التي تلبس من مكسب غير طائب، ويقال:لا تلبس ثيابك على معصية.

وقال محمد بن سيرين: ( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ) أي:اغسلها بالماء.

وقال ابن زيد:كان المشركون لا يتطهرون، فأمره الله أن يتطهر، وأن يطهر ثيابه.

وهذا القول اختاره ابن جرير، وقد تشمل الآية جميع ذلك مع طهارة القلب، فإن العرب تطلق الثياب عليه، كما قال امرؤ القيس:

أفــاطمَ مَهـلا بعـض هَـذا التَــدَلُّل وَإن كُـنت قَـد أزْمَعْت هَجْري فأجْمِلي

وَإن تَـكُ قَـد سَـاءتك منـي خَليقَـةٌ فَسُــلّي ثِيَـابي مِـن ثيـابك تَنْسُـلِ

وقال سعيد بن جبير: ( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ) وقلبك ونيتك فطهر.

وقال محمد بن كعب القرظي، والحسن البصري:وخُلقَك فَحسّن.

وقوله: ( وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( وَالرُّجْزَ ) وهو الأصنام، فاهجر. وكذا قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة، والزهري، وابن زيد:إنها الأوثان.

وقال إبراهيم، والضحاك: ( وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) أي:اترك المعصية.

وعلى كل تقدير فلا يلزم تلبسه بشيء من ذلك، كقوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ [ الأحزاب:1 ] وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [ الأعراف:142 ] .

وقوله: ( وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ) قال ابن عباس:لا تعط العطية تلتمس أكثر منها. وكذا قال عكرمة، ومجاهد، وعطاء، وطاوس، وأبو الأحوص، وإبراهيم النخعي، والضحاك، وقتادة، والسدي، وغيرهم.

وروي عن ابن مسعود أنه قرأ: « ولا تمنن أن تستكثر » .

وقال الحسن البصري:لا تمنن بعملك على ربك تستكثره. وكذا قال الربيع بن أنس، واختاره ابن جرير. وقال خصيف، عن مجاهد في قوله: ( وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ) قال:لا تضعف أن تستكثر من الخير، قال تمنن في كلام العرب:تضعف.

وقال ابن زيد:لا تمنن بالنبوة على الناس، تستكثرهم بها، تأخذ عليه عوضا من الدنيا.

فهذه أربعة أقوال، والأظهر القول الأول، والله أعلم.

وقوله: ( وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ) أي:اجعل صبرك على أذاهم لوجه ربك عز وجل، قاله مجاهد. وقال إبراهيم النخعي:اصبر عطيتك لله تعالى .

وقوله: ( فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ) قال ابن عباس، ومجاهد والشعبي، وزيد بن أسلم، والحسن، وقتادة، والضحاك، والربيع بن أنس، والسدي، وابن زيد: ( النَّاقُورِ ) الصور. قال مجاهد:وهو كهيئة القرن.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أسباط بن محمد، عن مُطَرِّف، عن عطية العوفي، عن ابن عباس: ( فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ) فقال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته، ينتظر متى يؤمر فينفخ؟ » فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: « قولوا:حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا » .

وهكذا رواه الإمام أحمد عن أسباط، به ورواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب، عن ابن فضيل وأسباط، كلاهما عن مطرف، به. ورواه من طريق أخرى، عن العوفي، عن ابن عباس، به .

وقوله: ( فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ) أي:شديد.

( عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ) أي:غير سهل عليهم. كما قال تعالى يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ [ القمر:8 ] .

وقد روينا عن زُرَارة بن أوفى - قاضي البصرة- :أنه صلى بهم الصبح، فقرأ هذه السورة، فلما وصل إلى قوله: ( فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ) شَهِقَ شهقة، ثم خر ميتا، رحمه الله .

ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ( 11 ) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا ( 12 ) وَبَنِينَ شُهُودًا ( 13 ) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ( 14 ) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ( 15 ) كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا ( 16 ) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ( 17 )

يقول تعالى متوعدا لهذا الخبيث الذي أنعم الله عليه بنعم الدنيا، فكفر بأنعم الله، وبدلها كفرا، وقابلها بالجحود بآيات الله والافتراء عليها، وجعلها من قول البشر. وقد عدد الله عليه نعَمه حيث قال: ( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ) أي:خرج من بطن أمه وحده لا مال له ولا ولد، ثم رزقه الله،

( مَالا مَمْدُودًا ) أي:واسعًا كثيرًا قيل:ألف دينار. وقيل:مائة ألف دينار. وقيل:أرضا يستغلها. وقيل غير ذلك.

وجعل له ( وَبَنِينَ شُهُودًا ) قال مجاهد:لا يغيبون، أي:حضورا عنده لا يسافرون في التجارات، بل مَواليهم وأجراؤهم يتولون ذلك عنهم وهم قعود عند أبيهم، يتمتع بهم ويتَمَلَّى بهم. وكانوا - فيما ذكره السدي، وأبو مالك، وعاصم بن عمر بن قتادة- ثلاثة عشر. وقال ابن عباس، ومجاهد:كانوا عشرة. وهذا أبلغ في النعمة [ وهو إقامتهم عنده ] .

( وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ) أي:مكنته من صنوف المال والأثاث وغير ذلك،

( ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا ) أي:معاندا، وهو الكفر على نعمه بعد العلم.

قال الله: ( سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ) قال الإمام أحمد:

حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعة، عن دَرَّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ويل:واد في جهنم، يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره، والصَّعُود:جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفا، ثم يهوي به كذلك فيه أبدا » .

وقد رواه الترمذي عن عبد بن حُمَيد، عن الحسن بن موسى الأشيب، به ثم قال:غريب، لا نعرفه إلا من حديث ابن لَهِيعة عن دراج. كذا قال. وقد رواه ابن جرير، عن يونس، عن عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن دَرَّاج وفيه غرابة ونكارة.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو زُرْعَة وعلي بن عبد الرحمن - المعروف بعلان المصري - قال:حدثنا مِنْجاب، أخبرنا شريك، عن عمار الدُّهَنِيّ، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ) قال: « هو جبل في النار من نار يكلف أن يصعده، فإذا وضع يده ذابت، وإذا رفعها عادت، فإذا وضع رجله ذابت، وإذا رفعها عادت » .

ورواه البزار وابن جرير، من حديث شريك، به .

وقال قتادة، عن ابن عباس:صعود:صخرة [ في جهنم ] عظيمة يسحب عليها الكافر على وجهه.

وقال السدي:صعودا:صخرة ملساء في جهنم، يكلف أن يصعدها.

وقال مجاهد: ( سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ) أي:مشقة من العذاب. وقال قتادة:عذابا لا راحة فيه. واختاره ابن جرير.

 

إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ( 18 ) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ( 19 ) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ( 20 ) ثُمَّ نَظَرَ ( 21 ) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ( 22 ) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ( 23 ) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ( 24 ) إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ ( 25 ) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ( 26 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ( 27 ) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ ( 28 ) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ( 29 ) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ( 30 )

وقوله: ( إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ) أي:إنما أرهقناه صعودا، أي:قربناه من العذاب الشاق؛ لبعده عن الإيمان، لأنه فكر وقدر، أي:تَرَوَّى ماذا يقول في القرآن حين سُئل عن القرآن، ففكر ماذا يختلق من المقال، ( وَقَدَّرَ ) أي:تروى ، ( فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ) دعاء عليه،

( ثُمَّ نَظَرَ ) أي:أعاد النظرة والتروي. ( ثُمَّ عَبَسَ ) أي:قبض بين عينيه وقطب، ( وَبَسَرَ ) أي:كلح وكره، ومنه قول توبة بن الحُمَير الشاعر:

وَقَــد رَابَنـي منهـا صُـدُودٌ رَأيتُـه وَإعرَاضُهـا عَـن حـاجَتي وبُسُورُها

وقوله: ( ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ) أي:صُرف عن الحق، ورجع القهقرى مستكبرا عن الانقياد للقرآن،

( فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ) أي:هذا سحر ينقله محمد عن غيره عمن قبله ويحكيه عنهم؛

ولهذا قال: ( إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ ) أي:ليس بكلام الله.

وهذا المذكور في هذا السياق هو:الوليد بن المغيرة المخزومي، أحد رؤساء قريش - لعنه الله- وكان من خبره في هذا ما رواه العوفي، عن ابن عباس قال:دخل الوليد بن المغيرة على أبي بكر بن أبي قحافة فسأله عن القرآن، فلما أخبره خرج على قريش فقال:يا عجبا لما يقول ابن أبي كبشة. فوالله ما هو بشعر ولا بسحر ولا بهذْي من الجنون، وإن قوله لمن كلام الله. فلما سمع بذلك النفرُ من قريش ائتمروا فقالوا:والله لئن صبا الوليد لتصْبُوَنَّ قريش. فلما سمع بذلك أبو جهل بن هشام قال:أنا والله أكفيكم شأنه. فانطلق حتى دخل عليه بيته فقال للوليد:ألم تر قومك قد جمعوا لك الصدقة؟ فقال:ألستُ أكثرهم مالا وولدا. فقال له أبو جهل:يتحدثون أنك إنما تدخل على ابن أبي قحافة لتصيب من طعامه. فقال الوليد:أقد تحدث به عشيرتي؟! فلا والله لا أقرب ابن أبي قحافة، ولا عمر، ولا ابن أبي كبشة، وما قوله إلا سحر يؤثر. فأنـزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا إلى قوله: ( لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ )

وقال قتادة:زعموا أنه قال:والله لقد نظرت فيما قال الرجل فإذا هو ليس بشعر، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليعلو وما يعلى، وما أشك أنه سحر. فأنـزل الله: ( فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ) الآية، ( ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ) قبض ما بين عينيه وكلح.

وقال ابن جرير:حدثنا ابن عبد الأعلى، أخبرنا محمد بن ثور، عن مَعْمَر، عن عَبَّاد بن منصور، عن عكرمة:أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له. فبلغ ذلك أبا جهل بن هشام، فأتاه فقال:أي عم، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا. قال:لم؟ قال:يعطونكه، فإنك أتيت محمدًا تَتَعَرض لما قبله. قال:قد علمت قريش أني أكثرها مالا. قال:فقل فيه قولا يعلم قومك أنك منكر لما قال، وأنك كاره له. قال:فماذا أقول فيه؟ فوالله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقوله شيئًا من ذلك. والله إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يعلى. وقال:والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه. قال:فدعني حتى أفكر فيه. فلما فكر قال:إن هذا سحر يأثره عن غيره. فنـزلت: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا [ قال قتادة:خرج من بطن أمه وحيدا ] حتى بلغ: ( تِسْعَةَ عَشَرَ )

وقد ذكر محمد بن إسحاق وغير واحد نحوا من هذا. وقد زعم السدي أنهم لما اجتمعوا في دار الندوة ليجمعوا رأيهم على قول يقولونه فيه، قبل أن يقدم عليهم وفودُ العرب للحج ليصدّوهُم عنه، فقال قائلون:شاعر. وقال آخرون:ساحر. وقال آخرون:كاهن. وقال آخرون:مجنون. كما قال تعالى: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا [ الإسراء:48 ] كل هذا والوليد يفكر فيما يقوله فيه، ففكر وقدر، ونظر وعبس وبسر، فقال: ( إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ* إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ )

قال الله عز وجل: ( سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ) أي:سأغمره فيها من جميع جهاته.

ثم قال ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ) ؟ وهذا تهويل لأمرها وتفخيم.

ثم فسر ذلك بقوله: ( لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ ) أي:تأكل لحومهم وعروقهم وعَصَبهم وجلودهم، ثم تبدل غير ذلك، وهم في ذلك لا يموتون ولا يحيون، قاله ابن بريدة وأبو سنان وغيرهما.

