الجزء العاشر

 

الآية: 41 ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير )

 

قوله تعالى « واعلموا أنما غنمتم من شيء » الغنيمة في اللغة ما يناله الرجل أو الجماعة بسعي، ومن ذلك قول الشاعر:

وقد طوفت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب

وقال آخر:

ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه أنى توجه والمحروم محروم

والمغنم والغنيمة بمعنى؛ يقال: غنم القوم غنما. وأعلم أن الاتفاق حاصل على أن المراد بقوله تعالى: « غنمتم من شيء » مال الكفار إذا ظفر به المسلمون على وجه الغلبة والقهر. ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص على ما بيناه، ولكن عرف الشرع قيد اللفظ بهذا النوع. وسمى الشرع الواصل من الكفار إلينا من الأموال باسمين: غنيمة وفيئا. فالشيء الذي يناله المسلمون من عدوهم بالسعي وإيجاف الخيل والركاب يسمى غنيمة. ولزم هذا الاسم هذا المعنى حتى صار عرفا. والفيء مأخوذ من فاء يفيء إذا رجع، وهو كل مال دخل على المسلمين من غير حرب ولا إيجاف. كخراج الأرضين وجزية الجماجم وخمس الغنائم. ونحو هذا قال سفيان الثوري وعطاء بن السائب. وقيل: إنهما واحد، وفيهما الخمس؛ قاله قتادة. وقيل: الفيء عبارة عن كل ما صار للمسلمين من الأموال بغير قهر. والمعنى متقارب.

 

هذه الآية ناسخة لأول السورة، عند الجمهور. وقد ادعى ابن عبدالبر الإجماع على أن هذه الآية نزلت بعد قوله: « يسألونك عن الأنفال » [ الأنفال: 1 ] وأن أربعة أخماس الغنيمة مقسومة على الغانمين، على ما يأتي بيانه. وأن قوله: « يسألونك عن الأنفال » نزلت في حين تشاجر أهل بدر في غنائم بدر، على ما تقدم أول السورة.

قلت: ومما يدل على صحة هذا ما ذكره إسماعيل بن إسحاق قال: حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا سفيان قال حدثني محمد بن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس قال: ( لما كان يوم بدر قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من قتل قتيلا فله كذا ومن أسر أسيرا فله كذا ) وكانوا قتلوا سبعين، وأسروا سبعين، فجاء أبو اليسر بن عمرو بأسيرين، فقال: يا رسول الله إنك وعدتنا من قتل قتيلا فله كذا، وقد جئت بأسيرين. فقام سعد فقال: يا رسول الله، إنا يمنعنا زيادة في الأجر ولا جبن عن العدو ولكنا قمنا هذا المقام خشية أن يعطف المشركون، فإنك إن تعطي هؤلاء لا يبقى لأصحابك شيء. قال: وجعل هؤلاء يقولون وهؤلاء يقولون فنزلت « يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم » [ الأنفال: 1 ] فسلموا الغنيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ) ثم نزلت « وأعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه » الآية. وقد قيل: إنها محكمة غير منسوخة، وأن الغنيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وليست مقسومة بين الغانمين، وكذلك لمن بعده من الأئمة. كذا حكاه المازري عن كثير من أصحابنا، رضي الله عنهم، وأن للإمام أن يخرجها عنهم. واحتجوا بفتح مكة وقصة حنين. وكان أبو عبيد يقول: افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة ومن على أهلها فردها عليهم ولم يقسمها ولم يجعلها عليهم فيئا. ورأى بعض الناس أن هذا جائز للأئمة بعده.

قلت: وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: « واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه » والأربعة الأخماس للإمام، إن شاء حبسها وإن شاء قسمها بين الغانمين. وهذا ليس بشيء، لما ذكرناه، ولأن الله سبحانه أضاف الغنيمة للغانمين فقال: « واعلموا أنما غنمتم من شيء » ثم عين الخمس لمن سمى في كتابه، وسكت عن الأربعة الأخماس، كما سكت عن الثلثين في قوله: « وورثه أبواه فلأمه الثلث » [ النساء: 11 ] فكان للأب الثلثان اتفاقا. وكذا الأربعة الأخماس للغانمين إجماعا، على ما ذكره ابن المنذر وابن عبدالبر والداودي والمازري أيضا والقاضي عياض وابن العربي. والأخبار بهذا المعنى متظاهرة، وسيأتي بعضها. ويكون معنى قوله: « يسألونك عن الأنفال » الآية، ما ينفله الإمام لمن شاء لما يراه من المصلحة قبل القسمة. وقال عطاء والحسن: هي مخصوصة بما شذ من المشركين إلى المسلمين، من عبد أو أمة أو دابة، يقضي فيها الإمام بما أحب. وقيل: المراد بها أنفال السرايا أي غنائما، إن شاء خمسها الإمام، وإن شاء نفلها كلها. وقال إبراهيم النخعي في الإمام يبعث السرية فيصيبون المغنم: إن شاء الإمام نفله كله، وإن شاء خمسه. وحكاه أبو عمر عن مكحول وعطاء. قال علي بن ثابت: سألت مكحول وعطاء عن الإمام ينفل القوم ما أصابوا، قال: ذلك لهم. قال أبو عمر : من ذهب إلى هذا تأول قول الله عز وجل: « يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول » [ الأنفال: 1 ] أن ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم يضعها حيث شاء. ولم ير أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: « واعلموا أنما غنمتم من شيء لله خمسه » . وقيل: غير هذا مما قد أتينا عليه في كتاب ( القبس في شرح موطأ مالك بن أنس ) . ولم يقل أحد من العلماء فيما أعلم أن قوله تعالى « يسألونك عن الأنفال » الآية، ناسخ لقول: « وأعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه » بل قال الجمهور على ما ذكرنا: إن قوله: « ما غنمتم » ناسخ، وهم الذين لا يجوز عليهم التحريف ولا التبديل لكتاب الله تعالى. وأما قصة فتح مكة فلا حجة فيها لاختلاف العلماء في فتحها. وقد قال أبو عبيد: ولا نعلم مكة يشبهها شيء من البلدان من جهتين: إحداهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الله قد خصه من الأنفال والغنائم ما لم يجعله لغيره، وذلك لقوله: « يسألونك عن الأنفال » [ الأنفال: 1 ] الآية، فنرى أن هذا كان خاصا له والجهة الأخرى أنه سن لمكة سننا ليست لشيء من البلاد. وأما قصة حنين فقد عوض الأنصار لما قالوا: يعطي الغنائم قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم! فقال لهم: ( أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم ) . خرجه مسلم وغيره. وليس لغيره أن يقول هذا القول، مع أن ذلك خاص به على ما قاله بعض علمائنا. والله أعلم.

 

لم يختلف العلماء أن قوله: « واعلموا أنما غنمتم من شيء » ليس على عمومه، وأنه يدخله الخصوص، فمما خصصوه بإجماع أن قالوا: سلب المقتول لقاتله إذا نادى به الإمام. وكذلك الرقاب، أعني الأسارى، الخيرة فيها إلى الإمام بلا خلاف، على ما يأتي بيانه. ومما خص به أيضا الأرض. والمعنى: ما غنمتم من ذهب وفضة وسائر الأمتعة والسبي. وأما الأرض فغير داخلة في عموم هذه الآية، لما روى أبو داود عن عمر بن الخطاب أنه قال: ( لولا أخر الناس ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر ) . ومما يصحح هذا المذهب ما رواه الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( منعت العراق قفيزها ودرهمها ومنعت الشام مدها ودينارها ) الحديث. قال الطحاوي: « منعت » بمعنى ستمنع، فدل ذلك على أنها لا تكون للغانمين، لأن ما ملكه الغانمون لا يكون فيه قفيز ولا درهم، ولو كانت الأرض تقسم ما بقي لمن جاء بعد الغانمين شيء. والله تعالى يقول: « والذين جاؤوا من بعدهم » [ الحشر: 10 ] بالعطف على قوله: « للفقراء المهاجرين » [ الحشر:8 ] . قال: وإنما يقسم ما ينقل من موضع إلى موضع. وقال الشافعي: كل ما حصل من الغنائم من أهل دار الحرب من شيء قل أو كثر من دار أو أرض أو متاع أو غير ذلك قسم، إلا الرجال البالغين فإن الإمام فيهم مخير أن يمن أو يقتل أو يسبي. وسبيل ما أخذ منهم وسبي سبيل الغنيمة. واحتج بعموم الآية. قال: والأرض مغنومة لا محالة، فوجب أن تقسم كسائر الغنائم. وقد قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أفتتح عنوة من خيبر. قالوا: ولو جاز أن يدعى الخصوص في الأرض جاز أن يدعى في غير الأرض فيبطل حكم الآية. وأما آية « الحشر » فلا حجة فيها، لأن ذلك إنما هو في الفيء لا في الغنيمة. وقول: « والذين جاؤوا من بعدهم » [ الحشر: 10 ] استئناف كلام بالدعاء لمن سبقهم بالإيمان لا لغير ذلك. قالوا: وليس يخلو فعل عمر في توقيفه الأرض من أحد وجهين: إما أن تكون غنيمة استطاب أنفس أهلها، وطابت بذلك فوقفها. وكذلك روى جرير أن عمر استطاب أنفس أهلها. وكذلك صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبي هوازن، لما أتوه استطاب أنفس أصحابه عما كان في أيديهم. وإما أن يكون ما وقفه عمر فيئا فلم يحتج إلى مراضاة أحد. وذهب الكوفيون إلى تخيير الإمام في، قسمها أو إقرارها وتوظيف الخراج عليها، وتصير ملكا لهم كأرض الصلح: قال شيخنا أبو العباس رضي الله عنه: وكأن هذا جمع بين الدليلين ووسط بين المذهبين، وهو الذي فهمه عمر رضي الله عنه قطعا، ولذلك قال: لولا أخر الناس، فلم يخبر بنسخ فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولا بتخصيصه بهم، غير أن الكوفيين زادوا على ما فعل عمر، فإن عمر إنما وقفها على مصالح المسلمين ولم يملكها لأهل الصلح، وهم الذين قالوا للإمام أن يملكها لأهل الصلح.

 

ذهب مالك وأبو حنيفة والثوري إلى أن السلب ليس للقاتل، وأن حكمه حكم الغنيمة، إلا أن يقول الأمير: من قتل قتيلا فله سلبه، فيكون حينئذ له. وقال الليث والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد والطبري وابن المنذر: السلب للقاتل على كل حال، قاله الإمام أو لم يقله. إلا أن الشافعي رضي الله عنه قال: إنما يكون السلب للقاتل إذا قتل قتيلا مقبلا عليه: وأما إذا قتله مدبرا عنه فلا. قال أبو العباس بن سريج من أصحاب الشافعي: ليس الحديث ( من قتل قتيلا فله سلبه ) على عمومه، لإجماع العلماء على أن من قتل أسيرا أو امرأة أو شيخا أنه ليس له سلب واحد منهم. وكذلك من ذفف على جريح، ومن قتل من قطعت يداه ورجلاه. قال: وكذلك المنهزم لا يمتنع في انهزامه، وهو كالمكتوف. قال: فعلم بذلك أن الحديث إنما جعل السلب لمن لقتله معنى زائد، أو لمن في قتله فضيلة، وهو القاتل في الإقبال، لما في ذلك من المؤنة. وأما من أثخن فلا. وقال الطبري: السلب للقاتل، مقبلا قتله أو مدبرا، هاربا أو مبارزا إذا كان في المعركة. وهذا يرده ما ذكره عبدالرزاق ومحمد بن بكر عن ابن جريج قال سمعت نافعا مولى ابن عمر يقول: لم نزل نسمع إذا التقى المسلمون والكفار فقتل رجل من المسلمين رجلا من الكفار فإن سلبه له إلا أن يكون في معمعة القتال، لأنه حينئذ لا يدري من قتل قتيلا. فظاهر هذا يرد قول الطبري لاشتراطه في السلب القتل في المعركة خاصة. وقال أبو ثور وابن المنذر: السلب للقاتل في معركة كان أو غير معركة، في الإقبال والإدبار والهروب والانتهار، على كل الوجوه، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: ( من قتل قتيلا فله سلبه ) .

قلت: روى مسلم عن سلمة بن الأكوع قال: ( غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هوازن فبينا نحن نتضحى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على جمل أحمر فأناخه، ثم انتزع طلقا من حقبه فقيد به الجمل، ثم تقدم يتغدى مع القوم، وجعل ينظر، وفينا ضعفة ورقة في الظهر، وبعضنا مشاة، إذ خرج يشتد، فأتى جمله فأطلق قيده ثم أناخه وقعد عليه فأثاره فاشتد به الجمل، فاتبعه رجل على ناقة ورقاء. قال سلمة: وخرجت اشتد فكنت عند ورك الناقة، ثم تقدمت حتى كنت عند ورك الجمل، ثم تقدمت حتى أخذت بخطام الجمل فأنخته، فلما وضع ركبته في الأرض اخترطت سيفي فضربت رأس الرجل فندر، ثم جئت بالجمل أقوده، عليه رحله وسلاحه، فاستقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه فقال: ( من قتل الرجل ) ؟ قالوا: ابن الأكوع. قال: ( له سلبه أجمع ) . فهذا سلمة قتله هاربا غير مقبل، وأعطاه سلبه. وفيه حجة لمالك من أن السلب لا يستحقه القاتل إلا بإذن الإمام، إذ لو كان واجبا له بنفس القتل لما احتاج إلى تكرير هذا القول. ومن حجته أيضا ما ذكره أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا أبو الأحوص عن الأسود بن قيس عن بشر بن علقمة قال: بارزت رجلا يوم القادسية فقتلته وأخذت سلبه، فأتيت سعدا فخطب سعد أصحابه ثم قال: هذا سلب بشر بن علقمة، فهو خير من اثني عشر ألف درهم، وإنا قد نفلناه إياه. فلو كان السلب للقاتل قضاء من النبي صلى الله عليه وسلم ما احتاج الأمر أن يضيفوا ذلك إلى أنفسهم باجتهادهم، ولأخذه القاتل دون أمرهم. والله أعلم. وفي الصحيح أن معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء ضربا أبا جهل بسيفيهما حتى قتلاه، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( أيكما قتله ) ؟ فقال كل واحد منهما: أنا قتلته. فنظر في السيفين فقال: ( كلاكما قتله ) وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، وهذا نص على أن السلب ليس للقاتل، إذ لو كان له لقسمه النبي صلى الله عليه وسلم بينهما. وفي الصحيح أيضا عن عوف بن مالك قال: خرجت مع من خرج مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة، ورافقني مددي من اليمن. وساق الحديث، وفيه: فقال عوف: يا خالد، أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل؟ قال: بلى، ولكني استكثرته. وأخرجه أبو بكر البرقاني بإسناده الذي أخرجه به مسلم، وزاد فيه بيانا أن عوف بن مالك قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يخمس السلب، وإن مدديا كان رفيقا لهم في غزوة مؤتة في طرف من الشام، قال: فجعل رومي منهم يشتد على المسلمين وهو على فرس أشقر وسرج مذهب ومنطقة ملطخة وسيف محلى بذهب. قال: فيغري بهم، قال: فتلطف له المددي حتى مر به فضرب عرقوب فرسه فوقع، وعلاه بالسيف فقتله وأخذ سلاحه. قال: فأعطاه خالد بن الوليد وحبس منه، قال عوف: فقلت له أعطه كله، أليس قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( السلب للقاتل ) ! قال: بلى، ولكني استكثرته. قال عوف: وكان بيني وبينه كلام، فقلت له: لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عوف: فلما اجتمعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عوف ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لخالد: ( لم لم تعطه ) ؟ قال فقال: استكثرته. قال: ( فادفعه إليه ) فقلت له: ألم أنجز لك ما وعدتك؟ قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ( يا خالد لا تدفعه إليه هل أنتم تاركون لي أمرائي ) . فهذا يدل دلالة واضحة على أن السلب لا يستحقه القاتل بنفس القتل بل برأي الإمام ونظره. وقال أحسد بن حنبل: لا يكون السلب للقاتل إلا في المبارزة خاصة.

 

اختلف العلماء في تخميس السلب، فقال الشافعي: لا يخمس. وقال إسحاق: إن كان السلب يسيرا فهو للقاتل، وإن كان كثيرا خمس. وفعله عمر بن الخطاب مع البراء بن مالك حين بارز المرزبان فقتله، فكانت قيمة منطقته وسواريه ثلاثين ألفا فخمس ذلك. أنس عن البراء بن مالك أنه قتل من المشركين مائة رجل إلا رجلا مبارزة، وأنهم لما غزوا الزارة خرج دهقان الزارة فقال: رجل ورجل، فبرز البراء فاختلفا بسيفيهما ثم اعتنقا فتوركه البراء فقعد على كبده، ثم أخذ السيف فذبحه، وأخذ سلاحه ومنطقته وأتى به عمر، فنفله السلاح وقوم المنطقة بثلاثين ألفا فخمسها، وقال: إنها مال. وقال الأوزاعي ومكحول: السلب مغنم وفيه الخمس. وروي نحوه عن عمر بن الخطاب. والحجة للشافعي ما رواه أبو داود عن عوف بن مالك الأشجعي وخالد بن الوليد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في السلب للقاتل ولم يخمس السلب.

 

ذهب جمهور العلماء إلى أن السلب لا يعطى للقاتل إلا أن يقيم البينة على قتله. قال أكثرهم: ويجزئ شاهد واحد، على حديث أبي قتادة. وقيل: شاهدان أو شاهد ويمين. وقال الأوزاعي: يعطاه بمجرد دعواه، وليست البينة: شرطا في الاستحقاق، بل إن اتفق ذلك فهو الأولى دفعا للمنازعة. ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أبا قتادة صلب مقتول من غير شهادة ولا يمين. ولا تكفي شهادة واحد، ولا يناط بها حكم بمجردها. وبه قال الليث بن سعد.

قلت: سمعت شيخنا الحافظ المنذري الشافعي أبا محمد عبدالعظيم يقول: إنما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم السلب بشهادة الأسود بن خزاعي وعبدالله بن أنيس. وعلى هذا يندفع النزاع ويزول الإشكال، ويطرد الحكم. وأما المالكية فيخرج على قولهم أنه لا يحتاج الإمام فيه إلى بينة، لأنه من الإمام ابتداء عطية، فإن شرط الشهادة كان له، وإن لم يشترط جاز أن يعطيه من غير شهادة.

 

واختلفوا في السلب ما هو، فأما السلاح وكل ما يحتاج للقتال فلا خلاف أنه من السلب، وفرسه إن قاتل عليه وصرع عنه. وقال أحمد في الفرس: ليس من السلب. وكذلك إن كان في هميانه وفي منطقته دنانير أو جواهر أو نحو هذا، فلا خلاف أنه ليس من السلب. واختلفوا فيما يتزين به للحرب، فقال الأوزاعي: ذلك كله من السلب. وقالت فرقة: ليس من السلب. وهذا مروي عن سحنون رحمه الله، إلا المنطقة فإنها عنده من السلب. وقال ابن حبيب في الواضحة: والسواران من السلب.

 

قوله تعالى: « فأن لله خمسه » قال أبو عبيد: هذا ناسخ لقوله عز وجل في أول السورة « قل الأنفال لله والرسول » [ الأنفال:1 ] ولم يخمس رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم بدر، فنسخ حكمه في ترك التخميس بهذا. إلا أنه يظهر من قول علي رضي الله عنه في صحيح مسلم « كان لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني شارفا من الخمس يومئذ » الحديث - أنه خمس، فإنه كان هذا فقول أبي عبيد مردود. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون الخمس الذي ذكر علي من إحدى الغزوات التي كانت بين بدر وأحد، فقد كانت غزوة بني سليم وغزوة بني المصطلق وغزوة ذي أمر وغزوة بحران، ولم يحفظ فيها قتال، ولكن يمكن أن غنمت غنائم. والله أعلم.

قلت: وهذا التأويل يرده قول علي يومئذ، وذلك إشارة إلى يوم قسم غنائم بدر، إلا أنه يحتمل أن يكون من الخمس إن كان لم يقع في بدر تخميس، من خمس سرية عبدالله بن جحش فإنها أول غنيمة غنمت في الإسلام، وأول خمس كان في الإسلام، ثم نزل القرآن « واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه » . وهذا أولى من التأويل الأول. والله أعلم.

 

« ما » في قوله: « ما غنمتم » بمعنى الذي والهاء محذوفة، أي الذي غنمتموه. ودخلت الفاء لأن في الكلام معنى المجازاة. و « أن » الثانية توكيد للأولى، ويجوز كسرها، وروي عن أبي عمرو. قال الحسن: هذا مفتاح كلام، الدنيا والآخرة لله، ذكره النسائي. واستفتح عز وجل الكلام في الفيء والخمس بذكر نفسه، لأنهما أشرف الكسب، ولم ينسب الصدقة إليه لأنها أوساخ الناس.

 

واختلف العلماء في كيفية قسم الخمس على أقوال ستة:

الأول: قالت طائفة: يقسم الخمس على ستة، فيجعل السدس للكعبة، وهو الذي لله. والثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والثالث لذوي القربى. والرابع لليتامى. والخامس للمساكين، والسادس لابن السبيل. وقال بعض أصحاب هذا القول: يرد السهم الذي لله على ذوي الحاجة.

الثاني: قال أبو العالية والربيع: تقسم الغنيمة على خمسة، فيعزل منها سهم واحد، وتقسم الأربعة على الناس، ثم يضرب بيده على السهم الذي عزله فما قبض عليه من شيء جعله للكعبة، ثم يقسم بقية السهم الذي عزله على خمسة، سهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وسهم لذوي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل.

الثالث: قال المنهال بن عمرو: سألت عبدالله بن محمد بن علي وعلي بن الحسين عن الخمس فقال: هو لنا. قلت لعلي: إن الله تعالى يقول: « واليتامى والمساكين وابن السبيل » فقال: أيتامنا ومساكيننا.

الرابع: قال الشافعي: يقسم على خمسة. ورأى أن سهم الله ورسوله واحد، وأنه يصرف في مصالح المؤمنين، والأربعة الأخماس على الأربعة الأصناف المذكورين في الآية.

الخامس: قال أبو حنيفة: يقسم على ثلاثة: اليتامى والمساكين وابن السبيل. وارتفع عنده حكم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بموته، كما ارتفع حكم سهمه. قالوا: ويبدأ من الخمس بإصلاح القناطر، وبناء المساجد، وأرزاق القضاة والجند، وروي نحو هذا عن الشافعي أيضا.

السادس: قال مالك: هو موكول إلى نظر الإمام واجتهاده، فيأخذ منه من غير تقدير، ويعطي منه القرابة باجتهاد، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين. وبه قال الخلفاء الأربعة، وبه عملوا. وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم: ( ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم ) . فإنه لم يقسمه أخماسا ولا أثلاثا، وإنما ذكر في الآية من ذكر على وجه التنبيه عليهم، لأنهم من أهم من يدفع إليه. قال الزجاج محتجا لمالك: قال الله عز وجل: « يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل » [ البقرة: 215 ] وللرجل جائز بإجماع أن ينفق في غير هذه الأصناف إذا رأى ذلك. وذكر النسائي عن عطاء قال: خمس الله وخمس رسوله واحد، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل منه ويضعه حيث شاء ويصنع به ما شاء.

 

قوله تعالى: « ولذي القربى » ليست اللام لبيان الاستحقاق والملك، وإنما هي لبيان المصرف والمحل. والدليل عليه ما رواه مسلم أن الفضل بن عباس وربيعة بن عبدالمطلب أتيا النبي صلى الله عليه وسلم، فتكلم أحدهما فقال: يا رسول الله، أنت أبر الناس، وأوصل الناس، وقد بلغنا النكاح فجئنا لتؤمرنا على بعض هذه الصدقات، فنؤدي إليك كما يؤدي الناس، ونصيب كما يصيبون. فسكت طويلا حتى أردنا أن نكلمه، قال: وجعلت زينب تلمع إلينا من وراء الحجاب ألا تكلماه، قال: ثم قال: ( إن الصدقة لا تحل لآل محمد إنما هي أوساخ الناس ادعوا لي محمية - وكان على الخمس - ونوفل بن الحارث بن عبدالمطلب ) قال: فجاءاه فقال لمحمية: ( أنكح هذا الغلام ابنتك ) - للفضل بن عباس - فأنكحه. وقال لنوفل بن الحارث: ( أنكح هذا الغلام ابنتك ) يعني ربيعة بن عبدالمطلب. وقال لمحمية: ( أصدق عنهما من الخمس كذا وكذا ) . وقال صلى الله عليه وسلم: ( ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم ) . وقد أعطى جميعه وبعضه، وأعطى منه المؤلفة قلوبهم، وليس ممن ذكرهم الله في التقسيم، فدل على ما ذكرناه، والموفق الإله.

 

واختلف العلماء في ذوي القربى على ثلاثة أقوال: قريش كلها، قاله بعض السلف، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صعد الصفا جعل يهتف: ( يا بني فلان يا بني عبد مناف يا بني عبدالمطلب يا بني كعب يا بني مرة يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار ) الحديث. وسيأتي في « الشعراء » . وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور ومجاهد وقتادة وابن جريج ومسلم بن خالد: بنو هاشم وبنو عبدالمطلب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قسم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني عبدالمطلب قال: ( إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد ) وشبك بين أصابعه، أخرجه النسائي والبخاري. قال البخاري: قال الليث حدثني يونس، وزاد: ولم يقسم النبي صلى الله عليه وسلم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل شيئا. قال ابن إسحاق: وعبد شمس وهاشم والمطلب إخوة لأم، وأمهم عاتكة بنت مرة. وكان نوفل أخاهم لأبيهم. قال النسائي: وأسهم النبي صلى الله عليه وسلم لذوي القربى، وهم بنو هاشم وبنو المطلب، بينهم الغني والفقير. وقد قيل: إنه للفقير منهم دون الغني، كاليتامى وابن السبيل - وهو أشبه القولين بالصواب عندي. والله أعلم - والصغير والكبير والذكر والأنثى سواء، لأن الله تعالى جعل ذلك لهم، وقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم. وليس في الحديث أنه فضل بعضهم على بعض. الثالث: بنو هاشم خاصة، قاله مجاهد وعلي بن الحسين. وهو قول مالك والثوري والأوزاعي وغيرهم.

 

لما بين الله عز وجل حكم الخمس وسكت عن الأربعة الأخماس، دل ذلك على أنها ملك للغانمين. وبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: ( وأيما قرية عصت الله ورسوله فإن خمسها لله ورسول ثم هي لكم ) . وهذا ما لا خلاف فيه بين الأمة ولا بين الأئمة، على ما حكاه ابن العربي في ( أحكامه ) وغيره. بيد أن الإمام إن رأى أن يمن على الأسارى بالإطلاق فعل، وبطلت حقوق الغانمين فيهم، كما فعل النبي صلى بثمامة بن أثال وغيره، وقال: ( لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى - يعني أسارى بدر - لتركته له ) أخرجه البخاري. مكافأة له لقيامه في شأن نقض الصحيفة. وله أن يقتل جميعهم، وقد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط من بين الأسرى صبرا، وكذلك النضر بن الحارث قتله بالصفراء صبرا، وهذا ما لا خلاف فيه. وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سهم كسهم الغانمين، حضر أو غاب. وسهم الصفي، يصطفي سيفا أو سهما أو خادما أو دابة. وكانت صفية بنت حيي من الصفي من غنائم خيبر. وكذلك ذو الفقار كان من الصفي. وقد انقطع بموته، إلا عند أبي ثور فإنه رآه باقيا للإمام يجعله مجعل سهم النبي صلى الله عليه وسلم. وكانت الحكمة في ذلك أن أهل الجاهلية كانوا يرون للرئيس ربع الغنيمة. قال شاعرهم:

لك المرباع منها والصفايا وحكمك والنشيطة والفضول

وقال آخر:

منا الذي ربع الجيوش، لصلبه عشرون وهو يعد في الأحياء

يقال: ربع الجيش يربعه رباعة إذا أخذ ربع الغنيمة. قال الأصمعي: ربع في الجاهلية وخمس في الإسلام، فكان يأخذ بغير شرع ولا دين الربع من الغنيمة، ويصطفي منها، ثم يتحكم بعد الصفي في أي شي أراد، وكان ما شذ منها وما فضل من خرثي ومتاع له. فأحكم الله سبحانه الدين بقوله: « واعلموا أنما غنمتم من شي - فأن لله خمسه » . وأبقى سهم الصفي لنبيه صلى الله عليه وسلم وأسقط حكم الجاهلية. وقال عامر الشعبي: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سهم يدعى الصفي إن شاء عبدا أو أمة أو فرسا يختاره قبل الخمس، أخرجه أبو داود. وفي حديث أبي هريرة قال: فيلقى العبد فيقول: ( أي فل ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع ) الحديث. أخرجه مسلم. « تربع » بالباء الموحدة من تحتها: تأخذ المرباع، أي الربع مما يحصل لقومك من الغنائم والكسب. وقد ذهب بعض أصحاب الشافعي رضي الله عنه إلى أن خمس الخمس كان النبي صلى الله عليه وسلم يصرفه في كفاية أولاده ونسائه، ويدخر من ذلك قوت سنته، ويصرف الباقي في الكراع والسلاح. وهذا يرده ما رواه عمر قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان ينفق على نفسه منها قوت سنة، وما بقي جعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله. أخرجه مسلم. وقال: ( والخمس مردود عليكم ) .

 

ليس في كتاب الله تعالى دلالة على تفضيل الفارس على الراجل، بل فيه أنهم سواء، لأن الله تعالى جعل الأربعة أخماس لهم ولم يخص راجلا من فارس. ولولا الأخبار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم لكان الفارس كالراجل، والعبد كالحر، والصبي كالبالغ. وقد اختلف العلماء في قسمة الأربعة الأخماس، فالذي عليه عامة أهل العلم فيما ذكر ابن المنذر أنه يسهم للفارس سهمان، وللراجل سهم. وممن قال ذلك مالك بن أنس ومن تبعه من أهل المدينة. وكذلك قال الأوزاعي ومن وافقه من أهل الشام. وكذلك قال الثوري ومن وافقه من أهل العراق. وهو قول الليث بن سعد ومن تبعه من أهل مصر. وكذلك قال الشافعي رضي الله عنه وأصحابه. وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق وأبو ثور ويعقوب ومحمد. قال بن المنذر: ولا نعلم أحدا خالف في ذلك إلا النعمان فإنه خالف فيه السنن وما عليه جل أهل العلم في القديم والحديث. قال: لا يسهم للفارس إلا سهم واحد.

قلت: ولعله شبه عليه بحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل للفارس سهمين، وللراجل سهما. خرجه الدارقطني وقال: قال الرمادي كذا يقول ابن نمير قال لنا النيسابوري: هذا عندي وهم من ابن أبي شيبة أو من الرمادي، لأن أحمد بن حنبل وعبدالرحمن بن بشر وغيرهما رووه عن ابن عمر رضي الله عنهما بخلاف هذا، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم، سهما له وسهمين لفرسه، هكذا رواه عبدالرحمن بن بشر عن عبدالله بن نمير عن عبيدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، وذكر الحديث. وفي صحيح البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهما. وهذأ نص. وقد روى الدارقطني عن الزبير قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أسهم يوم بدر، سهمين لفرسي وسهما لي وسهما لأمي من ذوي القرابة. وفي رواية: وسهما لأمه سهم ذوي القربى. وخرج عن بشير بن عمرو بن محصن قال: أسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لفرسي أربعة أسهم، ولي سهما، فأخذت خمسة أسهم. وقيل إن ذلك راجع إلى اجتهاد الإمام، فينفذ ما رأى. والله أعلم.

 

لا يفاضل بين الفارس والراجل بأكثر من فرس واحد، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: يسهم لأكثر من فرس واحد، لأنه أكثر عنا وأعظم منفعة، وبه قال ابن الجهم من أصحابنا، ورواه سحنون عن ابن وهب. ودليلنا أنه لم ترد رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن يسهم لأكثر من فرس واحد، وكذلك الأئمة بعده، ولأن العدو لا يمكن أن يقاتل إلا على فرس واحد، وما زاد على ذلك فرفاهية وزيادة عدة، وذلك لا يؤثر في زيادة السهمان، كالذي معه زيادة سيوف أو رماح، واعتبارا بالثالث والرابع. وقد روي عن سليمان بن موسى أنه يسهم لمن كان عنده أفراس، لكل فرس سهم.

 

لا يسهم إلا للعتاق من الخيل، لما فيها من الكر والفر، وما كان من البراذين والهجن بمثابتها في ذلك. وما لم يكن كذلك لم يسهم له. وقيل: إن أجازهم الإمام أسهم لها، لأن الانتفاع بها يختلف بحسب الموضع، فالهجن والبراذين تصلح للمواضع المتوعرة كالشعاب والجبال، والعتاق تصلح للمواضع التي يتأتى فيها الكر والفر، فكان ذلك متعلقا برأي الإمام. والعتاق: خيل العرب. والهجن والبراذين: خيل الروم.

 

واختلف علماؤنا في الفرس الضعيف، فقال أشهب وابن نافع: لا يسهم له، لأنه لا يمكن القتال عليه فأشبه الكسير. وقيل: يسهم له لأنه يرجى برؤه. ولا يسهم للأعجف إذا كان في حيز ما لا ينتفع به، كما لا يسهم للكسير. فأما المريض مرضا خفيفا مثل الرهيص، وما يجري مجراه مما لا يمنعه المرض عن حصول المنفعة المقصودة منه فإنه يسهم له. ويعطى الفرس المستعار والمستأجر، وكذلك المغصوب، وسهمه لصاحبه. ويستحق السهم للخيل وإن كانت في السفن ووقعت الغنيمة في البحر، لأنها معدة لنزول إلى البر.

 

لا حق في الغنائم للحشوة كالأجراء والصناع الذين يصحبون الجيش للمعاش، لأنهم لم يقصدوا قتالا ولا خرجوا مجاهدين. وقيل: يسهم لهم، لقوله صلى الله عليه وسلم: ( الغنيمة لمن شهد الوقعة ) . أخرجه البخاري. وهذا لا حجة فيه لأنه جاء بيانا لن باشر الحرب وخرج إليه، وكفى ببيان الله عز وجل المقاتلين وأهل المعاش من المسلمين حيث جعلهم فرقتين متميزتين، لكل واحدة حالها في حكمها، فقال: « علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله » [ المزمل: 20 ] إلا أن هؤلاء إذا قاتلوا لا يضرهم كونهم على معاشهم، لأن سبب الاستحقاق قد وجد منهم. وقال أشهب: لا يستحق أحد منهم وإن قاتل، وبه قال ابن القصار في الأجير: لا يسهم له وإن قاتل. وهذا يرده حديث سلمة بن الأكوع قال: كنت تبيعا لطلحة بن عبيدالله أسقي فرسه وأحسه وأخدمه وأكل من طعامه، الحديث. وفيه: ثم أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمين، سهم الفارس وسهم الراجل، فجمعهما لي. خرجه مسلم. واحتج ابن القصار ومن قال بقول بحديث عبدالرحمن بن عوف، ذكره عبدالرزاق، وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبدالرحمن: ( هذه الثلاثة الدنانير حظه ونصيبه من غزوته في أمر دنياه وآخرته ) .

 

فأما العبيد والنساء فمذهب الكتاب أنه لا يسهم لهم ولا يرضخ. وقيل: يرضخ لهم، وبه قال جمهور العلماء. وقال الأوزاعي: إن قاتلت المرأة أسهم لها. وزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم للنساء يوم خيبر. قال: وأخذ المسلمون بذلك عندنا. وإلى هذا القول مال ابن حبيب من أصحابنا. خرج مسلم عن ابن عباس أنه كان في كتابه إلى نجدة: تسألني هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء؟ وقد كان يغزو بهن فيداوين الجرحى ويحذين من الغنيمة، وأما بسهم فلم يضرب لهن. وأما الصبيان فإن كان مطيقا للقتال ففيه عندنا ثلاثة أقوال: الإسهام ونفيه حتى يبلغ، لحديث ابن عمر، وبه قال أبو حنيفة والشافعي. والتفرقة بين أن يقاتل فيسهم له أو يقاتل فلا يسهم له. والصحيح الأول، لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة أن يقتل منهم من أنبت ويخلي منهم من لم ينبت. وهذه مراعاة لإطاقة القتال لا للبلوغ. وقد روى أبو عمر في الاستيعاب عن سمرة بن جندب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عليه الغلمان من الأنصار فيلحق من أدرك منهم، فعرضت عليه عاما فألحق غلاما وردني، فقلت: يا رسول الله، ألحقته ورددتني، ولو صارعني صرعته قال: فصارعني فصرعته فألحقني. وأما العبيد فلا يسهم لهم أيضا ويرضخ لهم.

 

الكافر إذا حضر بإذن الإمام وقاتل ففي الإسهام له عندنا ثلاثة أقوال: الإسهام ونفيه، وبه قال مالك وابن القاسم. زاد ابن حبيب: ولا نصيب لهم. ويفرق في الثالث - وهو لسحنون - بين أن يستقل المسلمون بأنفسهم فلا يسهم له، أو لا يستقلوا ويفتقروا إلى معونته فيسهم له. فإن لم يقاتل فلا يستحق شيئا. وكذلك العبيد مع الأحرار. وقال الثوري والأوزاعي: إذا استعين بأهل الذمة أسهم لهم. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يسهم لهم، ولكن يرضخ لهم. وقال الشافعي رضي الله عنه: يستأجرهم الإمام من مال لا مالك له بعينه. فإن لم يفعل أعطاهم سهم النبي صلى الله عليه وسلم. وقال في موضع آخر: يرضخ للمشركين إذا قاتلوا مع المسلمين. قال أبو عمر: اتفق الجميع أن العبد، وهو ممن يجوز أمانه، إذا قاتل لم يسهم له ولكن يرضخ، فالكافر بذلك أولى ألا يسهم له.

 

لو خرج العبد وأهل الذمة لصوصا وأخذوا مال أهل الحرب فهو لهم ولا يخمس، لأنه لم يدخل في عموم قوله عز وجل: « وأعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه » أحد منهم ولا من النساء. فأما الكفار فلا مدخل لهم من غير خلاف. وقال سحنون. لا يخمس ما ينوب العبد. وقال ابن القاسم: يخمس، لأنه يجوز أن يأذن له سيده في القتال ويقاتل على الدين، بخلاف الكافر. وقال أشهب في كتاب محمد: إذا خرج العبد والذمي من الجيش وغنما فالغنيمة للجيش دونهم.

 

سبب استحقاق السهم شهود الوقعة لنصر المسلمين، على ما تقدم. فلو شهد آخر الوقعة استحق. ولو حضر بعد انقضاء القتال فلا. ولو غاب بانهزام فكذلك. فإن كان قصد التحيز إلى فئة فلا يسقط استحقاقه. روى البخاري وأبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبان بن سعيد على سرية من المدينة قبل نجد، فقدم أبان بن سعيد وأصحابه على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر بعد أن فتحها، وإن حزم خيلهم ليف، فقال أبان: اقسم لنا يا رسول الله. قال أبو هريرة: فقلت لا تقسم لهم يا رسول الله. فقال أبان: أنت بها يا وبرا تحدر علينا من رأس ضال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اجلس يا أبان ) ولم يقسم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

واختلف العلماء فيمن خرج لشهود الوقعة فمنعه العذر منه كمرض، ففي ثبوت الإسهام له ونفيه ثلاثة أقوال: يفرق في الثالث، وهو المشهور، فيثبته إن كان الضلال قبل القتال وبعد الإدراب، وهو الأصح، قاله ابن العربي. وينفيه إن كان قبله. وكمن بعثه الأمير من الجيش في أمر من مصلحة الجيش فشغله ذلك عن شهود الوقعة فإنه يسهم له، قاله ابن المواز، ورواه ابن وهب وابن نافع عن مالك. وروي لا يسهم له بل يوضخ له لعدم السبب الذي يستحق به السهم، والله أعلم. وقال أشهب: يسهم للأسير وإن كان في الحديد. والصحيح أنه لا يسهم له، لأنه ملك مستحق بالقتال، فمن غاب أو حضر مريضا كمن لم يحضر.

 

الغائب المطلق لا يسهم له، ولم يسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لغائب قط إلا يوم خيبر، فإنه أسهم لأهل الحديبية من حضر منهم ومن غاب، لقول الله عز وجل: « وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها » [ الفتح: 20 ] ، قاله موسى بن عقبة. وروي ذلك عن جماعة من السلف. وقسم يوم بدر لعثمان ولسعيد بن زيد وطلحة، وكانوا غائبين، فهم كمن حضرها إن شاء الله تعالى. فأما عثمان فإنه تخلف على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمره من أجل مرضها. فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره، فكان كمن شهدها. وأما طلحة بن عبيدالله فكان بالشام في تجارة فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره، فيعد لذلك في أهل بدر. وأما سعيد بن زيد فكان غائبا بالشام أيضا فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره. فهو معدود في البدريين. قال ابن العربي: أما أهل الحديبية فكان ميعادا من الله اختص به أولئك النفر فلا يشاركهم فيه غيرهم. وأما عثمان وسعيد وطلحة فيحتمل أن يكون أسهم لهم من الخمس، لأن الأمة مجمعة على أن من بقي لعذر فلا يسهم له.

قلت: الظاهر أن ذلك مخصوص بعثمان وطلحة وسعيد فلا يقاس عليهم غيرهم. وأن سهمهم كان من صلب الغنيمة كسائر من حضرها لا من الخمس. هذا الظاهر من الأحاديث والله أعلم. وقد روى البخاري عن ابن عمر قال: لما تغيب عثمان عن بدر فإنه كان تحته ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه ) .

 

قوله تعالى: « إن كنتم آمنتم بالله » قال الزجاج عن فرقة: المعنى فأعلموا أن الله مولاكم إن كنتم، فـ ( إن ) متعلقة بهذا الوعد. وقالت فرقة: إن ( إن ) متعلقة بقوله « وأعلموا أنما غنمتم » . قال ابن عطية: وهذا هو الصحيح، لأن قوله « واعلموا » يتضمن الأمر بالانقياد والتسليم لأمر الله في الغنائم، فعلق ( إن ) بقوله: « واعلموا » على هذا المعنى، أي إن كنتم مؤمنين بالله فانقادوا وسلموا لأمر الله فيما أعلمكم به من حال قسمة الغنيمة.

 

قوله تعالى: « وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان » ( ما ) في موضع خفض عطف على اسم الله « يوم الفرقان » أي اليوم الذي فرقت فيه بين الحق والباطل، وهو يوم بدر. « يوم التقى الجمعان » حزب الله وحزب الشيطان.

 

الآية: 42 ( إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم )

 

قوله تعالى: « إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى » أي أنزلنا إذ أنتم على هذه الصفة. أو يكون المعنى: واذكروا إذ أنتم. والعدوة: جانب الوادي. وقرئ بضم العين وكسرها، فعلى الضم يكون الجمع عدى، وعلى الكسر عدى، مثل لحية ولحى، وفرية وفرى. والدنيا: تأنيث الأدنى. والقصوى: تأنيث الأقصى. من دنا يدنو، وقصا يقصو. ويقال: القصيا، والأصل الواو، وهي لغة أهل الحجاز قصوى. فالدنيا كانت مما يلي المدينة، والقصوى مما يلي مكة. أي إذ أنتم نزول بشفير الوادي بالجانب الأدنى إلى المدينة، وعدوكم بالجانب الأقصى. « والركب أسفل منكم » يعني ركب أبي سفيان وغيره. كانوا في موضع أسفل منهم إلى ساحل البحر فيه الأمتعة. وقيل: هي الإبل التي كانت تحمل أمتعتهم، وكانت في موضع يأمنون عليها توفيقا من الله عز وجل لهم، فذكرهم نعمه عليهم. « الركب » ابتداء « أسفل منكم » ظرف في موضع الخبر. أي مكانا أسفل منكم. وأجاز الأخفش والكسائي والفراء « والركب أسفل منكم » أي أشد تسفلا منكم. والركب جمع راكب. ولا تقول العرب: ركب إلا للجماعة الراكبي الإبل. وحكى ابن السكيت وأكثر أهل اللغة أنه لا يقال راكب وركب إلا للذي على الإبل، ولا يقال لمن كان على فرس أو غيرها راكب. والركب والأركب والركبان والراكبون لا يكونون إلا على جمال، عن ابن فارس. « ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد » أي لم يكن يقع الاتفاق لكثرتهم وقلتكم، فإنكم لو عرفتم كثرتهم لتأخرتم فوفق الله عز وجل لكم. « ليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك » من نصر المؤمنين وإظهار الدين. واللام في ( ليقضي ) متعلقة بمحذوف. والمعنى: جمعهم ليقضي الله، ثم كررها فقال: « يهلك » أي جمعهم هنالك ليقضي أمرا. « من هلك » ( من ) في موضع رفع. ( ويحيا ) في موضع نصب عطف على ليهلك. والبينة إقامة الحجة والبرهان. أي ليموت من يموت عن بينة رآها وعبرة عاينها، فقامت عليه الحجة. وكذلك حياة من يحيا. وقال ابن إسحاق: ليكفر من كفر بعد حجة قامت عليه وقطعت عذره، ويؤمن من آمن على ذلك. وقرئ « من حيي » بياءين على الأصل. وبياء واحدة مشددة، الأولى قراءة أهل المدينة والبزي وأبي بكر. والثانية قراءة الباقين، وهي اختيار أبي عبيد، لأنها كذلك وقعت في المصحف.

 

الآيتان: 43 - 44 ( إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور، وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور )

 

قوله تعالى: « إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا » قال مجاهد: رآهم النبي صلى الله عليه وسلم في منامه قليلا، فقص ذلك على أصحابه، فثبتهم الله بذلك. وقيل: عني بالمنام محل النوم وهو العين، أي في موضع منامك، فحذف، عن الحسن. قال الزجاج: وهذا مذهب حسن، ولكن الأولى أسوغ في العربية، لأنه قد جاء « وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم » فدل بهذا على أن هذه رؤية الالتقاء، وأن تلك رؤية النوم. ومعنى « لفشلتم » لجبنتم عن الحرب. « ولتنازعتم في الأمر » اختلفتم. « ولكن الله سلم » أي سلمكم من المخالفة. ابن عباس: من الفشل. ويحتمل منهما. وقيل: سلم أي أتم أمر المسلمين بالظفر.

 

قوله تعالى: « وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا » هذا في اليقظة. يجوز حمل الأولى على اليقظة أيضا إذا قلت: المنام موضع النوم، وهو العين، فتكون الأولى على هذا خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهذه للجميع. قال ابن مسعود: قلت لإنسان كان بجانبي يوم بدر: أتراهم سبعين؟ فقال: هم نحو المائة. فأسرنا رجلا فقلنا: كم كنتم ؟ فقال: كنا ألفا. « ويقللكم في أعينهم » كان هذا في ابتداء القتال حتى قال أبو جهل في ذلك اليوم: إنما هم أكلة جزور، خذوهم أخذا واربطوهم بالحبال. فلما أخذوا في القتال عظم المسلمون في أعينهم فكثروا، كما قال: « يرونهم مثليهم رأي العين » [ آل عمران: 13 ] بيانه. « ليقضي الله أمرا كان مفعولا » تكرر هذا، لأن المعنى في الأول من اللقاء، وفي الثاني من قتل المشركين وإعزاز الدين، وهو إتمام النعمة على المسلمين. « وإلى الله ترجع الأمور » أي مصيرها ومردها إليه.

 

الآية: 45 ( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون )

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة » أي جماعة « فاثبتوا » أمر بالثبات عند قتال الكفار، كما في الآية قبلها النهي عن الفرار عنهم، فالتقى الأمر والنهي على سواء. وهذا تأكيد على الوقوف للعدو والتجلد له.

 

قوله تعالى: « واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون » للعلماء في هذا الذكر ثلاثة أقوال: الأول: اذكروا الله عند جزع قلوبكم، فإن ذكره يعين على الثبات في الشدائد. الثاني: اثبتوا بقلوبكم، واذكروه بألسنتكم، فإن القلب لا يسكن عند اللقاء ويضطرب اللسان، فأمر بالذكر حتى يثبت القلب على اليقين، ويثبت اللسان على الذكر، ويقول ما قاله أصحاب طالوت: « ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين » [ البقرة: 250 ] . وهذه الحالة لا تكون إلا عن قوة المعرفة، واتقاد البصيرة، وهي الشجاعة المحمودة في الناس. الثالث: اذكروا ما عندكم من وعد الله لكم في ابتياعه أنفسكم ومثامنته لكم.

قلت: والأظهر أنه ذكر اللسان الموافق للجنان. قال محمد بن كعب القرظي: لو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا، يقول الله عز وجل: « ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا » [ آل عمران: 41 ] . ولرخص للرجل يكون في الحرب، يقول الله عز وجل: « إذا لقيتم فئة فاثبوا واذكروا الله كثيرا » . وقال قتادة: افترض الله جل وعز ذكره على عباده، أشغل ما يكونون عند الضراب بالسيوف. وحكم هذا الذكر أن يكون خفيا، لأن رفع الصوت في مواطن القتال رديء مكروه إذا كان الذاكر واحدا. فأما إذا كان من الجميع عند الحملة فحسن، لأنه يفت في أعضاد العدو. وروى أبو داود عن قيس بن عباد قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون الصوت عند القتال. وروى أبو بردة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك. قال ابن عباس: يكره التلثم عند القتال. قال ابن عطية: وبهذا والله أعلم استن المرابطون بطرحه عند القتال على صيانتهم به.

 

الآية: 46 ( وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين )

 

قوله تعالى: « وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا » هذا استمرار على الوصية لهم، والأخذ على أيديهم في اختلافهم في أم بدر وتنازعهم. « فتفشلوا » نصب بالفاء في جواب النهي. ولا يجيز سيبويه حذف الفاء والجزم وأجازه الكسائي. وقرئ « تفشلوا » بكسر الشين. وهو غير معروف. « وتذهب ريحكم » أي قوتكم ونصركم، كما تقول: الريح لفلان، إذا كان غالبا في الأمر قال الشاعر:

إذا هبت رياحك فاغتنم فإن لكل خافقة سكون

وقال قتادة وابن زيد: إنه لم يكن نصر قط إلا بريح تهب فتضرب في وجوه الكفار. ومنه قوله عليه السلام: ( نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور ) . قال الحكم: « وتذهب ريحكم » يعني الصبا، إذ بها نصر محمد عليه الصلاة والسلام وأمته. وقال مجاهد: وذهبت ريح أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين نازعوه يوم أحد. « واصبروا إن الله مع الصابرين » أمر بالصبر، وهو محمود في كل المواطن وخاصة موطن الحرب، كما قال: « إذا لقيتم فئة فاثبتوا » .

 

الآية: 47 ( ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط )

 

يعني أبا جهل وأصحابه الخارجين يوم بدر لنصرة العير. خرجوا بالقيان والمغنيات والمعازف، فلما وردوا الجحفة بعث خفاف الكناني - وكان صديقا لأبي جهل - بهدايا إليه مع ابن له، وقال: إن شئت أمددتك بالرجال، وإن شئت أمددتك بنفسي مع من خف من قومي. فقال أبو جهل: إن كنا نقاتل الله كما يزعم محمد، فوالله ما لنا بالله من طاقة. وإن كنا نقاتل الناس فوالله إن بنا على الناس لقوة، والله لا نرجع عن قتال محمد حتى نرد بدرا فنشرب فيها الخمور، وتعزف علينا القيان، فإن بدرا موسم من مواسم العرب، وسوق من أسواقهم، حتى تسمع العرب بمخرجنا فتهابنا آخر الأبد. فوردوا بدرا ولكن جرى ما جرى من هلاكهم. والبطر في اللغة: التقوية بنعم الله عز وجل وما ألبسه من العافية على المعاصي. وهو مصدر في موضع الحال. أي خرجوا بطرين مرائين صادين. وصدهم إضلال الناس.

 

الآية: 48 ( وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب )

 

قوله تعالى: « وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون » روي أن الشيطان تمثل لهم يومئذ في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، وهو من بني بكر بن كنانة، وكانت قريش تخاف من بني بكر أن يأتوهم من ورائهم، لأنهم قتلوا رجلا منهم. فلما تمثل لهم قال ما أخبر الله به عنه. وقال الضحاك: جاءهم إبليس يوم بدر برايته وجنوده، وألقى في قلوبهم أنهم لن يهزموا وهم يقاتلون على دين آبائهم. وعن ابن عباس قال: أمد الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة، فكان جبريل عليه السلام في خمسمائة من الملائكة مجنبة، وميكائيل في خمسمائة من الملائكة مجنبة. وجاء إبليس في جند من الشياطين ومعه راية في صورة رجال من بني مدلج، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم. فقال الشيطان للمشركين: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم، فلما اصطف القوم قال أبو جهل: اللهم أولانا بالحق فأنصره. ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقال: ( يا رب إنك تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا ) . فقال جبريل: ( خذ قبضة من التراب ) فأخذ قبضة من التراب فرمى بها وجوههم، فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه. فولوا مدبرين، وأقبل جبريل عليه السلام إلى إبليس فلما رآه كانت يده في يد رجل من المشركين انتزع إبليس يده ثم ولى مدبرا وشيعته، فقال له الرجل: يا سراقة، ألم تزعم أنك لنا جار، قال: إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون. ذكره البيهقي وغيره. وفي موطأ مالك عن إبراهيم بن أبي عبلة عن طلحة بن عبيدالله بن كريز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ما رأى الشيطان نفسه يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر ) قيل: وما رأى يوم بدر يا رسول الله؟ قال ( أما إنه رأى جبريل يزع الملائكة ) . ومعنى نكص: رجع بلغة سليم، عن مؤرج وغيره. وقال الشاعر:

ليس النكوص على الأدبار مكرمة إن المكارم إقدام على الأسل

وقال آخر:

وما ينفع المستأخرين نكوصهم ولا ضر أهل السابقات التقدم

وليس ههنا قهقرى بل هو فرار، كما قال: ( إذا سمع الأذان أدبر وله ضراط ) . « إني أخاف الله » قيل: خاف إبليس أن يكون يوم بدر اليوم الذي أنظر إليه. وقيل: كذب إبليس في قوله: « إني أخاف الله » ولكن علم أنه لا قوة له. ويجمع جار على أجوار وجيران، وفي القليل جيرة.

 

الآية: 49 ( إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم )

 

قيل: المنافقون: الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر. والذين في قلوبهم مرض: الشاكون، وهم دون المنافقين، لأنهم حديثو عهد بالإسلام، وفيهم بعض ضعف نية. قالوا عند الخروج إلى القتال وعند التقاء الصفين: غر هؤلاء دينهم. وقيل: هما واحد، وهو أولى. ألا ترى إلى قوله عز وجل: « الذين يؤمنون بالغيب » [ البقرة: 3 ] ثم قال « والذين يؤمنون بما أنزل إليك » [ البقرة: 4 ] وهما لواحد.

 

الآيتان: 50 - 51 ( ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق، ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد )

 

قيل: أراد من بقي ولم يقتل يوم بدر. وقيل: هي فيمن قتل ببدر. وجواب « لو » محذوف، تقديره: لرأيت أمرا عظيما. « يضربون » في موضع الحال. « وجوههم وأدبارهم » أي أستاههم، كنى عنها بالأدبار، قاله مجاهد وسعيد بن جبير. الحسن: ظهورهم، وقال: إن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشراك؟ قال: ( ذلك ضرب الملائكة ) . وقيل: هذا الضرب يكون عند الموت. وقد يكون يوم القيامة حين يصيرون بهم إلى النار. « وذوقوا عذاب الحريق » قال الفراء: المعنى ويقولون ذوقوا، فحذف. وقال الحسن: هذا يوم القيامة، تقول لهم خزنة جهنم: ذوقوا عذاب الحريق. وروي أن في بعض التفاسير أنه كان مع الملائكة مقامع من حديد، كلما ضربوا التهبت النار في الجراحات، فذلك قوله: « وذوقوا عذاب الحريق » . والذوق يكون محسوسا ومعنى. وقد يوضع موضع الابتلاء والاختبار، تقول: اركب هذا الفرس فذقه. وأنظر فلانا فذق ما عنده. قال الشماخ يصف فرسا:

فذاق فأعطته من اللين جانبا كفى ولها أن يغرق السهم حاجز

وأصله من الذوق بالفم. « ذلك » في موضع رفع؛ أي الأمر ذلك. أو « ذلك » جزاؤكم. « بما قدمت أيديكم » أي اكتسبتم من الآثام. « وأن الله ليس بظلام للعبيد » إذ قد أوضح السبيل وبعث الرسل، فلم خالفتم؟. « وأن » في موضع خفض عطف على « ما » وإن شئت نصبت، بمعنى وبأن، وحذفت الباء. أو بمعنى: وذلك أن الله. ويجوز أن يكون في موضع رفع نسقا على ذلك.

