الجزء الثاني عشر

 

الآية: 6 ( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين )

 

قوله تعالى: « وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها » « ما » نفي و « من » زائدة و « دابة » في موضع رفع؛ التقدير: وما دابة. « إلا على الله رزقها » « على » بمعنى « من » ، أي من الله رزقها؛ يدل عليه قول، مجاهد: كل ما جاءها من رزق فمن الله. وقيل: « على الله » أي فضلا لا وجوبا. وقيل: وعدا منه حقا. وقد تقدم بيان هذا المعنى في « النساء » وأنه سبحانه لا يجب عليه شيء. « رزقها » رفع بالابتداء، وعند الكوفيين بالصفة؛ وظاهر الآية العموم ومعناها الخصوصي؛ لأن كثيرا من الدواب هلك قبل أن يرزق. وقيل: هي عامة في كل دابة: وكل دابة لم ترزق رزقا تعيش به فقد رزقت روحها؛ ووجه النظم به قبل: أنه سبحانه أخبر برزق الجميع، وأنه لا يغفل عن تربيته، فكيف تخفى عليه أحوالكم يا معشر الكفار وهو يرزقكم؟ ! والدابة كل حيوان يدب. والرزق حقيقته ما يتغذى به الحي، ويكون فيه بقاء روحه ونماء جسده. ولا يجوز أن يكون الرزق بمعنى الملك؛ لأن البهائم ترزق وليس يصح وصفها بأنها مالكة لعلفها؛ وهكذا الأطفال ترزق اللبن ولا يقال: إن اللبن الذي في الثدي ملك للطفل. وقال تعالى: « وفي السماء رزقكم » [ الذاريات: 22 ] وليس لنا في السماء ملك؛ ولأن الرزق لو كان ملكا لكان إذا أكل الإنسان من ملك غيره أن يكون قد أكل من رزق غيره، وذلك محال؛ لأن العبد لا يأكل إلا رزق نفسه. وقد تقدم في « البقرة » هذا المعنى والحمد لله. وقيل لبعضهم: من أين تأكل؟ وقال: الذي خلق الرحى يأتيها بالطحين، والذي شدق الأشداق هو خالق الأرزاق. وقيل لأبي أسيد: من أين تأكل؟ فقال: سبحانه الله والله أكبر! إن الله يرزق الكلب أفلا يرزق أبا أسيد!. وقيل لحاتم الأصم: من أين تأكل؟ فقال: من عند الله؛ فقيل له: الله ينزل لك دنانير ودراهم من السماء؟ فقال: كأن ماله إلا السماء! يا هذا الأرض له والسماء له؛ فإن لم يؤتني رزقي من السماء ساقه لي من الأرض؛ وأنشد:

وكيف أخاف الفقر والله رازقي ورازق هذا الخلق في العسر واليسر

تكفل بالأرزاق للخلق كلهم وللضب في البيداء والحوت في البحر

وذكر الترمذي الحكيم في « نوادر الأصول » بإسناده عن زيد بن أسلم: أن الأشعريين أبا موسى وأبا مالك وأبا عامر في نفر منهم، لما هاجروا وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وقد أرملوا من الزاد، فأرسلوا رجلا منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله، فلما انتهى إلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعه يقرأ هذه الآية « وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين » فقال الرجل: ما الأشعريون بأهون الدواب على الله؛ فرجع ولم يدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال لأصحابه: أبشروا أتاكم الغوث، ولا يظنون إلا أنه قد كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعده؛ فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجلان يحملان قصعة بينها مملوءة خبزا ولحما فأكلوا منها ما شاؤوا، ثم قال بعضهم لبعض: لو أنا رددنا هذا الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقضي به حاجته؛ فقالوا للرجلين: اذهبا بهذا الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنا قد قضينا منه حاجتنا، ثم إنهم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله ما رأينا طعاما أكثر ولا أطيب من طعام أرسلت به؛ قال: ( ما أرسلت إليكم طعاما ) فأخبروه أنهم أرسلوا صاحبهم، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ما صنع، وما قال لهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ذلك شيء رزقكموه الله ) .

 

قوله تعالى: « ويعلم مستقرها » أي من الأرض حيث تأوي إليه. « ومستودعها » أي الموضع الذي تموت فيه فتدفن؛ قاله مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال الربيع بن أنس: « مستقرها » أيام حياتها. « ومستودعها » حيث تموت وحيث تبعث. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: « مستقرها » في الرحم « ومستودعها » في الصلب. وقيل: « يعلم مستقرها » في الجنة أو النار. « ومستودعها » في القبر؛ يدل عليه قوله تعالى في وصف أهل الجنة وأهل النار: « حسنت مستقرا ومقاما » [ الفرقان: 76 ] « ساءت مستقرا ومقاما » [ الفرقان: 66 ] . « كل في كتاب مبين » أي في اللوح المحفوظ.

 

الآية: 7 ( وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين )

 

قوله تعالى: « وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام » تقدم في « الأعراف » بيانه والحمد لله. « وكان عرشه على الماء » بين أن خلق العرش والماء قبل خلق الأرض والسماء. قال كعب: خلق الله ياقوتة خضراء فنظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد من مخافة الله تعالى؛ فلذلك يرتعد الماء إلى الآن وإن كان ساكنا، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها، ثم وضع العرش على الماء. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: إنه سئل عن قوله عز وجل: « وكان عرشه على الماء » فقال: على أي شيء كان الماء؟ قال: على متن الريح. وروى البخاري عن عمران بن حصين. قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه قوم من بني تميم فقال: ( اقبلوا البشرى بابني تميم ) قالوا: بشرتنا فأعطنا [ مرتين ] فدخل ناس من أهل اليمن فقال: ( اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم ) قالوا: قبلنا، جئنا لنتفقه في الدين، ولنسألك عن هذا الأمر ما كان؟ قال: ( كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء ثم خلق السماوات والأرض وكتب في الذكر كل شيء ) ثم أتاني رجل فقال: يا عمران أدرك ناقتك فقد ذهبت، فانطلقت أطلبها فإذا هي يقطع دونها السراب؛ وايم الله لوددت أنها قد ذهبت ولم أقم.

 

قوله تعالى: « ليبلوكم أيكم أحسن عملا » أي خلق ذلك ليبتلي عباده بالاعتبار والاستدلال على كمال قدرته وعلى البعث. وقال قتادة: معنى « أيكم أحسن عملا » « أيكم » أتم عقلا. وقال الحسن وسفيان الثوري: أيكم أزهد في الدنيا. وذكر أن عيسى عليه السلام مر برجل نائم فقال: يا نائم قم فتعبد، فقال يا روح الله قد تعبدت، فقال ( وبم تعبدت ) ؟ قال: قد تركت الدنيا لأهلها؛ قال: نم فقد فقت العابد بن الضحاك: أيكم أكثر شكرا. مقاتل: أيكم أتقى لله. ابن عباس: أيكم أعمل بطاعة الله عز وجل. وروي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم: « أيكم أحسن عملا » قال: ( أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله ) فجمع الأقاويل كلها، وسيأتي في « الكهف » هذا أيضا إن شاء الله تعالى. وقد تقدم معنى الابتلاء. « ولئن قلت إنكم مبعوثون » أي دللت يا محمد على البعث. « من بعد الموت » وذكرت ذلك للمشركين لقالوا: هذا سحر. وكسرت ( إن ) لأنها بعد القول مبتدأة. وحكى سيبويه الفتح. « ليقولن الذين كفروا » فتحت اللام لأنه فعل متقدم لا ضمير فيه، وبعده « ليقولن » لأن فيه ضميرا. و « سحر » أي غرور باطل، لبطلان السحر عندهم. وقرأ حمزة والكسائي « إن هذا إلا سحر مبين » كناية عن النبي صلى الله عليه وسلم.

 

الآية: 8 ( ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون )

 

قوله تعالى: « ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة » اللام في « لئن » للقسم، والجواب « ليقولن » . ومعنى « إلى أمة » إلى أجل معدود وحين معلوم؛ فالأمة هنا المدة؛ قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وجمهور المفسرين. وأصل الأمة الجماعة؛ فعبر عن الحين والسنين بالأمة لأن الأمة تكون فيها. وقيل: هو على حذف المضاف، والمعنى إلى مجيء أمة ليس فيها من يؤمن فيستحقون الهلاك. أو إلى انقراض أمة فيها من يؤمن فلا يبقى بعد انقراضها من يؤمن. والأمة اسم مشترك يقال على ثمانية أوجه: فالأمة تكون الجماعة؛ كقوله تعالى: « وجد عليه أمة من الناس » [ القصص: 23 ] . والأمة أيضا اتباع الأنبياء عليهم السلام. والأمة الرجل الجامع للخير الذي يقتدى به؛ كقوله تعالى: « إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا » [ النحل: 120 ] . والأمة الدين والملة؛ كقوله تعالى: « إنا وجدنا آباءنا على أمة » [ الزخرف: 22 ] . والأمة الحين والزمان؛ كقوله تعالى: « ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة » وكذلك قوله تعالى: « وادكر بعد أمة » [ يوسف: 45 ] والأمة القامة، وهو طول الإنسان وارتفاعه؛ يقال من ذلك: فلان حسن الأمة أي القامة. والأمة الرجل المنفرد بدينه وحده لا يشركه فيه أحد؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يبعث زيد بن عمرو بن نفيل أمة وحده ) . والأمة الأم؛ يقال: هذه أمة زيد، يعني أم زيد.

« ليقولن ما يحبسه » يعني العذاب؛ وقالوا هذا إما تكذيبا للعذاب لتأخره عنهم، أو استعجالا واستهزاء؛ أي ما الذي يحبسه عنا. « ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم » قيل: هو قتل المشركين ببدر؛ وقتل جبريل المستهزئين على ما يأتي. « وحاق بهم » أي نزل وأحاط. « ما كانوا به يستهزئون » أي جزاء ما كانوا به يستهزئون، والمضاف محذوف.

 

الآيتان: 9 - 10 ( ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤوس كفور، ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور )

 

قوله تعالى: « ولئن أذقنا الإنسان » الإنسان اسم شائع للجنس في جميع الكفار. ويقال: إن الإنسان هنا الوليد بن المغيرة وفيه نزلت. وقيل: في عبدالله بن أبي أمية المخزومي. « رحمة » أي نعمة. « ثم نزعناها منه » أي سلبناه إياها. « إنه ليؤوس » أي يائس من الرحمة. « كفور » للنعم جاحد لها؛ قال ابن الأعرابي. النحاس: « ليؤوس » من يئس ييأس، وحكى سيبويه يئس ييئس على فعل يفعل، ونظير حسب يحسب ونعم ينعم، ويأس ييئس؛ وبعضهم يقول: يئس ييئس؛ ولا يعرف في الكلام [ العربي ] إلا هذه الأربعة الأحرف من السالم جاءت. على فعل يفعل؛ وفي واحد منها اختلاف. وهو يئس و « يؤوس » على التكثير كفخور للمبالغة.

 

قوله تعالى: « ولئن أذقناه نعماء » أي صحة ورخاء وسعة في الرزق. « بعد ضراء مسته » أي بعد ضر وفقر وشدة. « ليقولن ذهب السيئات عني » أي الخطايا التي تسوء صاحبها من الضر والفقر. « إنه لفرح فخور » أي يفرح ويفخر بما ناله من السعة وينسى شكر الله عليه؛ يقال: رجل فاخر إذا افتخر - وفخور للمبالغة - قال يعقوب القارئ: وقرأ بعض أهل المدينة ( لفرح ) بضم الراء كما يقال: رجل فطن وحذر وندس. ويجوز في كلتا اللغتين الإسكان لثقل الضمة والكسرة.

 

الآية: 11 ( إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير )

 

قوله تعالى: « إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات » يعني المؤمنين، مدحهم بالصبر على الشدائد. وهو في موضع نصب. قال الأخفش: هو استثناء ليس من الأول؛ أي لكن الذين صبروا وعملوا الصالحات في حالتي النعمة والمحنة. وقال، الفراء: هو استثناء من « ولئن أذقناه » أي من الإنسان، فإن الإنسان بمعنى الناس، والناس يشمل الكافر والمؤمن؛ فهو استثناء متصل وهو حسن. « أولئك لهم مغفرة » ابتداء وخبر « وأجر » معطوف. « كبير » صفة.

 

الآية: 12 ( فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل )

 

قوله تعالى: « فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك » أي فلعلك لعظيم ما تراه منهم من الكفر والتكذيب تتوهم أنهم يزيلونك عن بعض ما أنت عليه. وقيل: إنهم لما قالوا: « لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك » هم أن يدع سب آلهتهم فنزلت هذه الآية؛ فالكلام معناه الاستفهام؛ أي هل أنت تارك ما فيه سب آلهتهم كما سألوك؟ وتأكد عليه الأمر في الإبلاغ؛ كقوله: « يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك » [ المائدة: 67 ] . وقيل: معنى الكلام النفي مع استبعاد؛ أي لا يكون منك ذلك، بل تبلغهم كل ما أنزل إليك؛ وذلك أن مشركي مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم لو أتيتنا بكتاب ليس فيه سب آلهتنا لاتبعناك، فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يدع سب آلهتهم؛ فنزلت. « وضائق به صدرك » عطف على « تارك » و « صدرك » مرفوع به، والهاء في « به » تعود على « ما » أو على بعض، أو على التبليغ، أو التكذيب. وقال: « ضائق » ولم يقل ضيق ليشاكل « تارك » الذي قبله؛ ولأن الضائق عارض، والضيق ألزم منه. « أن يقولوا » في موضع نصب؛ أي كراهية أن يقولوا، أو لئلا يقولوا كقوله: « يبين الله لكم أن تضلوا » [ النساء: 176 ] أي لئلا تضلوا. أو لأن يقولوا. « لولا » أي هلا « أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك » يصدقه؛ قاله عبدالله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي؛ « إنما أنت نذير » فقال الله تعالى: يا محمد إنما عليك أن تنذرهم، لا بأن تأتيهم بما يقترحونه من الآيات. « والله على كل شيء وكيل » أي حافظ وشهيد.

 

الآية: 13 ( أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين )

 

قوله تعالى: « أم يقولون افتراه » « أم » بمعنى بل، وقد تقدم في « يونس » أي قد أزحت علتهم وإشكالهم في نبوتك بهذا القرآن، وحججتهم به؛ فإن قالوا: افتريته - أي اختلقته - فليأتوا بمثله مفترى بزعمهم. « وادعوا من استطعتم من دون الله » أي من الكهنة والأعوان.

 

الآية: 14 ( فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون )

 

قوله تعالى: « فإلم يستجيبوا لكم » « فإن لم يستجيبوا لكم » أي في المعارضة ولم تتهيأ لهم فقد قامت عليهم الحجة؛ إذ هم اللسن البلغاء، وأصحاب الألسن الفصحاء. « فاعلموا أنما أنزل بعلم الله » واعلموا صدق محمد صلى الله عليه وسلم، « و » اعلموا « أن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون » استفهام معناه الأمر. وقد تقدم القول في معنى هذه الآية، وأن القرآن معجز في مقدمة الكتاب. والحمد لله. وقال: « قل فأتوا » وبعده. « فإن لم يستجيبوا لكم » ولم يقل لك؛ فقيل: هو على تحويل المخاطبة من الإفراد، إلى الجمع تعظيما وتفخيما؛ وقد يخاطب الرئيس بما يخاطب به الجماعة. وقيل: الضمير في « لكم » وفي « فاعلموا » للجميع، أي فليعلم للجميع « أنما أنزل بعلم الله » ؛ قاله مجاهد. وقيل: الضمير في « لكم » وفي « فاعلموا » للمشركين؛ والمعنى: فإن لم يستجب لكم من تدعونه إلى المعاونة؛ ولا تهيأت لكم المعارضة « فاعلموا أنما أنزل بعلم الله » . وقيل: الضمير في « لكم » للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وفي « فاعلموا » للمشركين.

 

الآية: 15 ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون )

 

قوله تعالى: « من كان » كان زائدة، ولهذا جزم بالجواب فقال: « نوف إليهم » قاله الفراء. وقال الزجاج: « من كان » في موضع جزم بالشرط، وجوابه « نوف إليهم » أي من يكن يريد؛ والأول في اللفظ ماضي والثاني مستقبل، كما قال زهير:

ومن هاب أسباب المنية يلقها ولو رام أسباب السماء بسلم

واختلف العلماء في تأويل هذه الآية؛ فقيل: نزلت في الكفار؛ قال الضحاك، واختاره النحاس؛ بدليل الآية التي بعدها « أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار » [ هود: 16 ] أي من أتى منهم بصلة رحم أو صدقة نكافئه بها في الدنيا، بصحة الجسم، وكثرة الرزق، لكن لا حسنة له في الآخرة. وقد تقدم هذا المعنى في « براءة » مستوفى. وقيل: المراد بالآية المؤمنون؛ أي من أراد بعمله ثواب الدنيا عجل له الثواب ولم ينقص شيئا في الدنيا، وله في الآخرة العذاب لأنه جرد قصده إلى الدنيا، وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات ) فالعبد إنما يعطي على وجه قصده، وبحكم ضميره؛ وهذا أمر متفق عليه في الأمم بين كل ملة. وقيل: هو لأهل الرياء؛ وفي الخبر أنه يقال لأهل الرياء: ( صمتم وصليتم وتصدقتم وجاهدتم وقرأتم ليقال ذلك فقد قيل ذلك ) ثم قال: ( إن هؤلاء أول من تسعر بهم النار ) . رواه أبو هريرة، ثم بكى بكاء شديدا وقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، « من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها » وقرأ الآيتين، خرجه مسلم [ في صحيحه ] بمعناه والترمذي أيضا. وقيل: الآية عامة في كل من ينوي بعمله غير الله تعالى، كان معه أصل إيمان أو لم يكن؛ قال مجاهد وميمون بن مهران، وإليه ذهب معاوية رحمه الله تعالى. وقال ميمون بن مهران: ليس أحد يعمل حسنة إلا وفي ثوابها؛ فإن كان مسلما مخلصا وفي في الدنيا والآخرة، وإن كان كافرا وفي الدنيا. وقيل: من كان يريد [ الدنيا ] بغزوه مع النبي صلى الله عليه وسلم وفيها، أي وفي أجر الغزاة ولم ينقص منها؛ وهذا خصوص والصحيح العموم.

 

قال بعض العلماء: معنى هذه الآية قوله عليه السلام: ( إنما الأعمال بالنيات ) وتدلك هذه الآية على أن من صام في رمضان لا عن رمضان لا يقع عن رمضان، وتدل على أن من توضأ للتبرد والتنظف لا يقع قربة عن جهة الصلاة، وهكذا كل ما كان في معناه.

 

ذهب أكثر العلماء إلى أن هذه الآية مطلقة؛ وكذلك الآية التي في « الشورى » « من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها » [ الشورى: 20 ] الآية. وكذلك « ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها » [ آل عمران: 145 ] قيدها وفسرها التي في « سبحان » « من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد » [ الإسراء: 18 ] إلى قوله: « محظورا » [ الإسراء: 20 ] فأخبر سبحانه أن العبد ينوي ويريد والله سبحانه يحكم ما يريد، وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما ( في قوله: « من كان يريد الحياة الدنيا » أنها منسوخة بقوله: « من كان يريد العاجلة » ) [ الإسراء: 18 ] . والصحيح ما ذكرناه؛ وأنه من باب الإطلاق والتقييد؛ ومثله قوله: « وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان » [ البقرة: 186 ] فهذا ظاهره خبر عن إجابة كل داع دائما على كل حال، وليس كذلك؛ لقوله تعالى: « فيكشف ما تدعون إليه إن شاء » [ الأنعام: 41 ] والنسخ في الأخبار لا يجوز؛ لاستحالة تبدل الواجبات العقلية، ولاستحالة الكذب على الله تعالى فأما الأخبار عن الأحكام الشرعية فيجوز نسخها على خلاف فيه، على ما هو مذكور في الأصول؛ ويأتي في « النحل » بيانه إن شاء الله تعالى.

 

الآية: 16 ( أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون )

 

قوله تعالى: « أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار » إشارة إلى التخليد، والمؤمن لا يخلد؛ لقوله تعالى: « إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك » [ النساء: 48 ] الآية. فهو محمول على ما لو كانت. موافاة هذا المرئي على الكفر. وقيل: المعنى ليس لهم إلا النار في أيام معلومة ثم يخرج؛ إما بالشفاعة، وإما بالقبضة. والآية تقتضي الوعيد بسلب الإيمان؛ وفي الحديث الماضي يريد الكفر وخاصة الرياء، إذ هو شرك على ما تقدم بيانه في « النساء » ويأتي في آخر « الكهف » . « وباطل ما كانوا يعملون ابتداء وخبر، قال أبو حاتم: وحذف الهاء؛ قال النحاس: هذا لا يحتاج إلى حذف؛ لأنه بمعنى المصدر؛ أي وباطل عمله. وفي حرف أبي وعبدالله » وباطلا ما كانوا يعملون « وتكون » ما « زائدة؛ أي وكانوا يعملون باطلا.»

 

الآية: 17 ( أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون )

 

قوله تعالى: « أفمن كان على بينة من ربه » ابتداء والخبر محذوف؛ أي أفمن كان على بينة من ربه في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ومعه من الفضل ما يتبين به كغيره ممن يريد الحياة الدنيا وزينتها؟ ! عن علي بن الحسين والحسن بن أبي الحسن. وكذلك قال ابن زيد إن الذي على بينة هو من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم. « ويتلوه شاهد منه » من الله، وهو النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل المراد بقوله « أفمن كان على بينة من ربه » النبي صلى الله عليه وسلم والكلام راجع إلى قوله: « وضائق به صدرك » [ هود: 12 ] ؛ أي أفمن كان معه بيان من الله، ومعجزة كالقرآن، ومعه شاهد كجبريل - على ما يأتي - وقد بشرت به الكتب السالفة يضيق صدره بالإبلاغ، وهو يعلم أن الله لا يسلمه. والهاء في « ربه » تعود عليه، وقوله: « ويتلوه شاهد منه » وروى عكرمة عن ابن عباس ( أنه جبريل ) ؛ وهو قول مجاهد والنخعي. والهاء في « منه » لله عز وجل؛ أي ويتلو البيان والبرهان شاهد من الله عز وجل. وقال مجاهد: الشاهد ملك من الله عز وجل يحفظه ويسدده. وقال الحسن البصري وقتادة: الشاهد لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال محمد بن علي بن الحنفية: قلت لأبي أنت الشاهد؟ فقال: وددت أن أكون أنا هو، ولكنه لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: هو علي بن أبي طالب؛ روي عن ابن عباس أنه قال: ( هو علي بن أبي طالب ) ؛ وروي عن علي أنه قال: ( ما من رجل من قريش إلا وقد أنزلت فيه الآية والآيتان؛ فقال له رجل: أي شيء نزل فيك؟ فقال علي: « ويتلوه شاهد منه » ) . وقيل: الشاهد صورة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه ومخائله؛ لأن من كان له فضل وعقل فنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فالهاء على هذا ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، على قول ابن زيد وغيره. وقيل: الشاهد القرآن في نظمه وبلاغته، والمعاني الكثيرة منه في اللفظ الواحد؛ قال الحسين بن الفضل، فالهاء في « منه » للقرآن. وقال الفراء قال بعضهم: « ويتلوه شاهد منه » الإنجيل، وإن كان قبله فهو يتلو القرآن في التصديق؛ والهاء في « منه » لله عز وجل. وقيل: البينة معرفة الله التي أشرقت لها القلوب، والشاهد الذي يتلوه العقل الذي ركب في دماغه وأشرق صدره بنوره. « ومن قبله » أي من قبل الإنجيل. « كتاب موسى » رفع بالابتداء، قال أبو إسحاق الزجاج والمعنى ويتلوه من قبله كتاب موسى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم موصوف في كتاب موسى « يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل » [ الأعراف: 157 ] وحكى أبو حاتم عن بعضهم أنه قرأ « ومن قبله كتاب موسى » بالنصب؛ وحكاها المهدوي عن الكلبي؛ يكون معطوفا على الهاء في « يتلوه » والمعنى: ويتلو كتاب موسى جبريل عليه السلام؛ وكذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما؛ المعنى من قبله ( تلا جبريل كتاب موسى على موسى ) . ويجوز على ما ذكره ابن عباس أيضا من هذا القول أن يرفع « كتاب » على أن يكون المعنى: ومن قبله كتاب موسى كذلك؛ أي تلاه جبريل على موسى كما تلا القرآن على محمد. « إماما » نصب على الحال. « ورحمة » معطوف. « أولئك يؤمنون به » إشارة إلى بني إسرائيل، أي يؤمنون بما في التوراة من البشارة بك؛ وإنما كفر بك هؤلاء المتأخرون فهم الذين موعدهم النار؛ حكاه القشيري. والهاء في « به » يجوز أن تكون للقرآن، ويجوز أن تكون للنبي صلى الله عليه وسلم. « ومن يكفر به » أي بالقرآن أو بالنبي عليه السلام. « من الأحزاب » يعني من الملل كلها؛ عن قتادة؛ وكذا قال سعيد بن جبير: « الأحزاب » أهل الأديان كلها؛ لأنهم يتحازبون. وقيل: قريش وحلفاؤهم. « فالنار موعده » أي هو من أهل النار؛ وأنشد حسان:

أوردتموها حياض الموت ضاحية فالنار موعدها والموت لاقيها

وفي صحيح مسلم من حديث أبي يونس عن النبي صلى الله عليه وسلم ( والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار ) . « فلا تكن في مرية » أي في شك. « »

 

قوله تعالى: « منه » أي من القرآن. « إنه الحق من ربك » أي القرآن من الله؛ قاله مقاتل. وقال الكلبي: المعنى فلا تك في مرية في أن الكافر في النار. « إنه الحق » أي القول الحق الكائن؛ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد جميع المكلفين.

 

الآيتان: 18 - 19 ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين، الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون )

 

قوله تعالى: « ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا » أي لا أحد أظلم منهم لأنفسهم لأنهم افتروا على الله كذبا؛ فأضافوا كلامه إلى غيره؛ وزعموا أن له شريكا وولدا، وقالوا للأصنام هؤلاء شفعاؤنا عند الله. « أولئك يعرضون على ربهم » أي يحاسبهم على أعمالهم « ويقول الأشهاد » يعني الملائكة الحفظة؛ عن مجاهد وغيره؛ وقال سفيان: سألت الأعمش عن ( الأشهاد ) فقال: الملائكة. الضحاك: هم الأنبياء والمرسلون؛ دليله قوله: « فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا » [ النساء: 41 ] . وقيل: الملائكة والأنبياء والعلماء الذين بلغوا الرسالات. وقال قتادة: عن الخلائق أجمع. وفي صحيح مسلم من حديث صفوان بن محرز عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه قال: ( وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على الله ) . « ألا لعنة الله على الظالمين » أي بعده وسخطه وإبعاده من رحمته على الذين وضعوا العبادة في غير موضعها..

 

قوله تعالى: « الذين يصدون عن سبيل الله » يجوز أن تكون « الذين » في موضع خفض نعتا للظالمين، ويجوز أن تكون في موضع رفع؛ أي هم الذين. وقيل: هو ابتداء خطاب من الله تعالى؛ أي هم الذين يصدون أنفسهم وغيرهم عن الإيمان والطاعة. « ويبغونها عوجا » أي يعدلون بالناس عنها إلى المعاصي والشرك. « وهم بالآخرة هم كافرون » أعاد لفظ « هم » تأكيدا.

