الجزء 8

 

وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ( 111 )

يقول تعالى:ولو أننا أجبنا سؤال هؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا فنـزلنا عليهم الملائكة، أي:تخبرهم بالرسالة من الله بتصديق الرسل، كما سألوا فقالوا: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا [ الإسراء:92 ] قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [ الأنعام:124 ] ، وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا [ الفرقان:21 ] .

( وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى ) أي:فأخبروهم بصدق ما جاءتهم به الرسل، ( وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا ) - قرأ بعضهم: « قِبَلا » بكسر القاف وفتح الباء، من المقابلة، والمعاينة. وقرأ آخرون [ وقبلا ] بضمهما قيل:معناه من المقابلة والمعاينة أيضا، كما رواه علي بن أبي طلحة، والعوفي، عن ابن عباس. وبه قال قتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.

وقال مجاهد: ( قُبُلا ) أفواجًا، قبيلا قبيلا أي:تعرض عليهم كل أمة بعد أمة فتخبرهم بصدق الرسل فيما جاؤوهم به ( مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ) أي:إن الهداية إليه، لا إليهم. بل يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وهو الفعال لما يريد، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، لعلمه وحكمته، وسلطانه وقهره وغلبته. وهذه الآية كقوله تعالى:إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ [ يونس:96، 97 ] .

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ( 112 ) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ ( 113 )

يقول تعالى:وكما جعلنا لك - يا محمد - أعداءً يخالفونك، ويعادونك جعلنا لكل نبي من قبلك أيضا أعداء فلا يَهِيدنَّك ذلك، كما قال تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [ آل عمران:184 ] ، وقال تعالى:وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا [ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ] [ الأنعام:34 ] ، وقال تعالى: مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ [ فصلت:31 ] . وقال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ [ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ] [ الفرقان:43 ] .

وقال ورقة بن نوفل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: [ إنه ] لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي

وقوله: ( شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ ) بدل من ( عَدُوًّا ) أي:لهم أعداء من شياطين الإنس والجن، ومن هؤلاء وهؤلاء، قبحهم الله ولعنهم.

قال عبد الرزاق:أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة في قوله [ تعالى ] ( شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ ) قال:من الجن شياطين، ومن الإنس شياطين، يوحي بعضهم إلى بعض، قال قتادة:وبلغني أن أبا ذر كان يوما يصلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « تَعَوَّذ يا أبا ذر من شياطين الإنس والجن » . فقال:أو إن من الإنس شياطين ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « نعم » .

وهذا منقطع بين قتادة وأبي ذر وقد روي من وجه آخر عن أبي ذر، رضي الله عنه، قال ابن جرير:

حدثنا المثنى، حدثنا أبو صالح، حدثني معاوية بن صالح، عن أبي عبد الله محمد بن أيوب وغيره من المشيخة، عن ابن عائذ، عن أبي ذر قال:أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس قد أطال فيه الجلوس، قال، فقال: « يا أبا ذر، هل صليت؟ » . قال:لا يا رسول الله. قال: « قم فاركع ركعتين » . قال:ثم جئت فجلستُ إليه، فقال: « يا أبا ذر، هل تعوذت بالله من شياطين الجن والإنس؟ » . قال:قلت:لا يا رسول الله، وهل للإنس من شياطين؟ قال: « نعم، هم شر من شياطين الجن » .

وهذا أيضا فيه انقطاع وروي متصلا كما قال الإمام أحمد:

حدثنا وَكِيع، حدثنا المسعودي، أنبأنى أبو عمر الدمشقي، عن عبيد بن الخشخاش، عن أبي ذر قال:أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فجلست فقال: « يا أبا ذر هل صليت؟ » . قلت:لا. قال: « قم فصل » . قال:فقمت فصليت، ثم جلست فقال: « يا أبا ذر، تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن » . قال:قلت يا رسول الله، وللإنس شياطين؟ قال: « نعم » . وذكر تمام الحديث بطوله.

وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه في تفسيره، من حديث جعفر بن عون، ويعلى بن عبيد، وعبيد الله بن موسى، ثلاثتهم عن المسعودي، به

طريق أخرى عن أبي ذر:قال ابن جرير:حدثني المثنى، حدثنا الحجاج، حدثنا حماد، عن حميد بن هلال، حدثني رجل من أهل دمشق، عن عوف بن مالك، عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « يا أبا ذر، هل تعوذت بالله من شر شياطين الإنس والجن؟ » . قال:قلت يا رسول الله، هل للإنس من شياطين؟ قال: « نعم »

طريق أخرى للحديث:قال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن عَوْف الحِمْصي، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا معان بن رفاعة، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة [ رضي الله عنه ] قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا أبا ذر تعوذتَ من شياطين الجن والإنس؟ » . قال:يا رسول الله، وهل للإنس [ من ] شياطين؟ قال: « نعم، شياطينَ الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا »

فهذه طرق لهذا الحديث، ومجموعها يفيد قوته وصحته، والله أعلم.

وقد روي ابن جرير:حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا أبو نُعَيم، عن شَرِيك، عن سعيد بن مسروق، عن عِكْرِمة: ( شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ ) قال:ليس من الإنس شياطين، ولكن شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس، وشياطين الإنس يوحون إلى شياطين الجن.

قال:وحدثنا الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا إسرائيل، عن السُّدِّي، عن عِكْرِمة في قوله: ( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ) قال:للإنسى شيطان، وللجني شيطان فيلقى شيطان الإنس شيطان الجن، فيوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا.

وقال أسباط، عن السُّدِّي، عن عِكْرِمة في قوله: ( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ) في تفسير هذه الآية:أما شياطين الإنس، فالشياطين التي تضل الإنس وشياطين الجن الذين يضلون الجن، يلتقيان، فيقول كل واحد منهما لصاحبه:إني أضللت صاحبي بكذا وكذا، فأضْلِل أنت صاحبك بكذا وكذا، فيعلم بعضهم بعضا.

ففهم ابن جرير من هذا؛ أن المراد بشياطين الإنس عند عِكْرِمة والسُّدِّي:الشياطين من الجن الذين يضلون الناس، لا أن المراد منه شياطين الإنس منهم. ولا شك أن هذا ظاهر من كلام عِكْرِمة، وأما كلام السُّدِّي فليس مثله في هذا المعنى، وهو محتمل، وقد روى ابن أبي حاتم نحو هذا، عن ابن عباس من رواية الضحاك، عنه، قال:إن للجن شياطين يضلونهم مثل شياطين الإنس يضلونهم، قال:فيلتقي شياطين الإنس وشياطين الجن، فيقول هذا لهذا:أضلله بكذا، أضلله بكذا. فهو قوله: ( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا )

وعلى كل حال فالصحيح ما تقدم من حديث أبي ذر:إن للإنس شياطين منهم، وشيطان كل شيء ما رده، ولهذا جاء في صحيح مسلم، عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « الكلب الأسود شيطان » ومعناه - والله أعلم - :شيطان في الكلاب.

وقال ابن جُرَيْج:قال مجاهد في تفسير هذه الآية:كفار الجن شياطين، يوحون إلى شياطين الإنس، كفار الإنس، زخرف القول غرورا.

وروى ابن أبي حاتم، عن عِكْرِمة قال:قدمت على المختار فأكرمني وأنـزلني حتى كاد يتعاهد مبيتي بالليل، قال:فقال لي:اخرج إلى الناس فحدث الناس. قال:فخرجت، فجاء رجل فقال:ما تقول في الوحي؟ فقلت:الوحي وحيان، قال الله تعالى: بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ [ يوسف:3 ] ، وقال [ الله ] تعالى: ( شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ) قال:فهموا بي أن يأخذوني، فقلت:ما لكم ذاك، إني مفتيكم وضيفكم. فتركوني.

وإنما عَرَضَ عِكْرِمة بالمختار - وهو ابن أبي عبيد - قبحه الله، وكان يزعم أنه يأتيه الوحي، وقد كانت أخته صفية تحت عبد الله بن عمر وكانت من الصالحات، ولما أخبر عبد الله بن عمر أن المختار يزعم أنه يوحى إليه قال:صدق، [ قال ] الله تعالى: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ [ الأنعام:121 ] ، وقوله تعالى: ( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ) أي:يلقي بعضهم إلى بعض القول المزين المزخرف، وهو المزوق الذي يغتر سامعه من الجهلة بأمره.

( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ) أي:وذلك كله بقدر الله وقضائه وإرادته ومشيئته أن يكون لكل نَبيّ عدوّ من هؤلاء.

( فَذَرْهُمْ ) أي:فدعهم، ( وَمَا يَفْتَرُونَ ) أي:يكذبون، أي:دع أذاهم وتوكل على الله في عداوتهم، فإن الله كافيك وناصرك عليهم.

وقوله تعالى: ( وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ ) أي:ولتميل إليه - قاله ابن عباس - ( أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ ) أي:قلوبهم وعقولهم وأسماعهم.

وقال السُّدِّي:قلوب الكافرين، ( وَلِيَرْضَوْهُ ) أي:يحبوه ويريدوه. وإنما يستجيب لذلك من لا يؤمن بالآخرة، كما قال تعالى:فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ [ الصافات:161 - 163 ] ، وقال تعالى:إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [ الذاريات:8، 9 ] .

وقال السُّدِّي، وابن زيد:وليعملوا ما هم عاملون.

أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ( 114 ) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 115 )

يقول [ الله ] تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:قل لهؤلاء المشركين بالله الذين يعبدون غيره: ( أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا ) أي:بيني وبينكم، ( وَهُوَ الَّذِي أَنـزلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلا ) أي:مبينا، ( وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ) أي:من اليهود والنصارى، ( يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنـزلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ) ، أي:بما عندهم من البشارات بك من الأنبياء المتقدمين، ( فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ) كقوله فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [ يونس:94 ] ، وهذا شرط، والشرط لا يقتضي وقوعه؛ ولهذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لا أشك ولا أسأل » .

وقوله: ( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا ) قال قتادة:صدقا فيما قال وعدلا فيما حكم.

يقول:صدقا في الأخبار وعدلا في الطلب، فكل ما أخبر به فحق لا مرية فيه ولا شك، وكل ما أمر به فهو العدل الذي لا عدل سواه، وكل ما نهى عنه فباطل، فإنه لا ينهى إلا عن مَفْسَدة، كما قال: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ [ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ] إلى آخر الآية [ الأعراف:157 ] .

( لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ) أي:ليس أحد يُعقِّبُ حكمه تعالى لا في الدنيا ولا في الآخرة، ( وَهُوَ السَّمِيعُ ) لأقوال عباده، ( الْعَلِيمُ ) بحركاتهم وسكناتهم، الذي يجازي كل عامل بعمله.

وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ ( 116 ) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ( 117 )

يخبر تعالى عن حال أكثر أهل الأرض من بني آدم أنه الضلال، كما قال تعالى: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ [ الصافات:71 ] ، وقال تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [ يوسف:103 ] ، وهم في ضلالهم ليسوا على يقين من أمرهم، وإنما هم في ظنون كاذبة وحسبان باطل، ( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ ) فإن الخرص هو الحزر، ومنه خرص النخل، وهو حَزْرُ ما عليها من التمر وكذلك كله قدر الله ومشيئته، و ( هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ ) فييسره لذلك ( وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) فييسرهم لذلك، وكل ميسر لما خلق له.

فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ( 118 )

هذا إباحة من الله [ تعالى ] لعباده المؤمنين أن يأكلوا من الذبائح ما ذكر عليه اسمه، ومفهومه:أنه لا يباح ما لم يذكر اسم الله عليه، كما كان يستبيحه كفار المشركين من أكل الميتات، وأكل ما ذبح على النصب وغيرها. ثم ندب إلى الأكل مما ذكر اسم الله عليه، فقال:

 

وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ( 119 )

( وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ) أي:قد بَيَّن لكم ما حَرم عليكم ووضحه.

وقرأ بعضهم: ( فَصَّلَ ) بالتشديد، وقرأ آخرون بالتخفيف، والكل بمعنى البيان والوضوح.

إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ) أي:إلا في حال الاضطرار، فإنه يباح لكم ما وجدتم.

ثم بين تعالى جهالة المشركين في آرائهم الفاسدة، من استحلالهم الميتات، وما ذكر عليه غير اسم الله تعالى:فقال ( وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ) أي:هو أعلم باعتدائهم وكذبهم وافترائهم.

وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ( 120 )

قال مجاهد: ( وَذَرُوا ظَاهِرَ الإثْمِ وَبَاطِنَهُ ) معصيته في السر والعلانية - وفي رواية عنه [ قال ] هو ما ينوى مما هو عامل.

وقال:قتادة: ( وَذَرُوا ظَاهِرَ الإثْمِ وَبَاطِنَهُ ) أي:قليله وكثيره، سره وعلانيته

وقال السُّدِّي:ظاهره الزنا مع البغايا ذوات الرايات، وباطنه: [ الزنا ] مع الخليلة والصدائق والأخدان.

وقال عِكْرِمة:ظاهره:نكاح ذوات المحارم.

والصحيح أن الآية عامة في ذلك كله، وهي كقوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا ] الآية [ الأعراف:33 ] ؛ ولهذا قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ) أي:سواء كان ظاهرًا أو خفيًا، فإن الله سيجزيهم عليه.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي، عن معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جُبَيْر بن نُفَير، عن أبيه، عن النواس بن سمعان قال:سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإثم فقال: « الإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع الناس عليه »

وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ( 121 )

استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب إلى أنه لا تحل الذبيحة التي لم يذكر اسم الله عليها، ولو كان الذابح مسلما، وقد اختلف الأئمة، رحمهم الله، في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:

فمنهم من قال:لا تحل هذه الذبيحة بهذه الصفة، وسواء متروك التسمية عمدًا أو سهوًا. وهو مروي عن ابن عمر، ونافع مولاه، وعامر الشعبي، ومحمد بن سيرين. وهو رواية عن الإمام مالك، ورواية عن أحمد بن حنبل نصرها طائفة من أصحابه المتقدمين والمتأخرين، وهو اختيار أبي ثور، وداود الظاهري، واختار ذلك أبو الفتوح محمد بن محمد بن علي الطائي من متأخري الشافعية في كتابه « الأربعين » ، واحتجوا لمذهبهم هذا بهذه الآية، وبقوله في آية الصيد: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ [ المائدة:4 ] . ثم قد أكد في هذه الآية بقوله: ( وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ) والضمير قيل:عائد على الأكل، وقيل:عائد على الذبح لغير الله - وبالأحاديث الواردة في الأمر بالتسمية عند الذبيحة والصيد، كحديثي عدي بن حاتم وأبي ثعلبة: « إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك » . وهما في الصحيحين، وحديث رافع بن خُدَيْج. « ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه » . وهو في الصحيحين أيضًا، وحديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للجن: « لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه » رواه مسلم. وحديث جُنْدَب بن سفيان البَجَلي قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى، ومن لم يكن ذبح حتى صلينا فليذبح باسم الله » . أخرجاه وعن عائشة، رضي الله عنها، أن ناسا قالوا:يا رسول الله، إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري:أذكر اسم الله عليه أم لا؟ قال: « سموا عليه أنتم وكلوا » . قالت:وكانوا حديثي عهد بالكفر. رواه البخاري. ووجه الدلالة أنهم فهموا أن التسمية لا بد منها، [ وأنهم ] خشوا ألا تكون وجدت من أولئك، لحداثة إسلامهم، فأمرهم بالاحتياط بالتسمية عند الأكل، لتكون كالعوض عن المتروكة عند الذبح إن لم تكن وجدت، وأمرهم بإجراء أحكام المسلمين على السداد، والله [ تعالى ] أعلم.

والمذهب الثاني في المسألة:أنه لا يشترط التسمية، بل هي مستحبة، فإن تركت عمدًا أو نسيانًا لم تضر وهذا مذهب الإمام الشافعي، رحمه الله، وجميع أصحابه، ورواية عن الإمام أحمد. نقلها عنه حنبل. وهو رواية عن الإمام مالك، ونص على ذلك أشهب بن عبد العزيز من أصحابه، وحكي عن ابن عباس، وأبي هريرة، وعطاء بن أبي رباح، والله أعلم.

وحمل الشافعي الآية الكريمة: ( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ) على ما ذبح لغير الله، كقوله تعالى أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [ الأنعام:145 ] .

وقال ابن جُرَيْج، عن عطاء: ( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ) قال:ينهى عن ذبائح كانت تذبحها قريش عن الأوثان، وينهى عن ذبائح المجوس، وهذا المسلك الذي طرقه الإمام الشافعي [ رحمه الله ] قوي، وقد حاول بعض المتأخرين أن يقويه بأن جعل « الواو » في قوله: ( وإِنَّهُ لَفِسْقٌ ) حالية، أي:لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه في حال كونه فسقًا، ولا يكون فسقا حتى يكون قد أهل به لغير الله. ثم ادعى أن هذا متعين، ولا يجوز أن تكون « الواو » عاطفة. لأنه يلزم منه عطف جملة إسمية خبرية على جمله فعلية طلبية. وهذا ينتقض عليه بقوله: ( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ ) فإنها عاطفة لا محاولة، فإن كانت « الواو » التي ادعى أنها حالية صحيحة على ما قال؛ امتنع عطف هذه عليها، فإن عطفت على الطلبية ورد عليه ما أورد على غيره، وإن لم تكن « الواو » حالية، بطل ما قال من أصله، والله أعلم.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن المغيرة، أنبأنا جرير، عن عطاء، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قوله: ( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ) قال:هي الميتة.

ثم رواه، عن أبي زُرْعَة، عن يحيى بن أبي كثير عن ابن لَهِيعَة، عن عطاء - وهو ابن السائب - به.

وقد استدل لهذا المذهب بما رواه أبو داود في المراسيل، من حديث ثور بن يزيد، عن الصلت السدوسي - مولى سُوَيْد بن مَنْجوف أحد التابعين الذين ذكرهم أبو حاتم بن حبان في كتاب الثقات - قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ذَبِيحَة المسلم حلال ذُكِر اسمُ اللهِ أو لم يُذْكَرْ، إنه إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله »

وهذا مرسل يعضد بما رواه الدارقطني عن ابن عباس أنه قال:إذا ذبح المسلم - ولم يذكر اسم الله فليأكل، فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله « »

واحتج البيهقي أيضًا بحديث عائشة، رضي الله عنها، المتقدم أن ناسا قالوا:يا رسول الله، إن قوما حديثي عهد بجاهلية يأتونا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال: « سَمّوا أنتم وكُلُوا » . قال:فلو كان وجود التسمية شرطا لم يرخص لهم إلا مع تحققها، والله أعلم.

المذهب الثالث في المسألة: [ أنه ] إن ترك البسملة على الذبيحة نسيانا لم يضر وإن تركها عمدًا لم تحل.

هذا هو المشهور من مذهب الإمام مالك، وأحمد بن حنبل، وبه يقول أبو حنيفة وأصحابه، وإسحاق بن راهويه:وهو محكي عن علي، وابن عباس، وسعيد بن المُسَيَّب، وعَطَاء، وطاوس، والحسن البصري، وأبي مالك، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وجعفر بن محمد، وربيعة بن أبي عبد الرحمن.

ونقل الإمام أبو الحسن المرغيناني في كتابه « الهداية » الإجماع - قبل الشافعي على تحريم متروك التسمية عمدا، فلهذا قال أبو يوسف والمشايخ:لو حكم حاكم بجواز بيعه لم ينفذ لمخالفة الإجماع.

وهذا الذي قاله غريب جدًا، وقد تقدم نقل الخلاف عمن قبل الشافعي، والله أعلم.

وقال الإمام أبو جعفر بن جرير:من حرم ذبيحة الناسي، فقد خرج من قول جميع الحجة، وخالف الخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك

يعني ما رواه الحافظ أبو بكر البيهقي:أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا أبو أمية الطرسوسي، حدثنا محمد بن يزيد، حدثنا معقل بن عبيد الله، عن عمرو بن دينار، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « المسلم يكفيه اسمه، إن نسي أن يسمي حين يذبح ، فليذكر اسم الله وليأكله »

وهذا الحديث رفعه خطأ، أخطأ فيه معقل بن عبيد الله الجزيري فإنه وإن كان من رجال مسلم إلا أن سعيد بن منصور، وعبد الله بن الزبير الحميدي روياه عن سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن أبي الشعثاء، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس، من قوله. فزادا في إسناده « أبا الشعثاء » ، ووقفا والله [ تعالى ] أعلم. وهذا أصح، نص عليه البيهقي [ وغيره من الحفاظ ]

وقد نقل ابن جرير وغيره. عن الشعبي، ومحمد بن سيرين، أنهما كرها متروك التسمية نسيانا، والسلف يطلقون الكراهية على التحريم كثيرا، والله أعلم. إلا أن من قاعدة ابن جرير أنه لا يعتبر قول الواحد ولا الاثنين مخالفا لقول الجمهور، فيعده إجماعا، فليعلم هذا، والله الموفق.

قال ابن جرير:حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا أبو أسامة، عن جَهِير بن يزيد قال:سئل الحسن، سأله رجل أتيت بطير كَرًى فمنه ما قد ذبح فذكر اسم الله عليه، ومنه ما نسي أن يذكر اسم الله عليه، واختلط الطير، فقال الحسن:كله، كله. قال:وسألت محمد بن سيرين فقال:قال الله [ تعالى ] ( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ )

واحتج لهذا المذهب بالحديث المروي من طرق عند ابن ماجه، عن ابن عباس، وأبي هريرة، وأبي ذر وعقبة بن عامر، وعبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم: « إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه » وفيه نظر، والله أعلم.

وقد روى الحافظ أبو أحمد بن عدي، من حديث مروان بن سالم القرقساني، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال:جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله، أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « اسم الله على كل مسلم »

ولكن هذا إسناده ضعيف، فإن مروان بن سالم القرقساني أبا عبد الله الشامي، ضعيف، تكلم فيه غير واحد من الأئمة، والله أعلم.

وقد أفردت هذه المسألة على حدة، وذكرت مذاهب الأئمة ومآخذهم وأدلتهم، ووجه الدلالات والمناقضات والمعارضات ، والله أعلم.

قال ابن جرير:وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية:هل نسخ من حكمها شيء أم لا؟ فقال بعضهم:لم ينسخ منها شيء وهي محكمة فيما عُنيت به. وعلى هذا قول عامة أهل العلم.

وروي عن الحسن البصري وعكرمة. ما حدثنا به ابن حُميد، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين بن واقد، عن عكرمة والحسن البصري قالا قال الله: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ وقال ( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ) فنسخ واستثنى من ذلك فقال: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ [ المائدة:5 ] .

وقال ابن أبي حاتم:قرئ علي العباس بن الوليد بن مزيد ، حدثنا محمد بن شعيب، أخبرني النعمان - يعني ابن المنذر - عن مكحول قال:أنـزل الله في القرآن: ( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ) ثم نسخها الرب ورحم المسلمين فقال: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ فنسخها بذلك وأحل طعام أهل الكتاب.

ثم قال ابن جرير:والصواب أنه لا تعارض بين حل طعام أهل الكتاب، وبين تحريم ما لم يذكر اسم الله عليه.

وهذا الذي قاله صحيح، ومن أطلق من السلف النسخ هاهنا فإنما أراد التخصيص، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وقوله تعالى: ( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ ) قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق قال:قال رجل لابن عمر:إن المختار يزعم أنه يوحى إليه؟ قال:صدق، وتلا هذه الآية: ( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ )

وحدثنا أبي، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا عكرمة بن عمار، عن أبي زُمَيْل قال:كنت قاعدًا عند ابن عباس، وحج المختار ابن أبي عبيد، فجاءه رجل فقال:يا ابن عباس، وزعم أبو إسحاق أنه أوحي إليه الليلة؟ فقال ابن عباس:صدق، فنفرت وقلت:يقول ابن عباس صدق. فقال ابن عباس:هما وحيان، وحي الله، ووحي الشيطان، فوحي الله [ عَزَّ وجل ] إلى محمد صلى الله عليه وسلم، ووحي الشيطان إلى أوليائه، ثم قرأ: ( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ )

وقد تقدم عن عكرمة في قوله: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا نحو هذا.

وقوله [ تعالى ] : ( لِيُجَادِلُوكُمْ ) قال ابن أبي حاتم::حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا عمران بن عيينة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبَيْر قال:خاصمت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا:نأكل مما قتلنا، ولا نأكل مما قتل الله؟ فأنـزل الله: ( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ )

هكذا رواه مرسلا ورواه أبو داود متصلا فقال:حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا عمران بن عيينة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال:جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا:نأكل مما قتلنا ولا نأكل مما قتل الله؟ فأنـزل الله: ( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ] ) .

وكذا رواه ابن جَرير، عن محمد بن عبد الأعلى وسفيان بن وَكِيع، كلاهما عن عمران بن عيينة، به.

ورواه البزار، عن محمد بن موسى الحَرَشي، عن عمران بن عيينة، به. وهذا فيه نظر من وجوه ثلاثة:أحدها:

أن اليهود لا يرون إباحة الميتة حتى يجادلوا.

الثاني:أن الآية من الأنعام، وهي مكية.

الثالث:أن هذا الحديث رواه الترمذي، عن محمد بن موسى الحَرَشِي، عن زياد بن عبد الله البكائي، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس. ورواه الترمذي بلفظ :أتى ناس النبي صلى الله عليه وسلم فذكره وقال:حسن غريب، رُوي عن سعيد بن جبير مرسلا .

وقال الطبراني:حدثنا علي بن المبارك، حدثنا زيد بن المبارك، حدثنا موسى بن عبد العزيز، حدثنا الحكم بن أبان، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال:لما نـزلت ( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ) أرسلت فارس إلى قريش:أن خاصموا محمدًا وقولوا له:كَمَا تذبح أنت بيدك بسكين فهو حلال، وما ذبح الله، عَزَّ وجل، بشمشير من ذهب - يعني الميتة - فهو حرام. فنـزلت هذه الآية: ( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ) قال:الشياطين من فارس، وأوليائهم [ من ] قريش .

وقال أبو داود:حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا إسرائيل، حدثنا سِماك، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس في قوله: ( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ ) يقولون:ما ذبح الله فلا تأكلوه. وما ذبحتم أنتم فكلوه، فأنـزل الله: ( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ )

ورواه ابن ماجه وابن أبي حاتم، عن عمرو بن عبد الله، عن وكيع، عن إسرائيل، به . وهذا إسناد صحيح.

ورواه ابن جرير من طرق متعددة، عن ابن عباس، وليس فيه ذكر اليهود، فهذا هو المحفوظ ، والله أعلم.

وقال ابن جُرَيْج:قال عمرو بن دينار، عن عكرمة:إن مشركي قريش كاتبوا فارس على الروم، وكاتبتهم فارس، وكتب فارس إلى مشركي قريش:أن محمدًا وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله، فما ذبح الله بسكين من ذهب فلا يأكله محمد وأصحابه - للميتة وما ذبحوه هم يأكلون. فكتب بذلك المشركون إلى أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء، فأنـزل الله : ( وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ [ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ] ) ونـزلت: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا

وقال السُّدِّي في تفسير هذه الآية:إن المشركين قالوا للمؤمنين:كيف تزعمون أنكم تتبعون مرضاة الله، وما ذبح الله فلا تأكلونه، وما ذبحتم أنتم أكلتموه؟ فقال الله: ( وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ ) فأكلتم الميتة ( إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ )

وهكذا قاله مجاهد، والضحاك، وغير واحد من علماء السلف، رحمهم الله.

وقوله تعالى: ( وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ) أي:حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره، فقدمتم عليه غيره فهذا هو الشرك، كما قال تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ] [ التوبة:31 ] . وقد روى الترمذي في تفسيرها، عن عدي بن حاتم أنه قال:يا رسول الله، ما عبدوهم، فقال: « بل إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم » .

أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 122 )

هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن الذي كان ميتا، أي:في الضلالة، هالكًا حائرًا، فأحياه الله، أي:أحيا قلبه بالإيمان، وهداه له ووفقه لاتباع رسله. ( وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) أي:يهتدي [ به ] كيف يسلك، وكيف يتصرف به. والنور هو:القرآن، كما رواه العَوْفي وابن أبي طلحة، عن ابن عباس. وقال السُّدِّي:الإسلام. والكل صحيح.

( كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ ) أي:الجهالات والأهواء والضلالات المتفرقة، ( لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ) أي:لا يهتدي إلى منفذ، ولا مخلص مما هو فيه، [ وفي مسند الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل » ] كما قال تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [ البقرة:257 ] . و [ كما ] قال تعالى: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [ الملك:22 ] ، وقال تعالى: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا أَفَلا تَذَكَّرُونَ [ هود:24 ] ، وقال تعالى: وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ [ فاطر:19 - 23 ] . والآيات في هذا كثيرة، ووجه المناسبة في ضرب المثلين هاهنا بالنور والظلمات، ما تقدم في أول السورة: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [ الأنعام:1 ] .

وزعم بعضهم أن المراد بهذا المثل رجلان معينان، فقيل:عمر بن الخطاب هو الذي كان ميتًا فأحياه الله، وجعل له نورًا يمشي به في الناس. وقيل:عمار بن ياسر. وأما الذي في الظلمات ليس بخارج منها:أبو جهل عمرو بن هشام، لعنه الله. والصحيح أن الآية عامة، يدخل فيها كل مؤمن وكافر.

وقوله تعالى: ( كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) أي:حسنا لهم ما هم فيه من الجهالة والضلالة، قدرا من الله وحكمة بالغة، لا إله إلا هو [ ولا رب سواه ] .

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ( 123 ) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ( 124 )

يقول تعالى:وكما جعلنا في قريتك - يا محمد - أكابر من المجرمين، ورؤساء ودعاة إلى الكفر والصد عن سبيل الله، وإلى مخالفتك وعداوتك، كذلك كانت الرسل من قبلك يُبْتَلون بذلك، ثم تكون لهم العاقبة، كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ [ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ] [ الفرقان:31 ] ، وقال تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا [ فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ] [ الإسراء:16 ] ، قيل:معناه:أمرناهم بالطاعات، فخالفوا، فدمرناهم. وقيل:أمرناهم أمرا قدريا، كما قال هاهنا: ( لِيَمْكُرُوا فِيهَا )

وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: ( أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا ) قال:سَلَّطنا شرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم بالعذاب.

وقال مجاهد وقتادة: ( أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا ) قال عظماؤها.

قلت:وهذا كقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [ سبأ:34 ، 35 ] ، وقال تعالى: وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [ الزخرف:23 ] .

والمراد بالمكر هاهنا دعاؤهم إلى الضلالة بزخرف من المقال والفعال، كما قال تعالى إخبارًا عن قوم نوح: وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا [ نوح:22 ] ، وقال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا [ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [ سبأ:31 - 33 ] .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا ابنُ أبي عمر، حدثنا سفيان قال:كل مكر في القرآن فهو عمل.

وقوله: ( وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) أي:وما يعود وبال مكرهم ذلك وإضلالهم من أضلوه إلا على أنفسهم، كم قال تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ [ العنكبوت:13 ] ، وقال وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [ النحل:25 ] .

وقوله: ( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ) أي:إذا جاءتهم آية وبرهان وحجة قاطعة، قالوا: ( لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ) أي:حتى تأتينا الملائكة من الله بالرسالة، كما تأتي إلى الرسل، كقوله، جل وعلا وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا [ لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا ] [ الفرقان:21 ] .

وقوله: ( اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) أي:هو أعلم حيث يضع رسالته ومن يصلح لها من خلقه، كما قال تعالى: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ الآية [ الزخرف:31 ، 32 ] يعنون:لولا نـزل هذا القرآن على رجل عظيم كبير مبجل في أعينهم مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ أي:مكة والطائف. وذلك لأنهم - قبحهم الله - كانوا يزدرون بالرسول، صلوات الله وسلامه عليه، بغيًا وحسدًا، وعنادًا واستكبارًا، كما قال تعالى مخبرًا عنهم: وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ [ الأنبياء:36 ] ، وقال تعالى: وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا [ الفرقان:41 ] ، وقال تعالى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [ الأنعام:10 ] . هذا وهم يعترفون بفضله وشرفه ونسبه. وطهارة بيته ومرباه ومنشئه، حتى أنهم كانوا يسمونه بينهم قبل أن يوحى إليه: « الأمين » ، وقد اعترف بذلك رئيس الكفار « أبو سفيان » حين سأله « هرقل » ملك الروم:كيف نسبه فيكم؟ قال:هو فينا ذو نسب. قال:هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال:لا الحديث بطوله الذي استدل به ملك الروم بطهارة صفاته، عليه السلام، على صدقه ونبوته وصحة ما جاء به.

وقال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن مُصعب، حدثنا الأوزاعي، عن شَدَّاد أبي عمار، عن واثلة بن الأسقع، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم « . »

انفرد بإخراجه مسلم من حديث الأوزاعي - وهو عبد الرحمن بن عمرو إمام أهل الشام، به نحوه .

وفي صحيح البخاري، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « بُعِثت من خير قُرون بني آدم قَرْنًا فقرنًا، حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو نُعَيم، عن سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث ابن نوفل، عن المطلب بن أبي وداعة قال:قال العباس:بلغه صلى الله عليه وسلم بعضُ ما يقول الناس، فصعد المنبر فقال: « من أنا؟ » . قالوا:أنت رسول الله. قال: « أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم فرقتين فجعلني في خير فرقة، وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة. وجعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتًا، فأنا خيركم بيتًا وخيركم نفسا » . صدق صلوات الله وسلامه عليه.

وفي الحديث أيضا المروي عن عائشة، رضي الله عنها، قالت:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « قال لي جبريل:قلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد رجلا أفضل من محمد، وقلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم » . رواه الحاكم والبيهقي . وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو بكر، حدثنا عاصم، عن زِرِّ بن حُبَيْش، عن عبد الله بن مسعود [ رضي الله عنه ] قال:إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته. ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رآى المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئًا فهو عند الله سيئ .

وقال أحمد:حدثنا شُجاع بن الوليد قال:ذكر قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن سلمان قال:قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم « يا سلمان، لا تبغضني فتفارق دينك » . قلت:يا رسول الله، كيف أبْغِضُك وبك هدانا الله؟ قال: « تبغض العرب فتبغضني » .

وذكر ابن أبي حاتم في تفسير هذه الآية:ذُكِرَ عن محمد بن منصور الجواز، حدثنا سفيان، عن ابن أبي حسين قال:أبصر رجل ابن عباس وهو يدخل من باب المسجد فلما نظر إليه راعه، فقال:من هذا؟ قالوا:ابن عباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: ( اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ )

وقوله تعالى: ( سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ [ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ] ) هذا وعيد شديد من الله وتهديد أكيد، لمن تكبر عن اتباع رسله والانقياد لهم فيما جاؤوا به، فإنه سيصيبه يوم القيامة بين يدي الله ( صَغَارٌ ) وهو الذلة الدائمة، لما أنهم استكبروا أعقبهم ذلك ذُلا كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [ غافر:60 ] أي:صاغرين ذليلين حقيرين.