 

الآية: 52 ( كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب )

 

الدأب العادة. وقد تقدم في « آل عمران » . أي العادة في تعذيبهم عند قبض الأرواح وفي القبور كعادة آل فرعون. وقيل: المعنى جوزي هؤلاء بالقتل والسبي كما جوزي آل فرعون بالغرق. أي دأبهم كدأب آل فرعون.

 

الآية: 53 ( ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم )

 

تعليل. أي هذا العقاب، لأنهم غيروا وبدلوا، ونعمة الله على قريش الخصب والسعة، والأمن والعافية. « أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم » [ العنكبوت:67 ] الآية. وقال السدي: نعمة الله عليهم محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا به، فنقل إلى المدينة وحل بالمشركين العقاب.

 

الآية: 54 ( كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين )

 

ليس هذا بتكرير، لأن الأول للعادة في التكذيب، والثاني للعادة في التغيير، وباقي الآية بين.

 

الآيتان: 55 - 56 ( إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون، الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون )

 

قوله تعالى: « إن شر الدواب عند الله » أي من يدب على وجه الأرض في علم الله وحكمه.

 

قوله تعالى: « الذين كفروا فهم لا يؤمنون » نظيره « الصم البكم الذين لا يعقلون » [ الأنفال: 22 ] . ثم وصفهم فقال: « الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون » أي لا يخافون الانتقال. « ومن » في قوله « منهم » للتبعيض، لأن العهد إنما يجري مع أشرافهم ثم ينقصونه. والمعني بهم قريظة والنضير، في قول مجاهد وغيره. نقضوا العهد فأعانوا مشركي مكة بالسلاح، ثم اعتذروا فقالوا: نسينا، فعاهدهم عليه السلام ثانية فنقضوا يوم الخندق.

 

الآية: 57 ( فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون )

 

قوله تعالى: « فإما تثقفنهم في الحرب » شرط وجوابه. ودخلت النون توكيدا لما دخلت ما، هذا قول البصريين. وقال الكوفيون: تدخل النون الثقيلة والخفيفة مع « إما » في المجازاة للفرق بين المجازاة والتخيير. ومعنى « تثقفنهم » تأسرهم وتجعلهم في ثقاف، أو تلقاهم بحال ضعف، تقدر عليهم فيها وتغلبهم. وهذا لازم من اللفظ؛ لقول: « في الحرب » . وقال بعض الناس: تصادفنهم وتلقاهم. يقال: ثقفته أثقفه ثقفا، أي وجدته. وفلان ثقف لقف أي سريع الوجود لما يحاوله ويطلبه. وثقف لقف. وامرأة ثقاف. والقول الأول أولى؛ لارتباطه بالآية كما بينا. والمصادف قد يغلب فيمكن التشريد به، وقد لا يغلب. والثقاف في اللغة: ما يشد به القناة ونحوها. ومنه قول النابغة:

تدعو قعينا وقد عض الحديد بها عض الثقاف على صم الأنابيب

 

قوله تعالى: « فشرد بهم من خلفهم » قال سعيد بن جبير: المعنى أنذر بهم من خلفهم. قال أبو عبيد: هي لغة قريش، شرد بهم سمع بهم. وقال الضحاك: نكل بهم. الزجاج: افعل بهم فعلا من القتل تفرق به من خلفهم. والتشريد في اللغة: التبديد والتفريق، يقال: شردت بني فلان قلعتهم عن مواضعهم وطردتهم عنها حتى فارقوها. وكذلك الواحد، تقول: تركته شريدا عن وطنه وأهله. قال الشاعر من هذيل:

أطوف في الأباطح كل يوم مخافة أن يشرد بي حكيم

ومنه شرد البعير والدابة إذا فارق صاحبه. و « من » بمعنى الذي، قال الكسائي. وروي عن ابن مسعود « فشرذ » بالذال المعجمة، وهما لغتان. وقال قطرب: التشريذ ( بالذال المعجمة ) التنكيل. وبالدال المهملة التفريق، حكاه الثعلبي. وقال المهدوي: الذال لا وجه لها، إلا أن تكون بدلا من الدال المهملة لتقاربهما، ولا يعرف في اللغة « فشرذ » . وقرئ « من خلفهم » بكسر الميم والفاء. « لعلهم يذكرون » أي يتذكرون بوعدك إياهم. وقيل: هذا يرجع إلى من خلفهم، لأن من قتل لا يتذكر أي شرد بهم من خلفهم من عمل بمثل عملهم.

 

الآية: 58 ( وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين )

 

قوله تعالى: « وإما تخافن من قوم خيانة » أي غشا ونقضا للعهد. « فانبذ إليهم على سواء » وهذه الآية نزلت في بني قريظة وبني النضير. وحكاه الطبري عن مجاهد. قال ابن عطية: والذي يظهر في ألفاظ القرآن أن أم بني قريظة انقضى عند قول « فشرد بهم من خلفهم » ثم ابتدأ تبارك وتعالى في هذه الآية بأمره فيما يصنعه في المستقبل مع من يخاف منه خيانة، فتترتب فيهم هذه الآية. وبنو قريظة لم يكونوا في حد من تخاف خيانته، وإنما كانت خيانتهم ظاهرة مشهورة.

 

قال ابن العربي: فإن قيل كيف يجوز نقض العهد مع خوف الخيانة، والخوف ظن لا يقين معه، فكيف يسقط يقين العهد مع ظن الخيانة. فالجواب من وجهين: أحدهما - أن الخوف قد يأتي بمعنى اليقين، كما قد يأتي الرجاء بمعنى العلم، قال الله تعالى: « ما لكم لا ترجون لله وقارا » [ نوح: 13 ] . الثاني - إذا ظهرت آثار الخيانة وثبتت دلائلها، وجب نبذ العهد لئلا يوقع التمادي عليه في الهلكة، وجاز إسقاط اليقين هنا ضرورة. وأما إذا علم اليقين فيستغنى عن نبذ العهد إليهم، وقد سار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة عام الفتح، لما إذا اشتهر منهم نقض العهد من غير أن ينبذ إليهم عهدهم. والنبذ: الرمي والرفض. وقال الأزهري: معناه إذا عاهدت قوما فعلمت منهم النقض بالعهد فلا توقع بهم سابقا إلى النقض حتى تلقي إليهم أنك قد نقضت العهد والمواعدة، فيكونوا في علم النقض مستويين، ثم أوقع بهم. قال النحاس: هذا من معجز ما جاء في القرآن مما لا يوجد في الكلام مثله على اختصاره وكثرة معانيه. والمعنى: وإما تخافن من قوم بينك وبينهم عهد خيانة فأنبذ إليهم العهد، أي قل لهم قد نبذت إليكم عهدكم، وأنا مقاتلكم، ليعلموا ذلك فيكونوا معك في العلم سواء، ولا تقاتلهم وبينك وبينهم عهد وهم يثقون بك، فيكون ذلك خيانة وغدرا. ثم بين هذا بقوله: « إن الله لا يحب الخائنين » .

قلت: ما ذكره الأزهري والنحاس من إنباذ العهد مع العلم بنقضه يرده فعل النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة، فإنهم لما نقضوا لم يوجه إليهم بل قال: ( اللهم اقطع خبري عنهم ) وغزاهم. وهو أيضا معنى الآية، لأن في قطع العهد منهم ونكثه مع العلم به حصول نقض عهدهم والاستواء معهم. فأما مع غير العلم بنقض العهد منهم فلا يحل ولا يجوز. روى الترمذي وأبو داود عن سليم بن عامر قال: كان بين معاوية والروم عهد وكان يسير نحو بلادهم ليقرب حتى إذا انقضى العهد غزاهم، فجاءه رجل على فرس أو برذون وهو يقول: الله أكبر، الله أكبر، وفاء لا غدر، فنظروا فإذا هو عمرو بن عنبسة، فأرسل إليه معاوية فسأل فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء ) فرجع معاوية بالناس. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. والسواء: المساواة والاعتدال. وقال الراجز

فاضرب وجوه الغدر الأعداء حتى يجيبوك إلى السواء

وقال الكسائي: السواء العدل. وقد يكون بمعنى الوسط، ومنه قوله تعالى: « في سواء الجحيم » [ الصافات: 55 ] . ومنه قول حسان:

يا ويح أصحاب النبي ورهطه بعد المغيب في سواء الملحد

الفراء: ويقال « فانبذ إليهم على سواء » جهرا لا سرا.

 

روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره ألا ولا غادر أعظم غدرا من أمير عامة ) . قال علماؤنا رحمة الله عليهم: إنما كان الغدر في حق الإمام أعظم وأفحش منه في غيره لما في ذلك من المفسدة، فإنما إذا غدروا وعلم ذلك منهم ولم ينبذوا بالعهد لم يأمنهم العدو على عهد ولا صلح، فتشتد شوكته ويعظم ضرره، ويكون ذلك منفرا عن الدخول في الدين، وموجبا لذم أئمة المسلمين. فأما إذا لم يكن للعدو عهد فينبغي أن يتحيل عليه بكل حيلة، وتدار عليه كل خديعة. وعليه يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: ( الحرب خدعة ) . وقد اختلف العلماء هل يجاهد مع الإمام الغادر، على قولين. فذهب أكثرهم إلى أنه لا يقاتل معه، بخلاف الخائن والفاسق. وذهب بعضهم إلى الجهاد معه. والقولان في مذهبنا.

 

الآية: 59 ( ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون )

 

قوله تعالى: « ولا يحسبن الذين كفروا » أي من أفلت من وقعة بدر سبق إلى الحياة. ثم استأنف فقال: « إنهم لا يعجزون » أي في الدنيا حتى يظفرك الله بهم. وقيل: يعني في الآخرة. وهو قول الحسن. وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة « يحسبن » بالياء والباقون بالتاء، على أن يكون في الفعل ضمير الفاعل. و « الذين كفروا » مفعول أول. و « سبقوا » مفعول ثان. وأما قراءة الياء فزعم جماعة من النحويين منهم أبو حاتم أن هذا لحن لا تحل القراءة به، ولا تسمع لمن عرف الإعراب أو عرفه. قال أبو حاتم: لأنه لم يأت لـ « يحسبن » بمفعول وهو يحتاج إلى مفعولين. قال النحاس: وهذا تحامل شديد، والقراءة تجوز ويكون المعنى: ولا يحسبن من خلفهم الذين كفروا سبقوا، فيكون الضمير يعود على ما تقدم، إلا أن القراءة بالتاء أبين. المهدوي: ومن قرأ بالياء احتمل أن يكون في الفعل ضمير النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون « الذين كفروا سبقوا » المفعولين. ويجوز أن يكون « الذين كفروا » فاعلا، والمفعول الأول محذوف، المعنى: ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا. مكي: ويجوز أن يضمر مع سبقوا أن، فيسد مسد المفعولين والتقدير: ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا، فهو مثل « أحسب الناس أن يتركوا » [ العنكبوت: 2 ] في سد أن مسد المفعولين. وقرأ ابن عامر « أنهم لا يعجزون » بفتح الهمزة. واستبعد هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد. قال أبو عبيد: وإنما يجوز على أن يكون المعنى: ولا تحسبن الذين كفروا أنهم لا يعجزون. قال النحاس: الذي ذكره أبو عبيد لا يجوز عند النحويين البصريين، لا يجوز حسبت زيدا أنه خارج، إلا بكسر الألف، وإنما لم يجز لأنه في موضع المبتدأ، كما تقول: حسبت زيدا أبوه خارج، ولو فتحت لصار المعنى حسبت زيدا خروجه. وهذا محال، وفيه أيضا من البعد أنه لا وجه لما قال يصح به معنى، إلا أن يجعل « لا » زائدة، ولا وجه لتوجيه حرف في كتاب الله عز وجل إلى التطول بغير حجة يجب التسليم لها. والقراءة جيدة على أن يكون المعنى: لأنهم لا يعجزون. مكي: فالمعنى لا يحسبن الكفار أنفسهم فأتوا لأنهم لا يعجزون، أي لا يفوتون. فـ « أن » في موضع نصب بحذف اللام، أو في موضع خفض على إعمال اللام لكثرة حذفها مع « أن » ، وهو يروى عن الخليل والكسائي. وقرأ الباقون بكسر « إن » على الاستئناف والقطع مما قبله، وهو الاختيار، لما فيه من معنى التأكيد، ولأن الجماعة عليه. وروي عن ابن محيصن أنه قرأ « لا يعجزون » بالتشديد وكسر النون. النحاس: وهذا خطأ من وجهين: أحدهما أن معنى عجزه ضعفه وضعف أمره. والآخر - أنه كان يجب أن يكون بنونين. ومعنى أعجزه سبقه وفاته حتى لم يقدر عليه.

 

الآية: 60 ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون )

 

قوله تعالى: « وأعدوا لهم » أمر الله سبحانه المؤمنين بإعداد القوة للأعداء بعد أن أكد تقدمة التقوى. فإن الله سبحانه لو شاء لهزمهم بالكلام والتفل في وجوههم وبحفنة من تراب، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكنه أراد أن يبتلي بعض الناس ببعض بعلمه السابق وقضائه النافذ. وكلما تعده لصديقك من خير أو لعدوك من شر فهو داخل في عدتك. قال ابن عباس: القوة ههنا السلاح والقسي. وفي صحيح مسلم عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ) . وهذا نص رواه عن عقبة أبو علي ثمامة بن شفي الهمداني، وليس له في الصحيح غيره. وحديث آخر في الرمي عن عقبة أيضا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم الله فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه ) . وقال صلى الله عليه وسلم: ( كل شيء يلهو به الرجل باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته أهله فإنه من الحق ) . ومعنى هذا والله أعلم: أن كل ما يتلهى به الرجل مما لا يفيده في العاجل ولا في الآجل فائدة فهو باطل، والإعراض عنه أولى. وهذه الأمور الثلاثة فإنه وإن كان يفعلها على أنه يتلهى بها وينشط، فإنها حق لاتصالها بما قد يفيد، فإن الرمي بالقوس وتأديب الفرس جميعا من معاون القتال. وملاعبة الأهل قد تؤدي إلى ما يكون عنه ولد يوحد الله ويعبده، فلهذا كانت هذه الثلاثة من الحق. وفي سنن أبي داود والترمذي والنسائي عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله يدخل ثلاثة نفر الجنة بسهم واحد صانعه يحتسب في صنعته الخير والرامي ومبله ) . وفضل الرمي عظيم ومنفعته عظيمة للمسلمين، ونكايته شديدة على الكافرين. قال صلى الله عليه وسلم: ( يا بني إسماعيل ارموا فإن أباكم كان راميا ) . وتعلم الفروسية واستعمال الأسلحة فرض كفاية. وقد يتعين. « ومن رباط الخيل » وقرأ الحسن وعمرو بن دينار وأبو حيوة « ومن ربط الخيل » بضم الراء والباء، جمع رباط، ككتاب وكتب قال أبو حاتم عن ابن زيد: الرباط من الخيل الخمس فما فوقها، وجماعته ربط. وهي التي ترتبط، يقال منه: ربط يربط ربطا. وارتبط يرتبط ارتباطا. ومربط الخيل ومرابطها وهي ارتباطها بإزاء العدو. قال الشاعر:

أمر الإله بربطها لعدوه في الحرب إن الله خير موفق

وقال مكحول بن عبدالله:

تلوم على ربط الجياد وحبسها وأوصى بها الله النبي محمدا

ورباط الخيل فضل عظيم ومنزلة شريفة. وكان لعروة البارقي سبعون فرسا معدة للجهاد. والمستحب منها الإناث، قال عكرمة وجماعة. وهو صحيح، فإن الأنثى بطنها كنز وظهرها عز. وفرس جبريل كان أنثى. وروى الأئمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الخيل ثلاثة لرجل أجر ولرجل ستر ولرجل وزر ) الحديث. ولم يخص ذكرا من أنثى. وأجودها أعظمها أجرا وأكثرها نفعا. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الرقاب أفضل؟ فقال: ( أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها ) . وروى النسائي عن أبي وهب الجشمي - وكانت له صحبة - قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( تسموا بأسماء الأنبياء وأحب الأسماء إلى الله عز وجل عبدالله وعبدالرحمن وارتبطوا الخيل وامسحوا بنواصيها وأكفالها وقلدوها ولا تقلدوها الأوتار وعليكم بكل كميت أغر محجل أو أشقر أغر محجل أو أدهم أغر محجل ) . وروى الترمذي عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خير الخيل الأدهم الأقرح الأرثم ثم الأقرح المحجل طلق اليمين فإن لم يكن أدهم فكميت على هذه الشية ) . ورواه الدارمي عن أبي قتادة أيضا، أن رجلا قال: يا رسول الله، إني أريد أن أشتري فرسا، فأيها أشتري؟ قال: ( اشتر أدهم أرثم محجلا طلق اليد اليمنى أو من الكميت على هذه الشية تغنم وتسلم ) . وكان صلى الله عليه وسلم يكره الشكال من الخيل. والشكال: أن يكون الفرس في رجله اليمنى بياض وفي يده اليسرى، أو في يده اليمنى ورجله اليسرى. خرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه. ويذكر أن الفرس الذي قتل عليه الحسين بن علي رضي الله عنهما كان أشكل.

 

فإن قيل: إن قوله « وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة » كان يكفي، فلم خص الرمي والخيل بالذكر؟ قيل له: إن الخيل لما كانت أصل الحروب وأوزارها التي عقد الخير في نواصيها، وهي أقوى القوة وأشد العدة وحصون الفرسان، وبها يجال في الميدان، خصها بالذكر تشريفا، وأقسم بغبارها تكريما. فقال: « والعاديات ضبحا » [ العاديات: 1 ] الآية. ولما كانت السهام من أنجع ما يتعاطى في الحروب والنكاية في العدو وأقربها تناولا للأرواح، خصها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذكر لها والتنبيه عليها. ونظير هذا في التنزيل، « وجبريل وميكال » [ البقرة: 98 ] ومثله كثير.

 

وقد استدل بعض علمائنا بهذه الآية على جواز وقف الخيل والسلاح، واتخاذ الخزائن والخزان لها عدة للأعداء. وقد اختلف العلماء في جواز وقف الحيوان كالخيل والإبل على قولين: المنع، وبه قال أبو حنيفة. والصحة، وبه قال الشافعي رضي الله عنه. وهو أصح، لهذه الآية، ولحديث ابن عمر في الفرس الذي حمل عليه في سبيل الله وقوله عليه السلام في حق خالد: ( وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا فإنه قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله ) الحديث. وما روي أن امرأة جعلت بعيرا في سبيل الله، فأراد زوجها الحج، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( ادفعيه إليه ليحج عليه فإن الحج من سبيل الله ) . ولأنه مال ينتفع به في وجه قربة، فجاز أن يوقف كالرباع. وقد ذكر السهيلي في هذه الآية تسمية خيل النبي صلى الإله عليه وسلم، وآلة حربه. من أرادها وجدها في كتاب الأعلام.

 

قوله تعالى: « ترهبون به عدو الله وعدوكم » يعني تخيفون به عدو الله وعدوكم من اليهود وقريش وكفار العرب. « وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم » يعني فارس والروم، قاله السدي. وقيل: الجن. وهو اختيار الطبري. وقيل: المراد بذلك كل من لا تعرف عداوته. قال السهيلي: قيل لهم قريظة. وقيل: هم من الجن. وقيل غير ذلك. ولا ينبغي أن يقال فيهم شيء، لأن الله سبحانه قال: « وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم » ، فكيف يدعي أحد علما بهم، إلا أن يصح حديث جاء في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قوله في هذه الآية: ( هم الجن ) . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الشيطان لا يخبل أحدا في دار فيها فرس عتيق ) وإنما سمي عتيقا لأنه قد تخلص من الهجانة. وهذا الحديث أسنده الحارث بن أبي أسامة عن ابن المليكي عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروي: أن الجن لا تقرب دارا فيها فرس، وأنها تنفر من صهيل الخيل. « وما تنفقوا من شيء » أي تتصدقوا. وقيل: تنفقوه على أنفسكم أو خيلكم. « في سبيل الله يوف إليكم » في الآخرة، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة. « وأنتم لا تظلمون » .

 

الآية: 61 ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم )

 

قوله تعالى: « وإن جنحوا للسلم فاجنح لها » إنما قال « لها » لأن السلم مؤنثة. ويجوز أن يكون التأنيث للفعلة. والجنوح الميل. يقول: إن مالوا - يعني الذين نبذ إليهم عهدهم - إلى المسالمة، أي الصلح، فمل إليها. وجنح الرجل إلى الآخر: مال إليه، ومنه قيل للأضلاع جوانح، لأنها مالت على الحشوة. وجنحت الإبل: إذا مالت أعناقها في السير. وقال ذو الرمة:

إذا مات فوق الرحل أحييت روحه بذكراك والعيس المراسيل جنح

وقال النابغة:

جوانح قد أيقن أن قبيله إذا ما التقى الجمعان أول غالب

يعني الطير. وجنح الليل إذا أقبل وأمال أطنابه على الأرض. والسلم والسلام هو الصلح. وقرأ الأعمش وأبو بكر وابن محيصن والمفضل « للسلم » بكسر السين. الباقون بالفتح. وقد تقدم معنى ذلك في « البقرة » مستوفى. وقد يكون السلام من التسليم. وقرأ الجمهور « فاجنح » بفتح النون، وهي لغة تميم. وقرأ الأشهب العقيلي « فاجنح » بضم النون، وهي لغة قيس. قال ابن جني: وهذه اللغة هي القياس.

 

وقد اختلف في هذه الآية، هل هي منسوخة أم لا. فقال قتادة وعكرمة: نسخها « فاقتلوا المشركين حيث وجدتموه » [ التوبة: 5 ] . « وقاتلوا المشركين كافة » [ التوبة: 36 ] وقالا: نسخت براءة كل موادعة، حتى يقولوا لا إله إلا الله. ابن عباس: الناسخ لها « فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم » [ محمد: 35 ] . وقيل: ليست بمنسوخة، بل أراد قبول الجزية من أهل الجزية. وقد صالح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده من الأئمة كثيرا من بلاد العجم، على ما أخذوه منهم، وتركوهم على ما هم فيه، وهم قادرون على استئصالهم. وكذلك صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا من أهل البلاد على مال يؤدونه، من ذلك خيبر، رد أهلها إليها بعد الغلبة على أن يعملوا ويؤدوا النصف. قال ابن إسحاق: قال مجاهد عنى بهذه الآية قريظة، لأن الجزية تقبل منهم، فأما المشركون فلا يقبل منهم شيء. وقال السدي وابن زيد.: معنى الآية إن دعوك إلى الصلح فأجبهم. ولا نسخ فيها. قال ابن العربي: وبهذا يختلف الجواب عنه، وقد قال الله عز وجل: « فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم » [ محمد: 35 ] . فإذا كان المسلمون على عزة وقوة ومنعة، وجماعة عديدة، وشدة شديدة فلا صلح، كما قال:

فلا صلح حتى تطعن الخيل بالقنا وتضرب بالبيض الرقاق الجماجم

وإن كان للمسلمين مصلحة في الصلح، لنفع يجتلبونه، أو ضرر يدفعونه، فلا بأس أن يبتدئ المسلمون به إذا احتاجوا إليه. وقد صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على شروط نقضوها فنقض صلحهم. وقد صالح الضمري وأكيدر دومة وأهل نجران، وقد هادن قريشا لعشرة أعوام حتى نقضوا عهده. وما زالت الخلفاء والصحابة على هذه السبيل التي شرعناها سالكة، وبالوجوه التي شرحناها عاملة. قال القشيري: إذا كانت القوة للمسلمين فينبغي ألا تبلغ الهدنة سنة. وإذا كانت القوة للكفار جاز مهادنتهم عشر سنين، ولا تجوز الزيادة. وقد هادن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة عشر سنين. قال ابن المنذر: اختلف العلماء في المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وبين أهل مكة عام الحديبية، فقال عروة: كانت أربع سنين. وقال ابن جريج: كانت ثلاث سنين. وقال ابن إسحاق: كانت عشر سنين. وقال الشافعي رحمه الله: لا تجوز مهادنة المشركين أكثر من عشر سنين، على ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فإن هودن المشركون أكثر من ذلك فهي منتقضة، لأن الأصل فرض قتال المشركين حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية. وقال ابن حبيب عن مالك رضي الله عنه: تجوز مهادنة المشركين السنة والسنتين والثلاث، وإلى غير مدة. قال المهلب: إنما قاضاهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه القضية التي ظاهرها الوهن على المسلمين، لسبب حبس الله ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة، حين توجه إليها فبركت. وقال: ( حبسها حابس الفيل ) . على ما خرجه البخاري من حديث المسور بن مخرمة. ودل على جواز صلح المشركين ومهادنتهم دون مال يؤخذ منهم، إذا رأى ذلك الإمام وجها. ويجوز عند الحاجة للمسلمين عقد الصلح بمال يبذلونه للعدو، لموادعة النبي صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن الفزاري، والحارث بن عوف المري يوم الأحزاب، على أن يعطيهما ثلث ثمر المدينة، وينصرفا بمن معهما من غطفان ويخذلا قريشا، ويرجعا بقومهما عنهم. وكانت هذه المقالة مراوضة ولم تكن عقدا. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما أنهما قد أنابا ورضيا استشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فقالا: يا رسول الله، هذا أمر تحبه فنصنعه لك، أو شيء أمرك الله به فنسمع له ونطيع، أو أمر تصنعه لنا؟ فقال: ( بل أمر أصنعه لكم فإن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة ) ، فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، والله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة، إلا شراء أو قرى، فحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له وأعزنا بك، نعطيهم أموالنا! والله لا نعطيهم إلا السيف، حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ( أنتم وذاك ) . وقال لعيينة والحارث: ( انصرفا فليس لكما عندنا إلا السيف ) . وتناول سعد الصحيفة، وليس فيها شهادة أن لا إله إلا الله فمحاها.

 

الآيتان: 62 - 63 ( وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين، وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم )

 

قوله تعالى: « وإن يريدوا أن يخدعوك » أي بأن يظهروا لك السلم، ويبطنوا الغدر والخيانة، فاجنح فما عليك من نياتهم الفاسدة. « فإن حسبك الله » كافيك الله، أي يتولى كفايتك وحياطتك. قال الشاعر:

إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا فحسبك والضحاك سيف مهند

أي كافيك وكافي الضحاك سيف.

 

قوله تعالى: « هو الذي أيدك بنصره » أي قواك بنصره. يريد يوم بدر. « وبالمؤمنين » قال النعمان بن بشير: نزلت في الأنصار. « وألف بين قلوبهم » أي جمع بين قلوب الأوس والخزرج. وكان تألف القلوب مع العصبية الشديدة في العرب من آيات النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته، لأن أحدهم كان يلطم اللطمة فيقاتل عنها حتى يستقيدها. وكانوا أشد خلق الله حمية، فألف الله بالإيمان بينهم، حتى قاتل الرجل أباه وأخاه بسبب الدين. وقيل: أراد التأليف بين المهاجرين والأنصار. والمعنى متقارب.

 

الآية: 64 ( يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين )

 

ليس هذا تكريرا، فإنه قال فيما سبق: « وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله » وهذه كفاية خاصة. وفي قوله: « يا أيها النبي حسبك الله » أراد التعميم، أي حسبك الله في كل حال وقال ابن عباس: نزلت في إسلام عمر فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أسلم معه ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة، فأسلم عمر وصاروا أربعين. والآية مكية، كتبت بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في سورة مدنية، ذكره القشيري.

قلت: ما ذكره من إسلام عمر رضي الله عنه عن ابن عباس، فقد وقع في السيرة خلافه. عن عبدالله بن مسعود قال: ( ما كنا نقدر على أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه. وكان إسلام عمر بعه خروج من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة. ) قال ابن إسحاق: وكان جميع من لحق بأرض الحبشة وهاجر إليها من المسلمين، سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغارا أو ولدوا بها، ثلاثة وثمانين رجلا، إن كان عمار بن ياسر منهم. وهو يشك فيه. وقال الكلبي: نزلت الآية بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال.

 

قوله تعالى: « ومن اتبعك من المؤمنين » قيل: المعنى حسبك الله، وحسبك المهاجرون والأنصار. وقيل: المعنى كافيك الله، وكافي من تبعك، قال الشعبي وابن زيد. والأول عن الحسن. واختاره النحاس وغيره. فـ « من » على القول الأول في موضع رفع، عطفا على اسم الله تعالى. على معنى: فإن حسبك الله وأتباعك من المؤمنين. وعلى الثاني على إضمار. ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: ( يكفينيه الله وأبناء قيلة ) . وقيل: يجوز أن يكون المعنى « ومن اتبعك من المؤمنين » حسبهم الله، فيضمر الخبر. ويجوز أن يكون « من » في موضع نصب، على معنى: يكفيك الله ويكفي من اتبعك.

 

الآيتان: 65 - 66 ( يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون، الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين )

 

قوله تعالى: « يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال » أي حثهم وحضهم. يقال: حارض على الأمر وواظب وأكب بمعنى واحد. والحارض: الذي قد قارب الهلاك، ومنه قوله عز وجل: « حتى تكون حرضا » [ يوسف: 85 ] أي تذوب غما، فتقارب الهلاك فتكون من الهالكين. « إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين » لفظ خبر، ضمنه وعد بشرط، لأن معناه إن يصبر منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين. وعشرون وثلاثون وأربعون كل واحد منها اسم موضوع على صورة الجمع لهذا العدد. ويجري هذا الاسم مجرى فلسطين. فإن قال قائل: لم كسر أول عشرين وفتح أول ثلاثين وما بعده إلى الثمانين إلا ستين؟ فالجواب عند سيبويه أن عشرين من عشرة بمنزلة اثنين من واحد، فكسر أول عشرين كما كسر اثنان. والدليل على هذا قولهم: ستون وتسعون، كما قيل: ستة وتسعة. وروى أبو داود عن ابن عباس قال: نزلت « إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين » فشق ذلك على المسلمين، حين فرض الله عليهم ألا يفر واحد من عشرة، ثم إنه جاء التخفيف فقال: « ألآن خفف الله عنكم » قرأ أبو توبة إلى قوله: « مائة صابرة يغلبوا مائتين » . قال: فلما خفف الله تعالى عنهم من العدد نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم. وقال ابن العربي: قال قوم إن هذا كان يوم بدر ونسخ. وهذا خطأ من قائله. ولم ينقل قط أن المشركين صافوا المسلمين عليها، ولكن الباري جل وعز فرض ذلك عليهم أولا، وعلق ذلك بأنكم تفقهون ما تقاتلون عليه، وهو الثواب. وهم لا يعلمون ما يقاتلون عليه.

قلت: وحديث ابن عباس يدل على أن ذلك فرض. ثم لما شق ذلك عليهم حط الفرض إلى ثبوت الواحد للاثنين، فخفف عنهم وكتب عليهم ألا يفر مائة من مائتين، فهو على هذا القول تخفيف لا نسخ. وهذا حسن. وقد ذكر القاضي ابن الطيب أن الحكم إذا نسخ بعضه أو بعض أوصافه، أو غير عدده فجائز أن يقال إنه نسخ، لأنه حينئذ ليس بالأول، بل هو غيره. وذكر في ذلك خلافا.

 

الآية: 67 ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم )

 

قوله تعالى: « أسرى » جمع أسير، مثل قتيل وقتلى وجريح وجرحى. ويقال في جمع أسير أيضا: أسارى ( بضم الهمزة ) وأسارى ( بفتحها ) وليست بالعالية. وكانوا يشدون الأسير بالقد وهو الإسار، فسمي كل أخيذ وإن لم يؤسر أسيرا. قال الأعشى:

وقيدني الشعر في بيته كما قيد الآسرات الحمارا

وقد مضى هذا في سورة « البقرة » . وقال أبو عمر بن العلاء: الأسرى هم غير الموثقين عند ما يؤخذون، والأسارى هم الموثقون ربطا. وحكى أبو حاتم أنه سمع هذا من العرب.

 

هذه الآية نزلت يوم بدر، عتابا من الله عز وجل لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم. والمعنى: ما كان ينبغي لكم أن تفعلوا هذا الفعل الذي أوجب أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم أسرى قبل الإثخان. ولهم هذا الإخبار بقوله « تريدون عرض الدنيا » . والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحرب، ولا أراد قط عرض الدنيا، وإنما فعله جمهور مباشري الحرب، فالتوبيخ والعتاب إنما كان متوجها بسبب من أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ الفدية. هذا قول أكثر المفسرين، وهو الذي لا يصح غيره. وجاء ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الآية حين لم ينه عنه حين رآه من العريش وإذ كره سعد بن معاذ وعمر بن الخطاب وعبدالله بن رواحة، ولكنه عليه السلام شغله بغت الأمر ونزول النصر فترك النهي عن الاستبقاء، ولذلك بكى هو وأبو بكر حين نزلت الآيات. والله أعلم. روى مسلم من حديث عمر بن الخطاب، وقد تقدم أول في « آل عمران » وهذا تمامه. قال أبو زميل: قال ابن عباس فلما أسروا الأسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: ( ما ترون في هؤلاء الأسارى ) ؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله، هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما ترى يا ابن الخطاب ) ؟ قلت: لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم، فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكني من فلان ( نسيبا لعمر ) فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت، فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان، فقلت: يا رسول الله، أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة ) ( شجرة قريبة كانت من نبي الله صلى الله عليه وسلم ) وأنزل الله عز وجل « ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض » إلى قوله تعالى: « فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا » [ الأنفال: 69 ] فأحل الله الغنيمة لهم.

وروى يزيد بن هارون قال: أخبرنا يحيى قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبدالله قال: لما كان يوم بدر جيء بالأسارى وفيهم العباس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما ترون في هؤلاء الأسارى ) فقال أبو بكر: يا رسول الله قومك وأهلك، استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم. وقال عمر: كذبوك وأخرجوك وقاتلوك، قدمهم فأضرب أعناقهم. وقال عبدالله بن رواحة: انظر واديا كثير الحطب فأضرمه عليهم. فقال العباس وهو يسمع: قطعت رحمك. قال: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليهم شيئا. فقال أناس: يأخذ بقول أبي بكر رضي الله عنه. وقال أناس: يأخذ بقول عمر. وقال أناس: يأخذ بقول عبدالله بن رواحة. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن ويشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة. ) . مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال « فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم » [ إبراهيم: 36 ] ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى إذ قال « إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم » [ المائدة: 118 ] . ومثلك يا عمر كمثل نوج عليه السلام إذ قال « رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا » [ نوح: 26 ] . ومثلك يا عمر مثل موسى عليه السلام إذ قال « ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم » [ يونس: 88 ] أنتم عالة فلا ينفلتن أحد إلا بفداء أو ضربة عنق ) . فقال عبدالله: إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فما رأيتني أخوف أن تقع علي الحجارة من السماء مني في ذلك اليوم. فأنزل الله عز وجل: « ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض » إلى آخر الآيتين. في رواية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن كاد ليصيبنا في خلاف ابن الخطاب عذاب ولو نزل عذاب ما أفلت إلا عمر ) . وروى أبو داود عن عمر قال: لما كان يوم بدر وأخذ - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - الفداء، أنزل الله عز وجل « ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض » إلى قوله « لمسكم فيما أخذتم - من الفداء - عذاب عظيم » [ الأنفال:68 ] . ثم أحل الغنائم. وذكر القشيري أن سعد بن معاذ قال: يا رسول الله، إنه أول وقعة لنا مع المشركين فكان الإثخان أحب إلي. والإثخان: كثرة القتل، عن مجاهد وغيره. أي يبالغ في قتل المشركين. تقول العرب: أثخن فلان في هذا الأمر أي بالغ. وقال بعضهم: حتى يقهر ويقتل. وأنشد المفضل:

تصلي الضحى ما دهرها بتعبد وقد أثخنت فرعون في كفره كفرا

وقيل: « حتى يثخن » يتمكن. وقيل: الإثخان القوة والشدة. فأعلم الله سبحانه وتعالى أن قتل الأسرى الذين فودوا ببدر كان أولى من فدائهم. وقال ابن عباس رضي الله عنه: كان هذا يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل، فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله عز وجل بعد هذا في الأسارى: « فإما منا بعد وإما فداء » [ محمد: 4 ] على ما يأتي بيانه في سورة « القتال » إن شاء الله تعالى. وقد قيل: إنما عوتبوا لأن قضية بدر كانت عظيمة الموقع والتصريف في صناديد قريش وأشرافهم وساداتهم وأموالهم بالقتل والاسترقاق والتملك. وذلك كله عظيم الموقع فكان حقهم أن ينتظروا الوحي ولا يستعجلوا، فلما استعجلوا ولم ينتظروا توجه عليهم ما توجه. والله أعلم.

 

أسند الطبري وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس: ( إن شئتم أخذتم فداء الأسارى ويقتل منكم في الحرب سبعون على عددهم وإن شئتم قتلوا وسلمتم ) . فقالوا: نأخذ الفداء ويستشهد منا سبعون. وذكر عبد بن حميد بسنده أن جبريل عليه السلام نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بتخيير الناس هكذا. وقد مضى في « آل عمران » القول في هذا. وقال عبيدة السلماني: طلبوا الخيرتين كلتيهما، فقتل منهم يوم أحد سبعون. وينشأ هنا إشكال وهو أن يقال: إذا كان التخيير فكيف وقع التوبيخ بقوله « لمسكم » . فالجواب - أن التوبيخ وقع أولا لحرصهم على أخذ الفداء، ثم وقع التخيير بعد ذلك. ومما يدل على ذلك أن المقداد قال حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل عقبة بن أبي معيط: أسيري يا رسول الله. وقال مصعب بن عمير الذي أسر أخاه: شد عليه يدك، فإن له أما موسرة. إلى غير ذلك من قصصهم وحرصهم على أخذ الفداء. فلما تحصل الأسارى وسيقوا إلى المدينة وأنفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم القتل في النضر وعقبة وغيرهما وجعل يرتئي في سائرهم نزل التخيير من الله عز وجل، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه حينئذ. فمر عمر على أول رأيه في القتل، ورأى أبو بكر المصلحة في قوه المسلمين بمال الفداء. ومال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رأي أبي بكر. وكلا الرأيين اجتهاد بعد تخيير. فلم ينزل بعد على هذا شيء من تعنيت. والله أعلم.

 

قال ابن وهب: قال مالك كان ببدر أسارى مشركون فأنزل الله « ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض » . وكانوا يومئذ مشركين وفادوا ورجعوا، ولو كانوا مسلمين لأقاموا ولم يرجعوا. وكان عدة من قتل منهم أربعة وأربعين رجلا، ومثلهم أسروا. وكان الشهداء قليلا. وقال أبو عمرو بن العلاء: إن القتلى كانوا سبعين، والأسرى كذلك. وكذلك قال ابن عباس وابن المسيب وغيرهم. وهو الصحيح كما في صحيح مسلم، فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين. وذكر البيهقي قالوا: فجيء بالأسارى وعليهم شقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم تسعة وأربعون رجلا الذين أحصوا، وهم سبعون في الأصل، مجتمع عليه لا شك فيه. قال ابن العربي: إنما قال مالك « وكانوا مشركين » لأن المفسرين رووا أن العباس قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني مسلم. وفي رواية أن الأسارى قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: آمنا بك. وهذا كله ضعفه مالك، واحتج على إبطاله بما ذكر من رجوعهم وزيادة عليه أنهم غزوه في أحد. قال أبو عمر بن عبدالبر: اختلفوا في وقت إسلام العباس، فقيل: أسلم قبل يوم بدر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( من لقي العباس فلا يقتله فإنما أخرج كرها ) . وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: ( إن أناسا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها لا حاجة لهم بقتالنا فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله ومن لقي أبا البختري فلا يقتله ومن لقي العباس فلا يقتله فإنه إنما أخرج مستكرها ) وذكر الحديث. وذكر أنه أسلم حين أسر يوم بدر. وذكر أنه أسلم عام خيبر، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأخبار المشركين، وكان يحب أن يهاجر فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أمكث بمكة فمقامك بها أنفع لنا ) .

 

الآية: 68 ( لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم )

 

قوله تعالى: « لولا كتاب من الله سبق » في أنه لا يعذب قوما حتى يبين لهم ما يتقون. واختلف الناس في كتاب الله السابق على أقوال، أصحها ما سبق من إحلال الغنائم، فإنها كانت محرمة على من قبلنا. فلما كان يوم بدر، أسرع الناس إلى الغنائم فأنزل الله عز وجل « لولا كتاب من الله سبق » أي بتحليل الغنائم. وروى أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا سلام عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: لما كان يوم بدر تعجل الناس إلى الغنائم فأصابوها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الغنيمة لا تحل لأحد سود الرؤوس غيركم ) . فكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذا غنموا الغنيمة جمعوها ونزلت نار من السماء فأكلتها، فأنزل الله تعالى: « لولا كتاب من الله سبق » إلى آخر الآيتين. وأخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وقال مجاهد والحسن. وعنهما أيضا وسعيد بن جبير: الكتاب السابق هو مغفرة الله لأهل بدر، ما تقدم أو تأخر من ذنوبهم. وقالت فرقة: الكتاب السابق هو عفو الله عنهم في هذا الذنب، معينا. والعموم أصح، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر في أهل بدر: ( وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال أعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) . خرجه مسلم. وقيل: الكتاب السابق هو ألا يعذبهم ومحمد عليه السلام فيهم. وقيل: الكتاب السابق هو ألا يعذب أحدا بذنب أتاه جاهلا حتى يتقدم إليه. وقالت فرقة: الكتاب السابق هو مما قضى الله من محو الصغائر باجتناب الكبائر. وذهب الطبري إلى أن هذه المعاني كلها داخلة تحت اللفظ وأنه يعمها، ونكب عن تخصيص معنى دون معنى.

 

ابن العربي: وفي الآية دليل على أن العبد إذا اقتحم ما يعتقده حراما مما هو في علم الله حلال له لا عقوبة عليه، كالصائم إذا قال: هذا يوم نوبي فأفطر الآن. أو تقول المرأة: هذا يوم حيضتي فأفطر، ففعلا ذلك، وكان النوب والحيض الموجبان للفطر، ففي المشهور من المذهب فيه الكفارة، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا كفارة عليه، وهي الرواية الأخرى. وجه الرواية الأولى أن طرو الإباحة لا يثبت عذرا في عقوبة التحريم عند الهتك، كما لو وطئ امرأة ثم نكحها. وجه الرواية الثانية أن حرمة اليوم ساقطة عند الله عز وجل فصادف الهتك محلا لا حرمة له في علم الله، فكان بمنزلة ما لو قصد وطء امرأة قد زفت إليه وهو يعتقدها أنها ليست بزوجته فإذا هي زوجته. وهذا أصح. والتعليل الأول لا يلزم، لأن علم الله سبحانه وتعالى مع علمنا قد استوى في مسألة التحريم، وفي مسألتنا اختلف فيها علمنا وعلم الله فكان المعول على علم الله. كما قال: « لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم » .

 

الآية: 69 ( فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم )

 

يقتضي ظاهره أن تكون الغنيمة كلها للغانمين، وأن يكونوا مشتركين فيها على السواء، إلا أن قوله تعالى: « واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه » [ الأنفال: 41 ] بين وجوب إخراج الخمس منه وصرفه إلى الوجوه المذكورة. وقد تقدم القول في هذا مستوفى.

 

الآيتان: 70 - 71 ( يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم، وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم )

 

قوله تعالى: « يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى » قيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وقيل: له وحده. وقال ابن عباس رضي الله عنه: الأسرى في هذه الآية عباس وأصحابه. قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أمنا بما جئت به، ونشهد أنك رسول الله، لننصحن لك على قومك، فنزلت هذه الآية. وقد تقدم بطلان هذا من قول مالك. وفي مصنف أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة. وعن ابن إسحاق: بعثت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أسراهم، ففدى كل قوم أسيرهم بما رضوا. وقال العباس: يا رسول الله، إني قد كنت مسلما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الله أعلم بإسلامك فإن يكن كما تقول فالله يجزيك بذلك فأما ظاهر أمرك فكان علينا فافد نفسك وابني أخويك نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب وعقيل بن أبي طالب وحليفك عتبة بن عمرو أخا بني الحارث بن فهر ) . وقال: ما ذاك عندي يا رسول الله. قال: ( فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل فقلت لها إن أصبت في سفري هذا فهذا المال لبني الفضل وعبدالله وقثم ) ؟ فقال: يا رسول الله، إني لأعلم أنك رسول الله، إن هذا لشيء ما علمه غيري وغير أم الفضل، فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم مني عشرين أوقية من مال كان معي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا ذاك شيء أعطانا الله منك ) . ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه، وأنزل الله فيه: « يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى » الآية. قال ابن إسحاق: وكان أكثر الأسارى فداء العباس بن عبدالمطلب، لأنه كان رجلا موسرا، فافتدى نفسه بمائة أوقية من ذهب. وفي البخاري: وقال موسى بن عقبة قال ابن شهاب: حدثني أنس بن مالك أن رجالا من الأنصار استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، ائذن لنا فلنترك لابن أختنا عباس فداءه. فقال: ( لا والله لا تذرون درهما ) . وذكر النقاش وغيره أن فداء كل واحد من الأسارى كان أربعين أوقية، إلا العباس فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أضعفوا الفداء على العباس ) وكلفه أن يفدي ابني أخويه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث فأدى عنهما ثمانين أوقية، وعن نفسه ثمانين أوقية وأخذ منه عشرون أوقية وقت الحرب. وذلك أنه كان أحد العشرة الذين ضمنوا الإطعام لأهل بدر، فبلغت النوبة إليه يوم بدر فاقتتلوا قبل أن يطعم، وبقيت العشرون معه فأخذت منه وقت الحرب، فأخذ منه يومئذ مائة أوقية وثمانون أوقية. فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: لقد تركتني ما حييت أسأل قريشا بكفي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أين الذهب الذي تركته عند امرأتك أم الفضل ) ؟ فقال العباس: أي ذهب؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنك قلت لها لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حدث فهو لك ولولدك ) فقال: يا ابن أخي، من أخبرك بهذا؟ قال: ( الله أخبرني ) . قال العباس: أشهد أنك صادق، وما علمت أنك رسول الله قط إلا اليوم، وقد علمت أنه لم يطلعك عليه إلا عالم السرائر، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، وكفرت بما سواه. وأمر ابني أخويه فأسلما، ففيهما نزلت « يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى » . وكان الذي أسر العباس أبا اليسر كعب بن عمرو أخا بني سلمة، وكان رجلا قصيرا، وكان العباس ضخما طويلا، فلما جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( لقد أعانك عليه ملك ) .

 

قوله تعالى: « إن يعلم الله في قلوبكم خيرا » أي إسلاما. « يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم » أي من الفدية. قيل في الدنيا. وقيل في الآخرة. وفي صحيح مسلم أنه لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم مال من البحرين قال له العباس: إني فاديت نفسي وفاديت عقيلا. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خذ ) فبسط ثوبه وأخذ ما استطاع أن يحمله. مختصر. في غير الصحيح: فقال له العباس هذا خير مما أخذ مني، وأنا بعد أرجو أن يغفر الله لي. قال العباس: وأعطاني زمزم، وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة. وأسند الطبري إلى العباس أنه قال: في نزلت حين أعلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامي، وسألته أن يحاسبني بالعشرين أوقية التي أخذت مني قبل المفاداة فأبى. وقال: ( ذلك فيء ) فأبدلني الله من ذلك عشرين عبدا كلهم تاجر بمالي. وفي مصنف أبي داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب في فداء أبي العاص بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت عند خديجة أدخلتها بها على أبي العاص. قالت: فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة وقال: ( إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها ) ؟ فقالوا: نعم. وكان النبي صلى الله عليه وسلم أخذ عليه أو وعده أن يخلي سبيل زينب إليه. بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلا من الأنصار فقال: ( كونا ببطن يأجج حتى تمر بكما زينب فتصحباها حتى تأتيا بها ) . قال ابن إسحاق: وذلك بعد بدر بشهر. قال عبدالله بن أبي بكر: حدثت عن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها قالت: لما قدم أبو العاص مكة قال لي: تجهزي، فالحقي بأبيك. قالت: فخرجت أتجهز فلقيتني هند بنت عتبة فقالت: يا بنت محمد، ألم يبلغني أنك تريدين اللحوق بأبيك؟ فقلت لها: ما أردت ذلك. فقالت، أي بنت عم، لا تفعلي، إني امرأة موسرة وعندي سلع من حاجتك، فإن أردت سلعة بعتكها، أو قرضا من نفقة أقرضتك، فإنه لا يدخل بين النساء ما بين الرجال. قالت: فوالله ما أراها قالت ذلك إلا لتفعل، فخفتها فكتمتها وقلت: ما أريد ذلك. فلما فرغت زينب من جهازها ارتحلت وخرج بها حموها يقود بها نهارا كنانة بن الربيع. وتسامع بذلك أهل مكة، وخرج في طلبها هبار بن الأسود ونافع بن عبدالقيس الفهري، وكان أول من مبق إليها هبار فروعها بالرمح وهي في هودجها. وبرك كنانة ونثر نبله، ثم أخذ قوسه وقال: والله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهما. وأقبل أبو سفيان في أشراف قريش فقال: يا هذا، أمسك عنا نبلك حتى نكلمك، فوقف عليه أبو سفيان وقال: إنك لم تصنع شيئا، خرجت بالمرأة على رؤوس الناس، وقد عرفت مصيبتنا التي أصابتنا ببدر فتظن العرب وتتحدث أن هذا وهن منا وضعف خروجك إليه بابنته على رؤوس الناس من بين أظهرنا. أرجع بالمرأة فأقم بها أياما، ثم سلها سلا رفيقا في الليل فألحقها بأبيها، فلعمري ما لنا بحبسها عن أبيها من حاجة، وما لنا في ذلك الآن من ثورة فيما أصاب منا، ففعل فلما مر به يومان أو ثلاثة سلها، فانطلقت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا أنها قد كانت ألقت - للروعة التي أصابتها حين روعها هبار بن أم درهم - ما في بطنها.

 

قال ابن العربي: « لما أسر من أسر من المشركين تكلم قوم منهم بالإسلام ولم يمضوا فيه عزيمة ولا اعترفوا به اعترافا جازما. ويشبه أنهم أرادوا أن يقربوا من المسلمين ولا يبعدوا من المشركين. قال علماؤنا: إن تكلم الكافر بالإيمان في قلبه وبلسانه ولم يمض فيه عزيمة لم يكن مؤمنا. وإذا وجد مثل ذلك من المؤمن كان كافرا، إلا ما كان من الوسوسة التي لا يقدر على دفعها فإن الله قد عفا عنها وأسقطها. وقد بين الله لرسوله صلى الله عليه وسلم الحقيقة فقال: » إن يريدوا خيانتك « أي إن كان هذا القول منهم خيانة ومكرا » فقد خانوا الله من قبل « بكفرهم ومكرهم بك وقتالهم لك. وإن كان هذا القول منهم خيرا ويعلمه الله فيقبل منهم ذلك ويعوضهم خيرا مما خرج عنهم ويغفر لهم ما تقدم من كفرهم وخيانتهم ومكرهم » . وجمع خيانة خيائن، وكان يجب أن يقال: خوائن لأنه من ذوات الواو، إلا أنهم فرقوا بينه وبين جمع خائنة. ويقال: خائن وخوان وخونة وخانة.

 

الآية: 72 ( إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير )

 

قوله تعالى: « إن الذين آمنوا » ختم السورة بذكر الموالاة ليعلم كل فريق وليه الذي يستعين به. وقد تقدم معنى الهجرة والجهاد لغة ومعنى. « والذين آووا ونصروا » معطوف عليه. وهم الأنصار الذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم، وانضوى إليهم النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرون. « أولئك » رفع بالابتداء. « بعضهم » ابتداء ثان « أولياء بعض » خبره، والجميع خبر « إن » . قال ابن عباس: « أولياء بعض » في الميراث، فكانوا يتوارثون بالهجرة، وكان لا يرث من آمن ولم يهاجر من هاجر فنسخ الله ذلك بقول: « وأولوا الأرحام » الآية. أخرجه أبو داود. وصار الميراث لذوي الأرحام من المؤمنين. ولا يتوارث أهل ملتين شيئا. ثم جاء قوله عليه السلام: ( ألحقوا الفرائض بأهلها ) على ما تقدم بيانه في آية المواريث. وقيل: ليس هنا نسخ، وإنما معناه في النصرة والمعونة، كما تقدم في « النساء » . « والذين آمنوا » ابتداء والخبر « ما لكم من ولايتهم من شيء » وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة « من ولايتهم » بكسر الواو. وقيل هي لغة. وقيل: هي من وليت الشيء، يقال: ولي بين الولاية. ووال بين الولاية. والفتح في هذا أبين وأحسن، لأنه بمعنى النصرة والنسب. وقد تطلق الولاية والولاية بمعنى الإمارة.

 

قوله تعالى: « وإن استنصروكم في الدين » يريد إن دعوا هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا من أرض الحرب عونكم بنفير أو مال لاستنقاذهم فأعينوهم، فذلك فرض عليكم فلا تخذلوهم. إلا أن يستنصروكم على قوم كفار بينكم وبينهم ميثاق فلا تنصروهم عليه، ولا تنقضوا العهد حتى تتم مدته. ابن العربي: إلا أن يكونوا أسراء مستضعفين فإن الولاية معهم قائمة والنصرة لهم واجبة، حتى لا تبقى منا عين تطرف حتى نخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم حتى لا يبقى لأحد درهم. كذلك قال مالك وجميع العلماء، فإنا لله وإنا إليه راجعون، على ما حل بالخلق في تركهم إخوانهم في أسر العدو وبأيديهم خزائن الأموال، وفضول الأحوال والقدرة والعدد والقوة والجلد. الزجاج: ويجوز « فعليكم النصر » بالنصب على الإغراء.

 

الآية: 73 ( والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير )

 

قوله تعالى: « والذين كفروا بعضهم أولياء بعض » قطع الله الولاية بين الكفار والمؤمنين، فجعل المؤمنين بعضهم أولياء بعض، والكفار بعضهم أولياء بعض، يتناصرون بدينهم ويتعاملون باعتقادهم. قال علماؤنا في الكافرة يكون لها الأخ المسلم: لا يزوجها، إذ لا ولاية بينهما، ويزوجها أهل ملتها. فكما لا يزوج المسلمة إلا مسلم فكذلك الكافرة لا يزوجها إلا كافر قريب لها، أو أسقف، ولو من مسلم، إلا أن تكون معتقة، فإن عقد على غير المعتقة فسخ إن كان لمسلم، ولا يعرض للنصراني. وقال أصبغ: لا يفسخ، عقد المسلم أولى وأفضل.

 

قوله تعالى: « إلا تفعلوه » الضمير عائد على الموارثة والتزامها. المعنى: إلا تتركوهم يتوارثون كما كانوا يتوارثون، قاله ابن زيد. وقيل: هي عائدة على التناصر والمؤازرة والمعاونة واتصال الأيدي. ابن جريج وغيره: وهذا إن لم يفعل تقع الفتنة عنه عن قريب، فهو أكد من الأول. وذكر الترمذي عن عبدالله بن مسلم بن هرمز عن محمد وسعد ابني عبيد عن أبي حاتم المزني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ) . قالوا: يا رسول الله، وإن كان فيه؟ قال: ( إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ) ثلاث مرات. قال: حديث غريب. وقيل: يعود على حفظ العهد والميثاق الذي تضمنه قوله: « إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق » . وهذا وإن لم يفعل فهو الفتنة نفسها. وقيل: يعود على النصر للمسلمين في الدين. وهو معنى القول الثاني. قال ابن إسحاق: جعل الله المهاجرين والأنصار أهل ولايته في الدين دون من سواهم، وجعل الكافرين بعضهم أولياء بعض. ثم قال: « إلا تفعلوه » وهو أن يتولى المؤمن الكافر دون المؤمنين. « تكن فتنة » أي محنة بالحرب، وما أنجر معها من الغارات والجلاء والأسر. والفساد الكبير: ظهور الشرك. قال الكسائي: ويجوز النصب في قوله: « تكن فتنة » على معنى تكن فعلتكم فتنة وفسادا كبيرا.

 

الآيتان: 74 - 75 ( والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم، والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم )

 

قوله تعالى: « حقا » مصدر، أي حققوا إيمانهم بالهجرة والنصرة. وحقق الله إيمانهم بالبشارة في قوله: « لهم مغفرة ورزق كريم » أي ثواب عظيم في الجنة.

 

قوله تعالى: « والذين آمنوا من بعد وهاجروا » يريد من بعد الحديبية وبيعة الرضوان. وذلك أن الهجرة من بعد ذلك كانت أقل رتبة من الهجرة الأولى. والهجرة الثانية هي التي وقع فيها الصالح، ووضعت الحرب أوزارها نحو عامين ثم كان فتح مكة. ولهذا قال عليه السلام: ( لا هجرة بعد الفتح ) . فبين أن من آمن وهاجر من بعد يلتحق بهم. ومعنى « منكم » أي مثلكم في النصر والموالاة.