 

الآية: 20 ( أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون )

 

قوله تعالى: « أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض » أي فائتين من عذاب الله. وقال ابن عباس: لم يعجزوني أن آمر الأرض فتنخسف بهم. « وما كان لهم من دون الله من أولياء » يعني أنصارا، و « من » زائدة. وقيل: « ما » بمعنى الذي تقديره: أولئك لم يكونوا معجزين، لا هم ولا الذين كانوا لهم من أولياء من دون الله؛ وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما. « يضاعف لهم العذاب » أي على قدر كفرهم ومعاصيهم. « ما كانوا يستطيعون السمع » « ما » في موضع نصب على أن يكون المعنى: بما كانوا يستطيعون السمع. « وما كانوا يبصرون » ولم يستعملوا ذلك في استماع الحق وإبصاره. والعرب تقول: جزيته ما فعل وبما فعل؛ فيحذفون الباء مرة ويثبتونها أخرى؛ وأنشد سيبويه:

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به فقد تركتك ذا مال وذا نشب

ويجوز أن تكون « ما » ظرفا، والمعنى: يضاعف لهم أبدا، أي وقت استطاعتهم السمع والبصر، والله سبحانه يجعلهم في جهنم مستطيعي ذلك أبدا. ويجوز أن تكون « ما » نافية لا موضع لها؛ إذ الكلام قد تم قبلها، والوقف على العذاب كاف؛ والمعنى: ما كانوا يستطيعون في الدنيا أن يسمعوا سمعا ينتفعون به، ولا أن يبصروا إبصار مهتد. قال الفراء: ما كانوا يستطيعون السمع؛ لأن الله أضلهم في اللوح المحفوظ. وقال الزجاج: لبغضهم النبي صلى الله عليه وسلم وعداوتهم له لا يستطيعون أن يسمعوا منه ولا يفقهوا عنه. قال النحاس: وهذا معروف في كلام العرب؛ يقال: فلان لا يستطيع أن ينظر إلى فلان إذا كان ذلك ثقيلا عليه.

 

الآيتان: 21 - 22 ( أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون، لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون )

 

قوله تعالى: « أولئك الذين خسروا أنفسهم » ابتداء وخبر. « وضل عنهم ما كانوا يفترون » أي ضاع عنهم افتراؤهم وتلف. « لا جرم » للعلماء فيها أقوال؛ فقال الخليل وسيبويه: « لا جرم » بمعنى حق، فـ « لا » و « جرم » عندهما كلمة واحدة، و « أن » عندهما في موضع رفع؛ وهذا قول الفراء ومحمد بن يزيد؛ حكاه النحاس. قال المهدوي: وعن الخليل أيضا أن معناها لابد ولا محالة، وهو قول الفراء أيضا؛ ذكره الثعلبي. وقال الزجاج: « لا » ها هنا نفي وهو رد لقولهم: إن الأصنام تنفعهم؛ كأن المعنى لا ينفعهم ذلك، وجرم بمعنى كسب؛ أي كسب ذلك الفعل لهم الخسران، وفاعل كسب مضمر، و « أن » منصوبة بجرم، كما تقول كسب جفاؤك زيدا غضبه عليك؛ وقال الشاعر:

نصبنا رأسه في جذع نخل بما جرمت يداه وما اعتدينا

أي بما كسبت. وقال الكسائي: معنى « لا جرم » لا صد ولا منع عن أنهم. وقيل: المعنى لا قطع قاطع، فحذف الفاعل حين كثر استعماله؛ والجرم القطع؛ وقد جرم النخل واجترمه أي صرمه فهو جارم، وقوم وجرم وجرام وهذا زمن الجرام والجرام، وجرمت صوف الشاة أي جززته، وقد جرمت منه أي أخذت منه؛ مثل جلمت الشيء جلما أي قطعت، وجلمت الجزور أجلمها جلما إذا أخذت ما على عظامها من اللحم، وأخذت الشيء بجلمته - ساكنة اللام - إذا أخذته أجمع، وهذه جلمة الجزور - بالتحريك - أي لحمها أجمع؛ قاله الجوهري. قال النحاس: وزعم الكسائي أن فيها أربع لغات: لا جرم، ولا عن ذا جرم؛ ولا أن ذا جرم، قال: وناس من فزارة يقولون: لا جرأنهم بغير ميم. وحكى الفراء فيه لغتين أخريين قال: بنو عامر يقولون لا ذا جرم، قال: وناس من العرب. يقولون: لا جرم بضم الجيم.

 

الآية: 23 ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون )

 

قوله تعالى: « إن الذين آمنوا » « الذين » اسم « إن » و « آمنوا » صلة، أي صدقوا. « وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم » عطف على الصلة. قال ابن عباس: ( أخبتوا أنابوا ) . مجاهد: أطاعوا. قتادة: خشعوا وخضعوا. مقاتل: أخلصوا. الحسن: الإخبات الخشوع للمخافة الثابتة في القلب، وأصل الإخبات الاستواء، من الخبت وهو الأرض المستوية الواسعة: فالإخبات الخشوع والاطمئنان، أو الإنابة إلى الله عز وجل المستمرة ذلك على استواء. « إلى ربهم » قال الفراء: إلى ربهم ولربهم واحد، وقد يكون المعنى: وجهوا إخباتهم إلى ربهم. « أولئك » خبر « إن » .

 

الآية: 24 ( مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون )

 

قوله تعالى: « مثل الفريقين » ابتداء، والخبر « كالأعمى » وما بعده. قال الأخفش: أي كمثل الأعمى. النحاس: التقدير مثل فريق الكافر كالأعمى والأصم، ومثل فريق المؤمن كالسميع والبصير؛ ولهذا قال: « هل يستويان » فرد إلى الفريقين وهما اثنان روي معناه عن قتادة وغيره. قال الضحاك: الأعمى والأصم مثل للكافر، والسميع والبصير مثل للمؤمن. وقيل: المعنى هل يستوي الأعمى والبصير، وهل يستوي الأصم والسميع. « مثلا » منصوب على التمييز. « أفلا تذكرون » في الوصفين وتنظرون.

 

الآيتان: 25 - 26 ( ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين، أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم )

 

قوله تعالى: « ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه » ذكر سبحانه قصص الأنبياء عليهم السلام للنبي صلى الله عليه وسلم تنبيها له على ملازمة الصبر على أذى الكفار إلى أن يكفيه الله أمرهم. « إني » أي فقال: إني؛ لأن في الإرسال معنى القول. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي « أني » بفتح الهمزة؛ أي أرسلناه بأني لكم نذير مبين. ولم يقل « إنه » لأنه رجع من الغيبة إلى خطاب نوح لقومه؛ كما قال: « وكتبنا له في الألواح من كل شيء » [ الأعراف: 145 ] ثم قال: « فخذها بقوة » [ الأعراف 145 ] .

 

قوله تعالى: « ألا تعبدوا إلا الله » أي اتركوا الأصنام فلا تعبدوها، وأطيعوا الله وحده. ومن قرأ « إني » بالكسر جعله معترضا في الكلام، والمعنى أرسلناه بألا تعبدوا إلا الله. « إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم » .

 

الآية: 27 ( فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين )

 

قوله تعالى: « فقال الملأ » قال أبو إسحاق الزجاج: الملأ الرؤساء؛ أي هم مليؤون بما يقولون. وقد تقدم هذا في « البقرة » وغيرها. « ما نراك إلا بشرا » أي آدميا. « مثلنا » نصب على الحال. و « مثلنا » مضاف إلى معرفة وهو نكرة يقدر فيه التنوين؛ كما قال الشاعر:

يا رب مثلك في النساء غريرة

 

قوله تعالى: « وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا » أراذل جمع أرذل وأرذل جمع رذل؛ مثل كلب وأكلب وأكالب. وقيل: والأراذل جمع الأرذل، كأساود جمع الأسود من الحيات. والرذل النذل؛ أرادوا اتبعك أخساؤنا وسقطنا وسفلتنا. قال الزجاج: نسبوهم إلى الحياكة؛ ولم يعلموا أن الصناعات لا أثر لها في الديانة. قال النحاس: الأراذل هم الفقراء، والذين لا حسب لهم، والخسيسو الصناعات. وفي الحديث ( أنهم كانوا حاكة وحجامين ) . وكان هذا جهلا منهم؛ لأنهم عابوا نبي الله صلى الله عليه وسلم بما لا عيب فيه؛ لأن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، إنما عليهم أن يأتوا بالبراهين والآيات، وليس عليهم تغيير الصور والهيئات، وهم يرسلون إلى الناس جميعا، فإذا أسلم منهم الدنيء لم يلحقهم من ذلك نقصان؛ لأن عليهم أن يقبلوا إسلام كل من أسلم منهم.

قلت: الأراذل هنا هم الفقراء والضعفاء؛ كما قال هرقل لأبي سفيان: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم؛ فقال: هم أتباع الرسل. قال علماؤنا: إنما كان ذلك لاستيلاء الرياسة على الأشراف، وصعوبة الانفكاك عنها، والأنفة من الانقياد للغير؛ والفقير خلي عن تلك الموانع، فهو سريع إلى الإجابة والانقياد. وهذا غالب أحوال أهل الدنيا.

 

اختلف العلماء في تعيين السفلة على أقوال؛ فذكر ابن المبارك عن سفيان أن السفلة هم الذين يتقلسون، ويأتون أبواب القضاة والسلاطين يطلبون الشهادات وقال ثعلب عن ابن الأعرابي: السفلة الذين يأكلون لدنيا بدينهم؛ قيل له: فمن سفلة السفلة؟ قال: الذي يصلح دنيا غيره بفساد دينه. وسئل علي رضي الله عنه عن السفلة فقال: الذين إذا اجتمعوا غلبوا؛ وإذا تفرقوا لم يعرفوا. وقيل لمالك بن أنس رضي الله عنه: من السفلة؟ قال: الذي يسب الصحابة. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: ( الأرذلون الحاكة والحجامون ) . يحيى بن أكثم: الدباغ والكناس إذا كان من غير العرب.

إذا قالت المرأة لزوجها: يا سَفِلة، فقال: إن كنت منهم فأنت طالق؛ فحكى النقاش أن رجلا جاء إلى الترمذي فقال: إن امرأتي قالت لي يا سفلة، فقلت: إن كنت سفلة فأنت طالق؛ قال الترمذي: ما صناعتك؟ قال: سماك؛ قال: سفلة والله، سفلة والله سفلة. قلت: وعلى ما ذكره ابن المبارك عن سفيان لا تطلق، وكذلك على قول مالك، وابن الأعرابي لا يلزمه شيء.

 

قوله تعالى: « بادي الرأي » أي ظاهر الرأي، وباطنهم على خلاف ذلك. يقال: بدا يبدو. إذا ظهر؛ كما قال:

فاليوم حين بدون للنظار

ويقال للبرية بادية لظهورها. وبدا لي أن أفعل كذا، أي ظهر لي رأي غير الأول. وقال الأزهري: معناه فيما يبدو لنا من الرأي. ويجوز أن يكون « بادي الرأي » من بدأ يبدأ وحذف الهمزة. وحقق أبو عمرو الهمزة فقرأ: « بادئ الرأي » أي أول الرأي؛ أي اتبعوك حين ابتدؤوا ينظرون، ولو أمعنوا النظر والفكر لم يتبعوك؛ ولا يختلف المعنى ههنا بالهمز وترك الهمز. وانتصب على حذف « في » كما قال عز وجل: « واختار موسى قومه » [ الأعراف: 155 ] . « وما نرى لكم علينا من فضل » أي في اتباعه؛ وهذا جحد منهم لنبوته صلى الله عليه وسلم « بل نظنكم كاذبين » الخطاب لنوح ومن آمن معه.

 

الآية: 28 ( قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون )

 

قوله تعالى: « قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي » أي على يقين؛ قاله أبو عمران الجوني. وقيل: على معجزة؛ وقد تقدم في « الأنعام » هذا المعنى. « وآتاني رحمة من عنده » أي نبوة ورسالة؛ عن ابن عباس؛ ( وهي رحمة على الخلق ) . وقيل: الهداية إلى الله بالبراهين. وقيل: بالإيمان والإسلام. « فعميت عليكم » أي عميت عليكم الرسالة والهداية فلم تفهموها. يقال: عميت عن كذا، وعمي علي كذا أي لم أفهمه. والمعنى: فعميت الرحمة؛ فقيل: هو مقلوب؛ لأن الرحمة لا تعمى إنما يعمى عنها؛ فهو كقولك: أدخلت في القلنسوة رأسي، ودخل الخف في رجلي. وقرأها الأعمش وحمزة والكسائي « فعميت » بضم العين وتشديد الميم على ما لم يسم فاعله، أي فعماها الله عليكم؛ وكذا في قراءة أبي « فعماها » ذكرها الماوردي. « أنلزمكموها » قيل: شهادة أن لا إله إلا الله. وقيل: الهاء ترجع إلى الرحمة. وقيل: إلى البينة؛ أي أنلزمكم قبولها، وأوجبها عليكم؟ ! وهو استفهام بمعنى الإنكار؛ أي لا يمكنني أن أضطركم إلى المعرفة بها؛ وإنما قصد نوح عليه السلام بهذا القول أن يرد عليهم. وحكى الكسائي والفراء « أنلزمكموها » بإسكان الميم الأولى تخفيفا؛ وقد أجاز مثل هذا سيبويه، وأنشد:

فاليوم أشرب غير مستحقب إثما من الله ولا واغل

وقال النحاس: ويجوز على قول يونس [ في غير القرآن ] أنلزمكمها يجري المضمر مجرى المظهر؛ كما تقول: أنلزمكم ذلك. « وأنتم لها كارهون » أي لا يصح قبولكم لها مع الكراهة عليها. قال قتادة: والله لو استطاع نبي الله نوح عليه السلام لألزمها قومه ولكنه لم يملك ذلك.

 

الآية: 29 ( ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون )

 

قوله تعالى: « ويا قوم لا أسألكم عليه مالا » أي على التبليغ، والدعاء إلى الله، والإيمان به أجرا أي « مالا » فيثقل عليكم. « إن أجري إلا على الله » أي ثوابي في تبليغ الرسالة. « وما أنا بطارد الذين آمنوا » سألوه أن يطرد الأراذل الذين آمنوا به، كما سألت قريش النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرد الموالي والفقراء، حسب ما تقدم في « الأنعام » بيانه؛ فأجابهم بقوله: « وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم » يحتمل أن يكون قال هذا على وجه الإعظام لهم بلقاء الله عز وجل، ويحتمل أن يكون قاله على وجه الاختصام؛ أي لو فعلت ذلك لخاصموني عند الله، فيجازيهم على إيمانهم، ويجازي من طردهم. « ولكني أراكم قوما تجهلون » في استرذالكم لهم، وسؤالكم طردهم.

 

الآية: 30 ( ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون )

 

قوله تعالى: « ويا قوم من ينصرني من الله » قال الفراء: أي يمنعني من عذابه. « إن طردتهم » أي لأجل إيمانهم. « أفلا تتذكرون » أدغمت التاء في الذال. ويجوز حذفها فتقول: تَذَكرون.

 

الآية: 31 ( ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين )

 

قوله تعالى: « ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب » أخبر بتذلله وتواضعه لله عز وجل، وأنه لا يدعي ما ليس له من خزائن الله؛ وهي إنعامه على من يشاء من عباده؛ وأنه لا يعلم الغيب؛ لأن الغيب لا يعلمه إلا الله عز وجل. « ولا أقول إني ملك » أي لا أقول إن منزلتي عند الناس منزلة الملائكة. وقد قالت العلماء: الفائدة في الكلام الدلالة على أن الملائكة أفضل من الأنبياء؛ لدوامهم على الطاعة، واتصال عباداتهم إلى يوم القيامة، صلوات الله عليهم أجمعين. وقد تقدم هذا المعنى في « البقرة » . « ولا أقول للذي تزدري أعينكم » أي تستثقل وتحتقر أعينكم؛ والأصل تزدريهم حذفت الهاء والميم لطول الاسم. والدال مبدلة من تاء؛ لأن الأصل في تزدري تزتري، ولكن التاء تبدل بعد الزاي دالا؛ لأن الزاي مجهورة والتاء مهموسة، فأبدل من التاء حرف مجهور من مخرجها. ويقال: أزريت عليه إذا عبته. وزريت عليه إذا حقرته. وأنشد الفراء:

يباعده الصديق وتزدريه حليلته وينهره الصغير

 

قوله تعالى: « لن يؤتيهم الله خيرا » أي ليس لاحتقاركم لهم تبطل أجورهم، أو ينقص ثوابهم.

 

قوله تعالى: « الله أعلم بما في أنفسهم » فيجازيهم عليه ويؤاخذهم به. « إني إذا لمن الظالمين » أي إن قلت هذا الذي تقدم ذكره. و « إذا » ملغاة؛ لأنها متوسطة.

 

الآية: 32 ( قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين )

 

قوله تعالى: « قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا » أي خاصمتنا فأكثرت خصومتنا وبالغت فيها. والجدل في كلام العرب المبالغة في الخصومة؛ مشتق من الجدل وهو شدة الفتل؛ ويقال للصقر أيضا أجدل لشدته في الطير؛ وقد مضى هذا المعنى في « الأنعام » بأشبع من هذا. وقرأ ابن عباس « فأكثرت جدلنا » ذكره النحاس. والجدل في الدين محمود؛ ولهذا جادل نوج والأنبياء قومهم حتى يظهر الحق، فمن قبله أنجح وأفلح، ومن رده خاب وخسر. وأما الجدال لغير الحق حتى يظهر الباطل في صورة الحق فمذموم، وصاحبه في الدارين ملوم. « فأتنا بما تعدنا » أي من العذاب. « إن كنت من الصادقين » في قولك.

 

الآية: 33 ( قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين )

 

قوله تعالى: « قال إنما يأتيكم به الله إن شاء » أي إن أراد إهلاككم عذبكم. « وما أنتم بمعجزين » أي بفائتين. وقيل: بغالبين بكثرتكم، لأنهم أعجبوا بذلك؛ كانوا ملؤوا الأرض سهلا وجبلا على ما يأتي.

 

الآية: 34 ( ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون )

 

قوله تعالى: « ولا ينفعكم نصحي » أي إبلاغي واجتهادي في إيمانكم. « إن أردت أن أنصح لكم » أي لأنكم لا تقبلون نصحا؛ وقد تقدم في « براءة » معنى النصح لغة. « »

 

قوله تعالى: « إن كان الله يريد أن يغويكم » أي يضلكم. وهذا مما يدل على بطلان مذهب المعتزلة والقدرية ومن وافقهما؛ إذ زعموا أن الله تعالى لا يريد أن يعصي العاصي، ولا يكفر الكافر، ولا يغوي الغاوي؛ وأن يفعل ذلك، والله لا يريد ذلك؛ فرد الله عليهم بقوله: « إن كان الله يريد أن يغويكم » . وقد مضى هذا المعنى في « الفاتحة » وغيرها. وقد أكذبوا شيخهم اللعين إبليس على ما بيناه في « الأعراف » في إغواء الله تعالى إياه حيث قال: « فبما أغويتني » [ الأعراف: 16 ] ولا محيص لهم عن قول نوح عليه السلام: « إن كان الله يريد أن يغويكم » فأضاف إغواءهم إلى الله سبحانه وتعالى؛ إذ هو الهادي والمضل؛ سبحانه عما يقول الجاحدون والظالمون علوا كبيرا. وقيل: « أن يغويكم » يهلككم؛ لأن الإضلال يفضي إلى الهلاك. الطبري: « يغويكم » يهلككم بعذابه؛ حكي عن طيء أصبح فلان غاويا أي مريضا، وأغويته أهلكته؛ ومنه « فسوف يلقون غيا » . [ مريم: 59 ] . « هو ربكم » فإليه الإغواء، وإليه الهداية. « وإليه ترجعون » تهديد ووعيد.

 

الآية: 35 ( أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون )

 

قوله تعالى: « أم يقولون افتراه » يعنون النبي صلى الله عليه وسلم. افترى أفتعل؛ أي اختلق القرآن من قبل نفسه، وما أخبر به عن نوح وقومه؛ قال مقاتل. وقال ابن عباس: ( هو من محاورة نوح لقومه ) وهو أظهر؛ لأنه ليس قبله ولا بعده إلا ذكر نوح وقومه؛ فالخطاب منهم ولهم. « قل إن افتريته » أي اختلقته وافتعلته، يعني الوحي والرسالة. « فعلي إجرامي » أي عقاب إجرامي، وإن كنت محقا فيما أقوله فعليكم عقاب تكذيبي. والإجرام مصدر أجرم؛ وهو اقتراف السيئة. وقيل المعنى: أي جزاء جرمي وكسبي. وجرم وأجرم بمعنى؛ عن النحاس وغيره. قال:

طريد عشيرة ورهين جرم بما جرمت يدي وجنى لساني

ومن قرأ « أجرامي » بفتح الهمزة ذهب إلى أنه جمع جرم؛ وذكره النحاس أيضا. « وأنا بريء مما تجرمون » أي من الكفر والتكذيب.

 

الآية: 36 ( وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون )

 

قوله تعالى: « وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن » « أنه » في موضع رفع على أنه اسم ما لم يسم فاعله. ويجوز أن يكون في موضع نصب، ويكون التقدير: بـ « أنه » . و « آمن » في موضع نصب بـ « يؤمن » ومعنى الكلام الإياس من إيمانهم، واستدامة كفرهم، تحقيقا لنزول الوعيد بهم. قال الضحاك: فدعا عليهم لما أخبر بهذا فقال: « رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا » [ نوح: 26 ] الآيتين. وقيل: إن رجلا من قوم نوح حمل ابنه على كتفه، فلما رأى الصبي نوحا قال لأبيه: اعطني حجرا؛ فأعطاه حجرا، ورمى به نوحا عليه السلام فأدماه؛ فأوحى الله تعالى إليه « أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن » . « فلا تبتئس بما كانوا يفعلون » أي فلا تغتم بهلاكهم حتى تكون بائسا؛ أي حزينا. والبؤس الحزن؛ ومنه قول الشاعر:

وكم من خليل أو حميم رزئته فلم أبتئس والرزء فيه جليل

يقال: ابتأس الرجل إذا بلغه شيء يكرهه. والابتئاس حزن في استكانة.

 

الآية: 37 ( واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون )

 

قوله تعالى: « واصنع الفلك بأعيننا ووحينا » أي اعمل السفينة لتركبها أنت ومن آمن معك. « بأعيننا » أي بمرأى منا وحيث نراك. وقال الربيع بن أنس: بحفظنا إياك حفظ من يراك. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ( بحراستنا ) ؛ والمعنى واحد؛ فعبر عن الرؤية بالأعين؛ لأن الرؤية تكون بها. ويكون جمع الأعين للعظمة لا للتكثير؛ كما قال تعالى: « فنعم القادرون » [ المرسلات: 23 ] « فنعم الماهدون » « وإنا لموسعون » [ الذاريات: 47 ] . وقد يرجع معنى الأعين في هذه الآية وغيرها إلى معنى عين؛ كما قال: « ولتصنع على عيني » وذلك كله عبارة عن الإدراك والإحاطة، وهو سبحانه منزه عن الحواس والتشبيه والتكييف؛ لا رب غيره. وقيل: المعنى « بأعيننا » أي بأعين ملائكتنا الذين جعلناهم عيونا على حفظك ومعونتك؛ فيكون الجمع على هذا التكثير على بابه. وقيل: « بأعيننا » أي بعلمنا؛ قاله مقاتل: وقال الضحاك وسفيان: « بأعيننا » بأمرنا. وقيل: بوحينا. وقيل: بمعونتنا لك على صنعها. « ووحينا » أي على ما أوحينا إليك، من صنعتها. « ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون » أي لا تطلب إمهالهم فإني مغرقهم.

 

الآية: 38 ( ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون )

 

قوله تعالى: « ويصنع الفلك » أي وطفق يصنع. قال زيد بن أسلم: مكث نوح صلى الله عليه وسلم مائة سنة يغرس الشجر ويقطعها وييبسها، ومائة سنة يعملها. وروى ابن القاسم عن ابن أشرس عن مالك قال: بلغني أن قوم نوح ملؤوا الأرض، حتى ملؤوا السهل والجبل، فما يستطيع هؤلاء أن ينزلوا إلى هؤلاء، ولا هؤلاء أن يصعدوا إلى هؤلاء فمكث نوح يغرس الشجر مائة عام لعمل السفينة، ثم جمعها ييبسها مائة عام، وقومه يسخرون؛ وذلك لما رأوه يصنع من ذلك، حتى كان من قضاء الله فيهم ما كان. وروي عن عمرو بن الحارث قال: عمل نوح سفينته ببقاع دمشق، وقطع خشبها من جبل لبنان. وقال، القاضي أبو بكر بن العربي: لما استنقذ الله سبحانه وتعالى من في الأصلاب والأرحام من المؤمنين أوحى الله إليه. « أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن » « فاصنع الفلك » قال: يا رب ما أنا بنجار، قال: « بلى فإن ذلك بعيني » فأخذ القدوم فجعله بيده، وجعلت يده لا تخطئ، فجعلوا يمرون به ويقولون: هذا الذي يزعم أنه نبي صار نجارا؛ فعملها في أربعين سنة.

وحكى الثعلبي وأبو نصر القشيري عن، ابن عباس قال: ( اتخذ نوح السفينة في سنتين ) . زاد الثعلبي: وذلك لأنه لم يعلم كيف صنعة الفلك، فأوحى الله إليه أن اصنعها كجؤجؤ الطائر. وقال كعب: بناها في ثلاثين سنة، والله أعلم. المهدوي: وجاء في الخبر أن الملائكة كانت تعلمه كيف يصنعها. واختلفوا في طولها وعرضها؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما ( كان طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسون، وسمكها ثلاثون ذراعا؛ وكانت من خشب الساج ) . وكذا قال الكلبي وقتادة وعكرمة كان طولها ثلاثمائة ذراع، والذراع إلى المنكب. قال سلمان الفارسي. وقال الحسن البصري: إن طول السفينة ألف ذراع ومائتا ذراع، وعرضها ستمائة ذراع. وحكاه الثعلبي في كتاب العرائس. وروى علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال: ( قال الحواريون لعيسى عليه السلام: لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة يحدثنا عنها، فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب فأخذ كفا من ذلك التراب، قال أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا كعب حام بن نوح قال فضرب الكثيب بعصاه وقال: قم بإذن الله فإذا هو قائم ينفض التراب من رأسه، وقد شاب؛ فقال له عيسى: أهكذا هلكت؟ قال: لا بل مت وأنا شاب، ولكنني ظننت أنها الساعة فمن ثم شبت. قال: أخبرنا عن سفينة نوح؟ قال: كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع، وكانت ثلاث طبقات، طبقة فيها الدواب والوحش، وطبقة فيها الإنس، وطبقة فيها الطير. وذكر باقي الخير على ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى ) . وقال الكلبي فيما حكاه النقاش: ودخل الماء فيها أربعة أذرع، وكان لها ثلاثة أبواب؛ باب فيه السباع والطير، وباب فيه الوحش، وباب فيه الرجال والنساء. ابن عباس جعلها ثلاث بطون؛ البطن الأسفل للوحوش والسباع والدواب، والأوسط للطعام والشراب، وركب هو في البطن الأعلى، وحمل معه جسد آدم عليه السلام معترضا ببن الرجال والنساء، ثم دفنه بعد ببيت المقدس؛ وكان إبليس معهم في الكوثل. وقيل: جاءت الحية والعقرب لدخول السفينة فقال نوح: لا أحملكما؛ لأنكما سبب الضرر والبلاء، فقالتا: احملنا فنحن نضمن لك ألا نضر أحدا ذكرك؛ فمن قرأ حين يخاف مضرتهما « سلام على نوح في العالمين » [ الصافات: 79 ] لم تضراه؛ ذكره القشيري وغيره. وذكر الحافظ ابن عساكر في التاريخ له مرفوعا من حديث أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من قال حين يمسي صلى الله على نوح وعلى نوح السلام لم تلدغه عقرب تلك الليلة ) . قوله تعالى: « وكلما » ظرف. « مر عليه ملأ من قومه سخروا منه » قال الأخفش والكسائي يقال: سخرت به ومنه. وفي سخريتهم منه قولان: أحدهما: أنهم كانوا يرونه يبني سفينته في البر، فيسخرون به ويستهزئون ويقولون: يا نوح صرت بعد النبوة نجارا. الثاني: لما رأوه يبني السفينة ولم يشاهدوا قبلها سفينة بنيت قالوا: يا نوح ما تصنع؟ قال: أبني بيتا يمشي على الماء؛ فعجبوا من قوله وسخروا منه. قال ابن عباس: ( ولم يكن في الأرض قبل الطوفان نهر ولا بحر ) ؛ فلذلك سخروا منه؛ ومياه البحار هي بقية الطوفان. « إن تسخروا منا فإنا » أي من فعلنا اليوم عند بناء السفينة. « فإنا نسخر منكم » غدا عند الغرق. والمراد بالسخرية هنا الاستجهال؛ ومعناه إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم كما تستجهلونا.