وقوله: ( وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ) لما كان المكر غالبا إنما يكون خفيا، وهو التلطف في التحيل والخديعة، قوبلوا بالعذاب الشديد جزاء وفاقا، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [ الكهف:49 ] ، كما قال تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [ الطارق:9 ] أي:تظهر المستترات والمكنونات والضمائر. وجاء في الصحيحين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « يُنْصَب لكل غادر لواء عند اسُتِه يوم القيامة، فيقال:هذه غَدْرة فلان ابن فلان » .

والحكمة في هذا أنه لما كان الغدر خَفِيَّا لا يطلع عليه الناس، فيوم القيامة يصير عَلَمًا منشورًا على صاحبه بما فعل.

 

فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ( 125 )

يقول تعالى: ( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ ) أي:ييسره له وينشطه ويسهله لذلك، فهذه علامة على الخير، كقوله تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ] [ الزمر:22 ] ، وقال تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [ الحجرات:7 ] .

قال ابن عباس: ( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ ) قول:يوسع قلبه للتوحيد والإيمان به وكذا قال أبو مالك، وغير واحد. وهو ظاهر.

وقال عبد الرزاق:أخبرنا الثوري، عن عمرو بن قيس، عن عمرو بن مُرَّة، عن أبي جعفر قال:سُئل النبي صلى الله عليه وسلم:أيّ المؤمنين أكيس؟ قال: « أكثرهم ذكرًا للموت، وأكثرهم لما بعده استعدادًا » . قال: وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: ( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ ) قالوا:كيف يشرح صدره يا رسول الله؟ قال: « نور يُقْذَف فيه، فينشرح له وينفسح » . قالوا:فهل لذلك من أمارة يُعرف بها؟ قال: « الإنابة إلى دار الخُلُود، والتَّجَافِي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت » .

وقال ابن جرير:حدثنا هَنَّاد، حدثنا قَبِيصَة، عن سفيان - يعني الثوري - عن عمرو بن مُرَّة، عن رجل يكنى أبا جعفر كان يسكن المدائن، قال:سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله:كان يسكن المدائن، ( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ [ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ ] ) فذكر نحو ما تقدم .

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا ابن إدريس، عن الحسن بن الفرات القزاز، عن عمرو بن مرة، عن أبي جعفر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا دخل الإيمان القلب انفسح له القلب وانشرح قالوا:يا رسول الله، هل لذلك من أمارة؟ قال: » نعم، الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل الموت « . »

وقد رواه ابن جرير عن سوار بن عبد الله العنبري، حدثنا المعتمر بن سليمان، سمعت أبي يحدث عن عبد الله بن مرة، عن أبي جعفر فذكره .

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن عمرو بن قَيْس، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن المِسْوَر قال:تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ ) قالوا::يا رسول الله، ما هذا الشرح؟ قال: « نور يقذف به في القلب » . قالوا:يا رسول الله، فهل لذلك من أمارة ؟ قال « نعم » قالوا:وما هي؟ قال: « الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل الموت » .

وقال ابن جرير أيضا:حدثني هلال بن العلاء، حدثنا سعيد بن عبد الملك بن واقد، حدثنا محمد بن سَلمَة، عن أبي عبد الرحيم عن زيد بن أبي أنَيْسة، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود [ رضي الله عنه ] قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح » . قالوا:فهل لذلك من علامة يعرف بها؟ قال: « الإنابة إلى دار الخلود، والتنحي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لُقي الموت » .

وقد رواه [ ابن جرير ] من وجه آخر، عن ابن مسعود متصلا مرفوعًا فقال:حدثني بن سِنان القزاز، حدثنا محبوب بن الحسن الهاشمي، عن يونس، عن عبد الرحمن بن عبيد الله بن عتبة، عن عبد الله بن مسعود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ ) قالوا:يا رسول الله، وكيف يُشْرَح صدره؟ قال: « يدخل الجنة فينفسح » . قالوا:وهل لذلك علامة يا رسول الله؟ قال: « التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل أن ينـزل الموت » .

فهذه طرق لهذا الحديث مرسلة ومتصلة، يشد بعضها بعضا، والله أعلم.

وقوله تعالى: ( وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [ كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ] ) قرئ بفتح الضاد وتسكين الياء، والأكثرون: ( ضَيِّقًا ) تشديد الياء وكسرها، وهما لغتان:كَهَيْن وهَيّن. وقرأ بعضهم: ( حَرَجًا ) بفتح الحاء وكسر الراء، قيل:بمعنى آثم. وقال السُّدِّي. وقيل:بمعنى القراءة الأخرى ( حَرَجًا ) فتح الحاء والراء، وهو الذي لا يتسع لشيء من الهدى، ولا يخلص إليه شيء ما ينفعه من الإيمان ولا ينفذ فيه.

وقد سأل عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، رجلا من الأعراب من أهل البادية من مُدْلج:ما الحرجة؟ قال هي الشجرة تكون بين الأشجار لا تصل إليها راعية، ولا وحشية، ولا شيء. فقال عمر، رضي الله عنه:كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير .

وقال العَوْفي عن ابن عباس:يجعل الله عليه الإسلام ضيقًا، والإسلام واسع. وذلك حين يقول: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [ الحج:78 ] ، يقول:ما جعل عليكم في الإسلام من ضيق.

وقال مجاهد والسُّدِّي: ( ضَيِّقًا حَرَجًا ) شاكا. وقال عطاء الخراساني: ( ضَيِّقًا حَرَجًا ) :ليس للخير فيه منفذ. وقال ابن المبارك، عن ابن جُرَيْج ( ضَيِّقًا حَرَجًا ) :بلا إله إلا الله، حتى لا تستطيع أن تدخله، كأنما يصعد في السماء من شدة ذلك عليه. وقال سعيد بن جُبَيْر:يجعل صدره ( ضَيِّقًا حَرَجًا ) قال:لا يجد فيه مسلكا إلا صُعدا.

وقال السُّدِّي: ( كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ) من ضيق صدره.

وقال عطاء الخراساني: ( كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ) يقول:مثله كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد في السماء. وقال الحكم بن أبان عن عِكْرِمة، عن ابن عباس: ( كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ) يقول:فكما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء، فكذلك لا يستطيع أن يدخل التوحيد والإيمان قلبه، حتى يدخله الله في قلبه.

وقال الأوزاعي: ( كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ) كيف يستطيع من جعل الله صدره ضيقا أن يكون مسلما.

وقال الإمام أبو جعفر بن جرير:وهذا مثل ضربه الله لقلب هذا الكافر في شدة تضيقه إياه عن وصول الإيمان إليه. يقول:فمثله في امتناعه من قبول الإيمان وضيقه عن وصوله إليه، مثل امتناعه من الصعود إلى السماء وعجزه عنه؛ لأنه ليس في وسعه وطاقته.

وقال في قوله: ( كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) يقول:كما يجعل الله صدر من أراد إضلاله ضيقا حرجا، كذلك يسلط الله الشيطان عليه وعلى أمثاله ممن أبى الإيمان بالله ورسوله، فيغويه ويصده عن سبيل الله .

قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس:الرجس:الشيطان. وقال مجاهد:الرجس:كل ما لا خير فيه. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:الرجس:العذاب.

وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ( 126 ) لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 127 )

لما ذكر تعالى طريقة الضالين عن سبيله، الصادين عنها، نبه على أشرف ما أرْسل به رسوله من الهدى ودين الحق فقال: ( وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا ) منصوب على الحال، أي:هذا الدين الذي شرعناه لك يا محمد بما أوحينا إليك هذا القرآن، وهو صراط الله المستقيم، كما تقدم في حديث الحارث، عن علي [ رضي الله عنه ] في نعت القرآن: « هو صراط الله المستقيم، وحبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم » . رواه أحمد والترمذي بطوله .

( قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ ) أي: [ قد ] وضحناها وبيناها وفسرناها، ( لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ) أي:لمن له فهم ووعي يعقل عن الله ورسوله.

( لَهُمْ دَارُ السَّلامِ ) وهي:الجنة، ( عِنْدَ رَبِّهِمْ ) أي:يوم القيامة. وإنما وصف الله الجنة هاهنا بدار السلام لسلامتهم فيما سلكوه من الصراط المستقيم، المقتفي أثر الأنبياء وطرائقهم، فكما سلموا من آفات الاعوجاج أفْضَوا إلى دار السلام.

( وَهُوَ وَلِيُّهُمْ ) أي:والسلام - وهو الله - وليهم، أي:حافظهم وناصرهم ومؤيدهم، ( بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) أي:جزاء [ على ] أعمالهم الصالحة تولاهم وأثابهم الجنة، بمنّه وكرمه.

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( 128 )

يقول تعالى:واذكر يا محمد فيما تقصه عليهم وتذكرهم به ( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ) يعني:الجن وأولياءهم ( مِنَ الإنْسِ ) الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا، ويعوذون بهم ويطيعونهم، ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا. ( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ ) أي:ثم يقول:يا معشر الجن. وسياق الكلام يدل على المحذوف.

ومعنى قوله: ( قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ ) أي:من إضلالهم وإغوائهم، كما قال [ تعالى ] أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ [ يس:60 - 62 ] .

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ ) يعني:أضللتم منهم كثيرا. وكذلك قال مجاهد، والحسن، وقتادة.

( وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ ) يعني:أن أولياء الجن من الإنس قالوا مجيبين لله تعالى عن ذلك بهذا.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أبو الأشهب هَوْذَة بن خليفة، حدثنا عَوْف، عن الحسن في هذه الآية قال:استكثر ربكم أهل النار يوم القيامة، فقال أولياؤهم من الإنس:ربنا استمتع بعضنا ببعض. قال الحسن:وما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت، وعملت الإنس.

وقال محمد بن كعب في قوله: ( رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ ) قال:الصحابة في الدنيا.

وقال ابن جُرَيْج:كان الرجل في الجاهلية ينـزل الأرض، فيقول: « أعوذ بكبير هذا الوادي » :فذلك استمتاعهم، فاعتذروا يوم القيامة.

وأما استمتاع الجن بالإنس فإنه كان - فيما ذكر - ما ينال الجنّ من الإنس من تعظيمهم إياهم في استعانتهم بهم، فيقولون:قد سدنا الإنس والجن.

( وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا ) السدي، أي الموت.

قال: ( النَّارُ مَثْوَاكُمْ ) أي:مأواكم ومنـزلكم أنتم وأولياؤكم. ( خَالِدِينَ فِيهَا ) أي:ماكثين مكثًا مخلدًا إلا ما شاء الله.

قال بعضهم:يرجع معنى [ هذا ] الاستثناء إلى البرزخ. وقال بعضهم:هذا رد إلى مدة الدنيا. وقيل غير ذلك من الأقوال التي سيأتي تقريرها [ إن شاء الله ] عند قوله تعالى في سورة هود: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [ الآية:107 ] .

وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسير هذه الآية من طريق عبد الله بن صالح - كاتب الليث- :حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: ( النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) قال:إن هذه الآية آية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه، ولا ينـزلهم جنة ولا نارًا.

وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( 129 )

قال سعيد، عن قتادة في تفسيرها:وإنما يولي الله الناس بأعمالهم، فالمؤمن ولي المؤمن أين كان وحيث كان، والكافر ولي الكافر أينما كان وحيثما كان، ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي. واختاره ابن جرير.

وقال معمر، عن قتادة في تفسيرها: ( نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا ) في النار، يتبع بعضهم بعضا.

وقال مالك بن دينار:قرأت في الزبور:إني أنتقم من المنافقين بالمنافقين، ثم أنتقم من المنافقين جميعا، وذلك في كتاب الله قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا )

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: ( وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا ) قال:ظالمي الجن وظالمي الإنس، وقرأ: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [ الزخرف:36 ] ، قال:ونسلط ظلمة الجن على ظلمة الإنس.

وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الباقي بن أحمد، من طريق سعيد بن عبد الجبار الكرابيسي، عن حماد بن سلمة، عن عاصم، عن زِرِّ، عن ابن مسعود مرفوعا: « من أعان ظالما سلطه الله عليه » .

وهذا حديث غريب، وقال بعض الشعراء:

ومـا مِـن يَـد إلا يـدُ اللـه فوقهـا ولا ظـــالـم إلا سَــيُبلـى بظــالـم

ومعنى الآية الكريمة:كما ولينا هؤلاء الخاسرين من الإنس تلك الطائفة التي أغْوَتهم من الجن، كذلك نفعل بالظالمين، نسلط بعضهم على بعض، ونهلك بعضهم ببعض، وننتقم من بعضهم ببعض، جزاء على ظلمهم وبغيهم.

يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ( 130 )

وهذا أيضا مما يُقرع الله به سبحانه وتعالى كافري الجن والإنس يوم القيامة، حيث يسألهم - وهو أعلم - :هل بلغتهم الرسل رسالاته؟ وهذا استفهامُ تقرير: ( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ) أي:من جملتكم. والرسل من الإنس فقط، وليس من الجن رسل، كما [ قد ] نص على ذلك مجاهد، وابن جُرَيْج، وغير واحد من الأئمة، من السلف والخلف.

وقال ابن عباس:الرسل من بني آدم، ومن الجن نُذُر.

وحكى ابن جرير، عن الضحاك بن مُزاحم:أنه زعم أن في الجن رسلا واحتج بهذه الآية الكريمة وفي الاستدلال بها على ذلك نظر؛ لأنها محتملة وليست بصريحة، وهي - والله أعلم - كقوله [ تعالى ] مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ إلى أن قال: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [ الرحمن:19 - 22 ] ، ومعلوم أن اللؤلؤ والمرجان إنما يستخرج من الملح لا من الحلو. وهذا واضح، ولله الحمد. وقد نص هذا الجواب بعينه ابن جرير .

والدليل على أن الرسل إنما هم من الإنس قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [ وَأَوْحَيْنَا ] إلى أن قال: رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ [ بَعْدَ الرُّسُلِ ] [ النساء:163 - 165 ] ، وقال تعالى عن إبراهيم: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [ العنكبوت:27 ] ، فحصر النبوة والكتاب بعد إبراهيم في ذريته، ولم يقل أحد من الناس:إن النبوة كانت في الجن قبل إبراهيم الخليل [ عليه السلام ] ثم انقطعت عنهم ببعثته. وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ [ الفرقان:20 ] ، وقال [ تعالى ] : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [ يوسف:109 ] ، ومعلوم أن الجن تبع للإنس في هذا الباب؛ ولهذا قال تعالى إخبارًا عنهم: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنـزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [ الأحقاف:29 - 32 ] .

وقد جاء في الحديث - الذي رواه الترمذي وغيره - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا عليهم سورة الرحمن وفيها قوله تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [ الآيتان:31 ، 32 ] .

وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: ( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا ) أي:أقررنا أن الرسل قد بلغونا رسالاتك، وأنذرونا لقاءك، وأن هذا اليوم كائن لا محالة.

قال تعالى: ( وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ) أي:وقد فرطوا في حياتهم الدنيا، وهلكوا بتكذيبهم الرسل، ومخالفتهم للمعجزات، لما اغتروا به من زخرف الحياة الدنيا وزينتها وشهواتها، ( وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) أي:يوم القيامة ( أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ) أي:في الدنيا، بما جاءتهم به الرسل، صلوات الله وسلامه عليهم [ أجمعين ] .

ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ( 131 )

يقول تعالى: ( ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ) أي:إنما أعذرنا إلى الثقلين بإرسال الرسل وإنـزال الكتب، لئلا يعاقب أحد بظلمه، وهو لم تبلغه دعوة، ولكن أعذرنا إلى الأمم، وما عذبنا أحدًا إلا بعد إرسال الرسل إليهم، كما قال تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ [ فاطر:24 ] ، وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [ النحل:36 ] ، وقال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا [ الإسراء:15 ] ، وقال تعالى: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا [ الملك:8 ، 9 ] والآيات في هذا كثيرة.

وقال الإمام أبو جعفر بن جرير:ويحتمل قوله تعالى: ( بِظُلْمٍ ) وجهين:

أحدهما:ذلك من أجل أن ربك مهلك القرى بظلم أهلها بالشرك ونحوه، وهم غافلون، يقول:لم يكن يعاجلهم بالعقوبة حتى يبعث إليهم مَنْ ينبههم على حجج الله عليهم، وينذرهم عذاب الله يوم معادهم، ولم يكن بالذي يؤاخذهم غفلة فيقولوا: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ [ المائدة:19 ] .

والوجه الثاني:أن ( ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ ) يقول:لم يكن [ ربك ] ليهلكهم دون التنبيه والتذكير بالرسل والآيات والعبر، فيظلمهم بذلك، والله غير ظلام لعبيده.

ثم شرع يرجح الوجه الأول، ولا شك أنه أقوى، والله أعلم .

 

وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ( 132 )

وقال:وقوله: ( وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ) أي:ولكل عامل من طاعة الله أو معصيته منازل ومراتب من عمله يبلغه الله إياها، ويثيبه بها، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.

قلت:ويحتمل أن يعود قوله: ( وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ) [ أي ] من كافري الجن والإنس، أي:ولكل درجة في النار بحسبه، كقوله [ تعالى ] قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ [ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ ] [ الأعراف:38 ] ، وقوله: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [ النحل:88 ] .

( وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ) قال ابن جرير:أي وكل ذلك من عملهم، يا محمد، بعلم من ربك، يحصيها ويثبتها لهم عنده، ليجازيهم عليها عند لقائهم إياه ومعادهم إليه.

وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ( 133 ) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ( 134 ) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ( 135 )

يقول [ تعالى ] ( وَرَبُّكَ ) يا محمد ( الْغَنِيُّ ) أي:عن جميع خلقه من جميع الوجوه، وهم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، ( ذُو الرَّحْمَةِ ) أي:وهو مع ذلك رحيم بهم رؤوف، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [ البقرة:143 ] .

( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ) أي:إذا خالفتم أمره ( وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ ) أي:قوما آخرين، أي:يعملون بطاعته ، ( كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ) أي:هو قادر على ذلك، سهل عليه، يسير لديه، كما أذهب القرون الأوَل وأتى بالذي بعدها كذلك هو قادر على إذهاب هؤلاء والإتيان بآخرين، كما قال تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا [ النساء:133 ] ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [ فاطر:15 - 17 ] ، وقال تعالى: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [ محمد:38 ] .

وقال محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة قال:سمعت أبان بن عثمان يقول في هذه الآية: ( كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ) الذرية:الأصل، والذرية:النسل.

وقوله تعالى: ( إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) أي:أخبرهم يا محمد أن الذي يوعدون به من أمر المعاد كائن لا محالة، ( وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) أي:ولا تعجزون الله، بل هو قادر على إعادتكم، وإن صرتم ترابًا رفاتًا وعظامًا هو قادر لا يعجزه شيء.

وقال ابن أبي حاتم في تفسيرها:حدثنا أبي، حدثنا محمد بن المصفى، حدثنا محمد بن حمير، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي سعيد الخدُرْي، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « يا بني آدم، إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى. والذي نفسي بيده إنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين » .

وقوله تعالى: ( قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) هذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، أي:استمروا على طريقكم وناحيتكم إن كنتم تظنون أنكم على هدى، فأنا مستمر على طريقتي ومنهجي، كما قال تعالى: وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ [ هود:121 ، 122 ] .

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( عَلَى مَكَانَتِكُمْ ) أي:ناحيتكم.

( فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) أي:أتكون لي أو لكم. وقد أنجز موعده له، صلوات الله عليه، فإنه تعالى مكن له في البلاد، وحكمه في نواصي مخالفيه من العباد، وفتح له مكة، وأظهره على من كذبه من قومه وعاداه وناوأه، واستقر أمره على سائر جزيرة العرب، وكذلك اليمن والبحرين، وكل ذلك في حياته. ثم فتحت الأمصار والأقاليم والرساتيق بعد وفاته في أيام خلفائه، رضي الله عنهم أجمعين، كما قال الله تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [ المجادلة:21 ] ، وقال إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [ غافر:51 ، 52 ] ، وقال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [ الأنبياء:105 ] ، وقال تعالى إخبارًا عن رسله: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [ إبراهيم:13، 14 ] ، وقال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا الآية [ النور:55 ] ، وقد فعل الله [ تعالى ] ذلك بهذه الأمة، وله الحمد والمنة أولا وآخرًا، باطنًا وظاهرًا .

وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ( 136 )

هذا ذم وتوبيخ من الله للمشركين الذين ابتدعوا بدعًا وكفرًا وشركًا، وجعلوا لله جزءًا من خلقه، وهو خالق كل شيء سبحانه وتعالى عما يشركون؛ ولهذا قال تعالى: ( وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ ) أي:مما خلق وبرأ ( مِنَ الْحَرْثِ ) أي:من الزروع والثمار ( وَالأنْعَامِ نَصِيبًا ) أي:جزءا وقسما، ( فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا )

وقوله: ( فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ ) قال علي بن أبي طلحة، والعَوْفي، عن ابن عباس؛ أنه قال في تفسير هذه الآية:إن أعداء الله كانوا إذا حرثوا حرثًا، أو كانت لهم ثمرة، جعلوا لله منه جزءًا وللوثن جزءًا، فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه. وإن سقط منه شيء فيما سُمّي للصمد ردوه إلى ما جعلوه للوثن. وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن. فسقى شيئا جعلوه لله جعلوا ذلك للوثن. وإن سقط شيء من الحرث والثمرة الذي جعلوه لله، فاختلط بالذي جعلوه للوثن، قالوا:هذا فقير. ولم يردوه إلى ما جعلوه لله. وإن سبقهم الماء الذي جعلوه لله. فسقى ما سُمّي للوثن تركوه للوثن، وكانوا يحرمون من أموالهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، فيجعلونه للأوثان، ويزعمون أنهم يحرمونه لله، فقال الله عز وجل ( وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا ) الآية.

وهكذا قال مجاهد، وقتادة، والسدي، وغير واحد.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسيره:كل شيء جعلوه لله من ذبْح يذبحونه، لا يأكلونه أبدا حتى يذكروا معه أسماء الآلهة. وما كان للآلهة لم يذكروا اسم الله معه، وقرأ الآية حتى بلغ: ( سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) أي:ساء ما يقسمون، فإنهم أخطؤوا أولا في القسمة، فإن الله تعالى هو رب كل شيء ومليكه وخالقه، وله الملك، وكل شيء له وفي تصرفه وتحت قدرته ومشيئته، لا إله غيره، ولا رب سواه. ثم لما قسموا فيما زعموا لم يحفظوا القسمة التي هي فاسدة، بل جاروا فيها، كما قال تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [ النحل:57 ] ، وقال تعالى: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ [ الزخرف:15 ] ، وقال تعالى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [ النجم:21 ، 22 ] .

وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ( 137 )

يقول تعالى:وكما زينت الشياطين لهؤلاء المشركين أن يجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا، كذلك زينوا لهم قتل أولادهم خشية الإملاق، ووأد البنات خشية العار.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم:زينوا لهم قتل أولادهم.

وقال مجاهد: ( شُرَكَاؤُهُمْ ) شياطينهم، يأمرونهم أن يئدوُا أولادهم خشية العَيْلة. وقال السدي:أمرتهم الشياطين أن يقتلوا البنات. وإما ( لِيُرْدُوهُمْ ) فيهلكوهم، وإما ( لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ) أي:فيخلطون عليهم دينهم.

ونحو ذلك قال قتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.

وهذا كقوله تعالى: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ [ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ] [ النحل:58 ، 59 ] ، وقال تعالى: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [ التكوير:8 ، 9 ] . وقد كانوا أيضا يقتلون الأولاد من الإملاق، وهو:الفقر، أو خشية الإملاق أن يحصل لهم في تاني المال وقد نهاهم [ الله ] عن قتل أولادهم لذلك وإنما كان هذا كله من شرع الشيطان تزيينه لهم ذلك.

قال تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ ) أي:كل هذا واقع بمشيئته تعالى وإرادته واختياره لذلك كونًا، وله الحكمة التامة في ذلك، فلا يسأل عما يفعل وهم يُسألون. ( فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ) أي:فدعهم واجتنبهم وما هم فيه، فسيحكم الله بينك وبينهم.

 

وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 138 )

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « الحجْرُ » :الحرام، مما حرموا الوصيلة، وتحريم ما حرموا.

وكذلك قال مجاهد، والضحاك، والسُّدِّي، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.

وقال قتادة: ( وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ ) الآية:تحريم كان عليهم من الشياطين في أموالهم، وتغليظ وتشديد، وكان ذلك من الشياطين، ولم يكن من الله تعالى.

وقال ابن زيد بن أسلم: ( حِجْرٌ ) إنما احتجزوها لآلهتهم.

وقال السدي: ( لا يَطْعَمُهَا إِلا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ ) يقولون:حرام أن نطعم إلا من شئنا.

وهذه الآية الكريمة كقوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [ يونس:59 ] ، وكقوله تعالى: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [ المائدة:103 ] .

وقال السدي:أما ( وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا ) فهي البحيرة والسائبة والحام، وأما الأنعام التي لا يذكرون اسم الله عليها قال:إذا أولدوها، ولا إن نحروها.

وقال أبو بكر بن عَيَّاش، عن عاصم بن أبي النَّجُود قال لي أبو وائل:تدري ما في قوله: ( وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا ) ؟ قلت:لا. قال:هي البحيرة، كانوا لا يحجون عليها.

وقال مجاهد:كان من إبلهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها [ ولا ] في شيء من شأنها، لا إن ركبوا، ولا إن حلبوا، ولا إن حملوا، ولا إن سحبوا ولا إن عملوا شيئا .

( افْتِرَاءً عَلَيْهِ ) أي:على الله، وكذبا منهم في إسنادهم ذلك إلى دين الله وشرعه؛ فإنه لم يأذن لهم في ذلك ولا رَضيه منهم ( سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) أي:عليه، ويُسْندون إليه.

وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( 139 )

قال أبو إسحاق السبيعي، عن عبد الله بن أبي الهُذَيل، عن ابن عباس: ( وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا ) الآية، قال:اللبن.

وقال العوفي، عن ابن عباس: ( وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا ) [ الآية ] :فهو اللبن، كانوا يحرمونه على إناثهم، ويشربه ذكرانهم. وكانت الشاة إذا ولدت ذكرًا ذبحوه، وكان للرجال دون النساء. وإن كانت أنثى تركت فلم تذبح، وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء. فنهى الله عن ذلك. وكذا قال السُّدِّي.

وقال الشعبي: « البحيرة » لا يأكل من لبنها إلا الرجال، وإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء، وكذا قال عِكْرِمة، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.

وقال مجاهد في قوله: ( وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا ) قال:هي السائبة والبحيرة.

وقال أبو العالية، ومجاهد، وقتادة [ في قول ] ( سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ ) أي:قولهم الكذب في ذلك، يعني قوله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ الآية [ النحل:116 ، 117 ] .

إنه ( حَكِيمٌ ) أي:في أفعاله وأقواله وشرعه وقدره، ( عَلِيمٌ ) بأعمال عباده من خير وشر، وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء.

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ( 140 )

يقول تعالى:قد خسر الذين فعلوا هذه الأفعال في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فخسروا أولادهم بقتلهم، وضيقوا عليهم في أموالهم، فحرموا أشياء ابتدعوها من تلقاء أنفسهم، وأما في الآخرة فيصيرون إلى شر المنازل بكذبهم على الله وافترائهم، كما قال تعالى:إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [ يونس:69 ، 70 ] .

وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه في تفسير هذه الآية:حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن أيوب، حدثنا عبد الرحمن بن المبارك، حدثنا أبو عَوَانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس، رضي الله عنهما قال:إذا سَرَّك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام، ( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ )

وهكذا رواه البخاري منفردًا في كتاب « مناقب قريش » من صحيحه، عن أبي النعمان محمد بن الفضل عارم، عن أبي عوَانة - واسمه الوَضَّاح بن عبد الله اليَشْكُرِي - عن أبي بشر - واسمه جعفر بن أبي وَحْشِيَّة بن إياس، به .

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ( 141 ) وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ( 142 )

يقول تعالى بيانا لأنه الخالق لكل شيء، من الزروع والثمار والأنعام التي تصرف فيها المشركون بآرائهم الفاسدة وقسَّموها وجَزَّءوها، فجعلوا منها حرامًا وحلالا فقال: ( وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ )

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( مَعْرُوشَاتٍ ) مسموكات. وفي رواية: « المعروشات » :معروشات ما عرش الناس، ( وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ) ما خرج في البر والجبال من الثمرات.

وقال عطاء الخراساني، عن ابن عباس: ( مَعْرُوشَاتٍ ) ما عرش من الكرم ( وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ) ما لم يعرش من الكرم. وكذا قال السدي.

وقال ابن جُرَيْج: ( مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ) قال:متشابه في المنظر، وغير متشابه في الطعم.

وقال محمد بن كَعْب: ( كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ ) قال:من رطبه وعنَبه.

وقوله تعالى: ( وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ) قال ابن جرير:قال بعضهم:هي الزكاة المفروضة.

حدثنا عمرو، حدثنا عبد الصمد، حدثنا يزيد بن درهم قال:سمعت أنس بن مالك يقول: ( وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ) قال:الزكاة المفروضة.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ) يعني:الزكاة المفروضة، يوم يُكَال ويعلم كيله. وكذا قال سعيد بن المسيب.

وقال العَوْفي، عن ابن عباس: ( وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ) وذلك أن الرجل كان إذا زرع فكان يوم حصاده، لم يخرج مما حصد شيئًا فقال الله: ( وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ) وذلك أن يعلم ما كيله وحقه، من كل عشرة واحدًا، ما يَلْقُط الناس من سنبله.

وقد روى الإمام أحمد وأبو داود في سننه من حديث محمد بن إسحاق:حدثني محمد بن يحيى ابن حبَّان، عن عمه واسع بن حبان، عن جابر بن عبد الله؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمَرَ من كُل جاد عَشْرَة أوسُق من التمر، بقنْو يعلق في المسجد للمساكين وهذا إسناده جيد قوي.

وقال طاوس، وأبو الشعثاء، وقتادة، والحسن، والضحاك، وابن جُرَيْج:هي الزكاة.

وقال الحسن البصري:هي الصدقة من الحب والثمار، وكذا قال زيد بن أسلم.

وقال آخرون:هو حق آخر سوى الزكاة.

وقال أشعث، عن محمد بن سِيرين، ونافع، عن ابن عمر في قوله: ( وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ) قال:كانوا يعطون شيئا سوى الزكاة. رواه ابن مردويه. وروى عبد الله بن المبارك وغيره. عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء بن أبي رباح في قوله: ( وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ) قال:يعطي من حضره يومئذ ما تيسر، وليس بالزكاة.

وقال مجاهد:إذا حضرك المساكين، طرحت لهم منه.

وقال عبد الرزاق، عن ابن عيينة عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد ( وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ) قال:عند الزرع يعطي القبض، وعند الصرام يعطي القبض، ويتركهم فيتبعون آثار الصرام.

وقال الثوري، عن حماد، عن إبراهيم [ النخعي ] قال:يعطي مثل الضغث.

وقال ابن المبارك، عن شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير ( وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ) قال:كان هذا قبل الزكاة:للمساكين، القبضة الضغث لعلف دابته.

وفي حديث ابن لَهِيعة، عن دَرَّاج، عن أبي الهيثم، عن سعيد مرفوعًا: ( وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ) قال:ما سقط من السنبل. رواه ابن مَرْدُويه .

وقال آخرون:هذا كله شيء كان واجبًا، ثم نسخه الله بالعشر ونصف العشر. حكاه ابن جرير عن ابن عباس، ومحمد بن الحنفية، وإبراهيم النخعي، والحسن، والسدي، وعطية العَوْفي. واختاره ابن جرير، رحمه الله.

قلت:وفي تسمية هذا نسخًا نظر؛ لأنه قد كان شيئًا واجبًا في الأصل، ثم إنه فصل بيانه وبَيَّن مقدار المخرج وكميته. قالوا:وكان هذا في السنة الثانية من الهجرة، فالله أعلم.

وقد ذم الله سبحانه الذين يصومون ولا يتصدقون، كما ذكر عن أصحاب الجنة في سورة « ن » : إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ أي:كالليل المدلهم سوداء محترقة فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ * فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ أي:قوة وجلد وهمة قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ * كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [ القلم:17- 33 ] .

وقوله: ( وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) قيل:معناه:ولا تسرفوا في الإعطاء، فتعطوا فوق المعروف.

وقال أبو العالية:كانوا يعطون يوم الحصاد شيئًا، ثم تباروا فيه وأسرفوا، فأنـزل الله: ( وَلا تُسْرِفُوا )

وقال ابن جُرَيْج نـزلت في ثابت بن قَيْس بن شَمَّاس، جذَّ نخلا. فقال:لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته. فأطعم حتى أمسى وليست له ثمرة، فأنـزل الله: ( وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) رواه ابن جرير، عنه.

وقال ابن جريج، عن عطاء:ينهى عن السرف في كل شيء.

وقال إياس بن معاوية:ما جاوزت به أمر الله فهو سرف.

وقال السدي في قوله: ( وَلا تُسْرِفُوا ) قال:لا تعطوا أموالكم، فتقعدوا فقراء.

وقال سعيد بن المسيب ومحمد بن كعب، في قوله: ( وَلا تُسْرِفُوا ) قال:لا تمنعوا الصدقة فتعصوا.

ثم اختار ابن جرير قول عطاء:إنه نَهْيٌ عن الإسراف في كل شيء. ولا شك أنه صحيح، لكن الظاهر - والله أعلم - من سياق الآية حيث قال تعالى: ( كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا [ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ] ) أن يكون عائدًا على الأكل، أي:ولا تسرفوا في الأكل لما فيه من مضرة العقل والبدن، كما قال تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ] [ الأعراف:31 ] ، وفي صحيح البخاري تعليقًا: « كلوا واشربوا، والبسوا وتصدقوا، في غير إسراف ولا مخيلة » وهذا من هذا، والله أعلم.

وقوله: ( وَمِنَ الأنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا ) أي:وأنشأ لكم من الأنعام ما هو حمولة وما هو فرش، قيل:المراد بالحمولة ما يحمل عليه من الإبل، والفرش الصغار منها. كما قال الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله في قوله: ( حَمُولَةً ) ما حمل عليه من الإبل، ( وَفَرْشًا ) وقال:الصغار من الإبل.

رواه الحاكم، وقال:صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

وقال ابن عباس:الحمولة:الكبار، والفرش [ هي ] الصغار من الإبل. وكذا قال مجاهد.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( وَمِنَ الأنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا ) فأما الحمولة فالإبل والخيل والبغال والحمير وكل شيء يحمل عليه، وأما الفرش فالغنم.