 

قوله تعالى: « وأولوا الأرحام » ابتداء. والواحد ذو، والرحم مؤنثة، والجمع أرحام. والمراد بها ههنا العصبات دون المولود بالرحم. ومما يبين أن المراد بالرحم العصبات قول العرب: وصلتك رحم. لا يريدون قرابة الأم. قالت قتيلة بنت الحارث - أخت النضر بن الحارث - كذا قال ابن هشام. قال السهيلي: الصحيح أنها بنت النضر لا أخته، كذا وقع في كتاب الدلائل - ترثي أباها حين قتله النبي صلى الله عليه وسلم صبرا - بالصفراء:

يا راكبا إن الأثيل مظنة من صبح خامسة وأنت موفق

أبلغ بها ميتا بأن تحية ما إن تزال بها النجائب تخفق

مني إليك وعبرة مسفوحة جادت بواكفها وأخرى تخنق

هل يسمعني النضر إن ناديته أم كيف يسمع ميت لا ينطق

أمحمد يا خير ضنء كريمة في قومها والفحل فحل معرق

ما كان ضرك لو مننت وربما من الفتى وهو المغيط المحنق

لو كنت قابل فدية لفديته بأعز ما يفدى به ما ينفق

فالنضر أقرب من أسرت قرابة وأحقهم إن كان عتق يعتق

ظلت سيوف بني أبيه تنوشه لله أرحام هناك تشقق

صبرا يقاد إلى المنية متعبا رسف المقيد وهو عان موثق

 

واختلف السلف ومن بعدهم في توريث ذوي الأرحام - وهو من لا سهم له في الكتاب - من قرابة الميت وليس بعصبة، كأولاد البنات، وأولاد الأخوات وبنات الأخ، والعمة والخالة، والعم أخ الأب للأم، والجد أبي الأم، والجدة أم الأم، ومن أدلى بهم. فقال قوم: لا يرث من لا فرض له من ذوي الأرحام. وروي عن أبي بكر الصديق وزيد بن ثابت وابن عمر، ورواية عن علي، وهو قول أهل المدينة، وروي عن مكحول والأوزاعي، وبه قال الشافعي رضي الله عنه. وقال بتوريثهم: عمر بن الخطاب وابن مسعود ومعاذ وأبو الدرداء وعائشة وعلي في رواية عنه، وهو قول الكوفيين وأحمد وإسحاق. واحتجوا بالآية، وقالوا: وقد اجتمع في ذوي الأرحام سببان القرابة والإسلام، فهم أولى ممن له سبب واحد وهو الإسلام. أجاب الأولون فقالوا: هذه آية مجملة جامعة، والظاهر بكل رحم قرب أو بعد، وآيات المواريث مفسرة والمفسر قاض على المجمل ومبين. قالوا: وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الولاء سببا ثابتا، أقام المولى فيه مقام العصبة فقال: ( الولاء لمن أعتق ) . ونهى عن بيع الولاء وعن هبته. احتج الآخرون بما روى أبو داود والدارقطني عن المقدام قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من ترك كلا فإلي - وربما قال فإلى الله وإلى رسوله - ومن ترك مالا فلورثته فأنا وارث من لا وارث له أعقل عنه وأرثه والخال وأرث من لا وارث له يعقل عنه. ويرثه ) . وروى الدارقطني عن طاوس قال قالت عائشة رضي الله عنها: ( الله مولى من لا مولى له، والخال وارث من لا وارث له ) . موقوف. وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الخال وارث ) . وروي عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ميراث العمة والخالة فقال ( لا أدري حتى يأتيني جبريل ) ثم قال: ( أين السائل عن ميراث العمة والخالة ) ؟ قال: فأتى الرجل فقال: ( سارني جبريل أنه لا شيء لهما ) . قال الدارقطني: لم يسنده غير مسعدة عن محمد بن عمرو وهو ضعيف، والصواب مرسل. وروي عن الشعبي قال قال زياد بن أبي سفيان لجليسه: هل تدري كيف قضى عمر في العمة والخالة؟ قال لا. قال: إني لأعلم خلق الله كيف قضى فيهما عمر، جعل الخالة بمنزلة الأم، والعمة بمنزلة الأب.

 

سورة التوبة

 

في أسمائها. قال سعيد بن جبير: سألت ابن عباس رضي الله عنه عن سورة براءة فقال: تلك الفاضحة ما زال ينزل: ومنهم ومنهم حتى خفنا ألا تدع أحدا. قال القشيري أبو نصر عبدالحميد: هذه السورة نزلت في غزوة تبوك ونزلت بعدها. وفي أولها نبذ عهود الكفار إليهم. وفي السورة كشف أسرار المنافقين. وتسمى الفاضحة والبحوث، لأنها تبحث عن أسرار المنافقين وتسمى المبعثرة والبعثرة: البحث.

 

واختلف العلماء في سبب سقوط البسملة من أول هذه السورة على أقوال خمسة: [ الأول ] أنه قيل كان من شأن العرب في زمانها في الجاهلية إذا كان بينهم وبين قوم عهد فإذا أرادوا نقضه كتبوا إليهم كتابا ولم يكتبوا فيه بسملة فلما نزلت سورة براءة بنقض العهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم علي ابن أبي طالب رضي الله عنه فقرأها عليهم في الموسم ولم يبسمل في ذلك على ما جرت به عادتهم في نقض العهد من ترك البسملة. وقول ثان: روى النسائي قال حدثنا أحمد قال حدثنا محمد بن المثنى عن يحيى بن سعيد قال حدثنا عوف قال حدثنا يزيد الرقاشي قال قال لنا ابن عباس: قلت لعثمان ما حملكم إلى أن عمدتم إلى [ الأنفال ] وهي من المثاني وإلى [ براءة ] وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطول فما حملكم على ذلك؟ قال عثمان: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول: ( ضعوا هذا في السورة التي فيها كذا وكذا ) . وتنزل عليه الآيات فيقول: ( ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ) . وكانت [ الأنفال ] من أوائل ما أنزلو [ براءة ] من آخر القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنه منها فظننت أنها منها فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم. وخرجه أبو عيسى الترمذي وقال: هدا حديث حسن. وقول ثالث: روي عن عثمان أيضا. وقال مالك فيما رواه ابن وهب وابن القاسم وابن عبدالحكم: إنه لما سقط أولها سقط بسم الله الرحمن الرحيم معه. وروي ذلك عن ابن عجلان أنه بلغه أن سورة [ براءة ] كانت تعدل البقرة أو قربها فذهب منها فلذلك لم يكتب بينهما بسم الله الرحمن الرحيم. وقال سعيد بن جبير: كانت مثل سورة البقرة. وقول رابع: قاله خارجة وأبو عصمة وغيرهما. قالوا: لما كتبوا المصحف في خلافة عثمان اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: براءة والأنفال سورة واحدة. وقال بعضهم: هما سورتان. فتركت بينهما فرجة لقول من قال أنهما سورتان وتركت بسم الله الرحمن الرحيم لقول من قال هما سورة واحدة فرضي الفريقان معا وثبتت حجتاهما في المصحف. وقول خامس: قال عبدالله بن عباس: سألت علي بن أبي طالب لم لم يكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم؟ قال: لأن بسم الله الرحمن الرحيم أمان وبراءة نزلت بالسيف ليس فيها أمان. وروي معناه عن المبرد قال: ولذلك لم يجمع بينهما فإن بسم الله الرحمن الرحيم رحمة وبراءة نزلت سخطة. ومثله عن سفيان. قال سفيان بن عيينة: إنما لم تكتب في صدر هذه السورة بسم الله الرحمن الرحيم لأن التسمية رحمة والرحمة أمان وهذه السورة نزلت في المنافقين وبالسيف ولا أمان للمنافقين. والصحيح أن التسمية لم تكتب لأن جبريل عليه السلام ما نزل بها في هذه السورة قاله القشيري. وفي قول عثمان: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها دليل على أن السور كلها انتظمت بقوله وتبيينه وأن براءة وحدها ضمت إلى الأنفال من غير عهد من النبي صلى الله عليه وسلم لما عاجله من الحمام قبل تبيينه ذلك. وكانتا تدعيان القرينتين فوجب أن تجمعا وتضم إحداهما إلى الأخرى للوصف الذي لزمهما من الاقتران ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي.

 

قال ابن العربي: هذا دليل على أن القياس أصل في الدين ألا ترى إلى عثمان وأعيان الصحابة كيف لجؤوا إلى قياس الشبه عند عدم النص ورأوا أن قصة [ براءة ] شبيهة بقصة [ الأنفال ] فألحقوها بها؟ فإذا كان الله تعالى قد بين دخول القياس في تأليف القرآن فما ظنك بسائر الأحكام.

 

الآية: 1 ( براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين )

 

قوله تعالى: « براءة » تقول: برئت من الشيء أبرأ براءة فأنا منه بريء إذا أزلته عن نفسك وقطعت سبب ما بينك وبينه. و « براءة » رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره هذه براءة. ويصح أن ترفع بالابتداء. والخبر في قوله: « إلى الذين » . وجاز الابتداء بالنكرة لأنها موصوفة فتعرفت تعريفا ما وجاز الإخبار عنها. وقرأ عيسى بن عمر « براءة » بالنصب على تقدير التزموا براءة ففيها معنى الإغراء. وهي مصدر على فعالة كالشناءة والدناءة.

 

قوله تعالى: « إلى الذين عاهدتم من المشركين » يعني إلى الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان المتولي للعقود وأصحابه بذلك كلهم راضون فكأنهم عاقدوا وعاهدوا فنسب العقد إليهم. وكذلك ما عقده أئمة الكفر على قومهم منسوب إليهم محسوب عليهم يؤاخذون به إذ لا يمكن غير ذلك فإن تحصيل الرضا من الجميع متعذر فإذا عقد الإمام لما يراه من المصلحة أمرا لزم جميع الرعايا.

 

الآية: 2 ( فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين )

 

قوله تعالى: « فسيحوا » رجع من الخبر إلى الخطاب أي قل لهم سيحوا أي سيروا في الأرض مقبلين ومدبرين آمنين غير خائفين أحدا من المسلمين بحرب ولا سلب ولا قتل ولا أسر. يقال ساح فلان في الأرض يسيح سياحة وسيوحا وسيحانا ومنه السيح في الماء الجاري المنبسط ومنه قول طرفة بن العبد:

لو خفت هذا منك ما نلتني حتى ترى خيلا أمامي تسيح

 

واختلف العلماء في كيفية هذا التأجيل وفي هؤلاء الذين برئ الله منهم ورسوله. فقال محمد بن إسحاق وغيره: هما صنفان من المشركين أحدهما كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر فأمهل تمام أربعة أشهر والآخر كانت مدة عهده بغير أجل محدود فقصر به على أربعة أشهر ليرتاد لنفسه. ثم هو حرب بعد ذلك لله ولرسوله وللمؤمنين يقتل حيث ما أدرك ويؤسر إلا أن يتوب وابتداء هذا الأجل يوم الحج الأكبر وانقضاؤه إلى عشر من شهر ربيع الآخر فأما من لم يكن له عهد فإنما أجله انسلاخ الأربعة الأشهر الحرم وذلك خمسون يوما: عشرون من ذي الحجة والمحرم. وقال الكلبي: إنما كانت الأربعة الأشهر لمن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد دون أربعة أشهر ومن كان عهده أكثر من أربعة أشهر فهو الذي أمر الله أن يتم له عهده بقوله « فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم » [ التوبة: 4 ] وهذا اختيار الطبري وغيره. وذكر محمد بن إسحاق ومجاهد وغيرهما: أن هذه الآية نزلت في أهل مكة. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح قريشا عام الحديبية، على أن يضعوا الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض، فدخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل بنو بكر في عهد قريش، فعدت بنو بكر على خزاعة ونقضوا عهدهم. وكان سبب ذلك دما كان لبني بكر عند خزاعة قبل الإسلام بمدة، فلما كانت الهدنة المنعقدة يوم الحديبية، أمن الناس بعضهم بعضا، فاغتنم بنو الديل من بني بكر - وهم الذين كان الدم لهم - تلك الفرصة وغفلة خزاعة، وأرادوا إدراك ثأر بني الأسود بن رزن، الذين قتلهم خزاعة، فخرج نوفل بن معاوية الديلي فيمن أطاعه من بني بكر بن عبد مناة، حتى بيتوا خزاعة واقتتلوا، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح، وقوم من قريش أعانوهم بأنفسهم، فانهزمت خزاعة إلى الحرم على ما هو مشهور مسطور، فكان ذلك نقضا للصلح الواقع يوم الحديبية، فخرج عمرو بن سالم الخزاعي وبديل بن ورقاء الخزاعي وقوم من خزاعة، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مستغيثين فيما أصابهم به بنو بكر وقريش، وأنشد عمرو بن سالم فقال:

يا رب إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه ألا تلدا

كنت لنا أبا وكنا ولدا ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا

فانصر هداك الله نصرا عتدا وادع عباد الله يأتوا مددا

فيهم رسول الله قد تجردا أبيض مثل الشمس ينمو صعدا

إن سيم خسفا وجهه تربدا في فليق كالبحر يجري مربدا

إن قريش أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا

وزعموا أن لست تدعو أحدا وهم أذل وأقل عددا

هم بيتونا بالوتير هجدا وقتلونا ركعا وسجدا

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا نصرت إن لم أنصر كعب ) . ثم نظر إلى سحابة فقال: ( إنها لتستهل لنصر بني كعب ) يعني خزاعة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبديل بن ورقاء ومن معه: ( إن أبا سفيان سيأتي ليشد العقد ويزيد في الصلح وسينصرف بغير حاجة ) . فندمت قريش على ما فعلت، فخرج أبو سفيان إلى المدينة ليستديم العقد ويزيد في الصلح، فرجع بغير حاجة كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ما هو معروف من خبره. وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ففتحها الله، وذلك في سنة ثمان من الهجرة. فلما بلغ هوازن فتح مكة جمعهم مالك بن عوف النصري، على ما هو معروف مشهور من غزاة حنين. وسيأتي بعضها. وكان الظفر والنصر للمسلمين على الكافرين. وكانت وقعة هوازن يوم حنين في أول شوال من السنة الثامنة من الهجرة. وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم الغنائم من الأموال والنساء، فلم يقسمها حتى أتى الطائف، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وعشرين ليلة. وقيل غير ذلك. ونصب عليهم المنجنيق ورماهم به، على ما هو معروف من تلك الغزاة. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجعرانة، وقسم غنائم حنين، على ما هو مشهور من أمرها وخبرها. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا، وأقام الحج للناس عتاب بن أسيد في تلك السنة. وهو أول أمير أقام الحج في الإسلام. وحج المشركون على مشاعرهم. وكان عتاب بن أسيد خيرا فاضلا ورعا. وقدم كعب بن زهير بن أبي سلمى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وامتدحه، وأقام على رأسه بقصيدته التي أولها:

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول

وأنشدها إلى آخرها، وذكر فيها المهاجرين فأثنى عليهم - وكان قبل دلك قد حفظ له هجاء في النبي صلى الله عليه وسلم - فعاب عليه الأنصار إذ لم يذكرهم، فغدا على النبي صلى الله عليه وسلم بقصيدة يمتدح فيها الأنصار فقال:

من سره كرم الحياة فلا يزل في مقنب من صالحي الأنصار

ورثوا المكارم كابرا عن كابر إن الخيار هم بنو الأخيار

المكرهين السمهري بأذرع كسوافل الهندي غير قصار

والناظرين بأعين محمرة كالجمر غير كليلة الأبصار

والبائعين نفوسهم لنبيهم للموت يوم تعانق وكرار

يتطهرون يرونه نسكا لهم بدماء من علقوا من الكفار

دربوا كما دربت ببطن خفية غلب الرقاب من الأسود ضوار

وإذا حللت ليمنعوك إليهم أصبحت عند معاقل الأغفار

ضربوا عليا يوم بدر ضربة دانت لوقعتها جميع نزار

لو يعلم الأقوام علمي كله فيهم لصدقني الذين أماري

قوم إذا خوت النجوم فإنهم للطارقين النازلين مقاري

ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد انصرافه من الطائف ذا الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وربيع الآخر وجمادى الأول وجمادى الآخر، وخرج في رجب من سنة تسع بالمسلمين إلى غزوة الروم غزوة تبوك. وهي شخر غزوة غزاها. قال ابن جريج عن مجاهد: لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك أراد الحج ثم قال: ( إنه يحضر البيت عراة مشركون يطوفون بالبيت فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك ) . فأرسل أبا بكر أميرا على الحج، وبعث معه بأربعين آية من صدر [ براءة ] ليقرأها على أهل الموسم. فلما خرج دعا النبي صلى الله عليه وسلم عليا وقال: ( أخرج بهذه القصة من صدر براءة فأذن بذلك في الناس إذا اجتمعوا ) . فخرج عليٌ على ناقة النبي صلى الله عليه وسلم العضباء حتى أدرك أبا بكر الصديق رضي الله عنهما بذي الحليفة. فقال له أبو بكر لما رآه: أمير أو مأمور؟ فقال: بل مأمور ثم نهضا، فأقام أبو بكر للناس الحج على منازلهم التي كانوا عليها في الجاهلية. في كتاب النسائي عن جابر وأن عليا قرأ على الناس [ براءة ] حتى ختمها قبل يوم التروية بيوم. وفي يوم عرفة وفي يوم النحر عند انقضاء خطبة أبي بكر في الثلاثة الأيام. فلما كان يوم النفر الأول قام أبو بكر فخطب الناس، فحدثهم كيف ينفرون وكيف يرمون، يعلمهم مناسكهم. فلما فرغ قام علي فقرأ على الناس [ براءة ] حتى ختمها. وقال سليمان بن موسى: لما خطب أبو بكر بعرفة قال قم يا علي فأد رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام علي ففعل. قال: ثم وقع في نفسي أن جميع الناس لم يشاهدوا خطبة أبي بكر، فجعلت أتتبع الفساطيط يوم النحر. وروى الترمذي عن زيد بن يثيع قال: سألت عليا بأي شيء بعثت في الحج؟ قال: بعثت بأربع: ألا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا. قال: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه النسائي وقال: فكنت أنادي حتى صحل صوتي. قال أبو عمر: بعث علي لينبذ إلى كل ذي عهد عهده، ويعهد إليهم ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. وأقام الحج في ذلك العام سنة تسع أبو بكر. ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم من قابل حجته التي لم يحج غيرها من المدينة، فوقعت حجته في ذي الحجة فقال: ( إن الزمان قد استدار... ) الحديث، على ما يأتي في آية النسيء بيانه. وثبت الحج في ذي الحجة إلى يوم القيامة. وذكر مجاهد: أن أبا بكر حج في ذي القعدة من سنة تسع. ابن العربي: وكانت الحكمة في إعطاء [ براءة ] لعلي أن براءة تضمنت نقض العهد الذي كان عقده النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت سيرة العرب ألا يحل العقد إلا الذي عقده أو رجل من أهل بيته، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع ألسنة العرب بالحجة، ويرسل ابن عمه الهاشمي من بيته ينقض العهد، حتى لا يبقى لهم متكلم. قال معناه الزجاج.

 

قال العلماء: وتضمنت الآية جواز قطع العهد بيننا وبين المشركين. ولذلك حالتان: حالة تنقضي المدة بيننا وبينهم فنؤذنهم بالحرب. والإيذان اختيار. والثانية: أن نخاف منهم غدرا، فننبذ إليهم عهدهم كما سبق. ابن عباس: والآية منسوخة فإن النبي صلى الله عليه وسلم عاهد ثم نبذ العهد لما أمر بالقتال.

 

الآية: 3 ( وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم )

 

قوله تعالى: « وأذان » الأذان: الإعلام لغة من غير خلاف. وهو عطف على « براءة » . « إلى الناس » الناس هنا جميع الخلق. « يوم الحج الأكبر » ظرف، والعامل فيه « أذان » . وإن كان قد وصف بقوله: « من الله » ، فإن رائحة الفعل فيه باقية، وهي عاملة في الظروف. وقيل: العامل فيه « مخزي » ولا يصح عمل « أذان » ، لأنه قد وصف فخرج عن حكم الفعل.

 

واختلف العلماء في الحج الأكبر، فقيل: يوم عرفة. روي عن عمر وعثمان وابن عباس وطاوس ومجاهد. وهو مذهب أبي حنيفة، وبه قال الشافعي. وعن علي وابن عباس أيضا وابن مسعود وابن أبي أوفى والمغيرة بن شعبة أنه يوم النحر. واختاره الطبري. وروى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر في الحجة التي حج فيها فقال: ( أي يوم هذا ) فقالوا: يوم النحر فقال: ( هذا يوم الحج الأكبر ) . أخرجه أبو داود. وخرج البخاري عن أبي هريرة قال: بعثني أبو بكر الصديق رضي الله عنه فيمن يؤذن يوم النحر بمنى: لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. ويوم الحج الأكبر يوم النحر. وإنما قيل الأكبر من أجل قول الناس: الحج الأصغر. فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام، فلم يحج عام حجة الوداع الذي حج فيه النبي صلى الله عليه وسلم مشرك. وقال ابن أبي أوفى: يوم النحر يوم الحج الأكبر، يهراق فيه الدم، ويوضع فيه الشعر، ويلقى فيه التفث، وتحل فيه الحرم. وهذا مذهب مالك، لأن يوم النحر فيه كالحج كله، لأن الوقوف إنما هو ليلته، والرمي والنحر والحلق والطواف في صبيحته. احتج الأولون بحديث مخرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يوم الحج الأكبر يوم عرفة ) . رواه إسماعيل القاضي. وقال الثوري وابن جريج: الحج الأكبر أيام منى كلها. وهذا كما يقال: يوم صفين ويم الجمل ويوم بعاث، فيراد به الحين والزمان لا نفس اليوم. وروي عن مجاهد: الحج الأكبر القران، والأصغر الإفراد. وهذا ليس من الآية في شيء. وعنه وعن عطاء: الحج الأكبر الذي فيه الوقوف بعرفة، والأصغر العمرة. وعن مجاهد أيضا: أيام الحج كلها. وقال الحسن وعبدالله بن الحارث بن نوفل: إنما سمي يوم الحج الأكبر لأنه حج ذلك العام المسلمون والمشركون، واتفقت فيه يومئذ أعياد الملل: اليهود والنصارى والمجوس. قال ابن عطية: هذا ضعيف أن يصفه الله عز وجل في كتابه بالأكبر لهذا. وعن الحسن أيضا: إنما سمي الأكبر لأنه حج فيه أبو بكر ونبذت فيه العهود. وهذا الذي يشبه نظر الحسن. وقال ابن سيرين: يوم الحج الأكبر العام الذي حج فيه النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، وحجت معه فيه الأمم.

 

قوله تعالى: « أن الله بريء من المشركين ورسوله » « أن » بالفتح في موضع نصب. والتقدير بأن الله. ومن قرأ بالكسر قدره بمعنى قال إن الله « بريء » خبر أن. « ورسوله » عطف على الموضع، وإن شئت على المضمر المرفوع في « بريء » . كلاهما حسن؛ لأنه قد طال الكلام. وإن شئت على الابتداء والخبر محذوف؛ التقدير: ورسوله بريء منهم. ومن قرأ « ورسوله » بالنصب - وهو الحسن وغيره - عطفه على اسم الله عز وجل على اللفظ. وفي الشواذ « رسوله » بالخفض على القسم، أي وحق رسوله؛ ورويت عن الحسن. وقد تقدمت قصة عمر فيها أول الكتاب. « فإن تبتم » أي عن الشرك. « فهو خير لكم » أي أنفع لكم. « وإن توليتم » أي عن الإيمان. « فاعلموا أنكم غير معجزي الله » أي فائتيه؛ محيط بكم ومنزل عقابه عليكم.

 

الآية: 4 ( إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين )

 

قوله تعالى: « إلا الذين عاهدتم من المشركين » في موضع نصب بالاستثناء المتصل، المعنى: أن الله بريء من المشركين إلا من المعاهدين في مدة عهدهم. وقيل: الاستثناء منقطع، أي أن الله بريء منهم ولكن الذين عاهدتم فثبتوا على العهد فأتموا إليهم عهدهم. وقوله: « ثم لم ينقصوكم » يدل على أنه كان من أهل العهد من خاس بعهده ومنهم من ثبت على الوفاء، فأذن الله سبحانه لنبييه صلى الله عليه وسلم في نقض عهد من خاس، وأمر بالوفاء لمن بقي على عهده إلى مدته. ومعنى « لم ينقصوكم » أي من شروط العهد شيئا. « ولم يظاهروا » لم يعاونوا. وقرأ عكرمة وعطاء بن يسار « ثم لم ينقضوكم » بالضاد معجمة على حذف مضاف، التقدير ثم لم ينقضوا عهدهم. يقال: إن هذا مخصوص يراد به بنو ضمرة خاصة. ثم قال: « فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم » أي وإن كانت أكثر من أربعة أشهر.

 

الآية: 5 ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم )

 

قوله تعالى: « فإذا انسلخ الأشهر الحرم » أي خرج. وسلخت الشهر إذا صرت في أواخر أيامه، تسلخه سلخا وسلوخا بمعنى خرجت منه. وقال الشاعر:

إذا ما سلخت الشهر أهللت قبله كفى قاتلا سلخي الشهور وإهلالي

وانسلخ الشهر وانسلخ النهار من الليل المقبل. وسلخت المرأة درعها نزعته وفي التنزيل: « وآية لهم الليل نسلخ منه النهار » [ يس: 37 ] . ونخلة مسلاخ، وهي التي ينتثر بسرها أخضر.

والأشهر الحرم فيها للعلماء قولان: قيل هي الأشهر المعروفة، ثلاثة سرد وواحد فرد. قال الأصم: أريد به من لا عقد له من المشركين، فأوجب أن يمسك عن قتالهم حتى ينسلخ الحرم، وهو مدة خمسين يوما على ما ذكره ابن عباس، لأن النداء كان بذلك يوم النحر. وقد تقدم هذا. وقيل: شهور العهد أربعة، قاله مجاهد وابن إسحاق وابن زيد وعمرو بن شعيب. وقيل لها حرم لأن الله حرم على المؤمنين فيها دماء المشركين والتعرض لهم إلا على سبيل الخير.

 

قوله تعالى: « فاقتلوا المشركين » عام في كل مشرك، لكن السنة خصت منه ما تقدم بيانه في سورة « البقرة » من امرأة وراهب وصبي وغيرهم. وقال الله تعالى في أهل الكتاب: « حتى يعطوا الجزية » . إلا أنه يجوز أن يكون لفظ المشركين لا يتناول أهل الكتاب، ويقتضي ذلك منع أخذ الجزية من عبدة الأوثان وغيرهم، على ما يأتي بيانه. واعلم أن مطلق قوله: « اقتلوا المشركين » يقتضي جواز قتلهم بأي وجه كان، إلا أن الأخبار وردت بالنهي عن المثلة. ومع هذا فيجوز أن يكون الصديق رضي الله عنه حين قتل أهل الردة بالإحراق بالنار، وبالحجارة وبالرمي من رؤوس الجبال، والتنكيس في الآبار، تعلق بعموم الآية. وكذلك إحراق علي رضي الله عنه قوما من أهل الردة يجوز أن يكون ميلا إلى هذا المذهب، واعتمادا على عموم اللفظ. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « حيث وجدتموهم » عام في كل موضع. وخص أبو حنيفة رضي الله عنه المسجد الحرام، كما سبق في سورة « البقرة » ثم اختلفوا، فقال الحسين بن الفضل: نسخت هذه كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى الأعداء. وقال الضحاك والسدي وعطاء: هي منسوخة بقوله: « فإما منا بعد وإما فداء » [ محمد: 4 ] . وأنه لا يقتل أسير صبرا، إما أن يمن عليه وإما أن يفادى. وقال مجاهد وقتادة: بل هي ناسخة لقوله تعالى: « فإما منا بعد وإما فداء » وأنه لا يجوز في الأسارى من المشركين إلا القتل. وقال ابن زيد: الآيتان محكمتان. وهو الصحيح، لأن المن والقتل والفداء لم يزل من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم من أول حرب حاربهم، وهو يوم بدر كما سبق. وقوله: « وخذوهم » يدل عليه. والأخذ هو الأسر. والأسر إنما يكون للقتل أو الفداء أو المن على ما يراه الإمام. ومعنى: « احصروهم » يريد عن التصرف إلى بلادكم والدخول إليكم، إلا أن تأذنوا لهم فيدخلوا إليكم بأمان.

 

قوله تعالى: « واقعدوا لهم كل مرصد » المرصد: الموضع الذي يرقب فيه العدو، يقال: رصدت فلانا أرصده، أي رقبته. أي اقعدوا لهم في مواضع الغرة حيث يرصدون. قال عامر بن الطفيل:

ولقد علمت وما إخالك ناسيا أن المنية للفتى بالمرصد

وقال عدي:

أعاذل إن الجاهل من لذة الفتى وإن المنايا للنفوس بمرصد

وفي هذا دليل على جواز اغتيالهم قبل الدعوة. ونصب « كل » على الظرف، وهو اختيار الزجاج، ويقال: ذهبت طريقا وذهبت كل طريق. أو بإسقاط الخافض، التقدير: في كل مرصد وعلى كل مرصد، فيجعل المرصد اسما للطريق. وخطأ أبو علي الزجاج في جعله الطريق ظرفا وقال: الطريق مكان مخصوص كالبيت والمسجد، فلا يجوز حذف حرف الجر منه إلا فيما ورد فيه الحذف سماعا، كما حكى سيبويه: دخلت الشام ودخلت البيت، وكما قيل:

كما عسل الطريق الثعلب

 

قوله تعالى: « فإن تابوا » أي من الشرك. « وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم » هذه الآية فيها تأمل، وذلك أن الله تعالى علق القتل على الشرك، ثم قال: « فإن تابوا » . والأصل أن القتل متى كان الشرك يزول بزواله، ودلك يقتضي زوال القتل بمجرد التوبة، من غير اعتبار إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولذلك سقط القتل بمجرد التوبة قبل وقت الصلاة والزكاة. وهذا بين في هدا المعنى، غير أن الله تعالى ذكر التوبة وذكر معها شرطين آخرين، فلا سبيل إلى إلغائهما. نظيره قوله صلى الله عليه وسلم: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ) . وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: ( والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال ) وقال ابن عباس: رحم الله أبا بكر ما كان أفقهه. وقال ابن العربي: فانتظم القرآن والسنة واطردا. ولا خلاف بين المسلمين أن من ترك الصلاة وسائر الفرائض مستحلا كفر، ومن ترك السنن متهاونا فسق، ومن ترك النوافل لم يحرج، إلا أن يجحد فضلها فيكفر، لأنه يصير رادا على الرسول عليه السلام ما جاء به وأخبر عنه. واختلفوا فيمن ترك الصلاة من غير جحد لها ولا استحلال، فروى يونس بن عبدالأعلى قال: سمعت ابن وهب يقول قال مالك: من آمن بالله وصدق المرسلين وأبى أن يصلي قتل، وبه قال أبو ثور وجميع أصحاب الشافعي. وهو قول حماد بن زيد ومكحول ووكيع. وقال أبو حنيفة: يسجن ويضرب ولا يقتل، وهو قول ابن شهاب وبه يقول داود بن علي. ومن حجتهم قوله صلى الله عليه وسلم: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ) . وقالوا: حقها الثلاث التي قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان أو قتل نفس بغير نفس ) . وذهبت جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن من ترك صلاة واحدة متعمدا حتى يخرج وقتها لغير عذر، وأبى من أدائها وقضائها وقال لا أصلي فإنه كافر، ودمه وماله حلالان، ولا يرثه ورثته من المسلمين، ويستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وحكم ماله كحكم مال المرتد، وهو قول إسحاق. قال إسحاق: وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا. وقال ابن خويز منداد: واختلف أصحابنا متى يقتل تارك الصلاة، فقال بعضهم في آخر الوقت المختار، وقال بعضهم آخر وقت الضرورة، وهو الصحيح من ذلك. وذلك أن يبقى من وقت العصر أربع ركعات إلى مغيب الشمس، ومن الليل أربع ركعات لوقت العشاء، ومن الصبح ركعتان قبل طلوع الشمس. وقال إسحاق: وذهاب الوقت أن يؤخر الظهر إلى غروب الشمس والمغرب إلى طلوع الفجر.

 

هذه الآية دالة على أن من قال: قد تبت أنه لا يجتزأ بقوله حتى ينضاف إلى ذلك أفعاله المحققة للتوبة، لأن الله عز وجل شرط هنا مع التوبة إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ليحقق بهما التوبة. وقال في آية الربا « وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم » [ البقرة:279 ] . وقال: « إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا » [ البقرة: 160 ] وقد تقدم معنى هذا في سورة البقرة.

 

الآية: 6 ( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون )

 

قوله تعالى: « وإن أحد من المشركين » أي من الذين أمرتك بقتالهم. « استجارك » أي سأل جوارك، أي أمانك وذمامك، فأعطه إياه ليسمع القرآن، أي يفهم أحكامه وأوامره ونواهيه. فإن قبل أمرا فحسن، وإن أبى فرده إلى مأمنه. وهذا ما لا خلاف فيه. والله أعلم. قال مالك: إذا وجد الحربي في طريق بلاد المسلمين فقال: جئت أطلب الأمان. قال مالك: هذه أمور مشتبهة، وأرى أن يرد إلى مأمنه. قال ابن قاسم: وكذلك الذي يوجد وقد نزل تاجرا بساحلنا فيقول: ظننت ألا تعرضوا لمن جاء تاجرا حتى يبيع. وظاهر الآية إنما هي فيمن يريد سماع القرآن والنظر في الإسلام، فأما الإجارة لغير ذلك فإنما هي لمصلحة المسلمين والنظر فيما تعود عليهم به منفعته.

 

ولا خلاف بين كافة العلماء أن أمان السلطان جائز، لأنه مقدم للنظر والمصلحة، نائب عن الجميع في جلب المنافع ودفع المضار. واختلفوا في أمان غير الخليفة، فالحر يمضي أمانه عند كافة العلماء. إلا أن ابن حبيب قال: ينظر الإمام فيه. وأما العبد فله الأمان في مشهور المذهب، وبه قال الشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق والأوزاعي والثوري وأبو ثور وداود ومحمد بن الحسن. وقال أبو حنيفة: لا أمان له، وهو القول الثاني لعلمائنا. والأول أصح، لقوله صلى الله عليه وسلم: ( المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ) . قالوا: فلما قال ( أدناهم ) جاز أمان العبد، وكانت المرأة الحرة أحرى بذلك، ولا اعتبار بعلة ( لا يسهم له ) . وقال عبدالملك بن الماجشون: لا يجوز أمان المرأة إلا أن يجيزه الإمام، فشذ بقوله عن الجمهور. وأما الصبي فإذا أطاق القتال جاز أمانه، لأنه من جملة المقاتلة، ودخل في الفئة الحامية. وقد ذهب الضحاك والسدي إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله: « فاقتلوا المشركين » . وقال الحسن: هي محكمة سنة إلى يوم القيامة، وقاله مجاهد. وقيل: هذه الآية إنما كان حكمها باقيا مدة الأربعة الأشهر التي ضربت لهم أجلا، وليس بشيء. وقال سعيد بن جبير: جاء رجل من المشركين إلى علي بن أبي طالب فقال: إن أراد الرجل منا أن يأتي محمدا بعد انقضاء الأربعة الأشهر فيسمع كلام الله ويأتيه بحاجة قتل فقال علي بن أبي طالب: لا، لأن الله تبارك وتعالى يقول: « وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله » . وهذا صحيح. والآية محكمة.

 

قوله تعالى: « وإن أحد » « أحد » مرفوع بإضمار فعل كالذي بعده. وهذا حسن في « إن » وقبيح في أخواتها. ومذهب سيبويه في الفرق بين « إن » وأخواتها، أنها لما كانت أم حروف الشرط خصت بهذا، ولأنها لا تكون في غيره. وقال محمد بن يزيد: أما قوله - لأنها لا تكون في غيره - فغلط، لأنها تكون بمعنى - ما - ومخففة من الثقيلة ولكنها مبهمة، وليس كذا غيرها. وأنشد سيبويه:

لا تجرعي إن منفسا أهلكته وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي

 

قال العلماء في قوله تعالى: « حتى يسمع كلام الله » دليل على أن كلام الله عز وجل مسموع عند قراءة القارئ، قاله الشيخ أبو الحسن والقاضي أبو بكر وأبو العباس القلانسي وابن مجاهد وأبو إسحاق الإسفراييني وغيرهم، لقوله تعالى: « حتى يسمع كلام الله » فنص على أن كلامه مسموع عند قراءة القارئ لكلامه. ويدل عليه إجماع المسلمين على أن القارئ إذا قرأ فاتحة الكتاب أو سورة قالوا: سمعنا كلام الله. وفرقوا بين أن يقرأ كلام الله تعالى وبين أن يقرأ شعر امرئ القيس. وقد مضى في سورة « البقرة » معنى كلام الله تعالى، وأنه ليس بحرف ولا صوت، والحمد لله.

 

الآية: 7 ( كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين )

 

قوله تعالى: « كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام » كيف هنا للتعجب، كما تقول: كيف يسبقني فلان أي لا ينبغي أن يسبقني. و « عهد » اسم يكون. وفي الآية إضمار، أي كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر، كما قال:

وخبرتماني إنما الموت بالقرى فكيف وهاتا هضبة وكثيب

التقدير: فكيف مات، عن الزجاج. وقيل: المعنى كيف يكون للمشركين عهد عند الله يأمنون به عذابه غدا، وكيف يكون لهم عند رسوله عهد يأمنون به عذاب الدنيا. ثم استثنى فقال: « إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام » . قال محمد بن إسحاق: هم بنو بكر، أي ليس العهد إلا لهؤلاء الذين لم ينقضوا ولم ينكثوا. « فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين »

أي فما أقاموا على الوفاء بعهدكم فأقيموا لهم على مثل ذلك ابن زيد: فلم يستقيموا فضرب لهم أجلا أربعة أشهر فأما من لا عهد له فقاتلوه حيث وجدتموه إلا أن يتوب.

 

الآية: 8 ( كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون )

 

قوله تعالى: « كيف وإن يظهروا عليكم » أعاد التعجب من أن يكون لهم عهد مع خبث أعمالهم، أي كيف يكون لهم عهد وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة. يقال: ظهرت على فلان أي غلبته، وظهرت البيت علوته، ومنه « فما استطاعوا أن يظهروه » [ الكهف: 97 ] أي يعلوا عليه.

 

قوله تعالى: « لا يرقبوا فيكم » « يرقبوا » يحافظوا. والرقيب الحافظ. وقد تقدم. « إلا » عهدا، عن مجاهد وابن زيد. وعن مجاهد أيضا: هو اسم من أسماء الله عز وجل. ابن عباس والضحاك: قرابة. الحسن: جوارا. قتادة: حلفا، و « ذمة » عهدا. أبو عبيدة: يمينا. وعنه أيضا: إلا العهد، والذمة التذمم. الأزهري: اسم الله بالعبرانية، وأصله من الأليل وهو البريق، يقال أل لونه يؤل ألا، أي صفا ولمع. وقيل: أصله من الحدة، ومنه الألة للحربة، ومنه أذن مؤللة أي محددة. ومنه قول طرفة بن العبد يصف أذني ناقته بالحدة والانتصاب.

مؤللتان تعرف العتق فيهما كسامعتي شاة بحومل مفرد

فإذا قيل للعهد والجوار والقرابة « إل » فمعناه أن الأذن تصرف إلى تلك الجهة، أي تحدد لها. والعهد يسمى « إلا » لصفائه وظهوره. ويجمع في القلة آلال. وفي الكثرة إلال. وقال الجوهري وغيره: الإل بالكسر هو الله عز وجل، والإل أيضا العهد والقرابة. قال حسان:

لعمرك إن إلك من قريش كإل السقب من رأل النعام

 

قوله تعالى: « ولا ذمة » أي عهدا. وهي كل حرمة يلزمك إذا ضيعتها ذنب. قال ابن عباس والضحاك وابن زيد: الذمة العهد. ومن جعل الإل العهد فالتكرير لاختلاف اللفظين. وقال أبو عبيدة معمر: الذمة التذمم. وقال أبو عبيد: الذمة الأمان في قوله عليه السلام: ( ويسعى بذمتهم أدناهم ) . وجمع ذمة ذمم. وبئر ذمة - بفتح الذال - قليلة الماء، وجمعها ذمام. قال ذو الرمة:

على حميريات كأن عيونها ذمام الركايا أنكزتها المواتح

أنكزتها أذهبت ماءها. وأهل الذمة أهل العقد.

 

قوله تعالى: « يرضونكم بأفواههم » أي يقولون بألسنتهم ما يرضي ظاهره. « وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون » أي ناقضون العهد. وكل كافر فاسق، ولكنه أراد ههنا المجاهرين بالقبائح ونقض العهد.

 

الآية: 9 ( اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون )

 

يعني المشركين في نقضهم العهود بأكلة أطعمهم إياها أبو سفيان، قاله مجاهد. وقيل: إنهم استبدلوا بالقرآن متاع الدنيا. « فصدوا عن سبيله » أي أعرضوا، من الصدود أو منعوا عن سبيل الله، من الصد.

 

الآية: 10 ( لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون )

 

قال النحاس: ليس هذا تكريرا، ولكن الأول لجميع المشركين والثاني لليهود خاصة. والدليل على هذا « اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا » يعني اليهود، باعوا حجج الله عز وجل وبيانه بطلب الرياسة وطمع في شيء. « وأولئك هم المعتدون » أي المجاوزون الحلال إلى الحرام بنقض العهد.

 

الآية: 11 ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون )

 

قوله تعالى: « فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة » أي عن الشرك والتزموا أحكام الإسلام. « فإخوانكم » أي فهم إخوانكم « في الدين » . قال ابن عباس: حرمت هذه دماء أهل القبلة. وقد تقدم هذا المعنى. وقال ابن زيد: افترض الله الصلاة والزكاة وأبى أن يفرق بينهما وأبى أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة. وقال ابن مسعود: أمرتم بالصلاة والزكاة فمن لم يزك فلا صلاة له. وفي حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من فرق بين ثلاث فرق الله بينه وبين رحمته يوم القيامة من قال أطيع الله ولا أطيع الرسول والله تعالى يقولك « أطيعوا الله وأطيعوا الرسول » [ النساء: 59 ] ومن قال أقيم الصلاة ولا أوتي الزكاة والله تعالى يقول: « وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة » [ البقرة: 43 ] ومن فرق بين شكر الله وشكر والديه والله عز وجل يقول: « أن اشكر لي ولوالديك » [ لقمان: 14 ] ) .

 

قوله تعالى: « ونفصل الآيات » أي نبينها. « لقوم يعلمون » خصهم لأنهم هم المنتفعون بها. والله أعلم.

 

الآية: 12 ( وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون )

 

قوله تعالى: « وإن نكثوا أيمانهم » النكث النقض، وأصله في كل ما قتل ثم حل. فهي في الأيمان والعهود مستعارة. قال:

وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها فليس لمخضوب البنان يمين

أي عهد. « وطعنوا في دينكم » أي بالاستنقاض والحرب وغير ذلك مما يفعله المشرك. يقال: طعنه بالرمح وطعن بالقول السيء فيه يطعن، بضم العين فيهما. وقيل: يطعن بالرمح - بالضم - ويطعن بالقول - بالفتح - . وهي هنا استعارة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم حين أمر أسامة: ( إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل وأيم الله إن كان لخليقا للإمارة ) . خرجه الصحيح.

 

استدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب قتل كل من طعن في الدين، إذ هو كافر. والطعن أن ينسب إليه ما لا يليق به، أو يعترض بالاستخفاف على ما هو من الدين، لما ثبت من الدليل القطعي على صحة أصوله واستقامة فروعه. وقال ابن المنذر: أجمع عامة أهل العلم على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم عليه القتل. وممن قال ذلك مالك والليث وأحمد وإسحاق، وهو مذهب الشافعي. وقد حكي عن النعمان أنه قال: لا يقتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الذمة، على ما يأتي. وروي أن رجلا قال في مجلس علي: ما قتل كعب بن الأشرف إلا غدرا، فأمر علي بضرب عنقه. وقال آخر في مجلس معاوية فقام محمد بن مسلمة فقال: أيقال هذا في مجلسك وتسكت والله لا أساكنك تحت سقف أبدا، ولئن خلوت به لأقتلنه. قال علماؤنا: هذا يقتل ولا يستتاب إن نسب الغدر للنبي صلى الله عليه وسلم. وهو الذي فهمه علي ومحمد بن مسلمة رضوان الله عليهما من قائل ذلك، لأن ذلك زندقة. فأما إن نسبه للمباشرين لقتله بحيث يقول: إنهم أمنوه ثم غدروه لكانت هذه النسبة كذبا محضا، فإنه ليس في كلامهم معه ما يدل على أنهم أمنوه ولا صرحوا له بذلك، ولو فعلوا ذلك لما كان أمانا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما وجههم لقتله لا لتأمينه، وأذن لمحمد بن مسلمة في أن يقول. وعلى هذا فيكون في قتل من نسب ذلك لهم نظر وتردد. وسببه هل يلزم من نسبة الغدر لهم نسبته للنبي صلى الله عليه وسلم، لأنه قد صوب فعلهم ورضي به فيلزم منه أنه قد رضي بالغدر ومن صرح بذلك قتل، أولا يلزم من نسبة الغدر لهم نسبته للنبي صلى الله عليه وسلم فلا يقتل. وإذا قلنا لا يقتل، فلا بد من تنكيل ذلك القائل وعقوبته بالسجن، والضرب الشديد والإهانة العظيمة.

 

فأما الذمي إذا طعن في الدين انتقض عهده في المشهور من مذهب مالك، لقوله: « وإن نكثوا أيمانهم » الآية. فأمر بقتلهم وقتالهم. وهو مذهب الشافعي رحمه الله. وقال أبو حنيفة في هذا: إنه يستتاب، وإن مجرد الطعن لا ينقض به العهد إلا مع وجود النكث، لأن الله عز وجل إنما أمر بقتلهم بشرطين: أحدهما نقضهم العهد، والثاني طعنهم في الدين.

قلنا: إن عملوا بما يخالف العهد انتقض عهدهم، وذكر الأمرين لا يقتضي توقف قتاله على وجودهما، فإن النكث يبيح لهم ذلك بانفراده عقلا وشرعا. وتقدير الآية عندنا: فإن نكثوا عهدهم حل قتالهم، وإن لم ينكثوا بل طعنوا في الدين مع الوفاء بالعهد حل قتالهم. وقد روي أن عمر رفع إليه ذمي نخس دابة عليها امرأة مسلمة فرمحت فأسقطتها فانكشفت بعض عورتها، فأمر بصلبه في الموضع.

 

إذا حارب الذمي نقض عهده وكان ماله وولده فيئا معه. وقال محمد بن مسلمة: لا يؤاخذ ولده به، لأنه نقض وحده. وقال: أما ماله فيؤخذ. وهذا تعارض لا يشبه منصب محمد بن مسلمة، لأن عهده هو الذي حمى ماله وولده، فإذا ذهب عنه ماله ذهب عنه ولده. وقال أشهب: إذا نقض الذمي العهد فهو على عهده ولا يعود في الرق أبدا. وهذا من العجب، وكأنه رأى العهد معنى محسوسا. وإنما العهد حكم اقتضاه النظر، والتزمه المسلمون له، فإذا نقضه انتقض كسائر العقود.

 

أكثر العلماء على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الذمة أو عرض أو استخف بقدره أو وصفه بغير الوجه الذي كفر به فإنه يقتل، فإنا لم نعطه الذمة أو العهد على هذا. إلا أبا حنيفة والثوري وأتباعهما من أهل الكوفة فإنهم قالوا: لا يقتل، ما هو عليه من الشرك أعظم، ولكن يؤدب ويعزر. والحجة عليه قوله تعالى: « وإن نكثوا » الآية. واستدل عليه بعضهم بأمره صلى الله عليه وسلم بقتل كعب بن الأشرف وكان معاهدا. وتغيظ أبو بكر على رجل من أصحابه فقال أبو برزة: ألا أضرب عنقه فقال: ما كانت لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى الدارقطني عن ابن عباس: أن رجلا أعمى كانت له أم ولد، له منها ابنان مثل اللؤلؤتين، فكانت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فينهاها فلم تنته، ويزجرها فلم تنزجر، فلما كان ذات ليلة ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم فما صبر سيدها أن قام إلى معول فوضعه في بطنها، ثم اتكأ عليها حتى أنفذه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ألا اشهدوا إن دمها هدر ) . وفي رواية عن ابن عباس: فقتلها، فلما أصبح قيل، ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقام الأعمى فقال: يا رسول الله، أنا صاحبها، كانت تشتمك وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك فقتلتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ألا اشهدوا إن دمها هدر ) .

 

واختلفوا إذا سبه ثم أسلم تقية من القتل، فقيل يسقط إسلامه قتله، وهو المشهور من المذهب، لأن الإسلام يجب ما قبله. بخلاف المسلم إذا سبه ثم تاب قال الله عز وجل: « قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف » [ الأنفال:38 ] . وقيل: لا يسقط الإسلام قتله، قاله في العتبية لأنه حق للنبي صلى الله عليه وسلم وجب لانتهاكه حرمته وقصده إلحاق النقيصة والمعرة به، فلم يكن رجوعه إلى الإسلام بالذي يسقطه، ولا يكون أحسن حالا من المسلم.

 

قوله تعالى: « فقاتلوا أئمة الكفر » « أئمة » جمع إمام، والمراد صناديد قريش - في قول بعض العلماء - كأبي جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف. وهذا بعيد، فإن الآية في سورة « براءة » وحين نزلت وقرئت على الناس كان الله قد استأصل شأفة قريش فلم يبق إلا مسلم أو مسالم، فيحتمل أن يكون المراد « فقاتلوا أئمة الكفر » . أي من أقدم على نكث العهد والطعن في الدين يكون أصلا ورأسا في الكفر، فهو من أئمة الكفر على هذا. ويحتمل أن يعنى به المتقدمون والرؤساء منهم، وأن قتالهم قتال لأتباعهم وأنهم لا حرمة لهم. والأصل أأممة كمثال وأمثلة، ثم أدغمت الميم في الميم وقلبت الحركة على الهمزة فاجتمعت همزتان، فأبدلت من الثانية ياء. وزعم الأخفش أنك تقول: هذا أيم من هذا، بالياء. وقال المازني: أوم من هذا، بالواو. وقرأ حمزة « أئمة » . وأكثر النحويين يذهب إلى أن هذا لحن، لأنه جمع بين همزتين في كلمة واحدة. « إنهم لا أيمان لهم » أي لا عهود لهم، أي ليست عهودهم صادقة يوفون بها. وقرأ ابن عامر « لا إيمان لهم » بكسر الهمزة من الإيمان، أي لا إسلام لهم. ويحتمل أن يكون مصدر آمنته إيمانا، من الأمن الذي ضده الخوف، أي لا يؤمنون، من آمنته إيمانا أي أجرته، فلهذا قال: « فقاتلوا أئمة الكفر » . « لعلهم ينتهون » أي عن الشرك. قال الكلبي: كان النبي صلى الله عليه وسلم وادع أهل مكة سنة وهو بالحديبية فحبسوه عن البيت، ثم صالحوه على أن يرجع فمكثوا ما شاء الله، ثم قاتل حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من خزاعة حلفاء بني أمية من كنانة، فأمدت بنو أمية حلفاءهم بالسلاح والطعام، فاستعانت خزاعة برسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعين حلفاءه كما سبق. وفى البخاري عن زيد بن وهب قال: كنا عند حذيفة فقال ما بقي من أصحاب هذه الآية - يعني « فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم » - إلا ثلاثة، ولا بقي من المنافقين إلا أربعة. فقال أعرابي: إنكم أصحاب محمد تخبرون أخبارا لا ندري ما هي تزعمون ألا منافق إلا أربعة، فما بال هؤلاء الذين يبقرون بيوتنا ويسرقون أعلافنا قال: أولئك الفساق أجل لم يبق منهم إلا أربعة، أحدهم شيخ كبير لو شرب الماء البارد لما وجد برده. « لعلهم ينتهون » أي عن كفرهم وباطلهم وأذيتهم للمسلمين. وذلك يقتضي أن يكون الغرض من قتالهم دفع ضررهم لينتهوا عن مقاتلتنا ويدخلوا في ديننا.

 

الآية: 13 ( ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين )

 

قوله تعالى: « ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم » توبيخ وفيه معنى التحضيض نزلت في كفار مكة كما ذكرنا آنفا. « وهموا بإخراج الرسول » أي كان منهم سبب الخروج، فأضيف الإخراج إليهم. وقيل: أخرجوا الرسول عليه السلام من المدينة لقتال أهل مكة للنكث الذي كان منهم: عن الحسن. « وهم بدؤوكم » بالقتال. « أول مرة » أي نقضوا العهد وأعانوا بني بكر على خزاعة. وقيل: بدؤوكم بالقتال يوم بدر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج للعير ولما أحرزوا عيرهم كان يمكنهم الانصراف، فأبوا إلا الوصول إلى بدر وشرب الخمر بها؛ كما تقدم. « فالله أحق أن تخشوه » أي تخافوا عقابه في ترك قتالهم من أن تخافوا أن ينالكم في قتالهم مكروه. وقيل: إخراجهم الرسول منعهم إياه من الحج والعمرة والطواف، وهو ابتداؤهم. والله أعلم.

 

الآيتان: 14 - 15 ( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين، ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم )

 

قوله تعالى: « قاتلوهم » أمر. « يعذبهم الله » جوابه. وهو جزم بمعنى المجازاة: والتقدير: إن تقاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين. « ويذهب غيظ قلوبهم » دليل على أن غيظهم كان قد اشتد. وقال مجاهد: يعني خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكله عطف، ويجوز فيه كله الرفع على القطع من الأول. ويجوز النصب على إضمار ( أن ) وهو الصرف عند الكوفيين، كما قال:

فإن يهلك أبو قابوس يهلك ربيع الناس والشهر الحرام

ونأخذ بعده بذناب عيش أجب الظهر ليس له سنام

وإن شئت رفعت ( ونأخذ ) وإن شئت نصبته. والمراد بقوله: « ويشف صدور قوم مؤمنين » بنو خزاعة، على ما ذكرنا عن مجاهد. فإن قريشا أعانت بني بكر عليهم، وكانت خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم. فأنشد رجل من بني بكر هجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له بعض خزاعة: لئن أعدته لأكسرن فمك، فأعاده فكسر فاه وثار بينهم قتال، فقتلوا من الخزاعيين أقواما، فخرج عمرو بن سالم الخزاعي في نفر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره به، فدخل منزل ميمونة وقال: ( اسكبوا إلي ماء ) فجعل يغتسل وهو يقول: ( لا نصرت إن لم أنصر بني كعب ) . ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتجهز والخروج إلى مكة فكان الفتح.

 

قوله تعالى: « ويتوب الله على من يشاء » القراءة بالرفع على الاستئناف لأنه ليس من جنس الأول ولهذا لم يقل ( ويتب ) بالجزم لأن القتال غير موجب لهم التوبة من الله جل وعز وهو موجب لهم العذاب والخزي وشفاء صدور المؤمنين وذهاب غيظ قلوبهم ونظيره: « فإن يشأ الله يختم على قلبك » [ الشورى: 24 ] تم الكلام. ثم قال: « ويمح الله الباطل » [ الشورى: 24 ] . والذين تاب الله عليهم مثل أبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل وسليم بن أبي عمرو، فإنهم أسلموا. وقرأ ابن أبي إسحاق « ويتوب » بالنصب. وكذا روي عن عيسى الثقفي والأعرج، وعليه فتكون التوبة داخلة في جواب الشرط، لأن المعنى: إن تقاتلوهم يعذبهم الله. وكذلك ما عطف عليه. ثم قال: « ويتوب الله » أي إن تقاتلوهم. فجمع بين تعذيبهم بأيديكم وشفاء صدوركم وإذهاب غيظ قلوبكم والتوبة عليكم. والرفع أحسن، لأن التوبة لا يكون سببها القتال، إذ قد توجد بغير قتال لمن شاء الله أن يتوب عليه في كل حال.