 

الآية: 39 ( فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم )

 

قوله تعالى: « فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه » تهديد، و « من » متصلة بـ « سوف تعلمون » و « تعلمون » هنا من باب التعدية إلى مفعول؛ أي فسوف تعلمون الذي يأتيه العذاب. ويجوز أن تكون « من » استفهامية؛ أي أينا يأتيه العذاب؟. وقيل: « من » في موضع رفع بالابتداء و « يأتيه » الخبر، و « يخزيه » صفة لـ « عذاب » . وحكى الكسائي: أن أناسا من أهل الحجاز يقولون: سو تعلمون؛ وقال من قال: « ستعلمون » أسقط الواو والفاء جميعا. وحكى الكوفيون: سف تعلمون؛ ولا يعرف البصريون إلا سوف تفعل، وستفعل لغتان ليست إحداهما من الأخرى « ويحل عليه » أي يجب عليه وينزل به. « عذاب مقيم » أي دائم، يريد عذاب الآخرة.

 

الآية: 40 ( حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل )

 

قوله تعالى: « حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور » اختلف في التنور على أقوال سبعة: الأول: أنه وجه الأرض، والعرب تسمي وجه الأرض تنورا؛ قاله ابن عباس وعكرمة والزهري وابن عيينة؛ وذلك أنه قيل له: إذا رأيت الماء على وجه الأرض فاركب أنت ومن معك. الثاني: أنه تنور الخبز الذي يخبز فيه؛ وكان تنورا من حجارة؛ وكان لحواء حتى صار لنوح؛ فقيل له: إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت وأصحابك. وأنبع الله الماء من التنور، فعلمت به امرأته فقالت: يا نوح فار الماء من التنور؛ فقال: جاء وعد ربي حقا. هذا قول الحسن؛ وقال مجاهد وعطية عن ابن عباس. الثالث: أنه موضع اجتماع الماء في السفينة؛ عن الحسن أيضا.

الرابع: أنه طلوع الفجر، ونور الصبح؛ من قولهم: نور الفجر تنويرا؛ قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه. الخامس: أنه مسجد الكوفة؛ قاله علي بن أبي طالب أيضا؛ وقال مجاهد. قال مجاهد: كان ناحية التنور بالكوفة. وقال: اتخذ نوح السفينة في جوف مسجد الكوفة، وكان التنور على يمين الداخل مما يلي كندة. وكان فوران الماء منه علما لنوح، ودليلا على هلاك قومه. قال الشاعر وهو أمية:

فار تنورهم وجاش بماء صار فوق الجبال حتى علاها

السادس: أنه أعالي الأرض، والمواضع المرتفعة منها؛ قاله قتادة. السابع: أنه العين التي بالجزيرة « عين الوردة » رواه عكرمة. وقال مقاتل: كان ذلك تنور آدم، وإنما كان بالشام بموضع يقال له: « عين وردة » وقال ابن عباس أيضا: ( فار تنور آدم بالهند ) . قال النحاس: وهذه الأقوال ليست بمتناقضة؛ لأن الله عز وجل أخبرنا أن الماء جاء من السماء والأرض؛ قال: « ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر. وفجرنا الأرض عيونا » [ القمر:11 - 12 ] . فهذه الأقوال تجتمع في أن ذلك كان علامة. والفوران الغليان. والتنور اسم أعجمي عربته العرب، وهو على بناء فعل؛ لأن أصل بنائه تنر، وليس في كلام العرب نون قبل راء. وقيل: معنى « فار التنور » التمثيل لحضور العذاب؛ كقولهم: حمي الوطيس إذا اشتدت الحرب. والوطيس التنور. ويقال: فارت قدر القوم إذا اشتد حربهم؛ قال شاعرهم:

تركتم قدركم لا شيء فيها وقدر القوم حامية تفور

 

قوله تعالى: « قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين » يعني ذكرا وأنثى؛ لبقاء أصل النسل بعد الطوفان. وقرأ حفص « من كل زوجين اثنين » بتنوين « كل » أي من كل شيء زوجين. والقراءتان ترجعان إلى معنى واحد: شيء معه آخر لا يستغني عنه. ويقال للاثنين: هما زوجان، في كل اثنين لا يستغني أحدهما عن صاحبه؛ فإن العرب تسمي كل واحد منهما زوجا يقال: له زوجا نعل إذا كان له نعلان. وكذلك عنده زوجا حمام، وعليه زوجا قيود؛ قال الله تعالى: « وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى » . [ النجم: 45 ] . ويقال للمرأة هي زوج الرجل، وللرجل هو زوجها. وقد يقال للاثنين هما زوج، وقد يكون الزوجان بمعنى الضربين، والصنفين، وكل ضرب يدعى زوجا؛ قال الله تعالى: « وأنبتت من كل زوج بهيج » [ الحج: 5 ] أي من كل لون وصنف. وقال الأعشى:

وكل زوج من الديباج يلبسه أبو قدامة محبو بذاك معا

أراد كل ضرب ولون. و « ومن كل زوجين » في موضع نصب بـ « احمل » . « اثنين » تأكيد. « وأهلك » أي وأحمل أهلك. « إلا من » « من » في موضع نصب بالاستثناء. « عليه القول » منهم أي بالهلاك؛ وهو ابنه كنعان وامرأته واعلة كانا كافرين. « ومن آمن » قال الضحاك وابن جريج: أي احمل من آمن بي، أي من صدقك؛ فـ « من » في موضع نصب بـ « احمل » . « وما آمن معه إلا قليل » قال ابن عباس رضي الله عنهما: ( آمن من قومه ثمانون إنسانا، منهم ثلاثة من بنيه؛ سام وحام ويافث، وثلاث كنائن له. ولما خرجوا من السفينة بنوا قرية وهي اليوم تدعى قرية الثمانين بناحية الموصل ) . وورد في الخبر أنه كان في السفينة ثمانية أنفس؛ نوح وزوجته غير التي عوقبت، وبنوه الثلاثة وزوجاتهم؛ وهو قول قتادة والحكم بن عتيبة وابن جريج ومحمد بن كعب؛ فأصاب حام امرأته في السفينة، فدعا نوح الله أن يغير نطفته فجاء بالسودان. قال عطاء: ودعا نوح على حام ألا يعدو شعر أولاده آذانهم، وأنهم حيثما كان ولده يكونون عبيدا لولد سام ويافث. وقال الأعمش: كانوا سبعة؛ نوح وثلاث كنائن وثلاثة بنين؛ وأسقط امرأة نوح. وقال ابن إسحاق: كانوا عشرة سوى نسائهم؛ نوح وبنوه سام وحام ويافث، وستة أناس ممن كان آمن به، وأزواجهم جميعا. و « قليل » رفع بآمن، ولا يجوز نصبه على الاستثناء، لأن الكلام قبله لم يتم، إلا أن الفائدة في دخول « إلا » و « ما » لأنك لو قلت: آمن معه فلان وفلان جاز أن يكون غيرهم قد أمن؛ فإذا جئت بما وإلا، أوجبت لما بعد إلا ونفيت عن غيرهم.

 

الآية: 41 ( وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم )

 

قوله تعالى: « وقال اركبوا فيها » أمر بالركوب؛ ويحتمل أن يكون من الله تعالى، ويحتمل أن يكون من نوح لقومه. والركوب العلو على ظهر الشيء. ويقال: ركبه الدين. وفي الكلام حذف؛ أي اركبوا الماء في السفينة. وقيل: المعنى اركبوها. و « في » للتأكيد كقوله تعالى: « إن كنتم للرؤيا تعبرون » [ يوسف: 43 ] وفائدة « في » أنهم أمروا أن يكونوا في جوفها لا على ظهرها. قال عكرمة: ركب نوح عليه السلام في الفلك لعشر خلون من رجب، واستوت على الجودي لعشر خلون من المحرم؛ فذلك ستة أشهر؛ وقال قتادة وزاد؛ وهو يوم عاشوراء؛ فقال لمن كان معه: من كان صائما فليتم صومه، ومن لم يكن صائما فليصمه. وذكر الطبري في هذا حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أن نوحا ركب في السفينة أول يوم من رجب، وصام الشهر أجمع، وجرت بهم السفينة إلى يوم عاشوراء، ففيه أرست على الجودي، فصامه نوح ومن معه ) . وذكر الطبري عن ابن إسحاق ما يقتضي أنه أقام على الماء نحو السنة، ومرت بالبيت فطافت به سبعا، وقد رفعه الله عن الغرق فلم ينله غرق، ثم مضت إلى اليمن ورجعت إلى الجودي فاستوت عليه.

 

قوله تعالى: « بسم الله مُجراها ومُرساها » قراءة أهل الحرمين وأهل البصرة بضم الميم فيهما إلا من شذ، على معنى بسم الله إجراؤها وإرساؤها؛ فمجراها ومرساها في موضع رفع بالابتداء؛ ويجوز أن تكون في موضع نصب، ويكون التقدير: بسم الله وقت إجرائها ثم حذف وقت، وأقيم « مجراها » مقامه. وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي: « بسم الله مَجريها » بفتح الميم و « مُرساها » بضم الميم. وروى يحيى بن عيسى عن الأعمش عن يحيى بن وثاب « بسم الله مَجراها ومَرساها » بفتح الميم فيهما؛ على المصدر من جرت تجري جريا ومجرى، ورست رسوا ومرسى إذا ثبتت. وقرأ مجاهد وسليمان بن جندب وعاصم الجحدري وأبو رجاء العطاردي: « بسم الله مُجريها ومُرسيها » نعت لله عز وجل في موضع جر. ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ؛ أي هو مجريها ومرسيها. ويجوز النصب على الحال. وقال الضحاك. كان نوح عليه السلام إذا قال بسم الله مجراها جرت، وإذا قال بسم الله مرساها رست. وروى مروان بن سالم عن طلحة بن عبدالله بن كريز عن الحسين بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا في الفلك بسم الله الرحمن الرحيم « وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون » [ الزمر: 67 ] « بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم » . وفي هذه الآية دليل، على ذكر البسملة عند ابتداء كل فعل؛ كما بيناه في البسملة؛ والحمد لله.

 

قوله تعالى: « إن ربي لغفور رحيم » أي لأهل السفينة. وروي عن ابن عباس قال: ( لما كثرت الأرواث والأقذار أوحى الله إلى نوح اغمز ذنب الفيل، فوقع منه خنزير وخنزيرة فأقبلا على الروث؛ فقال نوح: لو غمزت ذنب هذا الخنزير! ففعل، فخرج منه فأر وفأرة فلما وقعا أقبلا على السفينة وحبالها تقرضها، وتقرض الأمتعة والأزواد حتى خافوا عل حبال السفينة؛ فأوحى الله إلى نوح أن امسح جبهة الأسد فمسحها، فخرج منها سنوران فأكلا الفئرة. ولما حمل الأسد في السفينة قال: يا رب من أين أطعمه؟ قال: سوف أشغله؛ فأخذته الحمى؛ فهو الدهر محموم. قال ابن عباس: ( وأول ما حمل نوح من البهائم في الفلك حمل الإوزة، وآخر ما حمل حمل الحمار ) ؛ قال: وتعلق إبليس بذنبه، ويداه قد دخلتا في السفينة، ورجلاه خارجة بعد فجعل الحمار يضطرب ولا يستطيع أن يدخل، فصاح به نوح: ادخل ويلك فجعل يضطرب؛ فقال: ادخل ويلك وإن كان معك الشيطان، كلمة زلت على لسانه، فدخل ووثب الشيطان فدخل. ثم إن نوحا رآه يغني في السفينة، فقال له: يا لعين ما أدخلك بيتي؟ قال: أنت أذنت لي؛ فذكر له؛ فقال له: قم فأخرج. قال: مالك بد في أن تحملني معك، فكان فيما يزعمون في ظهر الفلك. وكان مع نوح عليه السلام خرزتان مضيئتان، واحدة مكان الشمس، والأخرى مكان القمر. ابن عباس: ( إحداهما بيضاء كبياض النهار، والأخرى سوداء كسواد الليل ) ؛ فكان يعرف بهما مواقيت الصلاة؛ فإذا أمسوا غلب سواد هذه بياض هذه، وإذا أصبحوا غلب بياض هذه سواد هذه؛ على قدر الساعات.

 

الآية: 42 ( وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين )

 

قوله تعالى: « وهي تجري بهم في موج كالجبال » الموج جمع موجة؛ وهي ما ارتفع من جملة الماء الكثير عند اشتداد الريح. والكاف للتشبيه، وهي في موضع خفض نعت للموج. وجاء في التفسير أن الماء جاوز كل شيء بخمسة عشر ذراعا. « ونادى نوح ابنه » قيل: كان كافرا واسمه كنعان. وقيل: يام. ويجوز على قول سيبويه: « ونادى نوح ابنهُ » بحذف الواو من « ابنه » في اللفظ، وأنشد:

له زجل كأنه صوت حاد

فأما « ونادى نوح ابْنَهَ وَكان » فقراءة شاذة، وهي مروية عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وعروة بن الزبير. وزعم أبو حاتم أنها تجوز على أنه يريد « ابنها » فحذف الألف كما تقول: « ابنه » ؛ فتحذف الواو. وقال النحاس: وهذا الذي قال أبو حاتم لا يجوز على مذهب سيبويه؛ لأن الألف خفيفة فلا يجوز حذفها، والواو ثقيلة يجوز حذفها « وكان في معزل » أي من دين أبيه. وقيل: عن السفينة. وقيل: إن نوحا لم يعلم أن ابنه كان كافرا، وأنه ظن أنه مؤمن؛ ولذلك قال له: « ولا تكن مع الكافرين » وسيأتي. وكان هذا النداء من قبل أن يستيقن القوم الغرق؛ وقبل رؤية اليأس، بل كان في أول ما فار التنور، وظهرت العلامة لنوح. وقرأ عاصم: « يا بني اركب معنا » بفتح الياء، والباقون بكسرها. وأصل « يا بني » أن تكون بثلاث ياءات؛ ياء التصغير، وياء الفعل، وياء الإضافة؛ فأدغمت ياء التصغير في لام الفعل، وكسرت لام الفعل من أجل ياء الإضافة، وحذفت ياء الإضافة لوقوعها موقع التنوين، أو لسكونها وسكون الراء في هذا الموضع؛ هذا أصل قراءة من كسر الياء، وهو أيضا أصل قراءة من فتح؛ لأنه قلب ياء الإضافة ألفا لخفة الألف، ثم حذف الألف لكونها عوضا من حرف يحذف، أو لسكونها وسكون الراء. قال النحاس: أما قراءة عاصم فمشكلة؛ قال أبو حاتم: يريد يا بنياه ثم يحذف؛ قال النحاس: رأيت علي بن سليمان يذهب إلى أن هذا لا يجوز؛ لأن الألف خفيفة. قال أبو جعفر النحاس: ما علمت أن أحدا من النحويين جوز الكلام في هذا إلا أبا إسحاق؛ فإنه زعم أن الفتح من جهتين، والكسر من جهتين؛ فالفتح على أنه يبدل من الياء ألفا؛ قال الله عز وجل إخبارا: « يا ويلتا » [ هود: 72 ] وكما قال الشاعر:

فيا عجبا من رحلها المتحمل

فيريد يا بنيا، ثم تحذف الألف، لالتقاء الساكنين، كما تقول: جاءني عبدا الله في التثنية. والجهة الأخرى أن تحذف الألف؛ لأن النداء موضع حذف. والكسر على أن تحذف الياء للنداء. والجهة الأخرى على أن تحذفها لالتقاء الساكنين.

 

الآية: 43 ( قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين )

 

قوله تعالى: « قال سآوي » أي ارجع وانضم. « إلى جبل يعصمني » أي يمنعني « من الماء » فلا أغرق. « قال لا عاصم اليوم من أمر الله » أي لا مانع؛ فإنه يوم حق فيه العذاب على الكفار. وانتصب « عاصم » على التبرئة. ويجوز « لا عاصم اليوم » تكون لا بمعني ليس. « إلا من رحم » في موضع نصب استثناء ليس من الأول؛ أي لكن من رحمه الله فهو يعصمه، قال الزجاج. ويجوز أن يكون في موضع رفع، على أن عاصما بمعنى معصوم؛ مثل: « ماء دافق » [ الطارق: 6 ] أي مدفوق؛ فالاستثناء. على هذا متصل؛ قال الشاعر:

بطيء القيام رخيم الكلا م أمسى فؤادي به فاتنا

أي مفتونا. وقال آخر:

دع المكارم لا تنهض لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

أي المطعوم المكسو. قال النحاس: ومن أحسن ما قيل فيه أن تكون « من » في موضع رفع؛ بمعنى لا يعصم اليوم من أمر الله إلا الراحم؛ أي إلا الله. وهذا اختيار الطبري. ويحسن هذا أنك لم تجعل عاصما بمعنى معصوم فتخرجه من بابه، ولا « إنه » بمعنى « لكن » « وحال بينهما الموج » يعني بين نوح وابنه. « فكان من المغرقين » قيل: إنه كان راكبا على فرس قد بطر بنفسه، وأعجب بها؛ فلما رأى الماء جاء قال: يا أبت فار التنور، فقال له أبوه: « يا بني اركب معنا » فما استتم المراجعة حتى جاءت موجة عظيمة فالتقمته هو وفرسه، وحيل بينه وبين نوح فغرق. وقيل: إنه اتخذ لنفسه بيتا من زجاج يتحصن فيه من الماء، فلما فار التنور دخل فيه وأقفله عليه من داخل، فلم يزل يتغوط فيه ويبول حتى غرق بذلك. وقيل: إن الجبل الذي أوى إليه « طور سيناء » .

 

الآية: 44 ( وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين )

 

قوله تعالى: « وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي » هذا مجاز لأنها موات. وقيل: جعل فيها ما تميز به. والذي قال إنه مجاز قال: لو فتش كلام العرب والعجم ما وجد فيه مثل هذه الآية على حسن نظمها، وبلاغة رصفها، واشتمال المعاني فيها. وفي الأثر: إن الله تعالى لا يخلي الأرض من مطر عام أو عامين، وأنه ما نزل من السماء ماء قط إلا بحفظ ملك موكل به إلا ما كان من ماء الطوفان؛ فإنه خرج منه ما لا يحفظه الملك. وذلك قوله تعالى: « إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية » [ الحاقة: 11 ] فجرت بهم السفينة إلى أن تناهى الأمر؛ فأمر الله الماء المنهمر من السماء بالإمساك، وأمر الله الأرض بالابتلاع. ويقال: بلع الماء يبلعه مثل منع يمنع وبلع يبلع مثل حمد ويحمد؛ لغتان حكاهما الكسائي والفراء. والبالوعة الموضع الذي يشرب الماء. قال ابن العربي: التقى الماءان على أمر قد قدر، ما كان في الأرض وما نزل من السماء؛ فأمر الله ما نزل من السماء بالإقلاع، فلم تمتص الأرض منه قطرة، وأمر الأرض بابتلاع ما خرج منها فقط. وذلك قوله تعالى: « وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء » وقيل: ميز الله بين الماءين، فما كان من ماء الأرض أمرها فبلعته، وصار ماء السماء بحارا.

 

قوله تعالى: « وغيض الماء » أي نقص؛ يقال: غاض الشيء وغضته أنا؛ كما يقال: نقص بنفسه ونقصه غيره، ويجوز « غيض » بضم الغين. « وقضي الأمر » أي أحكم وفرغ منه؛ يعني أهلك قوم نوح على تمام وإحكام. ويقال: إن الله تعالى أعقم أرحامهم أي أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة، فلم يكن فيمن هلك صغير. والصحيح أنه أهلك الولدان بالطوفان، كما هلكت الطير والسباع. ولم يكن الغرق عقوبة للصبيان والبهائم والطير، بل ماتوا بآجالهم. وحكي أنه لما كثر الماء في السكك خشيت أم صبي عليه؛ وكانت تحبه حبا شديدا، فخرجت به إلى الجبل، حتى بلغت ثلثه، فلما بلغها الماء خرجت حتى بلغت ثلثيه، فلما بلغها الماء استوت على الجبل؛ فلما بلغ الماء رقبتها رفعت يديها بابنها حتى ذهب بها الماء؛ فلو رحم الله منهم أحدا لرحم أم الصبي.

 

قوله تعالى: « واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين » أي هلاكا لهم. الجودي جبل بقرب الموصل؛ استوت عليه في العاشر من المحرم يوم عاشوراء؛ فصامه نوح وأمر جميع من معه من الناس والوحش والطير والدواب وغيرها فصاموه، شكرا لله تعالى؛ وقد تقدم هذا المعنى. وقيل: كان ذلك يوم الجمعة. وروي أن الله تعالى أوحى إلى الجبال أن السفينة ترسي على واحد منها فتطاولت، وبقي الجودي لم يتطاول تواضعا لله، فاستوت السفينة عليه: وبقيت عليه أعوادها. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لقد بقي منها شيء أدركه أوائل هذه الأمة ) . وقال مجاهد: تشامخت الجبال وتطاولت لئلا ينالها الغرق؛ فعلا الماء فوقها خمسة عشر ذراعا، وتطامن الجودي، وتواضع لأمر الله تعالى فلم يغرق، ورست السفينة عليه. وقد قيل: إن الجودي اسم لكل جبل، ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل.

سبحانه ثم سبحانا يعود له وقبلنا سبح الجودي والجمد

ويقال: إن الجودي من جبال الجنة؛ فلهذا استوت عليه. ويقال: أكرم الله ثلاثة جبال بثلاثة نفر: الجودي بنوح، وطور سيناء بموسى، وحراء بمحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

[ مسألة ] : لما تواضع الجودي وخضع عز، ولما ارتفع غيره واستعلى ذل، وهذه سنة الله في خلقه، يرفع من تخشع، ويضع من ترفع؛ ولقد أحسن القائل:

وإذا تذللت الرقاب تخشعا منا إليك فعزها في ذلها

وفي صحيح البخاري ومسلم عن أنس بن مالك قال: كانت ناقة للنبي صلى الله عليه وسلم تسمى العضباء؛ وكانت لا تسبق؛ فجاء أعرابي على قعود فسبقها، فاشتد ذلك على المسلمين؛ وقالوا: سبقت العضباء! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن حقا على الله ألا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه ) . وخرج مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله ) . وقال صلى الله عليه وسلم: ( إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد ) . خرجه البخاري.

مسألة: نذكر فيها من قصة نوح مع قومه وبعض ذكر السفينة. ذكر الحافظ ابن عساكر في التاريخ له عن الحسن: أن نوحا أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض؛ فذلك قوله تعالى: « ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما » [ العنكبوت: 14 ] وكان قد كثرت فيهم المعاصي، وكثرت الجبابرة وعتوا عتوا كبيرا، وكان نوح يدعوهم ليلا ونهارا، سرا وعلانية، وكان صبورا حليما، ولم يلق أحد من الأنبياء أشد مما لقي نوح، فكانوا يدخلون عليه فيخنقونه حتى يترك وقيذا، ويضربونه في المجالس ويطرد، وكان لا يدعو على من يصنع به بل يدعوهم ويقول: « رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون » فكان لا يزيدهم ذلك إلا فرارا منه، حتى أنه ليكلم الرجل منهم فيلف رأسه بثوبه، ويجعل أصبعيه في أذنيه لكيلا يسمع شيئا من كلامه، فذلك قوله تعالى: « وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم » [ نوح: 7 ] . وقال مجاهد وعبيد بن عمير: كانوا يضربونه حتى يغشى عليه فإذا أفاق قال: « رب اغفر لقومي فأنهم لا يعلمون » . وقال ابن عباس: ( إن نوحا كان يضرب ثم يلف في لبد فيلقى في بيته يرون أنه قد مات، ثم يخرج فيدعوهم؛ حتى إذا يئس من إيمان قومه جاءه رجل معه ابنه وهو يتوكأ على عصا؛ فقال: يا بني أنظر هذا الشيخ لا يغرنك، قال: يا أبت أمكني من العصا، فأمكنه فأخذ العصا ثم قال: ضعني في الأرض فوضعه، فمشى إليه بالعصا فضربه فشجه شجة موضحة في رأسه، وسالت الدماء؛ فقال نوح: « رب قد ترى ما يفعل بي عبادك فإن يك لك في عبادك خيرية فاهدهم وإن يك غير ذلك فصبرني إلى أن تحكم وأنت خير الحاكمين » فأوحى الله إليه وآيسه من إيمان قومه، وأخبره أنه لم يبق في أصلاب الرجال ولا في أرحام النساء مؤمن ) ؛

قال: « وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون » ؛ أي لا تحزن عليهم. « واصنع الفلك بأعيننا ووحينا » قال: يا رب وأين الخشب؟ قال: اغرس الشجر. قال: فغرس الساج عشرين سنه، وكف عن الدعاء، وكفوا عن الاستهزاء. وكانوا يسخرون منه؛ فلما أدرك الشجر أمره ربه فقطعها وجففها: فقال: يا رب كيف أتخذ هذا البيت؟ قال: اجعله على ثلاثة صور؛ رأسه كرأس الديك، وجؤجؤه كجؤجؤ الطير، وذنبه كذنب الديك؛ واجعلها مطبقة واجعل لها أبوابا في جنبها، وشدها بدسر، يعني مسامير الحديد. وبعث الله جبريل فعلمه صنعة السفينة، وجعلت يده لا تخطئ. قال ابن عباس: ( كانت دار نوح عليه السلام دمشق، وأنشأ سفينته من خشب لبنان بين زمزم وبين الركن والمقام ) ، فلما كملت حمل فيها السباع والدواب في الباب الأول، وجعل الوحش والطير في الباب الثاني، وأطبق عليهما وجعل أولاد آدم أربعين رجلا وأربعين امرأة في الباب الأعلى وأطبق عليهم، وجعل الذر معه في الباب الأعلى لضعفها ألا تطأها الدواب.