واختاره ابن جرير، قال:وأحسبه إنما سمي فرشًا لدنوه من الأرض.

وقال الربيع بن أنس، والحسن، والضحاك، وقتادة:الحمولة:الإبل والبقر، والفرش:الغنم.

وقال السدي:أما الحمولة فالإبل، وأما الفرش فالفُصْلان والعَجَاجيل والغنم، وما حمل عليه فهو حمولة.

قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:الحمولة ما تركبون، والفرش ما تأكلون وتحلبون، شاة لا تحمل، تأكلون لحمها وتتخذون من صوفها لحافًا وفرشا .

وهذا الذي قاله عبد الرحمن في تفسير هذه الآية الكريمة حسن يشهد له قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ [ يس:71 ، 72 ] ، وقال تعالى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ * [ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ ] إلى أن قال: وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ [ النحل:69 - 80 ] ، وقال تعالى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ * وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ [ غافر:79 - 81 ] .

وقوله تعالى: ( كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ) أي:من الثمار والزروع والأنعام، فكلها خلقها الله [ تعالى ] وجعلها رزقًا لكم، ( وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ) أي:طرائقه وأوامره، كما اتبعها المشركون الذين حرموا ما رزقهم الله، أي:من الثمار والزروع افتراء على الله، ( إِنَّهُ لَكُمْ ) أي:إن الشيطان - أيها الناس - لكم ( عَدُوٌّ مُبِينٌ ) أي:بَيِّن ظاهر العداوة، كما قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [ فاطر:6 ] ، وقال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا الآية، [ الأعراف:27 ] ، وقال تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا [ الكهف:50 ] . والآيات في هذا كثيرة في القرآن.

 

ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 143 ) وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 144 )

وهذا بيان لجهل العرب قبل الإسلام فيما كانوا حَرّموا من الأنعام، وجعلوها أجزاءً وأنواعًا:بحيرة، وسائبة، ووصيلة وحامًا، وغير ذلك من الأنواع التي ابتدعوها في الأنعام والزروع والثمار، فبين أنه تعالى أنشأ جنات معروشات وغير معروشات، وأنه أنشأ من الأنعام حمولة وفرشا. ثم بين أصناف الأنعام إلى غنم وهو بياض وهو الضأن، وسواد وهو المعز، ذكره وأنثاه، وإلى إبل ذكورها وإناثها، وبقر كذلك. وأنه تعالى لم يحرم شيئًا من ذلك ولا شيئًا من أولاده. بل كلها مخلوقة لبني آدم، أكلا وركوبًا، وحمولة، وحلبا، وغير ذلك من وجوه المنافع، كما قال [ تعالى ] وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ الآية [ الزمر:6 ] .

وقوله: ( أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنْثَيَيْنِ ) رَدٌ عليهم في قولهم: مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا

وقوله: ( نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) أي:أخبروني عن يقين:كيف حرم الله عليكم ما زعمتم تحريمه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك؟

وقال العَوْفي عن ابن عباس قوله: ( ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ) فهذه أربعة أزواج، ( وَمِنَ الإبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنْثَيَيْنِ ) يقول:لم أحرم شيئًا من ذلك ( [ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنْثَيَيْنِ ] ) يعني:هل يشمل الرحم إلا على ذكر أو أنثى فلم تحرمون بعضا وتحلون بعضا؟ ( نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) يقول:كله حلال.

وقوله: ( أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا ) تهكم بهم فيما ابتدعوه وافتروه على الله، من تحريم ما حرموه من ذلك، ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) أي:لا أحد أظلم منه، ( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )

وأول من دخل في هذه الآية:عمرو بن لُحَيّ بن قَمَعَة، فإنه أول من غير دين الأنبياء، وأول من سيب السوائب، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي، كما ثبت ذلك في الصحيح .

قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 145 )

يقول تعالى آمرًا عبده ورسوله محمدًا، صلوات الله وسلامه عليه:قل لهؤلاء الذين حرموا ما رزقهم الله افتراء على الله: ( لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ ) أي:آكل يأكله. قيل:معناه:لا أجد شيئًا مما حرمتم حرامًا سوى هذه. وقيل:معناه:لا أجد من الحيوانات شيئًا حرامًا سوى هذه. فعلى هذا يكون ما ورد من التحريمات بعد هذا في سورة « المائدة » ، وفي الأحاديث الواردة، رافعًا لمفهوم هذه الآية.

ومن الناس من يسمي ذلك نسخًا، والأكثرون من المتأخرين لا يسمونه نسخًا؛ لأنه من باب رفع مباح الأصل، والله أعلم.

قال العَوْفي، عن ابن عباس: ( أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا ) يعني:المهراق.

قال عِكْرِمة في قوله: ( أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا ) لولا هذه الآية لتتبع الناس ما في العُرُوق، كما تتبعه اليهود.

وقال حماد، عن عمران بن حُدَير قال:سألت أبا مِجْلَز عن الدم، وما يتلطخ من الذبح من الرأس، وعن القِدْر يُرَى فيها الحمرة، فقال:إنما نهى الله عن الدم المسفوح.

وقال قتادة:حرم من الدماء ما كان مسفوحًا، فأما لحم خالطه دم فلا بأس به.

وقال ابن جرير:حدثنا المثنى، حدثنا حجاج بن مِنْهال، حدثنا حماد، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم، عن عائشة:أنها كانت لا ترى بلحوم السباع بأسًا، والحمرة والدم يكونان على القدر بأسًا، وقرأت هذه الآية. صحيح غريب .

وقال الحميدي:حدثنا سفيان، حدثنا عمرو بن دينار قال:قلت لجابر بن عبد الله:إنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر، فقال:قد كان يقول ذلك « الحَكَمُ بنُ عَمْرو » عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبى ذلك الحبر - يعني ابن عباس - وقرأ: ( قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا ) الآية.

وهكذا رواه البخاري عن علي بن المديني، عن سفيان، به. وأخرجه أبو داود من حديث ابن جُرَيْج، عن عمرو بن دينار. ورواه الحاكم في مستدركه مع أنه في صحيح البخاري، كما رأيت .

وقال أبو بكر بن مَرْدُوَيه والحاكم في مستدركه:حدثنا محمد بن على بن دُحَيم، حدثنا أحمد بن حازم، حدثنا أبو نُعَيم الفضل بن دُكَيْن، حدثنا محمد بن شريك، عن عمرو بن دينار، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس قال:كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا، فبعث الله نبيه وأنـزل كتابه، وأحل حلاله وحرم حرامه، فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، وتلا هذه الآية: ( قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ [ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا ] ) إلى آخر الآية.

وهذا لفظ ابن مَرْدُوَيه. ورواه أبو داود منفردًا به، عن محمد بن داود بن صبيح، عن أبي نعيم به. وقال الحاكم:هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه .

وقال الإمام أحمد:حدثنا عفان، حدثنا أبو عَوَانة، عن سِمَاك بن حرب، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال:ماتت شاة لسَوْدَة بنت زَمْعَة، فقالت:يا رسول الله، ماتت فلانة - تعني الشاة - قال: « فلم لا أخذتم مَسْكها؟ » . قالت:نأخذ مَسْك شاة قد ماتت؟! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنما قال الله: ( قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنـزيرٍ ) وإنكم لا تطعمونه، أن تدبغوه فتنتفعوا به » . فأرسلت فسلخت مسكها فدبغته، فاتخذت منه قربة، حتى تخرقت عندها .

ورواه البخاري والنسائي، من حديث الشعبي، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس، عن سودة بنت زمعة، بذلك أو نحوه .

وقال سعيد بن منصور:حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن عيسى بن نُميلَة الفزاري، عن أبيه قال:كنت عند ابن عمر، فسأله رجل عن أكل القنفذ، فقرأ عليه: ( قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ [ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنـزيرٍ ] ) الآية، فقال شيخ عنده:سمعت أبا هريرة يقول:ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: « خبيث من الخبائث » . فقال ابن عمر:إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو كما قال.

ورواه أبو داود، عن أبي ثور، عن سعيد بن منصور، به .

وقوله تعالى: ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ ) أي:فمن اضطر إلى أكل شيء مما حُرّم في هذه الآية الكريمة، وهو غير متلبس ببغي ولا عدوان، ( فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) أي:غفور له، رحيم به.

وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة بما فيه كفاية.

والمقصود من سياق هذه الآية الكريمة الرد على المشركين الذين ابتدعوا ما ابتدعوه، من تحريم المحرمات على أنفسهم بآرائهم الفاسدة من البَحِيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك، فأمر [ الله ] رسوله أن يخبرهم أنه لا يجد فيما أوحاه الله إليه أن ذلك محرم، وإنما حُرِّم ما ذكر في [ هذه ] الآية، من الميتة، والدم المسفوح، ولحم الخنـزير، وما أهل لغير الله به. وما عدا ذلك فلم يحرم، وإنما هو عفو مسكوت عنه، فكيف تزعمون [ أنتم ] أنه حرام، ومن أين حرمتموه ولم يحرمه [ الله ] ؟ وعلى هذا فلا يبقى تحريم أشياء أخر فيما بعد هذا، كما جاء النهي عن لحوم الحمر ولحوم السباع، وكل ذي مخلب من الطير، على المشهور من مذاهب العلماء.

وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ( 146 )

قال ابن جرير:يقول تعالى:وحرمنا على اليهود ( كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ) وهو البهائم والطير ما لم يكن مشقوق الأصابع، كالإبل والنعام والأوز والبط. قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ) وهو البعير والنعامة. وكذا قال مجاهد، والسُّدِّي في رواية .

وقال سعيد بن جُبَيْر:هو الذي ليس بمنفرج الأصابع، وفي رواية عنه:كل شيء متفرق الأصابع، ومنه الديك.

وقال قتادة في قوله: ( وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ) وكان يقال:البعير والنعامة وأشياء من الطير والحيتان. وفي رواية:البعير والنعامة، وحرم عليهم من الطير:البط وشبهه، وكل شيء ليس بمشقوق الأصابع.

وقال ابن جُرَيْج:عن مجاهد: ( كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ) قال:النعامة والبعير، شقا شقا. قلت للقاسم بن أبي بَزَّة وحدثنيه:ما « شقا شقًا » ؟ قال:كل ما لا يفرج من قول البهائم. قال:وما انفرج أكلته اليهود قال:انفرجت قوائم البهائم والعصافير، قال:فيهود تأكلها. قال:ولم تنفرج قائمة البعير، خفه، ولا خف النعامة ولا قائمة الوز، فلا تأكل اليهود الإبل ولا النعام ولا الوز، ولا كل شيء لم تنفرج قائمته، ولا تأكل حمار وَحْش.

وقوله: ( وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا ) قال السُّدِّي: [ يعني ] الثَرْب وشحم الكليتين. وكانت اليهود تقول :إنه حرمه إسرائيل فنحن نحرمه. وكذا قال ابن زيد.

وقال قتادة:الثرب وكل شحم كان كذلك ليس في عظم.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا ) يعني:ما عَلِق بالظهر من الشحوم.

وقال السُّدِّي وأبو صالح:الألية، مما حملت ظهورهما.

وقوله: ( أَوِ الْحَوَايَا ) قال الإمام أبو جعفر بن جرير: ( الْحَوَايَا ) جمع، واحدها حاوياء، وحاوية وحَوِيَّة وهو ما تَحَوي من البطن فاجتمع واستدار، وهي بنات اللبن، وهي « المباعر » ، وتسمى « المرابض » ، وفيها الأمعاء.

قال:ومعنى الكلام:ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما، إلا ما حملت ظهورهما، أو ما حملت الحوايا .

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( أَوِ الْحَوَايَا ) وهي المبعر.

وقال مجاهد: ( الْحَوَايَا ) المبعر، والمربض. وكذا قال سعيد بن جبير، والضحاك، وقتادة، وأبو مالك، والسُّدِّي.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ( الْحَوَايَا ) المرابض التي تكون فيها الأمعاء، تكون وسطها، وهي بنات اللبن، وهي في كلام العرب تدعى المرابض.

وقوله تعالى: ( أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ) أي:وإلا ما اختلط من الشحوم بالعظام فقد أحللناه لهم.

وقال ابن جُرَيْج:شحم الألية اختلط بالعُصْعُص، فهو حلال. وكل شيء في القوائم والجنب والرأس والعين وما اختلط بعظم، فهو حلال، ونحوه قال السُّدِّي.

وقوله تعالى: ( ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ ) أي:هذا التضييق إنما فعلناه بهم وألزمناهم به، مجازاة لهم على بغيهم ومخالفتهم أوامرنا، كما قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا [ النساء:160 ] .

وقوله: ( وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ) أي:وإنا لعادلون فيما جزيناهم به.

وقال ابن جرير:وإنا لصادقون فيما أخبرناك به يا محمد من تحريمنا ذلك عليهم، لا كما زعموا من أن إسرائيل هو الذي حرمه على نفسه، والله أعلم.

وقال عبد الله بن عباس:بلغ عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أن سَمُرَة باع خمرًا، فقال:قاتل الله سمرة! ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها » .

أخرجاه من حديث سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس، عن عمر، به.

وقال الليث:حدثني يزيد بن أبي حبيب قال:قال عطاء بن أبي رباح:سمعت جابر بن عبد الله يقول:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح: « إن الله ورسوله حَرّم بيع الخمر والميتة والخنـزير والأصنام » . فقيل:يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنه يدهن بها الجلود ويُطلى بها السفن، ويَسْتَصبِح بها الناس. فقال: « لا هو حرام » . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: « قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم عليهم شحومها جَمَلوه، ثم باعوه وأكلوا ثمنه » .

رواه الجماعة من طرق، عن يزيد بن أبي حبيب، به .

وقال الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « قاتل الله اليهود ! حرمت عليهم الشحوم، فباعوها وأكلوا ثمنه » .

ورواه البخاري ومسلم جميعًا، عن عبدان، عن ابن المبارك، عن يونس، عن الزهري، به .

وقال ابن مَرْدُوَيه:حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم، حدثنا إسماعيل بن إسحاق، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا وُهَيْب، حدثنا خالد الحَذَّاء، عن بركة أبي الوليد، عن ابن عباس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قاعدا خلف المقام، فرفع بصره إلى السماء فقال: « لعن الله اليهود - ثلاثًا - إن الله حرم عليهم الشحوم، فباعوها وأكلوا ثمنها، إن الله لم يحرم على قوم أكل شيء إلا حرم عليهم ثمنه » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا علي بن عاصم، أنبأنا خالد الحذاء، عن بركة أبي الوليد، أنبأنا ابن عباس قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدًا في المسجد مستقبلا الحِجْر، فنظر إلى السماء فضحك، ثم قال: « لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه » .

ورواه أبو داود، من حديث خالد الحذاء .

وقال الأعمش، عن جامع بن شَدَّاد، عن كلثوم، عن أسامة بن زيد قال:دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مريض نعوده، فوجدناه نائما قد غطى وجهه ببرد عَدني، فكشف عن وجهه وقال :لعن الله اليهود يحرمون شحوم الغنم ويأكلون أثمانها « ، وفي رواية: » حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها « .»

 

فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ( 147 )

يقول تعالى:فإن كذّبك - يا محمد - مخالفوك من المشركين واليهود ومن شابههم، فقل: ( رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ ) وهذا ترغيب لهم في ابتغاء رحمة الله الواسعة، واتباع رسوله، ( وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ) ترهيب لهم من مخالفتهم الرسول خاتم النبيين. وكثيرًا ما يقرن الله تعالى بين الترغيب والترهيب في القرآن، كما قال تعالى في آخر هذه السورة: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [ الآية:165 ] ، وقال وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ [ الرعد:6 ] ، وقال تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [ الحجر:49 ، 50 ] ، وقال تعالى: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ [ غافر:3 ] ، وقال [ تعالى ] : إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ [ البروج:12 - 14 ] ، والآيات في هذا كثيرة جدًا.

سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ ( 148 ) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ( 149 ) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ( 150 )

هذه مناظرة ذكرها الله تعالى وشبهة تشبثت بها المشركون في شركهم وتحريم ما حرموا؛ فإن الله مطلع على ما هم فيه من الشرك والتحريم لما حرموه، وهو قادر على تغييره بأن يلهمنا الإيمان، أو يحول بيننا وبين الكفر، فلم يغيره، فدل على أنه بمشيئته وإرادته ورضاه منا ذلك؛ ولهذا قال: ( لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ ) كما في قوله [ تعالى ] : وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ [ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ ] [ الزخرف:20 ] ، وكذلك التي في « النحل » مثل هذه سواء قال الله تعالى: ( كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) أي:بهذه الشبهة ضل من ضل قبل هؤلاء. وهي حجة داحضة باطلة؛ لأنها لو كانت صحيحة لما أذاقهم الله بأسه، ودمر عليهم، وأدال عليهم رسله الكرام، وأذاق المشركين من أليم الانتقام.

( قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ ) أي:بأن الله [ تعالى ] راض عنكم فيما أنتم فيه ( فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ) أي:فتظهروه لنا وتبينوه وتبرزوه، ( إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ ) أي:الوهم والخيال. والمراد بالظن هاهنا:الاعتقاد الفاسد. ( وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ ) أي:تكذبون على الله فيما ادعيتموه.

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ] : ( لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا ) وقال ( كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) ثُمَّ قَالَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا [ الأنعام:107 ] ، فإنهم قالوا:عبادتنا الآلهة تقربنا إلى الله زُلْفَى فأخبرهم الله أنها لا تقربهم، وقوله: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا ، يقول تعالى:لو شئت لجمعتهم على الهدى أجمعين.

وقوله تعالى: ( قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) يقول [ تعالى ] لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ ) لهم - يا محمد: ( فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ) أي:له الحكمة التامة، والحجة البالغة في هداية من هَدى، وإضلال من أضل، ( فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) وكل ذلك بقدرته ومشيئته واختياره، وهو مع ذلك يرضى عن المؤمنين ويُبْغض الكافرين، كما قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى [ الأنعام:35 ] ، وقال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ [ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ] . [ يونس:99 ] ، وقوله وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [ هود:118 ، 119 ] .

قال الضحاك:لا حجة لأحد عصى الله، ولكن لله الحجة البالغة على عباده.

وقوله تعالى: ( قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ ) أي:أحضروا شهداءكم ( الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا ) أي:هذا الذي حرمتموه وكذبتم وافتريتم على الله فيه، ( فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ ) أي:لأنهم إنما يشهدون والحالة هذه كذبًا وزورًا، ( وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ) أي:يشركون به، ويجعلون له عديلا.

قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( 151 )

قال داود الأوْدِي، عن الشعبي، عن علَقْمَة، عن ابن مسعود، رضي الله عنه، قال:من أراد أن يقرأ صحيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه، فليقرأ هؤلاء الآيات: ( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ) إلى قوله: ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )

وقال الحاكم في مستدركه:حدثنا بكر بن محمد الصيرفي بمرو، حدثنا عبد الصمد بن الفضل، حدثنا مالك بن إسماعيل النَّهدي، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة قال:سمعت ابن عباس يقول:في الأنعام آيات محكمات هن أم الكتاب، ثم قرأ: ( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ] ) .

ثم قال:صحيح الإسناد، ولم يخرجاه .

قلت:ورواه زُهَيْر وقيس بن الربيع كلاهما عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن قيس، عن ابن عباس، به. والله أعلم.

وروى الحاكم أيضًا في مستدركه من حديث يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن أبي إدريس، عن عبادة بن الصامت قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أيكم يبايعني على ثلاث؟ » - ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ) حتى فرغ من الآيات - فمن وفى فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئًا فأدركه الله به في الدنيا كانت عقوبته ومن أخر إلى الآخرة فأمره إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه « . »

ثم قال:صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وإنما اتفقا على حديث الزهري، عن أبي إدريس، عن عبادة: « بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا » الحديث. وقد روى سفيان بن حُسَين كلا الحديثين، فلا ينبغي أن ينسب إلى الوهم في أحد الحديثين إذا جمع بينهما، والله أعلم .

وأما تفسيرها فيقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم:قل يا محمد - لهؤلاء المشركين الذين [ أشركوا و ] عبدوا غير الله، وحرموا ما رزقهم الله، وقتلوا أولادهم وكل ذلك فعلوه بآرائهم وتسويل الشياطين لهم، ( قُلْ ) لهم ( تَعَالَوْا ) أي:هلموا وأقبلوا: ( أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ) أي:أقص عليكم وأخبركم بما حرم ربكم عليكم حقًا لا تخرصًا، ولا ظنًا، بل وحيًا منه وأمرًا من عنده: ( أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ) وكأن في الكلام محذوفًا دل عليه السياق، وتقديره:وأوصاكم أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ؛ ولهذا قال في آخر الآية: ( ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) وكما قال الشاعر:

حَــجَّ وأوصَــى بسُـلَيمى الأعْبُـدَا أنْ لا تَـــرَى ولا تُكَـــلِّم أحَــدا

ولا يَزَلْ شَرَابُها مُبَرَّدا .

وتقول العرب:أمرتك ألا تقوم.

وفي الصحيحين من حديث أبي ذر، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أتاني جبريل فبشرني أنه من مات لا يشرك بالله شيئًا من أمتك، دخل الجنة. قلت:وإن زنا وإن سرق؟ قال:وإن زنا وإن سرق. قلت:وإن زنا وإن سرق؟ قال:وإن زنا وإن سرق. قلت:وإن زنا وإن سرق؟ قال:وإن زنا وإن سرق، وإن شرب الخمر » :وفي بعض الروايات أن القائل ذلك إنما هو أبو ذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه، عليه السلام، قال في الثالثة: « وإن رغم أنفُ أبي ذر » فكان أبو ذر يقول بعد تمام الحديث:وإن رغم أنف أبي ذر.

وفي بعض المسانيد والسنن عن أبي ذر [ رضي الله عنه ] قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يقول الله تعالى:يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني فإني أغفر لك على ما كان منك ولا أبالي، ولو أتيتني بقراب الأرض خطيئة أتيتك بقرابها مغفرة ما لم تشرك بي شيئا، وإن أخطأت حتى تبلغ خطاياك عَنَان السماء ثم استغفرتني، غفرت لك » .

ولهذا شاهد في القرآن، قال الله تعالى : إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [ النساء:48 ، 116 ] .

وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود: « من مات لا يشرك بالله شيئًا، دخل الجنة » والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جدًا.

وروى ابن مَرْدُوَيه من حديث عبادة وأبي الدرداء: « لا تشركوا بالله شيئًا، وإن قُطِّعتم أو صُلِّبتم أو حُرِّقتم » .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن عَوْف الحِمْصي، حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا نافع بن يزيد حدثني سيار بن عبد الرحمن، عن يزيد بن قَوْذر، عن سلمة بن شُرَيح، عن عبادة بن الصامت قال:أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع خصال: « ألا تشركوا بالله شيئًا، وإن حرقتم وقطعتم وصلبتم » .

وقوله تعالى: ( وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) أي:وأوصاكم وأمركم بالوالدين إحسانا، أي:أن تحسنوا إليهم، كما قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [ الإسراء:23 ] .

وقرأ بعضهم: « ووصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا » .

والله تعالى كثيرًا ما يقرن بين طاعته وبر الوالدين، كما قال: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [ لقمان:14 ، 15 ] . فأمر بالإحسان إليهما، وإن كانا مشركين بحسبهما، وقال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا الآية. [ البقرة:83 ] . والآيات في هذا كثيرة. وفي الصحيحين عن ابن مسعود، رضي الله عنه، قال:سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم:أي العمل أحب إلى الله؟ قال: « الصلاة على وقتها » . قلت:ثم أيّ؟ قال: « بر الوالدين » . قلت:ثم أيّ؟ قال: « الجهاد في سبيل الله » . قال ابن مسعود:حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني .

وروى الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه بسنده عن أبي الدرداء، وعن عبادة بن الصامت، كل منهما يقول:أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم: « أطع والديك، وإن أمراك أن تخرج لهما من الدنيا، فافعل » .

ولكن في إسناديهما ضعف، والله أعلم.

وقوله تعالى: ( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) لما أوصى تعالى ببر الآباء والأجداد، عطف على ذلك الإحسان إلى الأبناء والأحفاد، فقال تعالى: ( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ ) وذلك أنهم كانوا يقتلون أولادهم كما سَوَّلت لهم الشياطين ذلك، فكانوا يئدون البنات خَشْيَة العار، وربما قتلوا بعض الذكور خيفةَ الافتقار؛ ولهذا جاء في الصحيحين، من حديث عبد الله ابن مسعود، رضي الله عنه، قلت:يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: « أن تجعل لله ندّا وهو خلَقَكَ » . قلت:ثم أيّ؟ قال: « أن تقتل ولدك خشية أن يَطْعَم معك » . قلت:ثم أيّ؟ قال: « أن تُزَاني حليلة جارك » . ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ] [ الفرقان:68 ] .

وقوله: ( مِنْ إِمْلاقٍ ) قال ابن عباس، وقتادة، والسُّدِّي:هو الفقر، أي:ولا تقتلوهم من فقركم الحاصل، وقال في سورة « سبحان » : وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [ الإسراء:31 ] ، أي:خشية حصول فقر، في الآجل؛ ولهذا قال هناك: نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ فبدأ برزقهم للاهتمام بهم، أي:لا تخافوا من فقركم بسببهم، فرزقهم على الله. وأما في هذه الآية فلما كان الفقر حاصلا قال: ( نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) ؛ لأنه الأهم هاهنا، والله أعلم.

وقوله تعالى: ( وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ) كقوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [ الأعراف:33 ] . وقد تقدم تفسيرها في قوله: وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ [ الأنعام:12 ] .

وفي الصحيحين، عن ابن مسعود، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا أحد أغْيَر من الله، من أجل ذلك حَرَّم الفواحش ما ظَهَر منها وما بَطنَ » .

وقال عبد الملك بن عُمَيْر، عن وَرّاد، عن مولاه المغيرة قال:قال سعد بن عبادة:لو رأيت مع امرأتي رجلا لضربته بالسيف غير مُصْفَح. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « أتعجبون من غيرة سعد! فوالله لأنا أغير من سعد، والله أغير مني، من أجل ذلك حَرّم الفواحش ما ظهر منها وما بَطَن » . أخرجاه .

وقال كامل أبو العلاء، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال:قيل:يا رسول الله، إنا . نغار. قال: « والله إني لأغار، والله أغير مني، ومن غيرته نهى عن الفواحش » .

رواه ابن مَرْدُوَيه، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، وهو على شرط الترمذي، فقد روي بهذا السند: « أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين » .

وقوله تعالى: ( وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ) وهذا مما نص تبارك وتعالى على النهي عنه تأكيدًا، وإلا فهو داخل في النهي عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فقد جاء في الصحيحين، عن ابن مسعود، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث:الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة » .

وفي لفظ لمسلم والذي لا إله غيره لا يحل دم رجل مسلم ... « وذكره، قال الأعمش:فحدثت به إبراهيم، فحدثني عن الأسود، عن عائشة [ رضي الله عنها ] ، بمثله . »

وروى أبو داود، والنسائي، عن عائشة، رضي الله عنها؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث خصال:زانٍ مُحْصَن يُرْجَم، ورجل قتل رَجُلا مُتَعمِّدا فيقتل، ورجل يخرج من الإسلام حارب الله ورسوله، فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض » . وهذا لفظ النسائي .

وعن أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه، أنه قال وهو محصور:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « لا يَحِلُّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث:رجل كَفَر بعد إسلامه، أو زنا بعد إحصانه، أو قتل نفسا بغير نفس » . فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام، ولا تمنيت أن لي بديني بدلا منه بعد إذ هداني الله، ولا قتلت نفسا، فبم تقتلونني . رواه الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. وقال الترمذي:هذا حديث حسن .

وقد جاء النهي والزجر والوعيد في قتل المعاهدَ - وهو المستأمن من أهل الحرب - كما رواه البخاري، عن عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من قتل مُعاهِدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما » .

وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من قتل معاهَدًا له ذِمَّة الله وذمَّة رسوله، فقد أخفر بذمة الله، فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خَريفًا » .

رواه ابن ماجه، والترمذي وقال:حسن صحيح .

وقوله: ( ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) أي:هذا ما وصاكم به لعلكم تعقلون عنه أمره ونهيه.

 

وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( 152 )

قال عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال:لما أنـزل الله: ( وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) و إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا الآية [ النساء:10 ] ، فانطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل الشيء فيحبس له حتى يأكله ويفسد. فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنـزل الله [ عَزَّ وجل ] : وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ [ البقرة:220 ] ، قال:فخلطوا طعامهم بطعامهم، وشرابهم بشرابهم. رواه أبو داود.

وقوله: ( حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ) قال الشعبي، ومالك، وغير واحد من السلف:يعني:حتى يحتلم.

وقال السُّدِّي:حتى يبلغ ثلاثين سنة، وقيل:أربعون سنة، وقيل:ستون سنة. قال:وهذا كله بعيد هاهنا، والله أعلم.

وقوله: ( وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ) يأمر تعالى بإقامة العدل في الأخذ والإعطاء، كما توعد على تركه في قوله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [ المطففين:1 - 6 ] . وقد أهلك الله أمة من الأمم كانوا يبخسون المكيال والميزان.

وفي كتاب الجامع لأبي عيسى الترمذي، من حديث الحسين بن قيس أبي علي الرّحَبي، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحاب الكيل والميزان: « إنكم وُلّيتم أمرًا هلكت فيه الأمم السالفة قبلكم » . ثم قال:لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث الحُسين، وهو ضعيف في الحديث، وقد روي بإسناد صحيح عن ابن عباس موقوفا .

قلت:وقد رواه ابن مَرْدُوَيه في تفسيره، من حديث شَرِيك، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجَعْد، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنكم مَعْشَر الموالي قد بَشَّرَكم الله بخصلتين بها هلكت القرون المتقدمة:المكيال والميزان » .

وقوله تعالى: ( لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ) أي:من اجتهد في أداء الحق وأخذه، فإن أخطأ بعد استفراغ وسعه وبذل جهده فلا حرج عليه.

وقد روى ابن مَرْدُوَيه من حديث بَقِيَّة، عن مُبَشر بن عبيد، عن عمرو بن ميمون بن مهْران، عن أبيه، عن سعيد بن المسَيَّب قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ) فقال: « من أوفى على يده في الكيل والميزان، والله يعلم صحة نيته بالوفاء فيهما، لم يؤاخذ » . وذلك تأويل ( وُسْعَهَا ) هذا مرسل غريب .

وقوله: ( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ [ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ] [ النساء:135 ] ، وكذا التي تشبهها في سورة المائدة [ الآية:8 ] ، يأمر تعالى بالعدل في الفعال والمقال، على القريب والبعيد، والله تعالى يأمر بالعدل لكل أحد، في كل وقت، وفي كل حال.

وقوله: ( وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ) قال ابن جرير:يقول وَبِوَصِيَّة الله التي أوصاكم بها فأوفوا. وإيفاء ذلك:أن تطيعوه فيما أمركم ونهاكم، وتعملوا بكتابه وسنة رسوله، وذلك هو الوفاء بعهد الله.

( ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) يقول تعالى:هذا وصاكم به، وأمركم به، وأكد عليكم فيه ( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) أي:تتعظون وتنتهون عما كنتم فيه قبل هذا، وقرأ بعضهم بتشديد « الذال » ، وآخرون بتخفيفها.

وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 153 )

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: ( فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) وقوله أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [ الشورى:13 ] ، ونحو هذا في القرآن، قال:أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة ، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله ونحو هذا. قاله مجاهد، وغير واحد.

وقال الإمام أحمد بن حنبل:حدثنا الأسود بن عامر:شاذان، حدثنا أبو بكر - هو ابن عياش - عن عاصم - هو ابن أبي النجود - عن أبي وائل، عن عبد الله - هو ابن مسعود، رضي الله عنه - قال:خَطَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًا بيده، ثم قال: « هذا سَبِيل الله مستقيما » . وخط على يمينه وشماله، ثم قال: « هذه السُّبُل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه » . ثم قرأ: ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ )

وكذا رواه الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن أبي بكر بن عياش، به. وقال:صحيح [ الإسناد ] ولم يخرجاه .

وهكذا رواه أبو جعفر الرازي، وورقاء وعمرو بن أبي قيس، عن عاصم، عن أبي وائل شقيق ابن سلمة، عن ابن مسعود به مرفوعا نحوه.

وكذا رواه يزيد بن هارون ومُسدَّد والنسائي، عن يحيى بن حبيب بن عربي - وابن حِبَّان، من حديث ابن وَهْب - أربعتهم عن حماد بن زيد، عن عاصم، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، به.

وكذا رواه ابن جرير، عن المثنى، عن الحِمَّاني، عن حماد بن زيد، به.

ورواه الحاكم عن أبي بكر بن إسحاق، عن إسماعيل بن إسحاق القاضي، عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، به كذلك. وقال:صحيح ولم يخرجاه .

وقد روى هذا الحديث النسائي والحاكم، من حديث أحمد بن عبد الله بن يونس، عن أبي بكر ابن عياش، عن عاصم، عن زِرٍّ، عن عبد الله بن مسعود. به مرفوعا .

وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه من حديث يحيى الحماني، عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم، عن زِرٍّ، به.

فقد صححه الحاكم كما رأيت من الطريقين، ولعل هذا الحديث عند عاصم بن أبي النجود، عن زر، وعن أبي وائل شقيق بن سلمة كلاهما عن ابن مسعود، به، والله أعلم.

قال الحاكم:وشاهد هذا الحديث حديث الشعبي عن جابر، من وجه غير معتمد .

يشير إلى الحديث الذي قال الإمام أحمد، وعبد بن حميد جميعا - واللفظ لأحمد:حدثنا عبد الله بن محمد - وهو أبو بكر بن أبي شيبة - أنبأنا أبو خالد الأحمر، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر قال:كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فخط خطًا هكذا أمامه، فقال: « هذا سبيل الله » . وخطين عن يمينه، وخطين عن شماله، وقال: « هذه سبيل الشيطان » . ثم وضع يده في الخط الأوسط، ثم تلا هذه الآية: ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )

ورواه ابن ماجه في كتاب السنة من سننه، والبزار عن أبي سعيد بن عبد الله بن سعيد، عن أبي خالد الأحمر، به .

قلت:ورواه الحافظ ابن مَرْدُوَيه من طريقين، عن أبي سعيد الكندي، حدثنا أبو خالد، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر قال:خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًا، وخط عن يمينه خطًّا، وخط عن يساره خطا، ووضع يده على الخط الأوسط وتلا هذه الآية: ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ) .