 

الآية: 16 ( أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون )

 

قوله تعالى: « أم حسبتم » خروج من شيء إلى شيء. « أن تتركوا » في موضع المفعولين على قول سيبويه. وعند المبرد أنه قد حذف الثاني. ومعنى الكلام: أم حسبتم أن تتركوا من غير أن تبتلوا بما يظهر به المؤمن والمنافق الظهور الذي يستحق به الثواب والعقاب. وقد تقدم هذا المعنى في غير موضع. « ولما يعلم » جزم بلما وإن كانت ما زائدة، فإنها تكون عند سيبويه جوابا لقولك: قد فعل كما تقدم. وكسرت الميم لالتقاء الساكنين. « وليجة » بطانة ومداخلة من الولوج وهو الدخول ومنه سمي الكناس الذي تلج فيه الوحوش تولجا ولج يلج ولوجا إذا دخل والمعنى: دخيلة مودة من دون الله ورسوله وقال أبو عبيدة: كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة والرجل يكون في القوم وليس منهم وليجة وقال ابن زيد: الوليجة الدخيلة والولجاء الدخلاء فوليجة الرجل من يختص بدُخلة أمره دون الناس. تقول: هو وليجتي وهم وليجتي الواحد والجمع فيه سواء قال أبان بن تغلب رحمه الله:

فبئس الوليجة للهاربين والمعتدين وأهل الريب

وقيل: وليجة بطانة، والمعنى واحد، نظيره « لا تتخذوا بطانة من دونكم » [ آل عمران: 118 ] . وقال الفراء: وليجة بطانة من المشركين يتخذونهم ويفشون إليهم أسرارهم ويعلمونهم أمورهم.

 

الآية: 17 ( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون )

 

قوله تعالى: « ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله » الجملة من « أن يعمروا » في موضع رفع اسم كان. « شاهدين » على الحال. واختلف العلماء في تأويل هذه الآية، فقيل: أراد ليس لهم الحج بعد ما نودي فيهم بالمنع عن المسجد الحرام، وكانت أمور البيت كالسدانة والسقاية والرفادة إلى المشركين، فبين أنهم ليسوا أهلا لذلك، بل أهله المؤمنون. وقيل: إن العباس لما أسر وعير بالكفر وقطيعة الرحم قال: تذكرون مساوئنا ولا تذكرون محاسننا. فقال علي: ألكم محاسن؟ قال: نعم إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج ونفك العاني، فنزلت هذه الآية ردا عليه. فيجب إذا على المسلمين تولي أحكام المساجد ومنع المشركين من دخولها. وقراءة العامة « يعمر » بفتح الياء وضم الميم، من عمر يعمر. وقرأ ابن السميقع بضم الياء وكسر الميم أي يجعلوه عامرا أو يعينوا على عمارته. وقرئ « مسجد الله » على التوحيد أي المسجد الحرام. وهي قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وابن كثير وأبي عمرو وابن محيصن ويعقوب. والباقون « مساجد » على التعميم. وهو اختيار أبي عبيد، لأنه أعم والخاص به يدخل تحت العام. وقد يحتمل أن يراد بقراءة الجمع المسجد الحرام خاصة. وهذا جائز فيما كان من أسماء الجنس، كما يقال: فلان يركب الخيل وإن لم يركب إلا فرسا. والقراءة « مساجد » أصوب، لأنه يحتمل المعنى. وقد أجمعوا على قراءة قوله: « إنما يعمر مساجد الله » على الجمع، قاله النحاس. وقال الحسن: إنما قال مساجد وهو المسجد الحرام، لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها.

 

قوله تعالى: « شاهدين » قيل: أراد وهم شاهدون فلما طرح « وهم » نصب. قال ابن عباس: شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم لأصنامهم، وإقرارهم أنها مخلوقة. وقال السدي: شهادتهم بالكفر هو أن النصراني تقول له. ما دينك؟ فيقول نصراني، واليهودي فيقول يهودي والصابئ فيقول صابئ. ويقال للمشرك ما دينك فيقول مشرك. « أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون » تقدم معناه.

 

الآية: 18 ( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين )

 

قوله تعالى: « إنما يعمر مساجد الله » دليل على أن الشهادة لعمار المساجد بالإيمان صحيحة لأن الله سبحانه ربطه بها وأخبر عنه بملازمتها. وقد قال بعض السلف: إذا رأيتم الرجل يعمر المسجد فحسنوا به الظن. وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ( إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان ) قال الله تعالى: « إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر » . وفي رواية: ( يتعاهد المسجد ) . قال: حديث حسن غريب. قال ابن العربي: وهذا في ظاهر الصلاح ليس في مقاطع الشهادات، فإن الشهادات لها أحوال عند العارفين بها فإن منهم الذكي الفطن المحصل لما يعلم اعتقادا وإخبارا ومنهم المغفل، وكل واحد ينزل على منزلته ويقدر على صفته. « ولم يخش إلا الله » إن قيل: ما من مؤمن إلا وقد خشي غير الله، وما زال المؤمنون والأنبياء يخشون الأعداء من غيرهم. قيل له: المعنى ولم يخش إلا الله مما يعبد: فإن المشركين كانوا يعبدون الأوثان ويخشونها ويرجونها. جواب ثان - أي لم يخف في باب الدين إلا الله.

 

فإن قيل: فقد أثبت الإيمان في الآية لمن عمر المساجد بالصلاة فيها، وتنظيفها وإصلاح ما وهى منها، وآمن بالله. ولم يذكر الإيمان بالرسول فيها ولا إيمان لمن لم يؤمن بالرسول. قيل له: دل على الرسول ما ذكر من إقامة الصلاة وغيرها لأنه مما جاء به، فإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة إنما يصح من المؤمن بالرسول، فلهذا لم يفرده بالذكر. و « عسى » من الله واجبة، عن ابن عباس وغيره. وقيل: عسى بمعنى خليق أي فخليق « أن يكونوا من المهتدين » .

 

الآية: 19 ( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين )

 

قوله تعالى: « أجعلتم سقاية الحاج » التقدير في العربية: أجعلتم أصحاب سقاية الحاج أو أهل سقاية الحاج مثل من آمن بالله وجاهد في سبيله. ويصح أن يقدر الحذف في « من آمن » أي أجعلتم عمل سقي الحاج كعمل من آمن. وقيل: التقدير كإيمان من آمن. والسقاية مصدر كالسعاية والحماية. فجعل الاسم بموضع المصدر إذ علم معناه، مثل إنما السخاء حاتم، وإنما الشعر زهير. وعمارة المسجد الحرام مثل « واسأل القرية » [ يوسف: 82 ] . وقرأ أبو وجزة « أجعلتم سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام » سقاة جمع ساق والأصل سقية على فعلة، كذا يجمع المعتل من هذا، نحو قاض وقضاة وناس ونساة. فإن لم يكن معتلا جمع على فعلة، نحو ناسئ ونسأة، للذين كانوا ينسؤون الشهور. وكذا قرأ ابن الزبير وسعيد بن جبير « سقاة وعمرة » إلا أن ابن جبير نصب « المسجد » على إرادة التنوين في « عمرة » وقال الضحاك: سقاية بضم السين، وهي لغة. والحاج اسم جنس الحجاج. وعمارة المسجد الحرام: معاهدته والقيام بمصالحه. وظاهر هذه الآية أنها مبطلة قول من افتخر من المشركين بسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، كما ذكره السدي. قال: افتخر عباس بالسقاية، وشيبة بالعمارة، وعلي بالإسلام والجهاد، فصدق الله عليا وكذبهما، وأخبر أن العمارة لا تكون بالكفر، وإنما تكون بالإيمان والعبادة وأداء الطاعة. وهذا بين لا غبار عليه. ويقال: إن المشركين سألوا اليهود وقالوا: نحن سقاة الحاج وعمار المسجد الحرام، أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه؟ فقالت لهم اليهود عنادا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتم أفضل. وقد اعترض هنا إشكال وهو ما جاء في صحيح مسلم عن النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: ما أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج. وقال آخر: ما أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام. وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم. فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو يوم الجمعة - ولكن إذا صليت الجمعة دخلت واستفتيته فيما اختلفتم فيه. فأنزل الله عز وجل: « أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر » إلى آخر الآية. وهذا المساق يقتضي أنها إنما نزلت عند اختلاف المسلمين في الأفضل من هذه الأعمال. وحينئذ لا يليق أن يقال لهم في آخر الآية: « والله لا يهدي القوم الظالمين » فتعين الإشكال. وإزالته بأن يقال: إن بعض الرواة تسامح في قوله، فأنزل الله الآية. وإنما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم الآية على عمر حين سأله فظن الراوي أنها نزلت حينئذ. واستدل بها النبي صلى الله عليه وسلم على أن الجهاد أفضل مما قال أولئك الذين سمعهم عمر، فاستفتى لهم فتلا عليه ما قد كان أنزل عليه، لا أنها نزلت في هؤلاء. والله أعلم.

فإن قيل: فعلى هذا يجوز الاستدلال على المسلمين بما أنزل في الكافرين، ومعلوم أن أحكامهم مختلفة. قيل له: لا يستبعد أن ينتزع مما أنزل الله في المشركين أحكام تليق بالمسلمين. وقد قال عمر: إنا لو شئنا لاتخذنا سلائق وشواء وتوضع صحفة وترفع أخرى ولكنا سمعنا قول الله تعالى: « أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها » [ الأحقاف: 20 ] . وهذه الآية نص في الكفار، ومع ذلك ففهم منها عمر الزجر عما يناسب أحوالهم بعض المناسبة، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة. فيمكن أن تكون هذه الآية من هذا النوع. وهذا نفيس وبه يزول الإشكال ويرتفع الإبهام، والله أعلم.

 

الآية: 20 ( الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون )

 

قوله تعالى: « الذين آمنوا » في موضع رفع بالابتداء. وخبره « أعظم درجة عند الله » . و « درجة » نصب على البيان، أي من الذين افتخروا بالسقي والعمارة. وليس للكافرين درجة عند الله حتى يقال: المؤمن أعظم درجة. والمراد أنهم قدروا لأنفسهم الدرجة بالعمارة والسقي فخاطبهم على ما قدروه في أنفسهم وإن كان التقدير خطأ كقوله تعالى: « أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا » [ الفرقان: 24 ] . وقيل: « أعظم درجة » من كل ذي درجة، أي لهم المزية والمرتبة العلية. « وأولئك هم الفائزون » بذلك.

 

الآية: 21 ( يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم )

 

قوله تعالى: « يبشرهم ربهم » أي يعلمهم في الدنيا ما لهم في الآخرة من الثواب الجزيل والنعيم المقيم. والنعيم: لين العيش ورغده.

 

الآية: 22 ( خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم )

 

قوله تعالى: « خالدين » نصب على الحال. والخلود الإقامة. « إن الله عنده أجر عظيم » أي أعد لهم في دار كرامته ذلك الثواب.

 

الآية: 23 ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون )

 

ظاهر هذه الآية أنها خطاب لجميع المؤمنين كافة، وهي باقية الحكم إلى يوم القيامة في قطع الولاية بين المؤمنين والكافرين. وروت فرقة أن هذه الآية إنما نزلت في الحض على الهجرة ورفض بلاد الكفرة. فالمخاطبة على هذا إنما هي للمؤمنين الذين كانوا بمكة وغيرها من بلاد العرب، خوطبوا بألا يوالوا الآباء والإخوة فيكونوا لهم تبعا في سكنى بلاد الكفر. « إن استحبوا » أي أحبوا، كما يقال: استجاب بمعنى أجاب. أي لا تطيعوهم ولا تخصوهم. وخص الله سبحانه الآباء والإخوة إذ لا قرابة أقرب منها. فنفى الموالاة بينهم كما نفاها بين الناس بقوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء » [ المائدة: 51 ] ليبين أن القرب قرب الأديان لا قرب الأبدان. وفي مثله تنشد الصوفية:

يقولون لي دار الأحبة قد دنت وأنت كئيب إن ذا لعجيب

فقلت وما تغني ديار قريبة إذا لم يكن بين القلوب قريب

فكم من بعيد الدار نال مراده وآخر جار الجنب مات كئيب

ولم يذكر الأبناء في هذه الآية إذ الأغلب من البشر أن الأبناء هم التبع للآباء. والإحسان والهبة مستثناة من الولاية. قالت أسماء: يا رسول الله، إن أمي قدمت علي راغبة وهي مشركة أفأصلها؟ قال: ( صلي أمك ) خرجه البخاري. « ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون » قال ابن عباس: هو مشرك مثلهم لأن من رضي بالشرك فهو مشرك.

 

الآية: 24 ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين )

 

لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة من مكة إلى المدينة جعل الرجل يقول لأبيه والأب لابنه والأخ لأخيه والرجل لزوجته: إنا قد أمرنا بالهجرة، فمنهم من تسارع لذلك، ومنهم من أبى أن يهاجر، فيقول: والله لئن لم تخرجوا إلى دار الهجرة لا أنفعكم ولا أنفق عليكم شيئا أبدا. ومنهم من تتعلق به امرأته وولده ويقولون له: أنشدك بالله ألا تخرج فنضيع بعدك، فمنهم من يرق فيدع الهجرة ويقيم معهم، فنزلت « يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آبائكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان » . يقول: إن اختاروا الإقامة على الكفر بمكة على الإيمان بالله والهجرة إلى المدينة. « ومن يتولهم منكم » بعد نزول الآية « فأولئك هم الظالمون » . ثم نزل في الذين تخلفوا ولم يهاجروا: « قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم » وهي الجماعة التي ترجع إلى عقد واحد كعقد العشرة فما زاد، ومنه المعاشرة وهي الاجتماع على الشيء. « وأموال اقترفتموها » يقول: اكتسبتموها بمكة. وأصل الاقتراف اقتطاع الشيء من مكانه إلى غيره. « وتجارة تخشون كسادها » قال ابن المبارك: هي البنات والأخوات إذا كسدن في البيت لا يجدن لهن خاطبا. قال الشاعر:

كسدن من الفقر في قومهن وقد زادهن مقامي كسودا

« ومساكن ترضونها » يقول: ومنازل تعجبكم الإقامة فيها. « أحب إليكم من الله ورسوله »

من أن تهاجروا إلى الله ورسوله بالمدينة. « وأحب » خبر كان. ويجوز في غير القرآن رفع « أحب » على الابتداء والخبر، واسم كان مضمر فيها. وأنشد سيبويه:

إذا مت كان الناس صنفان: شامت وآخر مثن بالذي كنت أصنع

وأنشد:

هي الشفاء لدائي لو ظفرت بها وليس منها شفاء الداء مبذول

وفي الآية دليل على وجوب حب الله ورسوله، ولا خلاف في ذلك بين الأمة، وأن ذلك مقدم على كل محبوب. وقد مضى في « آل عمران » معنى محبة الله تعالى ومحبة رسوله. « وجهاد في سبيله فتربصوا » صيغته صيغة أمر ومعناه التهديد. يقول: انتظروا. وفي قوله: « وجهاد في سبيله » دليل على فضل الجهاد، وإيثاره على راحة النفس وعلائقها بالأهل والمال. وسيأتي فضل الجهاد في آخر السورة. وقد مضى من أحكام الهجرة في « النساء » ما فيه كفاية، والحمد لله. وفي الحديث الصحيح ( إن الشيطان قعد لابن آدم ثلاث مقاعد قعد له في طريق الإسلام فقال لم تذر دينك ودين آبائك فخالفه وأسلم وقعد له في طريق الهجرة فقال له أتذر مالك وأهلك فخالفه وهاجر ثم قعد في طريق الجهاد فقال له تجاهد فتقتل فينكح أهلك ويقسم مالك فخالفه وجاهد فحق على الله أن يدخله الجنة ) . وأخرجه النسائي من حديث سبرة بن أبي فاكه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الشيطان... ) فذكره. قال البخاري: ( ابن الفاكه ) ولم يذكر فيها اختلافا. وقال ابن أبي عدي: يقال ابن الفاكه وابن أبي الفاكه. انتهى.

 

الآية: 25 ( لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين )

 

قوله تعالى: « لقد نصركم الله في مواطن كثيرة » لما بلغ هوازن فتح مكة جمعهم مالك بن عوف النصري من بنى نصر بن مالك، وكانت الرياسة في جميع العسكر إليه، وساق مع الكفار أموالهم ومواشيهم ونساءهم وأولادهم، وزعم أن ذلك يحمي به نفوسهم وتشتد في القتال عند ذلك شوكتهم. وكانوا ثمانية آلاف في قول الحسن ومجاهد. وقيل: أربعة آلاف، من هوازن وثقيف. وعلى هوازن مالك بن عوف، وعلى ثقيف كنانة بن عبد، فنزلوا بأوطاس. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله بن أبي حدرد الأسلمي عينا، فأتاه وأخبره بما شاهد منهم، فعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قصدهم، واستعار من صفوان بن أمية بن خلف الجمحي دروعا. قيل: مائة درع. وقيل: أربعمائة درع. واستسلف من ربيعة المخزومي ثلاثين ألفا أو أربعين ألفا، فلما قدم قضاه إياها. ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( بارك الله لك في أهلك ومالك إنما جزاء السلف الوفاء والحمد ) خرجه ابن ماجة في السنن. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألفا من المسلمين، منهم عشرة آلاف صحبوه من المدينة وألفان من مسلمة الفتح وهم الطلقاء إلى من انضاف إليه من الأعراب من سُليم وبني كلاب وعبس وذبيان. واستعمل على مكة عتاب بن أسيد. وفي مخرجه هذا رأى جهال الأعراب شجرة خضراء وكان لهم في الجاهلية شجرة معروفة تسمى ذات أنواط يخرج إليها الكفار يوما معلوما في السنة يعظمونها، فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال عليه السلام: ( الله أكبر قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى « اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون » لتركبن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة حتى أنهم لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) . فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى وادي حنين، وهو من أودية تهامة، وكانت هوازن قد كمنت في جنبتي الوادي وذلك في غبش الصبح فحملت على المسلمين حملة رجل واحد، فانهزم جمهور المسلمين ولم يلو أحد على أحد، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت معه أبو بكر وعمر، ومن أهل بيته علي والعباس وأبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب وابنه جعفر، وأسامة بن زيد، وأيمن بن عبيد وهو أيمن بن أم أيمن قتل يومئذ بحنين - وربيعة بن الحارث، والفضل بن عباس، وقيل في موضع جعفر بن أبي سفيان: قثم بن العباس. فهؤلاء عشرة رجال، ولهذا قال العباس:

نصرنا رسول الله في الحرب تسعة وقد فر من قد فر عنه وأقشعوا

وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه بما مسه في الله لا يتوجع

وثبتت أم سليم في جملة من ثبت محتزمة ممسكة بعيرا لأبي طلحة وفي يدها خنجر. ولم ينهزم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من هؤلاء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته الشهباء واسمها دلدل. وفي صحيح مسلم عن أنس قال عباس: وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها إرادة ألا تسرع وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أي عباس ناد أصحاب السمرة ) . فقال عباس - وكان رجلا صيتا. ويروى من شدة صوته أنه أغير يوما على مكة فنادى واصباحاه فأسقطت كل حامل سمعت صوته جنينها - : فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة؟ قال: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها. فقالوا: يا لبيك يا لبيك. قال: فاقتتلوا والكفار... ) الحديث. وفيه: ( قال ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات فرمى بهن وجوه الكفار ) . ثم قال: ( انهزموا ورب محمد ) . قال فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى. قال: فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته، فما زلت أرى حدهم كليلا وأمرهم مدبرا. قال أبو عمر: روينا من وجوه عن بعض من أسلم من المشركين ممن شهد حنينا أنه قال - وقد سئل عن يوم حنين - : لقينا المسلمين فما لبثنا أن هزمناهم وأتبعناهم حتى انتهينا إلى رجل راكب على بغلة بيضاء، فلما رآنا زجرنا زجرة وانتهرنا، وأخذ بكفه حصى وترابا فرمى به وقال: ( شاهت الوجوه ) فلم تبق عين إلا دخلها من ذلك، وما ملكنا أنفسنا أن رجعنا على أعقابنا. وقال سعيد بن جبير: حدثنا رجل من المشركين، يوم حنين قال: لما التقينا مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقفوا لنا حلب شاة، حتى إذا انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - تلقانا رجال بيض الوجوه حسان، فقالوا لنا: شاهت الوجوه، ارجعوا، فرجعنا وركبوا أكتافنا فكانت إياها. يعني الملائكة.

قلت: ولا تعارض فإنه يحتمل أن يكون شاهت الوجوه من قوله صلى الله عليه وسلم ومن قول الملائكة معا ويدل على أن الملائكة قاتلت يوم حنين. فالله أعلم. وقتل علي رضي الله عنه يوم حنين أربعين رجلا بيده. وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف رأس. وقيل: ستة آلاف، واثني عشر ألف ناق سوى ما لا يعلم من الغنائم.

 

قال العلماء في هذه الغزاة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه ) . وقد مضى في « الأنفال » بيانه. قال ابن العربي: ولهذه النكتة وغيرها أدخل الأحكاميون هذه الآية في الأحكام.

قلت: وفيه أيضا جواز استعارة السلاح وجواز الاستمتاع بما استعير إذا كان على المعهود مما يستعار له مثله، وجواز استلاف الإمام المال عند الحاجة إلى ذلك ورده إلى صاحبه. وحديث صفوان أصل في هذا الباب. وفي هذه الغزاة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ألا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض حيضة ) . وهو يدل على أن السبي يقطع العصمة. وقد مضى بيانه في سورة « النساء » مستوفى. وفي حديث مالك أن صفوان خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كافر، فشهد حنينا والطائف وامرأته مسلمة. الحديث. قال مالك: ولم يكن ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أرى أن يستعان بالمشركين على المشركين إلا أن يكونوا خدما أو نواتية. وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري والأوزاعي: لا بأس بذلك إذا كان حكم الإسلام هو الغالب، وإنما تكره الاستعانة بهم إذا كان حكم الشرك هو الظاهر. وقد مضى القول في الإسهام لهم في « الأنفال »

 

قوله تعالى: « ويوم حنين » حنين واد بين مكة والطائف، وانصرف لأنه اسم مذكر، وهي لغة القرآن. ومن العرب من لا يصرفه، يجعله اسما للبقعة. وأنشد:

نصروا نبيهم وشدوا أزره بحنين يوم تواكل الأبطال

« ويوم » ظرف، وانتصب هنا على معنى: ونصركم يوم حنين. وقال الفراء: لم تنصرف « مواطن » لأنه ليس لها نظير في المفرد وليس لها جماع، إلا أن الشاعر ربما اضطر فجمع، وليس يجوز في الكلام كل ما يجوز في الشعر. وأنشد:

فهن يعلكن حدائداتها

وقال النحاس: رأيت أبا إسحاق يتعجب من هذا قال: أخذ قول الخليل وأخطأ فيه، لأن الخليل يقول فيه: لم ينصرف لأنه جمع لا نظير له في الواحد، ولا يجمع جمع التكسير، وأما بالألف والتاء فلا يمتنع.

 

قوله تعالى: « إذ أعجبتكم كثرتكم » قيل: كانوا اثني عشر ألفا. وقيل: أحد عشر ألفا وخمسمائة. وقيل: ستة عشر ألفا. فقال بعضهم: لن نغلب اليوم عن قلة. فوكلوا إلى هذه الكلمة، فكان ما ذكرناه من الهزيمة في الابتداء إلى أن تراجعوا، فكان النصر والظفر للمسلمين ببركة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم. فبين الله عز وجل في هذه الآية أن الغلبة إنما تكون بنصر الله لا بالكثرة وقد قال: « وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده » [ آل عمران: 160 ] .

 

قوله تعالى: « وضاقت عليكم الأرض بما رحبت » أي من الخوف، كما قال:

كأن بلاد الله وهي عريضة على الخائف المطلوب كفة حابل

والرحب - بضم الراء - السعة. تقول منه: فلان رحب الصدر. والرحب - بالفتح - : الواسع. تقول منه: بلد رحب، وأرض رحبة. وقد رحبت ترحب رحبا ورحابة. وقيل: الباء بمعنى مع أي مع رحبها. وقيل: بمعنى على، أي على رحبها. وقيل: المعنى برحبها، فـ « ما » مصدرية.

 

قوله تعالى: « ثم وليتم مدبرين » روى مسلم عن أبي إسحاق قال: جاء رجل إلى البراء فقال: أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة. فقال: أشهد على نبي الله صلى الله عليه وسلم ما ولى، ولكنه انطلق أخِفّاءُ من الناس، وحسر إلى هذا الحي من هوازن. وهم قوم رماة فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد فانكشفوا، فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان يقود به بغلته، فنزل ودعا واستنصر وهو يقول: ( أنا النبي لا كذب. أنا ابن عبدالمطلب. اللهم نزل نصرك ) . قال البراء: كنا والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي صلى الله عليه وسلم.

الآية [ 26 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيتان: 26 - 27 ( ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين، ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم )

 

قوله تعالى: « ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين » أي أنزل عليهم ما يسكنهم ويذهب خوفهم، حتى اجترؤوا على قتال المشركين بعد أن ولوا. « وأنزل جنودا لم تروها » وهم الملائكة، يقوون المؤمنين بما يلقون في قلوبهم من الخواطر والتثبيت، ويضعفون الكافرين بالتجبين لهم من حيث لا يرونهم ومن غير قتال، لأن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر. وروي أن رجلا من بني نصر قال للمؤمنين بعد القتال: أين الخيل البلق، والرجال الذين كانوا عليها بيض، ما كنا فيهم إلا كهيئة الشامة، وما كان قتلنا إلا بأيديهم. أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: ( تلك الملائكة ) . « وعذب الذين كفروا » أي بأسيافكم. « وذلك جزاء الكافرين، ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء » أي على من انهزم فيهديه إلى الإسلام. كمالك بن عوف النصري رئيس حنين ومن أسلم معه من قومه.

 

ولما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم حنين بالجعرانة، أتاه وفد هوازن مسلمين راغبين في العطف عليهم والإحسان إليهم، وقالوا: يا رسول الله، انك خير الناس وأبر الناس، وقد أخذت أبناءنا ونساءنا وأموالنا. فقال لهم: ( إني قد كنت استأنيت بكم وقد وقعت المقاسم وعندي من ترون وإن خير القول أصدقه فاختاروا إما ذراريكم وإما أموالكم ) . فقالوا: لا نعدل بالأنساب شيئا. فقام خطيبا وقال: ( هؤلاء جاؤونا مسلمين وقد خيرناهم فلم يعدلوا بالأنساب فرضوا برد الذرية وما كان لي ولبني عبدالمطلب وبني هاشم فهو لهم ) . وقال المهاجرون والأنصار: أما ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وامتنع الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن في قومهما من أن يردوا عليهم شيئا مما وقع لهم في سهامهم. وامتنع العباس بن مرداس السلمي كذلك، وطمع أن يساعده قومه كما ساعد الأقرع وعيينة قومهما. فأبت بنو سليم وقالوا: بل ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من ضن منكم بما في يديه فإنا نعوضه منه ) . فرد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءهم وأولادهم، وعوض من لم تطب نفسه بترك نصيبه أعواضا رضوا بها. وقال قتادة: ذكر لنا أن ظئر النبي صلى الله عليه وسلم التي أرضعته من بني سعد أتته يوم حنين فسألته سبايا حنين فقال صلى الله عليه وسلم: ( إني لا أملك إلا ما يصيبني منهم ولكن ايتيني غدا فاسأليني والناس عندي فإذا أعطيتك حصتي أعطاك الناس ) . فجاءت الغد فبسط لها ثوبه فأقعدها عليه. ثم سألته فأعطاها نصيبه فلما رأى ذلك الناس أعطوها أنصباءهم. وكان عدد سبي هوزان في قول سعيد بن المسيب ستة آلاف رأس. وقيل: أربعة آلاف. قال أبو عمر: فيهن الشيماء أخت النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، وهي بنت الحارث بن عبدالعزى من بنى سعد بن بكر وبنت حليمة السعدية، فأكرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاها وأحسن إليها، ورجعت مسرورة إلى بلادها بدينها وبما أفاء الله عليها. قال ابن عباس: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أوطاس امرأة تعدو وتصيح ولا تستقر، فسأل عنها فقيل: فقدت بنيا لها. ثم رآها وقد وجدت ابنها وهي تقبله وتدنيه، فدعاها وقال لأصحابه: ( أطارحة هذه ولدها في النار ) ؟ قالوا: لا. قال: ( لم ) ؟ قالوا: لشفقتها. قال: ( الله أرحم بكم منها ) . وخرجه مسلم بمعناه والحمد لله.

 

الآية: 28 ( يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم )

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس » ابتداء وخبر. واختلف العلماء في معنى وصف المشرك بالنجس، فقال قتادة ومعمر بن راشد وغيرهما: لأنه جنب إذ غسله من الجنابة ليس بغسل. وقال ابن عباس وغيره: بل معنى الشرك هو الذي نجسه. قال الحسن البصري من صافح مشركا فليتوضأ. والمذهب كله على إيجاب الغسل على الكافر إذا أسلم إلا ابن عبدالحكم فإنه قال: ليس بواجب، لأن الإسلام يهدم ما كان قبله. وبوجوب الغسل عليه قال أبو ثور وأحمد. وأسقطه الشافعي وقال: أحب إلي أن يغتسل. ونحوه لابن القاسم. ولمالك قول: إنه لا يعرف الغسل، رواه عنه ابن وهب وابن أبي أويس. وحديث ثمامة وقيس بن عاصم يرد هذه الأقوال. رواهما أبو حاتم البستي في صحيح مسنده. وأن النبي صلى الله عليه وسلم مر بثمامة يوما فأسلم فبعث به إلى حائط أبي طلحة فأمره أن يغتسل، فاغتسل وصلى ركعتين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لقد حسن إسلام صاحبكم ) وأخرجه مسلم بمعناه. وفيه: أن ثمامة لما من عليه النبي صلى الله عليه وسلم انطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل. وأمر قيس بن عاصم أن يغتسل بماء وسدر. فإن كان إسلامه قبيل احتلامه فغسله مستحب. ومتى أسلم بعد بلوغه لزمه أن ينوي بغسله الجنابة. هذا قول علمائنا، وهو تحصيل المذهب. وقد أجاز ابن القاسم للكافر أن يغتسل قبل إظهاره للشهادة بلسانه إذا اعتقد الإسلام بقلبه وهو قول ضعيف في النظر مخالف للأثر. وذلك أن أحدا لا يكون بالنية مسلما دون القول. هذا قول جماعة أهل السنة في الإيمان: إنه قول باللسان وتصديق بالقلب، ويزكو بالعمل. قال الله تعالى: « إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه » [ فاطر: 10 ] .

 

قوله تعالى: « فلا يقربوا المسجد الحرام » « فلا يقربوا » نهي، ولذلك حذفت منه النون. « المسجد الحرام » هذا اللفظ يطلق على جميع الحرم، وهو مذهب عطاء فإذا يحرم تمكين المشرك من دخول الحرم أجمع. فإذا جاءنا رسول منهم خرج الإمام إلى الحل ليسمع ما يقول. ولو دخل مشرك الحرم مستورا ومات نبش قبره وأخرجت عظامه. فليس لهم الاستيطان ولا الاجتياز. وأما جزيرة العرب، وهي مكة والمدينة واليمامة واليمن ومخاليفها، فقال مالك: يخرج من هذه المواضع كل من كان على غير الإسلام، ولا يمنعون من التردد بها مسافرين. وكذلك قال الشافعي رحمه الله، غير أنه استثنى من ذلك اليمن. ويضرب لهم أجل ثلاثة أيام كما ضربه لهم عمر رضي الله عنه حين أجلاهم. ولا يدفنون فيها ويلجؤون إلى الحل.

 

واختلف العلماء في دخول الكفار المساجد والمسجد الحرام على خمسة أقوال، فقال أهل المدينة الآية عامة في سائر المشركين وسائر المساجد. وبذلك كتب عمر بن عبدالعزيز إلى عماله ونزع في كتابه بهذه الآية. ويؤيد ذلك قوله تعالى: « في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه » [ النور: 36 ] . ودخول الكفار فيها مناقض لترفيعها. وفي صحيح مسلم وغيره: ( إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول والقذر... ) الحديث. والكافر لا يخلو عن ذلك. وقال صلى الله عليه وسلم: ( لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب ) والكافر جنب وقوله تعالى: « إنما المشركون نجس » فسماه الله تعالى نجسا. فلا يخلو أن يكون نجس العين أو مبعدا من طريق الحكم. وأي ذلك كان فمنعه من المسجد واجب لأن العلة وهي النجاسة موجودة فيهم، والحرمة موجودة في المسجد. يقال: رجل نجس، وامرأة نجس، ورجلان نجس، وامرأتان نجس، ورجال نجس، ونساء نجس، لا يثنى ولا يجمع لأنه مصدر. فأما النجس - بكسر النون وجزم الجيم - فلا يقال إلا إذا قيل معه رجس. فإذا أفرد قيل نجس - بفتح النون وكسر الجيم - ونجس - بضم الجيم - . وقال الشافعي رحمه الله: الآية عامة في سائر المشركين، خاصة في المسجد الحرام، ولا يمنعون من دخول غيره، فأباح دخول اليهودي والنصراني في سائر المساجد. قال ابن العربي: وهذا جمود منه على الظاهر، لأن قوله عز وجل: « إنما المشركون نجس » تنبيه على العلة بالشرك والنجاسة. فإن قيل: فقد ربط النبي صلى الله عليه وسلم ثمامة في المسجد وهو مشرك. قيل له: أجاب علماؤنا عن هذا الحديث - وإن كان صحيحا - بأجوبة: أحدها: أنه كان متقدما على نزول الآية. الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد علم بإسلامه فلذلك ربطه. الثالث أن ذلك قضية في عين فلا ينبغي أن تدفع بها الأدلة التي ذكرناها، لكونها مقيدة حكم القاعدة الكلية. وقد يمكن أن يقال: إنما ربطه في المسجد لينظر حسن صلاة المسلمين واجتماعهم عليها، وحسن آدابهم في جلوسهم في المسجد، فيستأنس بذلك ويسلم، وكذلك كان. ويمكن أن يقال: إنهم لم يكن لهم موضع يربطونه فيه إلا في المسجد، والله أعلم. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يمنع اليهود والنصارى من دخول المسجد الحرام ولا غيره، ولا يمنع دخول المسجد الحرام إلا المشركون وأهل الأوثان. وهذا قول يرده كل ما ذكرناه من الآية وغيرها. قال الكيا الطبري: ويجوز للذمي دخول سائر المساجد عند أبي حنيفة من غير حاجة. وقال الشافعي: تعتبر الحاجة، ومع الحاجة لا يجوز دخول المسجد الحرام. وقال عطاء بن أبي رباح: الحرم كله قبلة ومسجد، فينبغي أن يمنعوا من دخول الحرم، لقوله تعالى: « سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام » [ الإسراء: 1 ] . وإنما رفع من بيت أم هانئ. وقال قتادة: لا يقرب المسجد الحرام مشرك إلا أن يكون صاحب جزية أو عبدا كافرا لمسلم. وروى إسماعيل بن إسحاق حدثنا يحيى بن عبدالحميد قال حدثنا شريك عن أشعث عن الحسن عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يقرب المسجد مشرك إلا أن يكون عبدا أو أمة فيدخله لحاجة ) . وبهذا قال جابر بن عبدالله فإنه قال: العموم يمنع المشرك عن قربان المسجد الحرام، وهو مخصوص في العبد والأمة.

 

قوله تعالى: « بعد عامهم هذا » فيه قولان: أحدهما - أنه سنة تسع التي حج فيها أبو بكر. الثاني سنة عشر قاله قتادة. ابن العربي: وهو الصحيح الذي يعطيه مقتضى اللفظ وإن من العجب أن يقال: إنه سنة تسع وهو العام الذي وقع فيه الأذان. ولو دخل غلام رجل داره يوما فقال له مولاه: لا تدخل هذه الدار بعد يومك لم يكن المراد اليوم الذي دخل فيه.

 

قوله تعالى: « وإن خفتم عيلة » قال عمرو بن فائد: المعنى وإذ خفتم. وهذه عجمة، والمعنى بارع بـ « إن » . وكان المسلمون لما منعوا المشركين من الموسم وهم كانوا يجلبون الأطعمة والتجارات، قذف الشيطان في قلوبهم الخوف من الفقر وقالوا: من أين نعيش. فوعدهم الله أن يغنيهم من فضله. قال الضحاك: ففتح الله عليهم باب الجزية من أهل الذمة بقوله عز وجل: « قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر » [ التوبة: 29 ] الآية. وقال عكرمة: أغناهم الله بإدرار المطر والنبات وخصب الأرض فأخصبت تبالة وجرش وحملوا إلى مكة الطعام والودك وكثر الخير وأسلمت العرب: أهل نجد وصنعاء وغيرهم فتمادى حجهم وتجرهم وأغنى الله من فضله بالجهاد والظهور على الأمم. والعيلة: الفقر. يقال: عال الرجل يعيل إذا افتقر. قال الشاعر:

وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل

وقرأ علقمة وغيره من أصحاب ابن مسعود « عائلة » وهو مصدر كالقائلة من قال يقيل. وكالعافية. ويحتمل أن يكون نعتا لمحذوف تقديره: حالا عائلة، ومعناه خصلة شاقة. يقال منه: عالني الأمر يعولني: أي شق علي واشتد. وحكى الطبري أنه يقال: عال يعول إذا افتقر.

 

في هذه الآية دليل على أن تعلق القلب بالأسباب في الرزق جائز وليس ذلك بمناف للتوكل وإن كان الرزق مقدرا وأمر الله وقسمه مفعولا ولكنه علقه بالأسباب حكمة ليعلم القلوب التي تتعلق بالأسباب من القلوب التي تتوكل على رب الأرباب. وقد تقدم أن السبب لا ينافي التوكل قال صلى الله عليه وسلم: ( لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا ) . أخرجه البخاري. فأخبر أن التوكل الحقيقي لا يضاده الغدو والرواح في طلب الرزق. ابن العربي: ولكن شيوخ الصوفية قالوا: إنما يغدو ويروح في الطاعات فهو السبب الذي يجلب الرزق. قالوا: والدليل عليه أمران: أحدهما: قوله تعالى: « وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك » [ طه: 132 ] الثاني: قوله تعالى: « إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح برفعه » [ فاطر: 10 ] فليس ينزل الرزق من محله، وهو السماء، إلا ما يصعد وهو الذكر الطيب والعمل الصالح وليس بالسعي في الأرض فإنه ليس فيها رزق. والصحيح ما أحكمته السنة عند فقهاء الظاهر وهو العمل بالأسباب الدنيوية من الحرث والتجارة في الأسواق والعمارة للأموال وغرس الثمار. وقد كانت الصحابة تفعل ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم. قال أبو الحسن بن بطال: أمر الله سبحانه عباده بالإنفاق من طيبات ما كسبوا إلى غير ذلك من الآي. وقال: « فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه » [ البقرة: 173 ] . فأحل للمضطر ما كان حرم عليه عند عدمه للغذاء الذي أمره باكتسابه والاغتذاء به، ولم يأمره بانتظار طعام ينزل عليه من السماء، ولو ترك السعي في ترك ما يتغذى به لكان لنفسه قاتلا. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوى من الجوع ما يجد ما يأكله، ولم ينزل عليه طعام من السماء، وكان يدخر لأهله قوت سنته حتى فتح الله عليه الفتوح. وقد روى أنس بن مالك أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم ببعير فقال: يا رسول الله، أعقله وأتوكل أو أطلقه وأتوكل؟ قال: ( اعقله وتوكل ) .

قلت: ولا حجة لهم في أهل الصفة، فإنهم كانوا فقراء يقعدون في المسجد ما يحرثون ولا يتجرون، ليس لهم كسب ولا مال، إنما هم أضياف الإسلام عند ضيق البلدان، ومع ذلك فإنهم كانوا يحتطبون بالنهار ويسرقون الماء إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقرؤون القرآن بالليل ويصلون. هكذا وصفهم البخاري وغيره. فكانوا يتسببون. وكان صلى الله عليه وسلم إذا جاءته هدية أكلها معهم، وإن كانت صدقة خصهم بها، فلما كثر الفتح وانتشر الإسلام خرجوا وتأمروا - كأبي هريرة وغيره - وما قعدوا. ثم قيل: الأسباب التي يطلب بها الرزق ستة أنواع:

أعلاها: كسب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قال: ( جعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري ) . خرجه الترمذي وصححه. فجعل الله رزق نبيه صلى الله عليه وسلم في كسبه لفضله، وخصه بأفضل أنواع الكسب، وهو أخذ الغلبة والقهر لشرفه.

الثاني: أكل الرجل من عمل يده، قال صلى الله عليه وسلم: ( إن أطيب ما أكل الرجل من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده ) خرجه البخاري. وفي التنزيل « وعلمناه صنعة لبوس لكم » [ الأنبياء: 80 ] ، وروي أن عيسى عليه السلام كان يأكل من غزل أمه.

الثالث: التجارة، وهي كانت عمل جل الصحابة رضوان الله عليهم، وخاصة المهاجرين، وقد دل عليها التنزيل في غير موضع.

الرابع: الحرث والغرس. وقد بيناه في سورة « البقرة » .

الخامس: إقراء القرآن وتعليمه والرقية، وقد مضى في الفاتحة

السادس: يأخذ بنية الأداء إذا احتاج، قال صلى الله عليه وسلم: ( من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله ) . خرجه البخاري. رواه أبو هريرة رضي الله عنه.

 

قوله تعالى: « إن شاء » دليل على أن الرزق ليس بالاجتهاد، وإنما هو من فضل الله تولى قسمته بين عباده وذلك بين في قوله تعالى: « نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا » [ الزخرف: 32 ] الآية.

 

الآية: 29 ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون )

 

قوله تعالى: « قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر » لما حرم الله تعالى على الكفار أن يقربوا المسجد الحرام، وجد المسلمون في أنفسهم بما قطع عنهم من التجارة التي كان المشركون يوافون بها، قال الله عز وجل: « وإن خفتم عيلة » [ التوبة:28 ] الآية. على ما تقدم. ثم أحل في هذه الآية الجزية وكانت لم تؤخذ قبل ذلك، فجعلها عوضا مما منعهم من موافاة المشركين بتجارتهم. فقال الله عز وجل: « قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر » الآية. فأمر سبحانه وتعالى بمقاتلة جميع الكفار لإصفاقهم على هذا الوصف، وخص أهل الكتاب بالذكر إكراما لكتابهم، ولكونهم عالمين بالتوحيد والرسل والشرائع والملل، وخصوصا ذكر محمد صلى الله عليه وسلم وملته وأمته. فلما أنكروه تأكدت عليهم الحجة وعظمت منهم الجريمة، فنبه على محلهم ثم جعل للقتال غاية وهي إعطاء الجزية بدلا عن القتل. وهو الصحيح. قال ابن العربي: سمعت أبا الوفاء علي بن عقيل في مجلس النظر يتلوها ويحتج بها. فقال: « قاتلوا » وذلك أمر بالعقوبة. ثم قال: « الذين لا يؤمنون » وذلك بيان للذنب الذي أوجب العقوبة. وقوله: « ولا باليوم الآخر » تأكيد للذنب في جانب الاعتقاد. ثم قال: « ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله » زيادة للذنب في مخالفة الأعمال. ثم قال: « ولا يدينون دين الحق » إشارة إلى تأكيد المعصية بالانحراف والمعاندة والأنفة عن الاستسلام. ثم قال: « من الذين أوتوا الكتاب » تأكيد للحجة، لأنهم كانوا يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل. ثم قال: « حتى يعطوا الجزية عن يد » فبين الغاية التي تمتد إليها العقوبة وعين البدل الذي ترتفع به.

 

وقد اختلف العلماء فيمن تؤخذ منه الجزية، قال الشافعي رحمه الله: لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب خاصة عربا كانوا أو عجما لهذه الآية، فإنهم هم الذين خصوا بالذكر فتوجه الحكم إليهم دون من سواهم لقوله عز وجل: « فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم » [ التوبة:5 ] . ولم يقل: حتى يعطوا الجزية كما قال في أهل الكتاب. وقال: وتقبل من المجوس بالسنة وبه قال أحمد وأبو ثور. وهو مذهب الثوري وأبي حنيفة وأصحابه. وقال الأوزاعي: تؤخذ الجزية من كل عابد وثن أو نار أو جاحد أو مكذب. وكذلك مذهب مالك، فإنه رأى الجزية تؤخذ من جميع أجناس الشرك والجحد، عربيا أو عجميا، تغلبيا أو قرشيا، كائنا من كان، إلا المرتد. وقال ابن القاسم وأشهب وسحنون: تؤخذ الجزية من مجوس العرب والأمم كلها. وأما عبدة الأوثان من العرب فلم يستن الله فيهم جزية، ولا يبقى على الأرض منهم أحد، وإنما لهم القتال أو الإسلام. ويوجد لابن القاسم: أن الجزية تؤخذ منهم، كما يقول مالك. وذلك في التفريع لابن الجلاب وهو احتمال لا نص. وقال ابن وهب: لا تقبل الجزية من مجوس العرب وتقبل من غيرهم. قال: لأنه ليس في العرب مجوسي إلا وجميعهم أسلم، فمن وجد منهم بخلاف الإسلام فهو مرتد يقتل بكل حال إن لم يسلم ولا تقبل منهم جزية. وقال ابن الجهم: تقبل الجزية من كل من دان بغير الإسلام إلا ما أجمع عليه من كفار قريش. وذكر في تعليل ذلك أنه إكرام لهم عن الذلة والصغار، لمكانهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال غيره: إنما ذلك لأن جميعهم أسلم يوم فتح مكة. والله أعلم.

 

وأما المجوس فقال ابن المنذر: لا أعلم خلافا أن الجزية تؤخذ منهم. وفي الموطأ: مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عمر بن الخطاب ذكر أمر المجوس فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم. فقال عبدالرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( سنوا بهم سنة أهل الكتاب ) . قال أبو عمر: يعني في الجزية خاصة. وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( سنوا بهم سنة أهل الكتاب ) دليل على أنهم ليسوا أهل كتاب. وعلى هذا جمهور الفقهاء. وقد روي عن الشافعي أنهم كانوا أهل كتاب فبدلوا. وأظنه ذهب في ذلك إلى شيء روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه من وجه فيه ضعف، يدور على أبي سعيد البقال، ذكره عبدالرزاق وغيره. قال ابن عطية: وروي أنه قد كان بعث في المجوس نبي اسمه زرادشت. والله أعلم.

 

لم يذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه مقدارا للجزية المأخوذة منهم. وقد اختلف العلماء في مقدار الجزية المأخوذة منهم، فقال عطاء بن أبي رباح: لا توقيت فيها، وإنما هو على ما صولحوا عليه. وكذلك قال يحيى بن آدم وأبو عبيد والطبري، إلا أن الطبري قال: أقله دينار وأكثره لا حد له. واحتجوا بما رواه أهل الصحيح عن عمرو بن عوف: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح أهل البحرين على الجزية. وقال الشافعي: دينار على الغني والفقير من الأحرار البالغين لا ينقص منه شيء واحتج بما رواه أبو داود وغيره عن معاذ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا في الجزية. قال الشافعي: وهو المبين عن الله تعالى مراده. وهو قول أبي ثور. قال الشافعي: وإن صولحوا على أكثر من دينار جاز، وإن زادوا وطابت بذلك أنفسهم قبل منهم. وإن صولحوا على ضيافة ثلاثة أيام جاز، إذا كانت الضيافة معلومة في الخبز والشعير والتبن والإدام، وذكر ما على الوسط من ذلك وما على الموسر وذكر موضع النزول والكنِّ من البرد والحر. وقال مالك فيما رواه عنه ابن القاسم وأشهب ومحمد بن الحارث بن زنجويه: إنها أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهما على أهل الورق، الغني والفقير سواء ولو كان مجوسيا. لا يزاد ولا ينقص على ما فرض عمر لا يؤخذ منهم غيره. وقد قيل: إن الضعيف يخفف عنه بقدر ما يراه الإمام. وقال ابن القاسم: لا ينقص من فرض عمر لعسر ولا يزاد عليه لغنى. قال أبو عمر: ويؤخذ من فقرائهم بقدر ما يحتملون ولو درهما. وإلى هذا رجع مالك. وقال أبو حنيفة وأصحابه ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل: اثنا عشر، وأربعة وعشرون، وأربعون. قال الثوري: جاء عن عمر بن الخطاب في ذلك ضرائب مختلفة، فللوالي أن يأخذ بأيها شاء، إذا كانوا أهل ذمة. وأما أهل الصلح فما صولحوا عليه لا غير.

 

قال علماؤنا رحمة الله عليهم: والذي دل عليه القرآن أن الجزية تؤخذ من الرجال المقاتلين، لأنه تعالى قال: « قاتلوا الذين » إلى قوله: « حتى يعطوا الجزية » فيقتضي ذلك وجوبها على من يقاتل. ويدل على أنه ليس على العبد وإن كان مقاتلا، لأنه لا مال له، ولأنه تعالى قال: « حتى يعطوا » . ولا يقال لمن لا يملك حتى يعطي. وهذا إجماع من العلماء على أن الجزية إنما توضع على جماجم الرجال الأحرار البالغين، وهم الذين يقاتلون دون النساء والذرية والعبيد والمجانين المغلوبين على عقولهم والشيخ الفاني. واختلف في الرهبان، فروى ابن وهب عن مالك أنها لا تؤخذ منهم. قال مطرف وابن الماجشون: هذا إذا لم يترهب بعد فرضها فإن فرضت ثم ترهب لم يسقطها ترهبه.

 

إذا أعطى أهل الجزية الجزية لم يؤخذ منهم شيء من ثمارهم ولا تجارتهم ولا زروعهم إلا أن يتجروا في بلاد غير بلادهم التي أقروا فيها وصولحوا عليها. فإن خرجوا تجارا عن بلادهم التي أقروا فيها إلى غيرها أخذ منهم العشر إذا باعوا ونض ثمن ذلك بأيديهم ولو كان ذلك في السنة مرارا إلا في حملهم الطعام الحنطة والزيت إلى المدينة ومكة خاصة، فإنه يؤخذ منهم نصف العشر على ما فعل عمر. ومن أهل المدينة من لا يرى أن يؤخذ من أهل الذمة العشر في تجارتهم إلا مرة في الحول، مثل ما يؤخذ من المسلمين. وهو مذهب عمر بن عبدالعزيز وجماعة من أئمة الفقهاء. والأول قول مالك وأصحابه.

إذا أدى أهل الجزية جزيتهم التي ضربت عليهم أو صولحوا عليها خلي بينهم وبين أموالهم كلها، وبين كرومهم وعصرها ما ستروا خمورهم ولم يعلنوا بيعها من مسلم ومنعوا من إظهار الخمر والخنزير في أسواق المسلمين، فإن أظهروا شيئا من ذلك أريقت الخمر عليهم، وأدب من أظهر الخنزير. وإن أراقها مسلم من غير إظهارها فقد تعدى، ويجب عليه الضمان. وقيل: لا يجب ولو غصبها وجب عليه ردها. ولا يعترض لهم في أحكامهم ولا متاجرتهم فيما بينهم بالربا. فإن تحاكموا إلينا فالحاكم مخير، إن شاء حكم بينهم بما أنزل الله وإن شاء أعرض. وقيل: يحكم بينهم في المظالم على كل حال، ويؤخذ من قويهم لضعيفهم، لأنه من باب الدفع عنهم وعلى الإمام أن يقاتل عنهم عدوهم ويستعين بهم في قتالهم. ولا حظ لهم في الفيء، وما صولحوا عليه من الكنائس لم يزيدوا عليها، ولم يمنعوا من إصلاح ما وهى منها، ولا سبيل لهم إلى إحداث غيرها. ويأخذون من اللباس والهيئة بما يبينون به من المسلمين، ويمنعون من التشبه بأهل الإسلام. ولا بأس باشتراء أولاد العدو منهم إذا لم تكن لهم ذمة. ومن لد في أداء جزيته أدب على لدده وأخذت منه صاغرا.

 

اختلف العلماء فيما وجبت الجزية عنه، فقال علماء المالكية: وجبت بدلا عن القتل بسبب الكفر. وقال الشافعي: وجبت بدلا عن الدم وسكنى الدار. وفائدة الخلاف أنا إذا قلنا وجبت بدلا عن القتل فأسلم سقطت عنه الجزية لما مضى، ولو أسلم قبل تمام الحول بيوم أو بعده عند مالك. وعند الشافعي أنها دين مستقر في الذمة فلا يسقطه الإسلام كأجرة الدار. وقال بعض الحنفية بقولنا. وقال بعضهم: إنما وجبت بدلا عن النصر والجهاد. واختاره القاضي أبو زيد وزعم أنه سر الله في المسألة. وقول مالك أصح، لقوله صلى الله عليه وسلم: ( ليس على مسلم جزية ) . قال سفيان: معناه إذا أسلم الذمي بعد ما وجبت الجزية عليه بطلت عنه. أخرجه الترمذي وأبو داود. قال علماؤنا: وعليه يدل قوله تعالى: « حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون » لأن بالإسلام يزول هذا المعنى. ولا خلاف أنهم إذا أسلموا فلا يؤدون الجزية عن يد وهم صاغرون. والشافعي لا يأخذ بعد الإسلام على الوجه الذي قاله الله تعالى. وإنما يقول: إن الجزية دين، وجبت عليه بسبب سابق وهو السكنى أو توقي شر القتل، فصارت كالديون كلها.

لو عاهد الإمام أهل بلد أو حصن ثم نقضوا عهدهم وامتنعوا من أداء ما يلزمهم من الجزية وغيرها وامتنعوا من حكم الإسلام من غير أن يظلموا وكان الإمام غير جائر عليهم وجب على المسلمين غزوهم وقتالهم مع إمامهم. فإن قاتلوا وغلبوا حكم فيهم بالحكم في دار الحرب سواء. وقد قيل: هم ونساؤهم فيء ولا خمس فيهم، وهو مذهب.

فإن خرجوا متلصصين قاطعين الطريق فهم بمنزلة المحاربين المسلمين إذا لم يمنعوا الجزية. ولو خرجوا متظلمين نظر في أمرهم وردوا إلى الذمة وأنصفوا من ظالمهم ولا يسترق منهم أحد وهم أحرار. فإن نقض بعضهم دون بعض فمن لم ينقض على عهده، ولا يؤخذ بنقض غيره وتعرف إقامتهم على العهد بإنكارهم على الناقضين.

 

الجزية وزنها فعلة، من جزى يجزي إذا كافأ عما أسدي إليه، فكأنهم أعطوها جزاء ما منحوا من الأمن، وهي كالقعدة والجلسة. ومن هذا المعنى قول الشاعر:

يجزيك أو يثني عليك وإن من أثنى عليك بما فعلت كمن جزى

 

روى مسلم عن هشام بن حكيم بن حزام ومر على ناس من الأنباط بالشأم قد أقيموا في الشمس - في رواية: وصب على رؤوسهم الزيت - فقال: ما شأنهم؟ فقال يحبسون في الجزية. فقال هشام: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا ) . في رواية: وأميرهم يومئذ عمير بن سعد على فلسطين، فدخل عليه فحدثه فأمر بهم فخلوا. قال علماؤنا: أما عقوبتهم إذا امتنعوا من أدائها مع التمكين فجائز، فأما مع تبين عجزهم فلا تحل عقوبتهم، لأن من عجز عن الجزية سقطت عنه. ولا يكلف الأغنياء أداءها عن الفقراء. وروى أبو داود عن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ شيئا منه بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة ) .

 

قوله تعالى: « عن يد » قال ابن عباس: يدفعها بنفسه غير مستنيب فيها أحدا روى أبو البختري عن سلمان قال: مذمومين. وروى معمر عن قتادة قال: عن قهر وقيل: « عن يد » عن إنعام منكم عليهم، لأنهم إذا أخذت منهم الجزية فقد أنعم عليهم بذلك. عكرمة: يدفعها وهو قائم والآخذ جالس وقال سعيد بن جبير. ابن العربي: وهذا ليس من قوله: « عن يد » وإنما هو من قوله: « وهم صاغرون » .

 

روى الأئمة عن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( اليد العليا خير من اليد السفلى واليد العليا المنفقة والسفلى السائلة ) وروى: ( واليد العليا هي المعطية ) . فجعل يد المعطي في الصدقة عليا، وجعل يد المعطي في الجزية سفلى. ويد الآخذ عليا؛ ذلك بأنه الرافع الخافض، يرفع من يشاء ويخفض من يشاء، لا إله غيره.

 

عن حبيب بن أبي ثابت قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إن أرض الخراج يعجز عنها أهلها أفأعمرها وأزرعها وأؤدي خراجها؟ فقال: لا. وجاءه آخر فقال له ذلك فقال: لا وتلا قوله تعالى: « قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر » إلى قوله: « وهم صاغرون » أيعمد أحدكم إلى الصغار في عنق أحدهم فينتزعه فيجعله في عنقه وقال كليب بن وائل: قلت لابن عمر اشتريت أرضا قال الشراء حسن. قلت: فإني أعطي عن كل جريب أرض درهما وقفيز طعام. قال: لا تجعل في عنقك صغارا. وروى ميمون بن مهران عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ما يسرني أن لي الأرض كلها بجزية خمسة دراهم أمر فيها بالصغار على نفسي.