قال الزهري: إن الله عز وجل بعث ريحا فحمل إليه من كل زوجين اثنين؛ من السباع والطير والوحش والبهائم. وقال جعفر بن محمد: بعث الله جبريل فحشرهم، فجعل يضرب بيديه على الزوجين فتقع يده اليمنى على الذكر واليسرى على الأنثى، فيدخله السفينة وقال زيد بن ثابت: استصعبت على نوح الماعزة أن تدخل السفينة، فدفعها بيده في ذنبها؛ فمن ثم انكسر ذنبها فصار معقوفا وبدا حياؤها. ومضت النعجة حتى دخلت فمسح على، ذنبها فستر حياؤها؛ قال إسحاق: أخبرنا رجل من أهل العلم أن نوحا حمل أهل السفينة، وجعل فيها من كل زوجين اثنين، وحمل من الهدهد زوجين، فماتت الهدهدة في السفينة قبل أن تظهر الأرض. فحملها الهدهد فطاف بها الدنيا ليصيب لها مكانا، فلم يجد طينا ولا ترابا، فرحمه ربه فحفر لها في قفاه قبرا فدفنها فيه، فذلك الريش الناتئ في قفا الهدهد موضع القبر؛ فلذلك نتأت أقفية الهداهد. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كان حمل نوح معه في السفينة من جميع الشجر وكانت العجوة من الجنة مع نوح في السفينة ) . وذكر صاحب كتاب ( العروس ) وغيره: أن نوحا عليه السلام لما أراد أن يبعث من يأتيه بخبر الأرض قال الدجاج: أنا؛ فأخذها وختم على جناحها وقال لها: أنت مختومة بخاتمي لا تطيري أبدا، أنت ينتفع بك أمتي؛ فبعث الغراب فأصاب جيفة فوقع عليها فاحتبس فلعنه، ولذلك يقتل في الحل والحرم ودعا عليه بالخوف؛ فلذلك لا يألف البيوت. وبعث الحمامة فلم تجد قرارا فوقعت على شجرة بأرض سيناء فحملت ورقة زيتونة، ورجعت إلى نوح فعلم أنها لم تستمكن من الأرض، ثم بعثها بعد ذلك فطارت حتى وقعت بوادي الحرم، فإذا الماء قد نضب من مواضع الكعبة، وكانت طينتها حمراء، فاختضبت رجلاها، ثم جاءت إلى نوح عليه السلام فقالت: بشراي منك أن تهب لي الطوق في عنقي، والخضاب في رجلي، وأسكن الحرم؛ فمسح يده على عنقها وطوقها، ووهب لها الحمرة في رجليها، ودعا لها ولذريتها بالبركة. وذكر الثعلبي أنه بعث بعد الغراب التدرج وكان من جنس الدجاج؛ وقال: إياك أن تعتذر، فأصاب الخضرة والفرجة فلم يرجع، وأخذ أولاده عنده رهنا إلى يوم القيامة.

 

الآية: 45 ( ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين )

 

قوله تعالى: « ونادى نوح ربه » أي دعاه. « فقال رب إن ابني من أهلي » أي من أهلي الذين وعدتهم أن تنجيهم من الغرق؛ ففي الكلام حذف. « وإن وعدك الحق » يعني الصدق. وقال علماؤنا: وإنما سأل نوح ربه ابنه لقوله: « وأهلك » وترك قوله: « إلا من سبق عليه القول » [ هود: 40 ] فلما كان عنده من أهله قال: « رب إن ابني من أهلي » يدل على ذلك قوله: « ولا تكن من الكافرين » أي لا تكن ممن لست منهم؛ لأنه كان عنده مؤمنا في ظنه، ولم يك نوح يقول لربه: « إن ابني من أهلي » إلا وذلك عنده كذلك؛ إذ محال أن يسأل هلاك الكفار، ثم يسأل في إنجاء بعضهم؛ وكان ابنه يسر الكفر ويظهر الإيمان؛ فأخبر الله تعالى نوحا بما هو منفرد به من علم الغيوب؛ أي علمت من حال ابنك ما لم تعلمه أنت. وقال الحسن: كان منافقا؛ ولذلك استحل نوح أن يناديه. وعنه أيضا: كان ابن امرأته؛ دليله قراءة علي « ونادى نوح ابنها » . « وأنت أحكم الحاكمين » ابتداء وخبر. أي حكمت على قوم بالنجاة، وعلى قوم بالغرق.

 

الآيتان: 46 - 47 ( قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين، قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين )

 

قوله تعالى: « قال يا نوح إنه ليس من أهلك » أي ليس، من أهلك الذين وعدتهم أن أنجيهم؛ قاله سعيد بن جبير. وقال الجمهور: ليس من أهل دينك ولا ولايتك؛ فهو على حذف مضاف؛ وهذا يدل على أن حكم الاتفاق في الدين أقوى من حكم النسب. « إنه عمل غير صالح » قرأ ابن عباس وعروة وعكرمة ويعقوب والكسائي « إنه عمل غير صالح » أي من الكفر والتكذيب؛ واختاره أبو عبيد. وقرأ الباقون « عمل » أي ابنك ذو عمل غير صالح فحذف المضاف؛ قاله الزجاج وغيره. قال:

ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت فإنما هي إقبال وإدبار

أي ذات إقبال وإدبار. وهذا القول والذي قبله يرجع إلى معنى واحد. ويجوز أن تكون الهاء للسؤال؛ أي إن سؤالك إياي أن أنجيه. عمل غير صالح. قال قتادة. وقال الحسن: معنى عمل غير صالح أنه ولد على فراشه ولم يكن ابنه. وكان لغير رشدة، وقال أيضا مجاهد. قال قتادة سألت الحسن عنه فقال: والله ما كان ابنه؛ قلت إن الله أخبر عن نوح أنه قال: « إن ابني من أهلي » فقال: لم يقل مني، وهذه إشارة إلى أنه كان ابن امرأته من زوج آخر؛ فقلت له: إن الله حكى عنه أنه قال: « إن ابني من أهلي » « ونادى نوح ابنه » ولا يختلف أهل الكتابين أنه ابنه؛ فقال الحسن: ومن يأخذ دينه عن أهل الكتاب! إنهم يكذبون. وقرأ: « فخانتاهما » [ التحريم: 10 ] . وقال ابن جريج: ناداه وهو يحسب أنه ابنة، وكان ولد على فراشه، وكانت امرأته خانته فيه، ولهذا قال: « فخانتاهما » . وقال ابن عباس: ( ما بغت امرأة نبي قط ) ، وأنه كان ابنه لصلبه. وكذلك قال الضحاك وعكرمة وسعيد بن جبير وميمون بن مهران وغيرهم، وأنه كان ابنه لصلبه. وقيل لسعيد بن جبير يقول نوح: « إن ابني من أهلي » أكان من أهله؟ أكان ابنه؟ فسبح الله طويلا ثم قال: ( لا اله إلا الله! يحدث الله محمدا صلى الله عليه وسلم أنه ابنه، وتقول إنه ليس ابنه! نعم كان ابنه؛ ولكن كان مخالفا في النية والعمل والدين، ولهذا قال الله تعالى: « إنه ليس من أهلك » ) ؛ وهذا هو الصحيح في الباب إن شاء الله تعالى لجلالة من قال به، وإن قوله: « إنه ليس من أهلك » ليس مما ينفي عنه أنه ابنه. وقوله: « فخانتاهما » [ التحريم: 10 ] يعني في الدين لا في الفراش، وذلك أن هذه كانت تخبر الناس أنه مجنون، وذلك أنها قالت له: أما ينصرك ربك؟ فقال لها: نعم. قالت: فمتى؟ قال: إذا فار التنور؛ فخرجت تقول لقومها: يا قوم والله إنه لمجنون، يزعم أنه لا ينصره ربه إلا أن يفور هذا التنور، فهذه خيانتها. وخيانة الأخرى أنها كانت تدل على الأضياف على ما سيأتي إن شاء الله. والله أعلم. وقيل: الولد قد يسمى عملا كما يسمى كسبا، كما في الخبر ( أولادكم من كسبكم ) . ذكره القشيري.

 

في هذه الآية تسلية للخلق في فساد ابنائهم وإن كانوا صالحين. وروي أن ابن مالك بن أنس نزل من فوق ومعه حمام قد غطاه، قال: فعلم مالك أنه قد فهمه الناس؛ فقال مالك: الأدب أدب الله لا أدب الآباء والأمهات، والخير خير الله لا خير الآباء والأمهات. وفيها أيضا دليل على أن الابن من الأهل لغة وشرعا، ومن أهل البيت؛ فمن وصى لأهله دخل في ذلك ابنه، ومن تضمنه منزله، وهو في عياله. وقال تعالى في آية أخرى: « ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون. ونجيناه وأهله من الكرب العظيم » [ الصافات: 75 ] فسمى جميع من ضمه منزله من أهله.

 

ودلت الآية على قول الحسن ومجاهد وغيرهما: أن الولد للفراش؛ ولذلك قال نوح ما قال آخذا بظاهر الفراش. وقد روى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار أنه سمع عبيد بن عمير يقول: نرى رسول الله صلى عليه وسلم إنما قضى بالولد للفراش من أجل ابن نوح عليه السلام؛ ذكره أبو عمر في كتاب « التمهيد » . وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الولد للفراش وللعاهر الحجر ) يريد الخيبة. وقيل: الرجم بالحجارة. وقرأ عروة بن الزبير. « ونادى نوح ابنها » يريد ابن امرأته، وهي تفسير القراءة المتقدمة عنه، وعن علي رضي الله عنه، وهي حجة للحسن ومجاهد؛ إلا أنها قراءة شاذة، فلا نترك المتفق عليها لها. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « إني أعظك أن تكون من الجاهلين » أي أنهاك عن هذا السؤال، وأحذرك لئلا تكون، أو كراهية أن تكون من الجاهلين؛ أي الآثمين. ومنه قوله تعالى: « يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا » [ النور: 17 ] أي يحذركم الله وينهاكم. وقيل: المعنى أرفعك أن تكون من الجاهلين. قال ابن العربي: وهذه زيادة من الله وموعظة يرفع بها نوحا عن مقام الجاهلين، ويعليه بها إلى مقام العلماء والعارفين؛ فـ « قال » نوح: « رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم » الآية وهذه ذنوب الأنبياء عليهم السلام، فشكر الله تذلله وتواضعه. « وإلا تغفر لي » ما فرط من السؤال. « وترحمني » أي بالتوبة. « أكن من الخاسرين » أي أعمالا. فقال: « يا نوح اهبط بسلام منا » .

 

الآية: 48 ( قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم )

 

قوله تعالى: « قيل يا نوح اهبط بسلام منا » أي قالت له الملائكة، أو قال الله تعالى له: اهبط من السفينة إلى الأرض، أو من الجبل إلى الأرض؛ فقد ابتلعت الماء وجفت. « بسلام منا » أي بسلامة وأمن. وقيل: بتحية. « وبركات عليك » أي نعم ثابتة؛ مشتق من بروك الجمل وهو ثبوته وإقامته. ومنه البركة لثبوت الماء فيها. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ( نوح آدم الأصغر ) ، فجميع الخلائق الآن من نسله، ولم يكن معه في السفينة من الرجال والنساء إلا من كان من ذريته؛ على قول قتادة وغيره، حسب ما تقدم؛ وفي التنزيل « وجعلنا ذريته هم الباقين » [ الصافات: 77 ] . « وعلى أمم ممن معك » قيل: دخل في هذا كل مؤمن إلى يوم القيامة. ودخل في قوله « وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم » كل كافر إلى يوم القيامة؛ روي ذلك عن محمد بن كعب. والتقدير على هذا: وعلى ذرية أمم ممن معك، وذرية أمم سنمتعهم. وقيل: « من » للتبعيض، وتكون لبيان الجنس. « وأمم سنمتعهم » ارتفع و « أمم » على معنى وتكون أمم. قال الأخفش سعيد كما تقول: كلمت زيدا وعمرو جالس. وأجاز الفراء في غير القراءة وأمما، وتقديره: ونمتع أمما. وأعيدت « على » مع « أمم » لأنه معطوف على الكاف من « عليك » وهي ضمير المجرور، ولا يعطف على ضمير المجرور إلا بإعادة الجار على قول سيبويه وغيره. وقد تقدم في « النساء » بيان هذا مستوفى في قوله تعالى: « واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام » [ النساء: 1 ] بالخفض. والباء في قوله: « بسلام » متعلقة بمحذوف؛ لأنها في موضع الحال؛ أي اهبط مسلما عليك. و « منا » في موضع جر متعلق بمحذوف؛ لأنه نعت للبركات. « وعلى أمم » متعلق بما تعلق به « عليك » ؛ لأنه أعيد من أجل المعطوف على الكاف. و « من » في قوله: « ممن معك » متعلق بمحذوف؛ لأنه في موضع جر نعت للأمم. و « معك » متعلق بفعل محذوف؛ لأنه صلة « لمن » أي ممن استقر معك، أو آمن معك، أو ركب معك.

 

الآية: 49 ( تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين )

 

قوله تعالى: « تلك من أنباء الغيب » أي تلك الأنباء، وفي موضع آخر « ذلك » أي ذلك النبأ والقصص من أنباء ما غاب عنك. « نوحيها إليك » أي لتقف عليها. « ما كنت تعلمها أنت ولا قومك » أي كانوا غير عارفين بأمر الطوفان، والمجوس الآن ينكرونه. « من قبل هذا » خبر أي مجهولة عندك وعند قومك. « فاصبر » على مشاق الرسالة وإذاية القوم كما صبر نوح. وقيل: أراد جهلهم بقصة ابن نوح وإن سمعوا أمر الطوفان [ فإنه ] على الجملة. « فاصبر » أي اصبر يا محمد على القيام بأمر الله وتبليغ رسالته، وما تلقى من أذى العرب الكفار، كما صبر نوح على أذى قومه. « إن العاقبة » في الدنيا بالظفر، وفي الآخرة بالفوز. « للمتقين » عن الشرك والمعاصي.

 

الآيتان: 50 - 51 ( وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون، يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون )

 

قوله تعالى: « وإلى عاد أخاهم هودا » أي وأرسلنا، فهو معطوف على « أرسلنا نوحا » . وقيل له أخوهم لأنه منهم، وكانت القبيلة تجمعهم؛ كما تقول: يا أخا تميم. وقيل: إنما قيل له أخوهم لأنه من بني آدم كما أنهم من بني آدم؛ وقد تقدم هذا في « الأعراف » وكانوا عبدة الأوثان. وقيل: هم عادان، عاد الأولى وعاد الأخرى، فهؤلاء هم الأولى؛ وأما الأخرى فهو شداد ولقمان المذكوران في قوله تعالى: « إرم ذات العماد » [ الفجر: 7 ] . وعاد اسم رجل ثم استمر على قوم انتسبوا إليه. « قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره » بالخفض على اللفظ، و « غيره » بالرفع على الموضع، و « غيره » بالنصب على الاستثناء. « إن أنتم إلا مفترون » أي ما أنتم في اتخاذكم إلها غيره إلا كاذبون عليه جل وعز.

 

قوله تعالى: « يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني » أي على التبليغ، والدعاء إلى الله، والإيمان به فيثقل عليكم، أي ثوابي في تبليغ الرسالة. والفطرة ابتداء الخلق.

 

قوله تعالى: « أفلا تعقلون » ما جرى على قوم نوح لما كذبوا الرسل.

 

الآية: 52 ( ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين )

 

قوله تعالى: « ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه » تقدم في أول السورة. « يرسل السماء » جزم لأنه جواب وفيه معنى المجازاة. « عليكم مدرارا » نصب على الحال، وفيه معنى التكثير؛ أي يرسل السماء بالمطر متتابعا يتلو بعضه بعضا؛ والعرب تحذف الهاء في مفعال على النسب؛ وأكثر ما يأتي مفعال من أفعل، وقد جاء ههنا من فعل؛ لأنه من درت السماء تدر وتدر فهي مدرار. وكان قوم هود - أعني عادا - أهل بساتين وزروع وعمارة، وكانت مساكنهم الرمال التي بين الشام واليمن كما تقدم في « الأعراف » . « ويزدكم » عطف على يرسل. « قوة إلى قوتكم » قال مجاهد: شدة على شدتكم. الضحاك. خصبا إلى خصبكم. علي بن عيسى: عزا على عزكم. عكرمة: ولدا إلى ولدكم. وقيل: إن الله حبس عنهم المطر وأعقم الأرحام ثلاث سنين فلم يولد لهم ولد؛ فقال لهم هود: إن آمنتم أحيا الله بلادكم ورزقكم المال والولد؛ فتلك القوة. وقال الزجاج: المعنى يزدكم قوة في النعم. « ولا تتولوا مجرمين » أي لا تعرضوا عما أدعوكم إليه، وتقيموا على الكفر

 

الآية: 53 ( قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين )

 

قوله تعالى: « قالوا يا هود ما جئتنا ببينة » أي حجة واضحة. « وما نحن لك بمؤمنين » إصرارا منهم على الكفر.

 

الآيتان: 54 - 56 ( إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون، من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون، إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم )

 

قوله تعالى: « إن نقول إلا اعتراك » أي أصابك. « بعض آلهتنا » أي أصنامنا. « بسوء » أي بجنون لسبك إياها، عن ابن عباس وغيره. يقال: عراه الأمر واعتراه إذا ألم به. ومنه « وأطعموا القانع والمعتر » [ الحج: 36 ] . « قال إني أشهد الله » أي على نفسي. « واشهدوا » أي وأشهدكم؛ لا أنهم كانوا أهل شهادة، ولكنه نهاية للتقرير؛ أي لتعرفوا « أني بريء مما تشركون » أي من عبادة الأصنام التي تعبدونها. « فكيدوني جميعا » أي أنتم وأوثانكم في عداوتي وضري. « ثم لا تنظرون » أي لا تؤخرون. وهذا القول مع كثرة الأعداء يدل على كمال الثقة بنصر الله تعالى. وهو من أعلام النبوة، أن يكون الرسول وحده يقول لقومه: « فكيدوني جميعا » . وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لقريش. وقال نوح صلى الله عليه وسلم « فاجمعوا أمركم وشركاءكم » [ يونس: 71 ] الآية.

 

قوله تعالى: « إني توكلت على الله ربي وربكم » أي رضيت بحكمه، ووثقت بنصره. « ما من دابة » أي نفس تدب على الأرض؛ وهو في موضع رفع بالابتداء. « إلا هو آخذ بناصيتها » أي يصرفها كيف يشاء، ويمنعها مما يشاء؛ أي فلا تصلون إلى ضري. وكل ما فيه روح يقال له داب ودابه؛ والهاء للمبالغة. وقال الفراء: مالكها، والقادر عليها. وقال القتبي: قاهرها؛ لأن من أخذت بناصيته فقد قهرته. وقال الضحاك: يحييها ثم يميتها؛ والمعنى متقارب. والناصية قصاص الشعر في مقدم الرأس. ونصوت الرجل أنصوه نصوا أي مددت ناصيته. قال ابن جريج: إنما خص الناصية؛ لأن العرب تستعمل ذلك إذا وصفت إنسانا بالذلة والخضوع؛ فيقولون. ما ناصية فلان إلا بيد فلان؛ أي إنه مطيع له يصرفه كيف يشاء. وكانوا إذا أسروا أسيرا وأرادوا إطلاقه والمن عليه جزوا ناصيته ليعرفوا بذلك فخرا عليه؛ فخاطبهم بما يعرفونه في كلامهم. وقال، الترمذي الحكيم في « نوادر الأصول » « ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها » وجهه عندنا أن الله تعالى قدر مقادير أعمال العباد، ثم نظر إليها، ثم خلق خلقه، وقدر نفذ بصره في جميع ما هم فيه عاملون من قبل أن يخلقهم، فلما خلقهم وضع نور تلك النظرة في نواصيهم فذلك النور أخذ بنواصيهم، يجريهم إلى أعمالهم المقدرة عليهم يوم المقادير. وخلق الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة؛ رواه عبدالله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( قدر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ) . ولهذا قويت الرسل وصاروا من أولي العزم لأنهم لاحظوا نور النواصي، وأيقنوا أن جميع خلقه منقادون بتلك الأنوار إلى ما نفذ بصره فيهم من الأعمال، فأوفرهم حظا من الملاحظة أقواهم في العزم، ولذلك ما قوي هود النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال: « فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون. إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها » وإنما سميت ناصية لأن الأعمال قد نصت وبرزت من غيب الغيب فصارت منصوصة في المقادير، قد نفذ بصر الخالق في جميع حركات الخلق بقدرة، ثم وضعت حركات كل من دب على الأرض حيا في جبهته بين عينيه، فسمي ذلك الموضع منه ناصية؛ لأنها تنص حركات العباد بما قدر؛ فالناصية مأخوذة بمنصوص الحركات التي نظر الله تعالى إليها قبل أن يخلقها ووصف ناصية أبي جهل فقال: « ناصية كاذبة خاطئة » [ العلق: 16 ] يخبر أن النواصي فيها كاذبة خاطئة؛ فعلى سبيل ما تأولوه يستحيل أن تكون الناصية منسوبة إلى الكذب والخطأ. والله أعلم. « إن ربي على صراط مستقيم » قال النحاس: الصراط في اللغة المنهاج الواضح؛ والمعنى أن الله جل ثناؤه وإن كان يقدر على كل شيء فإنه لا يأخذهم إلا بالحق. وقيل: معناه لا خلل في تدبيره، ولا تفاوت في خلقه سبحانه.

 

الآية: 57 ( فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ )

 

قوله تعالى: « فإن تولوا » في موضع جزم؛ فلذلك حذفت منه النون، والأصل تتولوا، فحذفت التاء لاجتماع تاءين. « فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم » بمعنى قد بينت لكم. « ويستخلف ربي قوما غيركم » أي يهلككم ويخلق من هو أطوع له منكم يوحدونه ويعبدونه. « ويستخلف » مقطوع مما قبله فلذلك ارتفع؛ أو معطوف على ما يجب فيما بعد الفاء من قوله: « فقد أبلغتكم » . وروي عن حفص عن عاصم « ويستخلف » بالجزم حملا على موضع الفاء وما بعدها؛ مثل: « ويذرهم في طغيانهم يعمهون » [ الأعراف: 186 ] . « ولا تضرونه شيئا » أي بتوليكم وإعراضكم. « إن ربى على كل شيء حفيظ » أي لكل شيء حافظ. « على » بمعنى اللام؛ فهو يحفظني من أن تنالوني بسوء.

 

الآية: 58 ( ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ )

 

قوله تعالى: « ولما جاء أمرنا » أي عذابنا بهلاك عاد. « نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا » لأن أحدا لا ينجو إلا برحمة الله تعالى، وإن كانت له أعمال صالحة. وفي صحيح مسلم والبخاري وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم ( لن ينجي أحدا منكم عمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ ! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه ) . وقيل: معنى « برحمة منا » بأن بينا لهم الهدى الذي هو رحمة. وكانوا أربعة آلاف. وقيل: ثلاثة آلاف. « ونجيناهم من عذاب غليظ » أي عذاب يوم القيامة. وقيل: هو الريح العقيم كما ذكر الله في « الذاريات » وغيرها وسيأتي. قال القشيري أبو نصر: والعذاب الذي يتوعد به النبي أمته إذا حضر ينجي الله منه النبي والمؤمنين معه؛ نعم! لا يبعد أن يبتلي الله نبيا وقومه فيعمهم ببلاء فيكون ذلك عقوبة للكافرين، وتمحيصا للمؤمنين إذا لم يكن مما توعدهم النبي به.

 

الآية: 59 ( وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد )

 

قوله تعالى: « وتلك عاد » ابتداء وخبر. وحكى الكسائي أن من العرب من لا يصرف « عادا » فيجعله اسما للقبيلة. « جحدوا بآيات ربهم » أي كذبوا بالمعجزات وأنكروها. « وعصوا رسله » يعني هودا وحده؛ لأنه لم يرسل إليهم من الرسل سواه. ونظيره قوله تعالى: « يا أيها الرسل كلوا من الطيبات » [ المؤمنون: 51 ] يعني النبي صلى الله عليه وسلم وحده؛ لأنه لم يكن في عصره رسول سواه؛ وإنما جمع ههنا لأن من كذب رسولا واحدا فقد كفر بجميع الرسل. وقيل: عصوا هودا والرسل قبله، وكانوا بحيث لو أرسل إليهم ألف رسول لجحدوا الكل. « واتبعوا أمر كل جبار عنيد » أي اتبع سقاطهم رؤساءهم. والجبار المتكبر. والعنيد الطاغي الذي لا يقبل الحق ولا يذعن له. قال أبو عبيد: العنيد والعنود والعاند والمعاند المعارض بالخلاف، ومنه قيل للعرق الذي ينفجر بالدم عاند. وقال الراجز:

إني كبير لا أطيق العُنَّدا

 

الآية: 60 ( وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود )

 

قوله تعالى: « وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة » أي ألحقوها. « ويوم القيامة » أي واتبعوا يوم القيامة مثل ذلك؛ فالتمام على قوله: « ويوم القيامة » . « ألا إن عادا كفروا ربهم » قال الفراء: أي كفروا نعمة ربهم؛ قال: ويقال كفرته وكفرت به، مثل شكرته وشكرت له. « ألا بعدا لعاد قوم هود » أي لا زالوا مبعدين عن رحمة الله. والبعد الهلاك والبعد التباعد من الخير. يقال: بعد يبعد بعدا إذا تأخر وتباعد. وبعد يبعد بعدا إذا هلك؛ قال:

لا يبعدن قومي الذين هم سم العداة وآفة الجزر

وقال النابغة:

فلا تبعدن إن المنية منهل وكل امرئ يوما به الحال زائل

 

الآية: 61 ( وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب )

 

قوله تعالى: « وإلى ثمود » أي أرسلنا إلى ثمود « أخاهم » أي في النسب. « صالحا » وقرأ يحيي بن وثاب « وإلى ثمود » بالتنوين في كل القرآن؛ وكذلك روي عن الحسن. واختلف سائر القراء فيه فصرفوه في موضع ولم يصرفوه في موضع. وزعم أبو عبيدة أنه لولا مخالفة السواد لكان الوجه ترك الصرف؛ إذ كان الأغلب عليه التأنيث. قال النحاس: الذي قال أبو عبيدة - رحمه الله - من أن الغالب عليه التأنيث كلام مردود؛ لأن ثمودا يقال له حي؛ ويقال له قبيلة، وليس الغالب عليه القبيلة؛ بل الأمر على ضد ما قال عند سيبويه. والأجود عند سيبويه فيما لم يقل فيه بنو فلان الصرف، نحو قريش وثقيف وما أشبههما، وكذلك ثمود، والعلة في ذلك أنه لما كان التذكير الأصل، وكان يقع له مذكر ومؤنث كان الأصل الأخف أولى. والتأنيث جيد بالغ حسن. وأنشد سيبويه في التأنيث:

غلب المساميح الوليد سماحة وكفى قريش المعضلات وسادها

 

قوله تعالى: « قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره » تقدم. « هو أنشأكم من الأرض » أي ابتدأ خلقكم من الأرض، وذلك أن آدم خلق من الأرض على ما تقدم في « البقرة » و « الأنعام » وهم منه، وقيل: « أنشأكم في الأرض » . ولا يجوز إدغام الهاء من « غيره » في الهاء من « هو » إلا على لغة من حذف الواو في الإدراج. « واستعمركم فيها » أي جعلكم عمارها وسكانها. قال مجاهد: ومعنى « استعمركم » أعمركم من قوله: أعمر فلان فلانا داره؛ فهي له عمرى. وقال قتادة: أسكنكم فيها؛ وعلى هذين القولين تكون استفعل بمعنى أفعل؛ مثل استجاب بمعنى أجاب. وقال الضحاك: أطال أعماركم، وكانت أعمارهم من ثلاثمائة إلى ألف. ابن عباس: ( أعاشكم فيها ) . زيد بن أسلم: أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه فيها من بناء مساكن، وغرس أشجار. وقيل: المعنى ألهمكم عمارتها من الحرث والغرس وحفر الأنهار وغيرها.

 

قال ابن العربي قال بعض علماء الشافعية: الاستعمار طلب العمارة؛ والطلب المطلق من الله تعالى على الوجوب، قال القاضي أبو بكر: تأتي كلمة استفعل في لسان العرب على معان: منها؛ استفعل بمعنى طلب الفعل كقوله: استحملته أي طلبت منه حملانا؛ وبمعنى اعتقد، كقولهم: استسهلت هذا الأمر اعتقدته سهلا، أو وجدته سهلا، واستعظمته أي اعتقدته عظيما ووجدته، ومنه استفعلت بمعنى أصبت؛ كقولهم: استجدته أي أصبته جيدا: ومنها بمعنى فعل؛ كقوله: قر في المكان واستقر؛ وقالوا وقوله: « يستهزئون » و « يستسخرون » منه؛ فقوله تعالى: « استعمركم فيها » خلقكم لعمارتها، لا على معنى استجدته واستسهلته؛ أي أصبته جيدا وسهلا؛ وهذا يستحيل في الخالق، فيرجع إلى أنه خلق؛ لأنه الفائدة، وقد يعبر عن الشيء بفائدته مجازا؛ ولا يصح أن يقال: إنه طلب من الله تعالى لعمارتها، فإن هذا اللفظ لا يجوز في حقه، أما أنه يصح أن يقال: أنه استدعى عمارتها فإنه جاء بلفظ استفعل، وهو استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه إذا كان أمرا، وطلب للفعل إذا كان من الأدنى إلى الأعلى رغبة.