ولكن العمدة على حديث ابن مسعود، مع ما فيه من الاختلاف إن كان مؤثرًا، وقد روي موقوفا عليه.

وقال ابن جرير:حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن ثور، عن مَعْمَر، عن أبَان؛ أن رجلا قال لابن مسعود:ما الصراط المستقيم؟ قال:تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه، وطرفه في الجنة، وعن يمينه جَوَادّ، وعن يساره جَوَادّ، وثمّ رجال يدعون من مر بهم. فمن أخذ في تلك الجوادّ انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة. ثم قرأ ابن مسعود: ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) الآية .

وقال ابن مَرْدُوَيه:حدثنا أبو عمرو، حدثنا محمد بن عبد الوهاب، حدثنا آدم، حدثنا إسماعيل ابن عَيَّاش، حدثنا أبان بن عياش، عن مسلم بن أبي عمران، عن عبد الله بن عمر:سأل عبد الله عن الصراط المستقيم، فقال [ له ] ابن مسعود:تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه، وطرفه في الجنة، وذكر تمام الحديث كما تقدم، والله أعلم.

وقد روي من حديث النوّاس بن سمْعان نحوه، قال الإمام أحمد:حدثنا الحسن بن سَوَّار أبو العلاء، حدثنا لَيْث - يعني ابن سعد - عن معاوية بن صالح؛ أن عبد الرحمن بن جُبَيْر بن نفير حدثه، عن أبيه، عن النواس بن سمعان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ضرب الله مثلا صِراطًا مستقيمًا، وعن جَنْبتَي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول:أيها الناس، ادخلوا الصراط المستقيم جميعا، ولا تتفرجوا وداع يدعو من جوف الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال:ويحك. لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه، فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم » .

ورواه الترمذي والنسائي، عن علي بن حُجْر - زاد النسائي - وعمرو بن عثمان، كلاهما عن بَقِيَّة بن الوليد، عن بَحير بن سعد، عن خالد بن مَعْدان، عن جُبَير بن نفير، عن النوّاس بن سِمْعان، به . وقال الترمذي:حسن غريب.

وقوله: ( فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ] ) إنما وحد [ سبحانه ] سَبيله لأن الحق واحد؛ ولهذا جمع لتفرقها وتشعبها، كما قال تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [ البقرة:257 ] .

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن سِنَان الواسطي، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا سفيان بن حسين، عن الزهري، عن أبي إدريس الخولاني، عن عبادة بن الصامت قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أيكم يبايعني على هذه الآيات الثلاث؟ » . ثم تلا قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ حتى فرغ من ثلاث الآيات، ثم قال: « ومن وَفَّى بهن أجره على الله، ومن انتقص منهن شيئا أدركه الله في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخَّرَه إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء أخذه، وإن شاء عفا عنه » .

ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ( 154 ) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( 155 )

قال ابن جرير: ( ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ) تقديره:ثم قل - يا محمد - مخبرًا عنا بأنا آتينا موسى الكتاب، بدلالة قوله: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ

قلت:وفي هذا نظر، وثُم هاهنا إنما هي لعطف الخبر بعد الخبر، لا للترتيب هاهنا، كما قال الشاعر:

قُــلْ لِمَــنْ سَـادَ ثُـم سَـادَ أبـوهُ ثُــمّ قــد سَـادَ قَبْـلَ ذَلـكَ جَـده

وهاهنا لما أخبر الله تعالى عن القرآن بقوله: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ عطف بمدح التوراة ورسولها، فقال: ( ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ) وكثيرًا ما يقرن سبحانه بين ذكر القرآن والتوراة، كقوله تعالى: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا [ الأحقاف:12 ] ، وقوله [ في ] أول هذه السورة: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [ الآية:91 ] ، وبعدها ( وَهَذَا كِتَابٌ أَنـزلْنَاهُ مُبَارَكٌ ) الآية [ الأنعام:92 ] ، وقال تعالى مخبرًا عن المشركين: فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى قال تعالى: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ [ القصص:48 ] ، وقال تعالى مخبرًا عن الجن أنهم قالوا: قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ [ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ] [ الأحقاف:30 ] .

وقوله تعالى: ( تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلا ) أي:آتيناه الكتاب الذي أنـزلناه إليه تمامًا كاملا جامعا لجميع ما يحتاج إليه في شريعته، كما قال: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ الآية [ الأعراف:145 ] .

وقوله: ( عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ ) أي:جزاء على إحسانه في العمل، وقيامه بأوامرنا وطاعتنا، كقوله: هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ [ الرحمن:60 ] ، وكقوله وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [ قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ] [ البقرة:124 ] ، وقوله: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [ السجدة:24 ] .

وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس: ( ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ ) يقول:أحسن فيما أعطاه الله.

وقال قتادة:من أحسن في الدنيا تمم له ذلك في الآخرة.

واختار ابن جرير أن تقديره الكلام: ( [ ثُمَّ ] آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا ) على إحسانه. فكأنه جعل « الذي » مصدرية، كما قيل في قوله تعالى: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا [ التوبة:69 ] أي:كخوضهم وقال ابن رَوَاحة:

فَثَبَّـتَ اللـهُ مـا آتـاكَ مِـنْ حَسَـنٍ فـي المرسـلين ونصرًا كالذي نُصِرُوا

وقال آخرون:الذي هاهنا بمعنى « الذين » .

قال ابن جرير:وقد ذكر عن عبد الله بن مسعود:أنه كان يقرؤها: « تماما على الذين أحسنوا » .

وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: ( تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ ) قال:على المؤمنين والمحسنين، وكذا قال أبو عبيدة. قال البغوي:والمحسنون:الأنبياء والمؤمنون، يعني:أظهرنا فضله عليهم.

قلت:كما قال تعالى: قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [ الأعراف:144 ] ، ولا يلزم اصطفاؤه على محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والخليل، عليهما السلام لأدلة أخر.

قال ابن جرير:وروى أبو عمرو بن العلاء عن يحيى بن يَعْمَر أنه كان يقرؤها. ( تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ ) رفعا، بتأويل: « على الذي هو أحسن » ، ثم قال:وهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها، وإن كان لها في العربية وجه صحيح.

وقيل:معناه:تمامًا على إحسان الله إليه زيادة على ما أحسن الله إليه، حكاه ابن جرير، والبَغوي.

ولا منافاة بينه وبين القول الأول، وبه جمع ابن جرير كما بيناه، ولله الحمد.

وقوله: ( وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً ) فيه مَدْحٌ لكتابه الذي أنـزله الله عليه، ( لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَهَذَا كِتَابٌ أَنـزلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) فيه الدعوة إلى اتباع القرآن ووصفه بالبركة لمن اتبعه وعمل به في الدنيا والآخرة.

أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ( 156 ) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ ( 157 )

قال ابن جرير:معناه:وهذا كتاب أنـزلناه لئلا يقولوا: ( إِنَّمَا أُنـزلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا )

يعني:لينقطع عذرهم، كما قال تعالى: وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ [ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ] [ القصص:47 ] .

وقوله: ( عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:هم اليهود والنصارى وكذا قال مجاهد، والسدي، وقتادة، وغير واحد.

وقوله: ( وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ) أي:وما كنا نفهم ما يقولون؛ لأنهم ليسوا بلساننا، ونحن مع ذلك في شغل وغفلة عما هم فيه.

وقوله: ( أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنـزلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ ) أي:وقطعنا تَعَلُّلكم أن تقولوا:لو أنا أنـزل علينا ما أنـزل عليهم لكنا أهدى منهم فيما أوتوه، كقوله: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأمَمِ [ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا ] [ فاطر:42 ] ، وهكذا قال هاهنا: ( فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ ) يقول:فقد جاءكم من الله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم النبي العربي قرآن عظيم، فيه بيان للحلال والحرام، وهدى لما في القلوب، ورحمة من الله بعباده الذين يتبعونه ويقتفون ما فيه.

وقوله: ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا ) أي:لم ينتفع بما جاء به الرسول، ولا اتبع ما أرسل به، ولا ترك غيره، بل صدف عن اتباع آيات الله، أي:صرف الناس وصدهم عن ذلك قاله السدي.

وعن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: ( وَصَدَفَ عَنْهَا ) أعرض عنها.

وقول السدي هاهنا فيه قوة؛ لأنه قال: ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا ) كما تقدم في أول السورة: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ [ الآية:26 ] ، وقال تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ [ النحل:88 ] ، وقال في هذه الآية الكريمة: ( سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ )

وقد يكون المراد فيما قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا ) أي:لا آمن بها ولا عمل بها، كقوله تعالى: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [ القيامة:32، 31 ] ، ونحو ذلك من الآيات الدالة على اشتمال الكافر على التكذيب بقلبه، وترك العمل بجوارحه، ولكن المعنى الأول أقوى وأظهر، والله [ تعالى ] أعلم.

 

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ( 158 )

يقول تعالى متوعدًا للكافرين به، والمخالفين رسله والمكذبين بآياته، والصادين عن سبيله: ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ ) وذلك كائن يوم القيامة. ( أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ] ) الآية، وذلك قبل يوم القيامة كائن من أمارات الساعة وأشراطها كما قال البخاري في تفسير هذه الآية:

حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عبد الواحد، حدثنا عمارة، حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا أبو هريرة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مَغْرِبها، فإذا رآها الناس آمن من عليها. فذلك حين ( لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ ) »

حدثنا إسحاق، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن هَمَّام بن مُنَبِّه، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، وذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها » ثم قرأ هذه الآية.

هكذا روي هذا الحديث من هذين الوجهين ومن الوجه الأول أخرجه بقية الجماعة في كتبهم إلا الترمذي، من طرق، عن عمارة بن القَعْقَاع بن شُبْرُمَة، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن أبي هريرة، به .

وأما الطريق الثاني:فرواه عن إسحاق، غير منسوب، فقيل:هو ابن منصور الكوسج، وقيل:إسحاق بن نصر والله أعلم.

وقد رواه مسلم عن محمد بن رافع النيسابوري، كلاهما عن عبد الرزاق، به .

وقد ورد هذا الحديث من طرق أخر عن أبي هريرة، كما انفرد مسلم بروايته من حديث العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة، عن أبيه، عن أبي هريرة، به .

وقال ابن جرير:حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا ابن فضيل، عن أبيه، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ثلاث إذا خرجن ( لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ) طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض » .

ورواه أحمد، عن وَكِيع، عن فُضَيْل بن غَزْوان، عن أبي حازم سلمان، عن أبي هريرة به، وعنده: « والدخان » .

ورواه مسلم، عن أبي بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب، عن وكيع .

ورواه هو أيضا والترمذي، من غير وجه، عن فضيل بن غزوان، به .

ورواه إسحاق بن عبد الله الفَرَوي، عن مالك، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة. ولكن لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب من هذا الوجه، لضعف الفَرْوي، والله أعلم.

وقال ابن جرير:حدثنا الربيع بن سليمان، حدثنا شعيب بن الليث، عن أبيه، عن جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت آمن الناس كلهم، وذلك حين ( لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ ) الآية . »

ورواه ابن لهيعة، عن الأعرج، عن أبي هريرة، به. ورواه وكيع، عن فضيل بن غزوان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، به.

أخرج هذه الطرق كلَّها الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه في تفسيره.

وقال ابن جرير:حدثنا الحسن بن يحيى، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن أيوب، عن ابن سِيرين، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها، قُبِل منه » .

لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة .

حديث آخر عن أبي ذر الغفاري:في الصحيحين وغيرهما، من طرق، عن إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر جُنْدُب بن جُنَادة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « تَدْري أين تذهب الشمس إذا غربت؟ » . قلت:لا أدري، قال: « إنها تنتهي دون العرش، ثم تخر ساجدة، ثم تقوم حتى يقال لها:ارجعي فيوشك يا أبا ذر أن يقال لها:ارجعي من حيث جئت، وذلك حين: ( لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ ) . »

حديث آخر عن حُذيفة بن أسيد أبي سريحة الغفاري، رضي الله عنه:

قال الإمام أحمد بن حنبل:حدثنا سفيان، عن فُرَات، عن أبي الطُّفَيْل، عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال:أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفة، ونحن نتذاكر الساعة، فقال: « لا تقوم الساعة حتى تَرَوْا عشر آيات:طُلوع الشمس من مَغْرِبها، والدُّخَان، والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج عيسى ابن مريم، والدجال، وثلاثة خُسوف:خَسْف بالمغرب، وخسف بالمشرق، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قَعْر عَدَن تسوق - أو:تحشر - الناس، تبيت معهم حيث باتوا، وتَقيل معهم حيث قالوا » .

وهكذا رواه مسلم وأهل السنن الأربعة من حديث فرات القَزَّاز، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، عن حذيفة بن أسيد، به. وقال الترمذي:حسن صحيح.

حديث آخر عن حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه:

قال الثوري، عن منصور، عن رِبْعي، عن حذيفة قال:سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت:يا رسول الله، ما آية طلوع الشمس من مغربها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « تطول تلك الليلة حتى تكون قَدْر ليلتين، فبينما الذين كانوا يصلون فيها، يعملون كما كانوا يعملون قبلها والنجوم لا تسري، قد قامت مكانها، ثم يرقدون، ثم يقومون فيصلون، ثم يرقدون، ثم يقومون فيطل عليهم جنوبهم، حتى يتطاول عليهم الليل، فيفزع الناس ولا يصبحون، فبينما هم ينتظرون طلوع الشمس من مشرقها إذ طلعت من مغربها، فإذا رآها الناس آمنوا، ولا ينفعهم إيمانهم » .

رواه ابن مَرْدُوَيه، وليس في الكتب الستة من هذا الوجه والله أعلم.

حديث آخر عن أبي سعيد الخدري - واسمه:سعد بن مالك بن سنان - رضي الله عنه وأرضاه:

قال الإمام أحمد:حدثنا وَكِيع، حدثنا ابن أبي ليلى، عن عطية العَوْفي، عن أبي سعيد الخُدْري، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا ) قال: « طلوع الشمس من مغربها » .

ورواه الترمذي، عن سفيان بن وكيع، عن أبيه، به. وقال:غريب، ورواه بعضهم ولم يرفعه .

وفي حديث طالوت بن عباد، عن فَضَال بن جبير، عن أبي أمامة صُدَيّ بن عَجْلان قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن أوّلَ الآيات طلوعُ الشمس من مغربها » .

وفي حديث عاصم بن أبي النَّجُود، عن زِرّ بن حُبَيْش، عن صفوان بن عَسَّال قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن الله فتح بابًا قبل المغرب عرضه سبعون عامًا للتوبة » ، قال: « لا يغلق حتى تطلع الشمس منه » . رواه الترمذي وصححه النسائي، وابن ماجه في حديث طويل .

حديث آخر عن عبد الله بن أبي أوفى:

قال ابن مردويه:حدثنا محمد بن علي بن دُحَيم، حدثنا أحمد بن حازم، حدثنا ضرار بن صُرَد، حدثنا ابن فضيل، عن سليمان بن زَيد، عن عبد الله بن أبي أوفى قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ليأتين على الناس ليلة تعدل ثلاث ليال من لياليكم هذه، فإذا كان ذلك يعرفها المتنفلون، يقوم أحدهم فيقرأ حزبه، ثم ينام، ثم يقوم فيقرأ حزبه، ثم ينام. فبينما هم كذلك إذ صاح الناس بعضهم في بعض فقالوا:ما هذا؟ فيفزعون إلى المساجد، فإذا هم بالشمس قد طلعت من مغربها، فضج الناس ضجة واحدة، حتى إذا صارت في وسط السماء رجعت وطلعت من مطلعها » . قال: « حينئذ لا ينفع نفسًا إيمانها » .

هذا حديث غريب من هذا الوجه وليس هو في شيء من الكتب الستة.

حديث آخر عن عبد الله بن عمرو

قال الإمام أحمد:حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا أبو حيان، عن أبي زُرْعَة بن عمرو بن جرير قال:جلس ثلاثة نفر من المسلمين إلى مروان بالمدينة فسمعوه يقول - وهو يحدث في الآيات - :إن أولها خروج الدجال. قال:فانصرف النفر إلى عبد الله بن عمرو، فحدثوه بالذي سمعوه من مروان في الآيات، فقال لم يقل مَرْوان شيئا قد حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك حديثا لم أنسه بعد، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة ضحىً، فأيتهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها » . ثم قال عبد الله - وكان يقرأ الكتب - :وأظن أولها خروجا طلوع الشمس من مغربها، وذلك أنها كلما غربت أتت تحت العرش فسجدت واستأذنت في الرجوع فأذن لها في الرجوع، حتى إذا بدا الله أن تطلع من مغربها فعلت كما كانت تفعل:أتت تحت العرش فسجدت واستأذنت في الرجوع، فلم يرد عليها شيء، ثم تستأذنُ في الرجوع فلا يرد عليها شيء، ثم تستأذن فلا يرد عليها شيء، حتى إذا ذهب من الليل ما شاء الله أن يذهب، وعرفت أنه إذا أذن لها في الرجوع لم تدرك المشرق، قالت:ربي، ما أبعد المشرق. من لي بالناس. حتى إذا صار الأفق كأنه طوق استأذنت في الرجوع، فيقال لها:من مكانك فاطلعي. فطلعت على الناس من مغربها « ، ثم تلا عبد الله هذه الآية: ( لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ [ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ] ) الآية. »

وأخرجه مسلم في صحيحه، وأبو داود وابن ماجه، في سننيهما، من حديث أبي حيان التيمي - واسمه يحيى بن سعيد بن حيان - عن أبي زُرْعَة بن عمرو بن جرير، به .

حديث آخر عنه:

قال الطبراني:حدثنا أحمد بن يحيى بن خالد بن حبان الرَّقِّي، حدثنا إسحاق بن إبراهيم - بن زبريق الحمصي - حدثنا عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار، حدثنا ابن لهيعة، عن حيي بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال:قال النبي صلى الله عليه وسلم: « إذا طلعت الشمس من مغربها خر إبليس ساجدًا ينادي ويجهر:إلهي، مُرْني أن أسجد لمن شئت » . قال: « فيجتمع إليه زبانيته فيقولون:يا سيدهم، ما هذا التضرع؟ فيقول:إنما سألت ربي أن يُنْظِرني إلى الوقت المعلوم، وهذا الوقت المعلوم » . قال « ثم تخرج دابة الأرض من صَدْع في الصفا » . قال: « فأول خطوة تضعها بأنطاكيا، فتأتي إبليس فَتَخْطمه .. »

هذا حديث غريب جدًا وسنده ضعيف ولعله من الزاملتين اللتين أصابهما عبد الله بن عمرو يوم اليرموك، فأما رفعه فمنكر، والله أعلم.

حديث آخر عن عبد الله بن عمرو، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنهم أجمعين:

قال الإمام أحمد:حدثنا الحكم بن نافع، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن ضَمْضَم بن زُرْعَة، عن شُرَيح بن عبيد يرده إلى مالك بن يُخَامر، عن ابن السعدي؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل » . فقال معاوية، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عمرو بن العاص:إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن الهجرة خصلتان:إحداهما تهجر السيئات، والأخرى تهاجر إلى الله ورسوله، ولا تنقطع ما تقبلت التوبة، ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من المغرب فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه، وكفى الناس العمل » . هذا الحديث حسن الإسناد ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، والله أعلم.

حديث آخر عن ابن مسعود، رضي الله عنه:

قال عوف الأعرابي، عن محمد بن سيرين، حدثني أبو عبيدة، عن ابن مسعود؛ أنه كان يقول:ما ذكر من الآيات فقد مضى غير أربع:طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض، وخروج يأجوج ومأجوج. قال:وكان يقول:الآية التي تختم بها الأعمال طلوع الشمس من مغربها، ألم تر أن الله يقول: ( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا ] ) الآية كلها، يعني طلوع الشمس من مغربها .

حديث ابن عباس، رضي الله عنهما:

رواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه في تفسيره من حديث عبد المنعم بن إدريس، عن أبيه، عن وَهْب ابن مُنَبِّه، عن ابن عباس [ رضي الله عنه ] مرفوعا - فذكر حديثًا طويلا غريبًا منكرًا رفعه، وفيه: « أن الشمس والقمر يطلعان يومئذ مقرونين وإذا نَصَفا السماء رجعا ثم عادا إلى ما كانا عليه » . وهو حديث غريب جدًا بل منكر، بل موضوع، [ والله أعلم ] إن ادعى أنه مرفوع، فأما وقفه على ابن عباس أو وهب بن منبه - وهو الأشبه - فغير مدفوع والله أعلم.

وقال سفيان، عن منصور، عن عامر، عن عائشة [ رضي الله عنها ] قالت:إذا خرج أول الآيات، طُرحت الأقلام، وحبست الحفظة، وشهدت الأجساد على الأعمال. رواه ابن جرير.

فقوله [ عَزَّ وجل ] ( لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ ) أي:إذا أنشأ الكافر إيمانًا يومئذ لا يقبل منه، فأما من كان مؤمنا قبل ذلك، فإن كان مصلحًا في عمله فهو بخير عظيم، وإن كان مخَلِّطًا فأحدث توبة حينئذ لم تقبل منه توبته، كما دلت عليه الأحاديث المتقدمة، وعليه يحمل قوله تعالى: ( أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ) أي:ولا يقبل منها كَسْبُ عمل صالح إذا لم يكن عاملا به قبل ذلك.

وقوله: ( قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ) تهديد شديد للكافرين، ووعيد أكيد لمن سَوَّف بإيمانه وتوبته إلى وقت لا ينفعه ذلك. وإنما كان الحكم هذا عند طلوع الشمس من مغربها، لاقتراب وقت القيامة، وظهور أشراطها كما قال: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ [ محمد:18 ] ، وقال تعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا [ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ] [ غافر:84 ، 85 ]

إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ( 159 )

قال مجاهد، وقتادة، والضحاك، والسُّدِّي:نـزلت هذه الآية في اليهود والنصارى.

وقال العَوْفي، عن ابن عباس في قوله: ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ) وذلك أن اليهود والنصارى اختلفوا قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم، فتفرقوا. فلما بعث [ الله ] محمدا صلى الله عليه وسلم أنـزل: ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ) الآية.

وقال ابن جرير:حدثني سعد بن عَمْرو السكوني، حدثنا بَقِيَّة بن الوليد:كتب إليّ عباد بن كثير، حدثني لَيْث، عن طاوس، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن في هذه الأمَّة ( الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ) وليسوا منك، هم أهل البدع، وأهل الشبهات، وأهل الضلالة، من هذه الأمة » .

لكن هذا الإسناد لا يصح، فإن عباد بن كثير متروك الحديث، ولم يختلق هذا الحديث، ولكنه وَهَم في رفعه. فإنه رواه سفيان الثوري، عن ليث - وهو ابن أبي سليم - عن طاوس، عن أبي هريرة، في قوله: ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ) قال:نـزلت في هذه الأمة.

وقال أبو غالب، عن أبي أمامة، في قوله: ( [ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ ] وَكَانُوا شِيَعًا ) قال:هم الخوارج. وروى عنه مرفوعًا، ولا يصح.

وقال شعبة، عن مُجالد، عن الشعبي، عن شُرَيْح، عن عمر [ رضي الله عنه ] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ) قال: « هم أصحاب البدع » .

وهذا رواه ابن مَرْدُوَيه، وهو غريب أيضًا ولا يصح رفعه.

والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفًا له، فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق، فمن اختلف فيه ( وَكَانُوا شِيَعًا ) أي:فرقًا كأهل الملل والنحل - وهي الأهواء والضلالات - فالله قد بَرَّأ رسوله مما هم فيه. وهذه الآية كقوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ] الآية [ الشورى:13 ] ، وفي الحديث: « نحن معاشر الأنبياء أولاد عَلات، ديننا واحد » .

فهذا هو الصراط المستقيم، وهو ما جاءت به الرسل، من عبادة الله وحده لا شريك له، والتمسك بشريعة الرسول المتأخر، وما خالف ذلك فضلالات وجهالات وآراء وأهواء، الرسل بُرآء منها، كما قال: ( لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ )

وقوله: ( إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) كقوله ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ] ) [ الحج:17 ] ، ثم بين فضله يوم القيامة في حكمه وعدله فقال:

مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ( 160 )

وهذه الآية الكريمة مفصلة لما أجمل في الآية الأخرى، وهي قوله: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا [ النمل:89 ] ، وقد وردت الأحاديث مطابقة لهذه الآية، كما قال الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله:

حدثنا عفان، حدثنا جعفر بن سليمان، حدثنا الجعد أبو عثمان، عن أبي رجاء العُطاردي، عن ابن عباس، رضي الله عنهما ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما يروي عن ربه، عز وجل قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن ربكم [ عز وجل ] رحيم، من هَمَّ بحسنة فلم يعملها كُتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرا إلى سبعمائة، إلى أضعاف كثيرة. ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له واحدة، أو يمحوها الله، عَزَّ وجل، ولا يهلك على الله إلا هالك » .

ورواه البخاري، ومسلم، والنسائي، من حديث الجعد بن أبي عثمان، به .

وقال [ الإمام ] أحمد أيضًا:حدثنا معاوية، حدثنا الأعمش، عن المعرور بن سُوَيْد، عن أبي ذر، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يقول الله، عَزَّ وجل:من عَمِل حسنة فله عشر أمثالها وأزيد. ومن عمل سيئة فجزاؤها مثلها أو أغفر. ومن عمل قُرَاب الأرض خطيئة ثم لقيني لا يشرك بي شيئا جعلت له مثلها مغفرة. ومن اقترب إليَّ شبرًا اقتربت إليه ذراعا، ومن اقترب إليَّ ذراعًا اقتربت إليه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هَرْوَلَة » .

ورواه مسلم عن أبي كريب، عن أبي معاوية، به. وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وَكِيع، عن الأعمش، به . ورواه ابن ماجه، عن علي بن محمد الطنافسي، عن وكيع، به .

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي:حدثنا شَيْبَان، حدثنا حَمَّاد، حدثنا ثابت، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من هَمَّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرا. ومن هم بسيئة فلم يعملها لم يكتب عليه شيء، فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة » .

واعلم أن تارك السيئة الذي لا يعملها على ثلاثة أقسام:تارة يتركها لله [ عَزَّ وجل ] فهذا تكتب له حسنة على كفه عنها لله تعالى، وهذا عمل ونِيَّة؛ ولهذا جاء أنه يكتب له حسنة، كما جاء في بعض ألفاظ الصحيح: « فإنما تركها من جرائي » أي:من أجلي. وتارة يتركها نسيانًا وذُهولا عنها، فهذا لا له ولا عليه؛ لأنه لم ينو خيرًا ولا فعل شرًا. وتارة يتركها عجزا وكسلا بعد السعي في أسبابها والتلبس بما يقرب منها، فهذا يتنـزل منـزلة فاعلها، كما جاء في الحديث، في الصحيحين: « إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار » . قالوا:يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: « إنه كان حريصًا على قتل صاحبه » .

قال الإمام أبو يعلى الموصلي:حدثنا مجاهد بن موسى، حدثنا علي - وحدثنا الحسن بن الصباح وأبو خَيْثَمَة - قالا حدثنا إسحاق بن سليمان، كلاهما عن موسى بن عبيدة، عن أبي بكر بن عبيد الله ابن أنس، عن جده أنس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من هم بحسنة كتب الله له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرا. ومن هم بسيئة لم تكتب عليه حتى يعملها، فإن عملها كتبت عليه سيئة، فإن تركها كتبت له حسنة. يقول الله تعالى:إنما تركها من مخافتي » .

هذا لفظ حديث مجاهد - يعني ابن موسى .

وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِيّ، حدثنا شيبان بن عبد الرحمن، عن الرُّكَيْن بن الربيع، عن أبيه، عن عمه فلان بن عَمِيلة، عن خُرَيْم بن فاتك الأسدي؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « الناس أربعة، والأعمال ستة. فالناس مُوَسَّع له في الدنيا والآخرة، وموسع له في الدنيا مَقْتور عليه في الأخرة، ومقتور عليه في الدنيا موسع له في الآخرة، وشَقِيٌ في الدنيا والآخرة. والأعمال مُوجبتان، ومثل بمثل، وعشرة أضعاف، وسبعمائة ضعف؛ فالموجبتان من مات مُسْلِمًا مؤمنًا لا يشرك بالله شيئًا وَجَبَتْ له الجنة، ومن مات كافرًا وجبت له النار. ومن هَمَّ بحسنة فلم يعملها، فعلم الله أنه قد أشعَرَها قَلْبَه وحرص عليها، كتبت له حسنة. ومن هم بسيئة لم تكتب عليه، ومن عملها كتبت واحدة ولم تضاعف عليه. ومن عمل حسنة كانت عليه بعشرة أمثالها. ومن أنفق نفقة في سبيل الله، عَزَّ وجل، كانت له بسبعمائة ضعف » .

ورواه الترمذي والنسائي، من حديث الرُّكَيْن بن الربيع، عن أبيه، عن بشير بن عَمِيلة، عن خُرَيْم بن فاتك، به ببعضه . والله أعلم.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري، حدثنا يزيد بن زُرَيْع، حدثنا حبيب المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « يحضر الجمعة ثلاثةُ نَفَر:رجل حَضَرها بِلَغْوٍ فهو حَظُّه منها، ورجل حضرها بدعاء، فهو رجل دعا الله، فإن شاء أعطاه، وإن شاء مَنَعه، ورجل حضرها بإنصات وسكوت ولم يَتَخَطَّ رَقَبَة مسلم ولم يُؤْذ أحدًا، فهي كفارة له إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام؛ وذلك لأن الله يقول: ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ) . »

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني:حدثنا هاشم بن مَرْثَد، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثني أبي، حدثني ضَمْضَم بن زرعة، عن شُرَيْح بن عبيد، عن أبي مالك الأشعري قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الجمعة كفارة لما بينها وبين الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام؛ وذلك لأن الله تعالى قال: ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ) . »

وعن أبي ذر، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من صام ثلاثة أيام من كل شهر فقد صام الدَّهْرَ كله » .

رواه الإمام أحمد - وهذا لفظه - والنسائي، وابن ماجه، والترمذي وزاد: « فأنـزل الله تصديق ذلك في كتابه: ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ) اليوم بعشرة أيام » ، ثم قال:هذا حديث حسن.

وقال ابن مسعود: ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ) من جاء ب « لا إله إلا الله » ، ( وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ ) يقول:بالشرك.

وهكذا ورد عن جماعة من السلف.

وقد ورد فيه حديث مرفوع - الله أعلم بصحته، لكني لم أره من وجه يثبت - والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جدًا، وفيما ذكر كفاية، إن شاء الله، وبه الثقة.

قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 161 ) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 162 ) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ( 163 )

يقول [ الله ] تعالى آمرًا نبيه صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين أن يخبر بما أنعم الله به عليه من الهداية إلى صراطه المستقيم، الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف: ( دِينًا قِيَمًا ) أي:قائمًا ثابتًا، ( مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) كقوله وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [ البقرة:130 ] ، وقوله وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ [ الحج:78 ] ، وقوله: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [ النحل:120 _ 123 ] .

وليس يلزم من كونه [ عليه السلام ] أُمِرَ باتباع ملة إبراهيم الحنيفية أن يكون إبراهيم أكمل منه فيها؛ لأنه، عليه السلام قام بها قيامًا عظيمًا، وأكملت له إكمالا تامًا لم يسبقه أحد إلى هذا الكمال؛ ولهذا كان خاتم الأنبياء، وسيد ولد آدم على الإطلاق، وصاحب المقام المحمود الذي يرهب إليه الخلق حتى إبراهيم الخليل، عليه السلام.

وقد قال ابن مَرْدُوَيه:حدثنا محمد بن عبد الله بن حَفْص، حدثنا أحمد بن عِصام، حدثنا أبو داود الطيالسي، حدثنا شعبة، أنبأنا سلمة بن كُهَيْل، سمعت ذر بن عبد الله الهَمْدَاني، يحدث عن ابن أبْزَى، عن أبيه قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح قال: « أصبحنا على مِلَّة الإسلام، وكلمة الإخلاص، ودين نبينا محمد، وملة [ أبينا ] إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا يزيد، أخبرنا محمد بن إسحاق، عن داود بن الحُصَين، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال:قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم:أي الأديان أحبّ إلى الله؟ قال: « الحنيفية السمحة » .

وقال [ الإمام ] أحمد أيضًا:حدثنا سليمان بن داود، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزِّناد، عن هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت:وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذقني على منكبه، لأنظر إلى زَفْن الحبشة، حتى كنت التي مللت فانصرفت عنه.

قال عبد الرحمن، عن أبيه قال:قال لي عروة:إن عائشة قالت:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: « لتعلم يَهودُ أن في ديننا فُسْحَةً، إني أرسلت بِحَنيفيَّة سَمْحَة . »

أصل الحديث مُخَرَّجٌ في الصحيحين، والزيادة لها شواهد من طرق عدة، وقد استقصيت طرقها في شرح البخاري، ولله الحمد والمنة.

وقوله تعالى: ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) يأمره تعالى أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله ويذبحون لغير اسمه، أنه مخالف لهم في ذلك، فإن صلاته لله ونسكه على اسمه وحده لا شريك له، وهذا كقوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [ الكوثر:2 ] أي:أخلص له صلاتك وذبيحتك، فإن المشركين كانوا يعبدون الأصنام ويذبحون لها، فأمره الله تعالى بمخالفتهم والانحراف عما هم فيه، والإقبال بالقصد والنية والعزم على الإخلاص لله تعالى.

قال مجاهد في قوله: ( إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي ) قال:النسك:الذبح في الحج والعمرة.

وقال الثوري، عن السُّدِّي عن سعيد بن جُبَيْر: ( وَنُسُكِي ) قال:ذبحي. وكذا قال السُّدِّي والضحاك.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن عَوْف، حدثنا أحمد بن خالد الوَهْبِي، حدثنا محمد بن إسحاق، عن زيد بن أبي حبيب، عن ابن عباس، عن جابر بن عبد الله قال:ضَحَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عيدٍ بِكَبْشَيْنِ وقال حين ذبحهما : « وَجَّهْت وجهي للذي فَطَر السموات والأرض حنيفًا وَمَا أنا من المشرِكين ، ( إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) . »

وقوله: ( وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) قال قتادة:أي من هذه الأمة.

وهو كما قال، فإن جميع الأنبياء قبله كلهم كانت دعوتهم إلى الإسلام، وأصله عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ [ الأنبياء:25 ] ، وقد أخبر تعالى عن نوح أنه قال لقومه: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [ يونس:72 ] ، وقال تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [ البقرة:130 - 132 ] ، وقال يوسف، عليه السلام: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [ يوسف:101 ] ، وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [ يونس:84 - 86 ] ، وقال تعالى: إِنَّا أَنـزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ الآية [ المائدة:44 ] ، وقال تعالى: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ [ المائدة:111 ] .