 

الآية: 30 ( وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون )

 

قرأ عاصم والكسائي « عزير ابن الله » بتنوين عزير. والمعنى أن « ابنا » على هذا خبر ابتداء عن عزير و « عزير » ينصرف عجميا كان أو عربيا. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر « عزير ابن » بترك التنوين لاجتماع الساكنين، ومنه قراءة من قرأ « قل هو الله أحد الله الصمد » [ الإخلاص:1 - 2 ] . قال أبو علي: وهو كثير في الشعر. وأنشد الطبري في ذلك:

لتجدني بالأمير برا وبالقناة مدعسا مكرا

إذا غطيفُ السُّلَميُّ فرا

 

قوله تعالى: « وقالت اليهود » هذا لفظ خرج على العموم ومعناه الخصوص، لأن ليس كل اليهود قالوا ذلك. وهذا مثل قوله تعالى: « الذين قال لهم الناس » [ آل عمران:173 ] ولم يقل ذلك كل الناس. وقيل: إن قائل ما حكى عن اليهود سلام بن مشكم ونعمان بن أبي أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف، قالوه للنبي صلى الله عليه وسلم. قال النقاش: لم يبق يهودي يقولها بل انقرضوا فإذا قالها واحد فيتوجه أن تلزم الجماعة شنعة المقالة، لأجل نباهة القائل فيهم. وأقوال النبهاء أبدا مشهورة في الناس يحتج بها. فمن ههنا صح أن تقول الجماعة قول نبيهها. والله أعلم. وقد روي أن سبب ذلك القول أن اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى عليه السلام فرفع الله عنهم التوراة ومحاها من قلوبهم، فخرج عزير يسيح في الأرض، فأتاه جبريل فقال: ( أين تذهب ) ؟ قال: أطلب العلم، فعلمه التوراة كلها فجاء عزير بالتوراة إلى بني إسرائيل فعلمهم. وقيل: بل حفظها الله عزيرا كرامة منه له، فقال لبني إسرائيل: إن الله قد حفظني التوراة، فجعلوا يدرسونها من عنده. وكانت التوراة مدفونة، كان دفنها علماؤهم حين أصابهم من الفتن والجلاء والمرض ما أصاب وقتل بختنصر إياهم. ثم إن التوراة المدفونة وجدت فإذا هي متساوية لما كان عزير يدرس فضلوا عند ذلك وقالوا: إن هذا لم يتهيأ لعزير إلا وهو ابن الله حكاه الطبري. وظاهر قول النصارى أن المسيح ابن الله، إنما أرادوا بنوة النسل كما قالت العرب في الملائكة. وكذلك يقتضي قول الضحاك والطبري وغيرهما. وهذا أشنع الكفر. قال أبو المعالي: أطبقت النصارى على أن المسيح إله وإنه ابن إله. قال ابن عطية: ويقال إن بعضهم يعتقدها بنوة حنو ورحمة. وهذا المعنى أيضا لا يحل أن تطلق البنوة عليه وهو كفر.

 

قال ابن العربي: في هذا دليل من قول ربنا تبارك وتعالى على أن من أخبر عن كفر غيره الذي لا يجوز لأحد أن يبتدئ به لا حرج عليه، لأنه إنما ينطق به على معنى الاستعظام له والرد عليه ولو شاء ربنا ما تكلم به أحد، فإذا مكن من إطلاق الألسن به فقد أذن بالإخبار عنه على معنى إنكاره بالقلب واللسان والرد عليه بالحجة والبرهان.

 

قوله تعالى: « ذلك قولهم بأفواههم » قيل: معناه التأكيد، كما قال تعالى: « يكتبون الكتاب بأيديهم » [ البقرة: 79 ] وقوله: « ولا طائر يطير بجناحيه » [ الأنعام:38 ] وقوله: « فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة » [ الحاقة:13 ] ومثله كثير. وقيل: المعنى أنه لما كان قول ساذج ليس فيه بيان ولا برهان، وإنما هو قول بالفم مجرد نفس دعوى لا معنى تحته صحيح لأنهم معترفون بأن الله سبحانه لم يتخذ صاحبة فكيف يزعمون أن له ولدا، فهو كذب وقول لساني فقط بخلاف الأقوال الصحيحة التي تعضدها الأدلة ويقوم عليها البرهان. قال أهل المعاني: إن الله سبحانه لم يذكر قولا مقرونا بذكر الأفواه والألسن إلا وكان قولا زورا، كقوله: « يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم » [ آل عمران: 167 ] و « كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا » [ الكهف: 5 ] و « يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم » [ الفتح: 11 ] .

 

قوله تعالى: « يضاهئون قول الذين كفروا من قبل » « يضاهئون » يشابهون، ومنه قول العرب: امرأة ضهيأ للتي لا تحيض أو التي لا ثدي لها، كأنها أشبهت الرجال. وللعلماء في « قول الذين كفروا » ثلاثة أقوال: [ الأول ] قول عبدة الأوثان: اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى. الثاني: قول الكفرة: الملائكة بنات الله. الثالث: قول أسلافهم، فقلدوهم في الباطل واتبعوهم على الكفر، كما أخبر عنهم بقوله تعالى: « إنا وجدنا آباءنا على أمة » [ الزخرف: 23 ] .

 

اختلف العلماء في « ضهيأ » هل يمد أو لا، فقال ابن ولاد: امرأة ضهيأ، وهي التي لا تحيض، مهموز غير ممدود. ومنهم من يمد وهو سيبويه فيجعلها على فعلاء بالمد، والهمزة فيها زائدة لأنهم يقولون نساء ضهي فيحذفون الهمزة. قال أبو الحسن قال لي النجيرمي: ضهيأة بالمد والهاء. جمع بين علامتي تأنيث، حكاه عن أبي عمرو الشيباني في النوادر. وأنشد:

ضهيأة أو عاقر جماد

ابن عطية: من قال « يضاهئون » مأخوذ من قولهم: امرأة ضهياء فقوله خطأ، قاله أبو علي، لأن الهمزة في ( ضاهأ ) أصلية، وفي ( ضهياء ) زائدة كحمراء.

 

قوله تعالى: « قاتلهم الله أنى يؤفكون » أي لعنهم الله، يعني اليهود والنصارى، لأن الملعون كالمقتول. قال ابن جريج: « قاتلهم الله » هو بمعنى التعجب. وقال ابن عباس: كل شيء في القرآن قتل فهو لعن، ومنه قول أبان ابن تغلب:

قاتلها الله تلحاني وقد علمت أني لنفسي إفسادي وإصلاحي

وحكى النقاش أن أصل « قاتل الله » الدعاء، ثم كثر في استعمالهم حتى قالوه على التعجب في الخير والشر، وهم لا يريدون الدعاء. وأنشد الأصمعي:

يا قاتل الله ليلى كيف تعجبني وأخبر الناس أني لا أباليها

 

الآية: 31 ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون )

 

قوله تعالى: « اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم » الأحبار جمع حبر، وهو الذي يحسن القول وينظمه ويتقنه بحسن البيان عنه. ومنه ثوب محبر أي جمع الزينة. وقد قيل في واحد الأحبار: حبر بكسر الحاء، والدليل على ذلك أنهم قالوا: مداد حبر يريدون مداد عالم، ثم كثر الاستعمال حتى قالوا للمداد حبر. قال الفراء: الكسر والفتح لغتان. وقال ابن السكيت: الحبر بالكسر المداد، والحبر بالفتح العالم. والرهبان جمع راهب مأخوذ من الرهبة، وهو الذي حمله خوف الله تعالى على أن يخلص له النية دون الناس، ويجعل زمانه له وعمله معه وأنسه به.

 

قوله تعالى: « أربابا من دون الله » قال أهل المعاني: جعلوا أحبارهم ورهبانهم كالأرباب حيث أطاعوهم في كل شيء ومنه قوله تعالى: « قال انفخوا حتى إذا جعله نارا » [ الكهف: 96 ] أي كالنار. قال عبدالله بن المبارك:

وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها

روى الأعمش وسفيان عن حبيب بن أبى ثابت عن أبى البختري قال: سئل حذيفة عن قول الله عز وجل: « أتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله » هل عبدوهم؟ فقال لا، ولكن أحلوا لهم الحرام فاستحلوه، وحرموا عليهم الحلال فحرموه. وروى الترمذي عن عدي بن حاتم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب. فقال: ( ما هذا يا عدي اطرح عنك هذا الوثن ) وسمعته يقرأ في سورة [ براءه « » اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم « ثم قال: ( أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه ) . قال: هذا حديث غريب لا يعرف إلا من حديث عبدالسلام بن حرب. وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث. »

 

قوله تعالى: « والمسيح ابن مريم » مضى الكلام في اشتقاقه في « آل عمران » والمسيح: العرق يسيل من الجبين. ولقد أحسن بعض المتأخرين فقال:

افرح فسوف تألف الأحزانا إذا شهدت الحشر والميزانا

وسال من جبينك المسيح كأنه جداول تسيح

ومضى في « النساء » معنى إضافته إلى مريم أمه.

 

الآية: 32 ( يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون )

 

قوله تعالى: « يريدون أن يطفئوا نور الله » أي دلالته وحججه على توحيده. جعل البراهين بمنزلة النور لما فيها من البيان. وقيل: المعنى نور الإسلام، أي أن يخمدوا دين الله بتكذيبهم. « بأفواههم » جمع فوه على الأصل، لأن الأصل في فم فوه، مثل حوض وأحواض. « ويأبى الله إلا أن يتم نوره » يقال: كيف دخلت « إلا » وليس في الكلام حرف نفي، ولا يجوز ضربت إلا زيدا. فزعم الفراء أن « إلا » إنما دخلت لأن في الكلام طرفا من الجحد. قال الزجاج: الجحد والتحقيق ليسا بذوي أطراف. وأدوات الجحد: ما، ولا، وإن، وليس: وهذه لا أطراف لها ينطق بها ولو كان الأمر كما أراد لجاز كرهت إلا زيدا، ولكن الجواب أن العرب تحذف مع أبى. والتقدير: ويأبى الله كل شيء إلا أن يتم نوره. وقال علي بن سليمان: إنما جاز هذا في « أبى » لأنها منع أو امتناع فضارعت النفي. قال النحاس: فهذا حسن، كما قال الشاعر:

وهل لي أم غيرها إن تركتها أبى الله إلا أن أكون لها ابنما

 

الآية: 33 ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون )

 

قوله تعالى: « هو الذي أرسل رسوله » يريد محمدا صلى الله عليه وسلم. « بالهدى » أي بالفرقان. « ودين الحق ليظهره على الدين كله » أي بالحجة والبراهين. وقد أظهره على شرائع الدين حتى لا يخفى عليه شيء منها، عن ابن عباس وغيره. وقيل: « ليظهره » أي ليظهر الدين دين الإسلام على كل دين. قال أبو هريرة والضحاك: هذا عند نزول عيسى عليه السلام. وقال السدي: ذاك عند خروج المهدي، لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام أو أدى الجزية. وقيل: المهدي هو عيسى فقط وهو غير صحيح لأن الأخبار الصحاح قد تواترت على أن المهدي من عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز حمله على عيسى. والحديث الذي ورد في أنه ( لا مهدي إلا عيسى ) غير صحيح. قال البيهقي في كتاب البعث والنشور: لأن راويه محمد بن خالد الجندي وهو مجهول، يروي عن أبان بن أبي عياش - وهو متروك - عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو منقطع. والأحاديث التي قبله في التنصيص على خروج المهدي، وفيها بيان كون المهدي من عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم أصح إسنادا.

قلت: قد ذكرنا هذا وزدناه بيانا في كتابنا كتاب التذكرة وذكرنا أخبار المهدي مستوفاة والحمد لله. وقيل: أراد « ليظهره على الدين كله » في جزيرة العرب، وقد فعل.

 

الآية: 34 ( يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم )

 

قوله تعالى: « ليأكلون أموال الناس بالباطل » دخلت اللام على يفعل، ولا تدخل على فعل لمضارعة يفعل الأسماء. والأحبار علماء اليهود. والرهبان مجتهدو النصارى في العبادة. « بالباطل » قيل: إنهم كانوا يأخذون من أموال أتباعهم ضرائب وفروضا باسم الكنائس والبيع وغير ذلك، مما يوهمونهم أن النفقة فيه من الشرع والتزلف إلى الله تعالى، وهم خلال ذلك يحجبون تلك الأموال، كالذي ذكره سلمان الفارسي عن الراهب الذي استخرج كنزه، ذكره ابن إسحاق في السير. وقيل: كانوا يأخذون من غلاتهم وأموالهم ضرائب باسم حماية الدين والقيام بالشرع. وقيل: كانوا يرتشون في الأحكام، كما يفعله اليوم كثير من الولاة والحكام. وقوله: « بالباطل » يجمع ذلك كله. « ويصدون عن سبيل الله » أي يمنعون أهل دينهم عن الدخول في دين الإسلام، واتباع محمد صلى الله عليه وسلم.

 

قوله تعالى: « والذين يكنزون الذهب والفضة » الكنز أصله في اللغة الضم والجمع ولا يختص ذلك بالذهب والفضة. ألا ترى قوله عليه السلام: ( ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء المرأة الصالحة ) . أي يضمه لنفسه ويجمعه. قال:

ولم تزود من جميع الكنز غير خيوط ورثيث بز

وقال آخر:

لا درَّ درّي إن أطعمت جائعهم قِرْف الحتيِّ وعندي البر مكنوز

قرف الحتي هو سويق المقل. يقول: إنه نزل بقوم فكان قراه عندهم سويق المقل، وهو الحتي، فلما نزلوا به قال هو: لا در دري... البيت. وخص الذهب والفضة بالذكر لأنه مما لا يطلع عليه، بخلاف سائر الأموال. قال الطبري: الكنز كل شيء مجموع بعضه إلى بعض، في بطن الأرض كان أو على ظهرها. وسمي الذهب ذهبا لأنه يذهب، والفضة لأنها تنفض فتتفرق، ومنه قوله تعالى: « انفضوا إليها » [ الجمعة: 11 ] - « لانفضوا من حولك » [ آل عمران: 159 ] وقد مضى هذا المعنى في « آل عمران » .

 

واختلف الصحابة في المراد بهذه الآية، فذهب معاوية إلى أن المراد بها أهل الكتاب وإليه ذهب الأصم لأن قوله: « والذين يكنزون » مذكور بعد قوله: « إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال لناس بالباطل » . وقال أبو ذر وغيره: المراد بها أهل الكتاب وغيرهم من المسلمين. وهو الصحيح، لأنه لو أراد أهل الكتاب خاصة لقال: ويكنزون، بغير والذين. فلما قال: « والذين » فقد استأنف معنى آخر يبين أنه عطف جملة على جملة. فالذين يكنزون كلام مستأنف، وهو رفع على الابتداء. قال السدي: عنى أهل القبلة. فهذه ثلاثة أقوال. وعلى قول الصحابة فيه دليل على أن الكفار عندهم مخاطبون بفروع الشريعة. روى البخاري عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذر فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشأم فاختلفت أنا ومعاوية في « الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله » ، فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب. فقلت: نزلت فينا وفيهم، وكان بيني وبينه في ذلك. فكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة، فقدمتها فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان فقال: إن شئت تنحيت فكنت قريبا، فذاك الذي أنزلني هذا المنزل ولو أمروا علي حبشيا لسمعت وأطعت.

 

قال ابن خويز منداد: تضمنت هذه الآية زكاة العين، وهي تجب بأربعة شروط: حرية، وإسلام، وحول، ونصاب سليم من الدين. والنصاب مائتا درهم أو عشرون دينارا. أو يكمل نصاب أحدهما من الآخر وأخرج ربع العشر من هذا وربع العشر من هذا. وإنما قلنا إن الحرية شرط، فلأن العبد ناقص الملك. وإنما قلنا إن الإسلام شرط، فلأن الزكاة طهرة والكافر لا تلحقه طهرة، ولأن الله تعالى قال: « وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة » [ البقرة:43 ] فخوطب بالزكاة من خوطب بالصلاة. وإنما قلنا إن الحول شرط، فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول ) . وإنما قلنا إن النصاب شرط، فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس في أقل من مائتي درهم زكاة وليس في أقل من عشرين دينارا زكاة ) . ولا يراعى كمال النصاب في أول الحول، وإنما يراعى عند آخر الحول، لاتفاقهم أن الربح في حكم الأصل. يدل على هذا أن من كانت معه مائتا درهم فتجر فيها فصارت آخر الحول ألفا أنه يؤدي زكاة الألف، ولا يستأنف للربح حولا. فإذا كان كذلك لم يختلف حكم الربح، كان صادرا عن نصاب أو دونه. وكذلك اتفقوا أنه لو كان له أربعون من الغنم، فتوالدت له رأس الحول ثم ماتت الأمهات إلا واحدة منها، وكانت السخال تتمة النصاب فإن الزكاة تخرج عنها.

 

واختلف العلماء في المال الذي أديت زكاته هل يسمى كنزا أم لا؟ فقال قوم: نعم. ورواه أبو الضحاك عن جعدة بن هبيرة عن علي رضي الله عنه، قال علي: أربعة آلاف فما دونها نفقة، وما كثر فهو كنز وإن أديت زكاته، ولا يصح. وقال قوم: ما أديت زكاته منه أو من غيره عنه فليس بكنز. قال ابن عمر: ما أدي زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وكل ما لم تؤد زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض. ومثله عن جابر، وهو الصحيح. وروى البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - ثم يقول أنا مالك أنا كنزك - ثم تلا - « ولا يحسبن الذين يبخلون » [ آل عمران: 180 ] الآية. وفيه أيضا عن أبي ذر، قال: انتهيت إليه - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - قال: ( والذي نفسي بيده - أو والذي لا إله غيره أو كما حلف - ما من رجل تكون له إبل أو بقر أو غنم لا يؤدي حقها إلا أتي بها يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمنه تطؤه بأخفافها وتنطحه بقرونها كلما جازت أخراها ردت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس ) . فدل دليل خطاب هذين الحديثين على صحة ما ذكرنا. وقد بين ابن عمر في صحيح البخاري هذا المعنى، قال له أعرابي: أخبرني عن قول الله تعالى: « والذين يكنزون الذهب والفضة » قال ابن عمر: من كنزها فلم يؤد زكاتها فويل له، إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله طهرا للأموال. وقيل: الكنز ما فضل عن الحاجة. روى عن أبي ذر، وهو مما نقل من مذهبه، وهو من شدائده ومما انفرد به رضي الله عنه.

قلت: ويحتمل أن يكون مجمل ما روي عن أبي ذر في هذا، ما روي أن الآية نزلت في وقت شدة الحاجة وضعف المهاجرين وقصر يد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كفايتهم، ولم يكن في بيت المال ما يسعهم، وكانت السنون الجوائح هاجمة عليهم، فنهوا عن إمساك شيء من المال إلا على قدر الحاجة ولا يجوز ادخار الذهب والفضة في مثل ذلك الوقت. فلما فتح الله على المسلمين ووسع عليهم أوجب صلى الله عليه وسلم في مائتي درهم خمسة دراهم وفي عشرين دينارا نصف دينار ولم يوجب الكل واعتبر مدة الاستنماء، فكان ذلك منه بيانا صلى الله عليه وسلم. وقيل: الكنز ما لم تؤد منه الحقوق العارضة، كفك الأسير وإطعام الجائع وغير ذلك. وقيل: الكنز لغة المجموع من النقدين، وغيرهما من المال محمول عليهما بالقياس. وقيل: المجموع منهما ما لم يكن حليا، لأن الحلي مأذون في اتخاذه ولا حق فيه. والصحيح ما بدأنا بذكره، وأن ذلك كله يسمى كنزا لغة وشرعا. والله أعلم.

 

واختلف العلماء في زكاة الحلي، فذهب مالك وأصحابه وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد إلى أن لا زكاة فيه. وهو قول الشافعي بالعراق، ووقف فيه بعد ذلك بمصر وقال: أستخير الله فيه. وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي: في ذلك كله الزكاة. احتج الأولون فقالوا: قصد النماء يوجب الزكاة في العروض وهي ليست بمحل لإيجاب الزكاة، كذلك قطع النماء في الذهب والفضة باتخاذهما حليا للقنية يسقط الزكاة. احتج أبو حنيفة بعموم الألفاظ في إيجاب الزكاة في النقدين ولم يفرق بين حلي وغيره. وفرق الليث بن سعد فأوجب الزكاة فيما صنع حليا ليفر به من الزكاة وأسقطها فيما كان منه يلبس ويعار وفي المذهب في الحلي تفصيل بيانه في كتب الفروع.

 

روى أبو داود عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية « والذين يكنزون الذهب والفضة » قال: كبر ذلك على المسلمين، فقال عمر: أنا أفرج عنكم فانطلق فقال: يا نبي الله إنه كبر على أصحابك هذه الآية. فقال: ( إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم وإنما فرض المواريث - وذكر كلمة - لتكون لمن بعدكم ) قال: فكبر عمر. ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرته وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته ) . وروى الترمذي وغيره عن ثوبان أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: قد ذم الله سبحانه الذهب والفضة، فلو علمنا أي المال خير حتى نكسبه. فقال عمر: أنا أسأل لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله فقال: ( لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة تعين المرء على دينه ) . قال حديث حسن.

 

قوله تعالى: « ولا ينفقونها في سبيل الله » ولم يقل ينفقونهما، ففيه أجوبة ستة: الأول: قال ابن الأنباري: قصد الأغلب والأعم وهي الفضة، ومثله قوله: « واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة » [ البقرة: 45 ] رد الكناية إلى الصلاة لأنها أعم. ومثله « وإذا رأوا تجارة أو لهوا انقضوا إليها » [ الجمعة: 11 ] فأعاد الهاء إلى التجارة لأنها الأهم وترك اللهو قاله كثير من المفسرين. وأباه بعضهم وقال: لا يشبهها، لأن « أو » قد فصلت التجارة من اللهو فحسن عود الضمير على أحدهما. الثاني: العكس وهو أن يكون « ينفقونها » للذهب والثاني معطوفا عليه. والذهب تؤنثه العرب تقول: هي الذهب الحمراء. وقد تذكر والتأنيث أشهر. الثالث: أن يكون الضمير للكنوز. الرابع: للأموال المكنوزة. الخامس: للزكاة التقدير ولا ينفقون زكاة الأموال المكنوزة. السادس: الاكتفاء بضمير الواحد عن ضمير الآخر إذا فهم المعنى، وهذا كثير في كلام العرب. أنشد سيبويه:

نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف

ولم يقل راضون. وقال آخر.

رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئا ومن أجل الطوي رماني

ولم يقل بريئين. ونحوه قول حسان بن ثابت رضي الله عنه:

إن شرخ الشباب والشعر الأسود ما لم يعاص كان جنونا

ولم يقل يعاصيا.

 

إن قيل: من لم يكنز ولم ينفق في سبيل الله وأنفق في المعاصي، هل يكون حكمه في الوعيد حكم من كنز ولم ينفق في سبيل الله. قيل له: إن ذلك أشد، فإن من بذر ماله في المعاصي عصى من جهتين: بالإنفاق والتناول، كشراء الخمر وشربها. بل من جهات إذا كانت المعصية مما تتعدى، كمن أعان على ظلم مسلم من قتله أو أخذ ماله إلى غير ذلك. والكانز عصى من جهتين، وهما منع الزكاة وحبس المال لا غير. وقد لا يراعى حبس المال، والله أعلم.

 

قوله تعالى: « فبشرهم بعذاب أليم » قد تقدم معناه. وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذا العذاب بقوله: ( بشر الكنازين بكي في ظهورهم يخرج من جنوبهم وبكي من قبل أقفائهم يخرج من جباههم ) الحديث. أخرجه مسلم. رواه أبو ذر في رواية: ( بشر الكنازين برضف يحمى عليه في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفيه ويوضع على نغض كتفيه حتى يخرج من حلمة ثدييه فيتزلزل ) الحديث. قال علماؤنا: فخروج الرضف من حلمة ثديه إلى نغض كتفه لتعذيب قلبه وباطنه حين امتلأ بالفرج بالكثرة في المال والسرور في الدنيا، فعوقب في الآخرة بالهم والعذاب.

 

قال علماؤنا: ظاهر الآية تعليق الوعيد على من كنز ولا ينفق في سبيل الله ويتعرض للواجب وغيره، غير أن صفة الكنز لا ينبغي أن تكون معتبرة، فإن من لم يكنز ومنع الإنفاق في سبيل الله فلا بد وأن يكون كذلك، إلا أن الذي يخبأ تحت الأرض هو الذي يمنع إنفاقه في الواجبات عرفا، فلذلك خص الوعيد به. والله أعلم.

 

الآية: 35 ( يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون )

 

قوله تعالى: « يوم يحمى عليها في نار جهنم » « يوم » ظرف، والتقدير يعذبون يوم يحمى. ولا يصح أن يكون على تقدير: فبشرهم يوم يحمى عليها، لأن البشارة لا تكون حينئذ. يقال: أحميت الحديدة في النار، أي أوقدت عليها. ويقال: أحميته، ولا يقال: أحميت عليه. وههنا قال عليها، لأنه جعل « على » من صلة معنى الإحماء، ومعنى الإحماء الإيقاد. أي يوقد عليها فتكوى. الكي: إلصاق الحار من الحديد والنار بالعضو حتى يحترق الجلد. والجباه جمع الجبهة، وهو مستوى ما بين الحاجب إلى الناصية. وجبهت فلانا بكذا، أي استقبلته به وضربت جبهته. والجنوب جمع الجنب. والكي في الوجه أشهر وأشنع، وفي الجنب والظهر آلم وأوجع، فلذلك خصها بالذكر من بين سائر الأعضاء. وقال علماء الصوفية: لما طلبوا المال والجاه شان الله وجوههم، ولما طووا كشحا عن الفقير إذا جالسهم كويت جنوبهم، ولما أسندوا ظهورهم إلى أموالهم ثقة بها واعتمادا عليها كويت ظهورهم. وقال علماء الظاهر: إنما خص هذه الأعضاء لأن الغني إذا رأى الفقير زوى ما بين عينيه وقبض وجهه. كما قال:

يزيد يغض الطرف عني كأنما زوى بين عينيه علي المحاجم

فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ولا تلقني إلا وأنفك راغم

وإذا سأله طوى كشحه، وإذا زاده في السؤال وأكثر عليه ولاه ظهره. فرتب الله العقوبة على حال المعصية.

 

واختلفت الآثار في كيفية الكي بذلك، ففي صحيح مسلم من حديث أبي ذر ما ذكرنا من ذكر الرضف. وفيه من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار... ) . الحديث. وفي البخاري: أنه يمثل له كنزه شجاعا أقرع. وقد تقدم في غير الصحيح عن عبدالله بن مسعود أنه قال: ( من كان له مال فلم يؤد زكاته طوقه يوم القيامة شجاعا أقرع ينفر رأسه... )

قلت: ولعل هذا يكون في مواطن: موطن يمثل المال فيه ثعبانا، وموطن يكون صفائح وموطن يكون رضفا. فتتغير الصفات والجسمية واحدة، فالشجاع جسم والمال جسم. وهذا التمثيل حقيقة، بخلاف قوله: ( يؤتى بالموت كأنه كبش أملح ) فإن تلك طريقة أخرى، ولله سبحانه وتعالى أن يفعل ما يشاء. وخص الشجاع بالذكر لأنه العدو الثاني للخلق. والشجاع من الحيات هو الحية الذكر الذي يواثب الفارس والراجل، ويقوم على ذنبه وربما بلغ الفارس، ويكون في الصحارى. وقيل: هو الثعبان. قال اللحياني: يقال للحية شجاع، وثلاثة أشجعة، ثم شجعان. والأقرع من الحيات هو الذي تمعط رأسه وابيض من السم. في الموطأ: له زبيبتان، أي نقطتان منتفختان في شدقيه كالرغوتين. ويكون ذلك في شدقي الإنسان إذا غضب وأكثر من الكلام. قالت أم غيلان بنت جرير ربما أنشدت أبي حتى يتزبب شدقاي. ضرب مثلا للشجاع الذي كثر سمه فيمثل المال بهذا الحيوان فيلقى صاحبه غضبان. وقال ابن دريد: نقطتان سوداوان فوق عينيه. في رواية: مثل له شجاع يتبعه فيضطره فيعطيه يده فيقضمها كما يقضم الفحل. وقال ابن مسعود: ( والله لا يعذب الله أحدا بكنز فيمس درهم درهما ولا دينار دينارا، ولكن يوسع جلده حتى يوضع كل درهم ودينار على حدته ) وهذا إنما يصح في الكافر - كما ورد في الحديث - لا في المؤمن. والله أعلم.

 

أسند الطبري إلى أبي أمامة الباهلي قال: مات رجل من أهل الصفة فوجد في بردته دينار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كية ) . ثم مات آخر فوجد له ديناران. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كيتان ) . وهذا إما لأنهما كانا يعيشان من الصدقة وعندهما البر، وإما لأن هذا كان في صدر الإسلام، ثم قرر الشرع ضبط المال وأداء حقه. ولو كان ضبط المال ممنوعا لكان حقه أن يخرج كله، وليس في الأمة من يلزم هذا. وحسبك حال الصحابة وأموالهم رضوان الله عليهم. وأما ما ذكر عن أبي ذر فهو مذهب له، رضي الله عنه. وقد روى موسى بن عبيدة عن عمران بن أبي أنس عن مالك بن أوس بن الحدثان عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من جمع دينارا أو درهما أو تبرا أو فضة ولا يعده لغريم ولا ينفقه في سبيل الله فهو كنز يكوى به يوم القيامة ) .

قلت: هذا الذي يليق بأبي ذر رضي الله عنه أن يقول به، وأن ما فضل عن الحاجة فليس بكنز إذا كان معدا لسبيل الله. وقال أبو أمامة: من خلف بيضا أوصفرا كوي بها مغفورا له أو غير مغفور له، ألا إن حلية السيف من ذلك. وروى ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من رجل يموت وعنده أحمر أو أبيض إلا جعل الله له بكل قيراط صفيحة يكوى بها من فرقه إلى قدمه مغفورا له بعد ذلك أو معذبا ) .

قلت: وهذا محمول على ما لم تؤد زكاته بدليل ما ذكرنا في الآية قبل هذا. فيكون التقدير: وعنده أحمر أو أبيض لم يؤد زكاته. وكذلك ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه: من ترك عشرة آلاف جعلت صفائح يعذب بها صاحبها يوم القيامة. أي إن لم يؤد زكاتها، لئلا تتناقض الأحاديث. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « هذا ما كنزتم لأنفسكم » أي يقال لهم هذا ما كنزتم، فحذف. « فذوقوا ما كنتم تكنزون » أي عذاب ما كنتم تكنزون.

 

الآية: 36 ( إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين )

 

قوله تعالى: « إن عدة الشهور » جمع شهر. فإذا قال الرجل لأخيه: لا أكلمك الشهور، وحلف على ذلك فلا يكلمه حولا، قاله بعض العلماء. وقيل: لا يكلمه أبدا. ابن العربي: وأرى إن لم تكن له نية أن يقتضي ذلك ثلاثة أشهر لأنه أقل الجمع الذي يقتضيه صيغة فعول في جمع فعل. « عند الله » أي في حكم الله وفيما كتب في اللوح المحفوظ. « اثنا عشر شهرا » أعربت « اثنا عشر شهرا » دون نظائرها، لأن فيها حرف الإعراب ودليله. وقرأ العامة « عشر » بفتح العين والشين. وقرأ أبو جعفر « عشر » بجزم الشين. « في كتاب الله » يريد اللوح المحفوظ. وأعاده بعد أن قال « عند الله » لأن كثيرا من الأشياء يوصف بأنه عند الله، ولا يقال إنه مكتوب في كتاب الله، كقوله: « إن الله عنده علم الساعة » [ لقمان: 34 ] .

 

قوله تعالى: « يوم خلق السماوات والأرض » إنما قال « يوم خلق السموات والأرض » ليبين أن قضاءه وقدره كان قبل ذلك، وأنه سبحانه وضع هذه الشهور وسماها بأسمائها على ما رتبها عليه يوم خلق السموات والأرض، وأنزل ذلك على أنبيائه في كتبه المنزلة. وهو معنى قوله تعالى: « إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا » . وحكمها باق على ما كانت عليه لم يزلها عن ترتيبها تغيير المشركين لأسمائها، وتقديم المقدم في الاسم منها. والمقصود من ذلك اتباع أمر الله فيها ورفض ما كان عليه أهل الجاهلية من تأخير أسماء الشهور وتقديمها، وتعليق الأحكام على الأسماء التي رتبوها عليه، ولذلك قال عليه السلام في خطبته في حجة الوداع: ( أيها الناس إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض... ) على ما يأتي بيانه. وأن الذي فعل أهل الجاهلية من جعل المحرم صفرا وصفر محرما ليس يتغير به ما وصفه الله تعالى. والعامل في « يوم » المصدر الذي هو « في كتاب الله » وليس يعنى به واحد الكتب، لأن الأعيان لا تعمل في الظروف. والتقدير: فيما كتب الله يوم خلق السموات والأرض. و « عند » متعلق بالمصدر الذي هو العدة، وهو العامل فيه. و « في » من قوله: « في كتاب الله » متعلقة بمحذوف، هو صفة لقوله: « اثنا عشر » . والتقدير: اثنا عشر شهرا معدودة أو مكتوبة في كتاب الله. ولا يجوز أن تتعلق بعدة لما فيه من التفرقة بين الصلة والموصول بخبر إن.

 

هذه الآية تدل على أن الواجب تعليق الأحكام من العبادات وغيرها إنما يكون بالشهور والسنين التي تعرفها العرب، دون الشهور التي تعتبرها العجم والروم والقبط وإن لم تزد على اثني عشر شهرا، لأنها مختلفة الأعداد، منها ما يزيد على ثلاثين ومنها ما ينقص، وشهور العرب لا تزيد على ثلاثين وإن كان منها ما ينقص، والذي ينقص ليس يتعين له شهر، وإنما تفاوتها في النقصان والتمام على حسب اختلاف سير القمر في البروج.

 

قوله تعالى: « منها أربعة حرم » الأشهر الحرم المذكورة في هذه الآية ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الذي بين جمادى الآخرة وشعبان، وهو رجب مضر، وقيل له رجب مضر لأن ربيعة بن نزار كانوا يحرمون شهر رمضان ويسمونه رجبا. وكانت مضر تحرم رجبا نفسه، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: ( الذي بين جمادى وشعبان ) ورفع ما وقع في اسمه من الاختلال بالبيان. وكانت العرب أيضا تسميه منصل الأسنة، روى البخاري عن أبي رجاء العطاردي - واسمه عمران بن ملحان وقيل عمران بن تيم - قال: كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجرا هو خير منه ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجرا جمعنا حثوة من تراب ثم جئنا بالشاء فحلبنا عليه ثم طفنا به فإذا دخل شهر رجب قلنا منصل الأسنة، فلم ندع رمحا فيه حديدة ولا سهما فيه حديدة إلا نزعناها فألقيناه.

 

قوله تعالى: « ذلك الدين القيم » أي الحساب الصحيح والعدد المستوفى. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: « ذلك الدين » أي ذلك القضاء. مقاتل: الحق. ابن عطية: والأصوب عندي أن يكون الدين ههنا على أشهر وجوهه، أي ذلك الشرع والطاعة. « القيم » أي القائم المستقيم، من قام يقوم. بمنزلة سيد، من ساد يسود. أصله قيوم.

 

قوله تعالى: « فلا تظلموا فيهن أنفسكم » على قول ابن عباس راجع إلى جميع الشهور. وعلى قول بعضهم إلى الأشهر الحرم خاصة، لأنه إليها أقرب ولها مزية في تعظيم الظلم، لقوله تعالى: « فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج » [ البقرة: 197 ] لا أن الظلم في غير هذه الأيام جائز على ما نبينه. ثم قيل: في الظلم قولان: أحدهما لا تظلموا فيهن أنفسكم بالقتال، ثم نسخ بإباحة القتال في جميع الشهور، قال قتادة وعطاء الخراساني والزهري وسفيان الثوري. وقال ابن جريج: حلف بالله عطاء بن أبي رباح أنه ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا فيها، وما نسخت. والصحيح الأول، لأن النبي صلى الله عليه وسلم غزا هوازن بحنين وثقيفا بالطائف، وحاصرهم في شوال وبعض ذي القعدة. وقد تقدم هذا المعنى في البقرة. الثاني - لا تظلموا فيهن أنفسكم بارتكاب الذنوب، لأن الله سبحانه إذا عظم شيئا من جهة واحدة صارت له حرمة واحدة وإذا عظمه من جهتين أو جهات صارت حرمته متعددة فيضاعف فيه العقاب بالعمل السيء كما يضاعف الثواب بالعمل الصالح. فإن من أطاع الله في الشهر الحرام في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام. ومن أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في شهر حلال في بلد حلال. وقد أشار تعالى إلى هذا بقوله تعالى: « يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين » [ الأحزاب: 30 ] .

 

وقد اختلف العلماء من هذا المعنى فيمن قتل في الشهر الحرام خطأ، هل تغلظ عليه الدية أم لا، فقال الأوزاعي: القتل في الشهر الحرام تغلظ فيه الدية فيما بلغنا وفي الحرم فتجعل دية وثلثا. ويزاد في شبه العمد في أسنان الإبل. قال الشافعي: تغلظ الدية في النفس وفي الجراح في الشهر الحرام وفي البلد الحرام وذوي الرحم. وروي عن القاسم بن محمد وسالم بن عبدالله وابن شهاب وأبان بن عثمان: من قتل في الشهر الحرام أو في الحرم زيد على ديته مثل ثلثها. وروي ذلك عن عثمان بن عفان أيضا. وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما وابن أبي ليلى: القتل في الحل والحرم سواء، وفي الشهر الحرام وغيره سواء، وهو قول جماعة من التابعين. وهو الصحيح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سن الديات ولم يذكر فيها الحرم ولا الشهر الحرام. وأجمعوا أن الكفارة على من قتل خطأ في الشهر الحرام وغيره سواء. فالقياس أن تكون الدية كذلك. والله أعلم.

 

خص الله تعالى الأربعة الأشهر الحرم بالذكر، ونهى عن الظلم فيها تشريفا لها وإن كان منهيا عنه في كل الزمان. كما قال: « فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج » [ البقرة: 197 ] على هذا أكثر أهل التأويل. أي لا تظلموا في الأربعة الأشهر أنفسكم. وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال: « فلا تظلموا فيهن أنفسكم » في الاثني عشر. وروى قيس بن مسلم عن الحسن عن محمد بن الحنفية قال: فيهن كلهن. فإن قيل على القول الأول: لم قال فيهن ولم يقل فيها؟ وذلك أن العرب يقولون لما بين الثلاثة إلى العشرة: هن وهؤلاء فإذا جاوزوا العشرة قالوا: هي وهذه، إرادة أن تعرف تسمية القليل من الكثير. وروي عن الكسائي أنه قال: إني لأتعجب من فعل العرب هذا. وكذلك يقولون فيما دون العشرة من الليالي: خلون. وفيما فوقها خلت. لا يقال: كيف جعل بعض الأزمنة أعظم حرمة من بعض، فإنا نقول: للبارئ تعالى أن يفعل ما يشاء، ويخص بالفضيلة ما يشاء، ليس لعمله علة ولا عليه حجر، بل يفعل ما يريد بحكمته، وقد تظهر فيه الحكمة وقد تخفى.

 

قوله تعالى: « قاتلوا » أمر بالقتال. و « كافة » معناه جميعا، وهو مصدر في موضع الحال. أي محيطين بهم ومجتمعين. قال الزجاج: مثل هذا من المصادر عافاه الله عافية وعاقبه عاقبة. ولا يثنى ولا يجمع، وكذا عامة وخاصة. قال بعض العلماء: كان الغرض بهذه الآية قد توجه على الأعيان ثم نسخ ذلك وجعل فرض كفاية. قال ابن عطية: وهذا الذي قال لم يعلم قط من شرع النبي صلى الله عليه وسلم أنه ألزم الأمة جميعا النفر، وإنما معنى هذه الآية الحض على قتالهم والتحزب عليهم وجمع الكلمة. ثم قيدها بقول: « كما يقاتلونكم كافة » فبحسب قتالهم واجتماعهم لنا يكون فرض اجتماعنا لهم. والله أعلم.

 

الآية: 37 ( إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين )

 

قوله تعالى: « إنما النسيء زيادة في الكفر » هكذا يقرأ أكثر الأئمة. قال النحاس: ولم يرو أحد عن نافع فيما علمناه « إنما النَسِيُّ » بلا همز إلا ورش وحده. وهو مشتق من نسأه وأنسأه إذا أخره، حكى اللغتين الكسائي. الجوهري: النسيء فعيل بمعنى مفعول، من قولك: نسأت الشيء فهو منسوء إذا أخرته. ثم يحول منسوء إلى نسيء كما يحول مقتول إلى قتيل. ورجل ناسئ وقوم نسأة، مثل فاسق وفسقة. قال الطبري: النسيء بالهمزة معناه الزيادة نسأ ينسأ إذا زاد. قال: ولا يكون بترك الهمز إلا من النسيان، كما قال تعالى: « نسوا الله فنسيهم » [ التوبة: 67 ] ، ورد على نافع قراءته، واحتج بأن قال: إنه يتعدى بحرف الجر يقال: نسأ الله في أجلك كما تقول زاد الله في أجلك، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: ( من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه ) . قال الأزهري: أنسأت الشيء إنساء ونسيئا اسم وضع موضع المصدر الحقيقي. وكانوا يحرمون القتال في المحرم فإذا احتاجوا إلى ذلك حرموا صفرا بدله وقاتلوا في المحرم. وسبب ذلك أن العرب كانت أصحاب حروب وغارات فكان يشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغيرون فيها، وقالوا: لئن توالت علينا ثلاثة أشهر لا نصيب فيها شيئا لنهلكن. فكانوا إذا صدروا عن منى يقوم من بني كنانة، ثم من بني فقيم منهم رجل يقال له القلمس، فيقول أنا الذي لا يرد لي قضاء. فيقولون: أنسئنا شهرا، أي أخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر، فيحل لهم المحرم. فكانوا كذلك شهرا فشهرا حتى استدار التحريم على السنة كلها. فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله فيه. وهذا معنى قوله عليه السلام: ( إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ) . وقال مجاهد: كان المشركون يحجون في كل شهر عامين، فحجوا في ذي الحجة عامين، ثم حجوا في المحرم عامين، ثم حجوا في صفر عامين، وكذلك في الشهور كلها حتى وافقت حجة أبي بكر التي حجها قبل حجة الوداع ذا القعدة من السنة التاسعة. ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم في العام المقبل حجة الوداع فوافقت ذا الحجة، فذلك قوله في خطبته: ( إن الزمان قد استدار... ) الحديث. أراد بذلك أن أشهر الحج رجعت إلى مواضعها، وعاد الحج إلى ذي الحجة وبطل النسيء. وقول ثالث. قال إياس بن معاوية: كان المشركون يحسبون السنة اثني عشر شهرا وخمسة عشر يوما، فكان الحج يكون في رمضان وفي ذي القعدة، وفي كل شهر من السنة بحكم استدارة الشهر بزيادة الخمسة عشر يوما فحج أبو بكر سنة تسع في ذي القعدة بحكم الاستدارة، ولم يحج النبي صلى الله عليه وسلم فلما كان في العام المقبل وافق الحج ذا الحجة في العشر، ووافق ذلك الأهلة. وهذا القول أشبه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الزمان قد استدار... ) أي زمان الحج عاد إلى وقته الأصلي الذي عينه الله يوم خلق السموات والأرض بأصل المشروعية التي سبق بها علمه، ونفذ بها حكمه. ثم قال: السنة اثنا عشر شهرا. ينفي بذلك الزيادة التي زادوها في السنة - وهي الخمسة عشر يوما - بتحكمهم، فتعين الوقت الأصلي وبطل التحكم الجهلي.

وحكى الإمام المازري عن الخوارزمي أنه قال: أول ما خلق الله الشمس أجراها في برج الحمل، وكان الزمان الذي أشار به النبي صلى الله عليه وسلم صادف حلول الشمس برج الحمل. وهذا يحتاج إلى توقيف، فإنه لا يتوصل إليه إلا بالنقل عن الأنبياء، ولا نقل صحيحا عنهم بذلك، ومن ادعاه فليسنده. ثم إن العقل يجوز خلاف ما قال، وهو أن يخلق الله الشمس قبل البروج، ويجوز أن يخلق ذلك كله دفعة واحدة. ثم إن علماء التعديل قد اختبروا ذلك فوجدوا الشمس في برج الحوت وقت قوله عليه السلام: ( إن الزمان قد استدار... ) بينها وبين الحمل عشرون درجة. ومنهم من قال عشر درجات. والله أعلم. واختلف أهل التأويل في أول من نسأ، فقال ابن عباس وقتادة والضحاك: بنو مالك بن كنانة، وكانوا ثلاثة. وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أن أول من فعل ذلك عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف. وقال الكلبي: أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة، ثم كان بعده رجل يقال له: جنادة بن عوف، وهو الذي أدركه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الزهري: حي من بني كنانة ثم من بني فقيم منهم رجل يقال له القلمس واسمه حذيفة بن عبيد. وفي رواية: مالك بن كنانة. وكان الذي يلي النسيء يظفر بالرياسة لتريس العرب إياه. وفي ذلك يقول شاعرهم:

ومنا ناسئ الشهر القلمَّس

وقال الكميت:

ألسنا الناسئين على معد شهور الحل نجعلها حراما

 

قوله تعالى: « زيادة في الكفر » بيان لما فعلته العرب من جمعها من أنواع الكفر فإنها أنكرت وجود البارئ تعالى فقالت: « وما الرحمن » [ الفرقان: 60 ] في أصح الوجوه. وأنكرت البعث فقالت: « قال من يحيي العظام وهي رميم » [ يس: 78 ] . وأنكرت بعثة الرسل فقالوا: « أبشرا منا واحدا نتبعه » [ القمر: 24 ] . وزعمت أن التحليل والتحريم إليها، فابتدعته من ذاتها مقتفية لشهواتها فأحلت ما حرم الله. ولا مبدل لكلماته ولو كره المشركون.

 

قوله تعالى: « يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين » فيه ثلاث قراءات. قرأ أهل الحرمين وأبو عمرو « يَضِل » وقرأ الكوفيون « يُضَل » على الفعل المجهول. وقرأ الحسن وأبو رجاء « يُضِل » والقراءات الثلاث كل واحدة منها تؤدي عن معنى، إلا أن القراءة الثالثة حذف منها المفعول. والتقدير: ويضل به الذين كفروا من يقبل منهم. و « الذين » في محل رفع. ويجوز أن يكون الضمير راجعا إلى الله عز وجل. التقدير: يضل الله به الذين كفروا، كقوله تعالى: « يضل من يشاء » [ الرعد: 27 ] ، وكقوله في آخر الآية: « والله لا يهدي القوم الكافرين » . والقراءة الثانية « يضل به الذين كفروا » يعني المحسوب لهم، واختار هذه القراءة أبو عبيد، لقوله تعالى: « زين لهم سوء أعمالهم » . والقراءة الأولى اختارها أبو حاتم؛ لأنهم كانوا ضالين به أي بالنسيء لأنهم كانوا يحسبونه فيضلون به. والهاء في « يحلونه » ترجع إلى النسيء. وروي عن أبي رجاء « يضل » بفتح الياء والضاد. وهي لغة، يقال: ضللت أضل، وضللت أضل. « ليواطئوا » نصب بلام كي أي ليوافقوا. تواطأ القوم على كذا أي اجتمعوا عليه، أي لم يحلوا شهرا إلا حرموا شهرا لتبقى الأشهر الحرم أربعة. وهذا هو الصحيح، لا ما يذكر أنهم جعلوا الأشهر خمسة. قال قتادة: إنهم عمدوا إلى صفر فزادوه في الأشهر الحرم، وقرنوه بالمحرم في التحريم، وقاله عنه قطرب والطبري. وعليه يكون النسيء بمعنى الزيادة. والله أعلم.

 

الآية: 38 ( يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل )

 

قوله تعالى: « ما لكم » « ما » حرف استفهام معناه التقرير والتوبيخ التقدير: أي شيء يمنعكم عن كذا كما تقول: مالك عن فلان معرضا. ولا خلاف أن هذه الآية نزلت عتابا على تتخلف من تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وكانت سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام، وسيأتي ذكرها في آخر السورة إن شاء الله. والنفر: هو التنقل بسرعة من مكان إلى مكان لأمر يحدث، يقال في ابن آدم: نفر إلى الأم يفر نفورا. وقوم نفور، ومنه قوله تعالى: « ولوا على أدبارهم نفورا » [ الإسراء: 46 ] . ويقال في الدابة: نفرت تنفر - بضم الفاء وكسرها - نفارا ونفورا. يقال: في الدابة نفار، وهو اسم مثل الحران. ونفر الحاج من منى نفرا.

 

قوله تعالى: « اثاقلتم إلى الأرض » قال المفسرون: معناه أثاقلتم إلى نعيم الأرض، أو إلى الإقامة بالأرض. وهو توبيخ على ترك الجهاد وعتاب على التقاعد عن المبادرة إلى الخروج، وهو نحو من أخلد إلى الأرض. وأصله تثاقلتم، أدغمت التاء في الثاء لقربها منها، واحتاجت إلى ألف الوصل لتصل إلى النطق بالساكن، ومثله « اداركوا » [ الأعراف: 38 ] و « ادارأتم » [ البقرة: 72 ] و « اطيرنا » [ النمل: 47 ] و « ازينت » [ يونس: 24 ] . وأنشد الكسائي:

تولي الضجيع إذا ما استافها خصرا عذب المذاق إذا ما أتابع القبل

وقرأ الأعمش « تثاقلتم » على الأصل. حكاه المهدوي. وكانت تبوك - ودعا الناس إليها - في حرارة القيظ وطيب الثمار وبرد الظلال - كما جاء في الحديث الصحيح على ما يأتي - فاستولى على الناس الكسل فتقاعدوا وتثاقلوا فوبخهم الله بقوله هذا وعاب عليهم الإيثار للدنيا على الآخرة. ومعنى: « أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة » أي بدلا، التقدير: أرضيتم بنعيم الدنيا بدلا من نعيم الآخرة « فمن » تتضمن معنى البدل، كقوله تعالى: « ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون » [ الزخرف: 60 ] أي بدلا منكم. وقال الشاعر:

فليت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت على طَهيان

ويروى من ماء حمنان. أراد: ليت لنا بدلا من ماء زمزم شربة مبردة. والطهيان: عود ينصب في ناحية الدار للهواء، يعلق عليه الماء حتى يبرد. عاتبهم الله على إيثار الراحة في الدنيا على الراحة في الآخرة، إذ لا تنال راحة الآخرة إلا بنصب الدنيا. قال صلى الله عليه وسلم لعائشة وقد طافت راكبة: ( أجْرُك على قدر نَصَبِك ) . خرجه البخاري.

 

الآية: 39 ( إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير )

 

قوله تعالى: « إلا تنفروا يعذبكم » « إلا تنفروا » شرط، فلذلك حذفت منه النون. والجواب « يعذبكم » ، « ويستبدل قوما غيركم » وهذا تهديد شديد ووعيد مؤكد في ترك النفير. قال ابن العربي: ومن محققات الأصول أن الأمر إذا ورد فليس في وروده أكثر من اقتضاء الفعل. فأما العقاب عند الترك فلا يؤخذ من نفس الأمر ولا يقتضيه الاقتضاء، وإنما يكون العقاب بالخبر عنه، كقوله: إن لم تفعل كذا عذبتك بكذا، كما ورد في هذه الآية. فوجب بمقتضاها النفير للجهاد والخروج إلى الكفار لمقاتلتهم على أن تكون كلمة الله هي العليا. وروى أبو داود عن ابن عباس قال: « إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما » و « ما كان لأهل المدينة - إلى قوله - يعملون » [ التوبة: 120 ] نسختها الآية التي تليها: « وما كان المؤمنون لينفروا كافة » [ التوبة:122 ] . وهو قول الضحاك والحسن وعكرمة. « يعذبكم » قال ابن عباس: هو حبس المطر عنهم. قال ابن العربي: فإن صح ذلك عنه فهو أعلم من أين قال، وإلا فالعذاب الأليم هو في الدنيا باستيلاء العدو وبالنار في الآخرة.

قلت: قول ابن عباس خرجه الإمام أبو داود في سننه عن ابن نفيع قال: سألت ابن عباس عن هذه الآية « إن تنفروا يعذبكم عذابا أليما » قال: فأمسك عنهم المطر فكان عذابهم. وذكره الإمام أبو محمد بن عطية مرفوعا عن ابن عباس قال: استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيلة من القبائل فقعدت، فأمسك الله عنهم المطر وعذبها به. و « أليما » بمعنى مؤلم، أي موجع. وقد تقدم. « ويستبدل قوما غيركم » توعد بأن يبدل لرسوله قوما لا يقعدون عند استنفاره إياهم. قيل: أبناء فارس. وقيل: أهل اليمن. « ولا تضروه شيئا » عطف. والهاء قيل لله تعالى، وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم. والتثاقل عن الجهاد مع إظهار الكراهة حرام على كل أحد. فأما من غير كراهة فمن عينه النبي صلى الله عليه وسلم حرم عليه التثاقل وإن أمن منهما فالفرض فرض كفاية، ذكره القشيري. وقد قيل: إن المراد بهذه الآية وجوب النفير عند الحاجة وظهور الكفرة واشتداد شوكتهم. وظاهر الآية يدل على أن ذلك على وجه الاستدعاء فعلى هذا لا يتجه الحمل على وقت ظهور المشركين فإن وجوب ذلك لا يختص بالاستدعاء، لأنه متعين. وإذا ثبت ذلك فالاستدعاء والاستنفار يبعد أن يكون موجبا شيئا لم يجب من قبل إلا أن الإمام إذا عين قوما وندبهم إلى الجهاد لم يكن لهم أن يتثاقلوا عند التعيين ويصير بتعيينه فرضا على من عينه لا لمكان الجهاد ولكن لطاعة الإمام. والله أعلم.

 

الآية: 40 ( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم )

 

قوله تعالى: « إلا تنصروه فقد نصره الله » يقول: تعينوه بالنفر معه في غزوة تبول. عاتبهم الله بعد انصراف نبيه عليه السلام من تبوك. قال النقاش: هذه أول آية نزلت من سورة [ براءة ] والمعنى: إن تركتم نصره فالله يتكفل به، إذ قد نصره الله في مواطن القلة وأظهره على عدوه بالغلبة والعزة. وقيل: فقد نصره الله بصاحبه في الغار بتأنيسه له وحمله على عنقه، وبوفاته ووقايته له بنفسه ومواساته له بماله. قال الليث بن سعد: ما صحب الأنبياء عليهم السلام مثل أبي بكر الصديق. وقال سفيان بن عيينة. خرج أبو بكر بهذه الآية من المعاتبة التي في قوله: « إلا تنصروه » .

 

قوله تعالى: « إذ أخرجه الذين كفروا » وهو خرج بنفسه فارا، لكن بإلجائهم إلى ذلك حتى فعله، فنسب الفعل إليهم ورتب الحكم فيه عليهم، فلهذا يقتل المكره على القتل ويضمن المال المتلف بالإكراه، لإلجائه القاتل والمتلف إلى القتل والإتلاف.