وقوله: ( لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ) قال مجاهد:أي للجلد، وقال أبو رَزين:تلفح الجلد لفحة فتدعه أسود من الليل. وقال زيد بن أسلم:تلوح أجسادهم عليها. وقال قتادة: ( لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ) أي:حراقة للجلد. وقال ابن عباس:تحرق بشرة الإنسان.

وقوله: ( عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ) أي:من مقدمي الزبانية، عظيم خلقهم، غليظ خلقهم.

وقد قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو زرعة، حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا ابن أبي زائدة، أخبرني حريث، عن عامر، عن البراء في قوله: ( عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ) قال إن رهطا من اليهود سألوا رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خزنة جهنم. فقال:الله ورسوله أعلم. فجاء رجل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فنـزل عليه ساعتئذ: ( عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ) فأخبر أصحابه وقال: « ادعهم، أما إني سائلهم عن تُربَة الجنة إن أتوني، أما إنها دَرْمكة بيضاء » . فجاؤوه فسألوه عن خزنة جهنم، فأهوى بأصابع كفيه مرتين وأمسك الإبهام في الثانية، ثم قال: « أخبروني عن تربة الجنة » . فقالوا:أخبرهم يا ابن سلام. فقال:كأنها خُبزَة بيضاء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أما إن الخبز إنما يكون من الدّرمَك » .

هكذا وقع عند ابن أبي حاتم عن البراء، والمشهور عن جابر بن عبد الله، كما قال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا منده، حدثنا أحمد بن عَبدَة، أخبرنا سفيان ويحيى بن حكيم، حدثنا سفيان، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله قال:جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:يا محمد، غلبَ أصحابك اليوم. فقال: « بأي شيء؟ » قال:سألتهم يَهُود هل أعلمكم نبيكم عدة خزنة أهل النار؟ قالوا:لا نعلم حتى نسأل نبينا صلى الله عليه وسلم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أفغلب قوم سُئلوا عما لا يدرون فقالوا:لا ندرى حتى نسأل نبينا؟ عليَّ بأعداء الله، لكن سألوا نبيهم أن يريهم الله جهرة » . فأرسل إليهم فدعاهم. قالوا:يا أبا القاسم، كم عدد خزنة أهل النار؟ قال: « هكذا » ، وطبق كفيه، ثم طبق كفيه، مرتين، وعقد واحدة، وقال لأصحابه: « إن سئلتم عن تربة الجنة فهي الدَّرمك » . فلما سألوه فأخبرهم بعدة خزنة أهل النار، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما تربة الجنة؟ » فنظر بعضهم إلى بعض، فقالوا:خبزة يا أبا القاسم. فقال: « الخبز من الدَّرمك » .

وهكذا رواه الترمذي عند هذه الآية عن ابن أبي عمر، عن سفيان، به وقال هو والبزار: لا نعرفه إلا من حديث مجالد. وقد رواه الإمام أحمد، عن علي بن المديني، عن سفيان، فقص الدرمك فقط.

وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ( 31 ) كَلا وَالْقَمَرِ ( 32 ) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ( 33 ) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ( 34 ) إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ ( 35 ) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ ( 36 ) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ( 37 )

يقول تعالى: ( وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ ) أي:خُزَّانها، ( إِلا مَلائِكَةً ) أي: [ زبانية ] غلاظا شدادا. وذلك رد على مشركي قريش حين ذكر عدد الخزنة، فقال أبو جهل:يا معشر قريش، أما يستطيع كل عشرة منكم لواحد منهم فتغلبونهم ؟ فقال الله: ( وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً ) أي:شديدي الخَلْق لا يقاومون ولا يغالبون. وقد قيل:إن أبا الأشدين - واسمه:كَلَدَة بن أسيد بن خلف- قال:يا معشر قريش، اكفوني منهم اثنين وأنا أكفيكم منهم سبعة عشر، إعجابا منه بنفسه، وكان قد بلغ من القوة فيما يزعمون أنه كان يقف على جلد البقرة ويجاذبه عشرة لينتزعوه من تحت قدميه، فيتمزق الجلد ولا يتزحزح عنه. قال السهيلي:وهو الذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصارعته وقال:إن صرعتني آمنت بك، فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم مرارا، فلم يؤمن. قال:وقد نَسَب ابنُ إسحاق خبر المصارعة إلى ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب .

قلت:ولا منافاة بين ما ذكراه، والله أعلم.

( وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) أي:إنما ذكرنا عدتهم أنهم تسعةَ عشرَ اختبارًا منَّا للناس، ( لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ) أي:يعلمون أن هذا الرسول حق؛ فإنه نطق بمطابقة ما بأيديهم من الكتب السماوية المنـزلة على الأنبياء قبله.

( وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا ) أي:إلى إيمانهم. بما يشهدون من صدق إخبار نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، ( وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) أي:من المنافقين ( وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا ) ؟ أي:يقولون:ما الحكمة في ذكر هذا هاهنا؟ قال الله تعالى: ( كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) أي:من مثل هذا وأشباهه يتأكد الإيمان في قلوب أقوام، ويتزلزل عند آخرين، وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة.

وقوله: ( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ ) أي:ما يعلم عددهم وكثرتهم إلا هو تعالى، لئلا يتوهم متوهم أنهم تسعة عشر فقط، كما قد قاله طائفة من أهل الضلالة والجهالة ومن الفلاسفة اليونانيين. ومن تابعهم من الملتين الذين سمعوا هذه الآية، فأرادوا تنـزيلها على العقول العشرة والنفوس التسعة، التي اخترعوا دعواها وعجزوا عن إقامة الدلالة على مقتضاها، فأفهموا صدر هذه الآية وقد كفروا بآخرها، وهو قوله: ( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ )

وقد ثبت في حديث الإسراء المروي في الصحيحين وغيرهما. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في صفة البيت المعمور الذي في السماء السابعة: « فإذا هو يدخله في كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه آخر ما عليهم » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا أسود، حدثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن مورق، عن أبي ذر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحُقَّ لها أن تَئط، ما فيها موضع أصابع إلا عليه ملك ساجد، لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرًا، ولا تَلَذّذتم بالنساء على الفُرُشات، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل » . فقال أبو ذر:والله لوددتُ أني شجرة تُعضد.

ورواه الترمذي وابن ماجه، من حديث إسرائيل وقال الترمذي:حسن غريب، ويروى عن أبي ذر موقوفًا.

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني:حدثنا خير بن عرفة المصري، حدثنا عُرْوَة بن مروان الرقي، حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم بن مالك، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما في السموات السبع موضع قدم ولا شبر ولا كف إلا وفيه ملك قائم، أو ملك ساجد، أو ملك راكع، فإذا كان يوم القيامة قالوا جميعا:سبحانك! ما عبدناك حَقَّ عبادتك، إلا أنا لم نشرك بك شيئًا » . .

وقال محمد بن نصر المروزي في « كتاب الصلاة » :حدثنا عمرو بن زرارة، أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء، عن سعيد، عن قتادة، عن صفوان بن مُحْرِز، عن حكيم بن حزام قال:بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه إذ قال لهم: « هل تسمعون ما أسمع؟ » قالوا:ما نسمع من شيء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أسمع أطيط السماء وما تلام أن تَئطّ، ما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك راكع أو ساجد » .

وقال أيضا:حدثنا محمد بن عبد الله بن قهزاذ حدثنا أبو معاذ الفضل بن خالد النحوي، حدثنا عبيد بن سليمان الباهلي، سمعت الضحاك بن مزاحم، يحدث عن مسروق بن الأجدع، عن عائشة أنها قالت:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما في السماء الدنيا موضع قدم إلا وعليه ملك ساجد أو قائم، وذلك قول الملائكة: وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ [ الصاقات:164- 166 ] . .»

وهذا مرفوع غريب جدا ثم رواه عن محمود بن آدم، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي الضُّحى، عن مسروق، عن ابن مسعود أنه قال:إن من السماوات سماءً ما فيها موضع شبر إلا وعليه جبهة ملك أو قدماه قائما، ثم قرأ: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ .

ثم قال:حدثنا أحمد بن سيار:حدثنا أبو جعفر محمد بن خالد الدمشقي المعروف بابن أمه، حدثنا المغيرة بن عثمان بن عطية من بني عمرو بن عوف، حدثني سليمان بن أيوب [ من بني ] سالم بن عوف. حدثني عطاء بن زيد بن مسعود من بني الحبلي، حدثني سليمان بن عمرو بن الربيع، من بني سالم، حدثني عبد الرحمن بن العلاء، من بني ساعدة، عن أبيه العلاء بن سعد - وقد شهد الفتح وما بعده- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوما لجلسائه: « هل تسمعون ما أسمع؟ » قالوا:وما تسمع يا رسول الله؟ قال: « أطَّتِ السماء وحقّ لها أن تَئط، إنه ليس فيها موضع قَدَم إلا وعليه ملك قائم أو راكع أو ساجد، وقالَ الملائكة: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ وهذا إسناد غريب جدا.»

ثم قال:حدثنا [ محمد بن يحيى، حدثنا ] إسحاق بن محمد بن إسماعيل الفَروي، حدثنا عبد الملك بن قدامة، عن عبد الرحمن عن عبد الله بن ديناره، عن أبيه، عن عبد الله بن عمر:أن عمر جاء والصلاة قائمة، ونفر ثلاثة جلوس، أحدهم أبو جحش الليثي، فقال:قوموا فصلوا مع رسول الله. فقام اثنان وأبى أبو جحش أن يقوم، وقال:لا أقوم حتى يأتي رجل هو أقوى مني ذراعين، وأشد مني بطشًا فيصرعني، ثم يَدس وجهي في التراب. قال عمر:فصرعته ودسست وجهه في التراب، فأتى عثمان بن عفان فحجزني عنه، فخرج عمر مغضبا حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « ما رَأيَكَ يا أبا حفص؟ » . فذكر له ما كان منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن رضى عمر رحمةٌ، والله لوددْتُ أنك جئتني برأس الخبيث » ، فقام عمر يُوجّهُ نحوه، فلما أبعد ناداه فقال: « اجلس حتى أخبرك بغنى الرب عز وجل عن صلاة أبي جحش، إن لله في السماء الدنيا ملائكة خشوعًا لا يرفعون رءوسهم حتى تقوم الساعة. فإذا قامت رفعوا رءوسهم ثم قالوا:ربنا، ما عبدناك حق عبادتك، وإن لله في السماء الثانية ملائكة سجودًا لا يرفعون رءوسهم حتى تقوم الساعة فإذا قامت الساعة رفعوا رءوسهم، وقالوا:سبحانك! ما عبدناك حق عبادتك » فقال له عمر:وما يقولون يا رسول الله؟ فقال: « أما أهل السماء الدنيا فيقولون:سبحان ذي الملك والملكوت. وأما أهل السماء الثانية فيقولون:سبحان ذي العزة والجبروت. وأما أهل السماء الثالثة فيقولون:سبحان الحي الذي لا يموت. فقلها يا عمر في صلاتك » . فقال عمر:يا رسول الله، فكيف بالذي كنت علمتني وأمرتني أن أقوله في صلاتي؟ فقال: « قل هذا مرة وهذا مرة » . وكان الذي أمره به أن يقول: « أعوذ بعفوك من عقابك، وأعوذ برضاك من سخَطك، وأعوذ بك منك، جل وجهك » وهذا حديث غريب جدا، بل منكر نكارة شديدة، وإسحاق الفروي روى عنه البخاري، وذكره ابن حبان في الثقات، وضعفه أبو داود والنسائي والعقيلي والدارقطني. وقال أبو حاتم الرازي:كان صدوقا إلا أنه ذهب بصره فرُبما لقن، وكتبه صحيحة. وقال مرة:هو مضطرب، وشيخه عبد الملك بن قدامة أبو قتادة الجمحي:تكلم فيه أيضا. والعجب من الإمام محمد بن نصر كيف رواه ولم يتكلم عليه، ولا عَرَّف بحاله، ولا تعرض لضعف بعض رجاله؟! غير أنه رواه من وجه آخر عن سعيد بن جبير مرسلا بنحوه. ومن طريق أخرى عن الحسن البصري مرسلا قريبًا منه، ثم قال محمد بن نصر:

حدثنا محمد بن عبد الله بن قهزاذ، أخبرنا النضر، أخبرنا عباد بن منصور قال:سمعت عدي بن أرطاة وهو يخطبنا على منبر المدائن قال:سمعت رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن لله تعالى ملائكة تُرعَد فرائصهم من خيفته، ما منهم ملك تقطر منه دمعة من عينه إلا وقعت على ملك يصلي، وإن منهم ملائكة سجودًا منذ خلق الله السماوات والأرض لم يرفعوا رءوسهم ولا يرفعونها إلى يوم القيامة، وإن منهم ملائكة ركوعًا لم يرفعوا رءوسهم منذ خلق الله السماوات والأرض ولا يرفعونها إلى يوم القيامة، فإذا رفعوا رءوسهم نظروا إلى وجه الله عز وجل، قالوا:سبحانك! ما عبدناك حق عبادتك » .