فأخبر [ الله ] تعالى أنه بعث رسله بالإسلام، ولكنهم متفاوتون فيه بحسب شرائعهم الخاصة التي ينسخ بعضها بعضًا، إلى أن نسخت بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم التي لا تنسخ أبد الآبدين، ولا تزال قائمة منصورة، وأعلامها مشهورة إلى قيام الساعة؛ ولهذا قال عليه [ الصلاة و ] السلام: « نحن مَعاشِر الأنبياء أولاد عَلات ديننا واحد » فإن أولاد العلات هم الأخوة من أب واحد وأمهات شَتَّى، فالدين واحد وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وإن تنوعت الشرائع التي هي بمنـزلة الأمهات، كما أن إخوة الأخياف عكس هذا، بنو الأم الواحدة من آباء شتى، والأخوة الأعيان الأشقاء من أب واحد وأم واحدة، والله أعلم.

وقد قال الإمام أحمد:حدثنا أبو سعيد، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الماجشُون، حدثنا عبد الله ابن الفضل الهاشمي، عن الأعرج، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا كبر استفتح، ثم قال: « وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [ الأنعام:79 ] ، ( إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) اللهم أنت الملك، لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعًا، لا يغفر الذنوب إلا أنت. واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت. واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت. تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك » .

ثم ذكر تمام الحديث فيما يقوله في الركوع والسجود والتشهد. وقد رواه مسلم في صحيحه .

قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( 164 )

يقول تعالى: ( قُلْ ) يا محمد لهؤلاء المشركين بالله في إخلاص العبادة له والتوكل عليه: ( أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا ) أي:أطلب ربا سواه، وهو رب كل شيء، يَرُبّنِي ويحفظني ويكلؤني ويدبر أمري، أي:لا أتوكل إلا عليه، ولا أنيب إلا إليه؛ لأنه رب كل شيء ومليكه، وله الخلق والأمر.

هذه الآية فيها الأمر بإخلاص التوكل، كما تضمنت الآية التي قبلها إخلاص العبادة له لا شريك له. وهذا المعنى يقرن بالآخر كثيرًا [ في القرآن ] كما قال تعالى مرشدًا لعباده أن يقولوا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [ الفاتحة:5 ] ، وقوله فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [ هود:123 ] ، وقوله قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا [ الملك:29 ] ، وقوله رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا [ المزمل:9 ] ، وأشباه ذلك من الآيات.

وقوله: ( وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) إخبار عن الواقع يوم القيامة في جزاء الله تعالى وحكمه وعدله، أن النفوس إنما تجازى بأعمالها إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، وأنه لا يحمل من خطيئة أحد على أحد. وهذا من عدله تعالى، كما قال: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [ فاطر:18 ] ، وقوله فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا [ طه:112 ] ، قال علماء التفسير :فلا يظلم بأن يحمل عليه سيئات غيره، ولا يهضم بأن ينقص من حسناته. وقال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ [ المدثر:38 ، 39 ] ، معناه:كل نفس مرتهنة بعملها السيئ إلا أصحاب اليمين، فإنه قد تعود بركات أعمالهم الصالحة على ذراريهم، كما قال في سورة الطور: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [ الآية:21 ] ، أي:ألحقنا بهم ذرياتهم في المنـزلة الرفيعة في الجنة، وإن لم يكونوا قد شاركوهم في الأعمال، بل في أصل الإيمان، وَمَا أَلَتْنَاهُمْ أي:أنقصنا أولئك السادة الرفعاء من أعمالهم شيئا حتى ساويناهم وهؤلاء الذين هم أنقص منهم منـزلة، بل رفعهم تعالى إلى منـزلة الآباء ببركة أعمالهم، بفضله ومنته ثم قال: كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [ الطور:21 ] ، أي:من شر.

وقوله: ( ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) أي:اعملوا على مكانتكم إنا عاملون على ما نحن عليه، فستعرضون ونعرض عليه، وينبئنا وإياكم بأعمالنا وأعمالكم، وما كنا نختلف فيه في الدار الدنيا، كما قال تعالى: قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ [ سبأ:25 ، 26 ] .

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ( 165 )

يقول تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ ) أي:جعلكم تعمرون الأرض جيلا بعد جيل، وقَرْنا بعد قرن، وخَلَفا بعد سَلَف. قاله ابن زيد وغيره، كما قال: وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ [ الزخرف:60 ] ، وكقوله تعالى: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ [ النمل:62 ] ، وقوله إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [ البقرة:30 ] ، وقوله عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [ الأعراف:129 ] .

وقوله: ( وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ) أي:فاوت بينكم في الأرزاق والأخلاق، والمحاسن والمساوي، والمناظر والأشكال والألوان، وله الحكمة في ذلك، كقوله: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا [ الزخرف:32 ] ، وقوله [ تعالى ] : انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا [ الإسراء:21 ] .

وقوله: ( لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ) أي ليختبركم في الذي أنعم به عليكم وامتحنكم به، ليختبر الغني في غناه ويسأله عن شكره، والفقير في فقره ويسأله عن صبره.

وقد روى مسلم في صحيحه، من حديث أبي نَضْرة، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الدنيا حُلْوَة خَضِرَة وإن الله مُسْتَخْلِفكم فيها لينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء » .

وقوله: ( إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) ترهيب وترغيب، أن حسابه وعقابه سريع ممن عصاه وخالف رسله ( وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) لمن والاه واتبع رسله فيما جاءوا به من خير وطلب.

وقال محمد بن إسحاق:يرحم العباد على ما فيهم. رواه ابن أبي حاتم.

وكثيرا ما يقرن تعالى في القرآن بين هاتين الصفتين، كما قال [ تعالى ] :وقوله: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [ الحجر:49 ، 50 ] ، [ وقوله ] : وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ [ الرعد:6 ] وغير ذلك من الآيات المشتملة على الترغيب والترهيب، فتارة يدعو عباده إليه بالرغبة وصفة الجنة والترغيب فيما لديه، وتارة يدعوهم إليه بالرهبة وذكر النار وأنكالها وعذابها والقيامة وأهوالها، وتارة بهذا وبهذا ليَنْجَع في كُلَّ بحَسَبِه. جَعَلَنا الله ممن أطاعه فيما أمر، وترك ما عنه نهى وزَجَر، وصدقه فيما أخبر، إنه قريب مجيب سميع الدعاء، جواد كريم وهاب.

وقد قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرحمن، حدثنا زُهَيْر، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة [ رضي الله عنه ] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طَمِع بالجنة أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قَنطَ من الجنة أحد، خلق الله مائة رَحْمَة فوضع واحدة بين خلقه يتراحمون بها، وعند الله تسعة وتسعون » .

ورواه الترمذي، عن قُتَيْبَة، عن عبد العزيز الدَّراوَرْدي، عن العلاء به. وقال:حسن [ صحيح ] . ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى وقتيبة وعلي بن حُجْر، ثلاثتهم عن إسماعيل بن جعفر، عن العلاء .

[ آخر تفسير سورة الأنعام ولله الحمد والمنة ]

 

تفسير سورة الأعراف

 

بسم الله الرحمن الرحيم

المص ( 1 ) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ( 2 ) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ ( 3 )

قد تقدم الكلام في أول « سورة البقرة » على ما يتعلق بالحروف وبسطه، واختلاف الناس فيه.

وقال ابن جرير:حدثنا سفيان بن وَكِيع، حدثنا أبي، عن شَرِيك، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضُّحَى، عن ابن عباس: ( المص ) أنا الله أفصل وكذا قال سعيد بن جُبَير.

[ قوله ] كِتَابٌ أُنـزلَ إِلَيْكَ ) أي:هذا كتاب أنـزل إليك، أي:من ربك، ( فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ ) قال مجاهد، [ وعطاء ] وقتادة والسُّدِّي:شَكٌّ منه.

وقيل:لا تتحرج به في إبلاغه والإنذار به [ واصبر ] كما صبر أولو العزم من الرسل؛ ولهذا قال: ( لِتُنْذِرَ بِهِ ) أي:أنـزل إليك لتنذر به الكافرين، ( وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) .

ثم قال تعالى مخاطبًا للعالم: ( اتَّبِعُوا مَا أُنـزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ) أي:اقتفوا آثار النبي الأمي الذي جاءكم بكتاب أنـزل إليكم من رب كلّ شيء ومليكه، ( وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ) أي:لا تخرجوا عما جاءكم به الرسول إلى غيره، فتكونوا قد عدلتم عن حكم الله إلى حكم غيره.

( قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ ) كقوله: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [ يوسف:103 ] . وقوله: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ الأنعام:116 ] وقوله: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [ يوسف:106 ] .

وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ( 4 ) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ( 5 ) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ( 6 ) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ( 7 )

يقول تعالى: ( وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا ) أي:بمخالفة رسلنا وتكذيبهم، فأعقبهم ذلك خِزْيُ الدنيا موصولا بذُلِّ الآخرة، كما قال تعالى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [ الأنعام:10 ] . وقال تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [ الحج:45 ] . وقال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ [ القصص:58 ] .

وقوله: ( فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ) أي:فكان منهم من جاءه أمر الله وبأسه ونقمته ( بَيَاتًا ) أي:ليلا ( أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ) من القيلولة، وهي:الاستراحة وسط النهار. وكلا الوقتين وقت غَفْلة ولَهْو كما قال [ تعالى ] أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ [ الأعراف:97، 98 ] . وقال: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [ النحل:45- 47 ] .

وقوله: ( فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ) أي:فما كان قولهم عند مجيء العذاب إلا أن اعترفوا بذنوبهم، وأنهم حقيقون بهذا. كما قال تعالى: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً [ وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا ] خَامِدِينَ [ الأنبياء:11- 15 ] .

وقال ابن جرير:في هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: « ما هلك قوم حتى يُعْذِروا من أنفسهم » ، حدثنا بذلك ابن حُمَيْد، حدثنا جرير، عن أبي سِنان، عن عبد الملك بن مَيْسَرة الزرّاد قال:قال عبد الله بن مسعود [ رضي الله عنه ] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما هلك قوم حتى يُعْذِروا من أنفسهم » . قال:قلت لعبد الملك:كيف يكون ذاك؟ قال:فقرأ هذه الآية: ( فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ) .

وقوله: ( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ) الآية، كقوله [ تعالى ] وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [ القصص:65 ] وقوله: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ [ المائدة:109 ] فالرَّبُّ تبارك وتعالى يوم القيامة يسأل الأمم عما أجابوا رسله فيما أرسلهم به، ويسأل الرسل أيضا عن إبلاغ رسالاته؛ ولهذا قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، في تفسير هذه الآية: ( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) قال:يسأل الله الناس عما أجابوا المرسلين، ويسأل المرسلين عما بلغوا.

وقال ابن مَرْدُويه:حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن، حدثنا أبو سعيد الكنْدي، حدثنا المحاربي، عن لَيْث، عن نافع، عن ابن عمر [ رضي الله عنهما ] قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كلكم رَاعٍ وكلكم مسئول عن رَعِيَّتِهِ، فالإمام يُسْأل عن الرجل والرجل يسأل عن أهله والمرأة تسأل عن بيت زوجها، والعبد يسأل عن مال سيده » . قال الليث:وحدثني ابن طاوس، مثله، ثم قرأ: ( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) .

وهذا الحديث مُخَرَّجٌ في الصحيحين بدون هذه الزيادة

وقال ابن عباس: ( فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ) يوضع الكتاب يوم القيامة، فيتكلم بما كانوا يعملون، ( وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ) يعني:أنه تعالى يخبر عباده يوم القيامة بما قالوا وبما عملوا، من قليل وكثير، وجليل وحَقِير؛ لأنه تعالى شهيد على كل شيء، لا يغيب عنه شيء، ولا يغفل عن شيء، بل هو العالم بخائنة الأعين وما تخفي الصدور، وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [ الأنعام:59 ] .

وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 8 ) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ( 9 )

يقول [ تبارك و ] تعالى: ( وَالْوَزْن ) أي:للأعمال يوم القيامة ( الْحَق ) أي:لا يظلم تعالى أحدا، كما قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [ الأنبياء:47 ] وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [ النساء:40 ] وقال تعالى: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ [ القارعة:6- 11 ] وقال تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [ المؤمنون:101 - 103 ] .

فصل:

والذي يوضع في الميزان يوم القيامة قيل:الأعمال وإن كانت أعراضًا، إلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساما.

قال البغوي:يروى هذا عن ابن عباس كما جاء في الصحيح من أن « البقرة » و « آل عمران » يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان - أو:غيَايَتان - أو فِرْقَان من طير صَوَافّ. من ذلك في الصحيح قصة القرآن وأنه يأتي صاحبه في صورة شاب شاحب اللَّون، فيقول:من أنت؟ فيقول:أنا القرآن الذي أسهرت ليلك وأظمأت نهارك وفي حديث البراء، في قصة سؤال القبر: « فيأتي المؤمن شابٌّ حسن اللون طيّب الريح، فيقول:من أنت؟ فيقول:أنا عملك الصالح » وذكر عكسه في شأن الكافر والمنافق.

وقيل:يوزن كتاب الأعمال، كما جاء في حديث البطاقة، في الرجل الذي يؤتى به ويوضع له في كِفَّة تسعة وتسعون سجلا كل سِجِلّ مَدّ البصر، ثم يؤتى بتلك البطاقة فيها: « لا إله إلا الله » فيقول:يا رب، وما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول الله تعالى:إنك لا تُظلَم. فتوضع تلك البطاقة في كفة الميزان. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « فَطاشَت السجلات، وثَقُلَتِ البطاقة » .

رواه الترمذي بنحو من هذا وصححه.

وقيل:يوزن صاحب العمل، كما في الحديث: « يُؤتَى يوم القيامة بالرجل السَّمِين، فلا يَزِن عند الله جَنَاح بَعُوضَة » ثم قرأ: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [ الكهف:105 ] .

وفي مناقب عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى عليه وسلم قال: « أتعجبون من دِقَّة ساقَيْهِ، فوالذي نفسي بيده لهما في الميزان أثقل من أُحُدٍ »

وقد يمكن الجمع بين هذه الآثار بأن يكون ذلك كله صحيحا، فتارة توزن الأعمال، وتارة توزن محالها، وتارة يوزن فاعلها، والله أعلم.

وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ ( 10 )

يقول تعالى ممتنا على عبيده فيما مكن لهم من أنه جَعَل الأرض قرارًا، وجعل لها رواسي وأنهارًا، وجعل لهم فيها منازل وبيوتًا، وأباح منافعها، وسَخَّر لهم السحاب لإخراج أرزاقهم منها، وجعل لهم فيها معايش، أي:مكاسب وأسبابًا يتجرون فيها، ويتسببون أنواع الأسباب، وأكثرهم مع هذا قليل الشكر على ذلك، كما قال تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [ إبراهيم:34 ] .

وقد قرأ الجميع: ( مَعَايِش ) بلا همز، إلا عبد الرحمن بن هُرْمُز الأعرج فإنه همزها. والصواب الذي عليه الأكثرون بلا همز؛ لأن معايش جمع معيشة، من عاش يعيش عيشا، ومعيشة أصلها « مَعْيِشَة » فاستثقلت الكسرة على الياء، فنقلت إلى العين فصارت مَعِيشة، فلما جمعت رجعت الحركة إلى الياء لزوال الاستثقال، فقيل:معايش. ووزنه مفاعل؛ لأن الياء أصلية في الكلمة. بخلاف مدائن وصحائف وبصائر، جمع مدينة وصحيفة وبصيرة من:مدن وصحف وأبصر، فإن الياء فيها زائدة، ولهذا تجمع على فعائل، وتهمز لذلك، والله أعلم.

وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ( 11 )

ينبه تعالى بني آدم في هذا المقام على شرف أبيهم آدم، ويبين لهم عداوة عدوهم إبليس، وما هو مُنْطَوٍ عليه من الحسد لهم ولأبيهم آدم، ليحذروه ولا يتبعوا طرائقه، فقال تعالى: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ [ فَسَجَدُوا ] ) وهذا كقوله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * [ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ ] الآية [ الحجر:28 - 30 ] ، وذلك أنه تعالى لما خلق آدم، عليه السلام، بيده من طين لازب، وصوره بشرًا [ سويا ] ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة بالسجود له تعظيما لشأن الرب تعالى وجلاله، فسمعوا كلهم وأطاعوا، إلا إبليس لم يكن من الساجدين. وقد تقدم الكلام على إبليس في أول تفسير « سورة البقرة » .

وهذا الذي قررناه هو اختيار ابن جرير:أن المراد بذلك كله آدم، عليه السلام.

وقال سفيان الثوري، عن الأعمش، عن المِنْهَال بن عمرو، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ) قال:خُلِقوا في أصلاب الرجال، وصُوِّروا في أرحام النساء.

رواه الحاكم، وقال:صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه

ونقله ابن جرير عن بعض السلف أيضا:أن المراد بخلقناكم ثم صورناكم:الذرية.

وقال الربيع بن أنس، والسُّدي، وقتادة، والضحاك في هذه الآية: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ) أي:خلقنا آدم ثم صورنا الذرية.

وهذا فيه نظر؛ لأنه قال بعده: ( ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ ) دل على أن المراد بذلك آدم، وإنما قيل ذلك بالجمع لأنه أبو البشر، كما يقول الله تعالى لبني إسرائيل الذين كانوا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم: وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى البقرة:57 ] والمراد:آباؤهم الذين كانوا في زمن موسى [ عليه السلام ] ولكن لما كان ذلك مِنَّةً على الآباء الذين هم أصلٌ صار كأنه واقع على الأبناء. وهذا بخلاف قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * [ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ] [ المؤمنون:12 - 13 ] فإن المراد منه آدم المخلوق من السلالة وذريته مخلوقون من نطفة، وصح هذا لأن المراد من خلقنا الإنسان الجنس، لا معينا، والله أعلم.

 

قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ( 12 )

قال بعض النحاة في توجيه قوله تعالى: ( مَا [ مَنَعَكَ ] أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ) لا هاهنا زائدة.

وقال بعضهم:زيدت لتأكيد الجحد، كقول الشاعر:

ما إن رأيتُ ولا سمعتُ بمثله

فأدخل « إن » وهي للنفي، على « ما » النافية؛ لتأكيد النفي، قالوا:وكذلك هاهنا: ( مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ ) مع تقدم قوله: لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ

حكاهما ابن جرير وردهما، واختار أن « منعك » تضمن معنى فعل آخر تقديره:ما أحوجك وألزمك واضطرك ألا تسجد إذ أمرتك، ونحو ذلك. وهذا القول قوي حسن، والله أعلم.

وقول إبليس لعنه الله: ( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ) من العذر الذي هو أكبر من الذنب، كأنه امتنع من الطاعة لأنه لا يؤمر الفاضل بالسجود للمفضول، يعني لعنه الله:وأنا خير منه، فكيف تأمرني بالسجود له؟ ثم بين أنه خير منه، بأنه خلق من نار، والنار أشرف مما خلقته منه، وهو الطين، فنظر اللعين إلى أصل العنصر، ولم ينظر إلى التشريف العظيم، وهو أن الله تعالى خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وقاس قياسًا فاسدًا في مقابلة نص قوله تعالى: فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [ ص:72 ] فشذ من بين الملائكة بتَرْك السجود؛ فلهذا أبلس من الرحمة، أي:أيس من الرحمة، فأخطأ قَبَّحه الله في قياسه ودعواه أن النار أشرف من الطين أيضًا، فإن الطين من شأنه الرزانة والحلم والأناة والتثبت، والطين محل النبات والنمو والزيادة والإصلاح. والنار من شأنها الإحراق والطيش والسرعة؛ ولهذا خان إبليس عنصره، ونفع آدم عنصره في الرجوع والإنابة والاستكانة والانقياد والاستسلام لأمر الله، والاعتراف وطلب التوبة والمغفرة.

وفي صحيح مسلم، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « خُلِقَت الملائكة من نور، وخُلقَ إبليس من مارج من نار، وخلق آدم مما وُصِفَ لكم » هكذا رواه مسلم .

وقال ابن مَرْدُوَيه:حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا إسماعيل، عن عبد الله بن مسعود، حدثنا نُعَيم بن حماد، حدثنا عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن الزهري، عن عُرْوَة، عن عائشة قالت:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « خلق الله الملائكة من نور العرش، وخلق الجان من [ مارج من ] نار، وخلق آدم مما وُصِفَ لكم » . قلت لنعيم بن حماد:أين سمعت هذا من عبد الرزاق؟ قال:باليمن وفي بعض ألفاظ هذا الحديث في غير الصحيح: « وخلقت الحور العين من الزعفران » .

وقال ابن جرير:حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا محمد بن كثير، عن ابن شَوْذَب، عن مطر الوَرَّاق، عن الحسن في قوله: ( خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) قال:قاس إبليس، وهو أول من قاس. إسناده صحيح.

وقال:حدثني عمرو بن مالك، حدثنى يحيى بن سليم الطائفي عن هشام، عن ابن سيرين قال:أول من قاس إبليس، وما عُبِدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس إسناد صحيح أيضا.

قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ( 13 ) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ( 14 ) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ( 15 )

يقول تعالى مخاطبًا لإبليس بأمر قدري كوني: ( فَاهْبِطْ مِنْهَا ) أي:بسبب عصيانك لأمري، وخروجك عن طاعتي، فما يكون لك أن تتكبر فيها.

قال كثير من المفسرين:الضمير عائد إلى الجنة، ويحتمل أن يكون عائدًا إلى المنـزلة التي هو فيها في الملكوت الأعلى.

( فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ) أي:الذليلين الحقيرين، معاملة له بنقيض قصده، مكافأة لمراده بضده، فعند ذلك استدرك اللعين وسأل النظرة إلى يوم الدين، قال: ( أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِين ) أجابه تعالى إلى ما سأل، لما له في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة التي لا تخالف ولا تمانع، ولا مُعَقِّبَ لحكمه، وهو سريع الحساب.

قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ( 16 ) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ( 17 )

يخبر تعالى أنه لما أنظر إبليس إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ واستوثق إبليس بذلك، أخذ في المعاندة والتمرد، فقال: ( فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ) أي:كما أغويتني.

قال ابن عباس:كما أضللتني. وقال غيره:كما أهلكتني لأقعدن لعبادك - الذين تخلقهم من ذرية هذا الذي أبعدتني بسببه - على ( صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ) أي:طريق الحق وسبيل النجاة، ولأضلنهم عنها لئلا يعبدوك ولا يوحدوك بسبب إضلالك إياي.

وقال بعض النحاة:الباء هاهنا قسمية، كأنه يقول:فبإغوائك إياي لأقعدن لهم صراطك المستقيم.

قال مجاهد: ( صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ) يعني:الحق.

وقال محمد بن سوقة، عن عون بن عبد الله:يعني طريق مكة.

قال ابن جرير:والصحيح أن الصراط المستقيم أعم من ذلك [ كله ] .

قلت:لما روى الإمام أحمد:

حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا أبو عَقِيل- يعني الثقفي عبد الله بن عقيل - حدثنا موسى بن المسيب، أخبرني سالم بن أبي الجَعْد عن سَبْرَة بن أبي فَاكِه قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن الشيطان قعد لابن آدم بطرقه، فقعد له بطريق الإسلام، فقال:أتسلم وتذر دينك ودين آبائك؟ » . قال: « فعصاه وأسلم » . قال: « وقعد له بطريق الهجرة فقال:أتهاجر وتدع أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطّوَل؟ فعصاه وهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد، وهو جهاد النفس والمال، فقال:تقاتل فتقتل، فتنكح المرأة ويقسم المال؟ » . قال: « فعصاه، فجاهد » . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « فمن فعل ذلك منهم فمات، كان حقًا على الله أن يدخله الجنة، أو قتل كان حقا على الله، عز وجل، أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة، أو وَقَصته دابة كان حقا على الله أن يدخله الجنة » .

وقوله: ( ثمَُ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ [ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وِعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ] ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ) أشككهم في آخرتهم، ( وَمِنْ خَلْفِهِمْ ) أرغبهم في دنياهم ( وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ ) أشبَه عليهم أمر دينهم ( وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ) أشهي لهم المعاصي.

وقال [ علي ] بن طلحة - في رواية - والعَوْفي، كلاهما عن ابن عباس:أما ( مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ) فمن قبل دنياهم، وأما ( مِنْ خَلْفِهِمْ ) فأمر آخرتهم، وأما ( عَنْ أَيْمَانِهِمْ ) فمن قِبَل حسناتهم، وأما ( عَنْ شَمَائِلِهِمْ ) فمن قبل سيئاتهم.

وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة:أتاهم ( مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ) فأخبرهم أنه لا بعث ولا جنة ولا نار ( وَمِنْ خَلْفِهِمْ ) من أمر الدنيا فزيَّنها لهم ودعاهم إليها و ( عَنْ أَيْمَانِهِم ) من قبل حسناتهم بَطَّأهم عنها ( وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ) زين لهم السيئات والمعاصي، ودعاهم إليها، وأمرهم بها. آتاك يا ابن آدم من كل وجه، غير أنه لم يأتك من فوقك، لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله.

وكذا رُوي عن إبراهيم النَّخَعي، والحكم بن عتيبة والسدي، وابن جرير إلا أنهم قالوا: ( مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ) الدنيا ( وَمِنْ خَلْفِهِمْ ) الآخرة.

وقال مجاهد: « من بين أيديهم وعن أيمانهم » :حيث يبصرون، « ومن خلفهم وعن شمائلهم » :حيث لا يبصرون .

واختار ابن جرير أن المراد جميع طرق الخير والشر، فالخير يصدهم عنه، والشر يُحببه لهم.

وقال الحكم بن أبان، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس في قوله: ( ثمَُ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وِعَنْ شَمَائِلِهِمْ ) ولم يقل:من فوقهم؛ لأن الرحمة تنـزل من فوقهم.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) قال:موحدين.

وقول إبليس هذا إنما هو ظن منه وتوهم، وقد وافق في هذا الواقع، كما قال تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ [ سبأ:20 ، 21 ] .

ولهذا ورد في الحديث الاستعاذة من تسلط الشيطان على الإنسان من جهاته كلها، كما قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده:

حدثنا نَصْر بن علي، حدثنا عمرو بن مُجَمِّع، عن يونس بن خَبَّاب، عن ابن جُبَيْر بن مُطْعِم - يعني نافع بن جبير - عن ابن عباس - وحدثنا عمر بن الخطاب - يعني السجستاني - حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أُنَيْسَةَ، عن يونس بن خباب - عن ابن جبير بن مطعم - عن ابن عباس قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي، وأهلي ومالي، اللهم استر عَوْرَتي، وآمن رَوْعَتِي واحفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بك اللهم أن أُغْتَال مِنْ تَحْتِي » . تفرد به البزار وحسنه.

وقال الإمام أحمد:حدثنا وَكِيع، حدثنا عبادة بن مسلم الفزاري، حدثني جُبَير بن أبي سليمان ابن جبير بن مطعم، سمعت عبد الله بن عمر يقول:لم يكن رسول الله يدع هؤلاء الدعوات حين يصبح وحين يمسي: « اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمن رَوْعاتي، اللهم احفظني من بين يديّ ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فَوْقِي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي » . قال وكيع:يعني الخسف.

ورواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن حِبَّان، والحاكم من حديث عبادة بن مسلم، به وقال الحاكم:صحيح الإسناد.

قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ ( 18 )

أكد تعالى عليه اللعنة والطرد والإبعاد والنفي عن محل الملأ الأعلى بقوله: ( اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا )

قال ابن جرير:أما « المذءوُم » فهو المعيب، والذّأم غير مشدَّد:العيب. يقال: « ذأمه يذأمه ذأما فهو مذءوم » . ويتركون الهمز فيقولون: « ذمْته أذيمه ذيما وذَاما، والذام والذيم أبلغ في العيب من الذم » .

قال: « والمدحور » :المُقْصَى. وهو المبعد المطرود.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:ما نعرف « المذءوم » و « المذموم » إلا واحدًا.

وقال سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس: ( اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا ) قال:مقيتا.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:صغيرا مقيتا. وقال السدي:مقيتا مطرودا. وقال قتادة:لعينا مقيتا. وقال مجاهد:منفيًا مطرودًا. وقال الربيع بن أنس:مذؤوما:منفيا، والمدحور:المصغر .

وقوله تعالى: ( لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ ) كقوله قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا [ الإسراء:63 - 65 ] .

وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ( 19 ) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ( 20 ) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ( 21 )

يذكر تعالى أنه أباح لآدم، عليه السلام، ولزوجته [ حواء ] الجنة أن يأكلا منها من جميع ثمارها إلا شجرة واحدة. وقد تقدم الكلام على ذلك في « سورة البقرة » ، فعند ذلك حسدهما الشيطان، وسعى في المكر والخديعة والوسوسة ليُسلبا ما هما فيه من النعمة واللباس الحسن، وقال كذبا وافتراء:ما نهاكما ربكما عن أكل الشجرة إلا لتكونا ملكين أي:لئلا تكونا ملكين، أو خالدين هاهنا ولو أنكما أكلتما منها لحصل لكما ذلكما كقوله: قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى [ طه:120 ] أي:لئلا تكونا ملكين، كقوله: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [ النساء:176 ] أي:لئلا تضلوا، وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [ النحل:15 ] أي:لئلا تميد بكم.

وكان ابن عباس ويحيى بن أبي كثير يقرآن: ( إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ ) بكسر اللام. وقرأه الجمهور بفتحها.

( وَقَاسَمَهُمَا ) أي:حلف لهما بالله: ( إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ) فإني من قَبْلكما هاهنا، وأعلم بهذا المكان، وهذا من باب المفاعلة والمراد أحد الطرفين، كما قال خالد بن زهير، ابن عم أبي ذؤيب:

وقاسَــمَها باللــه جَــهْدا لأنتــمُ ألـذّ مـن السـلوى إذ مـا نشـورها

أي:حلف لهما بالله [ على ذلك ] حتى خدعهما، وقد يخدع المؤمن بالله، فقال:إني خُلقت قبلكما، وأنا أعلم منكما، فاتبعاني أرشدكما. وكان بعض أهل العلم يقول: « من خادعنا بالله خُدعنا له » .

فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ( 22 )

قال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي بن كعب، رضي الله عنه، قال:كان آدم رجلا طُوَالا كأنه نخلة سَحُوق، كثير شعر الرأس. فلما وقع بما وقع به من الخطيئة، بَدَتْ له عورته عند ذلك، وكان لا يراها. فانطلق هاربا في الجنة فتعلقت برأسه شجرة من شجر الجنة، فقال لها:أرسليني. فقالت:إني غير مرسلتك. فناداه ربه، عز وجل:يا آدم، أمنّي تفر؟ قال:رب إني استحييتك.

وقد رواه ابن جرير، وابن مَرْدُويه من طُرُق، عن الحسن، عن أبيّ بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، والموقوف أصحّ إسنادا.

وقال عبد الرزاق:أنبأنا سفيان بن عيينة وابن المبارك، عن الحسن بن عمارة، عن المِنْهَال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:كانت الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته، السنبلة. فلما أكلا منها بدت لهما سوآتهما، وكان الذي وارى عنهما من سوآتهما أظفارهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وَرقَ التين، يلزقان بعضه إلى بعض. فانطلق آدم، عليه السلام، موليا في الجنة، فعلقت برأسه شجرة من الجنة، فناداه:يا آدم، أمني تفر؟ قال:لا ولكني استحييتك يا رب. قال:أما كان لك فيما منحتك من الجنة وأبحتك منها مندوحة، عما حرمت عليك. قال:بلى يا رب، ولكن وعزتك ما حسبت أن أحدًا يحلف بك كاذبًا. قال:وهو قوله، عز وجل وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ قال:فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض، ثم لا تنال العيش إلا كَدا. قال:فأهبط من الجنة، وكانا يأكلان منها رَغَدًا، فأهبط إلى غير رغد من طعام وشراب، فعُلّم صنعة الحديد، وأمر بالحرث، فحرث وزرع ثم سقى، حتى إذا بلغ حصد، ثم داسه، ثم ذَرّاه، ثم طحنه، ثم عجنه، ثم خبزه، ثم أكله، فلم يبلغه حتى بلغ منه ما شاء الله أن يبلغ وقال الثوري، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ) قال:ورق التين. صحيح إليه.

وقال مجاهد:جعلا يخصفان عليهما من ورق الجنة كهيئة الثوب.

وقال وَهْب بن مُنَبِّه في قوله: يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا قال:كان لباس آدم وحواء نورا على فروجهما، لا يرى هذا عورة هذه، ولا هذه عورة هذا. فلما أكلا من الشجرة بدت لهما سوآتهما. رواه ابن جرير بإسناد صحيح إليه.

وقال عبد الرزاق:أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة قال:قال آدم:أي رب، أرأيت إن تبت واستغفرت؟ قال:إذًا أدخلك الجنة. وأما إبليس فلم يسأله التوبة، وسأله النظرة، فأعطي كل واحد منهما الذي سأله.

وقال ابن جرير:حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا عَبَّاد بن العَوَّام، عن سفيان بن حسين، عن يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:لما أكل آدم من الشجرة قيل له:لم أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها. قال:حواء. أمرتني. قال:فإني قد أعقبتها أن لا تحمل إلا كَرْها، ولا تضع إلا كَرْها. قال:فرنَّت عند ذلك حواء. فقيل لها:الرنة عليك وعلى ولدك

 

قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 23 )

وقال الضحاك بن مُزَاحِم في قوله: ( رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه [ عز وجل ]

قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ( 24 ) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ( 25 )

قيل:المراد بالخطاب في ( اهْبِطُوا ) آدم، وحواء، وإبليس، والحية. ومنهم من لم يذكر الحية، والله أعلم.

والعمدة في العداوة آدم وإبليس؛ ولهذا قال تعالى في سورة « طه » قال: اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا [ الآية:123 ] وحواء تبع لآدم. والحية - إن كان ذكرها صحيحا - فهي تبع لإبليس.

وقد ذكر المفسرون الأماكن التي هبط فيها كل منهم، ويرجع حاصل تلك الأخبار إلى الإسرائيليات، والله أعلم بصحتها. ولو كان في تعيين تلك البقاع فائدة تعود على المكلفين في أمر دينهم، أو دنياهم، لذكرها الله تعالى في كتابه أو رسوله صلى الله عليه وسلم.

وقوله: ( وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) أي:قرار وأعمار مضروبة إلى آجال معلومة، قد جرى بها القلم، وأحصاها القدر، وسطرت في الكتاب الأول. وقال ابن عباس: ( مُسْتَقَرٌّ ) القبور. وعنه:وجه الأرض وتحتها. رواهما ابن أبي حاتم.