 

قوله تعالى: « ثاني اثنين » أي أحد اثنين. وهذا كثالث ثلاثة ورابع أربعة. فإذا اختلف اللفظ فقلت رابع ثلاثة وخامس أربعة، فالمعنى صير الثلاثة أربعة بنفسه والأربعة خمسة. وهو منصوب على الحال، أي أخرجوه منفردا من جميع الناس إلا من أبي بكر. والعامل فيها « نصره الله » أي نصره منفردا ونصره أحد اثنين. وقال علي بن سليمان: التقدير فخرج ثاني اثنين، مثل « والله أنبتكم من الأرض نباتا » [ نوح: 17 ] . وقرأ جمهور الناس « ثاني » بنصب الياء. قال أبو حاتم: لا يعرف غير هذا. وقرأت فرقة « ثاني » بسكون الياء. قال ابن جني: حكاها أبو عمرو بن العلاء ووجهه أنه سكن الياء تشبيها لها بالألف. قال ابن عطية: فهي كقراءة الحسن « ما بقي من الربا » وكقول جرير:

هو الخليفة فارضوا ما رضي لكم ماضي العزيمة ما في حكمه جنف

 

قوله تعالى: « إذ هما في الغار » الغار: ثقب في الجبل، يعني غار ثور. ولما رأت قريش أن المسلمين قد صاروا إلى المدينة قالوا: هذا شر شاغل لا يطاق، فأجمعوا أمرهم على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبيتوه ورصدوه على باب منزله طول ليلتهم ليقتلوه إذا خرج، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب أن ينام على فراشه، ودعا الله أن يعمي عليهم أثره، فطمس الله على أبصارهم فخرج وقد غشيهم النوم، فوضع على رؤوسهم ترابا ونهض فلما أصبحوا خرج عليهم علي رضي الله عنه وأخبرهم أن ليس في الدار أحد فعملوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فات ونجا وتواعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق للهجرة، فدفعا راحلتيهما إلى عبدالله بن أرقط. ويقال ابن أريقط، وكان كافرا لكنهما وثقا به، وكان دليلا بالطرق فاستأجراه ليدل بهما إلى المدينة وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من خوخة في ظهر دار أبي بكر التي في بني جمح ونهضا نحو الغار في جبل ثور، وأمر أبو بكر ابنه عبدالله أن يستمع ما يقول الناس، وأمر مولاه عامر بن فهيرة أن يرعى غنمه ويريحها عليهما ليلا فيأخذ منها حاجتهما. ثم نهضا فدخلا الغار. وكانت أسماء بنت أبي بكر الصديق تأتيهما بالطعام ويأتيهما عبدالله بن أبي بكر بالأخبار، ثم يتلوهما عامر بن فهيرة بالغنم فيعفي آثارهما. فلما فقدته قريش جعلت تطلبه بقائف معروف بقفاء الأثر، حتى وقف على الغار فقال: هنا انقطع الأثر. فنظروا فإذا بالعنكبوت قد نسج على فم الغار من ساعته، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله فلما رأوا نسج العنكبوت أيقنوا أن لا أحد فيه فرجعوا وجعلوا في النبي صلى الله عليه وسلم مائة ناقة لمن رده عليهم الخبر مشهور، وقصة سراقة بن مالك بن جعشم في ذلك مذكورة. وقد روي من حديث أبي الدرداء وثوبان رضي الله عنهما: أن الله عز وجل أمر حمامة فباضت على نسج العنكبوت، وجعلت ترقد على بيضها، فلما نظر الكفار إليها ردهم ذلك عن الغار.

 

روى البخاري عن عائشة قالت: استأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل هاديا خريتا وهو على دين كفار قريش فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما براحلتيهما صبيحة ثلاث فارتحلا وارتحل معهما عامر بن فهيرة والدليل الديلي فأخذ بهم طريق الساحل.

قال المهلب: فيه من الفقه ائتمان أهل الشرك على السر والمال إذا علم منهم وفاء ومروءة كما ائتمن النبي صلى الله عليه وسلم هذا المشرك على سره في الخروج من مكة وعلى الناقتين. وقال ابن المنذر: فيه استئجار المسلمين الكفار على هداية الطريق. وقال البخاري في ترجمته: [ باب استئجار المشركين عند الضرورة أو إذا لم يوجد أهل الإسلام ] قال ابن بطال: إنما قال البخاري في ترجمته [ أو إذا لم يوجد أهل الإسلام ] من أجل أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما عامل أهل خيبر على العمل في أرضها إذ لم يوجد من المسلمين من ينوب منابهم في عمل الأرض، حتى قوي الإسلام واستغني عنهم أجلاهم عمر. وعامة الفقهاء يجيزون استئجارهم عند الضرورة وغيرها. وفيه: استئجار الرجلين الرجل الواحد على عمل واحد لهما. وفيه: دليل على جواز الفرار بالدين خوفا من العدو، والاستخفاء في الغيران وغيرها ألا يلقي الإنسان بيده إلى العدو توكلا على الله واستسلاما له. ولو شاء ربكم لعصمه مع كونه معهم ولكنها سنة الله في الأنبياء وغيرهم، ولن تجد لسنة الله تبديلا. وهذا أدل دليل على فساد من منع ذلك وقال: من خاف مع الله سواه كان ذلك نقصا في توكله، ولم يؤمن بالقدر. وهذا كله في معنى الآية، ولله الحمد والهداية

 

قوله تعالى: « إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا » هذه الآية تضمنت فضائل الصديق رضي الله عنه. روى أصبغ وأبو زيد عن ابن القاسم عن مالك « ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا » هو الصديق. فحقق الله تعالى قوله له بكلامه ووصف الصحبة في كتابه. قال بعض العلماء: من أنكر أن يكون عمر وعثمان أو أحد من الصحابة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كذاب مبتدع. ومن أنكر أن يكون أبو بكر رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر، لأنه رد نص القرآن. ومعنى « إن الله معنا » أي بالنصر والرعاية والحفظ والكلاءة. روى الترمذي والحارث بن أبي أسامة قالا: حدثنا عفان قال حدثنا همام قال أخبرنا ثابت عن أنس أن أبا بكر حدثه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، فقال: ( يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) . قال المحاسبي: يعني معهما بالنصر والدفاع، لا على معنى ما عم به الخلائق، فقال: « ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم » [ المجادلة: 7 ] . فمعناه العموم أنه يسمع ويرى من الكفار والمؤمنين.

 

قال ابن العربي: قالت الإمامية قبحها الله: حزن أبي بكر في الغار دليل على جهله ونقصه وضعف قلبه وخرقه. وأجاب علماؤنا عن ذلك بأن إضافة الحزن إليه ليس بنقص، كما لم ينقص إبراهيم حين قال عنه: « نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف » [ هود: 70 ] . ولم ينقص موسى قوله: « فأوجس في نفسه خيفة موسى. قلنا لا تخف » [ طه 67،68 ] . وفى لوط: « ولا تحزن إنا منجوك وأهلك » [ العنكبوت: 33 ] . فهؤلاء العظماء صلوات الله عليهم قد وجدت عندهم التقية نصا ولم يكن ذلك طعنا عليهم ووصفا لهم بالنقص، وكذلك في أبي بكر. ثم هي عند الصديق احتمال، فإنه قال: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا. جواب ثان - إن حزن الصديق إنما كان خوفا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يصل إليه ضرر، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت معصوما وإنما نزل عليه « والله يعصمك من الناس » [ المائدة: 67 ] بالمدينة.

 

قال ابن العربي: قال لنا أبو الفضائل العدل قال لنا جمال الإسلام أبو القاسم قال موسى صلى الله عليه وسلم: « كلا إن معي ربي سيهدين » [ الشعراء: 62 ] وقال في محمد صلى الله عليه وسلم: « لا تحزن إن الله معنا » لا جرم لما كان الله مع موسى وحده ارتد أصحابه بعده، فرجع من عند ربه ووجدهم يعبدون العجل. ولما قال في محمد صلى الله عليه وسلم « لا تحزن إن الله معنا » بقي أبو بكر مهتديا موحدا عالما جازما قائما بالأمر ولم يتطرق إليه اختلال.

خرج الترمذي من حديث نبيط بن شريط عن سالم بن عبيد - له صحبة - قال: أغمي على رسول الله صلى الله عليه وسلم...، الحديث. وفيه: واجتمع المهاجرون يتشاورون فقالوا: انطلقوا بنا إلى إخواننا من الأنصار ندخلهم معنا في هذا الأمر. فقالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير. فقال عمر رضي الله عنه: من له مثل هذه الثلاث « ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا » من هما؟ قال: ثم بسط يده فبايعه وبايعه الناس بيعة حسنة جميلة.

قلت: ولهذا قال بعض العلماء: في قوله تعالى: « ثاني اثنين إذ هما في الغار » ما يدل على أن الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، لأن الخليفة لا يكون أبدا إلا ثانيا. وسمعت شيخنا الإمام أبا العباس أحمد بن عمر يقول: إنما استحق الصديق أن يقال له ثاني اثنين لقيامه بعد النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر، كقيام النبي صلى الله عليه وسلم به أولا. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ارتدت العرب كلها، ولم يبق الإسلام إلا بالمدينة ومكة وجواثا، فقام أبو بكر يدعو الناس إلى الإسلام ويقاتلهم على الدخول في الدين كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فاستحق من هذه الجهة أن يقال في حقه ثاني اثنين.

قلت: وقد جاء في السنة أحاديث صحيحة، يدل ظاهرها على أنه الخليفة بعده، وقد انعقد الإجماع على ذلك ولم يبق منهم مخالف. والقادح في خلافته مقطوع بخطئه وتفسيقه. وهل يكفر أم لا، يختلف فيه، والأظهر تكفيره. وسيأتي لهذا المعنى مزيد بيان في سورة [ الفتح ] إن شاء الله. والذي يقطع به من الكتاب والسنة وأقوال علماء الأمة ويجب أن تؤمن به القلوب والأفئدة فضل الصديق على جميع الصحابة. ولا مبالاة بأقوال أهل الشيع ولا أهل البدع، فإنهم بين مكفر تضرب رقبته، وبين مبتدع مفسق لا تقبل كلمته. ثم بعد الصديق عمر الفاروق، ثم بعده عثمان. روى البخاري عن ابن عمر قال: كنا نخير بين الناس في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر ثم عمر ثم عثمان. واختلف أئمة أهل السلف في عثمان وعلي، فالجمهور منهم على تقديم عثمان. وروي عن مالك أنه توقف في ذلك. وروي عنه أيضا أنه رجع إلى ما عليه الجمهور. وهو الأصح إن شاء الله.

 

قوله تعالى: « فأنزل الله سكينته عليه » فيه قولان: أحدهما: على النبي صلى الله عليه وسلم. والثاني: على أبي بكر. ابن العربي: قال علماؤنا وهو الأقوى، لأنه خاف على النبي صلى الله عليه وسلم من القوم فأنزل الله سكينته عليه بتأمين النبي صلى الله عليه وسلم، فسكن جأشه وذهب روعه وحصل الأمن وأنبت الله سبحانه ثمامة، وألهم الوكر هناك حمامة وأرسل العنكبوت فنسجت بيتا عليه. فما أضعف هذه الجنود في ظاهر الحس وما أقواها في باطن المعنى ولهذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر حين تغامر مع الصديق: ( هل أنتم تاركو لي صاحبي إن الناس كلهم قالوا كذبت وقال أبو بكر صدقت ) رواه أبو الدرداء.

 

قوله تعالى: « وأيده بجنود لم تروها » أي من الملائكة. والكناية في قوله « وأيده » ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والضميران يختلفان، وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب. « وجعل كلمة الذين كفروا السفلى » أي كلمة الشرك. « وكلمة الله هي العليا » قيل: لا إله إلا الله. وقيل: وعد النصر. وقرأ الأعمش ويعقوب « وكلمة الله » بالنصب حملا على « جعل » والباقون بالرفع على الاستئناف. وزعم الفراء أن قراءة النصب بعيدة، قال: لأنك تقول أعتق فلان غلام أبيه، ولا تقول غلام أبي فلان. وقال أبو حاتم نحوا من هذا. قال: كان يجب أن يقال وكلمته هي العليا. قال النحاس: الذي ذكره الفراء لا يشبه الآية، ولكن يشبهها ما أنشد سيبويه:

لا أرى الموت يسبق الموت شيء نغص الموت ذا الغنى والفقيرا

فهذا حسن جيد لا إشكال فيه، بل يقول النحويون الحذاق: في إعادة الذكر في مثل هذا فائدة وهي أن فيه معنى التعظيم، قال الله تعالى: « إذا زلزلت الأرض زلزالها. وأخرجت الأرض أثقالها » [ الزلزلة:1،2 ] فهذا لا إشكال فيه. وجمع الكلمة كلم. وتميم تقول: هي كلمة بكسر الكاف. وحكى الفراء فيها ثلاث لغات: كلمة وكلمة وكلمة مصل كبد وكبد وكبد، وورق وورق وورق. والكلمة أيضا القصيدة بطولها، قاله الجوهري.

 

الآية: 41 ( انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون )

 

روى سفيان عن حصين بن عبدالرحمن عن أبي مالك الغفاري قال: أول ما نزل من سورة براءة « انفروا خفافا وثقالا » . وقال أبو الضحاك كذلك أيضا. قال: ثم نزل أولها وآخرها.

 

قوله تعالى: « انفروا خفافا وثقالا » نصب على الحال، وفيه عشرة أقوال:

الأول: يذكر عن ابن عباس « انفروا ثبات » [ النساء: 71:: سرايا متفرقين. الثاني: روي عن ابن عباس أيضا وقتادة: نشاطا وغير نشاط. الثالث: الخفيف: الغني، والثقيل: الفقير، قاله مجاهد. الرابع: الخفيف: الشاب، والثقيل: الشيخ، قاله الحسن. الخامس: مشاغيل وغير مشاغيل، قاله زيد بن علي والحكم بن عتبة. السادس: الثقيل: الذي له عيال، والخفيف: الذي لا عيال له، قاله زيد بن أسلم. السابع: الثقيل: الذي له ضيعة يكره أن يدعها، والخفيف: الذي لا ضيعة له، قاله ابن زيد. الثامن: الخفاف: الرجال، والثقال: الفرسان، قاله الأوزاعي. التاسع: الخفاف: الذين يسبقون إلى الحرب كالطليعة وهو مقدم الجيش والثقال: الجيش بأثره. العاشر: الخفيف: الشجاع، والثقيل: الجبان، حكاه النقاش. والصحيح في معنى الآية أن الناس أمروا جملة أي انفروا خفت عليكم الحركة أو ثقلت. وروي أن ابن أم مكتوم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: أعلي أن أنفر؟ فقال: ( نعم ) حتى أنزل الله تعالى « ليس على الأعمى حرج » [ النور: 61 ] . وهذه الأقوال إنما هي على معنى المثال في الثقل والخفة.

 

واختلف في هذه الآية، فقيل إنها منسوخة بقوله تعالى: « ليس على الضعفاء ولا على المرضى » [ التوبة: 91 ] . وقيل: الناسخ لها قوله: « فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة » [ التوبة: 122 ] . والصحيح أنها ليست بمنسوخة. روى ابن عباس عن أبي طلحة في قوله تعالى: « انفروا خفافا وثقالا » قال شبانا وكهولا، ما سمع الله عذر أحد. فخرج إلى الشام فجاهد حتى مات رضي الله عنه. وروى حماد عن ثابت وعلي بن زيد عن أنس أن أبا طلحة قرأ سورة [ براءة ] فأتى على هذه الآية « انفروا خفافا وثقالا » فقال: أي بني جهزوني جهزوني فقال بنوه: يرحمك الله لقد غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات ومع أبي بكر حتى مات ومع عمر حتى مات فنحن نغزو عنك. قال. لا، جهزوني. فغزا في البحر فمات في البحر، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فدفنوه فيها، ولم يتغير رضي الله عنه. وأسند الطبري عمن رأى المقداد بن الأسود بحمص على تابوت صراف، وقد فضل على التابوت من سمنه وهو يتجهز للغزو. فقيل له: لقد عذرك الله. فقال: أتت علينا سورة البعوث « انقروا خفافا وثقالا » . وقال الزهري: خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه. فقيل له: إنك عليل. فقال: استنفر الله الخفيف والثقيل، فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع. وروي أن بعض الناس رأى في غزوات الشأم رجلا قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، فقال له: يا عم إن الله قد عذرك فقال: يا ابن أخي، قد أمرنا بالنفر خفافا وثقالا. ولقد قال ابن أم مكتوم رضي الله عنه - واسمه عمرو - يوم أحد: أنا رجل أعمى، فسلموا لي اللواء، فإنه إذا انهزم حامل اللواء انهزم الجيش، وأنا ما أدري من يقصدني بسيفه فما أبرح فأخذ اللواء يومئذ مصعب بن عمير على ما تقدم في « آل عمران » بيانه. فلهذا وما كان مثله مما روي عن الصحابة والتابعين، قلنا: إن النسخ لا يصح. وقد تكون حالة يجب فيها نفير الكل وذلك إذا تعين الجهاد بغلبة العدو على قطر من الأقطار، أو بحلوله بالعقر، فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافا وثقالا، شبابا وشيوخا، كل على قدر طاقته، من كان له أب بغير إذنه ومن لا أب له، ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج، من مقاتل أو مكثر. فإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بعدوهم كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا على حسب ما لزم أهل تلك البلدة، حتى يعلموا أن فيهم طاقة على القيام بهم ومدافعتهم. وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم وعلم أنه يدركهم ويمكنه غياثهم لزمه أيضا الخروج إليهم، فالمسلمون كلهم يد على من سواهم، حتى إذا قام بدفع العدو أهل الناحية التي نزل العدو عليها واحتل بها سقط الفرض عن الآخرين. ولو قارب العدو دار الإسلام ولم يدخلوها لزمهم أيضا الخروج إليه، حتى يظهر دين الله وتحمى البيضة وتحفظ الحوزة ويخزى العدو. ولا خلاف في هذا.

وقسم ثان من واجب الجهاد - فرض أيضا على الإمام إغزاء طائفة إلى العدو كل سنة مرة يخرج معهم بنفسه أو يخرج من يثق به ليدعوهم إلى الإسلام ويرغبهم، ويكف أذاهم ويظهر دين الله عليهم حتى يدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية عن يد.

ومن الجهاد أيضا ما هو نافلة وهو إخراج الإمام طائفة بعد طائفة وبعث السرايا في أوقات الغرة وعند إمكان الفرصة والإرصاد لهم بالرباط في موضع الخوف وإظهار القوة.

 

فإن قيل: كيف يصنع الواحد إذا قصر الجميع، قيل له: يعمد إلى أسير واحد فيفديه، فإنه إذا فدى الواحد فقد أدى في الواحد أكثر مما كان يلزمه في الجماعة، فإن الأغنياء لو اقتسموا فداء الأسارى ما أدى كل واحد منهم إلا أقل من درهم. ويغزو بنفسه إن قدر وإلا جهز غازيا. قال صلى الله عليه وسلم: ( من جهز غازيا فقد غزا ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا ) أخرجه الصحيح. وذلك لأن مكانه لا يغني وماله لا يكفي.

 

روي أن بعض الملوك عاهد كفارا على ألا يحبسوا أسيرا، فدخل رجل من المسلمين جهة بلادهم فمر على بيت مغلق، فنادته امرأة إني أسيرة فأبلغ صاحبك خبري فلما اجتمع به واستطعمه عنده وتجاذبا ذيل الحديث انتهى الخبر إلى هذه المعذبة فما أكمل حديثه حتى قام الأمير على قدميه وخرج غازيا من فوره ومشى إلى الثغر حتى أخرج الأسيرة واستولى على الموضع رضي الله عنه. ذكره ابن العربي وقال: ولقد نزل بنا العدو - قصمه الله - سنة سبع وعشرين وخمسمائة فجاس ديارنا وأسر خيرتنا وتوسط بلادنا في عدد هال الناس عدده وكان كثيرا وإن لم يبلغ ما حددوه. فقلت للوالي والمولى عليه: هذا عدو الله قد حصل في الشرك والشبكة فلتكن عندكم بركة، ولتظهر منكم إلى نصرة الدين المتعينة عليكم حركة فليخرج إليه جميع الناس حتى لا يبقى منهم أحد في جميع الأقطار فيحاط به فإنه هالك لا محالة إن يسركم الله له فغلبت الذنوب ورجفت القلوب بالمعاصي وصار كل أحد من الناس ثعلبا يأوي إلى وجاره وإن رأى المكيدة بجاره. فإنا لله وإنا إليه راجعون. وحسبنا الله ونعم الوكيل ) .

 

قوله تعالى: « وجاهدوا » أمر بالجهاد، وهو مشتق من الجهد « بأموالكم وأنفسكم » روى أبو داود عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم ) . وهذا وصف لأكمل ما يكون من الجهاد وأنفعه عند الله تعالى. فحض على كمال الأوصاف، وقدم الأموال في الذكر إذ هي أول مصرف وقت التجهيز. فرتب الأمر كما هو نفسه.

 

الآية: 42 ( لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون )

 

لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أظهر الله نفاق قوم. والعرض: ما يعرض من منافع الدنيا. والمعنى: غنيمة قريبة. أخبر عنهم أنهم لو دعوا إلى غنيمة لاتبعوه. « عرضا » خبر كان. « قريبا » نعته. « وسفرا قاصدا » عطف عليه. وحذف اسم كان لدلالة الكلام عليه. التقدير: لو كان المدعو إليه عرضا قريبا وسفرا قاصدا - أي سهلا معلوم الطرق - لاتبعوك. وهذه الكناية للمنافقين كما ذكرنا، لأنهم داخلون في جملة من خوطب بالنفير. وهذا موجود في كلام العرب يذكرون الجملة ثم يأتون بالإضمار عائدا على بعضها، كما قيل في قوله تعالى: « وإن منكم إلا واردها » [ مريم: 71 ] أنها القيامة. ثم قال جل وعز: « ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا » [ مريم:72 ] يعني جل وعز جهنم. ونظير هذه الآية من السنة في المعنى قوله عليه السلام: ( لو يعلم أحدهم أنه يجد عظما سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء ) . يقول: لو علم أحدهم أنه يجد شيئا حاضرا معجلا يأخذه لأتى المسجد من أجله. « ولكن بعدت عليهم الشقة » حكى أبو عبيدة وغيره أن الشقة السفر إلى أرض بعيدة. يقال: منه شقة شاقة. والمراد بذلك كله غزوة تبوك. وحكى الكسائي أنه يقال: شُقة وشِقة. قال الجوهري: الشقة بالضم من الثياب، والشقة أيضا السفر البعيد وربما قالوه بالكسر. والشقة شظية تشظى من لوح أو خشبة. يقال للغضبان: احتد فطارت منه شقة، بالكسر. « وسيحلفون بالله لو استطعنا » أي لو كان لنا سعة في الظهر والمال. « لخرجنا معكم » نظيره « ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا » [ آل عمران: 97 ] فسرها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( زاد وراحلة ) وقد تقدم. « يهلكون أنفسهم » أي بالكذب والنفاق. « والله يعلم إنهم لكاذبون » في الاعتلال.

 

الآية: 43 ( عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين )

 

قوله تعالى: « عفا الله عنك لم أذنت لهم » قيل: هو افتتاح كلام، كما تقول: أصلحك الله وأعزك ورحمك كان كذا وكذا. وعلى هذا التأويل يحسن الوقف على قوله: « عفا الله عنك » ، حكاه مكي والمهدوي والنحاس. وأخبره بالعفو قبل الذنب لئلا يطير قلبه فرقا. وقيل: المعنى عفا الله عنك ما كان من ذنبك في أن أذنت لهم، فلا يحسن الوقف على قوله: « عفا الله عنك » على هذا التقدير، حكاه المهدوي واختاره النحاس. ثم قيل: في الإذن قولان: الأول: « لم أذنت لهم » في الخروج معك، وفي خروجهم بلا عدة ونية صادقة فساد. الثاني - « لم أذنت لهم » في القعود لما اعتلوا بأعذار، ذكرها القشيري قال: وهذا عتاب تلطف إذ قال: « عفا الله عنك » . وكان عليه السلام أذن من غير وحي نزل فيه. قال قتادة وعمرو بن ميمون: اثنتان فعلهما النبي صلى الله عليه وسلم ولم يؤمر بهما: إذنه لطائفة من المنافقين في التخلف عنه ولم يكن له أن يمضي شيئا إلا بوحي وأخذه من الأسارى الفدية فعاتبه الله كما تسمعون. قال بعض العلماء: إنما بدر منه ترك الأولى فقدم الله العفو على الخطاب الذي هو في صورة العتاب.

 

قوله تعالى: « حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين » أي ليتبين لك من صدق ممن نافق. قال ابن عباس: وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يومئذ يعرف المنافقين وإنما عرفهم بعد نزول سورة [ التوبة ] . وقال مجاهد: هؤلاء قوم قالوا: نستأذن في الجلوس فإن أذن لنا جلسنا وإن لم يؤذن لنا جلسنا. وقال قتادة: نسخ هذه الآية بقوله في سورة « النور » : « فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم » [ النور: 62 ] . ذكره النحاس في معاني القرآن له.

 

الآيتان: 44 - 45 ( لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين، إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون )

 

قوله تعالى: « لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر » أي في القعود ولا في الخروج، بل إذا أمرت بشيء ابتدروه، فكان الاستئذان في ذلك الوقت من علامات النفاق لغير عذر، ولذلك قال: « إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون » . روى أبو داود عن ابن عباس قال: « لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله » نسختها التي في « النور ] » إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله - إلى قوله - غفور رحيم « [ النور: 62 ] » أن يجاهدوا « في موضع نصب بإضمار في، عن الزجاج. وقيل: التقدير كراهية أن يجاهدوا، كقوله: » يبين الله لكم أن تضلوا « [ النساء: 176 ] . » وارتابت قلوبهم « شكت في الدين. » فهم في ريبهم يترددون « أي في شكهم يذهبون ويرجعون.»

 

الآية: 46 ( ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين )

 

قوله تعالى: « ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة » أي لو أرادوا الجهاد لتأهبوا أهبة السفر. فتركهم الاستعداد دليل على إرادتهم التخلف. « ولكن كره الله انبعاثهم » أي خروجهم معك. « فثبطهم » أي حبسهم عنك وخذلهم، لأنهم قالوا: إن لم يؤذن لنا في الجلوس أفسدنا وحرضنا على المؤمنين. ويدل على هذا أن بعده « لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا » . « وقيل اقعدوا »

قيل: هو من قول بعضهم لبعض. وقيل: هو من قول النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون هذا هو الإذن الذي تقدم ذكره. قيل: قال النبي صلى الله عليه وسلم غضبا فأخذوا بظاهر لفظه وقالوا قد أذن لنا. وقيل: هو عبارة عن الخذلان، أي أوقع الله في قلوبهم القعود. ومعنى « مع القاعدين » أي مع أولي الضرر والعميان والزمنى والنسوان والصبيان.

 

الآية: 47 ( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين )

 

قوله تعالى: « لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا » هو تسلية للمؤمنين في تخلف المنافقين عنهم. والخبال: الفساد والنميمة وإيقاع الاختلاف والأراجيف. وهذا استثناء منقطع، أي ما زادوكم قوة ولكن طلبوا الخبال. وقيل: المعنى لا يزيدونكم فيما يترددون فيه من الرأي إلا خبالا، فلا يكون الاستثناء منقطعا.

 

قوله تعالى: « ولأوضعوا خلالكم » المعنى لأسرعوا فيما بينكم بالإفساد. والإيضاع، سرعة السير. وقال الراجز:

يا ليتني فيها جذع أخب فيها وأضع

يقال: وضع البعير إذا عدا، يضع وضعا ووضوعا إذا أسرع السير. وأوضعته حملته على العدو. وقيل: الإيضاع سير مثل الخبب. والخلل الفرجة بين الشيئين، والجمع الخلال، أي الفرج التي تكون بين الصفوف. أي لأوضعوا خلالكم بالنميمة وإفساد ذات البين. « يبغونكم الفتنة » مفعول ثان. والمعنى يطلبون لكم الفتنة، أي الإفساد والتحريض. ويقال: أبغيته كذا أعنته على طلبه، وبغيته كذا طلبته له. وقيل: الفتنة هنا الشرك. « وفيكم سماعون لهم » أي عيون لهم ينقلون إليهم الأخبار منكم. قتادة: وفيكم من يقبل منهم قولهم ويطيعهم. النحاس: القول الأول أولى، لأنه الأغلب من معنييه أن معنى سماع يسمع الكلام: ومثله « سماعون للكذب » [ المائدة: 41 ] . والقول الثاني: لا يكاد يقال فيه إلا سامع، مثل قائل.

 

الآية: 48 ( لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون )

 

قوله تعالى: « لقد ابتغوا الفتنة من قبل » أي لقد طلبوا الإفساد والخبال من قبل أن يظهر أمرهم، وينزل الوحي بما أسروه وبما سيفعلونه. وقال ابن جريج: أراد اثني عشر رجلا من المنافقين، وقفوا على ثنية الوداع ليلة العقبة ليفتكوا بالنبي صلى الله عليه وسلم. « وقلبوا لك الأمور » أي صرفوها وأجالوا الرأي في إبطال ما جئت به. « حتى جاء الحق وظهر أمر الله » أي دينه « وهم كارهون »

 

الآيتان: 49 - 50 ( ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين، إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون )

 

قوله تعالى: « ومنهم من يقول ائذن لي » من أذن يأذن. وإذا أمرت زدت همزة مكسورة وبعدها همزة هي فاء الفعل، ولا يجتمع همزتان، فأبدلت من الثانية ياء لكسرة ما قبلها فقلت ايذن. فإذا وصلت زالت العلة في الجمع بين همزتين، ثم همزت فقلت: « ومنهم من يقول ائذن لي » وروى ورش عن نافع « ومنهم من يقول اوذن لي » خفف الهمزة. قال النحاس: يقال إيذن لفلان ثم إيذن له هجاء الأولى والثانية واحد بألف وياء قبل الذال في الخط. فإن قلت: ايذن لفلان وأذن لغيره كان الثاني بغير ياء وكذا الفاء. والفرق بين ثم والواو أن ثم يوقف عليها وتنفصل والواو والفاء لا يوقف عليهما ولا ينفصلان. قال محمد بن إسحاق: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للجد بن قيس أخي بني سلمة لما أراد الخروج إلى تبوك: ( يا جد، هل لك في جلاد بني الأصفر تتخذ منهم سراري ووصفاء ) فقال الجد: قد عرف قومي أني مغرم بالنساء، وإني أخشى إن رأيت بني الأصفر ألا أصبر عنهن فلا تفتني وأذن لي في القعود وأعينك بمالي فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ( قد أذنت لك ) فنزلت هذه الآية. أي لا تفتني بصباحة وجوههم، ولم يكن به علة إلا النفاق. قال المهدوي: والأصفر رجل من الحبشة كانت له بنات لم يكن في وقتهن أجمل منهن وكان ببلاد الروم. وقيل: سموا بذلك لأن الحبشة غلبت على الروم، وولدت لهم بنات فأخذن من بياض الروم وسواد الحبشة، فكن صفرا لعسا. قال ابن عطية: في قول ابن أبي إسحاق فتور. وأسند الطبري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( اغزوا تغنموا بنات الأصفر ) فقال له الجد: ايذن لنا ولا تفتنا بالنساء. وهذا منزع غير الأول، وهو أشبه بالنفاق والمحادة. ولما نزلت قال النبي صلى الله عليه وسلم لبني سلمة - وكان الجد بن قيس منهم: ( من سيدكم يا بني سلمة ) ؟ قالوا: جد بن قيس، غير أنه بخيل جبان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( وأي داء أدوى من البخل بل سيدكم الفتى الأبيض بشر بن البراء بن معرور ) . فقال حسان بن ثابت الأنصاري فيه:

وسود بشر بن البراء لجوده وحق لبشر بن البرا أن يسودا

إذا ما أتاه الوفد أذهب ماله وقال خذوه إنني عائد غدا

 

قوله تعالى: « ألا في الفتنة سقطوا » أي في الإثم والمعصية وقعوا. وهي النفاق والتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم. « وإن جهنم لمحيطة بالكافرين » أي مسيرهم إلى النار، فهي تحدق بهم.

 

قوله تعالى: « إن تصبك حسنة تسؤهم » شرط ومجازاة، وكذا « وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل » عطف عليه. والحسنة: الغنيمة والظفر. والمصيبة الانهزام. ومعنى قوله: « أخذنا أمرنا من قبل » أي احتطنا لأنفسنا، وأخذنا بالحزم فلم نخرج إلى القتال. « ويتولوا » أي عن الإيمان. « وهم فرحون » أي معجبون بذلك.

 

الآية: 51 ( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون )

 

قوله تعالى: « قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا » قيل: في اللوح المحفوظ. وقيل: ما أخبرنا به في كتابه من أنا إما أن نظفر فيكون الظفر حسنى لنا، وإما أن نقتل فتكون الشهادة أعظم حسنى لنا. والمعنى كل شيء بقضاء وقدر. وقد تقدم في « الأعراف » أن العلم والقدر والكتاب سواء. « هو مولانا » أي ناصرنا. والتوكل تفويض الأمر إليه. وقراءة الجمهور « يصيبنا » نصب بلن. وحكى أبو عبيدة أن من العرب من يجزم بها. وقرأ طلحة بن مصرف « هل يصيبنا » وحكي عن أعين قاضي الري أنه قرأ ( قل لن يصيبنا ) بنون مشددة. وهذا لحن، لا يؤكد بالنون ما كان خبرا، ولو كان هذا في قراءة طلحة لجاز. قال الله تعالى: « هل يذهبن كيده ما يغيظ » [ الحج: 15 ] .

 

الآية: 52 ( قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون )

 

قوله تعالى: « قل هل تربصون بنا » والكوفيون يدغمون اللام في التاء. فأما لام المعرفة فلا يجوز إلا الإدغام، كما قال جل وعز: « التائبون » [ التوبة: 112 ] لكثرة لام المعرفة في كلامهم ولا يجوز الإدغام في قوله: « قل تعالوا » [ الأنعام: 151 ] لأن « قل » معتل، فلم يجمعوا عليه علتين. والتربص الانتظار. يقال: تربص بالطعام أي انتظر به إلى حين الغلاء. والحسنى تأنيث الأحسن. وواحد الحسنيين حسنى، والجمع الحسنى. ولا يجوز أن ينطق به إلا معرفا. لا يقال: رأيت امرأة حسنى. والمراد بالحسنيين الغنيمة والشهادة، عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. واللفظ استفهام والمعنى توبيخ. « ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده » أي عقوبة تهلككم كما أصاب الأمم الخالية من قبلكم. « أو بأيدينا » أي يؤذن لنا في قتالكم. « فتربصوا » تهديد ووعيد. أي انتظروا مواعد الشيطان إنا منتظرون مواعد الله.

 

الآية: 53 ( قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين )

 

قال ابن عباس: نزلت في الجد بن قيس إذ قال ائذن لي في القعود وهذا مالي أعينك به. ولفظ « أنفقوا » أمر، ومعناه الشرط والجزاء. وهكذا تستعمل العرب في مثل هذا تأتي بأو كما قال الشاعر:

أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت

والمعنى إن أسأت أو أحسنت فنحن على ما تعرفين. ومعنى الآية: إن أنفقتم طائعين أو مكرهين فلن يقبل منكم. ثم بين جل وعز لم لا يقبل منهم فقال: « وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله » [ التوبة: 54 ] فكان في هذا أدل دليل على أن أفعال الكافر إذا كانت برا كصلة القرابة وجبر الكسير وإغاثة الملهوف لا يثاب عليها ولا ينتفع بها في الآخرة، بيد أنه يطعم بها في الدنيا. دليله ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه ؟ قال: ( لا ينفعه، إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ) . وروي عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل لله بها في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها ) . وهذا نص. ثم قيل: هل بحكم هذا الوعد الصادق لا بد أن يطعم الكافر ويعطى بحسناته في الدنيا أو ذلك مقيد بمشيئة الله المذكورة في قوله: « عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد » [ الإسراء: 18 ] وهذا هو الصحيح من القولين، والله أعلم. وتسمية ما يصدر عن الكافر حسنة إنما هو بحسب ظن الكافر، وإلا فلا يصح منه قربة، لعدم شرطها المصحح لها وهو الإيمان. أو سميت حسنة لأنها تشبه صورة حسنة المؤمن ظاهرا. قولان أيضا.

 

فإن قيل: فقد روى مسلم عن حكيم بن حزام أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي رسول الله، أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة أو صلة رحم أفيها أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أسلمت على ما أسلفت من خير ) قلنا قوله: ( أسلمت على ما أسلفت من خير ) مخالف ظاهره للأصول، لأن الكافر لا يصح منه التقرب لله تعالى فيكون مثابا على طاعته، لأن من شرط المتقرب أن يكون عارفا بالمتقرب إليه، فإذا عدم الشرط انتفى صحة المشروط. فكان المعنى في الحديث: إنك اكتسبت طباعا جميلة في الجاهلية أكسبتك عادة جميلة في الإسلام. وذلك أن حكيما رضي الله عنه عاش مائة وعشرين سنة، ستين في الإسلام وستين في الجاهلية، فأعتق في الجاهلية مائة رقبة وحمل على مائة بعير؟ وكذلك فعل في الإسلام. وهذا واضح. وقد قيل: لا يبعد في كرم الله أن يثيبه على فعله ذلك بالإسلام، كما يسقط عنه ما ارتكبه في حال كفره من الآثام. وإنما لا يثاب من لم يسلم ولا تاب، ومات كافرا. وهذا ظاهر الحديث. وهو الصحيح إن شاء الله. وليس عدم شرط الإيمان في عدم ثواب ما يفعله من الخير ثم أسلم ومات مسلما بشرط عقلي لا يتبدل، والله أكرم من أن يضيع عمله إذا حسن إسلامه. وقد تأول الحربي الحديث على هذا المعنى فقال: ( أسلمت على ما أسلفت ) ، أي ما تقدم لك من خير عملته فذلك لك. كما تقول: أسلمت على ألف درهم، أي على أن أحرزها لنفسه. والله أعلم.

 

فإن قيل: فقد روى مسلم عن العباس قال: قلت يا رسول الله إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك، فهل نفعه ذلك؟ قال: ( نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح ) . قيل له: لا يبعد أن يخفف عن الكافر بعض العذاب بما عمل من الخير، لكن مع انضمام شفاعة، كما جاء في أبي طالب. فأما غيره فقد أخبر التنزيل بقوله: « فما تنفعهم شفاعة الشافعين » [ المدثر: 48 ] . وقال مخبرا عن الكافرين: « فما لنا من شافعين. ولا صديق حميم » [ الشعراء: 100، 101 ] . وقد روى مسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب فقال: ( لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه ) . من حديث العباس رضي الله عنه: ( ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار ) . « إنكم كنتم قوما فاسقين » أي كافرين.

 

الآية: 54 ( وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون )

 

قوله تعالى: « وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم » « أن » الأولى في موضع نصب، والثانية في موضع رفع. والمعنى: وما منعهم من أن تقبل منهم نفقاتهم إلا كفرهم وقرأ الكوفيون « أن يقبل منهم » بالياء، لأن النفقات والإنفاق واحد. « ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى » قال ابن عباس: إن كان في جماعة صلى وإن انفرد لم يصل، وهو الذي لا يرجو على الصلاة ثوابا ولا يخشى في تركها عقابا. فالنفاق يورث الكسل في العبادة لا محالة. وقد تقدم في « النساء » القول في هذا كله. وقد ذكرنا هناك حديث العلاء موعبا. والحمد لله. « ولا ينفقون إلا وهم كارهون » لأنهم يعدونها مغرما ومنعها مغنما وإذا كان الأمر كذلك فهي غير متقبلة ولا مثاب عليها حسب ما تقدم.

 

الآية: 55 ( فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون )

 

أي لا تستحسن ما أعطيناهم ولا تمل إليه فإنه استدراج « إنما يريد الله ليعذبهم بها » قال الحسن: المعنى بإخراج الزكاة والإنفاق في سبيل الله. وهذا اختيار الطبري. وقال ابن عباس وقتادة: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما بريد الله ليعذبهم بها في الآخرة. وهذا قول أكثر أهل العربية، ذكره النحاس. وقيل: يعذبهم بالتعب في الجمع. وعلى هذا التأويل وقول الحسن لا تقديم فيه ولا تأخير، وهو حسن. وقيل: المعنى فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الدنيا لأنهم منافقون، فهم ينفقون كارهين فيعذبون بما ينفقون. « وتزهق أنفسهم وهم كافرون » نص في أن الله يريد أن يموتوا كافرين، سبق بذلك القضاء.

 

الآية: 56 ( ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون )

 

بين أن من أخلاق المنافقين الحلف بأنهم مؤمنون. نظيره « إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله » [ المنافقون: 1 ] الآية. والفرق الخوف، أي يخافون أن يظهروا ما هم عليه فيقتلوا.

 

الآية: 57 ( لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون )

 

قوله تعالى: « لو يجدون ملجأ » كذا الوقف عليه. وفي الخط بألفين: الأولى همزة، والثانية عوض من التنوين، وكذا رأيت جزءا. والملجأ الحصن، عن قتادة وغيره. ابن عباس: الحرز، وهما سواء. يقال: لجأت إليه لجأ بالتحريك وملجأ والتجأت إليه بمعنى. والموضع أيضا لجأ وملجأ. والتلجئة الإكراه. وألجأته إلى الشيء اضطررته إليه. وألجأت أمري إلى الله أسندته. وعمرو بن لجأ التميمي الشاعر عن الجوهري. « أو مغارات » جمع مغارة، من غار يغير. قال الأخفش: ويجوز أن يكون من أغار يغير، كما قال الشاعر:

الحمد لله ممسانا ومصبحنا

قال ابن عباس: المغارات الغيران والسراديب، وهي المواضع التي يستتر فيها، ومنه غار الماء وغارت العين. « أو مدخلا » مفتعل من الدخول، أي مسلكا نختفي بالدخول فيه، وأعاده لاختلاف اللفظ. قال النحاس: الأصل فيه مدتخل، قلبت التاء دالا، لأن الدال مجهورة والتاء مهموسة وهما من مخرج واحد. وقيل: الأصل فيه متدخل على متفعل، كما في قراءة أبي: « أو متدخلا » ومعناه دخول بعد دخول، أي قوما يدخلون معهم. المهدوي: متدخلا من تدخل مثل تفعل إذا تكلف الدخول. وعن أبي أيضا: مندخلا من اندخل، وهو شاذ، لأن ثلاثيه غير متعد عند سيبويه وأصحابه. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وابن محيصن: « أو مدخلا » بفتح الميم وإسكان الدال. قال الزجاج: ويقرأ « أو مدخلا » بضم الميم وإسكان الدال. الأول من دخل يدخل. والثاني من أدخل يدخل. كذا المصدر والمكان والزمان كما أنشد سيبويه:

مغار ابن همام على حي خثعما

وروي عن قتادة وعيسى والأعمش « أو مدخلا » بتشديد الدال والخاء. والجمهور بتشديد الدال وحدها، أي مكانا يدخلون فيه أنفسهم. فهذه ست قراءات. « لولوا إليه » أي لرجعوا إليه. « وهم يجمحون » أي يسرعون، لا يرد وجوههم شيء. من جمح الفرس إذا لم يرده اللجام. قال الشاعر:

سبوحا جموحا وإحضارها كمعمعة السعف الموقد

والمعنى: لو وجدوا شيئا من هذه الأشياء المذكورة لولوا إليه مسرعين هربا من المسلمين.

 

الآية: 58 ( ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون )

 

قوله تعالى: « ومنهم من يلزمك في الصدقات » أي يطعن عليك، عن قتادة. الحسن: يعيبك. وقال مجاهد: أي يروزك ويسألك. النحاس: والقول عند أهل اللغة قول قتادة والحسن. يقال: لمزه يلمزه إذا عابه. واللمز في اللغة العيب في السر. قال الجوهري: اللمز العيب، وأصله الإشارة بالعين ونحوها، وقد لمزه يلمزه ويلمز وقرئ بهما « ومنهم من يلمزك في الصدقات » . ورجل لماز ولمزة أي عياب. ويقال أيضا: لمزه يلمزه إذا دفعه وضربه. والهمز مثل اللمز. والهامز والهماز العياب، والهمزة مثله. يقال: رجل همزة وامرأة همزة أيضا. وهمزه أي دفعه وضربه. ثم قيل: اللمز في الوجه، والهمز بظهر الغيب. وصف الله قوما من المنافقين بأنهم عابوا النبي صلى الله عليه وسلم في تفريق الصدقات، وزعموا أنهم فقراء ليعطيهم. قال أبو سعيد الخدري: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم مالا إذ جاءه حرقوص بن زهير أصل الخوارج، ويقال له ذو الخويصرة التميمي، فقال: اعدل يا رسول الله. فقال: ( ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل ) فنزلت الآية. حديث صحيح أخرجه مسلم بمعناه. وعندها قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق. فقال: ( معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية ) .

 

الآية: 59 ( ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون )

 

قوله تعالى: « ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله » جواب « لو » محذوف، التقدير لكان خيرا لهم.

 

الآية: 60 ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم )

 

قوله تعالى: « إنما الصدقات للفقراء » خص الله سبحانه بعض الناس بالأموال دون بعض نعمة منه عليهم، وجعل شكر ذلك منهم إخراج سهم يؤدونه إلى من لا مال له، نيابة عنه سبحانه فيما ضمنه بقوله: « وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها » [ هود: 6 ] . « للفقراء » تبيين لمصارف الصدقات والمحل، حتى لا تخرج عنهم. ثم الاختيار إلى من يقسم، هذا قول مالك وأبي حنيفة وأصحابهما. كما يقال: السرج للدابة والباب للدار. وقال الشافعي: اللام لام التمليك، كقولك: المال لزيد وعمرو وبكر، فلا بد من التسوية بين المذكورين. قال الشافعي وأصحابه: وهذا كما لو أوصى لأصناف معينين أو لقوم معينين. واحتجوا بلفظة « إنما » وأنها تقتضي الحصر في وقوف الصدقات على الثمانية الأصناف وعضدوا هذا بحديث زياد بن الحارث الصدائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبعث إلى قومي جيشا فقلت: يا رسول الله احبس جيشك فأنا لك بإسلامهم وطاعتهم، وكتبت إلى قومي فجاء إسلامهم وطاعتهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا أخا صداء المطاع في قومه ) . قال: قلت بل من الله عليهم وهداهم، قال: ثم جاءه رجل يسأل عن الصدقات، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله لم يرض في الصدقات بحكم نبي ولا غيره حتى جزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من أهل تلك الأجزاء أعطيتك ) رواه أبو داود والدارقطني. واللفظ للدارقطني. وحكي عن زين العابدين أنه قال: إنه تعالى علم قدر ما يدفع من الزكاة وما تقع به الكفاية لهذه الأصناف، وجعله حقا لجميعهم، فمن منعهم ذلك فهو الظالم لهم رزقهم. وتمسك علماؤنا بقوله تعالى: « إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم » [ البقرة: 271 ] . والصدقة متى أطلقت في القرآن فهي صدقة الفرض. وقال صلى الله عليه وسلم: ( أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها على فقرائكم ) . وهذا نص في ذكر أحد الأصناف الثمانية قرآنا وسنة، وهو قول عمر بن الخطاب وعلي وابن عباس وحذيفة. وقال به من التابعين جماعة. قالوا: جائز أن يدفعها إلى الأصناف الثمانية، وإلى أي صنف منها دفعت جاز. روى المنهال بن عمرو عن زر بن حبيش عن حذيفة في قوله: « إنما الصدقات للفقراء والمساكين » قال: إنما ذكر الله هذه الصدقات لتعرف وأي صنف منها أعطيت أجزأك. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس « إنما الصدقات للفقراء والمساكين » قال: في أيها وضعت أجزأ عنك. وهو قول الحسن وإبراهيم وغيرهما. قال الكيا الطبري: حتى ادعى مالك الإجماع على ذلك.

قلت: يريد إجماع الصحابة، فإنه لا يعلم لهم مخالف منهم على ما قال أبو عمر، والله أعلم. ابن العربي: والذي جعلناه فيصلا بيننا وبينهم أن الأمة اتفقت على أنه لو أعطي كل صنف حظه لم يجب تعميمه، فكذلك تعميم الأصناف مثله. والله أعلم.

 

واختلف علماء اللغة وأهل الفقه في الفرق بين الفقير والمسكين على تسعة أقوال: فذهب يعقوب بن السكيت والقتبي ويونس بن حبيب إلى أن الفقير أحسن حالا من المسكين. قالوا: الفقير هو الذي له بعض ما يكفيه ويقيمه، والمسكين الذي لا شيء له، واحتجوا بقول الراعي:

أما الفقير الذي كانت حلوبته وفق العيال فلم يترك له سبد

وذهب إلى هذا قوم من أهل اللغة والحديث منهم أبو حنيفة والقاضي عبدالوهاب، والوفق من الموافقة بين الشيئين كالالتحام، يقال: حلوبته وفق عيال أي لها لبن قدر كفايتهم لا فضل فيه، عن الجوهري. وقال آخرون بالعكس، فجعلوا المسكين أحسن حالا من الفقير. واحتجوا بقوله تعالى: « أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر » [ الكهف: 79 ] . فأخبر أن لهم سفينة من سفن البحر. وربما ساوت جملة من المال. وعضدوه بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تعوذ من الفقر. وروي عنه أنه قال: « اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا » . فلو كان المسكين أسوأ حالا من الفقير لتناقض الخبران، إذ يستحيل أن يتعوذ من الفقر ثم يسأل ما هو أسوأ حالا منه، وقد استجاب الله دعاءه وقبضه وله مما أفاء الله عليه، ولكن لم يكن معه تمام الكفاية، ولذلك رهن درعه. قالوا: وأما بيت الراعي فلا حجة فيه، لأنه إنما ذكر أن الفقير كانت له حلوبة في حال. قالوا: والفقير معناه في كلام العرب المفقور الذي نُزعِت فقرة من ظهره من شدة الفقر فلا حال أشد من هذه. وقد أخبر الله عنهم بقوله « لا يستطيعون ضربا في الأرض » [ البقرة: 273 ] . واستشهدوا بقول الشاعر:

لما رأى لبد النسور تطايرت رفع القوادم كالفقير الأعزل

أي لم يطق الطيران فصار بمنزلة من انقطع صلبه ولصق بالأرض. ذهب إلى هذا الأصمعي وغيره، وحكاه الطحاوي عن الكوفيين. وهو أحد قولي الشافعي وأكثر أصحابه. وللشافعي قول آخر: أن الفقير والمسكين سواء، لا فرق بينهما في المعنى وإن افترقا في الاسم، وهو القول الثالث. وإلى هذا ذهب ابن القاسم وسائر أصحاب مالك، وبه قال أبو يوسف.

قلت: ظاهر اللفظ يدل على أن المسكين غير الفقير، وأنهما صنفان، إلا أن أحد الصنفين أشد حاجة من الآخر، فمن هذا الوجه يقرب قول من جعلهما صنفا واحدا، والله أعلم. ولا حجة في قول من احتج بقوله تعالى: « أما السفينة فكانت لمساكين » [ الكهف: 79 ] لأنه يحتمل أن تكون مستأجرة لهم، كما يقال: هذه دار فلان إذا كان ساكنها وإن كانت لغيره. وقد قال تعالى في وصف أهل النار: « ولهم مقامع من حديد » [ الحج: 21 ] فأضافها إليهم. وقال تعالى: « ولا تؤتوا السفهاء أموالكم » [ النساء: 5 ] . وقال صلى الله عليه وسلم: ( من باع عبدا وله مال... ) وهو كثير جدا يضاف الشيء إليه وليس له. ومنه قولهم: باب الدار. وجل الدابة، وسرج الفرس، وشبهه. ويجوز أن يسموا مساكين على جهة الرحمة والاستعطاف، كما يقال لمن امتحن بنكبة أو دفع إلى بلية مسكين. وفي الحديث ( مساكين أهل النار ) وقال الشاعر:

مساكين أهل الحب حتى قبورهم عليها تراب الذل بين المقابر

وأما ما تأولوه من قوله عليه السلام: ( اللهم أحيني مسكينا ) الحديث. رواه أنس، فليس كذلك، وإنما المعنى ههنا: التواضع لله الذي لا جبروت فيه ولا نخوة، ولا كبر ولا بطر، ولا تكبر ولا أشر. ولقد أحسن، أبو العتاهية حيث قال:

إذا أردت شريف القوم كلهم فانظر إلى ملك في زي مسكين

ذاك الذي عظمت في الله رغبته وذاك يصلح للدنيا وللدين

وليس بالسائل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد كره السؤال ونهى عنه، وقال في امرأة سوداء أبت أن تزول له عن الطريق: ( دعوها فإنها جبارة ) وأما قوله تعالى: « للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض » [ البقرة: 273 ] فلا يمتنع أن يكون لهم شيء. والله أعلم. وما ذهب إليه أصحاب مالك والشافعي في أنهما سواء حسن. ويقرب منه ما قاله مالك في كتاب ابن سحنون، قال: الفقير المحتاج المتعفف، والمسكين السائل، وروي عن ابن عباس وقاله الزهري، واختاره ابن شعبان وهو القول الرابع. وقول خامس: قال محمد بن مسلمة: الفقير الذي له المسكن والخادم إلى من هو أسفل من ذلك. والمسكين الذي لا مال له.

قلت: وهذا القول عكس ما ثبت في صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو، وسأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين ؟ فقال له عبدالله: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال نعم. قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال نعم. قال: فأنت من الأغنياء. قال: فإن لي خادما قال: فأنت من الملوك. وقول سادس: روي عن ابن عباس قال: الفقراء من المهاجرين، والمساكين من الأعراب الذين لم يهاجروا وقال الضحاك. وقول سابع: وهو أن المسكين الذي يخشع ويستكن وإن لم يسأل. والفقير الذي يتحمل ويقبل الشيء سرا ولا يخشع، قاله عبيدالله بن الحسن. وقول ثامن قاله مجاهد وعكرمة والزهري - المساكين الطوافون، والفقراء فقراء المسلمين. وقول تاسع قاله عكرمة أيضا - أن الفقراء فقراء المسلمين، والمساكين فقراء أهل الكتاب. وسيأتي.

وهي فائدة الخلاف في الفقراء والمساكين، هل هما صنف واحد أو أكثر تظهر فيمن أوصى بثلث ماله لفلان وللفقراء والمساكين، فمن قال هما صنف واحد قال: يكون لفلان نصف الثلث وللفقراء والمساكين نصف الثلث الثاني. ومن قال هما صنفان يقسم الثلث بينهم أثلاثا.

 

وقد اختلف العلماء في حد الفقر الذي يجوز معه الأخذ - بعد إجماع أكثر من يحفظ عنه من أهل العلم - أن من له دارا وخادما لا يستغني عنهما أن له أن يأخذ من الزكاة، وللمعطي أن يعطيه. وكان مالك يقول: إن لم يكن في ثمن الدار والخادم فضلة عما يحتاج إليه منهما جاز له الأخذ وإلا لم يجز، ذكره ابن المنذر. وبقول مالك قال النخعي والثوري. وقال أبو حنيفة: من معه عشرون دينارا أو مائتا درهم فلا يأخذ من الزكاة. فاعتبر النصاب لقوله عليه السلام: ( أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم ) . وهذا واضح، ورواه المغيرة عن مالك. وقال الثوري وأحمد وإسحاق وغيرهم: لا يأخذ من له خمسون درهما أو قدرها من الذهب، ولا يعطي منها أكثر من خمسين درهما إلا أن يكون غارما، قال أحمد وإسحاق. وحجة هذا القول ما رواه الدارقطني عن عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تحل الصدقة لرجل له خمسون درهما ) . في إسناده عبدالرحمن بن إسحاق ضعيف، وعنه بكر بن خنيس ضعيف أيضا. ورواه حكيم بن جبير عن محمد بن عبدالرحمن بن يزيد عن أبيه عن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وقال: ( خمسون درهما ) وحكيم بن جبير ضعيف تركه شعبة وغيره، قال الدارقطني رحمه الله. وقال أبو عمر: هذا الحديث يدور على حكيم بن جبير وهو متروك. وعن علي وعبدالله قالا: لا تحل الصدقة لمن له خمسون درهما أو قيمتها من الذهب، ذكره الدارقطني وقال الحسن البصري: لا يأخذ من له أربعون درهما. ورواه الواقدي عن مالك. وحجة هذا القول ما رواه الدارقطني عن عبدالله بن مسعود قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من سأل الناس وهو غني جاء يوم القيامة وفي وجهه كدوح وخدوش ) . فقيل: يا رسول الله وما غناؤه؟ قال: ( أربعون درهما ) . وفي حديث مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا والأوقية أربعون درهما ) . والمشهور عن مالك ما رواه ابن القاسم عنه أنه سئل: هل يعطى من الزكاة من له أربعون درهما؟ قال نعم. قال أبو عمر: يحتمل أن يكون الأول قويا على الاكتساب حسن التصرف. والثاني ضعيفا عن الاكتساب، أو من له عيال. والله أعلم. وقال الشافعي وأبو ثور. من كان قويا على الكسب والتحرف مع قوة البدن وحسن التصرف حتى يغنيه ذلك عن الناس فالصدقة عليه حرام. واحتج بحديث النبي صلى الله عليه وسلم ( لا تحل الصدقة لغنى ولا لذي مرة سوي ) رواه عبدالله بن عمر، وأخرجه أبو داود والترمذي والدارقطني. وروى جابر قال: جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة فركبه الناس، فقال: ( إنها لا تصلح لغني ولا لصحيح ولا لعامل ) أخرجه الدارقطني.»