وهذا إسناد لا بأس به.

وقوله: ( وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ) قال مجاهد وغير واحد: ( وَمَا هِيَ ) أي:النار التي وصفت، ( إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ )

ثم قال: ( كَلا وَالْقَمَرِ* وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ) أي:ولى، ( وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ) أي:أشرق، ( إِنَّهَا لإحْدَى الْكُبَرِ ) أي:العظائم، يعني:النار، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وغير واحد من السلف. ( نَذِيرًا لِلْبَشَرِ* لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ) أي:لمن شاء أن يقبل النّذارة ويهتدي للحق، أو يتأخر عنها ويولي ويردها.

كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ( 38 ) إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ ( 39 ) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ ( 40 ) عَنِ الْمُجْرِمِينَ ( 41 ) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ( 42 ) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ( 43 ) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ( 44 ) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ( 45 ) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ( 46 ) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ( 47 )

يقول تعالى مخبرًا أن: ( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) أي:معتقلة بعملها يوم القيامة، قاله ابن عباس وغيره: ( إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ ) فإنهم ( فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ* عَنِ الْمُجْرِمِينَ ) أي:يسألون المجرمين وهم في الغرفات وأولئك في الدركات قائلين لهم:

( مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ) أي:ما عبدنا ربنا ولا أحسنا إلى خلقه من جنسنا،

( وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ) أي:نتكلم فيما لا نعلم. وقال قتادة:كلما غوي غاو غوينا معه،

( وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ) يعني:الموت. كقوله: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [ الحجر:99 ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أما هو - يعني عثمان بن مظعون- فقد جاءه اليقين من ربه » .

 

فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ( 48 ) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ( 49 ) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ( 50 ) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ( 51 ) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً ( 52 ) كَلا بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ ( 53 ) كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ( 54 ) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ( 55 ) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ( 56 )

قال الله تعالى: ( فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) أي:من كان متصفا بهذه الصفات فإنه لا تنفعه يوم القيامة شفاعة شافع فيه؛ لأن الشفاعة إنما تنجع إذا كان المحل قابلا فأما من وافى الله كافرا يوم القيامة فإنه له النار لا محالة، خالدا فيها.

ثم قال تعالى: ( فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ) أي:فما لهؤلاء الكفرة الذين قبلك مما تدعوهم إليه وتذكرهم به معرضين،

( كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ* فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ) أي:كأنهم في نفارهم عن الحق، وإعراضهم عنه حُمُر من حمر الوحش إذا فرت ممن يريد صيدها من أسد، قاله أبو هريرة، وابن عباس - في رواية- عنه وزيد بن أسلم، وابنه عبد الرحمن. أو:رام، وهو رواية عن ابن عباس، وهو قول الجمهور.

وقال حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران عن ابن عباس:الأسد، بالعربية، ويقال له بالحبشية:قسورة، وبالفارسية:شير وبالنبطية:أويا.

( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً ) أي:بل يريد كل واحد من هؤلاء المشركين أن ينـزل عليه كتابًا كما أنـزل على النبي. قاله مجاهد وغيره، كقوله: وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [ الأنعام:124 ] ، وفي رواية عن قتادة:يريدون أن يؤتوا براءة بغير عمل.

فقوله: ( كَلا بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ ) أي:إنما أفسدهم عدم إيمانهم بها، وتكذيبهم بوقوعها.

ثم قال تعالى: ( كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ) أي:حقا إن القرآن تذكرة،

( فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّه ) كقوله وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ [ الإنسان:30 ] .

وقوله: ( هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) أي:هو أهل أن يُخاف منه، وهو أهل أن يَغفر ذنب من تاب إليه وأناب. قاله قتادة.

وقال الإمام أحمد:حدثنا زيد بن الحباب، أخبرني سهيل - أخو حزم - حدثنا ثابت البناني، عن أنس بن مالك قال:قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ( هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) وقال: « قال ربكم:أنا أهل أن أتقى، فلا يجعل معي إله، فمن اتقى أن يجعل معي إلها كان أهلا أن أغفر له » .

ورواه الترمذي، وابن ماجه من حديث زيد بن الحباب، والنسائي من حديث المعافي بن عمران كلاهما عن سُهَيل بن عبد الله القطعي، به وقال الترمذي:حسن غريب، وسهيل ليس بالقوي. ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه، عن هُدْبَة بن خالد، عن سُهَيل، به. وهكذا رواه أبو يعلى، والبَزار، والبَغَوي، وغيرهم، من حديث سُهَيل القُطَعي، به.

آخر تفسير سوره « المدثر » ولله الحمد والمنة

[ وحسبنا الله ونعم الوكيل ]

 

تفسير سورة القيامة

 

وهي مكية.

بسم الله الرحمن الرحيم

لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ( 1 ) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ( 2 ) أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ( 3 ) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ( 4 ) بَلْ يُرِيدُ الإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ( 5 ) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ( 6 ) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ( 7 ) وَخَسَفَ الْقَمَرُ ( 8 ) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ( 9 ) يَقُولُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ( 10 ) كَلا لا وَزَرَ ( 11 ) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ( 12 ) يُنَبَّأُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ( 13 ) بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ( 14 ) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ( 15 )

قد تقدم غير مرة أن المقسم عليه إذا كان منتفيًا، جاز الإتيان بلا قبل القسم لتأكيد النفي. والمقسوم عليه هاهنا هو إثبات الميعاد، والرد على ما يزعمه الجهلة من العباد من عدم بَعث الأجساد؛ ولهذا قال تعالى: ( لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) قال الحسن:أقسم بيوم القيامة ولم يقسم بالنفس اللوامة. وقال قتادة:بل أقسم بهما جميعًا. هكذا حكاه ابن أبي حاتم. وقد حكى ابن جرير، عن الحسن والأعرج أنهما قرآ: « لأقسم [ بيوم القيامة ] » ، وهذا يوجه قول الحسن؛ لأنه أثبت القسم بيوم القيامة ونفى القسم بالنفس اللوامة. والصحيح أنه أقسم بهما جميعا كما قاله قتادة رحمه الله، وهو المروي عن ابن عباس، وسعيد بن جُبَير، واختاره ابن جرير.

فأما يوم القيامة فمعروف، وأما النفس اللوامة، فقال قرة بن خالد، عن الحسن البصري في هذه الآية:إن المؤمن - والله- ما نراه إلا يلوم نفسه:ما أردت بكلمتي؟ ما أردت بأكلتي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ وإن الفاجر يمضي قُدُما ما يعاتب نفسه.

وقال جُوَيْبر:بلغنا عن الحسن أنه قال في قوله: ( وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) قال:ليس أحد من أهل السموات والأرض إلا يلوم نفسه يوم القيامة.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن صالح بن مسلم، عن إسرائيل، عن سِماك:أنه سأل عِكْرِمة عن قوله: ( وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) قال:يلوم على الخير والشر:لو فعلت كذا وكذا.

ورواه ابن جرير، عن أبي كُرَيْب، عن وَكِيع عن إسرائيل .

وقال ابن جرير:حدثنا محمد بن بشار، حدثنا مؤمل، حدثنا سفيان، عن ابن جُرَيج، عن الحسن بن مسلم، عن سعيد بن جُبَير في: ( وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) قال:تلوم على الخير والشر.

ثم رواه من وجه آخر عن سعيد أنه سأل ابن عباس عن ذلك:فقال:هي النفس اللؤوم .

وقال علي ابن أبي نجيح، عن مجاهد:تندم على ما فات وتلوم عليه.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:اللوامة:المذمومة.

وقال قتادة: ( اللَّوَّامَةِ ) الفاجرة.

قال ابن جرير:وكل هذه الأقوال متقاربة المعنى، الأشبه بظاهر التنـزيل أنها التي تلوم صاحبها على الخير والشر وتندم على ما فات.

وقوله: ( أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ) أي:يوم القيامة، أيظن أنا لا نقدر على إعادة عظامه وجمعها من أماكنها المتفرقة ؟ ( بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ) قال سعيد بن جُبَير والعَوفي، عن ابن عباس:أن نجعله خُفّا أو حافرًا. وكذا قال مجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والضحاك، وابن جرير. ووجَّهه ابنُ جرير بأنه تعالى لو شاء لجعل ذلك في الدنيا.

والظاهر من الآية أن قوله: ( قَادِرِينَ ) حال من قوله: ( نَجْمَعَ ) أي:أيظن الإنسان أنا لا نجمع عظامه؟ بلى سنجمعها قادرين على أن نُسَوِّي بنانه، أي:قدرتنا صالحة لجمعها، ولو شئنا لبعثناه أزيد مما كان، فتجعل بنانه - وهي أطراف أصابعه- مستوية. وهذا معنى قول ابن قتيبة، والزجاج.

وقوله: ( بَلْ يُرِيدُ الإنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ) قال سعيد، عن ابن عباس:يعني يمضي قدما.

وقال العوفي، عن ابن عباس: ( لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ) يعني:الأمل، يقول الإنسان:أعمل ثم أتوب قبل يوم القيامة، ويقال:هو الكفر بالحق بين يدي القيامة.

وقال مجاهد ( لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ) ليمضي أمامه راكبا رأسه. وقال الحسن:لا يلقى ابن آدم إلا تنـزع نفسه إلى معصية الله قدما قدما، إلا من عصمه الله.

ورُوي عن عكرِمة، وسعيد بن جُبَير، والضحاك، والسدي، وغير واحد من السلف:هو الذي يَعجَل الذنوبَ ويُسوّف التوبة.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:هو الكافر يكذب بيوم الحساب. وكذا قال ابن زيد، وهذا هو الأظهر من المراد؛ ولهذا قال بعده ( يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ) ؟ أي:يقول متى يكون يوم القيامة ؟ وإنما سؤاله سؤال استبعاد لوقوعه، وتكذيب لوجوده، كما قال تعالى: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ [ سبأ:29 ، 30 ] .

وقال تعالى ها هنا: ( فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ) قال أبو عمرو بن العلاء: ( بَرِقَ ) بكسر الراء، أي:حار. وهذا الذي قاله شبيه بقوله تعالى: لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ [ إبراهيم:43 ] ، بل ينظرون من الفزع هكذا وهكذا، لا يستقر لهم بصر على شيء؛ من شدة الرعب.