قلت: لم يذكر استفعل بمعنى أفعل، مثل قوله: استوقد بمعنى أوقد، وقد ذكرناه

 

ويكون فيها دليل على الإسكان والعمرى وقد مضى القول في « البقرة » في السكنى والرقبى. وأما العمرى فاختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال: أحدها - أنها تمليك لمنافع الرقبة حياة المعمر مدة عمره؛ فإن لم يذكر عقبا فمات المعمر رجعت إلى الذي أعطاها أو لورثته؛ هذا قول القاسم بن محمد ويزيد بن قسيط والليث بن سعد، وهو مشهور مذهب مالك، وأحد أقوال الشافعي، وقد تقدم في « البقرة » حجة هذا القول. الثاني: أنها تمليك الرقبة ومنافعها وهي هبة مبتولة؛ وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأصحابهما والثوري والحسن بن حي وأحمد بن حنبل وابن شبرمة وأبي عبيد؛ قالوا: من أعمر رجلا شيئا حياته فهو له حياته؛ وبعد وفاته لورثته؛ لأنه قد ملك رقبتها، وشرط المعطى الحياة والعمر باطل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( العمرى جائزة ) و ( العمرى لمن وهبت له ) . الثالث: إن قال عمرك ولم يذكر العقب كان كالقول الأول: وإن قال لعقبك كان كالقول الثاني؛ وبه قال الزهري وأبو ثور وأبو سلمة بن عبدالرحمن وابن أبي ذئب، وقد روي عن مالك؛ وهو ظاهر قوله في الموطأ. والمعروف عنه وعن أصحابه أنها ترجع إلى المعمر؛ إذا انقرض عقب المعمر؛ إن كان المعمر حيا، وإلا فإلى من كان حيا من ورثته، وأولى الناس بميراثه. ولا يملك المعمر بلفظ العمرى عند مالك وأصحابه رقبة شيء من الأشياء، وإنما يملك بلفظ العمرى المنفعة دون الرقبة. وقد قال مالك في الحبس أيضا: إذا حبس على رجل وعقبه أنه لا يرجع إليه. وإن حبس على رجل بعينه حياته رجع إليه، وكذلك العمرى قياسا، وهو ظاهر الموطأ. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أيما رجل أعمر رجلا عمرى له ولعقبه فقال قد أعطيتكها وعقبك ما بقي منكم أحد فإنها لمن أعطيها وأنها لا ترجع إلى صاحبها من أجل أنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث ) وعنه قال: إن العمرى التي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها؛ قال معمر: وبذلك كان الزهري يفتي.

قلت: معنى القرآن يجري مع أهل القول الثاني؛ لأن الله سبحانه قال: « واستعمركم » بمعنى أعمركم؛ فأعمر الرجل الصالح فيها مدة حياته بالعمل الصالح، وبعد موته بالذكر الجميل والثناء الحسن؛ وبالعكس الرجل الفاجر؛ فالدنيا ظرف لهما حياة وموتا. وقد يقال: إن الثناء الحسن يجري مجرى العقب. وفي التنزيل: « واجعل لي لسان صدق في الآخرين » [ الشعراء: 84 ] أي ثناء حسنا. وقيل: هو محمد صلى الله عليه وسلم. قال: « وجعلنا ذريته هم الباقين » [ الصافات: 77 ] وقال: « وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين » [ الصافات: 113 ] .

 

قوله تعالى: « فاستغفروه » أي سلوه المغفرة من عبادة الأصنام. « ثم توبوا إليه » أي ارجعوا إلى عبادته. « إن ربي قريب مجيب » أي قريب الإجابة لمن دعاه. وقد مضى في « البقرة » عند قوله: « فإني قريب أجيب دعوة الداعي » القول فيه.

 

الآية: 62 ( قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب )

 

قوله تعالى: « قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا » أي كنا نرجو أن تكون فينا سيدا قبل هذا؛ أي قبل دعوتك النبوة. وقيل: كان صالح يعيب آلهتهم ويشنؤها، وكانوا يرجون رجوعه إلى دينهم، فلما دعاهم إلى الله قالوا: انقطع رجاؤنا منك. « أتنهانا » استفهام معناه الإنكار. « أن نعبد » أي عن أن نعبد. « ما يعبد آباؤنا » فأن في محل نصب بإسقاط حرف الجر. « وإننا لفي شك » وفي سورة « إبراهيم » و « وإنا » والأصل وإننا؛ فاستثقل ثلاث نونات فأسقط الثالثة. « مما تدعونا » الخطاب لصالح، وفي سورة إبراهيم « تدعوننا » [ إبراهيم: 9 ] لأن الخطاب للرسل صلوات الله وسلامه عليهم « إليه مريب » من أربته فأنا أريبه إذا فعلت به فعلا يوجب لدية الريبة. قال الهذلي:

كنت إذا أتوته من غيب يشم عطفي ويبز ثوبي

كأنما أربته بريب

 

الآية: 63 ( قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير )

 

قوله تعالى: « قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة » تقدم معناه في قول نوح. « فمن ينصرني من الله إن عصيته » استفهام معناه النفي؛ أي لا ينصرني منه إن عصيته أحد. « فما تزيدونني غير تخسير » أي تضليل وإبعاد من الخير؛ قال الفراء. والتخسير لهم لا له صلى الله عليه وسلم؛ كأنه قال: غير تخسير لكم لا لي. وقيل: المعنى ما تزيدونني باحتجاجكم بدين آبائكم غير بصيرة بخسارتكم؛ عن ابن عباس.

 

الآية: 64 ( ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب )

 

قوله تعالى: « ويا قوم هذه ناقة الله » ابتداء وخبر. « لكم آية » نصب على الحال، والعامل معنى الإشارة أو التنبيه في « هذه » . وإنما قيل: ناقة الله؛ لأنه أخرجها لهم من جبل - على ما طلبوا - على أنهم يؤمنون. وقيل: أخرجها من صخرة صماء منفردة في ناحية الحجر يقال لها الكاثبة، فلما خرجت الناقة - على ما طلبوا - قال لهم نبي الله صالح: « هذه ناقة الله لكم آية » . « فذروها تأكل » أمر وجوابه؛ وحذفت النون من « فذروها » لأنه أمر. ولا يقال: وذر ولا واذر إلا شاذا. وللنحويين فيه قولان؛ قال سيبويه: استغنوا عنه بترك. وقال غيره: لما كانت الواو ثقيلة وكان في الكلام فعل بمعناه لا واو فيه ألغوه؛ قال أبو إسحاق الزجاج: ويجوز رفع « تأكل » على الحال والاستئناف. « ولا تمسوها » جزم بالنهي. « بسوء » قال الفراء: بعقر. « فيأخذكم » جواب النهي. « عذاب قريب » أي قريب من عقرها.

 

الآية: 65 ( فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب )

 

قوله تعالى: « فعقروها » إنما عقرها بعضهم؛ وأضيف إلى الكل لأنه كان برضا الباقين. وقد تقدم الكلام في عقرها « الأعراف » . ويأتي أيضا. « فقال تمتعوا » أي قال لهم صالح تمتعوا؛ أي بنعم الله عز وجل قبل العذاب. « في داركم » أي في بلدكم، ولو أراد المنزل لقال في دوركم. وقيل: أي يتمتع كل واحد منكم في داره ومسكنه؛ كقوله: « يخرجكم طفلا » [ غافر: 67 ] أي كل واحد طفلا. وعبر عن التمتع بالحياة لأن الميت لا يتلذذ ولا يتمتع بشيء؛ فعقرت يوم الأربعاء، فأقاموا يوم الخميس والجمعة والسبت وأتاهم العذاب يوم الأحد. وإنما أقاموا ثلاثة أيام؛ لأن الفصيل رغا ثلاثا على ما تقدم في « الأعراف » فاصفرت ألوانهم في اليوم الأول، ثم احمرت في الثاني، ثم اسودت في الثالث، وهلكوا في الرابع؛ وقد تقدم في « الأعراف » .

استدل علماؤنا بإرجاء الله العذاب عن قوم صالح ثلاثة أيام على أن المسافر إذا لم يجمع على إقامة أربع ليال قصر؛ لأن الثلاثة الأيام خارجة عن حكم الإقامة وقد تقدم في « النساء » ما للعلماء في هذا.

قوله تعالى: « ذلك وعد غير مكذوب » أي غير كذب. وقيل: غير مكذوب فيه.

 

الآية: 66 ( فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز )

 

قوله تعالى: « فلما جاء أمرنا » أي عذابنا. « نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا » تقدم. « ومن خزي يومئذ » أي ونجيناهم من خزي يومئذ؛ أي من فضيحته وذلته. وقيل: الواو زائدة؛ أي نجيناهم من خزي يومئذ. ولا يجوز زيادتها عند سيبويه وأهل البصرة، وعند الكوفيين يجوز زيادتها مع « لما » و « حتى » لا غير. وقرأ نافع والكسائي « يومئذ » بالنصب. الباقون بالكسر على إضافة « يوم » إلى « إذ » وقال أبو حاتم: حدثنا أبو زيد عن أبي عمرو أنه قرأ « ومن خزي يومئذ » أدغم الياء في الياء، وأضاف، وكسر الميم في « يومئذ » . قال النحاس: الذي يرويه النحويون: مثل سيبويه ومن قاربه عن أبي عمرو في مثل هذا: الإخفاء؛ فأما الإدغام فلا يجوز، لأنه يلتقي ساكنان، ولا يجوز كسر الزاي.

 

الآية: 67 ( وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين )

 

قوله تعالى: « وأخذ الذين ظلموا الصيحة » أي في اليوم الرابع صيح بهم فماتوا؛ وذكر لأن الصيحة والصياح واحد. قيل: صيحة جبريل. وقيل: صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة؛ وصوت كل شيء في الأرض، فتقطعت قلوبهم وماتوا. وقال هنا: « وأخذ الذين ظلموا الصيحة » وقال في الأعراف « فأخذتهم الرجفة » [ الأعراف: 78 ] وقد تقدم بيانه هناك. وفي التفسير: أنهم لما أيقنوا بالعذاب قال بعضهم لبعض ما مقامكم أن يأتيكم الأمر بغتة؟ ! قالوا: فما نصنع؟ فأخذوا سيوفهم ورماحهم وعددهم، وكانوا فيما يقال اثني عشر ألف قبيلة، في كل قبيلة اثنا عشر ألف مقاتل، فوقفوا على الطرق والفجاج، زعموا يلاقون العذاب؛ فأوحى الله تعالى إلى الملك الموكل بالشمس أن يعذبهم بحرها؛ فأدناها من رؤوسهم فاشتوت أيديهم، وتدلت ألسنتهم على صدورهم من العطش، ومات كل ما كان معهم من البهائم. وجعل الماء يتفور من تلك العيون من غليانه حتى يبلغ السماء، لا يسقط على شيء إلا أهلكه من شدة حره، فما زالوا كذلك، وأوحى الله إلى ملك الموت ألا يقبض أرواحهم تعذيبا لهم إلى أن غربت الشمس؛ فصيح بهم فأهلكوا. « فأصبحوا في ديارهم جاثمين » أي ساقطين على وجوههم، قد لصقوا بالتراب كالطير إذا جثمت.

 

الآية: 68 ( كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود )

 

الآية: 69 ( ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ )

 

قوله تعالى: « ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى » هذه قصة لوط عليه السلام؛ وهو ابن عم إبراهيم عليه السلام لحا، وكانت قوى لوط بنوا حي الشام، وإبراهيم ببلاد فلسطين، فلما أنزل الله الملائكة بعذاب قوم لوط مروا بإبراهيم ونزلوا عنده، وكان كل من نزل عنده يحسن قراه، وكانوا مروا ببشارة إبراهيم، فظنهم أضيافا. ( وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام ) ؛ قاله ابن عباس. الضحاك: كانوا تسعة. السدي: أحد عشر ملكا على صورة الغلمان الحسان الوجوه، ذو وضاءة وجمال بارع. « بالبشري » قيل: بالولد. وقيل: بإهلاك قوم لوط. وقيل: بشروه بأنهم رسل الله عز وجل، وأنه لا خوف عليه. « قالوا سلاما » نصب بوقوع الفعل عليه؛ كما تقول: قالوا خيرا. وهذا اختيار الطبري. وأما قوله: « سيقولون ثلاثة » [ الكهف: 22 ] فالثلاثة اسم غير قول مقول. ولو رفعا جميعا أو نصبا جميعا « قالوا سلاما قال سلام » جاز في العربية. قيل: انتصب على المصدر. وقيل: « قالوا سلاما » أي فاتحوه بصواب من القول. كما قال: « وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما » [ الفرقان: 63 ] أي صوابا؛ فسلاما معنى قولهم لا لفظه؛ قال، معناه ابن العربي واختاره. قال: ألا ترى أن الله تعالى لما أراد ذكر اللفظ قاله بعينه فقال، مخبرا عن الملائكة: « سلام عليكم بما صبرتم » [ الرعد: 24 ] « سلام عليكم طبتم » [ الزمر: 73 ] وقيل: دعوا له؛ والمعنى سلمت سلاما. « قال سلام » في رفعه وجهان: أحدهما: على إضمار مبتدأ أي هو سلام، وأمري سلام. والآخر بمعنى سلام عليكم إذا جعل بمعنى التحية؛ فأضمر الخبر. وجاز سلام على التنكير لكثرة استعماله، فحذف الألف واللام كما حذفت من لا هم في قولك اللهم. وقرئ « سلم » قال الفراء: السلم والسلام بمعنى؛ مثل الحل والحلال.

 

قوله تعالى: « فما لبث أن جاء » « أن » بمعنى حتى، قاله كبراء النحويين؛ حكاه ابن العربي. التقدير: فما لبث حتى جاء. وقيل: « أن » في موضع نصب بسقوط حرف الجر؛ التقدير: فما لبث عن أن جاء؛ أي ما أبطأ عن مجيئه بعجل؛ فلما حذف حرف الجر بقي « أن » في محل النصب. وفي « لبث » ضمير اسم إبراهيم. و « ما » نافية؛ قال سيبويه. وقال الفراء: فما لبث مجيئه؛ أي ما أبطأ مجيئه؛ فأن في موضع رفع، ولا ضمير في « لبث » ، و « ما » نافية؛ ويصح أن تكون « ما » بمعنى الذي، وفي « لبث » ضمير إبراهيم و « أن جاء » خبر « ما » أي فالذي لبث إبراهيم هو مجيئه بعجل حنيذ. و « حنيذ » مشوي. وقيل: هو المشوي بحر الحجارة من غير أن تمسه النار. يقال: حنذت الشاة أحنذها حنذا أي شويتها، وجعلت فوقها حجارة محماة لتنضجها فهي حنيذ. وحنذت الفرس أحنذه حنذا، وهو أن تحضره شوطا أو شوطين ثم تظاهر عليه الجلال في الشمس ليعرق، فهو محنوذ وحنيذ؛ فإن لم يعرق قيل: كبا. وحنذ موضع قريب من المدينة. وقيل: الحنيذ السميط. ابن عباس وغيره: ( حنيذ نضيج. وحنيذ بمعنى محنوذ ) ؛ وإنما جاء بعجل لأن البقر كانت أكثر أموال.

 

في هذه الآية من أدب الضيّف أن يعجل قراه، فيقدم الموجود الميسر في الحال، ثم يتبعه بغيره إن كان له جدة، ولا يتكلف ما يضر به. والضيافة من مكارم الأخلاق، ومن آداب الإسلام، ومن خلق النبيين والصالحين. وإبراهيم أول من أضاف على ما تقدم في « البقرة » وليست بواجبة عند عامة أهل العلم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم ( الضيافة ثلاثة أيام وجائزته يوم وليلة فما كان وراء ذلك فهو صدقة ) . والجائزة العطية والصلة التي أصلها على الندب. وقال صلى الله عليه وسلم: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ) . وإكرام الجار ليس بواجب إجماعا، فالضيافة مثله. والله أعلم. وذهب الليث إلى وجوبها تمسكا بقوله صلى الله عليه وسلم: ( ليلة الضيف حق ) إلى غير ذلك من الأحاديث. وفيما أشرنا إليه كفاية، والله الموفق للهداية. قال ابن العربي: وقد قال قوم: إن وجوب الضيافة كان في صدر الإسلام ثم نسخ، وهذا ضعيف؛ فإن الوجوب لم يثبت، والناسخ لم يرد؛ وذكر حديث أبي سعيد الخدري خرجه الأئمة، وفيه: ( فاستضفناهم فأبوا أن يضيفونا فلدغ سيد ذلك الحي ) الحديث. وقال: هذا ظاهر في أن الضيافة لو كانت حقا للام النبي صلى الله عليه وسلم القوم الذين أبوا، ولبين لهم ذلك.

 

اختلف العلماء فيمن يخاطب بها؛ فذهب الشافعي ومحمد بن عبدالحكم إلى أن المخاطب بها أهل الحضر والبادية. وقال مالك: ليس على أهل الحضر ضيافة. قال سحنون: إنما الضيافة على أهل القرى، وأما الحضر فالفندق ينزل فيه المسافر حكى اللغتين صاحب العين وغيره. واحتجوا بحديث ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الضيافة على أهل الوبر وليست على أهل المدر ) . وهذا حديث لا يصح، وإبراهيم ابن أخي عبدالرزاق متروك الحديث منسوب إلى الكذب، وهذا مما انفرد به، ونسب إلى وضعه؛ قال أبو عمر بن عبدالبر. قال ابن العربي: الضيافة حقيقة فرض على الكفاية، ومن الناس من قال: إنها واجبة في القرى حيث لا طعام ولا مأوى، بخلاف الحواضر فإنها مشحونة بالمأواة والأقوات؛ ولا شك أن الضيف كريم، والضيافة كرامة؛ فإن كان غريبا فهي فريضة.

 

قال ابن العربي قال بعض علمائنا: كانت ضيافة إبراهيم قليلة فشكرها الحبيب من الحبيب، وهذا حكم بالظن في موضع القطع، وبالقياس في موضع النقل؛ من أين علم أنه قليل؟ ! بل قد نقل المفسرون أن الملائكة كانوا ثلاثة؛ جبريل وميكائيل وإسرافيل صلى الله عليهم وسلم؛ وعجل لثلاثة عظيم؛ فما هذا التفسير لكتاب الله بالرأي! هذا بأمانة الله هو التفسير المذموم فاجتنبوه فقد علمتموه.

 

السنة إذا قدم للضيف الطعام أن يبادر المقدِّم إليه بالأكل؛ فإن كرامة الضيف تعجيل التقديم؛ وكرامة صاحب المنزل المبادرة بالقبول؛ فلما قبضوا أيديهم نكرهم إبراهيم؛ لأنهم خرجوا عن العادة وخالفوا السنة، وخاف أن يكون وراءهم مكروه يقصدونه. وروي أنهم كانوا ينكتون بقداح كانت في أيديهم في اللحم ولا تصل أيديهم إلى اللحم، فلما رأى ذلك منهم « نكرهم وأوجس منهم خيفة » أي أضمر. وقيل: أحس؛ والوجوس الدخول؛ قال الشاعر:

جاء البريد بقرطاس يخب به فأوجس القلب من قرطاسه جزعا

« خيفة » خوفا؛ أي فزعا. وكانوا إذا رأوا الضيف لا يأكل ظنوا به شرا؛ فقالت الملائكة « لا تخف إنا أرسلنا إلى لوط »

 

من أدب الطعام أن لصاحب الضيف أن ينظر في ضيفه هل يأكل أم لا؟ وذلك ينبغي أن يكون بتلفت ومسارقة لا بتحديد النظر. روي أن أعرابيا أكل مع سليمان بن عبدالملك، فرأى سليمان في لقمة الأعرابي شعرة فقال له: أزل الشعرة عن لقمتك؟ فقال له: أتنظر إلي نظر من يرى الشعرة في لقمتي؟ ! والله لا أكلت معك.

قلت: وقد ذكر أن هذه الحكاية إنما كانت مع هشام بن عبدالملك لا مع سليمان، وأن الأعرابي خرج من عنده وهو يقول:

وللموت خير من زيارة باخل يلاحظ أطراف الأكيل على عمد

 

الآية: 70 ( فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط )

 

قوله تعالى: « قلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم » يقول: أنكرهم؛ تقول: نكرتك وأنكرتك واستنكرتك إذا وجدته على غير ما عهدته؛ قال الشاعر:

وأنكرتني وما كان الذي نكرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا

فجمع بين اللغتين. ويقال: نكرت لما تراه بعينك. وأنكرت لما تراه بقلبك.

 

الآية: 71 ( وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب )

 

قوله تعالى: « وامرأته قائمة » ابتداء وخبر، أي قائمة بحيث ترى الملائكة. قيل: كانت من وراء الستر. وقيل: كانت تخدم الملائكة وهو جالس. وقال محمد بن إسحاق: قائمة تصلي. وفي قراءة عبدالله بن مسعود « وامرأته قائمة وهو قاعد » . « فضحكت » قال مجاهد وعكرمة: حاضت، وكانت آيسة؛ تحقيقا للبشارة؛ وأنشد على ذلك اللغويون:

وإني لآتي العرس عند طهورها وأهجرها يوما إذا تك ضاحكا

وقال آخر:

وضحكت الأرانب فوق الصفا كمثل دم الجوف يوم اللقا

والعرب تقول: ضحكت الأرنب إذا حاضت؛ وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة؛ أخذ من قولهم: ( ضحكت الكافورة - وهي قشرة الطلعة - إذا انشقت ) . وقد أنكر بعض اللغويين أن يكون في كلام العرب ضحكت بمعنى حاضت. وقال الجمهور: هو الضحك المعروف، واختلفوا فيه؛ فقيل: هو ضحك التعجب؛ قال أبو ذؤيب:

فجاء بمزج لم ير الناس مثله هو الضحك إلا أنه عمل النحل

وقال مقاتل: ضحكت من خوف إبراهيم، ورعدته من ثلاثة نفر، وإبراهيم في حشمه وخدمه؛ وكان إبراهيم يقوم وحده بمائة رجل. قال: وليس الضحك الحيض في اللغة بمستقيم. وأنكر أبو عبيد والفراء ذلك؛ قال الفراء: لم أسمعه من ثقة؛ وإنما هو كناية. وروي أن الملائكة مسحت العجل، فقام من موضعه فلحق بأمه، فضحكت سارة عند ذلك فبشروها بإسحاق. ويقال: كان إبراهيم عليه السلام إذا أراد أن يكرم أضيافه أقام سارة تخدمهم، فذلك قوله: « وامرأته قائمة » أي قائمة في خدمتهم. ويقال: « قائمة » لروع إبراهيم « فضحكت » لقولهم: « لا تخف » سرورا بالأمن. وقال الفراء: فيه تقديم وتأخير؛ المعنى: فبشرناها بإسحاق فضحكت، أي ضحكت سرورا بالولد، وقد هرمت، والله أعلم أي ذلك كان. قال النحاس فيه أقوال: أحسنها - أنهم لما لم يأكلوا أنكرهم وخافهم؛ فلما قالوا لا تخف، وأخبروه أنهم رسل الله، فرح بذلك، فضحكت امرأته سرورا بفرحه. وقيل: إنها كانت قالت له: أحسب أن هؤلاء القوم سينزل بهم عذاب فضم لوطا إليك، فلما جاءت الرسل بما قالته سرت به فضحكت؛ قال النحاس: وهذا إن صح إسناده فهو حسن. والضحك انكشاف الأسنان. ويجوز أن يكون الضحك إشراق الوجه؛ تقول: رأيت فلانا ضاحكا؛ أي مشرقا. وأتيت على روضة تضحك؛ أي مشرقة. وفي الحديث ( إن الله سبحانه يبعث السحاب فيضحك أحسن الضحك ) . جعل انجلاءه عن البرق ضحكا؛ وهذا كلام مستعار. وروي عن رجل من قراء مكة يقال له محمد بن زياد الأعرابي. « فضحكت » بفتح الحاء؛ قال المهدوي؛ وفتح « الحاء » من « فضحكت » غير معروف. وضَحِك يضْحَك ضَحْكا وضِحْكا وضِحِكا وضَحِكا أربع لغات. والضَّحْكة المرة الواحدة، ومنه قول كثير:

غلقت لضحكته رقاب المال

قاله الجوهري:

 

روى مسلم عن سهل بن سعد قال: دعا أبو أسيد الساعدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرسه، فكانت امرأته يومئذ خادمهم وهي العروس. قال سهل: أتدرون ما سقت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أنقعت له تمرات من الليل في تور، فلما أكل سقته إياه. وأخرجه البخاري وترجم له « باب قيام المرأة على الرجال في العرس وخدمتهم بالنفس » . قال علماؤنا: فيه جواز خدمة العروس زوجها وأصحابه في عرسها. وفيه أنه لا بأس أن يعرض الرجل أهله على صالح إخوانه، ويستخدمهن لهم. ويحتمل أن يكون هذا قبل نزول الحجاب. والله أعلم.

 

ذكر الطبري أن إبراهيم عليه السلام لما قدم العجل قالوا: لا نأكل طعاما إلا بثمن؛ فقال لهم: « ثمنه أن تذكروا الله في أوله وتحمدوه في آخره » فقال جبريل لأصحابه: بحق اتخذ الله هذا خليلا. قال علماؤنا: ولم يأكلوا لأن الملائكة لا تأكل. وقد كان من الجائز كما يسر الله للملائكة أن يتشكلوا في صفة الآدمي جسدا وهيئة أن ييسر لهم أكل الطعام؛ إلا أنه في قول العلماء أرسلهم في صفة الآدمي وتكلف إبراهيم عليه السلام الضيافة حتى إذا رأى التوقف وخاف جاءته البشرى فجأة. ودل هذا على أن التسمية في أول الطعام، والحمد في آخره مشروع في الأمم قبلنا؛ وقد جاء في الإسرائيليات أن إبراهيم عليه السلام كان لا يأكل وحده؛ فإذا حضر طعامه أرسل يطلب من يأكل معه؛ فلقي يوما رجلا، فلما جلس معه على الطعام، قال له إبراهيم: سم الله، قال الرجل لا أدري ما الله؟ فقال له: فاخرج عن طعامي، فلما خرج نزل إليه جبريل فقال له: يقول الله إنه يرزقه على كفره مدى عمره وأنت بخلت عليه بلقمة؛ فخرج إبراهيم فزعا يجر رداءه، وقال: ارجع، فقال: لا أرجع حتى تخبرني لم تردني لغير معنى؟ فأخبره بالأمر؛ فقال: هذا رب كريم، آمنت؛ ودخل وسمى الله وأكل مؤمنا.