وروى أبو داود عن عبيدالله بن عدي بن الخيار قال: أخبرني رجلان أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة فسألاه منها، فرفع فينا النظر وخفضه، فرآنا جلدين فقال: ( إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب ) . ولأنه قد صار غنيا بكسبه كغنى غيره بمال فصار كل واحد منهما غنيا عن المسألة. وقال ابن خويز منداد، وحكاه عن المذهب. وهذا لا ينبغي أن يعول عليه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطيها الفقراء ووقوفها على الزمن باطل. قال أبو عيسى الترمذي في جامعه: إذا كان الرجل قويا محتاجا ولم يكن عنده شيء فتصدق عليه أجزأ عن المتصدق عند أهل العلم. ووجه الحديث عند بعض أهل العلم على المسألة. وقال الكيا الطبري: والظاهر يقتضي جواز ذلك، لأنه فقير مع قوته وصحة بدنه. وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. وقال عبيدالله بن الحسن: من لا يكون له ما يكفيه ويقيمه سنة فإنه يعطى الزكاة. وحجته ما رواه ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخر مما أفاء الله عليه قوت سنة، ثم يجعل ما سوى ذلك في الكراع والسلاح مع قوله تعالى: « ووجدك عائلا فأغنى » [ الضحى: 8 ] . وقال بعض أهل العلم: لكل واحد أن يأخذ من الصدقة فيما لا بد له منه. وقال قوم: من عنده عشاء ليلة فهو غني وروي عن علي. واحتجوا بحديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من سأل مسألة عن ظهر غنى استكثر بها من رضف جهنم ) قالوا: يا رسول الله، وما ظهر الغنى؟ قال: ( عشاء ليلة ) أخرجه الدارقطني وقال: في إسناده عمرو بن خالد وهو متروك. وأخرجه أبو داود عن سهل بن الحنظلية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: ( من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار ) . وقال النفيلي في موضع آخر ( من جمر جهنم ) . فقالوا: يا رسول الله وما يغنيه؟ وقال النفيلي في موضع آخر: وما الغنى الذي لا تنبغي معه المسألة؟ قال: ( قدر ما يغديه ويعشيه ) . وقال النفيلي في موضع آخر: ( أن يكون له شبع يوم وليلة أو ليلة ويوم ) .

قلت: فهذا ما جاء في بيان الفقر الذي يجوز معه الأخذ. ومطلق لفظ الفقراء لا يقتضي الاختصاص بالمسلمين دون أهل الذمة، ولكن تظاهرت الأخبار في أن الصدقات تؤخذ من أغنياء المسلمين فترد في فقرائهم. وقال عكرمة: الفقراء فقراء المسلمين، والمساكين فقراء أهل الكتاب. وقال أبو بكر العبسي: رأى عمر بن الخطاب ذميا مكفوفا مطروحا على باب المدينة فقال له عمر: مالك؟ قال: استكروني في هذه الجزية، حتى إذا كف بصري تركوني وليس لي أحد يعود علي شيء. فقال عمر: ما أنصفت إذا، فأمر له بقوته وما يصلحه. ثم قال: ( هذا من الذين قال الله تعالى فيهم: « إنما الصدقات للفقراء والمساكين » الآية. وهم زمنى أهل الكتاب ) ولما قال تعالى: « إنما الصدقات للفقراء والمساكين » الآية، وقابل الجملة بالجملة وهي جملة الصدقة بجملة المصرف بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال لمعاذ حين أرسله إلى اليمن: ( أخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم ) . فاختص أهل كل بلد بزكاة بلده. وروى أبو داود أن زيادا أو بعض الأمراء بعث عمران بن حصين على الصدقة، فلما رجع قال لعمران: أين المال؟ قال: وللمال أرسلتني أخذناها من حيث كنا نأخذها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعناها حيث كنا نضعها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى الدارقطني والترمذي عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: قدم علينا مصدق النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ الصدقة من أغنيائنا فجعلها في فقرائنا فكنت غلاما يتيما فأعطاني منها قلوصا. قال الترمذي: وفي الباب عن ابن عباس حديث ابن أبي جحيفة حديث حسن.

 

وقد اختلفت العلماء في نقل الزكاة عن موضعها على ثلاثة أقوال: لا تنقل، قاله سحنون وابن القاسم، وهو الصحيح لما ذكرناه. قال ابن القاسم أيضا: وإن نقل بعضها لضرورة رأيته صوابا. وروي عن سحنون أنه قال: ولو بلغ الإمام أن ببعض البلاد حاجة شديدة جاز له نقل بعض الصدقة المستحقة لغيره إليه، فإن الحاجة إذا نزلت وجب تقديمها على من ليس بمحتاج ( والمسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه ) . والقول الثاني تنقل. وقاله مالك أيضا. وحجة هذا القول ما روي أن معاذا قال لأهل اليمن: ايتوني بخميس أو لبيس آخذه منكم مكان الذرة والشعير في الصدقة فإنه أيسر عليكم وأنفع للمهاجرين بالمدينة. أخرجه الدارقطني وغيره. والخميس لفظ مشترك، وهو هنا الثوب طوله خمس أذرع. ويقال: سمي بذلك لأن أول من عمله الخمس ملك من ملوك اليمن، ذكره ابن فارس في المجمل والجوهري أيضا. وفي هذا الحديث دليلان: أحدهما: ما ذكرناه من نقل الزكاة من اليمن إلى المدينة، فيتولى النبي صلى الله عليه وسلم قسمتها. ويعضد هذا قوله تعالى: « إنما الصدقات للفقراء » ولم يفصل بين فقير بلد وفقير آخر. والله أعلم. الثاني: أخذ القيمة في الزكاة. وقد اختلفت الرواية عن مالك في إخراج القيم في الزكاة، فأجاز ذلك مرة ومنع منه أخرى، فوجه الجواز - وهو قول أبي حنيفة - هذا الحديث. وثبت في صحيح البخاري من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ( من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده جذعة وعنده حقة فإنه تؤخذ منه وما استيسرنا من شاتين أو عشرين درهما... ) . الحديث. وقال صلى الله عليه وسلم: ( اغنوهم عن سؤال هذا اليوم ) يعني يوم الفطر. وإنما أراد أن يغنوا بما يسد حاجتهم، فأي شيء سد حاجتهم جاز. وقد قال تعالى: « خذ من أموالهم صدقة » [ التوبة: 103 ] ولم يخص شيئا من شيء. ولا يدفع عند أبي حنيفة سكنى دار بدل الزكاة، مثل أن يجب عليه خمسة دراهم فأسكن فيها فقيرا شهرا فإنه لا يجوز. قال: لأن السكنى ليس بمال. ووجه قوله: لا تجزي القيم - وهو ظاهر المذهب - فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( في خمس من الإبل شاة وفي أربعين شاة شاة ) فنص على الشاة، فإذا لم يأت بها لم يأت بمأمور به، وإذا لم يأت بالمأمور به فالأمر باق عليه. القول الثالث وهو أن سهم الفقراء والمساكين يقسم في الموضع، وسائر السهام تنقل باجتهاد الإمام. والقول الأول أصح. والله أعلم.

وهل المعتبر مكان المال وقت تمام الحول فتفرق الصدقة فيه، أو مكان المالك إذ هو المخاطب، قولان. واختار الثاني أبو عبدالله محمد بن خويز منداد في أحكامه قال: لأن الإنسان هو المخاطب بإخراجها فصار المال تبعا له، فيجب أن يكون الحكم فيه بحيث المخاطب. كابن السبيل فإنه يكون غنيا في بلده فقيرا في بلد آخر، فيكون الحكم له حيث هو.

 

مسألة: واختلفت الرواية عن مالك فيمن أعطى فقيرا مسلما فانكشف في ثاني حال أنه أعطى عبدا أو كافرا أو غنيا، فقال مرة: تجزيه ومرة لا تجزيه. وجه الجواز - وهو الأصح - ما رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( قال رجل لأتصدقن الليلة بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية فأصبحوا يتحدثون تصدق الليلة على زانية قال اللهم لك الحمد على زانية لأتصدقن بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد غني فأصبحوا يتحدثون تصدق على غني قال اللهم لك الحمد على غني لأتصدقن بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق فأصبحوا يتحدثون تصدق على سارق فقال اللهم لك الحمد على زانية وعلى غني وعلى سارق فأتي فقيل له أما صدقتك فقد قبلت أما الزانية فلعلها تستعف بها عن زناها ولعل الغني يعتبر فينفق مما أعطاه الله ولعل السارق يستعف بها عن سرقته ) . وروي أن رجلا أخرج زكاة ماله فأعطاها أباه، فلما أصبح علم بذلك، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ( قد كتب لك أجر زكاتك وأجر صلة الرحم فلك أجران ) . ومن جهة المعنى أنه سوغ له الاجتهاد في المعطى، فإذا اجتهد وأعطى من يظنه من أهلها فقد أتى بالواجب عليه. ووجه قوله: لا يجزي. أنه لم يضعها في مستحقها، فأشبه العمد، ولأن العمد والخطأ في ضمان الأموال واحد فوجب أن يضمن ما أتلف، على المساكين حتى يوصله إليهم.

فإن أخرج الزكاة عند محلها فهلكت من غير تفريط لم يضمن، لأنه وكيل للفقراء. فإن أخرجها بعد ذلك بمدة فهلكت ضمن، لتأخيرها عن محلها فتعلقت بذمته فلذلك ضمن والله أعلم.

وإذا كان الإمام يعدل في الأخذ والصرف لم يسغ للمالك أن يتولى الصرف بنفسه في الناضّ ولا في غيره. وقد قيل: إن زكاة الناض على أربابه. وقال ابن الماجشون: ذلك إذا كان الصرف للفقراء والمساكين خاصة، فإن احتيج إلى صرفها لغيرهما من الأصناف فلا يفرق عليهم إلا الإمام. وفروع هذا الباب كثيرة، هذه أمهاتا.

 

قوله تعالى: « والعاملين عليها » يعني السعاة والجباة الذين يبعثهم الإمام لتحصيل الزكاة بالتوكيل على ذلك. روى البخاري عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأسد على صدقات بني سليم يدعى ابن اللتبية، فلما جاء حاسبه. واختلف العلماء في المقدار الذي يأخذونه على ثلاثة أقوال: قال مجاهد والشافعي: هو الثمن. ابن عمر ومالك: يعطون قدر عملهم من الأجرة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. قالوا: لأنه عطل نفسه لمصلحة الفقراء، فكانت كفايته وكفاية أعوانه في مالهم، كالمرأة لما عطلت نفسها لحق الزوج كانت نفقتها ونفقة أتباعها من خادم أو خادمين على زوجها. ولا تقدر بالثمن، بل تعتبر الكفاية ثمنا كان أو أكثر، كرزق القاضي. ولا تعتبر كفاية الأعوان في زماننا لأنه إسراف محض. القول الثالث - يعطون من بيت المال. قال ابن العربي: وهذا قول صحيح عن مالك بن أنس من رواية ابن أبي أويس وداود بن سعيد بن زنبوعة، وهو ضعيف دليلا، فإن الله سبحانه قد أخبر بسهمهم فيها نصا فكيف يخلفون عنه استقراء وسبرا. والصحيح الاجتهاد في قدر الأجرة، لأن البيان في تعديد الأصناف إنما كان للمحل لا للمستحق، على ما تقدم.

واختلفوا في العامل إذا كان هاشميا، فمنعه أبو حنيفة لقوله عليه السلام: ( إن الصدقة لا تحل لآل محمد إنما هي أوساخ الناس ) . وهذه صدقة من وجه، لأنها جزء من الصدقة فتلحق بالصدقة من كل وجه كرامة وتنزيها لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غسالة الناس. وأجاز عمله مالك والشافعي، ويعطى أجر عمالته، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب مصدقا، وبعثه عاملا إلى اليمن على الزكاة، وولى جماعة من بني هاشم وولى الخلفاء بعده كذلك. ولأنه أجير على عمل مباح فوجب أن يستوي فيه الهاشمي وغيره اعتبارا بسائر الصناعات. قالت الحنفية: حديث علي ليس فيه أنه فرض له من الصدقة، فإن فرض له من غيرها جاز. وروي عن مالك.

 

ودل قوله تعالى: « والعاملين عليها » على أن كل ما كان من فروض الكفايات كالساعي والكاتب والقسام والعاشر وغيرهم فالقائم به يجوز له أخذ الأجرة عليه. ومن ذلك الإمامة، فإن الصلاة وإن كانت متوجهة على جميع الخلق فإن تقدم بعضهم بهم من فروض الكفايات، فلا جرم يجوز أخذ الأجرة عليها. وهذا أصل الباب، وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة ) قاله ابن العربي.

 

قوله تعالى: « والمؤلفة قلوبهم » لا ذكر للمؤلفة قلوبهم في التنزيل في غير قسم الصدقات، وهم قوم كانوا في صدر الإسلام ممن يظهر الإسلام، يتألفون بدفع سهم من الصدقة إليهم لضعف يقينهم. قال الزهري: المؤلفة من أسلم من يهودي أو نصراني وإن كان غنيا. وقال بعض المتأخرين: اختلف في صفتهم، فقيل: هم صنف من الكفار يعطون ليتألفوا على الإسلام، وكانوا لا يسلمون بالقهر والسيف، ولكن يسلمون بالعطاء والإحسان. وقيل: هم قوم أسلموا في الظاهر ولم تستيقن قلوبهم، فيعطون ليتمكن الإسلام في صدورهم. وقيل: هم قوم من عظماء المشركين لهم أتباع يعطون ليتألفوا أتباعهم على الإسلام. قال: وهذه الأقوال متقاربة والقصد بجميعها الإعطاء لمن لا يتمكن إسلامه حقيقة إلا بالعطاء، فكأنه ضرب من الجهاد.

والمشركون ثلاثة أصناف: صنف يرجع بإقامة البرهان. وصنف بالقهر. وصنف بالإحسان. والإمام الناظر للمسلمين يستعمل مع كل صنف ما يراه سببا لنجاته وتخليصه من الكفر. وفي صحيح مسلم من حديث أنس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعني للأنصار - : ( فإني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم... ) الحديث. قال ابن إسحاق: أعطاهم يتألفهم ويتألف بهم قومهم. وكانوا أشرافا، فأعطى أبا سفيان بن حرب مائة بعير، وأعطى ابنه مائة بعير، وأعطى حكيم بن حزام مائة بعير، وأعطى الحارث بن هشام مائة بعير، وأعطى سهيل بن عمرو مائة بعير، وأعطى حويطب بن عبدالعزى مائة بعير، وأعطى صفوان بن أمية مائة بعير. وكذلك أعطى مالك بن عوف والعلاء بن جارية. قال: فهؤلاء أصحاب المئين. وأعطى رجالا من قريش دون المائة منهم مخرمة بن نوفل الزهري وعمير بن وهب الجمحي، وهشام بن عمرو العامري. قال ابن إسحاق: فهؤلاء لا أعرف ما أعطاهم. وأعطى سعيد بن يربوع خمسين بعيرا، وأعطى عباس بن مرداس السلمي أباعر قليلة فسخطها. فقال في ذلك:

كانت نهابا تلافيتها بكري على المهر في الأجرع

وإيقاظي القوم أن يرقدوا إذا هجع الناس لم أهجع

فأصبح نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع

وقد كنت في الحرب ذا تدرأ فلم أعط شيئا ولم أمنع

إلا أفائل أعطيتها عديد قوائمه الأربع

وما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في المجمع

وما كنت دون امرئ منهما ومن تضع اليوم لا يرفع

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اذهبوا فاقطعوا عني لسانه ) فأعطوه حتى رضي، فكان ذلك قطع لسانه. قال أبو عمر: وقد ذكر في المؤلفة قلوبهم النضير بن الحارث بن علقمة بن كلدة، أخو النضر بن الحارث المقتول ببدر صبرا. وذكر آخرون أنه فيمن هاجر إلى الحبشة، فإن كان منهم فمحال أن يكون من المؤلفة قلوبهم، ومن هاجر إلى أرض، الحبشة فهو من المهاجرين الأولين ممن رسخ الإيمان في قلبه وقاتل دونه، وليس ممن يؤلف عليه. قال أبو عمر: واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن عوف بن سعد بن يربوع النصري على من أسلم من قومه من قبائل قيس، وأمره بمغاورة ثقيف ففعل وضيق عليهم، وحسن إسلامه وإسلام المؤلفة قلوبهم، حاشا عيينة بن حصن فلم يزل مغمورا عليه. وسائر المؤلفة متفاضلون، منهم الخير الفاضل المجتمع على فضله، كالحارث بن هشام، وحكيم بن حزام، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، ومنهم دون هؤلاء. وقد فضل الله النبيين وسائر عباده المؤمنين بعضهم على بعض وهو أعلم بهم. قال مالك: بلغني أن حكيم بن حزام أخرج ما كان أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم في المؤلفة قلوبهم فتصدق به بعد ذلك.

قلت: حكيم بن حزام وحويطب بن عبدالعزى عاش كل واحد منهما مائة وعشرين سنة ستين في الإسلام وستين في الجاهلية. وسمعت الإمام شيخنا الحافظ أبا محمد عبدالعظيم يقول: شخصان من الصحابة عاشا في الجاهلية ستين سنة وفي الإسلام ستين سنة، وماتا بالمدينة سنة أربع وخمسين، أحدهما حكيم بن حزام، وكان مولده في جوف الكعبة قبل عام الفيل بثلاث عشرة سنة. والثاني حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام الأنصاري. وذكر هذا أيضا أبو عمر وعثمان الشهرزوري في كتاب معرفة أنواع علم الحديث له، ولم يذكرا غيرهما. وحويطب ذكره أبو الفرج الجوزي في كتاب الوفا في شرف المصطفى. وذكره أبو عمر في كتاب الصحابة أنه أدرك الإسلام وهو ابن ستين سنة، ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة. وذكر أيضا حمنن بن عوف أخو عبدالرحمن بن عوف، أنه عاش في الإسلام ستين سنة وفي الجاهلية ستين سنة. وقد عد في المؤلفة قلوبهم معاوية وأبوه أبو سفيان بن حرب. أما معاوية فبعيد أن يكون منهم، فكيف يكون منهم وقد ائتمنه النبي صلى الله عليه وسلم على وحي الله وقراءته وخلطه بنفسه. وأما حاله في أيام أبي بكر فأشهر من هذا وأظهر. وأما أبوه فلا كلام فيه أنه كان منهم. وفي عددهم اختلاف، وبالجملة فكلهم مؤمن ولم يكن فيهم كافر على ما تقدم، والله أعلم وأحكم.

واختلف العلماء في بقائهم، فقال عمر والحسن والشعبي وغيرهم: انقطع هذا الصنف بعز الإسلام وظهوره. وهذا مشهور من مذهب مالك وأصحاب الرأي. قال بعض علماء الحنفية: لما أعز الله الإسلام وأهله وقطع دابر الكافرين - لعنهم الله - اجتمعت الصحابة رضوان الله عنهم أجمعين في خلافة أبي بكر رضي الله عنه على سقوط سهمهم. وقال جماعة من العلماء: هم باقون لأن الإمام ربما أحتاج أن يستألف على الإسلام. وإنما قطعهم عمر لما رأى من إعزاز الدين. قال يونس: سألت الزهري عنهم فقال: لا أعلم نسخا في ذلك. قال أبو جعفر النحاس: فعلى هذا الحكم فيهم ثابت، فإن كان أحد يحتاج إلى تألفه ويخاف أن تلحق المسلمين منه آفة أو يرجى أن يحسن إسلامه بعد دفع إليه. قال القاضي عبدالوهاب: إن احتيج إليهم في بعض الأوقات أعطوا من الصدقة. وقال القاضي ابن العربي: الذي عندي أنه إن قوي الإسلام زالوا، وإن احتيج إليهم أعطوا سهمهم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم، فإن في الصحيح: ( بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ ) .

 

فإذا فرّعنا على أنه لا يرد إليهم سهمهم فإنه يرجع إلى سائر الأصناف أو ما يراه الإمام. وقال الزهري: يعطى نصف سهمهم لعمار المساجد. وهذا مما يدلك على أن الأصناف الثمانية محل لا مستحقون تسوية، ولو كانوا مستحقين لسقط سهمهم بسقوطهم ولم يرجع إلى غيرهم، كما لو أوصى لقوم معينين فمات أحدهم لم يرجع نصيبه إلى من بقي منهم. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « وفي الرقاب » أي في فك الرقاب، قاله ابن عباس وابن عمر، وهو مذهب مالك وغيره. فيجوز للإمام أن يشتري رقابا من مال الصدقة يعتقها عن المسلمين، ويكون ولاؤهم لجماعة المسلمين. وإن اشتراهم صاحب الزكاة وأعتقهم جاز. هذا تحصيل مذهب مالك، وروي عن ابن عباس والحسن، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو عبيد. وقال أبو ثور: لا يبتاع منها صاحب الزكاة نسمة يعتقها بجَرّ ولاء. وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي ورواية عن مالك. والصحيح الأول، لأن الله عز وجل قال: « وفي الرقاب » فإذا كان للرقاب سهم من الصدقات كان له أن يشتري رقبة فيعتقها. ولا خلاف بين أهل العلم أن للرجل أن يشتري الفرس فيحمل عليه في سبيل الله. فإذا كان له أن يشتري فرسا بالكمال من الزكاة جاز أن يشتري رقبة بالكمال، لا فرق بين ذلك. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « وفي الرقاب » الأصل في الولاء، قال مالك: هي الرقبة تعتق وولاؤها للمسلمين، وكذلك إن أعتقها الإمام. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته. وقال عليه السلام: ( الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب ) . وقال عليه السلام: ( الولاء لمن أعتق ) . ولا ترث النساء من الولاء شيئا، لقوله عليه السلام: ( لا ترث النساء من الولاء شيئا إلا ما أعتقن أو أعتق من أعتقن ) وقد ورث النبي صلى الله عليه وسلم ابنة حمزة من مولى لها النصف ولابنته النصف. فإذا ترك المعتق أولادا ذكورا وإناثا فالولاء للذكور من ولده دون الإناث. وهو إجماع الصحابة رضي الله عنهم. والولاء إنما يورث بالتعصيب المحض، والنساء لا تعصيب فيهن فلم يرثن من الولاء شيئا. فافهم تصب.

 

واختلف هل يعان منها المكاتب، فقيل لا. روي ذلك عن مالك، لأن الله عز وجل ذكر الرقبة دل على أنه أراد العتق الكامل، وأما المكاتب فإنما هو داخل في كلمة الغارمين بما عليه من دين الكتابة، فلا يدخل في الرقاب. والله أعلم. وقد روي عن مالك من رواية المدنيين وزياد عنه: أنه يعان منها المكاتب في آخر كتابته بما يعتق. وعلى هذا جمهور العلماء في تأويل قول الله تعالى: « وفي الرقاب » . وبه قال ابن وهب والشافعي والليث والنخعي وغيره وحكى علي بن موسى القمي الحنفي في أحكامه: أنهم أجمعوا على أن المكاتب مراد. واختلفوا في عتق الرقاب، قال الكيا الطبري: وذكر وجها بينه في منع ذلك فقال: إن العتق إبطال ملك وليس بتمليك، وما يدفع إلى المكاتب تمليك، ومن حق الصدقة ألا تجزي إلا إذا جرى فيها التمليك. وقوى ذلك بأنه لو دفع من الزكاة عن الغارم في دينه بغير أمره لم يجزه من حيث لم يملك فلأن لا يجزي ذلك في العتق أولى. وذكر أن في العتق جر الولاء إلى نفسه وذلك لا يحصل في دفعه للمكاتب. وذكر أن ثمن العبد إذا دفعه إلى العبد لم يملكه العبد، وإن دفعه إلى سيده فقد ملّكه العتق. وإن دفعه بعد الشراء والعتق فهو قاضٍ ديناً وذلك لا يجزي في الزكاة.

قلت: قد ورد حديث ينص على معنى ما ذكرنا من جواز عتق الرقبة وإعانة المكاتب معا أخرجه الدارقطني عن البراء قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: دلني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار. قال: ( لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة أعتق النسمة وفك الرقبة ) . فقال: يا رسول الله، أو ليستا واحدا ؟ قال: ( لا، عتق النسمة أن تنفرد بعتقها وفك الرقبة أن تعين في ثمنها... ) وذكر الحديث.

 

واختلفوا في فك الأسارى منها، فقال أصبغ: لا يجوز. وهو قول ابن قاسم. وقال ابن حبيب: يجوز، لأنها رقبة ملكت بملك الرق فهي تخرج من رق إلى عتق، وكان ذلك أحق وأولى من فكاك الرقاب الذي بأيدينا، لأنه إذا كان فك المسلم عن رق المسلم عبادة وجائزا من الصدقة، فأحرى وأولى أن يكون ذلك في فك المسلم عن رق الكافر وذله.

 

قوله تعالى: « والغارمين » هم الذين ركبهم الدين ولا وفاء عندهم به، ولا خلاف فيه. اللهم إلا من ادّان في سفاهة فإنه لا يعطى منها ولا من غيرها إلا أن يتوب. ويعطى منها من له مال وعليه دين محيط به ما يقضي به دينه، فإن لم يكن له مال وعليه دين فهو فقير وغارم فيعطى بالوصفين. روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( تصدقوا عليه ) . فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه: ( خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك ) .

 

ويجوز للمتحمل في صلاح وبر أن يُعطى من الصدقة ما يؤدي ما تحمل به إذا وجب عليه وإن كان غنيا، إذا كان ذلك يجحف بماله كالغريم. وهو قول الشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وغيرهم. واحتج من ذهب هذا المذهب بحديث قبيصة بن مخارق قال: تحملت حمالة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم أسأله فيها فقال: ( أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها - ثم قال - يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش - أو قال سدادا من عيش - ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحِجَا من قومه لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش - أو قال سدادا من عيش - فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتا يأكلها صاحبها سحتا ) . فقوله: ( ثم يمسك ) دليل على أنه غني، لأن الفقير ليس عليه أن يمسك. والله أعلم. وروي عنه عليه السلام أنه قال: ( إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أو لذي دم موجع ) . وروي عنه عليه السلام: ( لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة... ) الحديث. وسيأتي.

 

واختلفوا، هل يقضى منها دين الميت أم لا، فقال أبو حنيفة: لا يؤدى من الصدقة دين ميت. وهو قول ابن المواز. قال أبو حنيفة: ولا يعطى منها من عليه كفارة ونحو ذلك من حقوق الله تعالى، وإنما الغارم من عليه دين يسجن فيه. وقال علماؤنا وغيرهم: يقضى منها دين الميت لأنه من الغارمين، قال صلى الله عليه وسلم: ( أنا أولى بكل مؤمن من نفسه من ترك مالا فلأهله ومن ترك دينا أو ضياعا فإلي وعلي ) .

 

قوله تعالى: « وفي سبيل الله » وهم الغزاة وموضع الرباط، يعطون ما ينفقون في غزوهم كانوا أغنياء أو فقراء. وهذا قول أكثر العلماء، وهو تحصيل مذهب مالك رحمه الله. وقال ابن عمر: الحجاج والعمار. ويؤثر عن أحمد وإسحاق رحمهما الله أنهما قالا: سبيل الله الحج. وفي البخاري: ويذكر عن أبي لاس: حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل الصدقة للحج، ويذكر عن ابن عباس: يعتق من زكاة ماله ويعطي في الحج. خرج أبو محمد عبدالغني الحافظ حدثنا محمد بن محمد الخياش حدثنا أبو غسان مالك بن يحيى حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا مهدي بن ميمون عن محمد بن أبي يعقوب عن عبدالرحمن بن أبي نُعم ويكنى أبا الحكم قال: كنت جالسا مع عبدالله بن عمر فأتته امرأة فقالت له: يا أبا عبدالرحمن، إن زوجي أوصى بماله في سبيل الله. قال ابن عمر: فهو كما قال في سبيل الله. فقلت له: ما زدتها فيما سألت عنه إلا غما. قال: فما تأمرني يا ابن أبي نُعم، آمرها أن تدفعه إلى هؤلاء الجيوش الذين يخرجون فيفسدون في الأرض ويقطعون السبيل، قال: قلت فما تأمرها. قال: آمرها أن تدفعه إلى قوم صالحين، إلى حجاج بيت الله الحرام، أولئك وفد الرحمن، أولئك وفد الرحمن، أولئك وفد الرحمن، ليسوا كوفد الشيطان، ثلاثا يقولها. قلت: يا أبا عبدالرحمن، وما وفد الشيطان؟ قال: قوم يدخلون على هؤلاء الأمراء فيُنِمُون إليهم الحديث، ويسعون في المسلمين بالكذب، فيجازون الجوائز ويعطون عليه العطايا. وقال محمد بن عبدالحكم: ويعطى من الصدقة في الكراع والسلاح وما يحتاج إليه من آلات الحرب، وكف العدو عن الحوزة، لأنه كله من سبيل الغزو ومنفعته. وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم مائة ناقة في نازلة سهل بن أبي حثمة إطفاء للثائرة.

قلت: أخرج هذا الحديث أبو داود عن بشير بن يسار، أن رجلا من الأنصار يقال له سهل بن أبي حثمة أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وداه مائة من إبل الصدقة، يعني دية الأنصاري الذي قتل بخيبر، وقال عيسى بن دينار: تحل الصدقة لغاز في سبيل الله، قد احتاج في غزوته وغاب عنه غناؤه ووفره. قال: ولا تحل لمن كان معه ماله من الغزاة، إنما تحل لمن كان ماله غائبا عنه منهم. وهذا مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وجمهور أهل العلم. وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يعطى الغازي إلا إذا كان فقيرا منقطعا به. وهذه زيادة على النص، والزيادة عنده على النص نسخ، والنسخ لا يكون إلا بقرآن أو خبر متواتر، وذلك معدوم هنا، بل في صحيح السنة خلاف ذلك من قوله عليه السلام: ( لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة لغاز في سبيل الله أو لعامل عليها أو لغارم أو لرجل اشتراها بماله أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني ) . رواه مالك مرسلا عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار. ورفعه معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم فكان هذا الحديث مفسرا لمعنى الآية، وأنه يجوز لبعض الأغنياء أخذها، ومفسرا لقوله عليه السلام: ( لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي ) لأن قوله هذا مجمل ليس على عمومه بدليل الخمسة الأغنياء المذكورين. وكان ابن القاسم يقول: لا يجوز لغني أن يأخذ من الصدقة ما يستعين به على الجهاد وينفقه في سبيل الله، وإنما يجوز ذلك لفقير. قال: وكذلك الغارم لا يجوز له أن يأخذ من الصدقة ما يقي به ماله ويؤدي منها دينه وهو عنها غني. قال: وإذا احتاج الغازي في غزوته وهو غني له مال غاب عنه لم يأخذ من الصدقة شيئا يستقرض، فإذا بلغ بلده أدى ذلك من ماله. هذا كله ذكره ابن حبيب عن ابن القاسم، وزعم أن ابن نافع وغيره خالفوه في ذلك. وروى أبو زيد وغيره عن ابن القاسم أنه قال: يعطى من الزكاة الغازي وإن كان معه في غزاته ما يكفيه من ماله وهو غني في بلده. وهذا هو الصحيح، لظاهر الحديث: ( لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة... ) . وروى ابن وهب عن مالك أنه يعطى منها الغزاة ومواضع الرباط فقراء كانوا أو أغنياء.

 

قوله تعالى: « وابن السبيل » السبيل الطريق، ونسب المسافر إليها لملازمته إياها ومروره عليها، كما قال الشاعر:

إن تسألوني عن الهوى فأنا الهوى وابن الهوى وأخو الهوى وأبوه

والمراد الذي انقطعت به الأسباب في سفره عن بلده ومستقره وماله، فإنه يعطى منها وإن كان غنيا في بلده، ولا يلزمه أن يشغل ذمته بالسلف. وقال مالك في كتاب ابن سحنون: إذا وجد من يسلفه فلا يعطى. والأول أصح، فإنه لا يلزمه أن يدخل تحت منة أحد وقد وجد منة الله تعالى. فإن كان له ما يغنيه ففي جواز الأخذ له لكونه ابن السبيل روايتان: المشهور أنه لا يعطى، فإن أخذ فلا يلزمه رده إذا صار إلى بلده ولا إخراجه.

فإن جاء وادعى وصفا من الأوصاف، هل يقبل قوله أم لا ويقال له أثبت ما تقول. فأما الدين فلا بد أن يثبته، وأما سائر الصفات فظاهر الحال يشهد له ويكتفى به فيها. والدليل على ذلك حديثان صحيحان أخرجهما أهل الصحيح، وهو ظاهر القرآن. روى مسلم عن جرير عن أبيه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، قال: فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء متقلدي السيوف، عامتهم من مضر بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج فأمر بلالا فأذن وأقام فصلى، ثم خطب فقال: « يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم - الآية إلى قوله - رقيبا » [ النساء: 1 ] والآية التي في الحشر « ولتنظر نفس ما قدمت لغد » [ الحشر: 18 ] تصدق رجل من ديناره من ثوبه من صاع بره - حتى قال - ولو بشق تمرة. قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ) . فاكتفى صلى الله عليه وسلم بظاهر حالهم وحث على الصدقة، ولم يطلب منهم بينة، ولا استقصى هل عندهم مال أم لا. ومثله حديث أبرص وأقرع وأعمى أخرجه مسلم وغيره. وهذا لفظه: عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى فأراد الله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكا فأتى الأبرص فقال أي شيء أحب إليك فقال لون حسن وجلد حسن ويذهب عني الذي قد قذرني الناس قال فمسحه فذهب عنه قذره وأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا قال فأي المال أحب إليك قال الإبل - أو قال البقر، شك إسحاق، إلا أن الأبرص أو الأقرع قال أحدهما الإبل وقال الآخر البقر - قال فأعطي ناقة عشراء قال بارك الله لك فيها قال فأتى الأقرع فقال أي شيء أحب إليك قال شعر حسن ويذهب عني هذا الذي قد قذرني الناس قال فمسحه فذهب عنه قال فأعطي شعرا حسنا قال فأي المال أحب إليك قال البقر فأعطي بقرة حاملا قال بارك الله لك فيها قال فأتى الأعمى فقال أي شيء أحب إليك قال أن يرد الله إلي بصري فأبصر به الناس قال فمسحه فرد الله إليه بصره قال فأي المال أحب إليك قال الغنم فأعطي شاة والدا فأنتج هذان وولد هذا قال فكان لهذا واد من الإبل ولهذا واد من البقر ولهذا واد من الغنم قال ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال رجل مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله وبك أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرا أتبلغ عليه في سفري فقال له الحقوق كثيرة فقال له كأني أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيرا فأعطاك الله فقال إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر فقال إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت فقال وأتى الأقرع في صورته فقال له مثل ما قال لهذا ورد عليه مثل ما رد على هذا فقال إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت قال وأتى الأعمى في صورته وهيئته فقال رجل مسكين وابن سبيل انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري فقال قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري فخذ ما شئت ودع ما شئت فوالله لا أجهدك اليوم شيئا أخذته لله فقال أمسك مالك فإنما ابتليتم فقد رضي عنك وسخط على صاحبيك ) .

وفي هذا أدل دليل على أن من ادعى زيادة على فقره من عيال أو غيره لا يكشف عنه خلافا لمن قال يكشف عنه إن قدر، فإن في الحديث ( فقال رجل مسكين وابن سبيل أسألك شاة ) ولم يكلفه إثبات السفر. فأما المكاتب فإنه يكلف إثبات الكتابة لأن الرق هو الأصل حتى تثبت الحرية.

 

ولا يجوز أن يعطي من الزكاة من تلزمه نفقته وهم الوالدان والولد والزوجة. وإن أعطى الإمام صدقة الرجل لولده ووالده وزوجته جاز. وأما أن يتناول ذلك هو نفسه فلا، لأنه يسقط بها عن نفسه فرضا. قال أبو حنيفة: ولا يعطى منها ولد ابنه ولا ولد ابنته، ولا يعطي منها مكاتبه ولا مدبره ولا أم ولده ولا عبدا أعتق نصفه، لأنه مأمور بالإيتاء والإخراج إلى الله تعالى بواسطة كف الفقير، ومنافع الأملاك مشتركة بينه وبين هؤلاء، ولهذا لا تقبل شهادة بعضهم لبعض. قال: والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم وربما يعجز فيصير الكسب له. ومعتق البعض عند أبي حنيفة بمنزلة المكاتب. وعند صاحبيه أبي يوسف ومحمد بمنزلة حر عليه دين فيجوز أداؤها إليه.

فإن أعطاها لمن لا تلزمه نفقتهم فقد اختلف فيه، فمنهم من جوزه ومنهم من كرهه. قال مالك: خوف المحمدة. وحكى مطرف أنه قال: رأيت مالكا يعطي زكاته لأقاربه. وقال الواقدي قال مالك: أفضل من وضعت فيه زكاتك قرابتك الذين لا تعول. وقد قال صلى الله عليه وسلم لزوجة عبدالله بن مسعود: ( لك أجران أجر القرابة وأجر الصدقة ) . واختلفوا في إعطاء المرأة زكاتها لزوجها، فذكر عن ابن حبيب أنه كان يستعين بالنفقة عليها بما تعطيه. وقال أبو حنيفة: لا يجوز، وخالفه صاحباه فقالا: يجوز. وهو الأصح لما ثبت أن زينب امرأة عبدالله أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أريد أن أتصدق على زوجي أيجزيني ؟ فقال عليه السلام: ( نعم لك أجران أجر الصدقة وأجر القرابة ) . والصدقة المطلقة هي الزكاة، ولأنه لا نفقة للزوج عليها، فكان بمنزلة الأجنبي. اعتل أبو حنيفة فقال: منافع الأملاك بينهما مشتركة، حتى لا تقبل شهادة أحدهما لصاحبه. والحديث محمول على التطوع. وذهب الشافعي وأبو ثور وأشهب إلى إجازة ذلك، إذا لم يصرفه إليها فيما يلزمه لها، وإنما يصرف ما يأخذه منها في نفقته وكسوته على نفسه وينفق عليها من ماله.

 

واختلفوا أيضا في قدر المعطى، فالغارم يعطى قدر دينه، والفقير والمسكين يعطيان كفايتهما وكفاية عيالهما. وفي جواز إعطاء النصاب أو أقل منه خلاف ينبني على الخلاف المتقدم في حد الفقر الذي يجوز معه الأخذ. وروى علي بن زياد وابن نافع: ليس في ذلك حد وإنما هو على اجتهاد الوالي. وقد تقل المساكين وتكثر الصدقة فيعطى الفقير قوت سنة. وروى المغيرة: يعطى دون النصاب ولا يبلغه. وقال بعض المتأخرين: إن كان في البلد زكاتان نقد وحرث أخذ ما يبلغه إلى الأخرى. قال ابن العربي: الذي أراه أن يعطى نصابا، وإن كان في البلد زكاتان أو أكثر، فإن الغرض إغناء الفقير حتى يصير غنيا. فإذا أخذ ذلك فإن حضرت الزكاة الأخرى وعنده ما يكفيه أخذها غيره.

قلت: هذا مذهب أصحاب الرأي في إعطاء النصاب. وقد كره ذلك أبو حنيفة مع الجواز، وأجازه أبو يوسف، قال: لأن بعضه لحاجته مشغول للحال، فكان الفاضل عن حاجته للحال دون المائتين، وإذا أعطاه أكثر من مائتي درهم جملة كان الفاضل عن حاجته للحال قدر المائتين فلا يجوز. ومن متأخري الحنفية من قال: هذا إذا لم يكن له عيال ولم يكن عليه دين، فإن كان عليه دين فلا بأس أن يعطيه مائتي درهم أو أكثر، مقدار ما لو قضى به دينه يبقى له دون المائتين. وإن كان معيلا لا بأس بأن يعطيه مقدار ما لو وزع على عيال أصاب كل واحد منهم دون المائتين، لأن التصدق عليه في المعنى تصدق عليه وعلى عياله. وهذا قول حسن.

 

اعلم أن قوله تعالى: « للفقراء » مطلق ليس فيه شرط وتقييد، بل فيه دلالة على جواز الصرف إلى جملة الفقراء كانوا من بني هاشم أو غيرهم، إلا أن السنة وردت باعتبار شروط: منها ألا يكونوا من بني هاشم وألا يكونوا ممن تلزم المتصدق نفقته. وهذا لا خلاف فيه. وشرط ثالث ألا يكون قويا على الاكتساب، لأنه عليه السلام قال: ( لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي ) . وقد تقدم القول فيه. ولا خلاف بين علماء المسلمين أن الصدقة المفروضة لا تحل للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا لبني هاشم ولا لمواليهم. وقد روي عن أبي يوسف جواز صرف صدقة الهاشمي للهاشمي، حكاه الكيا الطبري. وشذ بعض أهل العلم فقال: إن موالي بني هاشم لا يحرم عليهم شيء من الصدقات. وهذا خلاف الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قال لأبي رافع مولاه: ( وإن مولى القوم منهم )

 

واختلفوا في جواز صدقة التطوع لبني هاشم، فالذي عليه جمهور أهل العلم - وهو الصحيح - أن صدقة التطوع لا بأس بها لبني هاشم ومواليهم، لأن عليا والعباس وفاطمة رضوان الله عليهم تصدقوا وأوقفوا أوقافا على جماعة من بني هاشم، وصدقاتهم الموقوفة معروفة مشهورة. وقال ابن الماجشون ومطرف وأصبغ وابن حبيب: لا يعطى بنو هاشم من الصدقة المفروضة ولا من التطوع. وقال ابن القاسم: يعطى بنو هاشم من صدقة التطوع. قال ابن القاسم: والحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تحل الصدقة لآل محمد ) إنما ذلك في الزكاة لا في التطوع. واختار هذا القول ابن خويز منداد، وبه قال أبو يوسف ومحمد. قال ابن القاسم: ويعطى مواليهم من الصدقتين. وقال مالك في الواضحة: لا يعطى لآل محمد من التطوع. قال ابن القاسم: - قيل له يعني مالكا - فمواليهم؟ قال: لا أدري ما الموالي. فاحتججت عليه بقوله عليه السلام: ( مولى القوم منهم ) . فقال قد قال: ( ابن أخت القوم منهم ) . قال أصبغ: وذلك في البر والحرمة.

 

قوله تعالى: « فريضة من الله » بالنصب على المصدر عند سيبويه. أي فرض الله الصدقات فريضة. ويجوز الرفع على القطع في قول الكسائي، أي هن فريضة. قال الزجاج: ولا أعلم أنه قرئ به.

قلت: قرأ بها إبراهيم بن أبي عبلة، جعلها خبرا، كما تقول: إنما زيد خارج.

 

الآية: 61 ( ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم )

 

بين تعالى أن في المنافقين من كان يبسط لسانه بالوقيعة في أذية النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: إن عاتبني حلفت له بأني ما قلت هذا فيقبله، فإنه أذن سامعة. قال الجوهري: يقال رجل أذن إذا كان يسمع مقال كل أحد، يستوي فيه الواحد والجمع. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: « هو أذن » قال: مستمع وقابل. وهذه الآية نزلت في عتاب بن قشير، قال: إنما محمد أذن يقبل كل ما قيل له. وقيل: هو نبتل بن الحارث، قال ابن إسحاق. وكان نبتل رجلا جسيما ثائر شعر الرأس واللحية، آدم أحمر العينين أسفع الخدين مشوه الخلقة، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ( من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث ) . السفعة بالضم: سواد مشرب بحمرة. والرجل أسفع، عند الجوهري. وقرئ « أذن » بضم الذال وسكونها. « قل أذن خير لكم » أي هو أذن خير لا أذن شر، أي يسمع الخير ولا يسمع الشر. وقرأ « قل أذن خير لكم » بالرفع والتنوين، الحسن وعاصم في رواية أبي بكر. والباقون بالإضافة، وقرأ حمزة « ورحمة » بالخفض. والباقون بالرفع عطف على « أذن » ، والتقدير: قل هو أذن خير وهو رحمة، أي هو مستمع خير لا مستمع شر، أي هو مستمع ما يحب استماعه، وهو رحمة. ومن خفض فعلى العطف على « خير » . قال النحاس: وهذا عند أهل العربية بعيد، لأنه قد تباعد ما بين الاسمين، وهذا يقبح في المخفوض. المهدوي: ومن جر الرحمة فعلى العطف على « خير » والمعنى مستمع خير ومستمع رحمة، لأن الرحمة من الخير. ولا يصح عطف الرحمة على المؤمنين، لأن المعنى يصدق بالله ويصدق المؤمنين؛ فاللام زائدة في قول الكوفيين. ومثله « لربهم يرهبون » [ الأعراف: 154 ] أي يرهبون ربهم. وقال أبو علي: كقوله « ردف لكم » [ النمل: 72 ] وهي عند المبرد متعلقة بمصدر دل عليه الفعل، التقدير: إيمانه للمؤمنين، أي تصديقه للمؤمنين لا للكفار. أو يكون محمولا على المعنى، فإن معنى يؤمن يصدق، فعدي باللام كما عدي في قوله تعالى: « مصدقا لما بين يديه » [ المائدة: 46 ] .

 

الآية: 62 ( يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين )

 

روي أن قوما من المنافقين اجتمعوا، فيهم الجلاس بن سويد ووديعة بن ثابت، وفيهم غلام من الأنصار يدعى عامر بن قيس، فحقروه فتكلموا وقالوا: إن كان ما يقول محمد حقا لنحن شر من الحمير. فغضب الغلام وقال: والله إن ما يقول حق وأنتم شر من الحمير، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقولهم، فحلفوا أن عامرا كاذب، فقال عامر: هم الكذبة، وحلف على ذلك وقال: اللهم لا تفرق بيننا حتى يتبين صدق الصادق وكذب الكاذب. فأنزل الله هذه الآية وفيها « يحلفون بالله لكم ليرضوكم » .

 

قوله ت قلت: وقيل إن الله سبحانه جعل رضاه في رضاه، ألا ترى أنه قال: « من يطع الرسول فقد أطاع الله » [ النساء 80 ] . وكان الربيع بن خثيم إذا مر بهذه الآية وقف، ثم يقول: حرف وأيما حرف فُوض إليه فلا يأمرنا إلا بخير.

 

قال علماؤنا: تضمنت هذه الآية قبول يمين الحالف وإن لم يلزم المحلوف له الرضا. واليمين حق للمدعي. وتضمنت أن يكون اليمين بالله عز وجل حسب ما تقدم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من حلف فليحلف بالله أو ليصمت ومن حلف له فليصدق ) . وقد مضى القول في الأيمان والاستثناء فيها مستوفى في المائدة.

 

الآية: 63 ( ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم )

 

قوله تعالى: « ألم يعلموا » يعني المنافقين. وقرأ ابن هرمز والحسن « تعلموا » بالتاء على الخطاب. « أنه » في موضع نصب بـ « يعلموا » ، والهاء كناية عن الحديث. « من يحادد الله » في موضع رفع بالابتداء. والمحادة: وقوع هذا في حد وذاك في حد، كالمشاقة. يقال: حاد فلان فلانا أي صار في حد غير حده. « فأن له نار جهنم » يقال: ما بعد الفاء في الشرط مبتدأ، فكان يجب أن يكون « فإن » بكسر الهمزة. وقد أجاز الخليل وسيبويه « فإن له نار جهنم » بالكسر. قال سيبويه: وهو جيد وأنشد:

وعلمي بأسدام المياه فلم تزل قلائص تخدي في طريق طلائح

وأني إذا ملت ركابي مناخها فإني على حظي من الأمر جامح

إلا أن قراءة العامة « فأن » بفتح الهمزة. فقال الخليل أيضا وسيبويه: إن « أن » الثانية مبدلة من الأولى. وزعم المبرد أن هذا القول مردود، وأن الصحيح ما قاله الجرمي، قال: إن الثانية مكررة للتوكيد لما طال الكلام، ونظيره « وهم في الآخرة هم الأخسرون » [ النمل: 5 ] . وكذا « فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها » [ الحشر: 17 ] . وقال الأخفش: المعنى فوجوب النار له. وأنكره المبرد وقال: هذا خطأ من أجل إن « أن » المفتوحة المشددة لا يبتدأ بها ويضمر الخبر. وقال علي بن سليمان: المعنى فالواجب أن له نار جهنم، فإن الثانية خبر ابتداء محذوف. وقيل: التقدير فله أن له نار جهنم. فإن مرفوعة بالاستقرار عاف إضمار المجرور بين الفاء وأن.

 

الآية: 64 ( يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون )

 

قوله تعالى: « يحذر المنافقون » خبر وليس بأمر. ويدل على أنه خبر أن ما بعده « إن الله مخرج ما تحذرون » لأنهم كفروا عنادا. وقال السدي: قال بعض المنافقين والله وددت لو أني قدمت فجلدت مائة ولا ينزل فينا شيء يفضحنا، فنزلت الآية. « يحذر » أي يتحرز. وقال الزجاج: معناه ليحذر، فهو أمر، كما يقال: يفعل ذلك. « أن تنزل عليهم » « أن » في موضع نصب، أي من أن تنزل. ويجوز على قول سيبويه أن تكون في موضع خفض على حذف من. ويجوز أن تكون في موضع نصب مفعولة ليحذر، لأن سيبويه أجاز: حذرت زيدا، وأنشد:

حذر أمورا لا تضير وآم ما ليس منجيه من الأقدار

ولم يجزه المبرد، لأن الحذر شيء في الهيئة. ومعنى « عليهم » أي على المؤمنين « سورة » في شأن المنافقين تخبرهم بمخازيهم ومساويهم ومثالبهم، ولهذا سميت الفاضحة والمثيرة والمبعثرة، كما تقدم أول السورة. وقال الحسن: كان المسلمون يسمون هذه السورة الحفارة لأنها حفرت ما في قلوب المنافقين فأظهرته.

 

قوله تعالى: « قل استهزئوا » هذا أمر وعيد وتهديد. « إن الله مخرج » أي مظهر « ما تحذرون » ظهوره. قال ابن عباس: أنزل الله أسماء المنافقين وكانوا سبعين رجلا، ثم نسخ تلك الأسماء من القرآن رأفة منه ورحمة، لأن أولادهم كانوا مسلمين والناس يعير بعضهم بعضا. فعلى هذا قد أنجز الله وعده بإظهاره ذلك إذ قال: « إن الله مخرج ما تحذرون » . وقيل: إخراج الله أنه عرف نبيه عليه السلام أحوالهم وأسماءهم لا أنها نزلت في القرآن، ولقد قال الله تعالى: « ولتعرفنهم في لحن القول » [ محمد: 30 ] وهو نوع إلهام. وكان من المنافقين من يتردد ولا يقطع بتكذيب محمد عليه السلام ولا بصدقه. وكان فيهم من يعرف صدقه ومعاند.

 

الآية: 65 ( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون )

 

هذه الآية نزلت في غزوة تبوك. قال الطبري وغيره عن قتادة: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يسير في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا: انظروا، هذا يفتح قصور الشام ويأخذ حصون بني الأصفر! فأطلعه الله سبحانه على ما في قلوبهم وما يتحدثون به، فقال: ( احبسوا علي الركب - ثم أتاهم فقال - قلتم كذا وكذا ) فحلفوا: ما كنا إلا نخوض ونلعب، يريدون كنا غير مجدين. وذكر الطبري عن عبدالله بن عمر قال: رأيت قائل هذه المقالة وديعة بن ثابت متعلقا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يماشيها والحجارة تنكبه وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: « أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون » . وذكر النقاش أن هذا المتعلق كان عبدالله بن أبي بن سلول. وكذا ذكر القشيري عن ابن عمر. قال ابن عطية: وذلك خطأ، لأنه لم يشهد تبوك. قال القشيري: وقيل إنما قال عليه السلام هذا لوديعة بن ثابت وكان من المنافقين وكان في غزوة تبوك. والخوض: الدخول في الماء، ثم استعمل في كل دخول فيه تلويث وأذى.

 

قال القاضي أبو بكر بن العربي: لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جدا أو هزلا، وهو كيفما كان كفر، فإن الهزل بالكفر كفر لا خلاف فيه بين الأمة. فإن التحقيق أخو العلم والحق، والهزل أخو الباطل والجهل. قال علماؤنا: انظر إلى قوله: « أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين » [ البقرة: 67 ] .

 

واختلف العلماء في الهزل في سائر الأحكام كالبيع والنكاح والطلاق على ثلاثة أقوال: لا يلزم مطلقا. يلزم مطلقا. التفرقة بين البيع وغيره. فيلزم في النكاح والطلاق، وهو قول الشافعي في الطلاق قولا واحدا. ولا يلزم في البيع. قال مالك في كتاب محمد: يلزم نكاح الهازل. وقال أبو زيد عن ابن القاسم في العتبية: لا يلزم. وقال علي بن زياد: يفسخ قبل وبعد. وللشافعي في بيع الهازل قولان. وكذلك يخرج من قول علمائنا القولان. وحكى ابن المنذر الإجماع في أن جد الطلاق وهزله سواء. وقال بعض المتأخرين من أصحابنا: إن اتفقا على الهزل في النكاح والبيع لم يلزم، وإن اختلفا غلب الجد الهزل. وروى أبو داود والترمذي والدارقطني عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة ) . قال الترمذي: حديث حسن غريب، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم.

قلت: كذا في الحديث ( والرجعة ) وفي موطأ مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: ثلاث ليس فيهم لعب النكاح والطلاق والعتق. وكذا روي عن علي بن أبي طالب وعبدالله بن مسعود وأبي الدرداء، كلهم قال: ( ثلاث لا لعب فيهن ولا رجوع فيهن واللاعب فيهن جاد النكاح والطلاق والعتق ) وعن سعيد بن المسيب عن عمر قال: ( أربع جائزات على كل أحد العتق والطلاق والنكاح والنذور ) وعن الضحاك قال: ثلاث لا لعب، فيهن النكاح والطلاق والنذور.

 

الآية: 66 ( لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين )

 

قوله تعالى: « لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم » على جهة التوبيخ، كأنه يقول: لا تفعلوا ما لا ينفع، ثم حكم عليهم بالكفر وعدم الاعتذار من الذنب. واعتذر بمعنى أعذر، أي صار ذا عذر. قال لبيد:

ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

والاعتذار: محو أثر الموجدة، يقال: اعتذرت المنازل درست. والاعتذار الدروس. قال الشاعر:

أم كنت تعرف آيات فقد جعلت أطلال إلفك بالودكاء تعتذر

وقال ابن الأعرابي: أصله القطع. واعتذرت إليه قطعت ما في قلبه من الموجدة. ومنه عذرة الغلام وهو ما يقطع منه عند الختان. ومنه عذرة الجارية لأنه يقطع خاتم عذرتها.

 

قوله تعالى: « إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين » قيل: كانوا ثلاثة نفر، هزئ اثنان وضحك واحد، فالمعفو عنه هو الذي ضحك ولم يتكلم. والطائفة الجماعة، ومقال للواحد على معنى نفس طائفة. وقال ابن الأنباري: يطلق لفظ الجمع على الواحد، كقولك: خرج فلان على البغال. قال: ويجوز أن تكون الطائفة إذا أريد بها الواحد طائفا، والهاء للمبالغة. واختلف في اسم هذا الرجل الذي عفي عنه على أقوال. فقيل: مخشي بن حمير، قاله ابن إسحاق. وقال ابن هشام: ويقال فيه ابن مخشي. وقال خليفة بن خياط في تاريخه: اسمه مخاشن بن حمير. وذكر ابن عبدالبر مخاشن الحميري وذكر السهيلي مخشن بن خمير. وذكر جميعهم أنه استشهد باليمامة، وكان تاب وسمي عبدالرحمن، فدعا الله أن يقتل شهيدا ولا يعلم بقبره. واختلف هل كان منافقا أو مسلما. فقيل: كان منافقا ثم تاب توبة نصوحا. وقيل: كان مسلما، إلا أنه سمع المنافقين فضحك لهم ولم ينكر عليهم.

 

الآية: 67 ( المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون )

 

قوله تعالى: « المنافقون والمنافقات » ابتداء. « بعضهم » ابتداء ثان. ويجوز أن يكون بدلا، ويكون الخبر « من بعض » . ومعنى « بعضهم من بعض » أي هم كالشيء الواحد في الخروج عن الدين. وقال الزجاج، هذا متصل بقوله: « يحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم » [ التوبة: 56 ] أي ليسوا من المؤمنين، ولكن بعضهم من بعض، أي متشابهون في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف. وقبض أيديهم عبارة عن ترك الجهاد، وفيما يجب عليهم من حق. والنسيان: الترك هنا، أي تركوا ما أمرهم الله به فتركهم في الشك. وقيل: إنهم تركوا أمره حتى صار كالمنسي قصيرهم بمنزلة المنسي من ثوابه. وقال قتادة: « نسيهم » أي من الخير، فأما من الشر فلم ينسهم. والفسق: الخروج عن الطاعة والدين. وقد تقدم.

 

الآية: 68 ( وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم )

 

قوله تعالى: « وعد الله المنافقين » يقال: وعد الله بالخير وعدا. ووعد بالشر وعيدا « خالدين » نصب على الحال والعامل محذوف، أي يصلونها خالدين. « هي حسبهم » ابتداء وخبر، أي هي كفاية ووفاء لجزاء أعمالهم. واللعن: البعد، أي من رحمة الله، وقد تقدم. « ولهم عذاب مقيم » أي واصب دائم.