وقوله: ( قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ) كقوله تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [ طه:55 ] يخبر تعالى أنه يجعل الأرض دارًا لبني آدم مدة الحياة الدنيا، فيها محياهم وفيها مماتهم وقبورهم، ومنها نشورهم ليوم القيامة الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين، ويجازي كلا بعمله.

يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ( 26 )

يمتن تبارك وتعالى على عباده بما جعل لهم من اللباس والريش فاللباس المذكور هاهنا لستر العورات - وهي السوآت والرياش والريش:هو ما يتجمل به ظاهرًا، فالأول من الضروريات، والريش من التكملات والزيادات.

قال ابن جرير: « الرياش » في كلام العرب:الأثاث، وما ظهر من الثياب.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس - وحكاه البخاري - عنه:الرياش:المال. وكذا قال مجاهد، وعُرْوَة بن الزبير، والسُّدِّي والضحاك

وقال العَوْفي، عن ابن عباس: « الرياش » اللباس، والعيش، والنعيم.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: « الرياش » :الجمال.

وقال الإمام أحمد:حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا أصْبَغُ، عن أبي العلاء الشامي قال:لبس أبو أمامة ثوبًا جديدًا، فلما بلغ تَرْقُوَتَه قال:الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمل به في حياتي. ثم قال:سمعت عمر بن الخطاب يقول:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من استجد ثوبًا فلبسه فقال حين يبلغ ترقوته:الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمل به في حياتي ثم عمد إلى الثوب الذي خَلُقَ أو:ألقى فتصدق به، كان في ذمة الله، وفي جوار الله، وفي كنف الله حيا وميتا، [ حيا وميتا، حيا وميتا ] » .

ورواه الترمذي، وابن ماجه، من رواية يزيد بن هارون، عن أصبغ - هو ابن زيد الجهني - وقد وثقه يحيى بن مَعِين وغيره، وشيخه « أبو العلاء الشامي » لا يعرف إلا بهذا الحديث، ولكن لم يخرجه أحد، والله أعلم.

وقال الإمام أحمد أيضا:حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا مختار بن نافع التمار، عن أبي مطر؛ أنه رأى عليا، رضي الله عنه، أتى غلامًا حدثًا، فاشترى منه قميصًا بثلاثة دراهم، ولبسه إلى ما بين الرسغين إلى الكعبين، يقول ولبسه:الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس، وأواري به عورتي. فقيل:هذا شيء ترويه عن نفسك أو عن نبي الله صلى الله عليه وسلم؟ قال:هذا شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند الكسوة: « الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس، وأواري به عورتي »

وقوله تعالى: ( وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ) قرأ بعضهم: « ولباسَ التقوى » ، بالنصب. وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء، ( ذَلِكَ خَيْرٌ ) خبره.

واختلف المفسرون في معناه، فقال عكرمة:يقال:هو ما يلبسه المتقون يوم القيامة. رواه ابن أبي حاتم.

وقال زيد بن علي، والسُّدِّي، وقتادة، وابن جُريْج: ( وَلِبَاسُ التَّقْوَى ) الإيمان.

وقال العَوْفي، عن ابن عباس [ رضي الله عنه: ( وَلِبَاسُ التَّقْوَى ) ] العمل الصالح.

وقال زياد بن عمرو، عن ابن عباس:هو السمت الحسن في الوجه.

وعن عُرْوَة بن الزبير: ( لِبَاسُ التَّقْوَى ) خشية الله.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ( لِبَاسُ التَّقْوَى ) يتقي الله، فيواري عورته، فذاك لباس التقوى.

وكل هذه متقاربة، ويؤيد ذلك الحديث الذي رواه ابن جرير حيث قال:

حدثني المثنى، حدثنا إسحاق بن الحجاج، حدثنا إسحاق بن إسماعيل، عن سليمان بن أرقم، عن الحسن قال:رأيت عثمان بن عفان، رضي الله عنه، على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه قميص قُوهي محلول الزرّ، وسمعته يأمر بقتل الكلاب، وينهى عن اللعب بالحمام. ثم قال:يا أيها الناس، اتقوا الله في هذه السرائر، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « والذي نفس محمد بيده، ما عمل أحد قط سرا إلا ألبسه الله رداء علانية، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر » . ثم تلا هذه الآية: « ورياشًا » ولم يقرأ:وريشًا - ( وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ) قال: « السمت الحسن » .

هكذا رواه ابن جرير من رواية سليمان بن أرقم وفيه ضعف. وقد روى الأئمة:الشافعي، وأحمد، والبخاري في كتاب « الأدب » من طرق صحيحة، عن الحسن البصري؛ أنه سمع أمير المؤمنين عثمان بن عفان يأمر بقتل الكلاب وذبح الحمام، يوم الجمعة على المنبر.

وأما المرفوع منه فقد روى الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير له شاهدًا من وجه آخر، حيث قال:حدثنا....

يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ( 27 )

يقول تعالى محذرًا بني آدم من إبليس وقبيله، ومبينًا لهم عداوته القديمة لأبي البشر آدم، عليه السلام، في سعيه في إخراجه من الجنة التي هي دار النعيم، إلى دار التعب والعناء، والتسبب في هتك عورته بعدما كانت مستورة عنه، وما هذا إلا عن عداوة أكيدة، وهذا كقوله تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا [ الكهف:50 ]

وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 28 ) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ( 29 ) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ( 30 )

قال مجاهد:كان المشركون يطوفون بالبيت عراة، يقولون:نطوف كما ولدتنا أمهاتنا. فتضع المرأة على فرجها النسعة، أو الشيء وتقول:

اليــوم يبــدُو بعضُــه أو كلّــه ومــا بَــدا منــه فــلا أحلّــهُ

فأنـزل الله [ تعالى ] ( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ) الآية.

قلت:كانت العرب - ما عدا قريشًا - لا يطوفون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها، يتأولون في ذلك أنهم لا يطوفون في ثياب عصوا الله فيها، وكانت قريش - وهم الحُمْس - يطوفون في ثيابهم، ومن أعاره أحمسي ثوبًا طاف فيه، ومن معه ثوب جديد طاف فيه ثم يلقيه فلا يتملكه أحد، فمن لم يجد ثوبًا جديدًا ولا أعاره أحمسي ثوبًا، طاف عريانًا. وربما كانت امرأة فتطوف عريانة، فتجعل على فرجها شيئًا يستره بعض الشيء وتقول:

اليــوم يبــدُو بعضُــه أو كلّــه ومــا بــدَا منــه فــلا أحلّــهُ

وأكثر ما كان النساء يطفن [ عراة ] بالليل، وكان هذا شيئًا قد ابتدعوه من تلقاء أنفسهم، واتبعوا فيه آباءهم ويعتقدون أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله وشرع، فأنكر الله تعالى عليهم ذلك، فقال: ( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ) فقال تعالى ردًا عليهم: ( قُلْ ) أي:قل يا محمد لمن ادعى ذلك: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ) أي:هذا الذي تصنعونه فاحشة منكرة، والله لا يأمر بمثل ذلك ( أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) أي:أتسندون إلى الله من الأقوال ما لا تعلمون صحته.

وقوله: ( قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ) أي:بالعدل والاستقامة، ( وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) أي:أمركم بالاستقامة في عبادته في محالها، وهي متابعة المرسلين المؤيدين بالمعجزات فيما أخبروا به عن الله [ تعالى ] وما جاءوا به [ عنه ] من الشرائع، وبالإخلاص له في عبادته، فإنه تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين:أن يكون صوابًا موافقًا للشريعة، وأن يكون خالصًا من الشرك.

وقوله تعالى: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُون * [ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ ] الضَّلالَة ) - اختلف في معنى [ قوله تعالى ] ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) فقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) يحييكم بعد موتكم.

وقال الحسن البصري:كما بدأكم في الدنيا، كذلك تعودون يوم القيامة أحياء.

وقال قتادة: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) قال:بدأ فخلقهم ولم يكونوا شيئًا، ثم ذهبوا، ثم يعيدهم.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:كما بدأكم أولا كذلك يعيدكم آخرًا.

واختار هذا القول أبو جعفر بن جرير، وأيده بما رواه من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج، كلاهما عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: « يا أيها الناس، إنكم تحشرون إلى الله حُفَاة عُرَاة غُرْلا كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [ الأنبياء:104 ] . »

وهذا الحديث مُخَرَّجٌ في الصحيحين، من حديث شعبة، وفي حديث البخاري - أيضا - من حديث الثوري به.

وقال وقَاء بن إياس أبو يزيد، عن مجاهد: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) قال:يبعث المسلم مسلمًا، والكافر كافرًا.

وقال أبو العالية: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) رُدُّوا إلى علمه فيهم.

وقال سعيد بن جبير: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) كما كتب عليكم تكونون - وفي رواية:كما كنتم تكونون عليه تكونون.

وقال محمد بن كعب القُرَظِي في قوله تعالى: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) من ابتدأ الله خلقه على الشقاوة صار إلى ما ابتدئ عليه خلقه، وإن عمل بأعمال أهل السعادة، كما أن إبليس عمل بأعمال أهل السعادة، ثم صار إلى ما ابتدئ عليه خلقه. ومن ابتُدئ خلقه على السعادة، صار إلى ما ابتدئ خلقه عليه، إن عمل بأعمال أهل الشقاء، كما أن السحرة عملت بأعمال أهل الشقاء، ثم صاروا إلى ما ابتدئوا عليه.

وقال السُّدِّي: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ ) يقول: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) كما خلقناكم، فريق مهتدون وفريق ضلال، كذلك تعودون وتخرجون من بطون أمهاتكم.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ ) قال:إن الله تعالى بدأ خلق ابن آدم مؤمنًا وكافرًا، كما قال [ تعالى ] هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [ التغابن:2 ] ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأهم مؤمنًا وكافرًا.

قلت:ويتأيد هذا القول بحديث ابن مسعود في صحيح البخاري « فوالذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع - أو:ذراع - فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع - أو:ذراع - فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخل الجنة »

وقال أبو القاسم البَغَوي:حدثنا علي بن الجَعْد، حدثنا أبو غَسَّان، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن العبد ليعمل - فيما يرى الناس - بعمل أهل الجنة، وإنه من أهل النار. وإنه ليعمل - فيما يرى الناس - بعمل أهل النار، وإنه من أهل الجنة، وإنما الأعمال بالخواتيم »

هذا قطعة من حديث رواه البخاري من حديث أبي غسان محمد بن مُطَرَّف المدني، في قصة « قُزْمان » يوم أحد

وقال ابن جرير:حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال « :تُبْعَثُ كل نَفْسٍ على ما كانت عليه » .

وهذا الحديث رواه مسلم وابن ماجه من غير وجه، عن الأعمش، به. ولفظه: « يبعث كل عبد على ما مات عليه »

قلت:ولا بد من الجمع بين هذا القول - إن كان هو المراد من الآية - وبين قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [ الروم:30 ] وما جاء في الصحيحين، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه ويُمَجِّسانه » وفي صحيح مسلم، عن عِياض بن حمَار قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يقول الله تعالى:إني خلقت عبادي حُنَفَاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم » الحديث. ووجه الجمع على هذا أنه تعالى خلقهم ليكون منهم مؤمن وكافر، في ثاني الحال، وإن كان قد فطر الخلق كلهم على معرفته وتوحيده، والعلم بأنه لا إله غيره، كما أخذ عليهم بذلك الميثاق، وجعله في غرائزهم وفطرهم، ومع هذا قدر أن منهم شقيًا ومنهم سعيدًا: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [ التغابن:2 ] وفي الحديث: « كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمُعْتِقُهَا، أو مُوبِقها » وقدر الله نافذ في بريته، فإنه هو الَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [ الأعلى:3 ] و الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [ طه:50 ] وفي الصحيحين: « فأما من كان منكم من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة » ؛ ولهذا قال تعالى: ( فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ ) ثم علل ذلك فقال: ( إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ] )

قال ابن جرير:وهذا من أبين الدلالة على خطأ من زعم أن الله لا يعذب أحدًا على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها، إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها، فيركبها عنادًا منه لربه فيها؛ لأن ذلك لو كان كذلك، لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضل وهو يحسب أنه هاد، وفريق الهدى، فرق. وقد فرق الله تعالى بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية [ الكريمة ]

 

يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ( 31 )

هذه الآية الكريمة ردٌّ على المشركين فيما كانوا يعتمدونه من الطواف بالبيت عُراة، كما رواه مسلم والنسائي وابن جرير - واللفظ له - من حديث شعبة، عن سلمة بن كُهَيْل، عن مسلم البَطِين، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال:كانوا يطوفون بالبيت عراة، الرجال والنساء:الرجال بالنهار، والنساء بالليل. وكانت المرأة تقول:

اليــومَ يبــدُو بعضُــه أو كُلّــه ومــا بَــدَا مِنْــه فــلا أحِلّــهُ

فقال الله تعالى: ( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ )

وقال العَوْفي، عن ابن عباس في قوله [ تعالى ] ( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) الآية، قال:كان رجال يطوفون بالبيت عراة، فأمرهم الله بالزينة - والزينة:اللباس، وهو ما يوارى السوأة، وما سوى ذلك من جَيّد البزِّ والمتاع - فأمروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد.

وكذا قال مجاهد، وعطاء، وإبراهيم النَّخعي، وسعيد بن جُبَيْر، وقتادة، والسُّدِّي، والضحاك، ومالك عن الزهري، وغير واحد من أئمة السلف في تفسيرها:أنها أنـزلت في طوائف المشركين بالبيت عراة.

وقد روى الحافظ بن مَرْدُويه، من حديث سعيد بن بشير والأوزاعي، عن قتادة، عن أنس مرفوعا؛ أنها أنـزلت في الصلاة في النعال. ولكن في صحته نظر والله أعلم.

ولهذه الآية، وما ورد في معناها من السنة، يستحب التجمل عند الصلاة، ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد، والطيب لأنه من الزينة، والسواك لأنه من تمام ذلك، ومن أفضل الثياب البياض، كما قال الإمام أحمد:

حدثنا علي بن عاصم، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خُثَيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكَفِّنوا فيها موتاكم، وإن خير أكحالكم الإثْمِد، فإنه يجلو البصر، وينبت الشعر » .

هذا حديث جيد الإسناد، رجاله على شرط مسلم. ورواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، من حديث عبد الله بن عثمان بن خُثَيم، به وقال الترمذي:حسن صحيح.

وللإمام أحمد أيضا، وأهل السنن بإسناد جيد، عن سَمُرَة بن جُنْدَب قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « عليكم بالثياب البياض فالبسوها؛ فإنها أطهر وأطيب، وكفنوا فيها موتاكم »

وروى الطبراني بسند صحيح، عن قتادة، عن محمد بن سيرين:أن تميما الداري اشترى رداءً بألف، فكان يصلي فيه.

وقوله تعالى: ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ] ) الآية. قال بعض السلف:جمع الله الطب كله في نصف آية: ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا )

وقال البخاري:قال ابن عباس:كل ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك خصلتان:سرَف ومَخِيلة.

وقال ابن جرير:حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن ثَوْر، عن مَعْمَر، عن

ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال:أحل الله الأكل والشرب، ما لم يكن سرَفًا أو مَخِيلة. إسناده صحيح.

وقال الإمام أحمد:حدثنا بَهْز، حدثنا هَمّام، عن قتادة، عن عمرو بن شُعَيْب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا، في غير مَخِيلة ولا سرَف، فإن الله يحب أن يرى نعمته على عبده »

ورواه النسائي وابن ماجه، من حديث قتادة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « كلوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مَخِيلة »

وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو المغيرة، حدثنا سليمان بن سليم الكِناني، حدثنا يحيى بن جابر الطائي سمعت المقدام بن معديكرب الكندي قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ما ملأ آدمي وعاءً شرًا من بطنه، حَسْبُ ابن آدم أكلات يُقِمْنَ صُلبه، فإن كان فاعلا لا محالة، فثلث طعامٌ، وثلث شرابٌ، وثلث لنفسه » .

ورواه النسائي والترمذي، من طرق، عن يحيى بن جابر، به وقال الترمذي:حسن - وفي نسخة:حسن صحيح.

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده:حدثنا سُوَيْد بن عبد العزيز حدثنا بَقِيَّة، عن يوسف بن أبي كثير، عن نوح بن ذَكْوان، عن الحسن، عن أنس بن مالك قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن من السَّرف أن تأكل كل ما اشتهيت » .

ورواه الدارقطني في الأفراد، وقال:هذا حديث غريب تفرد به بقية.

وقال السُّدِّي:كان الذين يطوفون بالبيت عراة، يحرمون عليهم الودَكَ ما أقاموا في الموسم؛ فقال الله [ تعالى ] لهم: ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ] ) يقول:لا تسرفوا في التحريم.

وقال مجاهد:أمرهم أن يأكلوا ويشربوا مما رزقهم الله.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ( وَلا تُسْرِفُوا ) يقول:ولا تأكلوا حرامًا، ذلك الإسراف.

وقال عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله: ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) في الطعام والشراب.

وقال ابن جرير:وقوله: ( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) يقول الله:إن الله [ تعالى ] لا يحب المتعدين حَدَّه في حلال أو حرام، الغالين فيما أحل أو حَرّم، بإحلال الحرام وبتحريم الحلال، ولكنه يحب أن يحلل ما أحل، ويحرم ما حرم، وذلك العدل الذي أمر به.

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 32 )

يقول تعالى ردًا على من حَرَّم شيئًا من المآكل أو المشارب، والملابس، من تلقاء نفسه، من غير شرع من الله: ( قُلْ ) يا محمد، لهؤلاء المشركين الذين يحرمون ما يحرمون بآرائهم الفاسدة وابتداعهم: ( مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ [ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ] ) الآية، أي:هي مخلوقة لمن آمن بالله وعبده في الحياة الدنيا، وإن شركهم فيها الكفار حسًا في الدنيا، فهي لهم خاصة يوم القيامة، لا يَشْرَكهم فيها أحد من الكفار، فإن الجنة محرّمة على الكافرين.

قال أبو القاسم الطبراني:حدثنا أبو حُصَين محمد بن الحسين القاضي، حدثنا يحيى الحِمَّاني، حدثنا يعقوب القُمِّي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير،

عن ابن عباس قال:كانت قريش يطوفون بالبيت وهم عراة، يصفرون ويُصفِّقون. فأنـزل الله: ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ ) فأمروا بالثياب.

قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 33 )

قال الإمام أحمد:حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن شَقِيقٍ، عن عبد الله قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا أحد أغير من الله، فلذلك حَرَّم الفواحش ما ظَهَر منها وما بَطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله » .

أخرجاه في الصحيحين، من حديث سليمان بن مهْران الأعمش، عن شقيق عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود وتقدم الكلام في سورة الأنعام على ما يتعلق بالفواحش ما ظهر منها وما بطن.

وقوله: ( وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) قال السُّدِّي:أما الإثم فالمعصية، والبغي أن تبغي على الناس بغير الحق.

وقال مجاهد:الإثم المعاصي كلها، وأخبر أن الباغي بغيه كائن على نفسه.

وحاصل ما فُسّر به الإثم أنه الخطايا المتعلقة بالفاعل نفسه، والبغي هو التعدي إلى الناس، فحرم الله هذا وهذا.

وقوله: ( وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنـزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) أي:تجعلوا له شريكا في عبادته، وأن تقولوا عليه من الافتراء والكذب من دعوى أن له ولدًا ونحو ذلك، مما لا علم لكم به كما قال تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ [ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ] الآية [ الحج:30 ، 31 ] .

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ( 34 ) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 35 ) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 36 )

يقول تعالى: ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ ) أي:قرن وجيل ( أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ ) أي:ميقاتهم المقدر لهم ( لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ) عن ذلك ( وَلا يَسْتَقْدِمُونَ )

ثم أنذر تعالى بني آدم بأنه سيبعث إليهم رسلا يقصون عليهم آياته، وبَشر وحذر فقال: ( فَمَن اتَّقَى وَأَصْلَحَ ) أي:ترك المحرمات وفعل الطاعات ( فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا ) أي:كذبت بها قلوبهم، واستكبروا عن العمل بها ( أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) أي:ماكثون فيها مكثًا مخلدًا.

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ( 37 )

يقول [ تعالى ] ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ) أي:لا أحد أظلم ممن افترى الكذب على الله، أو كذب بآيات الله المنـزلة.

( أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ ) اختلف المفسرون في معناه، فقال العَوْفي عن ابن عباس:ينالهم ما كتب عليهم، وكتب لمن يفترى على الله أن وجهه مسود.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس يقول:نصيبهم من الأعمال، من عَمِل خيرًا جُزِي به، ومن عمل شرًا جُزِي به.

وقال مجاهد:ما وعدوا فيه من خير وشر.

وكذا قال قتادة، والضحاك، وغير واحد. واختاره ابن جرير.

وقال محمد بن كعب القرظي: ( أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ ) قال:عمله ورزقه وعمره.

وكذا قال الربيع بن أنس، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وهذا القول قوي في المعنى، والسياق يدل عليه، وهو قوله: ( حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ ) ويصير المعنى في هذه الآية كما في قوله [ تعالى ] إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [ يونس:69 ، 70 ] وقوله وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا [ ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ ] [ لقمان:23 ، 24 ] .

وقوله [ تعالى ] ( حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ [ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ] ) الآية:يخبر تعالى أن الملائكة إذا توفت المشركين تفزعهم عند الموت وقَبْض أرواحهم إلى النار، يقولون لهم أين الذين كنتم تشركون بهم في الحياة الدنيا وتدعونهم وتعبدونهم من دون الله؟ ادعوهم يخلصوكم مما أنتم فيه. قالوا: ( ضَلُّوا عَنَّا ) أي:ذهبوا عنا فلا نرجو نفعهم، ولا خيرهم. ( وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) أي:أقروا واعترفوا على أنفسهم ( أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ) .

 

يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ( 31 )

هذه الآية الكريمة ردٌّ على المشركين فيما كانوا يعتمدونه من الطواف بالبيت عُراة، كما رواه مسلم والنسائي وابن جرير - واللفظ له - من حديث شعبة، عن سلمة بن كُهَيْل، عن مسلم البَطِين، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال:كانوا يطوفون بالبيت عراة، الرجال والنساء:الرجال بالنهار، والنساء بالليل. وكانت المرأة تقول:

اليــومَ يبــدُو بعضُــه أو كُلّــه ومــا بَــدَا مِنْــه فــلا أحِلّــهُ

فقال الله تعالى: ( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ )

وقال العَوْفي، عن ابن عباس في قوله [ تعالى ] ( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) الآية، قال:كان رجال يطوفون بالبيت عراة، فأمرهم الله بالزينة - والزينة:اللباس، وهو ما يوارى السوأة، وما سوى ذلك من جَيّد البزِّ والمتاع - فأمروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد.

وكذا قال مجاهد، وعطاء، وإبراهيم النَّخعي، وسعيد بن جُبَيْر، وقتادة، والسُّدِّي، والضحاك، ومالك عن الزهري، وغير واحد من أئمة السلف في تفسيرها:أنها أنـزلت في طوائف المشركين بالبيت عراة.

وقد روى الحافظ بن مَرْدُويه، من حديث سعيد بن بشير والأوزاعي، عن قتادة، عن أنس مرفوعا؛ أنها أنـزلت في الصلاة في النعال. ولكن في صحته نظر والله أعلم.

ولهذه الآية، وما ورد في معناها من السنة، يستحب التجمل عند الصلاة، ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد، والطيب لأنه من الزينة، والسواك لأنه من تمام ذلك، ومن أفضل الثياب البياض، كما قال الإمام أحمد:

حدثنا علي بن عاصم، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خُثَيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكَفِّنوا فيها موتاكم، وإن خير أكحالكم الإثْمِد، فإنه يجلو البصر، وينبت الشعر » .

هذا حديث جيد الإسناد، رجاله على شرط مسلم. ورواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، من حديث عبد الله بن عثمان بن خُثَيم، به وقال الترمذي:حسن صحيح.

وللإمام أحمد أيضا، وأهل السنن بإسناد جيد، عن سَمُرَة بن جُنْدَب قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « عليكم بالثياب البياض فالبسوها؛ فإنها أطهر وأطيب، وكفنوا فيها موتاكم »

وروى الطبراني بسند صحيح، عن قتادة، عن محمد بن سيرين:أن تميما الداري اشترى رداءً بألف، فكان يصلي فيه.

وقوله تعالى: ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ] ) الآية. قال بعض السلف:جمع الله الطب كله في نصف آية: ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا )

وقال البخاري:قال ابن عباس:كل ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك خصلتان:سرَف ومَخِيلة.

وقال ابن جرير:حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن ثَوْر، عن مَعْمَر، عن

ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال:أحل الله الأكل والشرب، ما لم يكن سرَفًا أو مَخِيلة. إسناده صحيح.

وقال الإمام أحمد:حدثنا بَهْز، حدثنا هَمّام، عن قتادة، عن عمرو بن شُعَيْب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا، في غير مَخِيلة ولا سرَف، فإن الله يحب أن يرى نعمته على عبده »

ورواه النسائي وابن ماجه، من حديث قتادة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « كلوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مَخِيلة »

وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو المغيرة، حدثنا سليمان بن سليم الكِناني، حدثنا يحيى بن جابر الطائي سمعت المقدام بن معديكرب الكندي قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ما ملأ آدمي وعاءً شرًا من بطنه، حَسْبُ ابن آدم أكلات يُقِمْنَ صُلبه، فإن كان فاعلا لا محالة، فثلث طعامٌ، وثلث شرابٌ، وثلث لنفسه » .

ورواه النسائي والترمذي، من طرق، عن يحيى بن جابر، به وقال الترمذي:حسن - وفي نسخة:حسن صحيح.

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده:حدثنا سُوَيْد بن عبد العزيز حدثنا بَقِيَّة، عن يوسف بن أبي كثير، عن نوح بن ذَكْوان، عن الحسن، عن أنس بن مالك قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن من السَّرف أن تأكل كل ما اشتهيت » .

ورواه الدارقطني في الأفراد، وقال:هذا حديث غريب تفرد به بقية.

وقال السُّدِّي:كان الذين يطوفون بالبيت عراة، يحرمون عليهم الودَكَ ما أقاموا في الموسم؛ فقال الله [ تعالى ] لهم: ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ] ) يقول:لا تسرفوا في التحريم.

وقال مجاهد:أمرهم أن يأكلوا ويشربوا مما رزقهم الله.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ( وَلا تُسْرِفُوا ) يقول:ولا تأكلوا حرامًا، ذلك الإسراف.

وقال عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله: ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) في الطعام والشراب.

وقال ابن جرير:وقوله: ( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) يقول الله:إن الله [ تعالى ] لا يحب المتعدين حَدَّه في حلال أو حرام، الغالين فيما أحل أو حَرّم، بإحلال الحرام وبتحريم الحلال، ولكنه يحب أن يحلل ما أحل، ويحرم ما حرم، وذلك العدل الذي أمر به.

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 32 )

يقول تعالى ردًا على من حَرَّم شيئًا من المآكل أو المشارب، والملابس، من تلقاء نفسه، من غير شرع من الله: ( قُلْ ) يا محمد، لهؤلاء المشركين الذين يحرمون ما يحرمون بآرائهم الفاسدة وابتداعهم: ( مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ [ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ] ) الآية، أي:هي مخلوقة لمن آمن بالله وعبده في الحياة الدنيا، وإن شركهم فيها الكفار حسًا في الدنيا، فهي لهم خاصة يوم القيامة، لا يَشْرَكهم فيها أحد من الكفار، فإن الجنة محرّمة على الكافرين.

قال أبو القاسم الطبراني:حدثنا أبو حُصَين محمد بن الحسين القاضي، حدثنا يحيى الحِمَّاني، حدثنا يعقوب القُمِّي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير،

عن ابن عباس قال:كانت قريش يطوفون بالبيت وهم عراة، يصفرون ويُصفِّقون. فأنـزل الله: ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ ) فأمروا بالثياب.

قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 33 )

قال الإمام أحمد:حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن شَقِيقٍ، عن عبد الله قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا أحد أغير من الله، فلذلك حَرَّم الفواحش ما ظَهَر منها وما بَطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله » .

أخرجاه في الصحيحين، من حديث سليمان بن مهْران الأعمش، عن شقيق عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود وتقدم الكلام في سورة الأنعام على ما يتعلق بالفواحش ما ظهر منها وما بطن.

وقوله: ( وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) قال السُّدِّي:أما الإثم فالمعصية، والبغي أن تبغي على الناس بغير الحق.

وقال مجاهد:الإثم المعاصي كلها، وأخبر أن الباغي بغيه كائن على نفسه.

وحاصل ما فُسّر به الإثم أنه الخطايا المتعلقة بالفاعل نفسه، والبغي هو التعدي إلى الناس، فحرم الله هذا وهذا.

وقوله: ( وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنـزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) أي:تجعلوا له شريكا في عبادته، وأن تقولوا عليه من الافتراء والكذب من دعوى أن له ولدًا ونحو ذلك، مما لا علم لكم به كما قال تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ [ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ] الآية [ الحج:30 ، 31 ] .

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ( 34 ) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 35 ) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 36 )

يقول تعالى: ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ ) أي:قرن وجيل ( أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ ) أي:ميقاتهم المقدر لهم ( لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ) عن ذلك ( وَلا يَسْتَقْدِمُونَ )

ثم أنذر تعالى بني آدم بأنه سيبعث إليهم رسلا يقصون عليهم آياته، وبَشر وحذر فقال: ( فَمَن اتَّقَى وَأَصْلَحَ ) أي:ترك المحرمات وفعل الطاعات ( فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا ) أي:كذبت بها قلوبهم، واستكبروا عن العمل بها ( أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) أي:ماكثون فيها مكثًا مخلدًا.

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ( 37 )

يقول [ تعالى ] ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ) أي:لا أحد أظلم ممن افترى الكذب على الله، أو كذب بآيات الله المنـزلة.

( أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ ) اختلف المفسرون في معناه، فقال العَوْفي عن ابن عباس:ينالهم ما كتب عليهم، وكتب لمن يفترى على الله أن وجهه مسود.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس يقول:نصيبهم من الأعمال، من عَمِل خيرًا جُزِي به، ومن عمل شرًا جُزِي به.

وقال مجاهد:ما وعدوا فيه من خير وشر.

وكذا قال قتادة، والضحاك، وغير واحد. واختاره ابن جرير.

وقال محمد بن كعب القرظي: ( أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ ) قال:عمله ورزقه وعمره.

وكذا قال الربيع بن أنس، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وهذا القول قوي في المعنى، والسياق يدل عليه، وهو قوله: ( حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ ) ويصير المعنى في هذه الآية كما في قوله [ تعالى ] إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [ يونس:69 ، 70 ] وقوله وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا [ ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ ] [ لقمان:23 ، 24 ] .

وقوله [ تعالى ] ( حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ [ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ] ) الآية:يخبر تعالى أن الملائكة إذا توفت المشركين تفزعهم عند الموت وقَبْض أرواحهم إلى النار، يقولون لهم أين الذين كنتم تشركون بهم في الحياة الدنيا وتدعونهم وتعبدونهم من دون الله؟ ادعوهم يخلصوكم مما أنتم فيه. قالوا: ( ضَلُّوا عَنَّا ) أي:ذهبوا عنا فلا نرجو نفعهم، ولا خيرهم. ( وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) أي:أقروا واعترفوا على أنفسهم ( أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ) .

 

وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ( 44 ) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ ( 45 )

يخبر تعالى بما يخاطب أهل الجنة أهل النار إذا استقروا في منازلهم، وذلك على وجه التقريع والتوبيخ: ( أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا [ فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ] ) « أن » هاهنا مفسِّرة للقول المحذوف، و « قد » للتحقيق، أي:قالوا لهم: ( قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ ) كما أخبر تعالى في سورة « الصافات » عن الذي كان له قرين من الكفار: فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [ الآيات:55- 59 ] أي:ينكر عليه مقالته التي يقولها في الدنيا، ويقرعه بما صار إليه من العذاب والنكال، وكذا تقرعهم الملائكة يقولون لهم: هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [ الطور:14- 16 ] وكذلك قرع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قتلى القليب يوم بدر، فنادى: « يا أبا جهل بن هشام، ويا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة - وسمى رءوسهم- :هل وجدتم ما وعد ربكم حقًا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقًا » . وقال عمر:يا رسول الله، تخاطب قومًا قد جَيفوا؟ فقال: « والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا » .

وقوله: ( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ ) أي:أعلم معلم ونادى مُنَاد: ( أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) أي:مستقرة عليهم.

ثم وصفهم بقوله: ( الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ) أي:يصدون الناس عن اتباع سبيل الله وشرعه وما جاءت به الأنبياء، ويبغون أن تكون السبيل معوجة غير مستقيمة، حتى لا يتبعها أحد. ( وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ ) أي:وهم بلقاء الله في الدار الآخرة كافرون، أي:جاحدون مكذبون بذلك لا يصدقونه ولا يؤمنون به. فلهذا لا يبالون بما يأتون من منكر من القول والعمل؛ لأنهم لا يخافون حسابًا عليه، ولا عقابًا، فهم شر الناس أعمالا وأقوالا.

وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ( 46 ) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( 47 )

لما ذكر تعالى مخاطبة أهل الجنة مع أهل النار، نَبَّه أن بين الجنة والنار حجابًا، وهو الحاجز المانع من وصول أهل النار إلى الجنة.

قال ابن جرير:وهو السور الذي قال الله تعالى: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [ الحديد:13 ] وهو الأعراف الذي قال الله تعالى: ( وَعَلَى الأعْرَافِ رِجَالٌ )

ثم روي بإسناده عن السدي أنه قال في قوله [ تعالى ] ( وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ ) وهو « السور » ، وهو « الأعراف » .

وقال مجاهد:الأعراف:حجاب بين الجنة والنار، سور له باب.

قال ابن جرير:والأعراف جمع « عُرْف » ، وكل مرتفع من الأرض عند العرب يسمى « عرفًا » ، وإنما قيل لعرف الديك عرفًا لارتفاعه.

وحدثنا سفيان بن وَكِيع، حدثنا ابن عيينة، عن عُبَيد الله بن أبي يزيد، سمع ابن عباس يقول:الأعراف هو الشيء المشرف.

وقال الثوري، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:الأعراف:سور كعُرْف الديك.

وفي رواية عن ابن عباس:الأعراف، تل بين الجنة والنار، حبس عليه ناس من أهل الذنوب بين الجنة والنار. وفي رواية عنه:هو سور بين الجنة والنار. وكذلك قال الضحاك وغير واحد من علماء التفسير.

وقال السدي:إنما سمي « الأعراف » أعرافًا؛ لأن أصحابه يعرفون الناس.