 

قوله تعالى: « فبشرناها بإسحاق » لما ولد لإبراهيم إسماعيل من هاجر تمنت سارة أن يكون لها ابن، وأيست لكبر سنها، فبشرت بولد يكون نبيا ويلد نبيا، فكان هذا بشارة لها بأن ترى ولد ولدها. « ومن وراء إسحاق يعقوب » قرأ حمزة وعبدالله بن عامر « يعقوب » بالنصب. ورفع الباقون؛ فالرفع على معنى: ويحدث لها من وراء إسحاق يعقوب. ويجوز أن يرتفع بالفعل الذي يعمل في « من » كأن المعنى: وثبت لها من وراء إسحاق يعقوب. ويجوز أن يرتفع بالابتداء، ويكون في موضع الحال؛ أي بشروها بإسحاق مقابلا له يعقوب. والنصب على معنى: ووهبنا لها من وراء إسحاق يعقوب. وأجاز الكسائي والأخفش وأبو حاتم أن يكون « يعقوب » في موضع جر على معنى: وبشرناها من وراء إسحاق بيعقوب. قال الفراء: ولا يجوز الخفض إلا بإعادة الحرف الخافض؛ قال سيبويه ولو قلت: مررت بزيد أول من أمس وأمس عمرو كان قبيحا خبيثا؛ لأنك فرقت بين المجرور وما يشركه وهو الواو، كما فرقت بين الجار والمجرور؛ لأن الجار لا يفصل بينه وبين المجرور، ولا بينه وبين الواو.

 

الآية: 72 ( قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب )

 

قوله تعالى: « يا ويلتا » قال الزجاج: أصلها يا ويلتي؛ فأبدل من الياء ألف، لأنها أخف من الياء والكسرة؛ ولم ترد الدعاء على نفسها بالويل، ولكنها كلمة تخف على أفواه النساء إذا طرأ عليهن ما يعجبن منه؛ وعجبت من ولادتها ومن كون بعلها شيخا لخروجه عن العادة، وما خرج عن العادة مستغرب ومستنكر. و « أألد » استفهام معناه التعجب. « وأنا عجوز » أي شيخة. ولقد عجزت تعجز عجزا وعجزت تعجيزا؛ أي طعنت في السن. وقد يقال: عجوزة أيضا. وعجزت المرأة بكسر الجيم؛ عظمت عجيزتها عجزا وعجزا بضم العين وفتحها. قال مجاهد: كانت بنت تسع وتسعين سنة. وقال ابن إسحاق: كانت بنت تسعين سنة. وقيل غير هذا.

 

قوله تعالى: « وهذا بعلي شيخا » « وهذا بعلي » أي زوجي. « شيخا » نصب على الحال، والعامل فيه التنبيه أو الإشارة. « وهذا بعلي » ابتداء وخبر. وقال الأخفش: وفي قراءة ابن مسعود وأبي « وهذا بعلي شيخ » قال النحاس: كما تقول هذا زيد قائم؛ فزيد بدل من هذا؛ وقائم خبر الابتداء. ويجوز أن يكون « هذا » مبتدأ « وزيد قائم » خبرين؛ وحكى سيبويه: هذا حلو حامض. وقيل: كان إبراهيم ابن مائة وعشرين سنة. وقيل: ابن مائة فكان يزيد عليها في قول مجاهد سنة. وقيل: إنها عرضت بقولها: « وهذا بعلي شيخا » أي عن ترك غشيانه لها. وسارة هذه امرأة إبراهيم بنت هاران بن ناحور بن شاروع بن أرغو بن فالغ، وهي بنت عم إبراهيم. « إن هذا لشيء عجيب » أي الذي بشرتموني به لشيء عجيب.

 

الآية: 73 ( قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد )

 

قوله تعالى: « قالوا أتعجبين من أمر الله » لما قالت: « وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا » وتعجبت، أنكرت الملائكة عليها تعجبها من أمر الله، أي من قضائه. وقدره، أي لا عجب من أن يرزقكما الله الولد، وهو إسحاق. وبهذه الآية استدل كثير من العلماء على أن الذبيح إسماعيل، وأنه أسن من إسحاق؛ لأنها بشرت بأن إسحاق يعيش حتى يولد له يعقوب. وسيأتي الكلام في هذا؛ وبيانه في « الصافات » إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « رحمة الله وبركاته » مبتدأ، والخبر « عليكم » . وحكى سيبويه « عليكم » بكسر الكاف لمجاورتها الياء. وهل هو خبر أو دعاء؟ وكونه إخبارا أشرف؛ لأن ذلك يقتضي حصول الرحمة والبركة لهم، المعنى: أوصل الله لكم رحمته وبركاته أهل البيت. وكونه دعاء إنما يقتضي أنه أمر يترجى ولم يتحصل به بعد. « أهل البيت » نصب على الاختصاص؛ وهذا مذهب سيبويه. وقيل: على النداء.

 

هذه الآية تعطي أن زوجة الرجل، من أهل البيت؛ فدل، هذا على أن أزواج الأنبياء من أهل البيت؛ فعائشة رضي الله عنها وغيرها من جملة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ ممن قال الله فيهم: « ويطهركم تطهيرا » [ الأحزاب: 33 ] وسيأتي.

 

ودلت الآية أيضا على أن منتهى السلام « وبركاته » كما أخبر الله عن صالحي عباده « رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت » . والبركة النمو والزيادة؛ ومن تلك البركات أن جميع الأنبياء والمرسلين كانوا في ولد إبراهيم وسارة. وروى مالك عن وهب بن كيسان أبي نعيم عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: كنت جالسا عند عبدالله بن عباس فدخل عليه رجل من أهل اليمن فقال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته؛ ثم زاد شيئا مع ذلك؛ فقال، ابن عباس - وهو يومئذ قد ذهب بصره - من هذا؟ فقالوا اليماني الذي يغشاك، فعرفوه إياه، فقال: ( إن السلام انتهى إلى البركة ) . وروي عن علي رضى الله عنه أنه قال: دخلت المسجد فإذا أنا بالنبي صلى الله عليه وسلم في عصبة من أصحابه، فقلت: السلام عليكم؛ فقال: ( وعليك السلام ورحمة الله عشرون لي وعشرة لك ) . قال: ودخلت الثانية؛ فقلت: السلام عليكم ورحمة الله فقال: ( وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ثلاثون لي وعشرون لك ) . فدخلت الثالثة فقلت: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: فقال: ( وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ثلاثون لي وثلاثون لك أنا وأنت في السلام سواء ) . « إنه حميد مجيد » أي محمود ماجد. وقد بيناهما في « الأسماء الحسنى » .

 

الآيات: 74 - 76 ( فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط، إن إبراهيم لحليم أواه منيب، يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود )

 

قوله تعالى: « فلما ذهب عن إبراهيم الروع » أي الخوف؛ يقال: ارتاع من كذا إذا خاف؛ قال النابغة:

فارتاع من صوت كلاب فبات له طوع الشوامت من خوف ومن صرد

« وجاءته البشرى » أي بإسحاق ويعقوب. وقال قتادة: بشروه بأنهم إنما أتوا بالعذاب إلى قوم لوط، وأنه لا يخاف. « يجادلنا » أي يجادل رسلنا، وأضافه إلى نفسه، لأنهم نزلوا بأمره. وهذه المجادلة رواها حميد بن هلال عن جندب عن حذيفة؛ وذلك أنهم لما قالوا: « إنا مهلكو أهل هذه القرية » [ العنكبوت: 31 ] قال لهم: أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين أتهلكونهم؟ قالوا: لا. قال: فأربعون؟ قالوا: لا. قال: فثلاثون؟ قالوا: لا. قال: فعشرون؟ قالوا: لا. قال: فإن كان فيها عشرة - أو خمسة شك حميد - قالوا: لا. قال قتادة: نحوا منه؛ قال فقال يعني إبراهيم: قوم ليس فيهم عشرة من المسلمين لا خير فيهم. وقيل إن إبراهيم قال: أرأيتم إن كان فيها رجل مسلم أتهلكونها؟ قالوا: لا. فقال إبراهيم عند ذلك: « إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين » [ العنكبوت: 32 ] . وقال عبدالرحمن ابن سمرة: كانوا أربعمائة ألف. ابن جريج. وكان في قرى قوم لوط أربعة آلاف ألف. ومذهب الأخفش والكسائي أن « يجادلنا » في موضع « جادلنا » . قال النحاس: لما كان جواب « لما » يجب أن يكون بالماضي جعل المستقبل مكانه؛ كما أن الشرط يجب أن يكون بالمستقبل فجعل الماضي مكانه. وفيه جواب آخر: أن يكون « يجادلنا » في موضع الحال؛ أي أقبل يجادلنا؛ وهذا قول الفراء. « إن إبراهيم لحليم : لأواه منيب » تقدم في « براءة » معنى « لأواه حليم » [ التوبة: 114 ] والمنيب الراجع؛ يقال: إذا رجع. وإبراهيم صلى الله عليه وسلم كان راجعا إلى الله تعالى في أمور كلها. وقيل: الأواه المتأوه أسفا على ما قد فات قوم لوط من الإيمان.

 

قوله تعالى: « يا إبراهيم أعرض عن هذا » أي دع عنك الجدال في قوم لوط. « إنه قد جاء أمر ربك » أي عذابه لهم. « إنهم آتيهم » أي نازل بهم. « عذاب غير مردود » أي غير مصروف عنهم ولا مدفوع.

 

الآية: 77 ( ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب )

 

قوله تعالى: « ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم » لما خرجت الملائكة من عند إبراهيم، وكان بين إبراهيم وقرية لوط أربعة فراسخ بصرت بنتا لوط - وهما تستقيان - بالملائكة ورأتا هيئة حسنة، فقالتا: ما شأنكم؟ ومن أين أقبلتم؟ قالوا: من موضع كذا نريد هذه القرية قالتا: فإن أهلها أصحاب الفواحش؛ فقالوا: أبها من يضيفنا؟ قالتا: نعم! هذا الشيخ وأشارتا إلى لوط؛ فلما رأى لوط هيئتهم خاف قومه، عليهم. « سيء بهم » أي ساءه مجيئهم؛ يقال: ساء بسوء فهو لازم، وساءه يسوءه فهو متعد أيضا، وإن شئت ضممت السين؛ لأن أصلها الضم، والأصل سوئ بهم من السوء؛ قلبت حركة الواو على السين فانقلبت ياء، وإن خففت الهمزة ألقيت حركتها على الياء فقلت: « سي بهم » مخففا، ولغة شاذة بالتشديد. « وضاق بهم ذرعا » أي ضاق صدره بمجيئهم وكرهه. وقيل: ضاق وسعه وطاقته. وأصله أن يذرع البعير بيديه في سيره ذرعا على قدر سعة خطوه؛ فإذا حمل على أكثر من طوقه ضاق عن ذلك، وضعف ومد عنقه؛ فضيق الذرع عبارة عن ضيق الوسع. وقيل: هو من ذرعه القيء أي غابه؛ أي ضاق عن حبسه المكروه في نفسه، وإنما ضاق ذرعه بهم لما رأى من جمالهم، وما يعلم من فسق قومه. « وقال هذا يوم عصيب » أي شديد في الشر. وقال الشاعر:

وإنك إلا ترض بكر بن وائل يكن لك يوم بالعراق عصيب

وقال آخر:

يوم عصيب يعصب الأبطالا عصب القوي السلم الطوالا

ويقال: عصيب وعصبصب على التكثير؛ أي مكروه مجتمع الشر وقد. عصب؛ أي عصب بالشر عصابة، ومنه قيل: عصبة وعصابة أي مجتمعو الكلمة؛ أي مجتمعون في أنفسهم. وعصبة الرجل المجتمعون معه في النسب؛ وتعصبت لفلان صرت كعصبته، ورجل معصوب، أي مجتمع الخلق.

 

الآية: 78 ( وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد )

 

قوله تعالى: « وجاءه قومه يهرعون إليه » في موضع الحال. « يهرعون » أي يسرعون. قال الكسائي والفراء وغيرهما من أهل اللغة: لا يكون الإهراع إلا إسراعا مع رعدة؛ يقال: أهرع الرجل إهراعا أي أسرع في رعدة من برد أو غضب أو حمى، وهو مهرع؛ قال مهلهل:

فجاؤوا يهرعون وهم أسارى نقودهم على رغم الأنوف

وقال آخر:

بمعجلات نحوه مهارع

وهذا مثل: أولع فلان بالأمر، وأرعد زيد. وزهي فلان. وتجيء ولا تستعمل إلا على هذا الوجه. وقيل: أهرع أي أهرعه حرصه؛ وعلى هذا « يهرعون » أي يستحثون عليه. ومن قال بالأول قال: لم يسمع إلا أهرع الرجل أي أسرع؛ على لفظ ما لم يسم فاعله. قال ابن القوطية: هرع الإنسان هرعا، وأهرع: سيق واستعجل. وقال الهروي يقال: هرع الرجل وأهرع أي استحث. قال ابن عباس وقتادة والسدي: ( « يهرعون » يهرولون ) . الضحاك: يسعون. ابن عيينة: كأنهم يدفعون. وقال شمر بن عطية: هو مشي بين الهرولة والجَمَزَى. وقال الحسن: مشي بين مشيين؛ والمعنى متقارب. وكان سبب إسراعهم ما روي أن امرأة لوط الكافرة، لما رأت الأضياف وجمالهم وهيئتهم، خرجت حتى أتت مجالس قومها، فقالت لهم: إن لوطا قد أضاف الليلة فتية ما رئي مثلهم جمال؛ وكذا وكذا؛ فحينئذ جاؤوا يهرعون إليه. ويذكر أن الرسل لما وصلوا إلى بلد لوط وجدوا لوطا في حرث له. وقيل: وجدوا ابنته تستقي ماء من نهر سدوم؛ فسألوها الدلالة على من يضيفهم، ورأت هيئتهم فخافت عليهم من قوم لوط، وقالت لهم: مكانكم! وذهبت إلى أبيها فأخبرته؛ فخرج إليهم؛ فقالوا: نريد أن تضيفنا الليلة؛ فقال لهم: أوما سمعتم بعمل هؤلاء القوم؟ فقالوا: وما عملهم؟ فقال أشهد بالله إنهم لشر قوم في الأرض - وقد كان الله عز وجل، قال لملائكته لا تعذبوهم حتى يشهد لوط عليهم أربع شهادات - فلما قال لوط هذه المقالة، قال جبريل لأصحابه: هذه واحدة، وتردد القول بينهم حتى كرر لوط الشهادة أربع مرات، ثم دخل بهم المدينة.

 

قوله تعالى: « ومن قبل » أي ومن قبل مجيء الرسل. وقيل: من قبل لوط. « كانوا يعملون السيئات » أي كانت عادتهم إتيان الرجال. فلما جاؤوا إلى لوط وقصدوا أضيافه قام إليهم لوط مدافعا، وقال: « هؤلاء بناتي » ابتداء وخبر. وقد اختلف في قوله: « هؤلاء بناتي » فقيل: كان له ثلاث بنات من صلبه. وقيل: بنتان؛ زيتا وزعوراء؛ فقيل: كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجهما ابنتيه. وقيل: ندبهم في هذه الحالة إلى النكاح، وكانت سنتهم جواز نكاح الكافر المؤمنة؛ وقد كان هذا في أول الإسلام جائزا ثم نسخ؛ فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بنتا له من عتبة بن أبي لهب، والأخرى من أبي العاص بن الربيع قبل الوحي، وكانا كافرين. وقالت فرقة - منهم مجاهد وسعيد بن جبير - أشار بقوله: « بناتي » إلى النساء جملة؛ إذ نبي القوم أب لهم؛ ويقوي هذا أن في قراءة ابن مسعود. « النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم » [ الأحزاب: 6 ] . وقالت طائفة: إنما كان الكلام مدافعة ولم يرد إمضاءه؛ روي هذا القول عن أبي عبيدة؛ كما يقال لمن ينهى عن أكل مال الغير: الخنزير أحل لك من هذا. وقال عكرمة: لم يعرض عليهم بناته ولا بنات أمته، وإنما قال لهم هذا لينصرفوا.

 

قوله تعالى: « هن أطهر لكم » ابتداء وخبر؛ أي أزوجكموهن؛ فهو أطهر لكم مما تريدون، أي أحل. والتطهر التنزه عما لا يحل. وقال ابن عباس: ( كان رؤساؤهم خطبوا بناته فلم يجبهم، وأراد ذلك اليوم أن يفدي أضيافه ببناته ) . وليس ألف « أطهر » للتفضيل حتى يتوهم أن في نكاح الرجال طهارة، بل هو كقولك: الله أكبر وأعلى وأجل، وإن لم يكن تفضيل؛ وهذا جائز شائع في كلام العرب، ولم يكابر الله تعالى أحد حتى يكون الله تعالى أكبر منه. وقد قال أبو سفيان بن حرب يوم أحد: اعل هبل اعل هبل؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: ( قل الله أعلى وأجل ) . وهبل لم يكن قط عاليا ولا جليلا. وقرأ العامة برفع الراء. وقرأ الحسن وعيسى بن عمرو « هن أطهر » بالنصب على الحال. و « هن » عماد. ولا يجيز الخليل وسيبويه والأخفش أن يكون « هن » ههنا عمادا، وإنما يكون عمادا فيما لا يتم الكلام إلا بما بعدها، نحو كان زيد هو أخاك، لتدل بها على أن الأخ ليس بنعت. قال الزجاج: ويدل بها على أن كان تحتاج إلى خبر. وقال غيره: يدل بها على أن الخبر معرفة أو ما قارنها.

 

قوله تعالى: « فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي » أي لا تهينوني ولا تذلوني. ومنه قول حسان:

فأخزاك ربي يا عتيب بن مالك ولقاك قبل الموت إحدى الصواعق

مددت يمينا للنبي تعمدا ودميت فاه قطعت بالبوارق

ويجوز أن يكون من الخزاية، وهو الحياء، والخجل؛ قال ذو الرمة:

خزاية أدركته بعد جولته من جانب الحبل مخلوطا بها الغضب

وقال آخر:

من البيض لا تخزى إذا الريح ألصقت بها مرطها أو زايل الحلي جيدها

وضيف يقع للاثنين والجميع على لفظ الواحد، لأنه في الأصل مصدر؛ قال الشاعر:

لا تعدمي الدهر شفار الجازر للضيف والضيف أحق زائر

ويجوز فيه التثنية والجمع؛ والأول أكثر كقولك: رجال صوم وفطر وزور. وخزي الرجل خزاية؛ أي استحيا مثل ذل وهان. وخزي خزيا إذا افتضح؛ يخزى فيهما جميعا. ثم وبخهم بقوله: « أليس منكم رجل رشيد » أي شديد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وقيل: « رشيد » أي ذو رشد. أو بمعنى راشد أو مرشد، أي صالح أو مصلح ابن عباس: مؤمن. أبو مالك: ناه عن المنكر. وقيل: الرشيد بمعنى الرشد؛ والرشد والرشاد الهدى والاستقامة. ويجوز أي يكون بمعنى المرشد؛ كالحكيم بمعنى المحكم.

 

الآية: 79 ( قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد )

 

قوله تعالى: « قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق » روي أن قوم لوط خطبوا بناته فردهم، وكانت سنتهم أن من رد في خطبة امرأة لم تحل له أبدا؛ فذلك قوله تعالى: « قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق » وبعد ألا تكون هذه الخاصية. فوجه الكلام أنه ليس، لنا إلى بناتك تعلق، ولا هن قصدنا، ولا لنا عادة نطلب ذلك. « وإنك لتعلم ما نريد » إشارة إلى الأضياف.

 

الآية: 80 ( قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد )

 

قوله تعالى: « قال لو أن لي بكم قوة » لما رأى استمرارهم في غيهم، وضعف عنهم، ولم يقدر على دفعهم، تمنى لو وجد عونا على ردهم؛ فقال على جهة التفجع والاستكانة. « لو أن لي بكم قوة » أي أنصارا وأعوانا. وقال ابن عباس: أراد الولد. و « أن » في موضع رفع بفعل مضمر، تقديره: لو اتفق أو وقع. وهذا يطرد في « أن » التابعة لـ « لو » . وجواب « لو » محذوف؛ أي لرددت أهل الفساد، وحلت بينهم وبين ما يريدون. « أو آوي إلى ركن شديد » أي ألجأ وأنضوي. وقرئ « أو آوي » بالنصب عطفا على « قوة » كأنه قال: « لو أن لي بكم قوة » أو إيواء إلى ركن شديد؛ أي وأن آوي، فهو منصوب بإضمار « أن » . ومراد لوط بالركن العشيرة، والمنعة بالكثرة. وبلغ بهم قبيح فعلهم إلى قوله هذا مع علمه بما عند الله تعالى؛ فيروى أن الملائكة وجدت عليه حين قال هذه الكلمات، وقالوا: إن ركنك لشديد. وفي البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ) الحديث؛ وقد تقدم في « البقرة » . وخرجه الترمذي وزاد ( ما بعث الله بعده نبيا إلا في ثروة من قومه ) . قال محمد بن عمرو: والثروة الكثرة والمنعة؛ حديث حسن. ويروى أن لوطا عليه السلام لما غلبه قومه، وهموا بكسر الباب وهو يمسكه، قالت له الرسل: تنح عن الباب؛ فتنحى وانفتح الباب؛ فضربهم جبريل بجناحه فطمس أعينهم، وعموا وانصرفوا على أعقابهم يقولون: النجاء؛ قال الله تعالى: « ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم » [ القمر: 37 ] . وقال ابن عباس وأهل التفسير: أغلق لوط بابه والملائكة معه في الدار، وهو يناظر قومه ويناشدهم من وراء الباب، وهم يعالجون تسور الجدار؛ فلما رأت الملائكة ما لقي من الجهد والكرب والنصب بسببهم، قالوا: يا لوط إن ركنك لشديد، وأنهم آتيهم عذاب غير مردود، وإنا رسل ربك؛ فافتح الباب ودعنا وإياهم؛ ففتح الباب فضربهم جبريل بجناحه على ما تقدم. وقيل: أخذ جبريل قبضة من تراب فأذراها في وجوههم، فأوصل الله إلى عين من بعد ومن قرب من ذلك التراب فطمس أعينهم، فلم يعرفوا طريقا، ولا اهتدوا إلى بيوتهم، وجعلوا يقولون: النجاء النجاء! فإن في بيت لوط قوما هم أسحر من على وجه الأرض، وقد سحرونا فأعموا أبصارنا. وجعلوا يقولون: يا لوط كما أنت حتى نصبح فسترى؛ يتوعدونه.

 

الآية: 81 ( قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب )

 

قوله تعالى: « قالوا يا لوط إنا رسل ربك » لما رأت الملائكة حزنه واضطرابه ومدافعته عرفوه بأنفسهم، فلما علم أنهم رسل مكن قومه من الدخول، فأمر جبريل عليه السلام يده على أعينهم فعموا، وعلى أيديهم فجفت. « لن يصلوا إليك » أي بمكروه « فأسر بأهلك » قرئ « فاسر » بوصل الألف وقطعها؛ لغتان فصيحتان. قال الله تعالى: « والليل إذا يسر » [ الفجر: 4 ] وقال: « سبحان الذي أسرى » [ الإسراء: 1 ] وقال النابغة: فجمع بين اللغتين:

أسرت عليه من الجوزاء سارية تزجي الشمال عليه جامد البرد

وقال آخر:

حي النضيرة ربة الخدر أسرت إليك ولم تكن تسري

وقد قيل: « فأسر » بالقطع إذا سار من أول الليل، وسرى إذا سار من آخره؛ ولا يقال في النهار إلا سار. وقال لبيد:

إذا المرء أسرى ليلة ظن أنه قضى عملا والمرء ما عاش عامل

وقال عبدالله بن رواحة:

عند الصباح يحمد القوم السرى وتنجلي عنهم غيابات الكرى

« بقطع من الليل » قال ابن عباس: بطائفة من الليل. الضحاك: ببقية من الليل. قتادة: بعد مضي صدر من الليل. الأخفش: بعد جنح من الليل. ابن الأعرابي: بساعة من الليل. وقيل: بظلمة من الليل. وقيل: بعد هدء من الليل. وقيل: هزيع من الليل. وكلها متقاربة؛ وقيل: إنه نصف الليل؛ مأخوذ من قطعه نصفين؛ ومنه قول الشاعر:

ونائحة تنوح بقطع ليل على رجل بقارعة الصعيد

فإن قيل: السرى لا يكون إلا بالليل، فما معنى « بقطع من الليل » ؟ فالجواب: أنه لو لم يقل: « بقطع من الليل » جاز أن يكون أوله. « ولا يلتفت منكم أحد » أي لا ينظر وراءه منكم أحد؛ قال مجاهد. ابن عباس: لا يتخلف منكم أحد. علي بن عيسى لا يشتغل منكم أحد بما يخلفه من مال أو متاع. « إلا امرأتك » بالنصب؛ وهي القراءة الواضحة البينة المعنى؛ أي فأسر بأهلك إلا امرأتك. وكذا في قراءة ابن مسعود « فأسر بأهلك إلا امرأتك » فهو استثناء من الأهل. وعلى هذا لم يخرج بها معه. وقد قال الله عز وجل: « كانت من الغابرين » [ الأعراف: 83 ] أي من الباقين. وقرأ أبو عمرو وابن كثير: « إلا امرأتك » بالرفع على البدل من « أحد » . وأنكر هذه القراءة جماعة منهم أبو عبيد؛ وقال: لا يصح ذلك إلا برفع « يلتفت » ويكون نعتا؛ لأن المعنى يصير - إذا أبدلت وجزمت - أن المرأة أبيح لها الالتفات، وليس المعنى كذلك. قال النحاس: وهذا الحمل من أبي عبيد وغيره على مثل أبي عمرو مع جلالته ومحله من العربية لا يجب أن يكون؛ والرفع على البدل له معنى صحيح، والتأويل له على ما حكى محمد بن الوليد عن محمد بن يزيد أن يقول الرجل لحاجبه: لا يخرج فلان؛ فلفظ النهي لفلان ومعناه للمخاطب؛ أي لا تدعه يخرج؛ ومثله قولك: لا يقم أحد إلا زيد؛ يكون معناه: انههم عن القيام إلا زيدا؛ وكذلك النهي للوط ولفظه لغيره؛ كأنه قال: انههم لا يلتفت منهم أحد إلا امرأتك فإنها تلتفت وتهلك، وأن النهي عن الالتفات لأنه كلام تام؛ أي لا يلتفت، منكم أحد إلا امرأتك فإنها تلتفت وتهلك، وأن لوطا خرج بها، ونهى من معه ممن أسرى بهم ألا يلتفت، فلم يلتفت منهم أحد سوى زوجته؛ فإنها لما سمعت هدة العذاب التفتت وقالت: واقوماه! فأدركها حجر فقتلها. « إنه مصيبها » أي من العذاب، والكناية في « إنه » ترجع إلى الأمر والشأن؛ أي فإن الأمر والشأن والقصة. « مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح » لما قالت الملائكة: « إنا مهلكو أهل هذه القرية » [ العنكبوت: 31 ] قال لوط: الآن الآن. استعجلهم بالعذاب لغيظه على قومه؛ فقالوا: « أليس الصبح بقريب » وقرأ عيسى بن عمر « أليس الصبح » بضم الباء وهي لغة. ويحتمل أن يكون جعل الصبح ميقاتا لهلاكهم؛ لأن النفوس فيه أودع، والناس فيه أجمع. وقال بعض أهل التفسير: إن لوطا خرج بابنتيه ليس معه غيرهما عند طلوع الفجر؛ وأن الملائكة قالت له: إن الله قد وكل بهذه القرية ملائكة معهم صوت رعد، وخطف برق، وصواعق عظيمة، وقد ذكرنا لهم أن لوطا سيخرج فلا تؤذوه؛ وأمارته أنه لا يلتفت، ولا تلتفت ابنتاه فلا يهولنك ما ترى. فخرج لوط وطوى الله له الأرض في وقته حتى نجا ووصل إلى إبراهيم.

 

الآيتان: 82 - 83 ( فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود، مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد )

 

قوله تعالى: « فلما جاء أمرنا » أي عذابنا. « جعلنا عاليها سافلها » وذلك أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت قرى قوم لوط، وهي خمس: سدوم - وهي القرية العظمى، - وعامورا، ودادوما، وضعوه، وقتم، فرفعها من تخوم الأرض حتى أدناها من السماء بما في فيها؛ حتى سمع أهل السماء نهيق حمرهم وصياح ديكتهم، لم تنكفئ لهم جرة، ولم ينكسر لهم إناء، ثم نكسوا على رؤوسهم، وأتبعهم الله بالحجارة. مقاتل. أهلكت أربعة، ونجت ضعوه. وقيل: غير هذا، والله أعلم.