وقرأ آخرون: « بَرَقَ » بالفتح، وهو قريب في المعنى من الأول. والمقصود أن الأبصار تنبهر يوم القيامة وتخشع وتحار وتذل من شدة الأهوال، ومن عظم ما تشاهده يوم القيامة من الأمور.

وقوله: ( وَخَسَفَ الْقَمَرُ ) أي:ذهب ضوءه.

( وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ) قال مجاهد:كُوّرا. وقرأ ابن زيد عند تفسير هذه الآية: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ [ التكوير:1 ، 2 ] ورُوي عن ابن مسعود أنه قرأ: « وجُمع بين الشمس والقمر » .

وقوله: ( يَقُولُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ) أي:إذا عاين ابنُ آدم هذه الأهوال يوم القيامة، حينئذ يريد أن يفر ويقول:أين المفر؟ أي:هل من ملجأ أو موئل ؟ قال الله تعالى: ( كَلا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ) قال ابن مسعود، وابن عباس، وسعيد بن جُبَير، وغير واحد من السلف:أي لا نجاة.

وهذه كقوله: مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ [ الشورى:47 ] أي:ليس لكم مكان تتنكرون فيه، وكذا قال هاهنا ( لا وَزَرَ ) أي:ليس لكم مكان تعتصمون فيه؛ ولهذا قال: ( إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ) أي:المرجع والمصير.

ثم قال تعالى: ( يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ) أي:يخبر بجميع أعماله قديمها وحديثها، أولها وآخرها، صغيرها وكبيرها، كما قال تعالى: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [ الكهف:49 ] وهكذا قال هاهنا: ( بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ) أي:هو شهيد على نفسه، عالم بما فعله ولو اعتذر وأنكر، كما قال تعالى: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [ الإسراء:14 ] .

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) يقول:سمعُه وبصرُه ويداه ورجلاه وجوارحُه.

وقال قتادة:شاهد على نفسه. وفي رواية قال:إذا شئت - والله- رأيته بصيرا بعيوب الناس وذنوبهم غافلا عن ذنوبه، وكان يقال:إن في الإنجيل مكتوبا:يا ابن آدم، تُبصر القَذَاة في عين أخيك، وتترك الجِذْل في عينك لا تبصره.

وقال مجاهد: ( وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ) ولو جادل عنها فهو بصير عليها. وقال قتادة: ( وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ) ولو اعتذر يومئذ بباطل لا يقبل منه. وقال السدي: ( وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ) حجته. وكذا قال ابن زيد، والحسن البصري، وغيرهم. واختاره ابن جرير.

وقال قتادة، عن زرارة، عن ابن عباس: ( وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ) يقول:لو ألقى ثيابه.

وقال الضحاك:ولو أرخى ستوره، وأهل اليمن يسمون الستر:المعذار.

والصحيح قول مجاهد وأصحابه، كقوله: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [ الأنعام:23 ] وكقوله يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ [ المجادلة:18 ] .

وقال العوفي، عن ابن عباس: ( وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ) هي الاعتذار ألم تسمع أنه قال: لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ [ غافر:52 ] وقال وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ [ النحل:87 ] فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ [ النحل:28 ] وقولهم وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ

لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ( 16 ) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ( 17 ) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ( 18 ) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ( 19 )

هذا تعليم من الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم في كيفية تلقيه الوحي من الملك، فإنه كان يبادر إلى أخذه، ويسابق الملك في قراءته، فأمره الله عز وجل إذا جاءه الملك بالوحي أن يستمع له، وتكفل له أن يجمعه في صدره، وأن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه، وأن يبينه له ويفسره ويوضحه. فالحالة الأولى جمعه في صدره، والثانية تلاوته، والثالثة تفسيره وإيضاح معناه؛ ولهذا قال: ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ) أي:بالقرآن، كما قال: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [ طه:114 ] .

ثم قال: ( إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ ) أي:في صدرك، ( وَقُرْآنَهُ ) أي:أن تقرأه، ( فَإِذَا قَرَأْنَاهُ ) أي:إذا تلاه عليك الملك عن الله عز وجل ، ( فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ) أي:فاستمع له، ثم اقرأه كما أقرأك، ( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) أي:بعد حفظه وتلاوته نبينه لك ونوضحه، ونلهمك معناه على ما أردنا وشرعنا.

وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرحمن، عن أبي عَوَانة، عن موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنـزيل شدة، فكان يحرك شفتيه - قال:فقال لي ابن عباس:أنا أحرك شفتي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرك شفتيه. وقال لي سيعد:وأنا أحرك شفتي كما رأيت ابن عباس يحرك شفتيه- فأنـزل الله عز وجل ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ) قال:جمعه في صدرك، ثم تقرأه، ( فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ) فاستمع له وأنصت، ( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) فكان بعد ذلك إذا انطلق جبريل قرأه كما أقرأه .

وقد رواه البخاري ومسلم، من غير وجه، عن موسى بن أبي عائشة، به ولفظ البخاري:فكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأه كما وعده الله عز وجل .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو يحيى التيمي، حدثنا موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنـزل عليه الوحي يلقى منه شدة، وكان إذا نـزل عليه عرف في تحريكه شفتيه، يتلقى أوله ويحرك به شفتيه خشية أن ينسى أوله قبل أن يفرغ من آخره، فأنـزل الله: ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ )

وهكذا قال الشعبي، والحسن البصري، وقتادة، ومجاهد، والضحاك، وغير واحد:إن هذه الآية نـزلت في ذلك.

وقد روى ابن جرير من طريق العوفي، عن ابن عباس: ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ) قال:كان لا يفتر من القراءة مخافة أن ينساه، فقال الله: ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنَا ) أن نجمعه لك ( وَقُرْآنَهُ ) أن نقرئك فلا تنسى.

وقال ابن عباس وعطية العوفي: ( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) تبيين حلاله وحرامه. وكذا قال قتادة.

 

كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ( 20 ) وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ ( 21 ) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ( 22 ) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ( 23 ) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ( 24 ) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ( 25 )

وقوله: ( كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ* وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ ) أي:إنما يحملهم على التكذيب بيوم القيامة ومخالفة ما أنـزله الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم من الوحي الحق والقرآن العظيم:إنهم إنما همتهم إلى الدار الدنيا العاجلة، وهم لاهون متشاغلون عن الآخرة.

ثم قال تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ) من النضارة، أي حسنة بَهِيَّة مشرقة مسرورة، ( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) أي:تراه عيانا، كما رواه البخاري، رحمه الله، في صحيحه: « إنكم سترون ربكم عَيَانا » . وقد ثبتت رؤية المؤمنين لله عز وجل في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح، من طرق متواترة عند أئمة الحديث، لا يمكن دفعها ولا منعها؛ لحديث أبي سعيد وأبي هريرة - وما في الصحيحين- :أن ناسا قالوا:يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: « هل تُضَارُّون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سَحَاب؟ » قالوا:لا. قال: « فإنكم تَرَون ربكم كذلك » . وفي الصحيحين عن جرير قال:نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القمر ليلة البدر فقال: « إنكم تَرَون ربكم كما ترون هذا القمر، فإن استطعتم ألا تُغلَبوا على صلاة قبل طلوع الشمس ولا قبل غروبها فافعلوا » وفي الصحيحين عن أبي موسى قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « جَنَّتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فِضَّة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى الله إلا رِدَاء الكبرياء على وجهه في جنة عدن » . وفي أفراد مسلم، عن صهيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إذا دخل أهلُ الجنة الجنة » قال: « يقول الله تعالى:تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون:ألم تُبَيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ » قال: « فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم، وهي الزيادة » . ثم تلا هذه الآية: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [ يونس:26 ] .

وفي أفراد مسلم، عن جابر في حديثه: « إن الله يَتَجلَّى للمؤمنين يضحك » - يعني في عرصات القيامة- ففي هذه الأحاديث أن المؤمنين ينظرون إلى ربهم عز وجل في العرصات، وفي روضات الجنات.

وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو معاوية، حدثنا عبد الملك بن أبجر، حدثنا ثُوَير بن أبي فاختة، عن ابن عمر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن أدنى أهل الجنة منـزلة لينظر في ملكه ألفي سنة، يرى أقصاه كما يرى أدناه، ينظر إلى أزواجه وخدمه. وإن أفضلهم منـزلة لينظر إلى وجه الله كل يوم مرتين » .

ورواه الترمذي عن عبد بن حميد، عن شَبابة، عن إسرائيل، عن ثُوَير قال: « سمعت ابن عمر.. » . فذكره، قال: « ورواه عبد الملك بن أبجر، عن ثُوَير، عن مجاهد، عن ابن عمر، قوله » . وكذلك رواه الثوري، عن ثُوَير، عن مجاهد، عن ابن عمر، لم يرفعه ولولا خشية الإطالة لأوردنا الأحاديث بطرقها وألفاظها من الصحاح والحسان والمسانيد والسنن، ولكن ذكرنا ذلك مفرقا في مَواضِعَ من هذا التفسير، وبالله التوفيق . وهذا بحمد الله مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة، كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام. وهُدَاة الأنام.

ومن تأول ذلك بأن المراد بـ ( إِلَى ) مفرد الآلاء، وهي النعم، كما قال الثوري، عن منصور، عن مجاهد: ( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) فقال تنتظر الثواب من ربها. رواه ابن جرير من غير وجه عن مجاهد. وكذا قال أبو صالح أيضا - فقد أبعد هذا القائل النجعة، وأبطل فيما ذهب إليه. وأين هو من قوله تعالى: كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ؟ [ المطففين:15 ] ، قال الشافعي، رحمه الله:ما حَجَب الفجار إلا وقد عَلم أن الأبرار يرونه عز وجل. ثم قد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما دل عليه سياق الآية الكريمة، وهي قوله: ( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) قال ابن جرير: حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا آدم، حدثنا المبارك عن الحسن: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ) قال:حسنة، ( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) قال تنظر إلى الخالق، وحُقّ لها أن تَنضُر وهي تنظر إلى الخالق .

وقوله: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةَ ) هذه وجوه الفجار تكون يوم القيامة باسرة. قال قتادة:كالحة. وقال السدي:تغير ألوانها. وقال ابن زيد ( بَاسِرَةٌ ) أي:عابسة.

( تَظُنُّ ) أي:تستيقن، ( أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ) قال مجاهد:داهية. وقال قتادة:شر. وقال السدي:تستيقن أنها هالكة. وقال ابن زيد:تظن أن ستدخل النار.

وهذا المقام كقوله: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [ آل عمران:106 ] وكقوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [ عبس:38 - 42 ] وكقوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً إلى قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ [ الغاشية:2 - 10 ] في أشباه ذلك من الآيات والسياقات.

كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ( 26 ) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ( 27 ) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ( 28 ) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ( 29 ) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ( 30 ) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى ( 31 ) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ( 32 ) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ( 33 ) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ( 34 ) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ( 35 ) أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ( 36 ) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ( 37 ) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ( 38 ) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى ( 39 ) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ( 40 )

يخبر تعالى عن حالة الاحتضار وما عنده من الأهوال - ثبتنا الله هنالك بالقول الثابت- فقال تعالى: ( كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ) إن جعلنا ( كَلا ) رداعة فمعناها:لست يا ابن آدم تكذب هناك بما أخبرت به، بل صار ذلك عندك عيانا. وإن جعلناها بمعنى ( حقا ) فظاهر، أي:حقا إذا بلغت التراقي، أي:انتزعت روحك من جسدك وبلغت تراقيك، والتراقي:جمع ترقوة، وهي العظام التي بين ثغرة النحر والعاتق، كقوله: فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [ الواقعة:83 - 87 ] . وهكذا قال هاهنا: ( كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ) ويذكر هاهنا حديث بُسْر بن جِحاش الذي تقدم في سورة « يس » . والتراقي:جمع ترقوة، وهي قريبة من الحلقوم.

( وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ) قال:عكرمة، عن ابن عباس:أي من راق يرقى؟ وكذا قال أبو قلابة: ( وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ) أي:من طبيب شاف. وكذا قال قتادة، والضحاك، وابن زيد.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا نصر بن علي، حدثنا روح بن المسيب أبو رجاء الكلبي، حدثنا عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس: ( وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ) قال:قيل:من يرقى بروحه:ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ فعلى هذا يكون من كلام الملائكة.

وبهذا الإسناد، عن ابن عباس في قوله: ( وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ) قال:التفت عليه الدنيا والآخرة. وكذا قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ) يقول:آخر يوم في الدنيا، وأول يوم من أيام الآخرة، فتلتقي الشدة بالشدة إلا من رحم الله.

وقال عكرمة: ( وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ) الأمر العظيم بالأمر العظيم. وقال مجاهد:بلاء ببلاء. وقال الحسن البصري في قوله: ( وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ) هما ساقاك إذا التفتا . وفي رواية عنه:ماتت رجلاه فلم تحملاه، وقد كان عليها جوالا. وكذا قال السدي، عن أبي مالك.

وفي رواية عن الحسن:هو لفهما في الكفن.

وقال الضحاك: ( وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ) اجتمع عليه أمران:الناس يجهزون جسده، والملائكة يجهزون روحه.

وقوله: ( إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ) أي:المرجع والمآب، وذلك أن الروح ترفع إلى السماوات، فيقول الله عز وجل:ردوا عبدي إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى. كما ورد في حديث البراء الطويل. وقد قال الله تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ* ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [ الأنعام:61 ، 62 ] .

وقوله: ( فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ) هذا إخبار عن الكافر الذي كان في الدار الدنيا مكذبا للحق بقلبه، متوليا عن العمل بقالبه، فلا خير فيه باطنا ولا ظاهرا، ولهذا قال: ( فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ) أي:جَذلا . أشرا بَطرا كسلانا، لا همة له ولا عمل، كما قال: وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ [ المطففين:34 ] . وقال إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ أي:يرجع بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا [ الانشقاق:13 - 15 ] .

وقال الضحاك:عن ابن عباس: ( ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ) [ أي ] . يختال. وقال قتادة، وزيد بن أسلم:يتبختر.

قال الله تعالى: ( أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ) وهذا تهديد ووعيد أكيد منه تعالى للكافر به المتبختر في مشيته، أي:يحق لك أن تمشي هكذا وقد كفرت بخالقك وبارئك، كما يقال في مثل هذا على سبيل التهكم والتهديد كقوله: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [ الدخان:49 ] . و كقوله: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ [ المرسلات:46 ] ، وكقوله فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ [ الزمر:15 ] ، وكقوله اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [ فصلت:40 ] . إلى غير ذلك.

وقد قال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن سنان الواسطي، حدثنا عبد الرحمن - يعني ابن مهدي- عن إسرائيل، عن موسى بن أبي عائشة قال:سألت سعيد بن جبير قلت: ( أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ) ؟ قال:قاله النبي صلى الله عليه وسلم لأبي جهل، ثم نـزل به القرآن.

وقال أبو عبد الرحمن النسائي:حدثنا إبراهيم بن يعقوب . حدثنا أبو النعمان، حدثنا أبو عَوَانة - ( ح ) وحدثنا أبو داود:حدثنا محمد بن سليمان . حدثنا أبو عوانة- عن موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جبير قال:قلت لابن عباس: ( أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ) ؟ قال:قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أنـزله الله عز وجل .

قال ابن أبي حاتم:وحدثنا أبي، حدثنا هشام بن خالد، حدثنا شعيب عن إسحاق، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ) وعيد على أثر وعيد، كما تسمعون، وزعموا أن عدو الله أبا جهل أخذ نَبيّ الله بمجامع ثيابه، ثم قال: « أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى » . فقال عدو الله أبو جهل:أتوعدني يا محمد؟ والله لا تستطيع أنت ولا ربك شيئا، وإني لأعز من مشى بين جبليها.

وقوله: ( أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ) قال السدي:يعني:لا يبعث.

وقال مجاهد، والشافعي، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم:يعني لا يؤمر ولا ينهى.

والظاهر أن الآية تعم الحالين، أي:ليس يترك في هذه الدنيا مهملا لا يؤمر ولا ينهى، ولا يترك في قبره سدى لا يبعث، بل هو مأمور منهي في الدنيا، محشور إلى الله في الدار الآخرة. والمقصود هنا إثبات المعاد، والرد على من أنكره من أهل الزيغ والجهل والعناد ، ولهذا قال مستدلا على الإعادة بالبداءة فقال.

( أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ) ؟ أي:أما كان الإنسان نطفة ضعيفة من ماء مهين، يمنى يراق من الأصلاب في الأرحام . ( ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ) أي:فصار علقة، ثم مضغة، ثم شُكّل ونفخ فيه الروح، فصار خلقا آخر سَويًا سليم الأعضاء، ذكرا أو أنثى بإذن الله وتقديره؛ ولهذا قال: ( فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى )

ثم قال: ( أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ) أي:أما هذا الذي أنشأ هذا الخلق السوي من هذه النطفة الضعيفة بقادر على أن يعيده كما بدأه؟ وتناولُ القدرة للإعادة إما بطريق الأولى بالنسبة إلى البداءة، وإما مساوية على القولين في قوله: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [ الروم:27 ] . والأول أشهر كما تقدم في سورة « الروم » بيانه وتقريره، والله أعلم.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا شبابة، عن شعبة، عن موسى بن أبي عائشة، عن آخر:أنه كان فوق سطح يقرأ ويرفع صوته بالقرآن، فإذا قرأ: ( أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ) ؟ قال:سبحانك اللهم فبلى. فسئل عن ذلك فقال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك. وقال أبو داود، رحمه الله:حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن موسى بن أبي عائشة قال:كان رجل يصلي فوق بيته، فكان إذا قرأ: ( أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ) ؟ قال سبحانك، فبلى، فسألوه عن ذلك فقال:سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تفرد به أبو داود ولم يسم هذا الصحابي، ولا يضر ذلك.

وقال أبو داود أيضا:حدثنا عبد الله بن محمد الزهري، حدثنا سفيان، حدثني إسماعيل بن أمية:سمعت أعرابيا يقول:سمعت أبا هُرَيرة يقول:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من قرأ منكم بالتين والزيتون فانتهى إلى آخرها: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ؟ فليقل:بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين. ومن قرأ: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فانتهى إلى: ( أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ) ؟ فليقل:بلى. ومن قرأ: وَالْمُرْسَلاتِ فبلغ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ؟ فليقل:آمنا بالله » .

ورواه أحمد، عن سفيان بن عيينة. ورواه الترمذي عن ابن أبي عمر، عن سفيان بن عيينة . وقد رواه شعبة، عن إسماعيل بن أمية قال:قلت له:من حدثك؟ قال رجل صدق، عن أبي هريرة

وقال ابن جرير:حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ) ذُكِر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال: « سبحانك وبلى » .

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن سنان الواسطي، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس أنه مر بهذه الآية: ( أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ) ؟، قال:سبحانك؛ فبلى.

آخر تفسير سورة « القيامة » ولله الحمد والمنة

 

تفسير سورة الإنسان

 

وهي مكية.

قد تقدم في صحيح مسلم، عن ابن عباس:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة « الم تَنـزيلُ السجدة »« هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ »

وقال عبد الله بن وهب:أخبرنا ابن زيد:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه السورة: « هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ » وقد أنـزلت عليه وعنده رجل أسود، فلما بلغ صفة الجنان، زفر زفرة فخرجت نفسه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أخرج نفس صاحبكم - أو قال:أخيكم- الشوقُ إلى الجنة » . مرسل غريب .

بسم الله الرحمن الرحيم

هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ( 1 ) إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ( 2 ) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ( 3 )

يقول تعالى مخبرًا عن الإنسان أنه أوجده بعد أن لم يكن شيئًا يذكر لحقارته وضعفه، فقال: ( هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ) ؟

ثم بين ذلك فقال: ( إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ ) أي:أخلاط. والمشج والمشيج:الشيء الخَليط ، بعضه في بعض.

قال ابن عباس في قوله: ( مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ ) يعني:ماء الرجل وماء المرأة إذا اجتمعا واختلطا، ثم ينتقل بعد من طور إلى طور، وحال إلى حال، ولون إلى لون. وهكذا قال عكرمة، ومجاهد، والحسن، والربيع بن أنس:الأمشاج:هو اختلاط ماء الرجل بماء المرأة.

وقوله: ( نَبْتَلِيهِ ) أي:نختبره، كقوله: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا [ الملك:2 ] . ( فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ) أي:جعلنا له سمعا وبصرًا يتمكن بهما من الطاعة والمعصية.

وقوله: ( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ ) أي:بيناه له ووضحناه وبصرناه به، كقوله: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [ فصلت:17 ] ، وكقوله: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [ البلد:10 ] ، أي:بينا له طريق الخير وطريق الشر. وهذا قول عكرمة، وعطية، وابن زيد، ومجاهد - في المشهور عنه- والجمهور.

ورُوي عن مجاهد، وأبي صالح، والضحاك، والسدي أنهم قالوا في قوله: ( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ ) يعني خروجه من الرحم. وهذا قول غريب، والصحيح المشهور الأول.

وقوله: ( إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ) منصوب على الحال من « الهاء » في قوله: ( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ ) تقديره:فهو في ذلك إما شقي وإما سعيد، كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم، عن أبي مالك الأشعري قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كل الناس يَغْدو، فبائع نفسه فموبقها أو مُعْتقها » . وتقدم في سورة « الروم » عند قوله: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [ الروم:30 ] من رواية جابر بن عبد الله قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كل مولود يولد على الفطرة حتى يُعربَ عنه لسانه، فإذا أعرب عنه لسانه، فإما شاكرًا وإما كفورًا » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو عامر، حدثنا عبد الله بن جعفر، عن عثمان بن محمد، عن المقبري، عن أبي هُرَيرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ما من خارج يخرج إلا ببابه رايتان:رايةٌ بيد مَلَك، وراية بيد شَيطان، فإن خرج لما يُحِبّ اللهُ اتبعَه المَلَك برايته، فلم يزل تحت راية الملك حتى يرجع إلى بيته. وإن خرج لما يُسخط الله اتبعه الشيطان برايته، فلم يزل تحت راية الشيطان، حتى يرجع إلى بيته » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن ابن خُثَيم، عن عبد الرحمن بن سابط، عن جابر بن عبد الله:أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عُجرَة: « أعاذك الله من إمارة السفهاء » . قال:وما إمارة السفهاء؟ قال: « أمراء يكونون من بعدي، لا يهتدون بهداي، ولا يستَنّونَ بسنتي، فمن صَدّقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم، فأولئك ليسوا مني ولست منهم، ولا يَردُون على حوضي. ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يُعِنهم على ظلمهم، فأولئك مني وأنا منهم، وسيردون على حوضي. يا كعب بن عُجرَة، الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة، والصلاة قربان - أو قال:برهان- يا كعبَ بنَ عجرَة، إنه لا يدخل الجنة لحم نبت من سُحْت، النار أولى به. يا كعب، الناس غَاديان، فمبتاعُ نفسَه فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها » .

ورواه عن عَفّان، عن وُهَيب ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، به .

إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالا وَسَعِيرًا ( 4 ) إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ( 5 )

يخبر تعالى عما أرصده للكافرين من خلقه به من السلاسل والأغلال والسعير، وهو اللهب والحريق في نار جهنم، كما قال: إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [ غافر:71 ، 72 ] .

ولما ذكر ما أعده لهؤلاء الأشقياء من السعير قال بعده: ( إِنَّ الأبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ) وقد علم ما في الكافور من التبريد والرائحة الطيبة، مع ما يضاف إلى ذلك من اللذاذة في الجنة.

 

عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ( 6 ) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ( 7 ) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ( 8 ) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا ( 9 ) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ( 10 ) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ( 11 ) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ( 12 )

قال الحسن:برد الكافور في طيب الزنجبيل؛ ولهذا قال: ( عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ) أي:هذا الذي مُزج لهؤلاء الأبرار من الكافور هو عين يشرب بها المقربون من عباد الله صرفا بلا مزج ويَرْوَوْنَ بها؛ ولهذا ضمن يشرَب « يروى » حتى عداه بالباء، ونصب ( عَيْنًا ) على التمييز.

قال بعضهم:هذا الشراب في طيبه كالكافور. وقال بعضهم:هو من عين كافور. وقال بعضهم:يجوز أن يكون منصوبًا بـ ( يَشْرَبُ ) حكى هذه الأقوال الثلاثة ابنُ جرير.

وقوله: ( يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ) أي:يتصرفون فيها حيث شاؤوا وأين شاؤوا، من قصورهم ودورهم ومجالسهم ومحالهم.

والتفجير هو الإنباع، كما قال تعالى: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا [ الإسراء:90 ] . وقال: وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا [ الكهف:33 ] .

وقال مجاهد: ( يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ) يقودونها حيث شاؤوا، وكذا قال عكرمة، وقتادة. وقال الثوري:يصرفونها حيث شاؤوا.

وقوله: ( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ) أي:يتعبدون لله فيما أوجبه عليهم من [ فعل ] الطاعات الواجبة بأصل الشرع، وما أوجبوه على أنفسهم بطريق النذر.

قال الإمام مالك، عن طلحة بن عبد الملك الأيلي، عن القاسم بن مالك، عن عائشة، رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يَعصي الله فلا يَعصِه » ، رواه البخاري من حديث مالك .

ويتركون المحرمات التي نهاهم عنها خيفة من سوء الحساب يوم المعاد، وهو اليوم الذي شره مستطير، أي:منتشر عام على الناس إلا من رَحِمَ الله.

قال ابن عباس:فاشيًا. وقال قتادة:استطار - والله- شرّ ذلك اليوم حتى مَلأ السماوات والأرض.

قال ابن جرير:ومنه قولهم:استطار الصدع في الزجاجة واستطال. ومنه قول الأعشى:

فَبَــانَتْ وَقَـد أسْـأرت فـي الفُـؤا د صَدْعًــا, عـلى نَأيهـا مُسـتَطيرًا

يعني:ممتدا فاشيا.

وقوله: ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ ) قيل:على حب الله تعالى. وجعلوا الضمير عائدًا إلى الله عز وجل لدلالة السياق عليه. والأظهر أن الضمير عائد على الطعام، أي:ويطعمون الطعام في حال محبتهم وشهوتهم له، قاله مجاهد، ومقاتل، واختاره ابن جرير، كقوله تعالى: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ [ البقرة:177 ] ، وكقوله تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [ آل عمران:92 ] .

وروى البيهقي، من طريق الأعمش، عن نافع قال:مرض ابن عمر فاشتهى عنبا - أول ما جاء العنب- فأرسلت صفية - يعني امرأته- فاشترت عنقودًا بدرهم، فاتبع الرسولَ السائل، فلما دخل به قال السائل:السائل. فقال ابن عمر:أعطوه إياه. فأعطوه إياه. ثم أرسلت بدرهم آخر فاشترت عنقودًا فاتبع الرسولَ السائلُ، فلما دخل قال السائل:السائل. فقال ابن عمر:أعطوه إياه. فأعطوه إياه. فأرسلت صفية إلى السائل فقالت:والله إن عُدتَ لا تصيبُ منه خيرًا أبدًا. ثم أرسلت بدرهم آخر فاشترت به .

وفي الصحيح: « أفضل الصدقة أن تَصَدّقَ وأنت صحيح، شحيح، تأمل الغنى، وتخشى الفقر » أي:في حال محبتك للمال وحرصك عليه وحاجتك إليه؛ ولهذا قال تعالى: ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ) أما المسكين واليتيم، فقد تقدم بيانهما وصفتهما. وأما الأسير:فقال سعيد بن جبير، والحسن، والضحاك:الأسير:من أهل القبلة. وقال ابن عباس:كان أسراؤهم يومئذ مشركين. ويشهد لهذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأسارى، فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الغداء، وهكذا قال سعيد بن جبير، وعطاء، والحس، وقتادة.

وقد وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإحسان إلى الأرقاء في غير ما حديث، حتى إنه كان آخر ما أوصى أن جعل يقول: « الصلاةَ وما ملكت أيمانكم » .

وقال عكرمة:هم العبيد - واختاره ابن جرير- لعموم الآية للمسلم والمشرك.

قال مجاهد:هو المحبوس، أي:يطعمون لهؤلاء الطعام وهم يشتهونه ويحبونه، قائلين بلسان الحال: ( إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ ) أي:رجاءَ ثواب الله ورضاه ( لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا ) أي:لا نطلب منكم مجازاة تكافئونا بها ولا أن تشكرونا عند الناس.

قال مجاهد وسعيد بن جبير:أما والله ما قالوه بألسنتهم، ولكن علم الله به من قلوبهم، فأثنى عليهم به ليرغب في ذلك راغب.

( إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ) أي:إنما نفعل هذا لعل الله أن يرحمنا ويتلقانا بلطفه، في اليوم العبوس القمطرير.

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس ( عَبُوسًا ) ضيقا، ( قَمْطَرِيرًا ) طويلا.

وقال عكرمة وغيره، عنه، في قوله: ( يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ) أي:يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عَرَق مثل القَطرَان.

وقال مجاهد: ( عَبُوسًا ) العابس الشفتين، ( قَمْطَرِيرًا ) قال:تقبيض الوَجه بالبُسُور.

وقال سعيد بن جبير، وقتادة:تعبس فيه الوجوه من الهول، ( قَمْطَرِيرًا ) تقليص الجبين وما بين العينين، من الهول.

وقال ابن زيد:العبوس:الشر. والقمطرير:الشديد.

وأوضح العبارات وأجلاها وأحلاها، وأعلاها وأولاها - قولُ ابن عباس، رضي الله عنه.

قال ابن جرير:والقمطرير هو:الشديد؛ يقال:هو يوم قمطرير ويوم قُماطِر، ويوم عَصِيب وعَصَبْصَب، وقد اقمطرّ اليومُ يقمطرّ اقمطرارا، وذلك أشد الأيام وأطولها في البلاء والشدة، ومنه قول بعضهم:

بنَـي عَمّنـا, هـل تَذكُـرونَ بَلاءنَا ? عَلَيكــم إذَا مـا كـانَ يـومُ قُمَـاطرُ

قال الله تعالى: ( فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ) وهذا من باب التجانس البليغ، ( فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ ) أي:آمنهم مما خافوا منه، ( وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً ) أي:في وجوههم، ( وَسُرُورًا ) أي:في قلوبهم. قاله الحسن البصري، وقتادة، وأبو العالية، والربيع بن أنس. وهذه كقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ [ عبس:38 ، 39 ] . وذلك أن القلب إذا سُرَّ استنار الوجه، قال كعب بن مالك في حديثه الطويل:وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ، استنار وجهه حتى كأنه قطعة قَمَر وقالت عائشةُ:دخل عَلَيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرورا تَبرُقُ أسَاريرُ وَجْهه . الحديث.

وقوله: ( وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا ) أي:بسبب صبرهم أعطاهم ونَوّلهم وبوّأهم ( جَنَّةً وَحَرِيرًا ) أي:منـزلا رحبا، وعيشا رَغَدًا ولباسًا حَسَنًا.

وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة هشام بن سليمان الدّارَاني قال:قرئ على أبي سليمان الداراني سورة: ( هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ ) فلما بلغ القارئ إلى قوله: ( وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ) قال بما صبروا على ترك الشهوات في الدنيا، ثم أنشد:

كَـــم قَتيــل بشَــهوةٍ وأســير أفّ مِــنْ مُشـتَهِي خِـلاف الجَـميل

شَــهوَاتُ الإنْســان تورثـه الـذُّل وَتُلْقيــه فــي البَــلاء الطَّــويل

مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا ( 13 ) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا ( 14 ) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا ( 15 ) قَوَارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ( 16 ) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلا ( 17 ) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلا ( 18 ) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا ( 19 ) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا ( 20 ) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ( 21 ) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا ( 22 )

يخبر تعالى عن أهل الجنة وما هم فيه من النعيم المقيم، وما أسبغ عليهم من الفضل العَميم فقال: ( مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ ) وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة « الصافات » ، وذكر الخلاف في الاتكاء:هل هو الاضطجاع، أو التمرفق، أو التربع أو التمكن في الجلوس؟ وأن الأرائك هي السُّرر تحت الحجال.

وقوله: ( لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا ) أي:ليس عندهم حَرّ مزعج، ولا برد مؤلم، بل هي مزاج واحد دائم سَرْمَدْيّ، لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا [ الكهف:108 ] .

( وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا ) أي:قريبة إليهم أغصانها، ( وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا ) أي:متى تعاطاه دنا القطْفُ إليه وتدلى من أعلى غصنه، كأنه سامع طائع، كما قال تعالى في الآية الأخرى: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ [ الرحمن:54 ] وقال تعالى قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ [ الحاقة:23 ]

قال مجاهد: ( وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا ) إن قام ارتفعت بقَدْره، وإن قعد تَدَلَّتْ له حتى ينالها، وإن اضطجع تَدَلَّت له حتى ينالها، فذلك قوله: ( تَذْلِيلا )

وقال قتادة:لا يرد أيديهم عنها شوكٌ ولا بُعدُ.

وقال مجاهد:أرض الجنة من وَرق، وترابها المسك، وأصول شجرها من ذهب وفضة، وأفنانها من اللؤلؤ الرطب والزبرجد والياقوت، والوَرَق والثمر بين ذلك. فمن أكل منها قائما لم يؤذه، ومن أكل منها قاعدا لم يؤذه، ومن أكل منها مضطجعًا لم يؤذه.

وقوله: ( وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ ) أي:يطوف عليهم الخَدَم بأواني الطعام، وهي من فضة، وأكواب الشراب وهي الكيزان التي لا عرى لها ولا خراطيم.

وقوله : ( قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ ) فالأول منصوب بخبر « كان » أي:كانت قوارير. والثاني منصوب إما على البدلية أو تمييز؛ لأنه بينه بقوله: ( قَوَارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ )

قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن البصري، وغير واحد:بياض الفضة في صفاء الزجاج، والقوارير لا تكون إلا من زجاج. فهذه الأكواب هي من فضة، وهي مع هذا شفافة يرى ما في باطنها من ظاهرها، وهذا مما لا نظير له في الدنيا.

قال ابن المبارك، عن إسماعيل، عن رجل، عن ابن عباس:ليس في الجنة شيء إلا قد أعطيتم في الدنيا شبهه إلا قوارير من فضة. رواه ابن أبي حاتم.