 

الآية: 69 ( كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون )

 

قوله تعالى: « كالذين من قبلكم » قال الزجاج: الكاف في موضع نصب، أي وعد الله الكفار نار جهنم وعدا كما وعد الذين من قبلهم. وقيل: المعنى فعلتم كأفعال الذين من قبلكم في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، فحذف المضاف. وقيل: أي أنتم كالذين من قبلكم، فالكاف في محل رفع لأنه خبر ابتداء محذوف. ولم ينصرف « أشد » لأنه أفعل صفة. والأصل فيه أشدد، أي كانوا أشد منكم قوة فلم يتهيأ لهم ولا أمكنهم رفع عذاب الله عز وجل.

 

روى سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( تأخذون كما أخذت الأمم قبلكم ذراعا بذراع وشبرا بشبر وباعا بباع حتى لو أن أحدا من أولئك دخل جحر ضب لدخلتموه ) . قال أبو هريرة: وإن شئتم فاقرؤوا القرآن: « كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم » قال أبو هريرة: والخلاق، الدين « فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم » حتى فرغ من الآية. قالوا: يا نبي الله، فما صنعت اليهود والنصارى؟ قال: ( وما الناس إلا هم ) . وفي الصحيح عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ( لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: ( فمن ) ؟ وقال ابن عباس: ما أشبه الليلة بالبارحة، هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم. ونحوه عن ابن مسعود.

 

قوله تعالى: « فاستمتعوا بخلاقهم » أي انتفعوا بنصيبهم من الدين كما فعل الذين من قبلهم. « وخضتم » خروج من الغيبة إلى الخطاب. « كالذي خاضوا » أي كخوضهم. فالكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف، أي وخضتم خوضا كالذين خاضوا. و « الذي » اسم ناقص مثل من، يعبر به عن الواحد والجمع. وقد مضى في « البقرة » ويقال: خضت الماء أخوضه خوضا وخياضا. والموضع مخاضة، وهو ما جاز الناس فيها مشاة وركبانا. وجمعها المخاض والمخاوض أيضا، عن أبي زيد. وأخضت دابتي في الماء. وأخاض القوم، أي خاضت خيلهم. وخضت الغمرات: اقتحمتها. ويقال: خاضه بالسيف، أي حرك سيفه في المضروب. وخوض في نجيعه شدد للمبالغة. والمخوض للشراب كالمجدع للسويق، يقال منه: خضت، الشراب. وخاض القوم في الحديث وتخاوضوا أي تفاوضوا فيه، فالمعنى: خضتم في أسباب الدنيا باللهو واللعب. وقيل: في أمر محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب. « أولئك حبطت » بطلت. وقد تقدم. « أعمالهم » حسناتهم. « وأولئك هم الخاسرون » وقد تقدم أيضا.

 

الآية: 70 ( ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون )

 

قوله تعالى: « ألم يأتهم نبأ » أي خبر « الذين من قبلهم » الألف لمعنى التقرير والتحذير، أي ألم يسمعوا إهلاكنا الكفار من قبل. « قوم نوح وعاد وثمود » بدل من الذين. « وقوم إبراهيم » أي نمرود بن كنعان وقومه. « وأصحاب مدين » مدين اسم للبلد الذي كان فيه شعيب، أهلكوا بعذاب يوم الظلة. « والمؤتفكات » قيل: يراد به قوم لوط، لأن أرضهم ائتفكت بهم، أي انقلبت، قاله قتادة. وقيل: المؤتفكات كل من أهلك، كما يقال: انقلبت عليهم الدنيا. « أتتهم رسلهم بالبينات » يعني جميع الأنبياء. وقيل: أتت أصحاب المؤتفكات رسلهم، فعلى هذا رسولهم لوط وحده، ولكنه بعث في كل قرية رسولا، وكانت ثلاث قريات، وقيل أربع. وقوله تعالى في موضع آخر: « والمؤتفكة » [ النجم: 53 ] على طريق الجنس. وقيل: أراد بالرسل الواحد، كقوله « يا أيها الرسل كلوا من الطيبات » [ المؤمنون: 51 ] ولم يكن في عصره غيره.

قلت: وهذا فيه نظر، للحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله خاطب المؤمنين بما أمر به المرسلين ) الحديث. وقد تقدم في « البقرة » . والمراد جميع الرسل، والله أعلم.

قوله تعالى: « فما كان الله ليظلمهم » أي ليهلكهم حتى يبعث إليهم الأنبياء. « ولكن كانوا أنفسهم يظلمون » ولكن ظلموا أنفسهم بعد قيام الحجة عليهم.

 

الآية: 71 ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم )

 

قوله تعالى: « بعضهم أولياء بعض » أي قلوبهم متحدة في التواد والتحاب والتعاطف. وقال في المنافقين « بعضهم من بعض » لأن قلوبهم مختلفة ولكن يقسم بعضهم إلى بعض في الحكم.

 

قوله تعالى: « يأمرون بالمعروف » أي بعبادة الله تعالى وتوحيده، وكل ما أتبع ذلك. « وينهون عن المنكر » عن عبادة الأوثان وكل ما أتبع ذلك. وذكر الطبري عن أبي العالية أنه قال: كل ما ذكر الله في القرآن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو النهي عن عبادة الأوثان والشياطين. وقد مضى القول في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في سورة « المائدة » و « آل عمران » والحمد لله.

 

قوله تعالى: « ويقيمون الصلاة » تقدم في أول « البقرة » القول فيه. وقال ابن عباس: هي الصلوات الخمس، وبحسب هذا تكون الزكاة هنا المفروضة. ابن عطية: والمدح عندي بالنوافل أبلغ؛ إذ من يقيم النوافل أحرى بإقامة الفرائض.

 

قوله تعالى: « ويطيعون الله » في الفرائض « ورسوله » فيما سن لهم. والسين في قوله: « سيرحمهم الله » مدخلة في الوعد مهلة لتكون النفوس تتنعم برجائه؛ وفضله تعالى زعيم بالإنجاز.

 

الآية: 72 ( وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم )

 

قوله تعالى: « وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات » أي بساتين « تجري من تحتها الأنهار » أي من تحت أشجارها وغرفها الأنهار. وقد تقدم في « البقرة » أنها تجري منضبطة بالقدرة في غير أخدود. « خالدين فيها ومساكن طيبة » قصور من الزبرجد والدر والياقوت يفوح طيبها من مسيرة خمسمائة عام. « في جنات عدن » أي في دار إقامة. يقال: عدن بالمكان إذا أقام به؛ ومنه المعدن. وقال عطاء الخراساني: « جنات عدن » هي قصبة الجنة، وسقفها عرش الرحمن جل وعز. وقال ابن مسعود: هي بطنان الجنة، أي وسطها. وقال الحسن: هي قصر من ذهب لا يدخلها إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل؛ ونحوه عن الضحاك. وقال مقاتل والكلبي: عدن أعلى درجة في الجنة، وفيها عين التسنيم، والجنان حولها محفوفة بها، وهي مغطاة من يوم خلقها الله حتى ينزلها الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون ومن يشاء الله. « ورضوان من الله أكبر » أي أكبر من ذلك. « ذلك هو الفوز العظيم » .

 

الآية: 73 ( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير )

 

قوله تعالى: « يا أيها النبي جاهد الكفار » الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وتدخل فيه أمته من بعده. قيل: المراد جاهد بالمؤمنين الكفار. وقال ابن عباس: أمر بالجهاد مع الكفار بالسيف، ومع المنافقين باللسان وشدة الزجر والتغليظ. وروي عن ابن مسعود أنه قال: جاهد المنافقين بيدك، فإن لم تستطع فبلسانك، فإن لم تستطع فاكفهر في وجوههم. وقال الحسن: جاهد المنافقين بإقامة الحدود عليهم وباللسان - واختار قتادة - وكانوا أكثر من يصيب الحدود. ابن العربي: أما إقامة الحجة باللسان فكانت دائمة وأما بالحدود لأن أكثر إصابة الحدود كانت عندهم فدعوى لا برهان عليها وليس العاصي بمنافق إنما المنافق بما يكون في قلبه من النفاق كامنا لا بما تتلبس به الجوارح ظاهرا وأخبار المحدودين يشهد سياقها أنهم لم يكونوا منافقين.

 

قوله تعالى: « واغلظ عليهم » الغلظ: نقيض الرأفة، وهي شدة القلب على إحلال الأمر بصاحبه. وليس ذلك في اللسان؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ) . ومنه قوله تعالى: » ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك « [ آل عمران: 159 ] . ومنه قول النسوة لعمر: أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنى الغلظ خشونة الجانب. فهي ضد قوله تعالى: » واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين « [ الشعراء: 215 ] . » واخفض لهما جناح الذل من الرحمة « [ الإسراء: 24 ] . وهذه الآية نسخت كل شيء من العفو والصلح والصفح.»

 

الآية: 74 ( يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير )

 

قوله تعالى: « يحلفون بالله ما قالوا » روي أن هذه الآية نزلت في الجُلاس بن سويد بن الصامت، ووديعة بن ثابت؛ وقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: والله لئن كان محمد صادقا على إخواننا الذين هم ساداتنا وخيارنا لنحن شر من الحمير. فقال له عامر بن قيس: أجل والله إن محمدا لصادق مصدق؛ وإنك لشر من حمار. وأخبر عامر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. وجاء الجلاس فحلف بالله عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم إن عامرا لكاذب. وحلف عامر لقد قال، وقال: اللهم أنزل على نبيك الصادق شيئا، فنزلت. وقيل: إن الذي سمعه عاصم بن عدي. وقيل حذيفة. وقيل: بل سمعه ولد امرأته واسمه عمير بن سعد؛ فيما قال ابن إسحاق. وقال غيره: اسمه مصعب. فهم الجلاس بقتله لئلا يخبر بخبره؛ ففيه نزل: « وهموا بما لم ينالوا » . قال مجاهد: وكان الجلاس لما قال له صاحبه إني سأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولك هم بقتله، ثم لم يفعل، عجز عن ذلك. قال، ذلك هي الإشارة بقوله، « وهموا بما لم ينالوا » . وقيل: إنها نزلت في عبدالله بن أبي، رأى رجلا من غفار يتقاتل مع رجل من جهينة، وكانت جهينة حلفاء الأنصار، فعلا الغفاري الجهني. فقال ابن أبي: يا بني الأوس والخزرج، انصروا أخاكم فوالله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فجاءه عبدالله بن أبي فحلف أنه لم يقله؛ قال قتادة. وقول ثالث أنه قول جميع المنافقين؛ قال الحسن. ابن العربي: وهو الصحيح؛ لعموم القول ووجود المعنى فيه وفيهم، وجملة ذلك اعتقادهم فيه أنه ليس بنبي.

 

قوله تعالى: « ولقد قالوا كلمة الكفر » قال النقاش: تكذيبهم بما وعد الله من الفتح. وقيل: « كلمة الكفر » قول الجلاس: إن كان ما جاء به محمد حقا لنحن أشر من الحمير. وقول عبدالله بن أبي: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال القشيري: كلمة الكفر سب النبي صلى الله عليه وسلم والطعن في الإسلام. « وكفروا بعد إسلامهم » أي بعد الحكم بإسلامهم. فدل هذا على أن المنافقين كفار، وفي قوله تعالى: « ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا » [ المنافقون: 3 ] دليل قاطع. ودلت الآية أيضا على أن الكفر يكون بكل ما يناقض التصديق والمعرفة؛ وإن كان الإيمان لا يكون إلا بلا إله إلا الله دون غيره من الأقوال والأفعال إلا في الصلاة. قال إسحاق بن راهويه: ولقد أجمعوا في الصلاة على شيء لم يجمعوا عليه في سائر الشرائع؛ لأنهم بأجمعهم قالوا: من عُرف بالكفر ثم رأوه يصلي الصلاة في وقتها حتى صلى صلوات كثيرة. ولم يعلموا منه إقرارا باللسان أنه يحكم له بالإيمان، ولم يحكموا له في الصوم والزكاة بمثل دلك.

 

قوله تعالى: « وهموا بما لم ينالوا » يعني المنافقين من قتل النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة في غزوة تبوك، وكانوا اثني عشر رجلا. قال حذيفة: سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عدهم ولهم. فقلت: ألا تبعث إليهم فتقتلهم؟ فقال: ( أكره أن تقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم بل يكفيهم الله بالدبيلة ) . قيل: يا رسول الله وما الدبيلة؟ قال: ( شهاب من جهنم يجعله على نياط فؤاد أحدهم حتى تزهق نفسه ) . فكان كذلك. خرجه مسلم بمعناه. وقيل هموا بعقد التاج على رأس ابن أبي ليجتمعوا عليه. وقد تقدم قول مجاهد في هذا.

 

قوله تعالى: « وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله » أي ليس ينقمون شيئا؛ كما قال النابغة:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب

ويقال: نقَم ينقِم، ونقِم ينقَم؛ قال الشاعر في الكسر:

ما نقِموا من بني أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا

وقال زهير:

يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ليوم الحساب أو يعجل فينقَم

ينشد بكسر القاف وفتحها. قال الشعبي: كانوا يطلبون دية فيقضي لهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستغنوا. ذكر عكرمة أنها كانت اثني عشر ألفا. ويقال: إن القتيل كان مولى الجلاس. وقال الكلبي: كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم في ضنك من العيش، لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة، فلما قدم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم استغنوا بالغنائم. وهذا المثل مشهور: اتق شر من أحسنت إليه. قال القشيري أبو نصر: قيل للبجلي أتجد في كتاب الله تعالى اتق شر من أحسنت إليه؟ قال نعم، « وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله » .

 

قوله تعالى: « فإن يتوبوا يكن خيرا لهم » روي أن الجلاس قام حين نزلت الآية فاستغفر وتاب. فدل هذا على توبة الكافر الذي يسر الكفر ويظهر الإيمان؛ وهو الذي يسميه الفقهاء الزنديق. وقد اختلف في ذلك العلماء؛ فقال الشافعي: تقبل توبته. وقال مالك: توبة الزنديق لا تعرف؛ لأنه كان يظهر الإيمان ويسر الكفر، ولا يعلم إيمانه إلا بقوله. وكذلك يفعل الآن في كل حين، يقول: أنا مؤمن وهو يضمر خلاف ما يظهر؛ فإذا عثر عليه وقال: تبت، لم يتغير حاله عما كان عليه. فإذا جاءنا تائبا من قبل نفسه قبل أن يعثر عليه قبلت توبته؛ وهو المراد بالآية. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « وإن يتولوا » أي يعرضوا عن الإيمان والتوبة « يعذبهم الله عذابا أليما » في الدنيا بالقتل، وفي الآخرة بالنار. « وما لهم في الأرض من ولي » أي مانع يمنعهم « ولا نصير » أي معين. وقد تقدم.

 

الآيتان: 75 - 76 ( ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين، فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون )

 

قوله تعالى: « ومنهم من عاهد الله » قال قتادة: هذا رجل من الأنصار قال: لئن رزقني الله شيئا لأؤدين فيه حقه ولأتصدقن؛ فلما آتاه الله ذلك فعل ما نُص عليكم، فاحذروا الكذب فإنه يؤدي إلى الفجور. وروى علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة الباهلي أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري ( فسماه ) قال للنبي صلى الله عليه وسلم ادع الله أن يرزقني مالا. فقال عليه السلام ( ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ) ثم عاود ثانيا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أما ترضى أن تكون مثل نبي الله لو شئت أن تسير معي الجبال ذهبا لسارت ) فقال: والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه. فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم؛ فاتخذ غنما فنمت كما تنمي الدود، فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ونزل واديا من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة، وترك ما سواهما. ثم نمت وكثرت حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، وهي تنمي حتى ترك الجمعة أيضا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا ويح ثعلبة ) ثلاثا. ثم نزل « خذ من أموالهم صدقة » [ التوبة: 103 ] . فبعث صلى الله عليه وسلم رجلين على الصدقة، وقال لهما: ( مرا بثعلبة وبفلان - رجل من بني سليم - فخذا صدقاتهما ) فأتيا ثعلبة وأقرأه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذه إلا أخت الجزية انطلقا حتى تفرغا ثم تعودا. الحديث، وهو مشهور. وقيل: سبب غناء ثعلبة أنه ورث ابن عم له. قاله ابن عبدالبر: قيل إن ثعلبة بن حاطب هو الذي نزل فيه « ومنهم من عاهد الله... » الآية؛ إذ منع الزكاة، فالله أعلم. وما جاء فيمن شاهد بدرا يعارضه قوله تعالى في الآية: « فأعقبهم نفاقا في قلوبهم » الآية.

قلت: وذكر عن ابن عباس في سبب نزول الآية أن حاطب بن أبي بلتعة أبطأ عنه ماله بالشام فحلف في مجلس من مجالس الأنصار: إن سلم ذلك لأتصدقن منه ولأصلن منه. فلما سلم بخل بذلك فنزلت.

قلت: وثعلبة بدري أنصاري وممن شهد الله له ورسوله بالإيمان؛ حسب ما يأتي بيانه في أول الممتحنة فما روي عنه غير صحيح. قال أبو عمر: ولعل قول من قال في ثعلبة أنه مانع الزكاة الذي نزلت فيه الآية غير صحيح، والله أعلم. وقال الضحاك: إن الآية نزلت في رجال من المنافقين نبتل بن الحارث وجد بن قيس ومعتب بن قشير.

قلت: وهذا أشبه بنزول الآية فيهم؛ إلا أن قوله « فأعقبهم نفاقا » يدل على أن الذي عاهد الله لم يكن منافقا من قبل، إلا أن يكون المعنى: زادهم نفاقا ثبتوا عليه إلى الممات، وهو قوله تعالى: « إلى يوم يلقونه » على ما يأتي.

 

قال علماؤنا: لما قال الله تعالى: « ومنهم من عاهد الله » احتمل أن يكون عاهد الله بلسانه ولم يعتقده بقلبه. واحتمل أن يكون عاهد الله بهما ثم أدركته سوء الخاتمة؛ فإن الأعمال بخواتيمها والأيام بعواقبها. و « من » رفع بالابتداء والخبر في المجرور. ولفظ اليمين ورد في الحديث وليس في ظاهر القرآن يمين إلا بمجرد الارتباط والالتزام، أما إنه في صيغة القسم في المعنى فإن اللام تدل عليه، وقد أتى بلامين الأولى للقسم والثانية لام الجواب، وكلاهما للتأكيد. ومنهم من قال: إنهما لا ما القسم؛ والأول أظهر، والله أعلم.

 

العهد والطلاق وكل حكم ينفرد به المرء ولا يفتقر إلى غيره فيه فإنه يلزمه منه ما يلتزمه بقصده وإن لم يلفظ به؛ قاله علماؤنا. وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يلزم أحدا حكم إلا بعد أن يلفظ به وهو القول الآخر لعلمائنا. ابن العربي: والدليل على صحة ما ذهبنا إليه ما رواه أشهب عن مالك، وقد سئل: إذا نوى الرجل الطلاق بقلبه ولم يلفظ به بلسانه فقال: يلزمه؛ كما يكون مؤمنا بقلبه، وكافرا بقلبه. قال ابن العربي: وهذا أصل بديع، وتحريره أن يقال: عقد لا يفتقر فيه المرء إلى غيره في التزامه فانعقد عليه بنية. أصله الإيمان والكفر.

قلت: وحجة القول الثاني ما رواه مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به ) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم إذا حدث نفسه بالطلاق لم يكن شيئا حتى يتكلم به. قال أبو عمر: ومن اعتقد بقلبه الطلاق ولم ينطق به لسانه فليس بشيء. هذا هو الأشهر عن مالك. وقد روي عنه أنه يلزمه الطلاق إذا نواه بقلبه؛ كما يكفر بقلبه وإن لم ينطق به لسانه. والأول أصح في النظر وطريق الأثر؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( تجاوز الله لأمتي عما وسوست به نفوسها ما لم ينطق به لسان أو تعلمه يد ) .

 

إن كان نذرا فالوفاء بالنذر واجب من غير خلاف وتركه معصية. وإن كانت يمينا فليس الوفاء باليمين واجبا باتفاق. بيد أن المعنى فيه إن كان الرجل فقيرا لا يتعين عليه فرض الزكاة؛ فسأل الله مالا تلزمه فيه الزكاة ويؤدي ما تعين عليه من فرضه، فلما آتاه الله ما شاء من ذلك ترك ما التزم مما كان يلزمه في أصل الدين لو لم يلتزمه، لكن التعاطي بطلب المال لأداء الحقوق هو الذي أورطه إذ كان طلبه من الله تعالى بغير نية خالصة، أو نية لكن سبقت فيه البداية المكتوب عليه فيها الشقاوة. نعوذ بالله من ذلك.

قلت: ومن هذا المعنى قوله عليه السلام: ( إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى فإنه لا يدري ما كتب له في غيب الله عز وجل من أمنيته ) أي من عاقبتها، فرب أمنية يفتتن بها أو يطغي فتكون سببا للهلاك دنيا وأخرى، لأن أمور الدنيا مبهمة عواقبها خطرة غائلتها. وأما تمني أمور الدين والأخرى فتمنيها محمود العاقبة محضوض عليها مندوب إليها.

 

قوله تعالى: « لئن آتانا من فضله لنصدقن » دليل على أن من قال: إن ملكت كذا وكذا فهو صدقة فإنه يلزمه؛ وبه قال أبو حنيفة: وقال الشافعي: لا يلزمه. والخلاف في الطلاق مثله، وكذلك في العتق. وقال أحمد بن حنبل: يلزمه ذلك في العتق ولا يلزمه في الطلاق؛ لأن العتق قربة وهي تثبت في الذمة بالنذر؛ بخلاف الطلاق فإنه تصرف في محل، وهو لا يثبت في الذمة. احتج الشافعي بما رواه أبو داود والترمذي وغيرهما عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ولا طلاق له فيما لا يملك ) لفظ الترمذي. وقال: وفي الباب عن علي ومعاذ وجابر وابن عباس وعائشة حديث عبدالله بن عمرو حديث حسن، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب. وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم. ابن العربي: وسرد أصحاب الشافعي في هذا الباب أحاديث كثيرة لم يصح منها شيء فلا يعول عليها، ولم يبق إلا ظاهر الآية.

 

قوله تعالى: « فلما آتاهم من فضله » أي أعطاهم. « بخلوا به » أي بإعطاء الصدقة وبإنفاق المال في الخير، وبالوفاء بما ضمنوا والتزموا. وقد مضى البخل في « آل عمران » . « وتولوا » أي عن طاعة الله. « وهم معرضون » أي عن الإسلام، أي مظهرون للإعراض عنه.

 

الآيتان: 77 - 78 ( فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون، ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب )

 

قوله تعالى: « فأعقبهم نفاقا » مفعولان أي أعقبهم الله تعالى نفاقا في قلوبهم. وقيل: أي أعقبهم البخل نفاقا؛ ولهذا قال: « بخلوا به » . « إلى يوم يلقونه » في موضع خفض؛ أي يلقون بخلهم، أي جزاء بخلهم؛ كما يقال: أنت تلقي غدا عملك. وقيل: « إلى يوم يلقونه » أي يلقون الله. وفي هذا دليل على أنه مات منافقا. وهو يبعد أن يكون المنزل فيه ثعلبة أو حاطب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر: ( وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) وثعلبة وحاطب ممن حضر بدرا وشهدها. « بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون » كذبهم نقضهم العهد وتركهم الوفاء بما التزموه من ذلك.

 

قوله تعالى: « نفاقا » النفاق إذا كان في القلب فهو الكفر. فأما إذا كان في الأعمال فهو معصية. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها. إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر ) خرجه البخاري. وقد مضى في « البقرة » اشتقاق هذه الكلمة، فلا معنى لإعادتها. واختلف الناس في تأويل هذا الحديث؛ فقالت طائفة: إنما ذلك لمن يحدث بحديث يعلم أنه كذب، ويعهد عهدا لا يعتقد الوفاء به، وينتظر الأمانة للخيانة فيها. وتعلقوا بحديث ضعيف الإسناد، وأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لقي أبا بكر وعمر رضي الله عنهما خارجين من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما ثقيلان فقال علي: مالي أراكما ثقيلين؟ قالا حديثا سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال المنافقين ( إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا اؤتمن خان وإذا وعد أخلف ) فقال علي: أفلا سألتماه؟ فقالا: هبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لكني سأسأله؛ فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، خرج أبو بكر وعمر وهما ثقيلان، ثم ذكر ما قالاه، فقال: ( قد حدثتهما ولم أضعه على الوضع الذي وضعاه ولكن المنافق إذا حدث وهو يحدث نفسه أنه يكذب وإذا وعد وهو يحدث نفسه أنه يخلف وإذا اؤتمن وهو يحدث نفسه أنه يخون ) ابن العربي: قد قام الدليل الواضح على أن متعمد هذه الخصال لا يكون كافرا، وإنما يكون كافرا باعتقاد يعود إلى الجهل بالله وصفاته أو تكذيب له تعالى الله وتقدس عن اعتقاد الجاهلين وعن زيغ الزائغين. وقالت طائفة: ذلك مخصوص بالمنافقين زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتعلقوا بما رواه مقاتل بن حيان عن سعيد بن جبير عن ابن عمر وابن عباس قالا: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه فقلنا: يا رسول الله، إنك قلت ( ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلي وزعم أنه مؤمن إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان ومن كانت فيه خصلة منهن ففيه ثلث النفاق ) فظننا أنا لم نسلم منهن أو من بعضهن ولم يسلم منهن كثير من الناس؛ قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ( مالكم ولهن إنما خصصت بهن المنافقين كما خصهم الله في كتابه أما قولي إذا حدث كذب فذلك قوله عز وجل « إذا جاءك المنافقون... » [ المنافقون: 1 ] - الآية - ( أفأنتم كذلك ) ؟ قلنا: لا. قال: ( لا عليكم أنتم من ذلك براء وأما قولي إذا وعد أخلف فذلك فيما أنزل الله علي « ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله » - الآيات الثلاث - ( أفأنتم كذلك ) ؟ قلنا لا، والله لو عاهدنا الله على شيء أوفينا به. قال: ( لا عليكم أنتم من ذلك براء وأما قولي وإذا اؤتمن خان فذلك فيما أنزل الله علي « إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال... » [ الأحزاب: 72 ] - الآية - ( فكل إنسان مؤتمن على دينه فالمؤمن يغتسل من الجنابة في السر والعلانية والمنافق لا يفعل ذلك إلا في العلانية أفأنتم كذلك ) ؟ قلنا لا قال: ( لا عليكم أنتم من ذلك براء ) . وإلى هذا صار كثير من التابعين والأئمة. قالت طائفة: هذا فيمن كان الغالب عليه هذه الخصال. ويظهر من مذهب البخاري وغيره من أهل العلم أن هذه الخلال الذميمة منافق من اتصف بها إلى يوم القيامة. قال ابن العربي: والذي عندي أنه لو غلبت عليه المعاصي ما كان بها كافرا ما لم يؤثر في الاعتقاد.

قال علماؤنا: إن إخوة يوسف عليه السلام عاهدوا أباهم فأخلفوه، وحدثوه فكذبوه، وائتمنهم على يوسف فخانوه وما كانوا منافقين. قال عطاء بن أبي رباح: قد فعل هذه الخلال إخوة يوسف ولم يكونوا منافقين بل كانوا أنبياء. وقال الحسن بن أبي الحسن البصري: النفاق نفاقان، نفاق الكذب ونفاق العمل؛ فأما نفاق الكذب فكان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما نفاق العمل فلا ينقطع إلى يوم القيامة. وروى البخاري عن حذيفة أن النفاق كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان.

قوله تعالى: « ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم » هذا توبيخ، وإذا كان عالما فإنه سيجازيهم.

 

الآية: 79 ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم )

 

قوله تعالى: « الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات » هذا أيضا من صفات المنافقين. قال قتادة: « يلمزون » يعيبون. قال: وذلك أن عبدالرحمن بن عوف تصدق بنصف ماله، وكان ماله ثمانية آلاف فتصدق منها بأربعة آلاف. فقال قوم: ما أعظم رياءه؛ فأنزل الله: « الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات » . وجاء رجل من الأنصار بنصف صبرة من تمره فقالوا: ما أغنى الله عن هذا؛ فأنزل الله عز وجل « والذين لا يجدون إلا جهدهم » الآية. وخرج مسلم عن أبي مسعود قال: أمرنا بالصدقة - قال: كنا نحامل، في رواية: على ظهورنا - قال: فتصدق أبو عقيل بنصف صاع. قال: وجاء إنسان بشيء أكثر منه فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رياء: فنزلت « الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم » . يعني أبا عقيل، واسمه الحبحاب. والجهد: شيء قليل يعيش به المقل. والجُهد والجَهد بمعنى واحد. وقد تقدم. و « يلمزون » يعيبون. وقد تقدم. و « المطوعين » أصله المتطوعين أدغمت التاء في الطاء؛ وهم الذين يفعلون الشيء تبرعا من غير أن يجب عليهم. « والذين » في موضع خفض عطف على « المؤمنين » . ولا يجوز أن يكون عطفا على الاسم قبل تمامه. « فيسخرون » عطف على « يلمزون » . « سخر الله منهم » خبر الابتداء، وهو دعاء عليهم. وقال ابن عباس: هو خبر؛ أي سخر منهم حيث صاروا إلى النار. ومعنى سخر الله مجازاتهم على سخريتهم. وقد تقدم في « البقرة » .

 

الآية: 80 ( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين )

 

قوله تعالى: « استغفر لهم » يأتي بيانه عند قوله تعالى: « ولاتصل على أحد منهم مات أبدا » [ التوبة: 84 ] .

 

الآية: 81 ( فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون )

 

قوله تعالى: « فرح المخلفون بمقعدهم » أي بقعودهم. قعد قعودا ومقعدا؛ أي جلس. وأقعده غيره؛ عن الجوهري. والمخلف المتروك؛ أي خلفهم الله وثبطهم، أو خلفهم رسول الله والمؤمنون لما علموا تثاقلهم عن الجهاد؛ قولان، وكان هذا في غزوة تبوك. « خلاف رسول الله » مفعول من أجله، وإن شئت كان مصدرا. والخلاف المخالفة. ومن قرأ « خلف رسول الله » أراد التأخر عن الجهاد. « وقالوا لا تنفروا في الحر » أي قال بعضهم لبعض ذلك. « قل نار جهنم » قل لهم يا محمد نار جهنم. « أشد حرا لو كانوا يفقهون » ابتداء وخبر. « حرا » نصب على البيان؛ أي من ترك أمر الله تعرض لتلك النار.

 

الآية: 82 ( فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون )

 

قوله تعالى: « فليضحكوا قليلا » أمر، معناه معنى التهديد وليس أمرا والأصل أن تكون اللام مكسورة فحذفت الكسرة لثقلها. قال الحسن: « فليضحكوا قليلا » في الدنيا « وليبكوا كثيرا » في جهنم. وقيل: هو أمر بمعنى الخبر. أي إنهم سيضحكون قليلا ويبكون كثيرا. « جزاء » مفعول من أجله؛ أي للجزاء.

 

من الناس من كان لا يضحك اهتماما بنفسه وفساد حاله في اعتقاده من شدة الخوف، وإن كان عبدا صالحا. قال صلى الله عليه وسلم: ( والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى لوددت أني كنت شجرة تعضد ) خرجه الترمذي. وكان الحسن البصري رضي الله عنه ممن قد غلب عليه الحزن فكان لا يضحك. وكان ابن سيرين يضحك ويحتج على الحسن ويقول: الله أضحك وأبكى. وكان الصحابة يضحكون؛ إلا أن الإكثار منه وملازمته حتى يغلب على صاحبه مذموم منهي عنه، وهو من فعل السفهاء والبطالة. وفي الخبر: ( أن كثرته تميت القلب ) وأما البكاء من خوف الله وعذابه وشدة عقابه فمحمود؛ قال عليه السلام: ( ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فإن أهل النار يبكون حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون فلو أن سفنا أجريت فيها لجرت ) خرجه ابن المبارك من حديث أنس وابن ماجة أيضا.

 

الآية: 83 ( فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين )

 

قوله تعالى: « فإن رجعك الله إلى طائفة منهم » أي المنافقين. وإنما قال: « إلى طائفة » لأن جميع من أقام بالمدينة ما كانوا منافقين، بل كان فيهم معذورون ومن لا عذر له، ثم عفا وتاب عليهم؛ كالثلاثة الذين خلفوا. وسيأتي. « فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا » أي عاقبهم بألا تصحبهم أبدا. وهو كما قال في « سورة الفتح » : « قل لن تتبعونا » [ الفتح: 15 ] . و « الخالفين » جمع خالف؛ كأنهم خلقوا الخارجين. قال ابن عباس: « الخالفين » من تخلف من المنافقين. وقال الحسن: مع النساء والضعفاء من الرجال، فغلب المذكر. وقيل: المعنى فأقعدوا مع الفاسدين؛ من قولهم فلان خالفة أهل بيته إذا كان فاسدا فيهم؛ من خلوف فم الصائم. ومن قولك: خلف اللبن؛ أي فسد بطول المكث في السقاء؛ فعلى هذا يعني فاقعدوا مع الفاسدين. وهذا يدل على أن استصحاب المخذل في الغزوات لا يجوز.

 

الآية: 84 ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون )

 

روي أن هذه الآية نزلت في شأن عبدالله بن أبي سلول وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم عليه. ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما. وتظاهرت الروايات بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه، وأن الآية نزلت بعد ذلك. وروي عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تقدم ليصلي عليه جاءه جبريل فجبذ ثوبه وتلا عليه « ولا تصل على أحد منهم مات أبدا » الآية؛ فأنصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصل عليه. والروايات الثابتة على خلاف هذا، ففي البخاري عن ابن عباس قال: فصلي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف؛ فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من [ براءة ] « ولا تصل على أحد منهم مات أبدا » ونحوه عن ابن عمر؛ خرجه مسلم. قال ابن عمر: لما توفي عبدالله بن أبي بن سلول جاء ابنه عبدالله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر وأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنما خيرني الله تعالى فقال: « استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة » [ التوبة: 80 ] وسأزيد على سبعين ) قال: إنه منافق. فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل « ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره » فترك الصلاة عليهم. وقال بعض العلماء: إنما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على عبدالله بن أبي بناء على الظاهر من لفظ إسلامه. ثم لم يكن يفعل ذلك لما نهي عنه.

 

إن قال قائل فكيف قال عمر: أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؛ ولم يكن تقدم نهي عن الصلاة عليهم. قيل له: يحتمل أن يكون ذلك وقع له في خاطره، ويكون من قبيل الإلهام والتحدث الذي شهد له به النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان القرآن ينزل على مراده، كما قال: وافقت ربي في ثلاث. وجاء: في أربع. وقد تقدم في البقرة. فيكون هذا من ذلك. ويحتمل أن يكون فهم ذلك من قوله تعالى: « استغفر لهم أو لا تستغفر لهم » [ التوبة: 80 ] الآية. لا أنه كان تقدم نهي على ما دل عليه حديث البخاري ومسلم. والله أعلم.

قلت: ويحتمل أن يكون فهمه من قوله تعالى: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين » [ التوبة: 113 ] لأنها نزلت بمكة. وسيأتي القول فيها.

 

قوله تعالى: « استغفر لهم » الآية. بين تعالى أنه وإن استغفر لهم لم ينفعهم ذلك وإن أكثر من الاستغفار. قال القشيري: ولم يثبت ما يروي أنه قال: ( لأزيدن على السبعين ) .

قلت: وهذا خلاف ما يثبت في حديث ابن عمر ( وسأزيد على سبعين ) وفي حديث ابن عباس ( لو أعلم أني زدت على السبعين يغفر لهم لزدت عليها ] . قال فصلي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. خرجه البخاري.

 

واختلف العلماء في تأويل قوله: « استغفر لهم » هل هو إياس أو تخيير، فقالت طائفة: المقصود به اليأس بدليل قوله تعالى: « فلن يغفر الله لهم » [ التوبة: 80 ] . وذكر السبعين وفاق جرى، أو هو عادتهم في العبارة عن الكثرة والإغياء فإذا قال قائلهم: لا أكلمه سبعين سنة صار عندهم بمنزلة قوله. لا أكلمه أبدا. ومثله في الإغياء قوله تعالى: « في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا » [ الحاقة:32 ] وقوله عليه السلام: ( من صام يوما في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا ) . وقالت طائفة: هو تخيير - منهم الحسن وقتاده وعروة - إن شئت استغفر لهم وإن شئت لا تستغفر. ولهذا لما أراد أن يصلي على ابن أبي قال عمر: أتصلي على عدو الله، القائل يوم كذا كذا وكذا؟ فقال: ( إني خيرت فاخترت ) . قالوا ثم نسخ هذا لما نزل « سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم » [ المنافقون: 6 ] « ذلك بأنهم كفروا » [ التوبة: 80 ] أي لا يغفر الله لهم لكفرهم.

 

قوله تعالى: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين » [ التوبة:113 ] الآية. وهذه الآية نزلت بمكة عند موت أبي طالب، على ما يأتي بيانه. وهذا يفهم منه النهي عن الاستغفار لمن مات كافرا. وهو متقدم على هذه الآية التي فهم منها التخيير بقوله: ( إنما خيرني الله ) وهذا مشكل. فقيل: إن استغفاره لعمه إنما كان مقصوده استغفارا مرجو الإجابة حتى تحصل له المغفرة. وفي هذا الاستغفار استأذن عليه السلام ربه في أن يأذن له فيه لأمه فلم يأذن له فيه. وأما الاستغفار للمنافقين الذي خير فيه فهو استغفار لساني لا ينفع، وغايته تطييب قلوب بعض الأحياء من قرابات المستغفر له. والله أعلم.

 

واختلف في إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم قميصه لعبدالله؛ فقيل: إنما أعطاه لأن عبدالله كان قد أعطى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم قميصه يوم بدر. وذلك أن العباس لما أسر يوم بدر - على ما تقدم - وسلب ثوبه رآه النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فأشفق عليه، فطلب له قميصا فما وجد له قميص يقادره إلا قميص عبدالله، لتقاربهما في طول القامة؛ فأراد النبي صلى الله عليه وسلم بإعطاء القميص أن يرفع اليد عنه في الدنيا، حتى لا يلقاه في الآخرة وله عليه يد يكافئه بها، وقيل: إنما أعطاه القميص إكراما لابنه وإسعافا له في طلبته وتطييبا لقلبه. والأول أصح؛ خرجه البخاري عن جابر بن عبدالله قال: لما كان يوم بدر أتي بأسارى وأتي بالعباس ولم يكن عليه ثوب؛ فطلب النبي صلى الله عليه وسلم له قميصا فوجدوا قميص عبدالله بن أبي يقدر عليه، فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه؛ فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ إن قميصي لا يغني عنه من الله شيئا وإني لأرجو أن يسلم بفعلي هذا ألف رجل من قومي ] كذا في بعض الروايات ( من قومي ) يريد من منافقي العرب. والصحيح أنه قال: ( رجال من قومه ) . ووقع في مغازي ابن إسحاق وفي بعض كتب التفسير: فأسلم وتاب لهذه الفعلة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف رجل من الخزرج.

 

لما قال تعالى: « ولا تصل على أحد منهم مات أبدا » قال علماؤنا: هذا نص في الامتناع من الصلاة على الكفار، وليس فيه دليل على الصلاة على المؤمنين. واختلف هل يؤخذ من مفهومه وجوب الصلاة على المؤمنين على قولين. يؤخذ لأنه علل المنع من الصلاة على الكفار لكفرهم لقوله تعالى: « إنهم كفروا بالله ورسوله » فإذا زال الكفر وجبت الصلاة. ويكون هذا نحو قوله تعالى: « كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون » [ المطففين: 15 ] يعني الكفار؛ فدل على أن غير الكفار يرونه وهم المؤمنون؛ فذلك مثله. والله أعلم. أو تؤخذ الصلاة من دليل خارج عن الآية، وهي الأحاديث الواردة في الباب، والإجماع. ومنشأ الخلاف القول بدليل الخطاب وتركه. روى مسلم عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن أخا لكم قد مات فقوموا فصلوا عليه ) قال: فقمنا فصففنا صفين؛ يعني النجاشي. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى للناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه، فخرج بهم إلى المصلي وكبر أربع تكبيرات. وأجمع المسلمون على أنه لا يجوز ترك الصلاة على جنائز المسلمين، من أهل الكبائر كانوا أو صالحين، وراثة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم قولا وعملا. والحمد لله. وأتفق العلماء على ذلك إلا في الشهيد كما تقدم؛ وإلا في أهل البدع والبغاة.

 

والجمهور من العلماء على أن التكبير أربع. قال ابن سيرين: كان التكبير ثلاثا فزادوا واحدة. وقالت طائفة: يكبر خمسا؛ وروي عن ابن مسعود وزيد بن أرقم. وعن علي: ست تكبيرات. وعن ابن عباس وأنس بن مالك وجابر بن زيد: ثلاث تكبيرات والمعول عليه أربع. روى الدارقطني عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الملائكة صلت على آدم فكبرت عليه أربعا وقالوا هذه سنتكم يا بني آدم ) .

ولا قراءة في هذه الصلاة في المشهور من مذهب مالك، وكذلك أبو حنيفة والثوري؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء ) رواه أبو داود من حديث أبي هريرة. وذهب الشافعي وأحمد وإسحاق ومحمد بن مسلمة وأشهب من علمائنا وداود إلى أنه يقرأ بالفاتحة؛ لقوله عليه السلام: ( لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ) حملا له على عمومه. وبما خرجه البخاري عن ابن عباس وصلى على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب وقال: لتعلموا أنها سنة. وخرج النسائي من حديث أبي أمامة قال: السنة في الصلاة على الجنائز أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن مخافتة، ثم يكبر ثلاثا، والتسليم عند الآخرة. وذكر محمد بن نصر المروزي عن أبي أمامة أيضا قال: السنة في الصلاة على الجنائز أن تكبر، ثم تقرأ بأم القرآن، ثم تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تخلص الدعاء للميت. ولا يقرأ إلا في التكبيرة الأولى ثم يسلم. قال شيخنا أبو العباس: وهذان الحديثان صحيحان، وهما ملحقان عند الأصوليين بالمسند. والعمل على حديث أبي أمامة أولى؛ إذ فيه جمع بين قوله عليه السلام: ( لا صلاة ) وبين إخلاص الدعاء للميت. وقراءة الفاتحة فيها إنما هي استفتاح للدعاء. والله أعلم.

 

وسنة الإمام أن يقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة، لما رواه أبو داود عن أنس وصلى على جنازة فقال له العلاء بن زياد: يا أبا حمزة، هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الجنائز كصلاتك يكبر أربعا ويقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة؟ قال: نعم. ورواه مسلم عن سمرة بن جندب قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وصلى على أم كعب ماتت وهي نفساء، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليها وسطها.

 

قوله تعالى: « ولا تقم على قبره » كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له بالتثبيت، على ما بيناه [ في التذكرة ] والحمد لله.

 

الآية: 85 ( ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون )

 

كرره تأكيدا. وقد تقدم الكلام فيه.

 

الآية: 86 ( وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين )

 

انتدب المؤمنون إلى الإجابة وتعلل المنافقون. فالأمر للمؤمنين باستدامة الإيمان وللمنافقين بابتداء الإيمان. و « أن » في موضع نصب؛ أي بأن آمنوا. و « الطول » الغني؛ وقد تقدم. وخصهم بالذكر لأن من لا طول له لا يحتاج إلى إذن لأنه معذور. « وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين » أي العاجزين عن الخروج.

 

الآيات: 87 - 89 ( رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون، لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون، أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم )

 

قوله تعالى: « رضوا بأن يكونوا مع الخوالف » « الخوالف » جمع خالفة؛ أي مع النساء والصبيان وأصحاب الأعذار من الرجال. وقد يقال للرجل: خالفة وخالف أيضا إذا كان غير نجيب؛ على ما تقدم. يقال: فلان خالفة أهله إذا كان دونهم. قال النحاس: وأصله من خلف اللبن يخلف إذا حمض من طول مكثه. وخلف فم الصائم إذا تغير ريحه؛ ومنه فلان خلف سوء؛ إلا أن فواعل جمع فاعله ولا يجمع فاعل صفة على فواعل إلا في الشعر؛ إلا في حرفين، وهما فارس وهالك. وقوله تعالى في وصف المجاهدين: « وأولئك لهم الخيرات » قيل: النساء الحسان؛ عن الحسن. دليله قوله عز وجل: « فيهن خيرات حسان » [ الرحمن: 70 ] . ويقال: هي خيرة النساء. والأصل خيرة فخفف؛ مثل هينة وهينة. وقيل: جمع خير. فالمعنى لهم منافع الدارين. وقد تقدم معنى الفلاح. والجنات: والبساتين. وقد تقدم أيضا.

 

الآية: 90 ( وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم )

 

قوله تعالى: « وجاء المعذرون من الأعراب » قرأ الأعرج والضحاك « المعْذِرون » مخففا. ورواها أبو كريب عن أبي بكر عن عاصم، ورواها أصحاب القراءات عن ابن عباس. قال الجوهري: وكان ابن عباس يقرأ « وجاء المعْذرون » مخففة، من أعذر. ويقول: والله لهكذا أنزلت. قال النحاس: إلا أن مدارها عن الكلبي، وهي من أعذر؛ ومنه قد أعذر من أنذر؛ أي قد بالغ في العذر من تقدم إليك فأنذرك. وأما « المعذرون » بالتشديد ففيه قولان: أحدهما أنه يكون المحق؛ فهو في المعنى المعتذر، لأن له عذرا. فيكون « المعذرون » على هذه أصله المعتذرون، ولكن التاء قلبت ذالا فأدغمت فيها وجعلت حركتها على العين؛ كما قرئ « يخصمون » [ يس: 49 ] بفتح الخاء. ويجوز « المعذرون » بكسر العين لاجتماع الساكنين. ويجوز ضمها اتباعا للميم. ذكره الجوهري والنحاس. إلا أن النحاس حكاه عن الأخفش والفراء وأبي حاتم وأبي عبيد. ويجوز أن يكون الأصل المعتذرون، ثم أدغمت التاء في الذال؛ ويكونون الذين لهم عذر. قال لبيد:

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

والقول الآخر أن المعذر قد يكون غير محق، وهو الذي يعتذر ولا عذر له. قال الجوهري: فهو المعذر على جهة المفعل؛ لأنه الممرض والمقصر يعتذر بغير عذر. قال غيره: يقال عذر فلان في أمر كذا تعذيرا؛ أي قصر ولم يبالغ فيه. والمعنى أنهم اعتذروا بالكذب. قال الجوهري: وكان ابن عباس يقول: لعن الله المعذرين. كأن الأمر عنده أن المعذر بالتشديد هو المظهر للعذر، اعتلالا من غير حقيقة له في العذر. النحاس: قال أبو العباس محمد بن يزيد ولا يجوز أن يكون الأصل فيه المعتذرين، ولا يجوز الإدغام فيقع اللبس. ذكر إسماعيل بن إسحاق أن الإدغام مجتنب على قول الخليل وسيبويه، بعد أن كان سياق الكلام يدل على أنهم مذمومون لا عذر لهم، قال: لأنهم جاؤوا ليؤذن لهم ولو كانوا من الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون لم يحتاجوا أن يستأذنوا. قال النحاس: وأصل المعذرة والإعذار والتعذير من شيء واحد وهو مما يصعب ويتعذر. وقول العرب: من عذيري من فلان، معناه قد أتى أمرا عظيما يستحق أن أعاقبه عليه ولم يعلم الناس به؛ فمن يعذرني إن عاقبته. فعلى قراءة التخفيف قال ابن عباس: هم الذين تخلفوا بعذر فأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: هم رهط عامر بن الطفيل قالوا: يا رسول الله، لو غزونا معك أغارت أعراب طيء على حلائلنا وأولادنا ومواشينا؛ فعذرهم النبي صلى الله عليه وسلم. وعلى قراءة التشديد في القول الثاني، هم قوم من غفار اعتذروا فلم يعذرهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لعلمه أنهم غير محقين، والله أعلم. وقعد قوم بغير عذر أظهروه جرأة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الذين أخبر الله تعالى عنهم فقال: « وقعد الذين كذبوا الله ورسوله » والمراد بكذبهم قولهم: إنا مؤمنون. و « ليؤذن » نصب بلام كي.

 

الآية: 91 ( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم )

 

قوله تعالى: « ليس على الضعفاء » الآية. أصل في سقوط التكليف عن العاجز؛ فكل من عجز عن شيء سقط عنه، فتارة إلى بدل هو فعل، وتارة إلى بدل هو غرم، ولا فرق بين العجز من جهة القوة أو العجز من جهة المال؛ ونظير هذه الآية قوله تعالى: « لا يكلف الله نفسا إلا وسعها » [ البقرة: 286 ] وقوله: « ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج » [ النور: 61 ] . وروى أبو داود عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه ) . قالوا: يا رسول الله، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: ( حبسهم العذر ) . فبينت هذه الآية مع ما ذكرنا من نظائرها أنه لا حرج على المعذورين، وهم قوم عرف عذرهم كأرباب الزمانة والهرم والعمى والعرج، وأقوام لم يجدوا ما ينفقون؛ فقال: ليس على هؤلاء حرج. « إذا نصحوا لله ورسوله » إذا عرفوا الحق وأحبوا أولياءه وأبغضوا أعداءه قال العلماء: فعذر الحق سبحانه أصحاب الأعذار، وما صبرت القلوب؛ فخرج ابن أم مكتوم إلى أحد وطلب أن يعطي اللواء فأخذه مصعب بن عمير، فجاء رجل من الكفار فضرب يده التي فيها اللواء فقطعها، فأمسكه باليد الأخرى فضرب اليد الأخرى فأمسكه بصدره وقرأ « وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل » [ آل عمران: 144 ] . هذه عزائم القوم. والحق يقول: « ليس على الأعمى حرج » [ النور: 61 ] وهو في الأول. « ولا على الأعرج حرج » [ النور:61 ] وعمرو بن الجموح من نقباء الأنصار أعرج وهو في أول الجيش. قال له الرسول عليه السلام: ( إن الله قد عذرك ) فقال: والله لأحفرن بعرجتي هذه في الجنة؛ إلى أمثالهم حسب ما تقدم في هذه السورة من ذكرهم رضي الله عنهم. وقال عبدالله بن مسعود: ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف.

 

قوله تعالى: « إذا نصحوا » النصح إخلاص العمل من الغش. ومنه التوبة النصوح. قال نفطويه: نصح الشيء إذا خلص. ونصح له القول أي أخلصه له. وفي صحيح مسلم عن تميم الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الدين النصيحة ) ثلاثا. قلنا لمن؟ قال: ( لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ) . قال العلماء: النصيحة لله إخلاص الاعتقاد في الوحدانية، ووصفه بصفات الألوهية، وتنزيهه عن النقائص والرغبة في محابّه والبعد من مساخطه. والنصيحة لرسوله: التصديق بنبوته، والتزام طاعته في أمره ونهيه، وموالاة من والاه ومعاداة من عاداه، وتوقيره، ومحبته ومحبة آل بيته، وتعظيمه وتعظيم سنته، وإحياؤها بعد موته بالبحث عنها، والتفقه فيها والذب عنها ونشرها والدعاء إليها، والتخلق بأخلاقه الكريمة صلى الله عليه وسلم. وكذا النصح لكتاب الله: قراءته والتفقه فيه، والذب عنه وتعليمه وإكرامه والتخلق به. والنصح لأئمة المسلمين: ترك الخروج عليهم، إرشادهم إلى الحق وتنبيههم فيما أغفلوه من أمور المسلمين، ولزوم طاعتهم والقيام بواجب حقهم. والنصح للعامة: ترك معاداتهم، وإرشادهم وحب الصالحين منهم، والدعاء لجميعهم وإرادة الخير لكافتهم. وفي الحديث الصحيح ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) .

 

قوله تعالى: « ما على المحسنين من سبيل » « من سبيل » في موضع رفع اسم « ما » أي من طريق إلى العقوبة. وهذه الآية أصل في رفع العقاب عن كل محسن. ولهذا قال علماؤنا في الذي يقتص من قاطع يده فيفضي ذلك في السراية إلى إتلاف نفسه: إنه لا دية له؛ لأنه محسن في اقتصاصه من المعتدي عليه. وقال أبو حنيفة: تلزمه الدية. وكذلك إذا صال فحل على رجل فقتله في دفعه عن نفسه فلا ضمان عليه؛ وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: تلزمه لمالكه القيمة. قال ابن العربي: وكذلك القول في مسائل الشريعة كلها.

 

الآية: 92 ( ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون )

 

قوله تعالى: « ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم » روي أن الآية نزلت في عرباض بن سارية. وقيل: نزلت في عائذ بن عمرو. وقيل: نزلت في بني مقرن - وعلى هذا جمهور المفسرين - وكانوا سبعة إخوة، كلهم صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في الصحابة سبعة إخوة غيرهم، وهم النعمان ومعقل وعقيل وسويد وسنان وسابع لم يسم. بنو مقرن المزنيون سبعة إخوة هاجروا وصحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشاركهم - فيما ذكره ابن عبدالبر وجماعة - في هذه المكرمة غيرهم. وقد قيل: إنهم شهدوا الخندق كلهم. وقيل: نزلت في سبعة نفر من بطون شتى، وهم البكاؤون أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ليحملهم، فلم يجد ما يحملهم عليه؛ فـ « تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون » فسموا البكائين. وهم سالم بن عمير من بني عمرو بن عوف وعلبة بن زيد أخو بني حارثة. وأبو ليلى عبدالرحمن بن كعب من بني مازن بن النجار. وعمرو بن الحمام من بني سلمة. وعبدالله بن المغفل المزني، وقيل: بل هو عبدالله بن عمرو المزني. وهرمي بن عبدالله أخو بني واقف، وعرباض بن سارية الفزاري، هكذا سماهم أبو عمر في كتاب الدرر له. وفيهم اختلاف. قال القشيري: معقل بن يسار وصخر بن خنساء وعبدالله بن كعب الأنصاري، وسالم بن عمير، وثعلبة بن غنمة، وعبدالله بن مغفل وآخر. قالوا: يا نبي الله، قد ندبتنا للخروج معك، فاحملنا على الخفاف المرفوعة والنعال المخصوفة نغز معك. فقال: « لا أجد ما أحملكم عليه » فتولوا وهم يبكون. وقال ابن عباس: سألوه أن يحملهم على الدواب، وكان الرجل يحتاج إلى بعيرين، بعير يركبه وبعير يحمل ماءه وزاده لبعد الطريق. وقال الحسن: نزلت في أبي موسى وأصحابه أتوا النبي صلى الله عليه وسلم ليستحملوه، ووافق ذلك منه غضبا فقال: « والله لا أحملكم ولا أجد ما أحملكم عليه فتولوا يبكون؛ فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاهم ذودا. فقال أبو موسى: ألست حلفت يا رسول الله؟ فقال: ( إني إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني ) . »

قلت: وهذا حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم بلفظه ومعناه. وفي مسلم: فدعا بنا فأمر لنا بخمس ذود غر الذرى... الحديث. وفي آخره: ( فانطلقوا فإنما حملكم الله ) . وقال الحسن أيضا وبكر بن عبدالله: نزلت في عبدالله بن مغفل المزني، أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستحمله. قال الجرجاني: التقدير أي ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم وقلت لا أجد. فهو مبتدأ معطوف على ما قبله بغير واو، والجواب « تولوا » . « وأعينهم تفيض من الدمع » الجملة في موضع نصب على الحال. « حزنا » مصدر. « ألا يجدوا » نصب بأن. وقال النحاس: قال الفراء يجوز أن لا يجدون؛ يجعل لا بمعنى ليس. وهو عند البصريين بمعنى أنهم لا يجدون.

والجمهور من العلماء على أن من لا يجد ما ينفقه في غزوه أنه لا يجب عليه. وقال علماؤنا: إذا كانت عادته المسألة لزمه كالحج وخرج على العادة لأن حاله إذا لم تتغير يتوجه الفرض عليه كتوجهه على الواجد. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « وأعينهم تفيض من الدمع » ما يستدل به على قرائن الأحوال. ثم منها ما يفيد العلم الضروري، ومنها ما يحتمل الترديد. فالأول كمن يمر على دار قد علا فيها النعي وخمشت الخدود وحلقت الشعور وسلقت الأصوات وخرقت الجيوب ونادوا على صاحب الدار بالثبور؛ فيعلم أنه قد مات. وأما الثاني فكدموع الأيتام على أبواب الحكام؛ قال الله تعالى مخبرا عن إخوة يوسف عليه السلام: « وجاؤوا أباهم عشاء يبكون » [ يوسف: 16 ] . وهم الكاذبون؛ قال الله تعالى مخبرا عنهم: « وجاؤوا على قميصه بدم كذب » [ يوسف: 18 ] . ومع هذا فإنها قرائن يستدل بها في الغالب فتبني عليها الشهادات بناء على ظواهر الأحوال وغالبها. وقال الشاعر:

إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكي

وسيأتي هذا المعنى في « يوسف » مستوفى إن شاء الله تعالى.