 

قوله تعالى: « وأمطرنا عليها حجارة من سجيل » دليل على أن من فعل فعلهم حكمه الرجم، وقد تقدم في « الأعراف » . وفي التفسير: أمطرنا في العذاب، ومطرنا في الرحمة. وأما كلام العرب فيقال: مطرت السماء وأمطرت: حكاه الهروي. واختلف في « السجيل » فقال النحاس: السجيل الشديد الكثير؛ وسجيل وسجين اللام والنون أختان. وقال أبو عبيدة: السجيل الشديد؛ وأنشد:

ضربا تواصى به الأبطال سجينا

قال النحاس: ورد عليه هذا القول عبدالله بن مسلم وقال: هذا سجين وذلك سجيل فكيف يستشهد به؟! قال النحاس: وهذا الرد لا يلزم؛ لأن أبا عبيدة ذهب إلى أن اللام تبدل من النون لقرب إحداهما من الأخرى؛ وقول أبي عبيدة يرد من جهة أخرى؛ وهي أنه لو كان على قوله لكان حجارة سجيلا؛ لأنه لا يقال: حجارة من شديد؛ لأن شديدا نعت. وحكى أبو عبيدة عن الفراء أنه قد يقال لحجارة الأرحاء سجيل. وحكى عنه محمد بن الجهم أن سجيلا طين يطبخ حتى يصير بمنزلة الأرحاء. وقالت طائفة منهم ابن عباس وسعيد بن جبير وابن إسحاق: إن سجيلا لفظة غير عربية عربت، أصلها سنج وجيل. ويقال: سنك وكيل؛ بالكاف موضع الجيم، وهما بالفارسية حجر وطين عربتهما العرب فجعلتهما اسما واحدا. وقيل: هو من لغة العرب. وقال قتادة وعكرمة: السجيل الطين بدليل قوله « لنرسل عليهم حجارة من طين » [ الذاريات: 33 ] . وقال الحسن: كان أصل الحجارة طينا فشددت. والسجيل عند العرب كل شديد صلب. وقال الضحاك: يعني الآجر. وقال ابن زيد: طين طبخ حتى كان كالآجر؛ وعنه أن سجيلا اسم السماء الدنيا؛ ذكره المهدوي؛ وحكاه الثعلبي عن أبي العالية؛ وقال ابن عطية: وهذا ضعيف يرده وصفه بـ « منضود » . وعن عكرمة: أنه بحر معلق في الهواء بين السماء والأرض منه نزلت الحجارة. وقيل: هي جبال في السماء، وهي التي أشار الله تعالى إليها بقوله: « وينزل من السماء من جبال فيها من برد » [ النور: 43 ] . وقيل: هو مما سجل لهم أي كتب لهم أن يصيبهم؛ فهو في معنى سجين؛ قال الله تعالى: « وما أدراك ما سجين. كتاب مرقوم » [ المطففين: 8 ] قاله الزجاج واختاره. وقيل: هو فعيل من أسجلته أي أرسلته؛ فكأنها مرسلة عليهم. وقيل: هو من أسجلته إذا أعطيته؛ فكأنه عذاب أعطوه؛ قال:

من يساجلني يساجل ماجدا يملأ الدلو إلى عقد الكرب

وقال أهل المعاني: السجيل والسجين الشديد من الحجر والضرب؛ قال ابن مقبل:

ورجلة يضربون البيض ضاحية ضربا تواصى به الأبطال سجينا

« منضود » قال ابن عباس: متتابع. وقال قتادة: نضد بعضها فوق بعض. وقال الربيع: نضد بعضه على بعض حتى صار جسدا واحدا. وقال عكرمة: مصفوف. وقال بعضهم مرصوص؛ والمعنى متقارب. يقال: نضدت المتاع واللبن إذا جعلت بعضه على بعض، فهو منضود ونضيد ونضد؛ قال:

ورفعته إلى السجفين فالنضد

وقال أبو بكر الهذلي: معد؛ أي هو مما أعده الله لأعدائه الظلمة. « مسومة » أي معلمة، من السيما وهي العلامة؛ أي كان عليها أمثال الخواتيم. وقيل: مكتوب على كل حجر اسم من رمي به، وكانت لا تشاكل حجارة الأرض. وقال الفراء: زعموا أنها كانت بحمرة وسواد في بياض، فذلك تسويمها. وقال كعب: كانت معلمة ببياض وحمرة، وقال الشاعر:

غلام رماه الله بالحسن يافعا له سيمياء لا تشق على البصر

و « مسومة » من نعت حجارة. و « منضود » من نعت « سجيل » . وفي قوله: « عند ربك » دليل على أنها ليست من حجارة الأرض؛ قاله الحسن. « وما هي من الظالمين ببعيد » يعني قوم لوط؛ أي لم تكن تخطئهم. وقال مجاهد: يرهب قريشا؛ المعنى: ما الحجارة من ظالمي قومك يا محمد ببعيد. وقال قتادة وعكرمة: يعني ظالمي هذه الأمة؛ والله ما أجار الله منها ظالما بعد. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( سيكون في آخر أمتي قوم يكتفي رجالهم بالرجال ونساؤهم بالنساء فإذا كان ذلك فارتقبوا عذاب قوم لوط أن يرسل الله عليهم حجارة من سجيل ) ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم « وما هي من الظالمين ببعيد » . وفي رواية عنه عليه السلام ( لا تذهب الليالي والأيام حتى تستحل هذه الأمة أدبار الرجال كما استحلوا أدبار النساء فتصيب طوائف من هذه الأمة حجارة من ربك ) . وقيل: المعنى ما هذه القرى من الظالمين ببعيد؛ وهي بين الشام والمدينة. وجاء « ببعيد » مذكرا على معنى بمكان بعيد. وفي الحجارة التي أمطرت قولان: أحدهما. أنها أمطرت على المدن حين رفعها جبريل. الثاني: أنها أمطرت على من لم يكن في المدن من أهلها وكان خارجا عنها.

 

الآية: 84 ( وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط )

 

قوله تعالى: « وإلى مدين أخاهم شعيبا » أي وأرسلنا إلى مدين، ومدين هم قوم شعيب. وفي تسميتهم بذلك قولان: أحدهما: أنهم بنو مدين بن إبراهيم؛ فقيل: مدين والمراد بنو مدين. كما يقال مضر والمراد بنو مضر. الثاني: أنه اسم مدينتهم، فنسبوا إليها. قال النحاس: لا ينصرف مدين لأنه اسم مدينة؛ وقد تقدم في « الأعراف » هذا المعنى وزيادة. « قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره » تقدم. « ولا تنقصوا المكيال والميزان » كانوا مع كفرهم أهل بخس وتطفيف؛ كانوا إذا جاءهم البائع بالطعام أخذوا بكيل زائد، واستوفوا بغاية ما يقدرون عليه وظلموا؛ وإن جاءهم مشتر للطعام باعوه بكيل ناقص، وشحوا له بغاية ما يقدرون؛ فأمروا بالإيمان إقلاعا عن الشرك، وبالوفاء نهيا عن التطفيف. « إني أراكم بخير » أي في سعة من الرزق، وكثرة من النعم. وقال الحسن: كان سعرهم رخيصا. « وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط » وصف اليوم بالإحاطة، وأراد وصف ذلك اليوم بالإحاطة بهم؛ فإن يوم العذاب إذا أحاط بهم فقد أحاط العذاب بهم، وهو كقولك: يوم شديد؛ أي شديد حره. واختلف في ذلك العذاب؛ فقيل: هو عذاب النار في الآخرة. وقيل: عذاب الاستئصال في الدنيا. وقيل: غلاء السعر؛ روي معناه عن ابن عباس. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما أظهر قوم البخس في المكيال والميزان إلا ابتلاهم الله بالقحط والغلاء ) . وقد تقدم.

 

الآية: 85 ( ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين )

 

قوله تعالى: « ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط » أمر بالإيفاء بعد أن نهى عن التطفيف تأكيدا. والإيفاء الإتمام. « بالقسط » أي بالعدل والحق، والمقصود أن يصل كل ذي كل نصيب إلى نصيبه؛ وليس يريد إيفاء المكيال والموزون لأنه لم يقل: أوفوا بالمكيال وبالميزان؛ بل أراد ألا تنقصوا حجم المكيال عن المعهود، وكذا الصنجات. « ولا تبخسوا الناس أشياءهم » أي لا تنقصوهم مما استحقوه شيئا. « ولا تعثوا في الأرض مفسدين » بين أن الخيانة في المكيال والميزان مبالغة في الفساد في الأرض، وقد مضى في « الأعراف » زيادة لهذا، والحمد لله.

 

الآية: 86 ( بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ )

 

قوله تعالى: « بقية الله خير لكم » أي ما يبقيه الله لكم بعد إيفاء الحقوق بالقسط أكثر بركة، وأحمد عاقبة مما تبقونه أنتم لأنفسكم من فضل التطفيف بالتجبر والظلم؛ قال معناه الطبري، وغيره. وقال مجاهد: « بقية الله خير لكم » يريد طاعته. وقال الربيع: وصية الله. وقال الفراء: مراقبة الله. ابن زيد: رحمة الله. قتادة والحسن: حظكم من ربكم خير لكم. وقال ابن عباس: رزق الله خير لكم. « إن كنتم مؤمنين » شرط هذا لأنهم إنما يعرفون صحة هذا إن كانوا مؤمنين. وقيل: يحتمل أنهم كانوا يعترفون بأن الله خالقهم فخاطبهم بهذا. « وما أنا عليكم بحفيظ » أي رقيب أرقبكم عند كيلكم ووزنكم؛ أي لا يمكنني شهود كل معاملة تصدر منكم حتى أؤاخذكم بإيفاء الحق. وقيل: أي لا يتهيأ لي أن أحفظكم من إزالة نعم الله عليكم بمعاصيكم.

 

الآية: 87 ( قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد )

 

قوله تعالى: « قالوا يا شعيب أصلواتك » وقرئ « أصَلاتُك » من غير جمع. « تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا » « أن » في موضع نصب؛ قال الكسائي: موضعها خفض على إضمار الباء. وروي أن شعيبا عليه السلام كان كثير الصلاة، مواظبا على العبادة فرضها ونقلها ويقول: الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر؛ فلما أمرهم ونهاهم عيروه بما رأوه يستمر عليه من كثرة الصلاة، واستهزؤوا به فقالوا ما أخبر الله عنهم. وقيل: إن الصلاة هنا بمعنى القراءة؛ قاله سفيان عن الأعمش، أي قراءتك تأمرك؛ ودل بهذا على أنهم كانوا كفارا. وقال الحسن: لم يبعث الله نبيا إلا فرض عليه الصلاة والزكاة. « أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء » زعم الفراء أن التقدير: أو تنهانا أن نفعل في أموالنا ما نشاء. وقرأ السلمي والضحاك بن قيس « أو أن تفعل في أموالنا ما تشاء » بالتاء في الفعلين، والمعنى: ما تشاء أنت يا شعيب. وقال النحاس: « أو أن » على هذه القراءة معطوفة على « أن » الأولى. وروي عن زيد بن أسلم أنه قال: كان مما نهاهم عنه حذف الدراهم. وقيل: معنى. « أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء » إذا تراضينا فيما بيننا بالبخس فلم تمنعنا منه؟!. « إنك لأنت الحليم الرشيد » يعنون عند نفسك بزعمك. ومثله في صفة أبي جهل: « ذق إنك أنت العزيز الكريم » [ الدخان: 49 ] أي عند نفسك بزعمك. وقيل: قالوه على وجه الاستهزاء والسخرية، قاله قتادة. ومنه قولهم للحبشي: أبو البيضاء، وللأبيض أبو الجون؛ ومنه قول خزنة جهنم لأبي جهل: « ذق إنك أنت العزيز الكريم » . وقال سفيان بن عيينة: العرب تصف الشيء بضده للتطير والتفاؤل؛ كما قيل للديغ سليم، وللفلاة مفازة. وقيل: هو تعريض أرادوا به السب؛ وأحسن من هذا كله، ويدل ما قبله على صحته؛ أي إنك أنت الحليم الرشيد حقا، فكيف تأمرنا أن نترك ما يعبد آباؤنا! ويدل عليه. « أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا » أنكروا لما رأوا من كثرة صلاته وعبادته، وأنه حليم رشيد بأن يكون يأمرهم بترك ما كان يعبد آباؤهم، وبعده أيضا ما يدل عليه.

 

الآية: 88 ( قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب )

 

قوله تعالى: « قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي » أي أفلا أنهاكم عن الضلال؟! وهذا كله يدل على أنهم قالوه على وجه الحقيقة، وأنه اعتقادهم فيه. ويشبه هذا المعنى قول اليهود من بني قريظة للنبي صلى الله عليه وسلم حين قال لهم: ( يا إخوة القردة ) فقالوا: يا محمد ما علمناك جهولا!.

 

مسألة: قال أهل التفسير: كان مما ينهاهم عنه، وعذبوا لأجله قطع الدنانير والدراهم؛ كانوا يقرضون من أطراف الصحاح لتفضل لهم القراضة، وكانوا يتعاملون على الصحاح عدا، وعلى المقروضة وزنا، وكانوا يبخسون في الوزن. وقال ابن وهب قال مالك: كانوا يكسرون الدنانير والدراهم، وكذلك قال جماعة من المفسرين المتقدمين كسعيد بن المسيب، وزيد بن أسلم وغيرهما؛ وكسرهما ذنب عظيم. وفي كتاب أبي داود عن علقمة بن عبدالله عن أبيه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس؛ فإنها إذا كانت صحاحا قام معناها؛ وظهرت فائدتها، وإذا كسرت صارت سلعة، وبطلت منها الفائدة؛ فأضر ذلك، بالناس؛ ولذلك حرم. وقد قيل في تأويل قوله تعالى: « وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون » [ النمل: 48 ] أنهم كانوا يكسرون الدراهم؛ قاله زيد بن أسلم. قال أبو عمر بن عبدالبر: زعموا أنه لم يكن بالمدينة أعلم بتأويل القرآن من زيد بن أسلم بعد محمد بن كعب القرظي.

 

مسألة: قال أصبغ قال عبدالرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة مولى زيد بن الحارث العتقي: من كسرها لم تقبل شهادته، وإن اعتذر بالجهالة لم يعذر، وليس هذا بموضع عذر؛ قال ابن العربي: أما قوله: لم تقبل شهادته فلأنه أتى كبيرة، والكبائر تسقط العدالة دون الصغائر؛ وأما قوله: لا يقبل عذره بالجهالة في هذا فلأنه أمر بين لا يخفى على أحد، وإنما يقبل العذر إذا ظهر الصدق فيه، أو خفي وجه الصدق فيه، وكان الله أعلم به من العبد كما قال مالك.

مسألة: إذا كان هذا معصية وفسادا ترد به الشهادة فإنه يعاقب من فعل ذلك، ومر ابن المسيب برجل قد جلد فقال: ما هذا؟ قال رجل: يقطع الدنانير والدراهم؛ قال ابن المسيب: هذا من الفساد في الأرض؛ ولم ينكر جلده؛ ونحوه عن سفيان. وقال أبو عبدالرحمن النجيبي: كنت قاعدا عند عمر بن عبدالعزيز وهو إذ ذاك أمير المدينة فأتى برجل يقطع الدراهم وقد شهد عليه فضربه وحلقه، وأمر فطيف به، وأمره أن يقول: هذا جزاء من يقطع الدراهم؛ ثم أمر أن يرد إليه؛ فقال: إنه لم يمنعني أن أقطع يدك إلا أني لم أكن تقدمت في ذلك قبل اليوم، وقد تقدمت في ذلك فمن شاء فليقطع. قال القاضي أبو بكر بن العربي: أما أدبه بالسوط فلا كلام فيه، وأما حلقه فقد فعله عمر؛ وقد كنت أيام الحكم بين الناس أضرب وأحلق، وإنما كنت أفعل ذلك بمن يرى شعره عونا له على المعصية، وطريقا إلى التجمل به في الفساد، وهذا هو الواجب في كل طريق للمعصية، أن يقطع إذا كان غير مؤثر في البدن، وأما قطع يده فإنما أخذ ذلك عمر من فصل السرقة؛ وذلك أن قرض الدراهم غير كسرها، فإن الكسر إفساد الوصف، والقرض تنقيص للقدر، فهو أخذ مال على جهة الاختفاء؛ فإن قيل: أليس الحرز أصلا في القطع؟ قلنا: يحتمل أن يكون عمر يرى أن تهيئتها للفصل بين الخلق دينارا أو درهما حرز لها، وحرز كل شيء على قدر حاله؛ وقد أنفذ ذلك ابن الزبير، وقطع يد رجل في قطع الدنانير والدراهم. وقد قال علماؤنا المالكية: إن الدنانير والدراهم خواتيم الله عليها اسمه؛ ولو قطع على قول أهل التأويل من كسر خاتما لله كان أهلا لذلك، أو من كسر خاتم سلطان عليه اسمه أدب، وخاتم الله تقضى به الحوائج فلا يستويان في العقوبة. قال ابن العربي: وأرى أن يقطع في قرضها دون كسرها، وقد كنت أفعل ذلك أيام توليتي الحكم، إلا أني كنت محفوفا بالجهال، فلم أجبن بسبب المقال للحسدة الضلال فمن قدر عليه يوما من أهل الحق فليفعله احتسابا لله تعالى.

 

قوله تعالى: « ورزقني منه رزقا حسنا » أي واسعا حلالا، وكان شعيب عليه السلام كثير المال، قاله ابن عباس وغيره. وقيل: أراد به. الهدى والتوفيق، والعلم والمعرفة، وفي الكلام حذف، وهو ما ذكرناه؛ أي أفلا أنهاكم عن الضلال! وقيل: المعنى « أرأيتم إن كنت على بينة من ربي » أتبع الضلال؟ وقيل: المعنى « أرأيتم إن كنت على بينة من ربي » أتأمرونني بالعصيان في البخس والتطفيف، وقد أغناني الله عنه. « وما أريد أن أخالفكم » في موضع نصب بـ « أريد » . « إلى ما أنهاكم عنه » أي ليس أنهاكم عن شيء وأرتكبه، كما لا أترك ما أمرتكم به. « إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت » أي ما أريد إلا فعل الصلاح؛ أي أن تصلحوا دنياكم بالعدل، وآخرتكم بالعبادة، وقال: « ما استطعت » لأن الاستطاعة من شروط الفعل دون الإرادة. و « ما » مصدرية؛ أي إن أريد إلا الإصلاح جهدي واستطاعتي. « وما توفيقي » أي رشدي، والتوفيق الرشد. « إلا بالله عليه توكلت » أي اعتمدت. « وإليه أنيب » أي أرجع فيما ينزل بي من جميع النوائب. وقيل: إليه أرجع في الآخرة. وقيل: إن الإنابة الدعاء، ومعناه وله أدعو.

 

الآية: 89 ( ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد )

 

قوله تعالى: « ويا قوم لا يجرمنكم » وقرأ يحيى بن وثاب « يُجْرِمَنَّكُمْ » . لا يدخلنكم في الجرم؛ كما تقول: آثمني أي أدخلني في الإثم. « شقاقي » في موضع رفع. « أن يصيبكم » في موضع نصب، أي لا يحملنكم معاداتي على ترك الإيمان فيصيبكم ما أصاب الكفار قبلكم، قاله الحسن وقتادة. وقيل: لا يكسبنكم شقاقي إصابتكم العذاب، كما أصاب من كان قبلكم، قاله الزجاج. وقد تقدم معنى « يجرمنكم » في « المائدة » و « الشقاق » في « البقرة » وهو هنا بمعنى العداوة، قاله السدي، ومنه قول الأخطل:

ألا من مبلغ عني رسولا فكيف وجدتم طعم الشقاق

وقال الحسن البصري: إضراري. وقال قتادة: فراقي. « وما قوم لوط منكم ببعيد » وذلك أنهم كانوا حديثي عهد بهلاك قوم لوط. وقيل: وما ديار قوم لوط منكم ببعيد؛ أي بمكان بعيد، فلذلك وحد البعيد. قال الكسائي: أي دورهم في دوركم.

 

الآية: 90 ( واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود )

 

قوله تعالى: « واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه » تقدم. « إن ربي رحيم ودود » اسمان من أسمائه سبحانه، وقد بيناهما في كتاب « الأسنى في شرح الأسماء الحسنى » . قال الجوهري: وددت الرجل أوده ودا إذا أحببته، والودود المحب، والود والود والود والمودة المحبة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا ذكر شعيبا قال: ( ذاك خطيب الأنبياء ) .

 

الآية: 91 ( قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز )

 

قوله تعالى: « قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول » أي ما نفهم؛ لأنك تحملنا على أمور غائبة من البعث والنشور، وتعظنا بما لا عهد لنا بمثله. وقيل: قالوا ذلك إعراضا عن سماعه، واحتقارا لكلامه؛ يقال: فقه يفقه إذا فهم فقها؛ وحكى الكسائي: فقه فقها وفقها إذا صار فقيها. « وإنا لنراك فينا ضعيفا » قيل: إنه كان مصابا ببصره؛ قاله سعيد بن جبير وقتادة. وقيل: كان ضعيف البصر؛ قاله الثوري، وحكى عنه النحاس مثل قول سعيد بن جبير وقتادة. قال النحاس: وحكى أهل اللغة أن حمير تقول للأعمى ضعيفا؛ أي قد ضعف بذهاب بصره؛ كما يقال، له ضرير؛ أي قد ضر بذهاب بصره؛ كما يقال له: مكفوف؛ أي قد كف عن النظر بذهاب بصره. قال الحسن: معناه مهين. وقيل: المعنى ضعيف البدن؛ حكاه علي بن عيسى. وقال السدي: وحيدا ليس لك جند وأعوان تقدر بها على مخالفتنا. وقيل: قليل المعرفة بمصالح الدنيا وسياسة أهلها و « ضعيفا » نصب على الحال. « ولولا رهطك » رفع بالابتداء، ورهط الرجل عشيرته الذي يستند إليهم ويتقوى بهم؛ ومنه الراهطاء لجحر اليربوع؛ لأنه يتوثق به ويخبأ فيه ولده. ومعنى « لرجمناك » لقتلناك بالرجم، وكانوا إذا قتلوا إنسانا رجموه بالحجارة، وكان رهطه من أهل ملتهم. وقيل: معنى « لرجمناك » لشتمناك؛ ومنه قول الجعدي:

تراجمنا بمر القول حتى نصير كأننا فرسا رهان

والرجم أيضا اللعن؛ ومنه الشيطان الرجيم. « وما أنت علينا بعزيز » أي ما أنت علينا بغالب ولا قاهر ولا ممتنع.

 

الآية: 92 ( قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط )

 

قوله تعالى: « قال يا قوم أرهطي » « أرهطي » رفع بالابتداء؛ والمعنى أرهطي في قلوبكم « أعز عليكم من الله » وأعظم وأجل وهو يملككم. « واتخذتموه وراءكم ظهريا » أي اتخذتم ما جئتكم به من أمر الله ظهريا؛ أي جعلتموه وراء ظهوركم، وامتنعتم من قتلي مخافة قومي يقال: جعلت أمره بظهر إذا قصرت فيه، وقد مضى في « البقرة » ، « إن ربي بما تعملون » أي من الكفر والمعصية. « محيط » أي عليم. وقيل: حفيظ.

 

الآيتان: 93 ( ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب )

 

قوله تعالى: « ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون » تهديد ووعيد؛ وقد تقدم في « الأنعام » . « من يأتيه عذاب يخزيه » أي يهلكه. و « من » في موضع نصب، مثل « يعلم المفسد من المصلح » [ البقرة: 220 ] . « ومن هو كاذب » عطف عليها. وقيل: أي وسوف تعلمون من هو كاذب منا. وقيل: في محل رفع؛ تقديره: ويخزي من هو كاذب. وقيل: تقديره ومن هو كاذب فسيعلم كذبه، ويذوق وبال أمره. وزعم الفراء أنهم إنما جاؤوا بـ « هو » في « ومن هو كاذب » لأنهم لا يقولون من قائم؛ إنما يقولون: من قام، ومن يقوم، ومن القائم؛ فزادوا « هو » ليكون جملة تقوم مقام فعل ويفعل. قال النحاس: ويدل على خلاف هذا قوله:

من رسولي إلى الثريا بأني ضقت ذرعا بهجرها والكتاب

« وارتقبوا إني معكم رقيب » أي انتظروا العذاب والسخطة؛ فإني منتظر النصر والرحمة.

 

الآية: 94 - 95 ( ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين، كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود )

 

قوله تعالى: « ولما جاء أمرنا » قيل: صاح بهم جبريل صيحة فخرجت أرواحهم من أجسادهم « وأخذت الذين ظلموا الصيحة » أي صيحة جبريل. وأنث الفعل على لفظ الصيحة، وقال في قصة صالح: « وأخذ الذين ظلموا الصيحة » فذكر على معنى الصياح. قال ابن عباس: ما أهلك الله أمتين بعذاب واحد إلا قوم صالح وقوم شعيب، أهلكهم الله بالصيحة؛ غير أن قوم صالح أخذتهم الصيحة من تحتهم، وقوم شعيب أخذتهم الصيحة من فوقهم. « فأصبحوا في ديارهم جاثمين، كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود » تقدم معناه. وحكى الكسائي أن أبا عبدالرحمن السلمي قرأ « كما بعدت ثمود » بضم العين. قال النحاس: المعروف في اللغة إنما يقال بعد يبعد بعدا وبعدا إذا هلك. وقال المهدوي: من ضم العين من « بعدت » فهي لغة تستعمل في الخير والشر، ومصدرها البعد؛ وبعدت تستعمل في الشر خاصة؛ يقال: بعد يبعد بعدا؛ فالبعد على قراءة الجماعة بمعنى اللعنة، وقد يجتمع معنى اللغتين لتقاربهما في المعنى؛ فيكون مما جاء مصدره على غير لفظه لتقارب المعاني.

 

الآيتان: 96 - 97 ( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين، إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد )

 

قوله تعالى: « ولقد أرسلنا موسى بآياتنا » بين أنه أتبع النبي النبي لإقامة الحجة، وإزاحة كل علة « بآياتنا » أي بالتوراة. وقيل: بالمعجزات. « وسلطان مبين » أي حجة بينة؛ يعني العصا. وقد مضى في « آل عمران » معنى السلطان واشتقاقه فلا معنى للإعادة. « إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون » أي شأنه وحاله، حتى اتخذوه إلها، وخالفوا أمر الله تعالى. « وما أمر فرعون برشيد » أي بسديد يؤدي إلى صواب: وقيل: « برشيد » أي بمرشد إلى خير.

 

الآية: 98 ( يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود )

 

قوله تعالى: « يقدم قومه يوم القيامة » يعني أنه يتقدمهم إلى النار إذ هو رئيسهم. يقال: قدمهم يقدمهم قدما وقدوما إذا تقدمهم. « فأوردهم النار » أي أدخلهم فيها. ذكر بلفظ الماضي؛ والمعنى فيوردهم النار؛ وما تحقق وجوده فكأنه كائن؛ فلهذا يعبر عن المستقبل بالماضي. « وبئس الورد المورود » أي بئس المدخل المدخول؛ ولم يقل بئست لأن الكلام يرجع إلى المورود، وهو كما تقول: نعم المنزل دارك، ونعمت المنزل دارك. والمورود الماء الذي يورد، والموضع الذي يورد؛ وهو بمعنى المفعول.