وقوله: ( قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ) أي:على قدر ريّهم، لا تزيد عنه ولا تنقص، بل هي مُعَدّة لذلك، مقدرة بحسب ريّ صاحبها. هذا معنى قول ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وأبي صالح، وقتادة، وابن أبزى، وعبد الله بن عُبَيد الله بن عمير، وقتادة، والشعبي، وابن زيد. وقاله ابن جرير وغير واحد. وهذا أبلغ في الاعتناء والشرف والكرامة.

وقال العَوفي، عن ابن عباس: ( قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ) قدرت للكف. وهكذا قال الربيع بن أنس. وقال الضحاك:على قدر أكُفّ الخُدّام. وهذا لا ينافي القول الأول، فإنها مقدرة في القَدْر والرّي.

وقوله: ( وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلا ) أي:ويسقون - يعني الأبرار أيضا- في هذه الأكواب ( كَأْسًا ) أي:خمرًا، ( كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلا ) فتارة يُمزَج لهم الشراب بالكافور وهو بارد، وتارة بالزنجبيل وهو حار، ليعتدل الأمر، وهؤلاء يمزج لهم من هذا تارة ومن هذا تارة. وأما المقربون فإنهم يشربون من كل منهما صِرْفًا، كما قاله قتادة وغير واحد . وقد تقدم قوله: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ وقال هاهنا: ( عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلا ) أي:الزنجبيل عين في الجنة تسمى سلسبيلا.

قال عكرمة:اسم عين في الجنة. وقال مجاهد:سميت بذلك لسلاسة سيلها وحِدّة جَريها.

وقال قتادة: ( عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلا ) عين سَلِسَة مُستَقِيد ماؤها.

وحكى ابنُ جرير عن بعضهم أنها سميت بذلك لسلاستها في الحَلْق. واختار هو أنها تَعُمّ ذلك كلَّه، وهو كما قال.

وقوله تعالى: ( وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا ) أي:يطوف على أهل الجنة للخدْمَة ولدانٌ من ولدان الجنة ( مُخَلَّدُونَ ) أي:على حالة واحدة مخلدون عليها، لا يتغيرون عنها، لا تزيد أعمارهم عن تلك السن. ومن فسرهم بأنهم مُخَرّصُونَ في آذانهم الأقرطة، فإنما عبر عن المعنى بذلك؛ لأن الصغير هو الذي يليق له ذلك دون الكبير.

وقوله: ( إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا ) أي:إذا رأيتهم في انتشارهم في قضاء حوائج السادة، وكثرتهم، وصباحة وجوههم، وحسن ألوانهم وثيابهم وحليهم، حسبتهم لؤلؤا منثورا. ولا يكون في التشبيه أحسن من هذا، ولا في المنظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن.

قال قتاده، عن أبي أيوب، عن عبد الله بن عمرو:ما من أهل الجنة من أحد إلا يسعى عليه ألف خادم، كل خادم على عمل ما عليه صاحبه.

وقوله: ( وَإِذَا رَأَيْتَ ) أي:وإذا رأيت يا محمد، ( ثَمَّ ) أي:هناك ، يعني في الجنة ونعيمها وسَعَتها وارتفاعها وما فيها من الحَبْرَة والسرور، ( رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا ) أي:مملكةً لله هُناك عظيمةً وسلطانًا باهرًا.

وثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول لآخر أهل النار خروجا منها، وآخر أهل الجنة دخولا إليها:إن لك مثلَ الدنيا وعشرة أمثالها.

وقد قَدّمنا في الحديث المَرويّ من طريق ثُوَير بن أبي فاختة، عن ابن عمر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن أدنى أهل الجنة منـزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة ينظر إلى أقصاه كما ينظر إلى أدناه » . فإذا كان هذا عطاؤه تعالى لأدنى من يكون في الجنة، فما ظنك بما هو أعلى منـزلة، وأحظى عنده تعالى.

وقد روى الطبراني هاهنا حديثًا غريبًا جدًا فقال:حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا محمد بن عمار الموصلي، حدثنا عفيف بن سالم، عن أيوب بن عتبة، عن عطاء، عن ابن عمر قال:جاء رجل من الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:فقال له رسول الله: « سل واستفهم » . فقال:يا رسول الله، فُضّلْتُم علينا بالصور والألوان والنبوة، أفرأيتَ إن آمنتُ بما آمنتَ به وعملتُ بمثل ما عملتَ به، إني لكائن معكَ في الجنة؟ قال: « نعم، والذي نفسي بيده، إنه لَيُرَى بياض الأسود في الجنة من مسيرة ألف عام » . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من قال:لا إله إلا الله، كان له بها عَهدٌ عند الله، ومن قال:سبحان الله وبحمده، كتب له مائة ألف حسنة، وأربعة وعشرون ألف حسنة » . فقال رجل:كيف نهلك بعد هذا يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الرجل ليأتي يوم القيامة بالعمل لو وُضِعَ على جبل لأثقله، فتقوم النعمة - أو:نعَم الله- فتكاد تستنفذ ذلك كله، إلا أن يَتَغَمّده الله برحمته » . ونـزلت هذه السورة: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ إلى قوله: ( وَمُلْكًا كَبِيرًا ) فقال الحبشي:وإن عيني لترى ما ترى عيناك في الجنة؟ قال: « نعم » . فاستبكى حتى فاضت نفسه. قال ابن عمر:فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُدليه في حُفرَته بيده .

وقوله: ( عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ ) أي:لباس أهل الجنة فيها الحرير، ومنه سندس، وهو رفيع الحرير كالقمصان ونحوها مما يلي أبدانهم، والإستبرق منه ما فيه بريق ولمعان، وهو مما يلي الظاهر، كما هو المعهود في اللباس ( وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ ) وهذه صفة الأبرار، وأما المقربون فكما قال: يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ [ الحج:23 ]

ولما ذكر تعالى زينة الظاهر بالحرير والحلي قال بعده: ( وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ) أي:طهر بواطنهم من الحَسَد والحقد والغل والأذى وسائر الأخلاق الرّديَّة، كما روينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال:إذا انتهى أهلُ الجنة إلى باب الجنة وَجَدوا هنالك عينين فكأنما ألهموا ذلك فشربوا من إحداهما [ فأذهب الله ] ما في بطونهم من أذى، ثم اغتسلوا من الأخرى فَجَرت عليهم نضرةُ النعيم.

وقوله: ( إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا ) أي:يقال لهم ذلك تكريما لهم وإحسانا إليهم كقوله: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [ الحاقة:24 ] وكقوله: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [ الأعراف:43 ]

وقوله: ( وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا ) أي:جزاكم الله على القليل بالكثير.

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلا ( 23 ) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا ( 24 ) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلا ( 25 )

يقول تعالى ممتنًا على رسوله صلى الله عليه وسلم بما نـزله عليه من القرآن العظيم تنـزيلا ( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ) أي:كما أكرمتُكَ بما أنـزلتُ عليك، فاصبر على قضائه وقَدَره، واعلم أنه سَيُدَبرك بحسن تدبيره، ( وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا ) أي:لا تطع الكافرين والمنافقين إن أرادوا صَدّك عما أنـزل إليك بل بَلّغ ما أنـزل إليك من ربك، وتوكل على الله؛ فإن الله يعصمك من الناس. فالآثم هو الفاجر في أفعاله، والكفور هو الكافر بقلبه.

( وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلا ) أي:أولَ النهار وآخره.

 

وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَوِيلا ( 26 ) إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلا ( 27 ) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلا ( 28 ) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا ( 29 ) وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ( 30 ) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( 31 )

( وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَوِيلا ) كقوله: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [ الإسراء:79 ] وكقوله: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا [ المزمل:1- 4 ] .

ثم قال:منكرًا على الكفار ومن أشبههم في حُبّ الدنيا والإقبال عليها والانصباب إليها، وترك الدار الآخرة وراء ظهورهم: ( إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلا ) يعني:يوم القيامة.

ثم قال: ( نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ ) قال ابن عباس، ومجاهد، وغير واحد:يعني خَلْقَهم. ( وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلا ) أي:وإذا شئنا بعثناهم يوم القيامة، وبَدلناهم فأعدناهم خلقا جديدا. وهذا استدلال بالبداءة على الرجعة.

وقال ابن زيد، وابن جرير: ( وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلا ) [ أي ] :وإذا شئنا أتينا بقوم آخرين غيرهم، كقوله: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا [ النساء:133 ] وكقوله: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [ إبراهيم:19، 20 ، وفاطر 16، 17 ] .

ثم قال تعالى: ( إِنَّ هَذِهِ ) يعنى:هذه السورة ( تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا ) أي طريقا ومسلكا، أي:من شاء اهتدى بالقرآن، كقوله: وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا [ النساء:39 ] .

ثم قال: ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ) أي:لا يقدر أحد أن يَهدي نفسه، ولا يدخل في الإيمان ولا يجر لنفسه نفعًا، ( إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ) أي:عليم بمن يستحق الهداية فَيُيَسّرها له، ويقيض له أسبابها، ومن يستحق الغواية فيصرفه عن الهدى، وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة؛ ولهذا قال تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا )

ثم قال: ( يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) أي:يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ومن يهده فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

[ آخر سورة « الإنسان » ] [ والله أعلم ]

 

تفسير سورة المرسلات

 

وهي مكية.

قال البخاري:حدثنا عمر بن حفص بن غياث، [ حدثنا أبي ] ،حدثنا الأعمش، حدثني إبراهيم، عن الأسود، عن عبد الله - هو ابن مسعود- قال:بينما نحن مع النبي صلى الله عليه وسلم، في غار بمنى، إذ نـزلت عليه: « وَالْمُرْسَلاتِ » فإنه ليتلوها وإني لأتلقاها من فيه، وإن فاه لرطب بها، إذ وَثَبت علينا حَيَّة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « اقتلوها » . فابتدرناها فذهبت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « وُقِيَتْ شركم كما وُقِيتُم شرّهَا » .

وأخرجه مسلم أيضا، من طريق الأعمش .

وقال الإمام أحمد:حدثنا سفيان بن عُيَيْنَة، عن الزّهْري، عن عُبَيد الله، عن ابن عباس، عن أمه:أنها سَمعَت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالمرسلات عُرفًا .

وفي رواية مالك، عن الزهري، عن عُبَيد الله، عن ابن عباس:أن أم الفضل سمعته يقرأ: « وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا » ،فقالت:يا بني، ذكَّرتني بقراءتك هذه السورة، أنها لآخر ما سمعتُ من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب.

أخرجاه في الصحيحين، من طريق مالك، به .

بسم الله الرحمن الرحيم

وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا ( 1 ) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ( 2 ) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ( 3 ) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ( 4 ) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ( 5 ) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ( 6 ) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ( 7 ) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ( 8 ) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ ( 9 ) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ ( 10 ) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ( 11 ) لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ( 12 ) لِيَوْمِ الْفَصْلِ ( 13 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ ( 14 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 15 )

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا زكريا بن سهل المروزي، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق، أخبرنا الحسين بن واقد، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هُرَيرة: ( وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا ) قال:الملائكة.

قال:ورُوي عن مسروق، وأبي الضحى، ومجاهد - في إحدى الروايات- والسّدي، والربيع بن أنس، مثلُ ذلك.

ورُويَ عن أبي صالح أنه قال:هي الرسل. وفي رواية عنه:أنها الملائكة. وهكذا قال أبو صالح في « الْعَاصِفَاتِ » و « النَّاشِرَات » [ و « الْفَارِقَاتِ » ] و « الْمُلْقِيَاتِ » :أنها الملائكة.