واختلفت عبارات المفسرين في أصحاب الأعراف من هم، وكلها قريبة ترجع إلى معنى واحد، وهو أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم. نص عليه حذيفة، وابن عباس، وابن مسعود، وغير واحد من السلف والخلف، رحمهم الله. وقد جاء في حديث مرفوع رواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه:

حدثنا عبد الله بن إسماعيل، حدثنا عبيد بن الحسين، حدثنا سليمان بن داود، حدثنا النعمان بن عبد السلام، حدثنا شيخ لنا يقال له:أبو عباد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله قال:سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن استوت حسناته وسيئاته، فقال: « أولئك أصحاب الأعراف، لم يدخلوها وهم يطمعون » .

وهذا حديث غريب من هذا الوجه ورواه من وجه آخر، عن سعيد بن سلمة عن أبي الحسام، عن محمد بن المنكدر عن رجل من مزينة قال:سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف، فقال: « إنهم قوم خرجوا عصاة بغير إذن آبائهم، فقتلوا في سبيل الله »

وقال سعيد بن منصور:حدثنا أبو مَعْشَر، حدثنا يحيى بن شِبْل، عن يحيى بن عبد الرحمن المزني عن أبيه قال:سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن « أصحاب الأعراف » فقال: « هم ناس قتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم، فمنعهم من دخول الجنة معصية آبائهم ومنعهم النار قتلهم في سبيل الله » .

هكذا رواه ابن مَرْدُوَيه، وابن جرير، وابن أبي حاتم من طرق، عن أبي معشر به وكذلك رواه ابنُ ماجه مرفوعًا، من حديث ابن عباس وأبي سعيد الخدري [ رضي الله عنهما ] والله أعلم بصحة هذه الأخبار المرفوعة وقصاراها أن تكون موقوفة وفيه دلالة على ما ذكر.

وقال ابن جرير:حدثني يعقوب، حدثنا هُشَيْم، أخبرنا حصين، عن الشعبي، عن حذيفة؛ أنه سئل عن أصحاب الأعراف، قال:فقال:هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة، وخلَّفت بهم حسناتهم عن النار. قال:فوقفوا هناك على السور حتى يقضي الله فيهم.

وقد رواه من وجه آخر أبسط من هذا فقال:

حدثنا ابن حُمَيد، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا يونس بن أبي إسحاق قال:قال الشعبي:أرسل إليّ عبد الحميد بن عبد الرحمن - وعنده أبو الزناد عبد الله بن ذَكْوان مولى قريش - وإذا هما قد ذكرا من أصحاب الأعراف ذكرًا ليس كما ذكرا، فقلت لهما:إن شئتما أنبأتكما بما ذكر حذيفة، فقالا هات. فقلت:إن حذيفة ذكر أصحاب الأعراف فقال:هم قوم تجاوزت بهم حسناتهم النار، وقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة، فإذا صُرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا: ( رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) فبينا هم كذلك، اطلع عليهم ربك فقال لهم:اذهبوا فادخلوا الجنة فإني قد غفرت لكم.

وقال عبد الله بن المبارك، عن أبي بكر الهذلي قال:قال سعيد بن جبير، وهو يحدث ذلك عن ابن مسعود قال يحاسب الناس يوم القيامة، فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة، ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار. ثم قرأ قول الله: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ [ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ] [ المؤمنون:102 ، 103 ] ثم قال:إن الميزان يخف بمثقال حبة ويرجح، قال:ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف، فوقفوا على الصراط، ثم عرفوا أهل الجنة وأهل النار، فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا:سلام عليكم، وإذا صرفوا أبصارهم إلى يسارهم نظروا أصحاب النار قالوا: ( رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) فتعوذوا بالله من منازلهم. قال:فأما أصحاب الحسنات، فإنهم يعطون نورًا فيمشون به بين أيديهم وبأيمانهم، ويعطى كل عبد يومئذ نورًا، وكل أمة نورًا، فإذا أتوا على الصراط سلب الله نور كل منافق ومنافقة. فلما رأى أهل الجنة ما لقي المنافقون قالوا: رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا [ التحريم:8 ] . وأما أصحاب الأعراف، فإن النور كان في أيديهم فلم ينـزع، فهنالك يقول الله تعالى: ( لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ) فكان الطمع دخولا. قال:وقال ابن مسعود:على أن العبد إذا عمل حسنة كتب له بها عشر، وإذا عمل سيئة لم تكتب إلا واحدة. ثم يقول:هلك من غلبت واحدته أعشاره.

رواه ابن جرير وقال أيضا:

حدثني ابن وَكِيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس قال: « الأعراف » :السور الذي بين الجنة والنار، وأصحاب الأعراف بذلك المكان، حتى إذا بدأ الله أن يعافيهم، انْطُلِق بهم إلى نهر يقال له: « الحياة » ، حافتاه قصب الذهب، مكلل باللؤلؤ، ترابه المسك، فألقوا فيه حتى تصلح ألوانهم، وتبدو في نحورهم بيضاء يعرفون بها، حتى إذا صلحت ألوانهم أتى بهم الرحمن تبارك وتعالى فقال:تمنوا ما شئتم فيتمنون، حتى إذا انقطعت أمنيتهم قال لهم:لكم الذي تمنيتم ومثله سبعون ضعفا. فيدخلون الجنة وفي نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها، يسمون مساكين أهل الجنة.

وكذا رواه ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن يحيى بن المغيرة، عن جرير، به. وقد رواه سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن مجاهد، عن عبد الله بن الحارث، من قوله وهذا أصح، والله أعلم. وهكذا روي عن مجاهد والضحاك وغير واحد.

وقال سُنَيْد بن داود:حدثني جرير، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زُرْعَة عن عمرو بن جرير قال:سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف قال « هم آخر من يفصل بينهم من العباد، فإذا فرغ رب العالمين من فصله بين العباد قال:أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار، ولم تدخلوا الجنة، فأنتم عتقائي، فارعوا من الجنة حيث شئتم » . وهذا مرسل حسن

وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة « الوليد بن موسى » ، عن منبه بن عثمان عن عُرْوَة بن رُوَيْم، عن الحسن، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أن مؤمني الجن لهم ثواب وعليهم عقاب، فسألناه عن ثوابهم فقال: « على الأعراف، وليسوا في الجنة مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم » . فسألناه:وما الأعراف؟ فقال: « حائط الجنة تجري فيها الأنهار، وتنبت فيه الأشجار والثمار » .

رواه البيهقي، عن ابن بشران، عن علي بن محمد المصري، عن يوسف بن يزيد، عن الوليد بن موسى، به

وقال سفيان الثوري، عن خُصَيف، عن مجاهد قال:أصحاب الأعراف قوم صالحون فقهاء علماء.

وقال ابن جرير:حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن سليمان التيمي، عن أبي مِجْلز في قوله تعالى: ( وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ ) قال:هم رجال من الملائكة، يعرفون أهل الجنة وأهل النار، قال: وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالا في النار يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ قال:فهذا حين دخل أهل الجنة الجنة: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ .

وهذا صحيح إلى أبي مجلز لاحق بن حميد أحد التابعين، وهو غريب من قوله وخلاف الظاهر من السياق:وقول الجمهور مقدم على قوله، بدلالة الآية على ما ذهبوا إليه. وكذا قول مجاهد:إنهم قوم صالحون علماء فقهاء فيه غرابة أيضا. والله أعلم.

وقد حكى القرطبي وغيره فيهم اثني عشر قولا منها:أنهم شهدوا أنهم صلحاء تفرعوا من فرع الآخرة، دخلوا يطلعون على أخبار الناس. وقيل:هم أنبياء. وقيل:ملائكة.

وقوله تعالى: ( يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال:يعرفون أهل الجنة ببياض الوجوه، وأهل النار بسواد الوجوه. وكذا روى الضحاك، عنه.

وقال العَوْفي، عن ابن عباس أنـزلهم الله بتلك المنـزلة، ليعرفوا من في الجنة والنار، وليعرفوا أهل النار بسواد الوجوه، ويتعوذوا بالله أن يجعلهم مع القوم الظالمين. وهم في ذلك يحيون أهل الجنة بالسلام، لم يدخلوها، وهم يطمعون أن يدخلوها، وهم داخلوها إن شاء الله.

وكذا قال مجاهد، والضحاك، والسدي، والحسن، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.

وقال مَعْمَر، عن الحسن:إنه تلا هذه الآية: ( لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ) قال:والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم، إلا لكرامة يريدها بهم.

وقال قتادة [ قد ] أنبأكم الله بمكانهم من الطمع.

وقوله: ( وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) قال الضحاك، عن ابن عباس:إن أصحاب الأعراف إذا نظروا إلى أهل النار وعرفوهم قالوا: ( رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )

وقال السُّدِّي:وإذا مروا بهم - يعني بأصحاب الأعراف - بزمرة يُذهب بها إلى النار قالوا: ( رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )

وقال عكرمة:تحدد وجوههم في النار، فإذا رأوا أصحاب الجنة ذهب ذلك عنهم.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: ( وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ ) فرأوا وجوههم مسودة، وأعينهم مزرقة، ( قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )

وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ( 48 ) أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ( 49 )

يقول الله تعالى مخبرًا عن تقريع أهل الأعراف لرجال من صناديد المشركين وقادتهم، يعرفونهم في النار بسيماهم: ( مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ ) أي:كثرتكم، ( وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ) أي:لا ينفعكم كثرتكم ولا جموعكم من عذاب الله، بل صرتم إلى ما صرتم فيه من العذاب والنكال. ( أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:يعني:أصحاب الأعراف ( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ )

وقال ابن جرير:حدثني محمد بن سعد، حدثني أبي، حدثني عمي، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ( قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ [ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ] ) الآية، قال:فلما قالوا لهم الذي قضى الله أن يقولوا - يعني أصحاب الأعراف لأهل الجنة وأهل النار- قال الله [ تعالى ] لأهل التكبر والأموال: ( أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ )

وقال حذيفة:إن أصحاب الأعراف قوم تكافأت أعمالهم، فقصرت بهم حسناتهم عن الجنة،

وقصرت بهم سيئاتهم عن النار، فجُعلوا على الأعراف، يعرفون الناس بسيماهم، فلما قضى الله بين العباد أذن لهم في طلب الشفاعة، فأتوا آدم فقالوا:يا آدم، أنت أبونا، فاشفع لنا عند ربك. فقال:هل تعلمون أن أحدًا خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وسبقت رحمته إليه غضبَه، وسجدت له الملائكة غيري؟ فيقولون:لا. [ قال ] فيقول:ما علمت كنهه، ما أستطيع أن أشفع لكم، ولكن ائتوا ابني إبراهيم. فيأتون إبراهيم صلى الله عليه وسلم فيسألونه أن يشفع لهم عند ربهم، فيقول: [ هل ] تعلمون من أحد اتخذه الله خليلا؟ هل تعلمون أن أحدًا أحرقه قومه بالنار في الله غيري؟ فيقولون:لا. فيقول:ما علمت كنهه، ما أستطيع أن أشفع لكم. ولكن ائتوا ابني موسى. فيأتون موسى، عليه السلام، [ فيقولون:اشفع لنا عند ربك ] فيقول:هل تعلمون من أحد كلمه الله تكليمًا وقربه نجيًا غيري؟ فيقولون:لا فيقول:ما علمت كنهه، ما أستطيع أن أشفع لكم، ولكن ائتوا عيسى. فيأتونه، عليه السلام، فيقولون له:اشفع لنا عند ربك. فيقول:هل تعلمون أحدًا خلقه الله من غير أب غيري؟ فيقولون:لا. فيقول:هل تعلمون من أحد كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله غيري؟ قال:فيقولون:لا. فيقول:أنا حجيج نفسي. ما علمت كنهه، ما أستطيع أن أشفع لكم. ولكن ائتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم فيأتونني فأضرب بيدي على صدري، ثم أقول:أنا لها. ثم أمشي حتى أقف بين يدي العرش، فآتي ربي، عز وجل، فيفتح لي من الثناء ما لم يسمع السامعون بمثله قط، ثم أسجد فيقال لي:يا محمد، ارفع رأسك، وسل تُعط واشفع تشفع. فأرفع رأسي، فأقول:ربي أمتي. فيقول:هم لك. فلا يبقى نبي مرسل، ولا ملك مقرب، إلا غبطني بذلك المقام، وهو المقام المحمود. فآتي بهم الجنة، فأستفتح فيفتح لي ولهم، فيذهب بهم إلى نهر يقال له:نهر الحيوان، حافتاه قصب مكلل باللؤلؤ، ترابه المسك، وحصباؤه الياقوت. فيغتسلون منه، فتعود إليهم ألوان أهل الجنة، وريح [ أهل الجنة ] فيصيرون كأنهم الكواكب الدرية، ويبقى في صدورهم شامات بيض يعرفون بها، يقال لهم:مساكين أهل الجنة « »

وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ( 50 ) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ( 51 )

يخبر تعالى عن ذلة أهل النار وسؤالهم أهل الجنة من شرابهم وطعامهم، وأنهم لا يجابون إلى ذلك.

قال السُّدِّي: ( وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ) يعني:الطعام وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:يستطعمونهم ويستسقونهم.

وقال الثوري، عن عثمان الثقفي، عن سعيد بن جبير في هذه الآية قال:ينادي الرجل أباه أو أخاه فيقول:قد احترقت، أفض علي من الماء. فيقال لهم:أجيبوهم. فيقولون: ( إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ )

وروي من وجه آخر عن سعيد، عن ابن عباس، مثله [ سواء ]

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ( إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ) يعني:طعام الجنة وشرابها.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا نصر بن علي، أخبرنا موسى بن المغيرة، حدثنا أبو موسى الصفَّار في دار عمرو بن مسلم قال:سألت ابن عباس - أو:سئل - :أي الصدقة أفضل؟ فقال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أفضل الصدقة الماء، ألم تسمع إلى أهل النار لما استغاثوا بأهل الجنة قالوا: ( أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ) »

وقال أيضا:حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن أبي صالح قال:لما مرض أبو طالب قالوا له:لو أرسلتَ إلى ابن أخيك هذا، فيرسل إليك بعنقود من الجنة لعله أن يشفيك به. فجاءه الرسول وأبو بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر:إن الله حرمهما على الكافرين

ثم وصف تعالى الكافرين بما كانوا يعتمدونه في الدنيا من اتخاذهم الدين لهوا ولعبا، واغترارهم بالدنيا وزينتها وزخرفها عما أمروا به من العمل للدار الآخرة.

قوله ( فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا ) أي:نعاملهم معاملة من نَسيهم؛ لأنه تعالى لا يشذ عن علمه شيء ولا ينساه، كما قال تعالى: فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى [ طه:52 ]

وإنما قال تعالى هذا من باب المقابلة، كما قال: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [ التوبة:67 ] وقال: كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [ طه:126 ] وقال تعالى: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [ الجاثية:34 ]

وقال العَوْفي، عن ابن عباس في [ قوله ] ( فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا ) قال:نسيهم الله من الخير، ولم ينسهم من الشر.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال:نتركهم، كما تركوا لقاء يومهم هذا. وقال مجاهد:نتركهم في النار. وقال السُّدِّي:نتركهم من الرحمة، كما تركوا أن يعملوا للقاء يومهم هذا.

وفي الصحيح أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: « ألم أزوجك؟ ألم أكرمك؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل، وأذَرْك ترأس وتَرْبَع؟ فيقول:بلى. فيقول:أظننت أنك ملاقي؟ فيقول:لا. فيقول الله:فاليوم أنساك كما نسيتني »

 

وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 52 ) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 53 )

يقول تعالى مخبرًا عن إعذاره إلى المشركين بإرسال الرسول إليهم بالكتاب الذي جاء به الرسول، وأنه كتاب مفصل مبين، كما قال تعالى: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ [ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ] الآية [ هود:1 ] .

وقوله: ( فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ ) أي:على علم منا بما فصلناه به، كما قال تعالى: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [ النساء:166 ]

قال ابن جرير:وهذه الآية مردودة على قوله: كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ [ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ] [ الأعراف:2 ] ( وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ [ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ ] ) الآية.

وهذا الذي قاله فيه نظر، فإنه قد طال الفصل، ولا دليل على ذلك، وإنما لما أخبر عما صاروا إليه من الخسار في الدار الآخرة، ذكر أنه قد أزاح عللهم في الدار الدنيا، بإرسال الرسل، وإنـزال الكتب، كقوله: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا [ الإسراء:15 ] ؛ ولهذا قال: ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ ) أي:ما وُعِدَ من العذاب والنكال والجنة والنار. قاله مجاهد وغير واحد.

وقال مالك:ثوابه. وقال الربيع:لا يزال يجيء تأويله أمر، حتى يتم يوم الحساب، حتى يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، فيتم تأويله يومئذ.

( يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ) أي:يوم القيامة، قاله ابن عباس - ( يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ ) أي:تركوا العمل به، وتناسوه في الدار الدنيا: ( قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا ) أي:في خلاصنا مما نحن فيه، ( أَوْ نُرَدُّ ) إلى الدار الدنيا ( فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ) كما قال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [ الأنعام:27 ، 28 ] كما قال هاهنا: ( قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) أي: [ قد ] خسروا أنفسهم بدخولهم النار وخلودهم فيها، ( وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) أي:ذهب عنهم ما كانوا يعبدونهم من دون الله فلا ينصرونهم، ولا يشفعون لهم ولا ينقذونهم مما هم فيه.

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( 54 )

يخبر تعالى بأنه خلق هذا العالم:سماواته وأرضه، وما بين ذلك في ستة أيام، كما أخبر بذلك في غير ما آية من القرآن، والستة أيام هي:الأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة - وفيه اجتمع الخلق كله، وفيه خلق آدم، عليه السلام. واختلفوا في هذه الأيام:هل كل يوم منها كهذه الأيام كما هو المتبادر إلى الأذهان ؟ أو كل يوم كألف سنة، كما نص على ذلك مجاهد، والإمام أحمد بن حنبل، ويروى ذلك من رواية الضحاك عن ابن عباس؟ فأما يوم السبت فلم يقع فيه خلق؛ لأنه اليوم السابع، ومنه سمي السبت، وهو القطع.

فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال:حدثنا حجاج، حدثنا ابن جُرَيْج، أخبرني إسماعيل بن أُمَيَّة، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع - مولى أم سلمة - عن أبي هريرة قال:أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: « خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل » .

فقد رواه مسلم بن الحجاج في صحيحه والنسائي من غير وجه، عن حجاج - وهو ابن محمد الأعور - عن ابن جريج به وفيه استيعاب الأيام السبعة، والله تعالى قد قال في ستة أيام؛ ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا الحديث، وجعلوه من رواية أبي هريرة، عن كعب الأحبار، ليس مرفوعا، والله أعلم.

وأما قوله تعالى: ( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ) فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جدا، ليس هذا موضع بسطها، وإنما يُسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح:مالك، والأوزاعي، والثوري، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه وغيرهم، من أئمة المسلمين قديما وحديثا، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل. والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه، و لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [ الشورى:11 ] بل الأمر كما قال الأئمة - منهم نُعَيْم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري - : « من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر » . وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة، على الوجه الذي يليق بجلال الله تعالى، ونفى عن الله تعالى النقائص، فقد سلك سبيل الهدى.

وقوله تعالى: ( يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا ) أي:يذهب ظلام هذا بضياء هذا، وضياء هذا بظلام هذا، وكل منهما يطلب الآخر طلبًا حثيثًا، أي:سريعًا لا يتأخر عنه، بل إذا ذهب هذا جاء هذا، وإذا جاء هذا ذهب هذا، كما قال تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [ يس:37- 40 ] فقوله: وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ أي:لا يفوته بوقت يتأخر عنه، بل هو في أثره لا واسطة بينهما؛ ولهذا قال: ( يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ) - منهم من نصب، ومنهم من رفع، وكلاهما قريب المعنى، أي:الجميع تحت قهره وتسخيره ومشيئته؛ ولهذا قال منَبِّها: ( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ ) ؟ أي:له الملك والتصرف، ( تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) كما قال [ تعالى ] تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا [ وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا ] [ الفرقان:61 ] .

وقال ابن جرير:حدثني المثنى، حدثنا إسحاق، حدثنا هشام أبو عبد الرحمن، حدثنا بَقِيِّة بن الوليد، حدثنا عبد الغفار بن عبد العزيز الأنصاري، عن عبد العزيز الشامي، عن أبيه - وكانت له صحبة - قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من لم يحمد الله على ما عمل من عمل صالح، وحمد نفسه، فقد كفر وحبط عمله. ومن زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئا، فقد كفر بما أنـزل الله على أنبيائه؛ لقوله: ( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) »

وفي الدعاء المأثور، عن أبي الدرداء - وروي مرفوعا - : « اللهم لك الملك كله، ولك الحمد كله، وإليك يرجع الأمر كله، أسألك من الخير كله، وأعوذ بك من الشر كله »

ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ( 55 ) وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ( 56 )

أرشد [ سبحانه و ] تعالى عباده إلى دعائه، الذي هو صلاحهم في دنياهم وأخراهم، فقال تعالى:

( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ) [ قيل ] معناه:تذللا واستكانة، و ( خُفْيَة ) كما قال: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ [ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ] [ الأعراف:205 ] وفي الصحيحين، عن أبي موسى الأشعري [ رضي الله عنه ] قال:رفع الناس أصواتهم بالدعاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أيها الناس، ارْبَعُوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، إن الذي تدعونه سميع قريب » الحديث.

وقال ابن جُرَيْج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس في قوله: ( تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ) قال:السر.

وقال ابن جرير: ( تَضَرُّعًا ) تذللا واستكانة لطاعته. ( وَخُفْيَة ) يقول:بخشوع قلوبكم، وصحة اليقين بوحدانيته وربوبيته فيما بينكم وبينه، لا جهارا ومراءاة.

وقال عبد الله بن المبارك، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن قال:إنْ كانَ الرجل لقد جمع القرآن، وما يشعر به الناس. وإن كان الرجل لقد فقُه الفقه الكثير، وما يشعر به الناس. وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزُّوَّر وما يشعرون به. ولقد أدركنا أقوامًا ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر، فيكون علانية أبدا. ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يُسمع لهم صوت، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله تعالى يقول: ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ] ) وذلك أن الله ذكر عبدًا صالحا رَضِي فعله فقال: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا [ مريم:3 ]

وقال ابن جُرَيْج:يكره رفع الصوت والنداء والصياحُ في الدعاء، ويؤمر بالتضرع والاستكانة، ثم روي عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس في قوله: ( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) في الدعاء ولا في غيره.

وقال أبو مِجْلِز: ( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) لا يسأل منازل الأنبياء.

وقال الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله:حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي، حدثنا شعبة، عن زياد بن مِخْراق، سمعت أبا نعامة عن مولى لسعد؛ أن سعدًا سمع ابنا له يدعو وهو يقول:اللهم، إني أسألك الجنة ونعيمها وإستبرقها ونحوا من هذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها. فقال:لقد سألت الله خيرًا كثيرًا، وتعوذت بالله من شر كثير، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء » . وقرأ هذه الآية: ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ] ) وإن بحسبك أن تقول: « اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل »

ورواه أبو داود، من حديث شعبة، عن زياد بن مخراق، عن أبي نَعَامة، عن ابن لسعد، عن سعد، فذكره والله أعلم.

وقال الإمام أحمد:حدثنا عفَّان، حدثنا حَمَّاد بن سلمة، أخبرنا الجريري، عن أبي نَعَامة:أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول:اللهم، إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها. فقال:يا بني، سل الله الجنة، وعذ به من النار؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « يكون قوم يعتدون في الدعاء والطَّهُور » .

وهكذا رواه ابن ماجه، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عفان به. وأخرجه أبو داود، عن موسى بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، عن سعيد بن إياس الجريري، عن أبي نَعَامة - واسمه:قيس بن عباية الحنفي البصري - وهو إسناد حسن لا بأس به، والله أعلم.

وقوله تعالى: ( وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ) ينهى تعالى عن الإفساد في الأرض، وما أضره بعد الإصلاح! فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد، ثم وقع الإفساد بعد ذلك، كان أضر ما يكون على العباد. فنهى [ الله ] تعالى عن ذلك، وأمر بعبادته ودعائه والتضرع إليه والتذلل لديه، فقال: ( وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ) أي:خوفا مما عنده من وبيل العقاب، وطمعًا فيما عنده من جزيل الثواب.

ثم قال: ( إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) أي:إن رحمته مُرْصَدة للمحسنين، الذين يتبعون أوامره ويتركون زواجره، كما قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ ] [ الأعراف:156 ، 157 ] .

وقال: ( قَرِيبٌ ) ولم يقل: « قريبة » ؛ لأنه ضمن الرحمة معنى الثواب، أو لأنها مضافة إلى الله، فلهذا قال:قريب من المحسنين.

وقال مطر الوراق:تَنَجَّزوا موعود الله بطاعته، فإنه قضى أن رحمته قريب من المحسنين، رواه ابن أبي حاتم.

وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( 57 )

لما ذكر تعالى أنه خالق السماوات والأرض، وأنه المتصرف الحاكم المدبِّر المسخِّر، وأرشد إلى دعائه؛ لأنه على ما يشاء قادر - نبه تعالى على أنه الرزّاق، وأنه يعيد الموتى يوم القيامة فقال: « وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ نشْرًا » أي:ناشرة بين يدي السحاب الحامل للمطر، ومنهم من قرأ ( بُشْرًا ) كقوله وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ [ الروم:46 ]

وقوله: ( بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ) أي:بين يدي المطر، كما قال: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ [ الشورى:28 ] وقال فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ الروم:50 ]

وقوله: ( حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا ) أي:حملت الرياح سحابًا ثقالا أي:من كثرة ما فيها من الماء، تكون ثقيلة قريبة من الأرض مدلهمة، كما قال زيد بن عمرو بن نفيل، رحمه الله.

وأســلمتُ وجْــهِي لمـنْ أسْـلَمَتْ لَــهُ المُــزْنُ تَحْــمل عَذْبـا زُلالا

وأســلَمْتُ وَجْـهي لمـن أسـلَـمَتْ لــه الأرض تحـملُ صَخـرًا ثقـالا

وقوله: ( سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ ) أي:إلى أرض ميتة، مجدبة لا نبات فيها، كما قال تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا [ وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ] [ يس:33 ] ؛ ولهذا قال: ( فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى ) أي:كما أحيينا هذه الأرض بعد موتها، كذلك نحيي الأجساد بعد صيرورتها رَمِيمًا يوم القيامة، ينـزل الله، سبحانه وتعالى، ماء من السماء، فتمطر الأرض أربعين يوما، فتنبت منه الأجساد في قبورها كما ينبت الحب في الأرض. وهذا المعنى كثير في القرآن، يضرب الله مثلا للقيامة بإحياء الأرض بعد موتها؛ ولهذا قال: ( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )

 

وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ( 58 )

وقوله: ( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ) أي:والأرض الطيبة يخرج نباتها سريعًا حسنا، كما قال: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا [ آل عمران:37 ]

( وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا ) قال مجاهد وغيره:كالسباخ ونحوها.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في الآية:هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر.

وقال البخاري:حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا حماد بن أسامة عن بُرَيد بن عبد الله، عن أبي بردة، عن أبي موسى، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا، فكانت منها نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير. وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا. وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت فذلك مثل من فَقُه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فَعَلم وَعَلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا. ولم يَقْبَل هُدَى الله الذي أُرْسِلْتُ به » .

رواه مسلم والنسائي من طرق، عن أبي أسامة حماد بن أسامة، به

لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( 59 ) قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 60 ) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 61 ) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 62 )

لما ذكر تعالى قصة آدم في أول السورة، وما يتعلق بذلك وما يتصل به، وفرغ منه، شرع تعالى في ذكر قصص الأنبياء، عليهم السلام، الأول فالأولَ، فابتدأ بذكر نوح، عليه السلام، فإنه أول رسول إلى أهل الأرض بعد آدم، عليه السلام، وهو:نوح بن لامك بن متوشلح بن خَنُوخ - وهو إدريس [ النبي ] عليه السلام - فيما، يزعمون، وهو أول من خط بالقلم - ابن برد بن مهليل بن قنين بن يانش بن شيث بن آدم، عليه السلام.

هكذا نسبه [ محمد ] بن إسحاق وغير واحد من أئمة النسب، قال محمد بن إسحاق:ولم يلق نبي من قومه من الأذى مثل نوح إلا نبي قتل.

وقال يزيد الرقاشي:إنما سمّي نوحًا لكثرة ما ناح على نفسه.

وقد كان بين آدم إلى زمن نوح، عليهما السلام، عشرة قرون، كلهم على الإسلام [ قاله عبد الله ابن عباس ]

قال عبد الله بن عباس وغير واحد من علماء التفسير:وكان أول ما عبدت الأصنام، أن قومًا صالحين ماتوا، فبنى قومهم عليهم مساجدَ وصوروا صور أولئك فيها، ليتذكروا حالهم وعبادتهم، فيتشبهوا بهم. فلما طال الزمان، جعلوا تلك الصور أجسادًا على تلك الصور. فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام وسموها بأسماء أولئك الصالحين « ودًا وسواعًا ويَغُوث وَيَعُوق ونسرًا » . فلما تفاقم الأمر بعث الله، سبحانه وتعالى - وله الحمد والمنة - رسوله نوحا يأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له، فقال: ( يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) أي:من عذاب يوم القيامة إنْ لقيتم الله وأنتم مشركون به ( قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِهِ ) أي:الجمهور والسادة والقادة والكبراء منهم: ( إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) أي:في دعوتك إيانا إلى ترك عبادة هذه الأصنام التي وجدنا عليها آباءنا . وهكذا حال الفجار إنما يرون الأبرار في ضلالة، كما قال تعالى: وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ [ المطففين:32 ] ، وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ [ الأحقاف:11 ] إلى غير ذلك من الآيات.

( قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) أي:ما أنا ضال، ولكن أنا رسول من رب كل شيء ومليكه، ( أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) وهذا شأن الرسول، أن يكون بليغا فصيحا ناصحا بالله، لا يدركهم أحد من خلق الله في هذه الصفات، كما جاء في صحيح مسلم:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم عرفة، وهم أوفر ما كانوا وأكثر جمعا: « أيها الناس، إنكم مسئولون عني، فما أنتم قائلون؟ » قالوا:نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت، فجعل يرفع إصبعه إلى السماء وينكتُها عليهم ويقول: « اللهم اشهد، اللهم اشهد »

أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( 63 ) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ ( 64 )

يقول تعالى إخبارًا عن نوح [ عليه السلام ] أنه قال لقومه: ( أَوَعَجِبْتُمْ [ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ] ) أي لا تعجبوا من هذا، فإن هذا ليس يعجَب أن يوحي الله إلى رجل منكم، رحمة بكم ولطفا وإحسانا إليكم، لإنذركم ولتتقوا نقمة الله ولا تشركوا به، ( وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )

قال الله تعالى: ( فَكَذَّبُوهُ ) أي:فتمادوا على تكذيبه ومخالفته، وما آمن معه منهم إلا قليل، كما نص عليه في موضع آخر، ( فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ ) وهي السفينة، كما قال: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ [ العنكبوت:15 ] ( وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ) كما قال: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا [ نوح:25 ]

وقوله: ( إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ ) أي:عن الحق، لا يبصرونه ولا يهتدون له.

فبين تعالى في هذه القصة أنه انتقم لأوليائه من أعدائه، وأنجى رسوله والمؤمنين، وأهلك أعداءهم من الكافرين، كما قال تعالى:إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا [ وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ ] وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [ غافر:51 ، 52 ]

وهذه سنة الله في عباده في الدنيا والآخرة، أن العاقبة للمتقين والظفر والغلب لهم، كما أهلك قوم نوح [ عليه االسلام ] بالغرق ونجى نوحا وأصحابه المؤمنين.

قال مالك، عن زيد بن أسلم:كان قوم نوح قد ضاق بهم السهل والجبل.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:ما عذب الله قوم نوح [ عليه السلام ] إلا والأرض ملأى بهم، وليس بقعة من الأرض إلا ولها مالك وحائز.

وقال ابن وَهْب:بلغني عن ابن عباس:أنه نجا مع نوح [ عليه السلام ] في السفينة ثمانون رجلا أحدهم « جُرْهم » ، وكان لسانه عربيا.

رواهن ابن أبي حاتم. وقد روي هذا الأثر الأخير من وجه آخر متصلا عن ابن عباس، رضي الله عنهما.

وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ ( 65 ) قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ( 66 ) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 67 )

يقول تعالى:وكما أرسلنا إلى قوم نوح نوحًا، كذلك أرسلنا إلى عاد أخاهم هودًا.

قال محمد بن إسحاق:هم [ من ] ولد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح.

قلت:وهؤلاء هم عاد الأولى، الذين ذكرهم الله [ تعالى ] وهم أولاد عاد بن إرم الذين كانوا يأوون إلى العَمَد في البر، كما قال تعالى:أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ [ الفجر:6- 8 ] وذلك لشدة بأسهم وقوتهم، كما قال تعالى: فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [ فصلت:15 ] .

وقد كانت مساكنهم باليمن بالأحقاف، وهي جبال الرمل.

قال محمد بن إسحاق، عن محمد بن عبد الله بن أبي سعيد الخزاعي، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، سمعت علي بن أبي طالب [ رضي الله عنه ] يقول لرجل من حضرموت:هل رأيت كثيبا أحمر تخالطه مَدَرَة حمراء ذا أرَاكٍ وسدْر كثير بناحية كذا وكذا من أرض حضرموت، هل رأيته؟ قال:نعم يا أمير المؤمنين. والله إنك لتنعته نعتَ رجل قد رآه. قال:لا ولكني قد حدِّثتُ عنه. فقال الحضرمي:وما شأنه يا أمير المؤمنين؟ قال:فيه قبرُ هود، عليه السلام.

رواه ابن جرير وهذا فيه فائدة أن مساكنهم كانت باليمن، وأن هودا، عليه السلام، دفن هناك، وقد كان من أشرف قومه نسبا؛ لأن الرسل [ صلوات الله عليهم ] إنما يبعثهم الله من أفضل القبائل وأشرفهم، ولكن كان قومه كما شُدّد خلقهم شُدِّد على قلوبهم، وكانوا من أشد الأمم تكذيبا للحق؛ ولهذا دعاهم هود، عليه السلام، إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وإلى طاعته وتقواه.

( قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ) - والملأ هم:الجمهور والسادة والقادة منهم - : ( إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) أي:في ضلالة حيث دعوتنا إلى ترك عبادة الأصنام، والإقبال إلى عبادة الله وحده [ لا شريك له ] كما تعجب الملأ من قريش من الدعوة إلى إله واحد ( فقالوا ) أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا [ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ] [ ص:5 ] .

( قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) أي:لست كما تزعمون، بل جئتكم بالحق من الله الذي خلق كل شيء، فهو رب كل شيء ومليكه

 

أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ( 68 ) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( 69 )

( أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ) وهذه الصفات التي يتصف بها الرسل البلاغة والنصح والأمانة.

( أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ ) أي:لا تعجبوا أن بعث الله إليكم رسولا من أنفسكم لينذركم أيام الله ولقاءه، بل احمدوا الله على ذاكم، ( وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ) أي:واذكروا نعمة الله عليكم إذ جعلكم من ذرية نوح، الذي أهلك الله أهل الأرض بدعوته، لما خالفوه وكذبوه، ( وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً ) أي:زاد طولكم على الناس بسطة، أي:جعلكم أطول من أبناء جنسكم، كما قال تعالى:في قصة طالوت: وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [ البقرة:247 ] ( فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ ) أي:نعمه ومنَنه عليكم ( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) [ وآلاء جمع ألى وقيل:إلى ]

قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 70 ) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ( 71 ) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ ( 72 )

يقول تعالى مخبرا عن تمردهم وطغيانهم وعنادهم وإنكارهم على هود، عليه السلام: ( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ [ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ] ) كما قال الكفار من قريش: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [ الأنفال:32 ]

وقد ذكر محمد بن إسحاق وغيره:أنهم كانوا يعبدون أصناما، فصنم يقال له:صُدَاء، وآخر يقال له:صمُود، وآخر يقال له:الهباء

ولهذا قال هود، عليه السلام: ( قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ ) أي:قد وجب عليكم بمقالتكم هذه من ربكم رجس [ وغضب ] قيل:هو مقلوب من رجز. وعن ابن عباس:معناه السخَط والغضب.

( أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ ) أي:أتحاجوني في هذه الأصنام التي سميتموها أنتم وآباؤكم آلهة، وهي لا تضر ولا تنفع، ولا جعل الله لكم على عبادتها حجة ولا دليلا؛ ولهذا قال: ( مَا نـزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ )

وهذا تهديد ووعيد من الرسول لقومه؛ ولهذا عقب بقوله: ( فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ )

وقد ذكر الله، سبحانه، صفة إهلاكهم في أماكن أخر من القرآن، بأنه أرسل عليهم الريح العقيم، ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، كما قال في الآية الأخرى:وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ [ الحاقة:6- 8 ] لما تمردوا وعتوا أهلكهم الله بريح عاتية، فكانت تحمل الرجل منهم فترفعه في الهواء ثم تنكسه على أمّ رأسه فتثلغُ رأسه حتى تُبينه من بين جثته؛ ولهذا قال: كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ

وقال محمد بن إسحاق:كانوا يسكنون باليمن من عمان وحضرموت، وكانوا مع ذلك قد فشوا في الأرض وقهروا أهلها، بفضل قوتهم التي آتاهم الله، وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها من دون الله، فبعث الله إليهم هودًا، عليه السلام، وهو من أوسطهم نسبا، وأفضلهم موضعًا، فأمرهم أن يوحدوا الله ولا يجعلوا معه إلها غيره، وأن يكفوا عن ظلم الناس، فأبوا عليه وكذبوه، وقالوا:من أشد منا قوة؟ واتبعه منهم ناس، وهم يسير مكتتمون بإيمانهم، فلما عتت عاد على الله وكذبوا نبيه، وأكثروا في الأرض الفساد وتجبروا، وبنوا بكل ريع آية عبثا بغير نفع، كلمهم هود فقال:أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [ الشعراء:128- 131 ] قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ أي:بجنون قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [ هود:53- 56 ]

مد بن إسحاق:فلما أبوا إلا الكفر به، أمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين، فيما يزعمون، حتى جهدهم ذلك، قال:وكان الناس إذا جهدهم أمر في ذلك الزمان، فطلبوا من الله الفرج فيه، إنما يطلبونه بحُرْمة ومكان بيته، وكان معروفا عند المِلَل وبه العماليق مقيمون، وهم من سلالة عمليق بن لاوَذَ بن سام بن نوح، وكان سيدهم إذ ذاك رجلا يقال له: « معاوية بن بكر » ، وكانت له أم من قوم عاد، واسمها كلهدة ابنة الخيبري، قال:فبعثت عاد وفدًا قريبا من سبعين رجلا إلى الحرم، ليستسقوا لهم عند الحرم، فمروا بمعاوية بن بكر بظاهر مكة فنـزلوا عليه، فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان - قينتان لمعاوية - وكانوا قد وصلوا إليه في شهر، فلما طال مقامهم عنده وأخذته شفقة على قومه، واستحيا منهم أن يأمرهم بالانصراف، عمل شعرا يعرض لهم بالانصراف، وأمر القينتين أن تغنياهم به، فقال:

ألا يـا قيـل ويحــك قُـْـم فَهَيْـنم لـعــلّ اللــه يُصْبحُنَـا غَمَامـــا

فَيَسْــقـي أرضَ عـــادٍ إنّ عـادًا قَــد امْـسَــوا لا يُبِينُـونَ الكَلامـا

مــن العطش الشــديد فليس نَرجُـو بــه الشـيخَ الكبـيرَ ولا الغُلامـــا

وَقَـْـد كـانَت نســاؤهُم بخـــيرٍ فقـــد أمســـت نِسَاؤهم عَيَامى

وإنّ الوحــشَ تـأتيـهمْ جِهـــارا ولا تَخْـشَــى لعـــاديَ سِـهـَاما

وأنتــم هـاهُنَـا فيمــا اشـتَـهَيْتُمْ نهـــارَكُمُ وَلَيْـلَكُــمُ التـمامـــا

فقُبّــحَ وَفْـُـدكم مــن وَفْـدِ قَـوْمٍ ولا لُقُّـــوا التحـيَّـــةَ والسَّـلامـا

قال:فعند ذلك تنبه القوم لما جاءوا له، فنهضوا إلى الحرم، ودعوا لقومهم فدعا داعيهم، وهو: « قيل بن عنـز » فأنشأ الله سحابات ثلاثا:بيضاء، وسوداء، وحمراء، ثم ناداه مناد من السماء: « اختر لنفسك - أو:- لقومك من هذا السحاب » ، فقال: « اخترت هذه السحابة السوداء، فإنها أكثر السحاب ماء » فناداه مناد:اخترت رَمادا رِمْدَدًا، لا تبقي من عاد أحدا، لا والدًا تترك ولا ولدا، إلا جعلته هَمدا، إلا بني اللّوذيّة المهندًا قال:وبنو اللوذية:بطن من عاد مقيمون بمكة، فلم يصبهم ما أصاب قومهم - قال:وهم من بقي من أنسالهم وذراريهم عاد الآخرة - قال:وساق الله السحابة السوداء، فيما يذكرون، التي اختارها « قيل بن عنـز » بما فيها من النقمة إلى عاد، حتى تخرج عليهم من واد يقال له: « المغيث » ، فلما رأوها استبشروا، وقالوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا يقول:بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [ الأحقاف:24 ، 25 ] أي:تهلك كل شيء مَرّت به، فكان أول من أبصر ما فيها وعرف أنها ريح، فيما يذكرون، امرأة من عاد يقال لها:مَهْدد فلما تبينت ما فيها صاحت، ثم صُعِقت. فلما أفاقت قالوا:ما رأيت يا مَهْدد ؟ قالت ريحا فيها شُهُب النار، أمامها رجال يقودونها. فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما، كما قال الله. و « الحسوم » :الدائمة - فلم تدع من عاد أحدًا إلا هلك واعتزل هُود، عليه السلام، فيما ذكر لي، ومن معه من المؤمنين في حظيرة، ما يصيبه ومن معه إلا ما تلين عليه الجلود، وتلْتذ الأنفس، وإنها لتمر على عاد بالطعن ما بين السماء والأرض، وتدمغهم بالحجارة.

وذكر تمام القصة بطولها، وهو سياق غريب فيه فوائد كثيرة، وقد قال الله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ [ هود:58 ]

وقد ورد في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده قريب مما أورده محمد بن إسحاق بن يسار، رحمه الله.

قال الإمام أحمد:حدثنا زيد بن الحباب، حدثني أبو المنذر سلام بن سليمان النحوي، حدثنا عاصم بن أبي النَّجُود، عن أبي وائل، عن الحارث البكري قال:خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمررت بالربذة فإذا عجوز من بني تميم منقطع بها، فقالت لي:يا عبد الله، إن لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة، فهل أنت مبلغي إليه؟ قال:فحملتها فأتيت المدينة، فإذا المسجد غاص بأهله، وإذا راية سوداء تخفق، وإذا بلال متقلد بسيف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت:ما شأن الناس؟ فقالوا:يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجها. قال:فجلست، فدخل منـزله - أو قال:رحله فاستأذنت عليه، فأذن لي، فدخلت فسلمت، قال:هل بينكم وبين تميم شيء؟ قلت:نعم، وكانت لنا الدّبَرة عليهم، ومررت بعجوز من بني تميم منقطع بها، فسألتني أن أحملها إليك، وها هي بالباب. فأذن لها، فدخلت، فقلت:يا رسول الله، إن رأيت أن تجعل بيننا وبين تميم حاجزًا، فاجعل الدهناء. فحميت العجوز واستوفزت، فقالت:يا رسول الله، فإلى أين يضطر مُضطَرُك ؟ قال:قلت:إن مثلي مثل ما قال الأول: « معْزَى حَمَلت حتفها » ، حملت هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصما، أعوذ بالله وبرسوله أن أكون كوافد عاد! قال:هيه، وما وافد عاد؟ - وهو أعلم بالحديث منه، ولكن يستطعمه - قلت:إن عادا قُحطوا فبعثوا وافدًا لهم يقال له: « قيل » ، فمر بمعاوية بن بكر، فأقام عنده شهرا يسقيه الخمر وتغنيه جاريتان، يقال لهما: « الجرادتان » ، فلما مضى الشهر خرج إلى جبال مَهْرة، فقال:اللهم إنك تعلم أني لم أجئ إلى مريض فأداويه، ولا إلى أسير فأفاديه. اللهم اسق عادًا ما كنت تسقيه، فمرت به سحابات سُودُ، فنودي:منها « اختر » . فأومأ إلى سحابة منها سوداء، فنودي منها: « خذها رمادا رِمْدِدا، لا تبقي من عاد أحدا » . قال:فما بلغني أنه بُعث عليهم من الريح إلا قدر ما يجري في خاتمي هذا، حتى، هلكوا - قال أبو وائل:وصدق - قال:وكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافدًا لهم قالوا: « لا تكن كوافد عاد » .

هكذا رواه الإمام أحمد في المسند، ورواه الترمذي، عن عبد بن حميد، عن زيد بن الحباب، به نحوه:ورواه النسائي من حديث سلام بن أبي المنذر. عن عاصم - وهو ابن بَهْدَلة - ومن طريقه رواه ابن ماجه أيضا، عن أبي وائل، عن الحارث بن حسان البكري، به. ورواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب عن زيد بن حُبَاب، به. ووقع عنده: « عن الحارث بن يزيد البكري » فذكره، ورواه أيضا عن أبي كريب، عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم، عن الحارث بن يزيد البكري، فذكره ولم أر في النسخة « أبا وائل » ، والله أعلم.

وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 73 )

قال علماء التفسير والنسب:ثمود بن عاثر بن إرم بن سام بن نوح، وهو أخو جَديس بن عاثر، وكذلك قبيلة طَسْم، كل هؤلاء كانوا أحياء من العرب العاربة قبل إبراهيم الخليل، عليه السلام، وكانت ثمود بعد عاد، ومساكنهم مشهورة فيما بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله، وقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قراهم ومساكنهم، وهو ذاهب إلى تبوك سنة تسع.

قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الصمد، حدثنا صَخْر بن جُوَيرية، عن نافع، عن ابن عمر قال:لما نـزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس على تبوك، نـزل بهم الحجر عند بيوت ثمود، فاستسقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود، فعجنوا منها ونصبوا منها القدور. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم فأهرقوا القدور، وعلفوا العجينَ الإبلَ، ثم ارتحل بهم حتى نـزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا وقال: « إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فلا تدخلوا عليهم »

وقال [ الإمام ] أحمد أيضا:حدثنا عفان، حدثنا عبد العزيز بن مسلم، حدثنا عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالحجر: « لا تدخلوا على هؤلاء المعذَّبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين، فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثلُ ما أصابهم »

وأصل هذا الحديث مُخَرَّج في الصحيحين من غير وجه

وقال الإمام أحمد أيضًا:حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا المسعودي، عن إسماعيل بن أوسط، عن محمد بن أبي كَبْشَة الأنماري، عن أبيه قال:لما كان في غزوة تبوك، تسارع الناس إلى أهل الحجر، يدخلون عليهم، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فنادى في الناس: « الصلاة جامعة » . قال:فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ممسك بعيره وهو يقول: « ما تدخلون على قوم غضب الله عليهم » . فناداه رجل منهم:نعجبُ منهم يا رسول الله. قال: « أفلا أنبئكم بأعجب من ذلك:رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم، وبما هو كائن بعدكم، فاستقيموا وسَدِّدوا، فإن الله لا يعبأ بعذابكم شيئا، وسيأتي قوم لا يدفعون عن أنفسهم شيئا »

لم يخرجه أحد من أصحاب السنن وأبو كبشة اسمه:عمر بن سعد، ويقال:عامر بن سعد، والله أعلم.

وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرزاق:حدثنا مَعْمَر، عن عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم، عن أبي الزبير، عن جابر قال:لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال: « لا تسألوا الآيات، فقد سألها قوم صالح فكانت - يعني الناقة - ترد من هذا الفَجّ، وتَصْدُر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم فعقروها، وكانت تشرب ماءهم يوما ويشربون لبنها يوما، فعقروها، فأخذتهم صيحة، أهمد الله مَنْ تحت أديم السماء منهم، إلا رجلا واحدًا كان في حرم الله » . فقالوا:من هو يا رسول الله؟ قال: « أبو رِغال. فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه »

وهذا الحديث ليس في شيء من الكتب الستة، وهو على شرط مسلم.

فقوله تعالى: ( وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ) أي:ولقد أرسلنا إلى قبيلة ثمود أخاهم صالحا، ( قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) جميع الرسل يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ [ الأنبياء:25 ] وقال [ تعالى ] وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [ النحل:36 ] .

وقوله: ( قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً ) أي:قد جاءتكم حجة من الله على صدق ما جئتكم به. وكانوا هم الذين سألوا صالحا أن يأتيهم بآية، واقترحوا عليه أن تخرج لهم من صخرة صمَاء عَيّنوها بأنفسهم، وهي صخرة منفردة في ناحية الحِجْر، يقال لها:الكَاتبة، فطلبوا منه أن يخرج لهم منها ناقة عُشَراء تَمْخَضُ، فأخذ عليهم صالح العهود والمواثيق لئن أجابهم الله إلى سؤالهم وأجابهم إلى طُلْبتهم ليؤمنن به وليتبعنه؟ فلما أعطوه على ذلك عهودهم ومواثيقهم، قام صالح، عليه السلام، إلى صلاته ودعا الله، عز وجل، فتحركت تلك الصخرة ثم انصدعت عن ناقة جَوْفاء وَبْرَ‌اء يتحرك جنينها بين جنبيها، كما سألوا، فعند ذلك آمن رئيس القوم وهو: « جُندَع بن عمرو » ومن كان معه على أمره وأراد بقية أشراف ثمود أن يؤمنوا فصدهم « ذُؤاب بن عمرو بن لبيد » « والحباب » صاحب أوثانهم، ورباب بن صمعر بن جلهس، وكان ل « جندع بن عمرو » ابن عم يقال له: « شهاب بن خليفة بن محلاة بن لبيد بن حراس » ، وكان من أشراف ثمود وأفاضلها، فأراد أن يسلم أيضا فنهاه أولئك الرهط، فأطاعهم، فقال في ذلك رجل من مؤمني ثمود، يقال له مهوس بن عنمة بن الدميل، رحمه الله:

وكــانت عُصْبــةٌ مـن آل عَمْـرو إلــى ديـن النبـيّ دَعَـوا شِـهَابـا

عَزيــزَ ثَمُـودَ كُـلَّـهمُ جميعـــا فَهَــمّ بأن يُجِـــيبَ فلــو أجابا

لأصبــحَ صـالحٌ فيـنـا عَـزيـزًا ومــا عَدَلــوا بصـاحبهـم ذُؤابـا

ولكــنّ الغُــوَاة مــن آل حُـجْرٍ تَوَلَّــوْا بعـــد رُشْـدهـم ذئابــا

فأقامت الناقة وفصيلها بعد ما وضعته بين أظهرهم مدة، تشرب ماء بئرها يوما، وتدعه لهم يوما، وكانوا يشربون لبنها يوم شربها، يحتلبونها فيملئون ما شاءوا من أوعيتهم وأوانيهم، كما قال في الآية الأخرى: وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ [ القمر:28 ] وقال تعالى: هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [ الشعراء:155 ] وكانت تسرح في بعض تلك الأودية ترد من فَجّ وتصدر من غيره ليسعها؛ لأنها كانت تتضلَّع عن الماء، وكانت - على ما ذكر - خَلْقًا هائلا ومنظرًا رائعًا، إذا مرت بأنعامهم نفرت منها. فلما طال عليهم واشتد تكذيبهم لصالح النبي، عليه السلام، عزموا على قتلها، ليستأثروا بالماء كل يوم، فيقال:إنهم اتفقوا كلهم على قتلها .

 

وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ( 74 ) قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ( 75 ) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ( 76 ) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ( 77 ) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ( 78 )

قال قتادة:بلغني أن الذي قتل الناقة طاف عليهم كلهم، أنهم راضون بقتلها حتى على النساء في خدورهن، وعلى الصبيان [ أيضا ]

قلت:وهذا هو الظاهر؛ لأن الله تعالى يقول: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا [ الشمس:14 ] وقال: وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا [ الإسراء:59 ] وقال: ( فَعَقَرُوا النَّاقَةَ ) فأسند ذلك على مجموع القبيلة، فدل على رضا جميعهم بذلك، والله أعلم.

وذكر الإمام أبو جعفر بن جرير، رحمه الله، وغيره من علماء التفسير في سبب قتل الناقة:أن امرأة منهم يقال لها: « عنيزة ابنة غنم بن مِجْلِز » وتكنى أم غَنَمْ كانت عجوزا كافرة، وكانت من أشد الناس عداوة لصالح، عليه السلام، وكانت لها بنات حسان ومال جزيل، وكان زوجها ذُؤاب بن عمرو أحد رؤساء ثمود، وامرأة أخرى يقال لها: « صدوف بنت المحيا بن دهر بن المحيا » ذات حسب ومال وجمال، وكانت تحت رجل مسلم من ثمود، ففارقته، فكانتا تجعلان لمن التزم لهما بقتل الناقة، فدعت « صدوف » رجلا يقال له: « الحباب » وعرضت عليه نفسها إن هو عقر الناقة، فأبى عليها. فدعت ابن عم لها يقال له: « مصدع بن مهرج بن المحيا » ، فأجابها إلى ذلك - ودعت « عنيزة بنت غنم » قدار بن سالف بن جُنْدَع وكان رجلا أحمر أزرق قصيرًا، يزعمون أنه كان ولد زَنية، وأنه لم يكن من أبيه الذي ينسب إليه، وهو سالف، وإنما هو من رجل يقال له: « صهياد » ولكن ولد على فراش « سالف » ، وقالت له:أعطيك أي بناتي شئتَ على أن تعقر الناقة! فعند ذلك، انطلق « قدار بن سالف » « ومصدع بن مهرج » ، فاستفزا غُواة من ثمود، فاتبعهما سبعة نفر، فصاروا تسعة رهط، وهم الذين قال الله تعالى: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ [ النمل:48 ] وكانوا رؤساء في قومهم، فاستمالوا القبيلة الكافرة بكمالها، فطاوعتهم على ذلك، فانطلقوا فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء، وقد كمن لها « قدار » في أصل صخرة على طريقها، وكمن لها « مصدع » في أصل أخرى، فمرت على « مصدع » فرماها بسهم، فانتظم به عضَلَة ساقها وخرجت « أم غَنَمْ عنيزة » ، وأمرت ابنتها وكانت من أحسن الناس وجها، فسفرت عن وجهها لقدار وذمّرته فشدّ على الناقة بالسيف، فكسفَ عرقوبها، فخرت ساقطة إلى الأرض، ورغت رَغاة واحدة تحذر سَقْبَها، ثم طعن في لَبَّتها فنحرها، وانطلق سَقْبَها - وهو فصيلها - حتى أتى جبلا منيعًا، فصعد أعلى صخرة فيه ورغا - فروى عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عمن سمع الحسن البصري أنه قال: يا رب أين أمي؟ ويقال:إنه رغا ثلاث مرات. وإنه دخل في صخرة فغاب فيها، ويقال:بل اتبعوه فعقروه مع أمه، فالله أعلم

فلما فعلوا ذلك وفرغوا من عقر الناقة، بلغ الخبر صالحا، عليه السلام، فجاءهم وهم مجتمعون، فلما رأى الناقة بكى وقال: تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ] [ هود:65 ] وكان قتلهم الناقة يوم الأربعاء، فلما أمسى أولئك التسعة الرهط عزموا على قتل صالح [ عليه السلام ] وقالوا:إن كان صادقًا عَجَّلناه قبلنا، وإن كان كاذبًا ألحقناه بناقته ! قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا الآية. [ النمل:49- 52 ]

فلما عزموا على ذلك، وتواطؤوا عليه، وجاءوا من الليل ليفتكوا بنبي الله صالح، أرسل الله، سبحانه وتعالى، وله العزة ولرسوله، عليهم حجارة فرضَختهم سلفا وتعجيلا قبل قومهم، وأصبح ثمود يوم الخميس، وهو اليوم الأول من أيام النَّظرة، ووجوههم مصفرة كما وعدهم صالح، عليه السلام، وأصبحوا في اليوم الثاني من أيام التأجيل، وهو يوم الجمعة، ووجوههم محمرة، وأصبحوا في اليوم الثالث من أيام المتاع وهو يوم السبت، ووجوههم مسودة، فلما أصبحوا من يوم الأحد وقد تحَنَّطوا وقعدوا ينتظرون نقمة الله وعذابه، عياذا بالله من ذلك، لا يدرون ماذا يفعل بهم، ولا كيف يأتيهم العذاب؟ و [ قد ] أشرقت الشمس، جاءتهم صيحة من السماء ورَجْفة شديدة من أسفل منهم، ففاضت الأرواح وزهقت النفوس في ساعة واحدة ( فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ) أي:صرعى لا أرواح فيهم، ولم يفلت منهم أحد، لا صغير ولا كبير، لا ذكر ولا أنثى - قالوا:إلا جارية كانت مقعدة - واسمها « كلبة بنة السّلْق » ، ويقال لها: « الزريقة » - وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح، عليه السلام، فلما رأت ما رأت من العذاب، أُطلِقَت رجلاها، فقامت تسعى كأسرع شيء، فأتت حيا من الأحياء فأخبرتهم بما رأت وما حل بقومها، ثم استسقتهم من الماء، فلما شربت، ماتت.

قال علماء التفسير:ولم يبق من ذرية ثمود أحد، سوى صالح، عليه السلام، ومن اتبعه، رضي الله عنهم، إلا أن رجلا يقال له: « أبو رِغال » ، كان لما وقعت النقمة بقومه مقيما في الحرم، فلم يصبه شيء، فلما خرج في بعض الأيام إلى الحلّ، جاءه حجر من السماء فقتله.

وقد تقدم في أول القصة حديث « جابر بن عبد الله » في ذلك، وذكروا أن أبا رغال هذا هو والد ثقيف « الذين كانوا يسكنون الطائف »

قال عبد الرزاق:قال مَعْمَر:أخبرني إسماعيل بن أمية؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبر أبي رغال فقال: « أتدرون من هذا؟ » فقالوا:الله ورسوله أعلم. قال: « هذا قبر أبي رغال، رجل من ثمود، كان في حرم الله، فمنعه حرمُ الله عذاب الله. فلما خرج أصابه ما أصاب قومه، فدفن هاهنا، ودفن معه غصن من ذهب، فنـزل القوم فابتدروه بأسيافهم، فبحثوا عنه، فاستخرجوا الغصن » .

وقال عبد الرزاق:قال معمر:قال الزهري:أبو رغال:أبو ثقيف

هذا مرسل من هذا الوجه، وقد روي متصلا من وجه آخر، كما قال محمد بن إسحاق، عن إسماعيل بن أمية، عن بُجَير بن أبي بجير قال:سمعت عبد الله بن عمرو يقول:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، حين خرجنا معه إلى الطائف، فمررنا بقبر فقال: « هذا قبر أبي رغال، وهو أبو ثقيف، وكان من ثمود، وكان بهذا الحرم فدفع عنه، فلما خرج [ منه ] أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان، فدفن فيه. وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب، إن أنتم نبشم عنه أصبتموه [ معه ] فابتدره الناس فاستخرجوا منه الغصن » .

وهكذا رواه أبو داود، عن يحيى بن معين، عن وهب بن جرير بن حازم، عن أبيه، عن ابن إسحاق، به

قال شيخنا أبو الحجاج المزي:وهو حديث حسن عزيز

قلت:تفرد بوصله « بُجَيْر بن أبي بجير » هذا، وهو شيخ لا يعرف إلا بهذا الحديث. قال يحيى بن معين:ولم أسمع أحدًا روى عنه غير إسماعيل بن أمية.

قلت:وعلى هذا، فيخشى أن يكون وهم في رفع هذا الحديث، وإنما يكون من كلام عبد الله بن عمرو، مما أخذه من الزاملتين.

قال شيخنا أبو الحجاج، بعد أن عرضت عليه ذلك:وهذا محتمل، والله أعلم.

وقوله تعالى:

فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ( 79 )

هذا تقريع من صالح، عليه السلام، لقومه، لما أهلكهم الله بمخالفتهم إياه، وتمردهم على الله، وإبائهم عن قبول الحق، وإعراضهم عن الهدى إلى العَمى - قال لهم صالح ذلك بعد هلاكهم تقريعا وتوبيخا وهم يسمعون ذلك، كما ثبت في الصحيحين:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على أهل بدر، أقام هناك ثلاثًا، ثم أمر براحلته فشُدّت بعد ثلاث من آخر الليل فركبها ثم سار حتى وقف على القليب، قليب بدر، فجعل يقول: « يا أبا جهل بن هشام، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، ويا فلان بن فلان:هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا » . فقال له عمر:يا رسول الله، ما تُكَلّم من أقوام قد جيفوا؟ فقال: « والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يجيبون » .

وفي السيرة أنه، عليه السلام قال لهم: « بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس، فبئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم » .

وهكذا صالح، عليه السلام، قال لقومه: ( لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ ) أي:فلم تنتفعوا بذلك، لأنكم لا تحبون الحق ولا تتبعون ناصحا؛ ولهذا قال: ( وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ )

وقد ذكر بعض المفسرين أن كل نبي هلكت أمته، كان يذهب فيقيم في الحرم، حرم مكة، فالله أعلم.

وقد قال الإمام أحمد:حدثنا وَكِيع، حدثنا زَمْعَة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي عُسْفان حين حَجّ قال: « يا أبا بكر، أيّ وادٍ هذا؟ » قال:هذا وادي عُسْفَان. قال: « لقد مر به هود وصالح، عليهما السلام، على بَكَرات حُمْر خُطُمها الليف، أزُرُهم العبَاء، وأرديتهم النّمار، يلبون يحجون البيت العتيق » .

هذا حديث غريب من هذا الوجه، لم يخرجه أحد منهم

وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ( 80 ) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ( 81 )

يقول تعالى: ( وَ ) قَدْ أَرْسَلْنَا ( لُوطًا ) أو تقديره: ( وَ ) اذكر ( لُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ )

ولوط هو ابن هاران بن آزر، وهو ابن أخي إبراهيم الخليل، عليهما السلام، وكان قد آمن مع إبراهيم، عليه السلام، وهاجر معه إلى أرض الشام، فبعثه الله [ تعالى ] إلى أهل « سَدُوم » وما حولها من القرى، يدعوهم إلى الله، عز وجل، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عما كانوا يرتكبونه من المآثم والمحارم والفواحش التي اخترعوها، لم يسبقهم بها أحد من بني آدم ولا غيرهم، وهو إتيان الذكور. وهذا شيء لم يكن بنو آدم تعهده ولا تألفه، ولا يخطر ببالهم، حتى صنع ذلك أهل « سَدُوم » عليهم لعائن الله.

قال عمرو بن دينار:قوله: ( مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ) قال:ما نـزا ذَكَر على ذَكَر، حتى كان قوم لوط.

وقال الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي، باني جامع دمشق:لولا أن الله، عز وجل، قص علينا خبر لوط، ما ظننت أن ذكرًا يعلو ذكرًا.

ولهذا قال لهم لوط، عليه السلام: ( أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ ) أي:عدلتم عن النساء، وما خلق لكم ربكم منهن إلى الرجال، وهذا إسراف منكم وجهل؛ لأنه وضع الشيء في غير محله؛ ولهذا قال لهم في الآية الأخرى: [ قَالَ ] هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ [ الحجر:71 ] فأرشدهم إلى نسائهم، فاعتذروا إليه بأنهم لا يشتهونهن، قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ [ هود:79 ] أي:لقد علمت أنه لا أرَبَ لنا في النساء، ولا إرادة، وإنك لتعلم مرادنا من أضيافك.

وذكر المفسرون أن الرجال كانوا قد استغنى بعضهم ببعض، وكذلك نساؤهم كن قد استغنى بعضهن ببعض أيضًا.

 

وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ( 82 )

أي:ما أجابوا لوطًا إلا أن هَموا بإخراجه ونفيه ومن معه [ من المؤمنين ] من بين أظهرهم، فأخرجه الله تعالى سالما، وأهلكهم في أرضهم صاغرين مهانين.

وقوله تعالى: ( إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ) قال قتادة، عابوهم بغير عيب.

وقال مجاهد: ( إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ) من أدبار الرجال وأدبار النساء. ورُوي مثله عن ابن عباس أيضًا.

فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ( 83 ) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ( 84 )

يقول تعالى:فأنجينا لوطًا وأهله، ولم يؤمن به أحد منهم سوى أهل بيته فقط، كما قال تعالى: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [ الذاريات:35، 36 ] إلا امرأته فإنها لم تؤمن به، بل كانت على دين قومها، تمالئهم عليه وتُعْلمهم بمن يَقْدم عليه من ضيفانه بإشارات بينها وبينهم؛ ولهذا لما أمر لوط، عليه السلام، أن يُسْري بأهله أمر ألا يعلم امرأته ولا يخرجها من البلد. ومنهم من يقول:بل اتبعتهم، فلما جاء العذابُ التفتت هي فأصابها ما أصابهم. والأظهر أنها لم تخرج من البلد، ولا أعلمها لوط، بل بقيت معهم؛ ولهذا قال هاهنا: ( إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) أي:الباقين. ومنهم من فسر ذلك ( مِنَ الْغَابِرِينَ ) [ من ] الهالكين، وهو تفسير باللازم.

وقوله: ( وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا ) مفسر بقوله: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [ هود 82 ، 83 ] ولهذا قال: ( فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ) أي:انظر - يا محمد - كيف كان عاقبة من تجهرم على معاصي الله وكذّب رسله

وقد ذهب الإمام أبو حنيفة، رحمه الله، إلى أن اللائط يلقى من شاهق، ويتبع بالحجارة كما فعل بقوم لوط.

وذهب آخرون من العلماء إلى أنه يرجم سواء كان محصنًا أو غير محصن. وهو أحد قولي الشافعي، رحمه الله، والحجة ما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، من حديث الدراوردي، عن عمرو بن أبي عَمْرو عن عكرمة، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به »

وقال آخرون:هو كالزاني، فإن كان محصنًا رجم، وإن لم يكن محصنًا جلد مائة جلدة. وهو القول الآخر للشافعي.

وأما إتيان النساء في الأدبار، فهو اللوطية الصغرى، وهو حرام بإجماع العلماء، إلا قولا [ واحدا ] شاذًا لبعض السلف، وقد ورد في النهي عنه أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم الكلام عليها في سورة البقرة

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 85 )

قال محمد بن إسحاق:هم من سلالة « مدين بن إبراهيم » . وشعيب هو ابن ميكيل بن يشجر قال:واسمه بالسريانية: « يثرون » .

قلت:وتطلق مدين على القبيلة، وعلى المدينة، وهي التي بقرب « مَعَان » من طريق الحجاز، قال الله تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ [ القصص:23 ] وهم أصحاب الأيكة، كما سنذكره إن شاء الله، وبه الثقة.

( قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) هذه دعوة الرسل كلهم، ( قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ) أي:قد أقام الله الحجج والبينات على صدق ما جئتكم به. ثم وعظهم في معاملتهم الناس بأن يوفوا المكيال والميزان، ولا يبخسوا الناس أشياءهم، أي:لا يخونوا الناس في أموالهم ويأخذوها على وجه البخس، وهو نقص المكيال والميزان خفْية وتدليسًا، كما قال تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [ المطففين:1 - 6 ] . وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، نسأل الله العافية منه.

ثم قال تعالى إخبارًا عن شعيب، الذي يقال له: « خطيب الأنبياء » ، لفصاحة عبارته، وجزالة موعظته.

وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ( 86 ) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ( 87 )

ينهاهم شعيب، عليه السلام، عن قطع الطريق الحسي والمعنوي، بقوله: ( وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ ) أي:توعدون الناس بالقتل إن لم يعطوكم أموالهم. قال السدي وغيره:كانوا عشارين. وعن ابن عباس [ رضي الله عنه ] ومجاهد وغير واحد: ( وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ ) أي:تتوعدون المؤمنين الآتين إِلى شعيب ليتبعوه. والأول أظهر؛ لأنه قال: ( بِكُلِّ صِرَاطٍ ) وهي الطرق، وهذا الثاني هو قوله: ( وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا ) أي:وتودون أن تكون سبيل الله عوجا مائلة. ( وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ ) أي:كنتم مستضعفين لقلتكم فصرتم أعزة لكثرة عَدَدكم، فاذكروا نعمة الله عليكم في ذلك، ( وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ) أي:من الأمم الخالية والقرون الماضية، ما حل بهم من العذاب والنكال باجترائهم على معاصي الله وتكذيب رسله.

وقوله: ( وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا ) أي: [ قد ] اختلفتم عليّ ( فاصبروا ) أي:انتظروا ( حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا ) أي:يفصل، ( وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ) فإنه سيجعل العاقبة للمتقين، والدمار على الكافرين.