وقال الثوري، عن سلمة بن كُهَيل، عن مُسلم البَطين، عن أبي العُبَيدَين قال:سألت ابنَ مسعود عن ( وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا ) قال:الريح. وكذا قال في: ( فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا* وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ) إنها الريح. وكذا قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وأبو صالح - في رواية عنه- وتوقف ابن جرير في ( وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا ) هل هي الملائكة إذا أرسلت بالعُرْف، أو كعُرْف الفَرَس يتبع بعضهم بعضا؟ أو:هي الرياح إذا هَبَّت شيئا فشيئا؟ وقطع بأن العاصفات عصفا هي الرياح، كما قاله ابن مسعود ومن تابعه. وممن قال ذلك في العاصفات أيضا:علي بن أبي طالب ، والسدي، وتوقف في ( وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ) هل هي الملائكة أو الريح؟ كما تقدم. وعن أبي صالح:أن الناشرات نشرا:المطر.

والأظهر أن: « الْمُرْسَلات » هي الرياح، كما قال تعالى: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ [ الحجر:22 ] ، وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [ الأعراف:57 ] وهكذا العاصفات هي:الرياح، يقال:عصفت الريح إذا هَبَّت بتصويت، وكذا الناشرات هي:الرياح التي تنشر السحاب في آفاق السماء، كما يشاء الرب عز وجل.

وقوله: ( فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا * فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا * عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ) يعني:الملائكة قاله ابن مسعود، وابن عباس، ومسروق، ومجاهد، وقتادة، والربيع بن أنس، والسّدي، والثوري. ولا خلاف هاهنا؛ فإنها تنـزل بأمر الله على الرسل، تفرق بين الحق والباطل، والهدى والغيّ، والحلال والحرام، وتلقي إلى الرسل وحيا فيه إعذار إلى الخلق، وإنذارٌ لهم عقابَ الله إن خالفوا أمره.

وقوله: ( إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ) هذا هو المقسم عليه بهذه الأقسام، أي:ما وعدتم به من قيام الساعة، والنفخ في الصور، وبعث الأجساد وجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد، ومجازاة كل عامل بعمله، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، إن هذا كله ( لَوَاقِع ) أي:لكائن لا محالة.

ثم قال: ( فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ) أي:ذهب ضوؤها، كقوله: وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ [ التكوير:2 ] وكقوله: وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ [ الانفطار:2 ] .

( وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ ) أي:انفطرت وانشقت، وتدلت أرجاؤها، وَوَهَت أطرافها.

( وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ ) أي:ذُهِب بها، فلا يبقى لها عين ولا أثر، كقوله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا [ طه:105 - 107 ] وقال تعالى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [ الكهف:47 ]

وقوله: ( وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ) قال العوفي، عن ابن عباس:جمعت. وقال ابن زيد:وهذه كقوله تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ [ المائدة:109 ] . وقال مجاهد: ( أُقِّتَت ) أجلت.

وقال الثوري، عن منصور، عن إبراهيم: ( أُقِّتَت ) أوعدت. وكأنه يجعلها كقوله: وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [ الزمر:69 ] .

ثم قال: ( لأيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ * لِيَوْمِ الْفَصْلِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) يقول تعالى:لأي يوم أجلت الرسل وأرجئ أمرها؟ حتى تقوم الساعة، كما قال تعالى: فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ * يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [ إبراهيم:47 ، 48 ] وهو يوم الفصل، كما قال ( لِيَوْمِ الْفَصْلِ )

ثم قال معظما لشأنه: ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) أي:ويل لهم من عذاب الله غدا. وقد قدمنا في الحديث أن « ويل » :واد في جهنم. ولا يصح.

أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ ( 16 ) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ ( 17 ) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ( 18 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 19 )

يقول تعالى: ( أَلَمْ نُهْلِكِ الأوَّلِينَ ) ؟ يعني:من المكذبين للرسل المخالفين لما جاؤوهم به،

( ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ ) أي:ممن أشبههم؛ ولهذا قال: ( كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) قاله ابن جرير .

 

أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ( 20 ) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ( 21 ) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ ( 22 ) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ( 23 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 24 ) أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا ( 25 ) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ( 26 ) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا ( 27 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 28 )

ثم قال ممتنا على خلقه ومحتجا على الإعادة بالبَدَاءة: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ؟ أي:ضعيف حقير بالنسبة إلى قُدرَة البارئ عز وجل، كما تقدم في سورة « يس » في حديث بُسْر بن جِحَاش: « ابنَ آدم، أنَّى تُعجزُني وقد خلقتك من مثل هذه؟ » .

فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ يعني:جمعناه في الرّحِم، وهو قرار الماء من الرجل والمرأة، والرحم معد لذلك، حافظ لما أودع فيه من الماء.

وقوله: إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ يعنى:إلى مدة معينة من ستة أشهر أو تسعة أشهر؛ ولهذا قال: فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ .

ثم قال: أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ) قال ابن عباس: ( كِفَاتًا ) كنَّا. وقال مجاهد:يُكَفتُ الميت فلا يُرَى منه شيء. وقال الشعبي:بطنها لأمواتكم، وظهرها لأحيائكم. وكذا قال مجاهد وقتادة.

( وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ ) يعني:الجبال، أرسى بها الأرض لئلا تميد وتضطرب.

( وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا ) عذبا زُلالا من السحاب، أو مما أنبعه الله من عيون الأرض.

( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) أي:ويل لمن تأمل هذه المخلوقات الدالة على عظمة خالقها، ثم بعد هذا يستمر على تكذيبه وكفره.

انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ( 29 ) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ ( 30 ) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ ( 31 ) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ( 32 ) كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ( 33 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 34 ) هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ( 35 ) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ( 36 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 37 ) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ ( 38 ) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ( 39 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 40 )

يقول تعالى مخاطبا للكفار المكذبين بالمعاد والجزاء والجنة والنار، أنهم يقال لهم يوم القيامة: ( انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ ) يعني:لَهَبَ النار إذا ارتفع وصَعِدَ معه دخان، فمن شدته وقوته أن له ثلاث شعب، ( لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ ) أي:ظل الدخان المقابل للهب لا ظليل هو في نفسه، ولا يغني من اللهب، يعني:ولا يقيهم حر اللهب.

وقوله: ( إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ) أي:يتطاير الشرر من لهبها كالقصر. قال ابن مسعود:كالحصون. وقال ابن عباس وقتادة، ومجاهد، ومالك عن زيد بن أسلم، وغيرهم:يعني أصول الشجر.

( كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ) أي:كالإبل السود. قاله مجاهد، والحسن، وقتادة، والضحاك. واختاره ابن جرير.

وعن ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير: ( جِمَالَةٌ صُفْرٌ ) يعني:حبال السفن. وعنه - أعني ابن عباس- : ( جِمَالَةٌ صُفْرٌ ) قطع نحاس .

وقال البخاري:حدثنا عمرو بن علي، حدثنا يحيى، أخبرنا سفيان، عن عبد الرحمن بن عابس قال:سمعت ابن عباس: ( إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ) قال:كنا نعمد إلى الخشبة ثلاثة أذرع وفوق ذلك، فنرفعه للشتاء، فنسميه القَصَرَ، ( كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ) حبال السفن، تجمع حتى تكون كأوساط الرجال ، ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) .

ثم قال تعالى: ( هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ) أي:لا يتكلمون.

( وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) أي:لا يقدرون على الكلام، ولا يؤذن لهم فيه ليعتذروا، بل قد قامت عليهم الحجة، ووقع القولُ عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون. وعرصات القيامة حالات، والرب تعالى يخبر عن هذه الحالة تارة، وعن هذه الحالة تارة؛ ليدل على شدّة الأهوال والزلازل يومئذ. ولهذا يقول بعد كل فصل من هذا الكلام: ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) .

وقوله: ( هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأوَّلِينَ * فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ) وهذه مخاطبة من الخالق لعباده يقول لهم: ( هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأوَّلِينَ ) يعني:أنه جمعهم بقدرته في صعيد واحد، يُسمعُهم الداعي ويَنفُذهُم البصر.

وقوله: ( فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ) تهديد شديد ووعيد أكيد، أي:إن قدرتم على أن تتخلصوا من قبضتي، وتَنجُوا من حكمي فافعلوا، فإنكم لا تقدرون على ذلك، كما قال تعالى يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ [ الرحمن:33 ] ، وقال تعالى: وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا [ هود:57 ] وفي الحديث: « يا عبادي، إنكم لن تَبلُغوا نَفْعِي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني » .

وقد قال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن المنذر الطريقي الأودي، حدثنا محمد بن فضيل، حدثنا حُصيَن بن عبد الرحمن، عن حسان بن أبي المخارق، عن أبي عبد الله الجَدَلي قال:أتيت بيت المقدس، فإذا عُبادة بن الصامت، وعبد الله بن عمرو، وكعب الأحبار يتحدثون في بيت المقدس، فقال عبادة:إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين بصعيد واحد، ينفذهم البصر ويُسمعهم الداعي، ويقول الله: ( هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأوَّلِينَ * فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ) اليوم لا ينجو مني جبار عنيد، ولا شيطان مريد. فقال عبد الله بن عمرو :فإنا نحدث يومئذ أنه يخرج عُنُق من النار فتنطلق حتى إذا كانت بين ظهراني الناس نادت:أيها الناس، إني بُعثتُ إلى ثَلاثَة أنا أعرف بهم من الأب بولده ومن الأخ بأخيه، لا يُغَيّبهم عني وَزَر، ولا تُخفِيهم عني خافية:الذي جعل مع الله إلها آخر، وكلّ جبار عنيد، وكلّ شيطان مريد. فتنطوي عليهم فتقذف بهم في النار قبل الحساب بأربعين سنة .

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ ( 41 ) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ( 42 ) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 43 ) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 44 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 45 ) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ( 46 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 47 ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ ( 48 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 49 ) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ( 50 )

يقول تعالى مخبرًا عن عباده المتقين الذين عبدوه بأداء الواجبات، وترك المحرمات:إنهم يوم القيامة يكونون في جنات وعيون، أي:بخلاف ما أولئك الأشقياء فيه، من ظل اليحموم، وهو الدخان الأسود المنتن.

( وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ) أي:من سائر أنواع الثمار، مهما طلبوا وجدوا . ( كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) أي:يقال لهم ذلك على سبيل الإحسان إليهم.

ثم قال تعالى مخبرًا خبرًا مستأنفًا: ( إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) أي:هذا حزاؤنا لمن أحسن العمل، ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) .

وقوله: ( كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ) خطاب للمكذبين بيوم الدين، وأمَرَهم أمر تهديد ووعيد فقال تعالى: ( كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا ) أي:مدة قليلة قريبة قصيرة، ( إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ) أي:ثم تساقون إلى نار جهنم التي تقدم ذكرها، ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) كما قال تعالى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [ لقمان:24 ] وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [ يونس:69 ، 70 ]

وقوله: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ ) أي:إذا أمر هؤلاء الجهلة من الكفار أن يكونوا من المصلين مع الجماعة، امتنعوا من ذلك واستكبروا عنه؛ ولهذا قال: ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) .

ثم قال: ( فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ) ؟ أي:إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن، فبأي كلام يؤمنون به؟‍! كقوله تعالى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [ الجاثية:6 ] .

قال ابن أبي حاتم:حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أمية:سمعت رجلا أعرابيا بَدَويا يقول:سمعت أبا هريرة يرويه إذا قرأ: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا فقرأ: ( فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ) ؟ فليقل:آمنت بالله وبما أنـزل.

وقد تقدم هذا الحديث في سورة « القيامة » .

آخر تفسير سورة « والمرسلات » [ ولله الحمد والمنة ]