 

الآية: 99 ( وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود )

 

قوله تعالى: « وأتبعوا في هذه لعنة » أي في الدنيا. « ويوم القيامة » أي ولعنة يوم القيامة؛ وقد تقدم هذا المعنى. « بئس الرفد المرفود » حكى الكسائي وأبو عبيدة: رفدته أرفده رفدا؛ أي أعنته وأعطيته. واسم العطية الرفد؛ أي بئس العطاء والإعانة. والرفد أيضا القدح الضخم؛ قاله الجوهري، والتقدير: بئس الرفد رفد المرفود. وذكر الماوردي: أن الرفد بفتح الراء القدح، والرفد بكسرها ما في القدح من الشراب؛ حكى ذلك عن الأصمعي؛ فكأنه ذم بذلك ما يسقونه في النار. وقيل: إن الرفد الزيادة؛ أي بئس ما يرفدون به بعد الغرق النار؛ قاله الكلبي.

 

الآيتان: 100 - 101 ( ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد، وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب )

 

قوله تعالى: « ذلك من أنباء القرى نقصه عليك » « ذلك » رفع على إضمار مبتدأ، أي الأمر ذلك. وإن شئت بالابتداء؛ والمعنى: ذلك النبأ المتقدم من أنباء القرى نقصه عليك. « منها قائم وحصيد » قال قتادة: القائم ما كان خاويا على عروشه، والحصيد ما لا أثر له. وقيل: القائم العامر، والحصيد الخراب؛ قاله ابن عباس: وقال مجاهد: قائم خاوية على عروشها، وحصيد مستأصل؛ يعني محصودا كالزرع إذا حصد؛ قال الشاعر:

والناس في قسم المنية بينهم كالزرع منه قائم وحصيد

وقال آخر:

إنما نحن مثل خامة زرع فمتى يأن يأت محتصده

قال الأخفش سعيد: حصيد أي محصود، وجمعه حصدى وحصاد مثل مرضى ومراض؛ قال: يكون فيمن يعقل حصدى، مثل قتيل وقتلى. « وما ظلمناهم » أصل الظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه، وقد تقدم في « البقرة » مستوفى. « ولكن ظلموا أنفسهم » بالكفر والمعاصي. وحكى سيبويه أنه يقال: ظلم إياه « فما أغنت » أي دفعت. « عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء » في الكلام حذف، أي التي كانوا يعبدون؛ أي يدعون. « وما زادوهم غير تتبيب » أي غير تخسير؛ قاله مجاهد وقتاده. وقال لبيد:

فلقد بليت وكل صاحب جده لبلى يعود وذاكم التتبيب

والتباب الهلال والخسران؛ وفيه إضمار؛ أي ما زادتهم عبادة الأصنام، فحذف المضاف؛ أي كانت عبادتهم إياها قد خسرتهم ثواب الآخرة.

 

الآيتان: 102 - 103 ( وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد، إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود )

 

قوله تعالى: « وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى » أي كما أخذ هذه القرى التي كانت لنوح وعاد وثمود يأخذ جميع القرى الظالمة. وقرأ عاصم الجحدري وطلحة بن مصرف « وكذلك أخذ ربك إذ أخذ القرى » وعن الجحدري أيضا « وكذلك أخذ ربك » كالجماعة « إذ أخذ القرى » . قال المهدوي من قرأ: « وكذلك أخذ ربك إذ أخذ » فهو إخبار عما جاءت به العادة في إهلاك من تقدم من الأمم؛ والمعنى: وكذلك أخذ ربك من أخذه من الأمم المهلكة إذ أخذهم. وقراءة الجماعة على أنه مصدر؛ والمعنى: كذلك أخذ ربك من أراد إهلاكه متى أخذه؛ فإذ لما مضى؛ أي حين أخذ القرى؛ وإذا للمستقبل « وهي ظالمة » أي وأهلها ظالمون؛ فحذف المضاف مثل: « واسأل القرية » [ يوسف: 82 ] . « إن أخذه أليم شديد » أي عقوبته لأهل الشرك موجعة غليظة. وفي صحيح مسلم والترمذي من حديث أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ) ثم قرأ « وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى » الآية. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب.

 

قوله تعالى: « إن في ذلك لآية » أي لعبرة وموعظة. « ذلك يوم » ابتداء وخبر. « مجموع » من نعته.

 

قوله تعالى: « له الناس » اسم ما لم يسم فاعله؛ ولهذا لم يقل مجموعون، فإن قدرت ارتفاع « الناس » بالابتداء، والخبر « مجموع له » فإنما لم يقل: مجموعون على هذا التقدير؛ لأن « له » يقوم مقام الفاعل. والجمع الحشر، أي يحشرون لذلك اليوم. « وذلك يوم مشهود » أي يشهده البر والفاجر؛ ويشهده أهل السماء. وقد ذكرنا هذين الاسمين مع غيرهما من أسماء القيامة في كتاب « التذكرة » وبيناهما والحمد الله.

 

الآية: 104 - 105 ( وما نؤخره إلا لأجل معدود، يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد )

 

قوله تعالى: « وما نؤخره » أي ما نؤخر ذلك اليوم. « إلا لأجل معدود » أي لأجل سبق به قضاؤنا، وهو معدود عندنا. « يوم يأتي » وقرئ « يوم يأت » لأن الياء تحذف إذا كان قبلها كسرة؛ تقول: لا أدر؛ ذكره القشيري. قال النحاس: قرأه أهل المدينة وأبو عمرو والكسائي بإثبات الياء في الإدراج؛ وحذفها في الوقف، وروي أن أبيا وابن مسعود قرآ « يوم يأتي » بالياء في الوقف والوصل. وقرأ الأعمش وحمزة « يوم يأت » بغير باء في الوقف والوصل، قال أبو جعفر النحاس: الوجه في هذا ألا يوقف عليه، وأن يوصل بالياء، لأن جماعة من النحويين قالوا: لا تحذف الياء، ولا يجزم الشيء بغير جازم؛ فأما الوقف بغير ياء ففيه قول للكسائي؛ قال: لأن الفعل السالم يوقف عليه كالمجزوم، فحذف الياء، كما تحذف الضمة. وأما قراءة حمزة فقد احتج أبو عبيد لحذف الياء في الوصل والوقف بحجتين إحداهما: أنه زعم أنه رآه في الإمام الذي يقال له إنه مصحف عثمان رضي الله عنه بغير ياء. والحجة الأخرى: أنه حكى أنها لغة هذيل؛ تقول: ما أدر؛ قال النحاس: أما حجته بمصحف عثمان رضي الله عنه فشيء يرده عليه أكثر العلماء؛ قال مالك بن أنس رحمه الله: سألت عن مصحف عثمان رضي الله عنه فقيل لي ذهب؛ وأما حجته بقولهم: « ما أدر » فلا حجة فيه؛ لأن هذا الحذف قد حكاه النحويون القدماء، وذكروا علته، وأنه لا يقاس عليه. وأنشد الفراء في حذف الياء.

كفاك كف ما تليق دوهما جودا وأخرى تعط بالسيف الدما

أي تعطي. وقد حكى سيبويه والخليل أن العرب تقول: لا أدر، فتحذف الياء وتجتزئ بالكسرة، إلا أنهم يزعمون أن ذلك لكثرة الاستعمال. قال الزجاج: والأجود في النحو إثبات الياء؛ قال: والذي أراه اتباع المصحف وإجماع القراء؛ لأن القراءة سنة؛ وقد جاء مثله في كلام العرب. « لا تكلم نفس إلا بإذنه » الأصل تتكلم؛ حذفت إحدى التاءين تخفيفا. وفيه إضمار؛ أي لا تتكلم فيه نفس إلا بالمأذون فيه من حسن الكلام؛ لأنهم ملجوؤون إلى ترك القبيح. وقيل: المعنى لا تكلم بحجة ولا شفاعة إلا بإذنه. وقيل: إن لهم في الموقف وقتا يمنعون فيه من الكلام إلا بإذنه. وهذه الآية أكثر ما يسأل عنها أهل الإلحاد في الدين. فيقول لم قال: « لا تكلم نفس إلا بإذنه » و « هذا يوم لا ينطقون. ولا يؤذن لهم فيعتذرون » [ المرسلات: 36 ] . وقال في موضع من ذكر القيامة: « وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون » [ الصافات: 27 ] . وقال: « يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها » [ النحل: 111 ] . وقال: « وقفوهم إنهم مسؤولون » [ الصافات: 24 ] . وقال: « فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان » [ الرحمن: 39 ] . والجواب ما ذكرناه، وأنهم لا ينطقون بحجة تجب لهم وإنما يتكلمون بالإقرار بذنوبهم، ولوم بعضهم بعضا، وطرح بعضهم الذنوب على بعض؛ فأما التكلم والنطق بحجة لهم فلا؛ وهذا كما تقول للذي يخاطبك كثيرا، وخطابه فارغ عن الحجة: ما تكلمت بشيء، وما نطقت بشيء، فسمي من يتكلم بلا حجة فيه له غير متكلم. وقال: قوم: ذلك اليوم طويل، وله مواطن ومواقف في بعضها يمنعون من الكلام، وفي بعضها يطلق لهم الكلام؛ فهذا يدل على أنه لا تتكلم نفس إلا بإذنه. « فمنهم شقي وسعيد » أي من الأنفس، أو من الناس؛ وقد ذكرهم قوله: « يوم مجموع له الناس » . والشقي الذي كتبت عليه الشقاوة. والسعيد الذي كتبت عليه السعادة؛ قال لبيد:

فمنهم سعيد آخذ بنصيبه ومنهم شقي بالمعيشة قانع

وروى الترمذي عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب قال لما نزلت هذه الآية « فمنهم شقي وسعيد » سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا نبي الله فعلام نعمل؟ على شيء قد فرغ منه، أو على شيء لم يفرغ منه؟ فقال: ( بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر ولكن كل ميسر لما خلق له ) . قال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث عبدالله بن عمر؛ وقد تقدم في « الأعراف » .

 

الآيات: 106 - 108 ( فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق، خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد، وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ )

 

قوله تعالى: « فأما الذين شقوا » ابتداء. « ففي النار » في موضع الخبر، وكذا « لهم فيها زفير وشهيق » قال أبو العالية: الزفير من الصدر. والشهيق من الحلق؛ وعنه أيضا ضد ذلك. وقال الزجاج: الزفير من شدة الأنين، والشهيق من الأنين المرتفع جدا؛ قال: وزعم أهل اللغة من الكوفيين والبصريين أن الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمير في النهيق، والشهيق بمنزلة آخر صوت الحمار في الشهيق. وقال ابن عباس رضي الله عنه عكسه؛ قال: الزفير الصوت الشديد، والشهيق الصوت الضعيف. وقال الضحاك ومقاتل: الزفير مثل أول نهيق الحمار، والشهيق مثل آخره حين فرغ من صوته؛ قال الشاعر:

حشرج في الجوف سحيلا أو شهيق حتى يقال ناهق وما نهق

وقيل: الزفير إخراج النفس، وهو أن يمتلئ الجوف غما فيخرج بالنفس، والشهيق رد النفس وقيل: الزفير ترديد النفس من شدة الحزن؛ مأخوذ من الزفر وهو الحمل على الظهر لشدته؛ والشهيق النفس الطويل الممتد؛ مأخوذ من قولهم: جبل شاهق؛ أي طويل. والزفير والشهيق من أصوات المحزونين.

 

قوله تعالى: « خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض » « ما دامت » في موضع نصب على الظرف؛ أي دوام السماوات والأرض، والتقدير: وقت ذلك. واختلف في تأويل هذا؛ فقالت. طائفة منهم الضحاك: المعنى ما دامت سماوات الجنة والنار وأرضهما والسماء كل ما علاك فأظلك، والأرض ما استقر عليه قدمك؛ وفي التنزيل: « وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء » [ الزمر: 74 ] . وقيل: أراد به السماء والأرض المعهودتين في الدنيا وأجرى ذلك على عادة العرب في الإخبار. عن دوام الشيء وتأبيده؛ كقولهم: لا آتيك ما جن ليل، أو سال سيل، وما اختلف الليل والنهار، وما ناح الحمام، وما دامت السماوات والأرض، ونحو هذا مما يريدون به. طولا من غير نهاية؛ فأفهمهم الله تخليد الكفرة بذلك. وإن كان قد أخبر بزوال السماوات. والأرض. وعن ابن عباس أن جميع الأشياء المخلوقة أصلها من نور العرش، وأن السماوات والأرض في الآخرة تردان إلى النور الذي أخذتا منه؛ فهما دائمتان أبدا في نور العرش.

 

قوله تعالى: « إلا ما شاء ربك » في موضع نصب؛ لأنه استثناء ليس من الأول؛ وقد اختلف فيه على أقوال عشرة: الأولى: أنه استثناء من قوله: « ففي النار » كأنه قال: إلا ما شاء ربك من تأخير قوم عن ذلك؛ وهذا قول رواه أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري وجابر رضي الله عنهما. وإنما لم يقل من شاء؛ لأن المراد العدد لا الأشخاص؛ كقوله: « ما طاب لكم » [ النساء: 3 ] . وعن أبي نضرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إلا من شاء ألا يدخلهم وإن شقوا بالمعصية ) . الثاني: أن الاستثناء إنما هو للعصاة من المؤمنين في إخراجهم بعد مدة من النار؛ وعلى هذا يكون قوله: « فأما الذين شقوا » عاما في الكفرة والعصاة، ويكون الاستثناء من « خالدين » ؛ قاله قتادة والضحاك وأبو سنان وغيرهم. وفي الصحيح من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يدخل ناس جهنم حتى إذا صاروا كالحممة أخرجوا منها ودخلوا الجنة فيقال هؤلاء الجهنميون ) وقد تقدم هذا المعنى في « النساء » وغيرها. الثالث: أن الاستثناء من الزفير والشهيق؛ أي لهم فيها زفير وشهيق إلا ما شاء ربك من أنواع العذاب الذي لم يذكره، وكذلك لأهل الجنة من النعيم ما ذكر، وما لم يذكر. حكاه ابن الأنباري. الرابع: قال ابن مسعود: « خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض » لا يموتون فيها، ولا يخرجون منها « إلا ما شاء ربك » وهو أن يأمر النار فتأكلهم وتفنيهم، ثم يجدد خلقهم.

قلت: وهذا القول خاص بالكافر والاستثناء له في الأكل، وتجديد الخلق. الخامس: أن « إلا » بمعنى « سوى » كما تقول في الكلام: ما معي رجل إلا زيد، ولي عليك ألفا درهم إلا الألف التي لي عليك. قيل: فالمعنى ما دامت السماوات والأرض سوى ما شاء ربك من الخلود. السادس: أنه استثناء من الإخراج، وهو لا يريد أن يخرجهم منها. كما تقول في الكلام: أردت أن أفعل ذلك إلا أن أشاء غيره، وأنت مقيم على ذلك الفعل؛ فالمعنى أنه لو شاء أن يخرجهم لأخرجهم، ولكنه قد أعلمهم أنهم خالدون فيها، ذكر هذين القولين الزجاج عن أهل اللغة، قال: ولأهل المعاني قولان آخران، فأحد القولين: « خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك » من مقدار موقفهم على رأس قبورهم، وللمحاسبة، وقدر مكثهم في الدنيا، والبرزخ، والوقوف للحساب. والقول الآخر: وقوع الاستثناء في الزيادة على النعيم والعذاب، وتقديره: « خالدين فيها ما دامت السماوات ولأرض إلا ما شاء ربك » من زيادة النعيم لأهل النعيم، وزيادة العذاب لأهل الجحيم.

قلت: فالاستثناء في الزيادة من الخلود على مدة كون السماء والأرض المعهودتين في الدنيا واختاره الترمذي الحكيم أبو عبدالله محمد بن علي، أي خالدين فيها مقدار دوام السماوات والأرض، وذلك مدة العالم، وللسماء والأرض وقت يتغيران فيه، وهو قوله سبحانه: « يوم تبدل الأرض غير الأرض » [ إبراهيم: 48 ] فخلق الله سبحانه الآدميين وعاملهم، واشترى منهم أنفسهم وأموالهم بالجنة، وعلى ذلك بايعهم يوم الميثاق، فمن وفي بذلك العهد فله الجنة، ومن ذهب برقبته يخلد في النار بمقدار دوام السماوات والأرض؛ فإنما دامتا للمعاملة؛ وكذلك أهل الجنة خلود في الجنة بمقدار ذلك؛ فإذا تمت هذه المعاملة وقع الجميع في مشيئة الله؛ قال الله تعالى: « وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين. ما خلقناهما إلا بالحق » [ الدخان: 39 ] فيخلد أهل الدارين بمقدار دوامهما، وهو حق الربوبية بذلك المقدار من العظمة؛ ثم أوجب لهم الأبد في كلتا الدارين لحق الأحدية؛ فمن لقيه موحدا لأحديته بقي في داوه أبدا، ومن لقيه مشركا بأحديته إلها بقي في السجن أبدا؛ فأعلم الله العباد مقدار الخلود، ثم قال: « إلا ما شاء ربك » من زيادة المدة التي تعجز القلوب عن إدراكها لأنه لا غاية لها؛ فبالاعتقاد دام خلودهم في الدارين أبدا. وقد قيل: إن « إلا » بمعنى الواو، قاله الفراء وبعض أهل النظر وهو: الثامن: والمعنى: وما شاء ربك من الزيادة في الخلود على مدة دوام السماوات والأرض في الدنيا. وقد قيل في قوله تعالى: « إلا الذين ظلموا » [ البقرة: 150 ] أي ولا الذين ظلموا. وقال الشاعر:

وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان

أي والفرقدان. وقال أبو محمد مكي: وهذا قول بعيد عند البصريين أن تكون « إلا » بمعنى الواو، وقد مضى في « البقرة » بيانه. وقيل: معناه كما شاء ربك؛ كقوله تعالى: « ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف » [ النساء: 22 ] أي كما قد سلف، وهو: التاسع، العاشر: وهو أن قوله تعالى: « إلا ما شاء رب » إنما ذلك على طريق الاستثناء الذي ندب الشرع إلى استعماله في كل كلام؛ فهو على حد قوله تعالى: « لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين » [ الفتح: 27 ] فهو استثناء في واجب، وهذا الاستثناء في حكم الشرط كذلك؛ كأنه قال: إن شاء ربك؛ فليس يوصف بمتصل ولا منقطع؛ ويؤيده ويقويه قوله تعالى: « عطاء غير مجذوذ » ونحوه عن أبي عبيد قال: تقدمت عزيمة المشيئة من الله تعالى في خلود الفريقين في الدارين؛ فوقع لفظ الاستثناء، والعزيمة قد تقدمت في الخلود، قال: وهذا مثل قوله تعالى: « لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين » [ الفتح: 27 ] وقد علم أنهم يدخلونه حتما، فلم يوجب الاستثناء في الموضعين خيارا؛ إذ المشيئة قد تقدمة، بالعزيمة في الخلود في الدارين والدخول في المسجد الحرام؛ ونحوه عن الفراء. وقول: حادي عشر: وهو أن الأشقياء هم السعداء، والسعداء هم الأشقياء لا غيرهم، والاستثناء في الموضعين راجع إليهم؛ وبيانه أن « ما » بمعنى « من » استثنى الله عز وجل من الداخلين في النار المخلدين فيها الذين يخرجون منها من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بما معهم من الإيمان، واستثنى من الداخلين في الجنة المخلدين فيها الذين يدخلون النار بذنوبهم قبل دخول الجنة ثم يخرجون منها إلى الجنة. وهم الذين وقع عليهم الاستثناء الثاني؛ كأنه قال تعالى: « فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك » ألا يخلده فيها، وهم الخارجون منها من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بإيمانهم وبشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهم بدخولهم النار يسمون الأشقياء، وبدخلهم الجنة يسمون السعداء؛ كما روى الضحاك عن ابن عباس إذ قال: الذين سعدوا شقوا بدخول النار ثم سعدوا بالخروج منها ودخولهم الجنة.

وقرأ الأعمش وحفص وحمزة والكسائي « وأما الذين سعدوا » بضم السين. وقال أبو عمرو: والدليل على أنه سعدوا أن الأول شقوا ولم يقل أشقوا. قال النحاس: ورأيت علي بن سليمان يتعجب من قراءة الكسائي « سعدوا » مع علمه بالعربية! إذ كان هذا لحنا لا يجوز؛ لأنه إنما يقال: سعد فلان وأسعده الله، وأسعد مثل أمرض؛ وإنما احتج الكسائي بقولهم: مسعود ولا حجة له فيه؛ لأنه يقال: مكان مسعود فيه، ثم يحذف فيه ويسمى به. وقال المهدوي: ومن ضم السين من « سعدوا » فهو محمول على قولهم: مسعود وهو شاذ قليل؛ لأنه لا يقال: سعده الله؛ إنما يقال: أسعده الله. وقال الثعلبي: « سعدوا » بضم السين أي رزقوا السعادة؛ يقال: سعد وأسعد بمعنى واحد وقرأ الباقون « سعدوا » بفتح السين قياسا على « شقوا » واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. وقال الجوهري: والسعادة خلاف الشقاوة؛ تقول: منه سعد الرجل بالكسر فهو سعيد، مثل سلم فهو سليم، وسعد فهو مسعود؛ ولا يقال فيه: مسعد، كأنهم استغنوا عنه بمسعود. وقال القشيري أبو نصر عبدالرحيم: وقد ورد سعده الله فهو مسعود، وأسعده الله فهو مسعد؛ فهذا يقوي قول الكوفيين وقال سيبويه: لا يقال سعد فلان كما لا يقال شقي فلان؛ لأنه مما لا يتعدى. « عطاء غير مجذوذ » أي غير مقطوع؛ من جذه يجذه أي قطعه؛ قال النابغة:

تجذ السلوقي المضاعف نسجه وتوقد بالصفاح نار الحباحب

 

الآية: 109 ( فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص )

 

قوله تعالى: « فلا تك » جزم بالنهي؛ وحذفت النون لكثرة الاستعمال. « في مرية » أي في شك. « مما يعبد هؤلاء » من الآلهة أنها باطل. وأحسن من هذا: أي قل يا محمد لكل من شك « لا تك في مرية مما يعبد هؤلاء » أن الله عز وجل ما أمرهم به، وإنما يعبدونها كما كان آباؤهم يفعلون تقليدا لهم. « وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص » فيه ثلاثة أقوال: أحدها: نصيبهم من الرزق؛ قاله أبو العالية. الثاني: نصيبهم من العذاب؛ قال ابن زيد. الثالث: ما وعدوا به من خير أو شر، قاله ابن عباس رضي الله عنهما.

 

الآية: 110 ( ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب )

 

قوله تعالى: « ولولا كلمة سبقت من ربك » « ولولا كلمة سبقت من ربك » الكلمة: أن الله عز وجل حكم أن يؤخرهم إلى يوم القيامة لما علم في ذلك من الصلاح؛ ولولا ذلك لقضى بينهم أجلهم بأن يثيب المؤمن ويعاقب الكافر. قيل: المراد بين المختلفين في كتاب موسى؛ فإنهم كانوا بين مصدق به ومكذب. وقيل: بين هؤلاء المختلفين فيك يا محمد بتعجيل العقاب، ولكن سبق الحكم بتأخير العقاب عن هذه الأمة إلى يوم القيامة. « وإنهم لفي شك منه مريب » إن حملت على قوم موسى؛ أي لفي شك من كتاب موسى فهم في شك من القرآن.

 

الآية: 111 ( وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير )

 

قوله تعالى: « وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم » أي إن كلا من الأمم التي عددناهم يرون جزاء أعمالهم؛ فكذلك قومك يا محمد. واختلف القراء في قراءة « وإن كلا لما » فقرأ أهل الحرمين - نافع وابن كثير وأبو بكر معهم - « وإنْ كلا لَمَا » بالتخفيف، على أنها « إن » المخففة من الثقيلة معملة؛ وقد ذكر هذا الخليل وسيبويه، قال سيبويه: حدثنا من أثق به أنه سمع العرب تقول: إن زيدا لمنطلق؛ وأنشد قول الشاعر:

كأنْ ظبية تعطو إلى وارق السلم

أراد كأنها ظبية فخفف ونصب ما بعدها؛ والبصريون يجوزون تخفيف « إن » المشددة مع إعمالها؛ وأنكر ذلك الكسائي وقال: ما أدري على أي شيء قرئ « وإن كلا » ! وزعم الفراء أنه نصب « كلا » في قراءة من خفف بقوله: « ليوفينهم » أي وإن ليوفينهم كلا؛ وأنكر ذلك جميع النحويين، وقالوا: هذا من كبير الغلط؛ لا يجوز عند أحد زيدا لأضربنه. وشدد الباقون « إن » ونصبوا بها « كلا » على أصلها. وقرأ عاصم وحمزة وابن عامر « لما » بالتشديد. وخففها الباقون على معنى: وإن كلا ليوفينهم، جعلوا « ما » صلة. وقيل: دخلت لتفصل بين اللامين اللتين تتلقيان القسم، وكلاهما مفتوح ففصل بينهما بـ « ما » . وقال الزجاج: لام « لما » لام « إن » و « ما » زائدة مؤكدة؛ تقول: إن زيدا لمنطلق، فإن تقتضي أن يدخل على خبرها أو اسمها لام كقولك: إن الله لغفور رحيم، وقوله: « إن في ذلك لذكري » . واللام في « ليوفينهم » هي التي يتلقى بها القسم، وتدخل على الفعل ويلزمها النون المشددة أو المخففة، ولما اجتمعت اللامان فصل بينهما بـ « ما » و « ما » زائدة مؤكدة، وقال الفراء: « ما » بمعنى « من » كقوله: « وإن منكم لمن ليبطئن » [ النساء: 72 ] أي وإن كلا لمن ليوفينهم، واللام في « ليوفينهم » للقسم؛ وهذا يرجع معناه إلى قول الزجاج، غير أن « ما » عند الزجاج زائدة وعند الفراء اسم بمعنى « من » . وقيل: ليست بزائد، بل هي اسم دخل عليها لام التأكيد، وهي خبر « إن » و « ليوفينهم » جواب القسم، التقدير: وإن كلا خلق ليوفينهم ربك أعمالهم. وقيل: « ما » بمعنى « من » كقوله: « فانكحوا ما طاب لكم من النساء » [ النساء: 3 ] أي من؛ وهذا كله هو قول الفراء بعينه. وأما من شدد « لما » وقرأ « وإن كلا لما » بالتشديد فيهما - وهو حمزة ومن وافقه - فقيل: إنه لحن؛ حكي عن محمد بن زيد أن هذا لا يجوز؛ ولا يقال: إن زيدا إلا لأضربنه، ولا لما لضربته. وقال الكسائي: الله أعلم بهذه القراءة؛ وما أعرف لها وجها. وقال هو وأبو علي الفارسي: التشديد فيهما مشكل. قال النحاس وغيره: وللنحويين في ذلك أقوال: الأول: أن أصلها « لمن ما » فقلبت النون ميما، واجتمعت ثلاث ميمات فحذفت الوسطى فصارت « لما » و « ما » على هذا القول بمعنى « من » تقديره: وإن كلا لمن الذين؛ كقولهم:

وإني لمَّا أصدر الأمر وجهه إذا هو أعيا بالسبيل مصادره

وزيّف الزجاج هذا القول، وقال: « من » اسم على حرفين فلا يجوز حذفه. الثاني: أن الأصل. لمن ما، فحذفت الميم المكسورة لاجتماع الميمات، والتقدير: وإن كلا لمن خلق ليوفينهم. وقيل: « لما » مصدر « لم » وجاءت بغير تنوين حملا للوصل على الوقف؛ فهي على هذا كقوله: « وتأكلون التراث أكلا لما » [ الفجر: 19 ] أي جامعا للمال المأكول؛ فالتقدير على هذا: وإن كلا ليوفينهم ربك أعمالهم توفية لما؛ أي جامعة لأعمالهم جمعا، فهو كقولك: قياما لأقومن. وقد قرأ الزهري « لما » بالتشديد والتنوين على هذا المعنى. الثالث: أن « لما » بمعنى « إلا » حكى أهل اللغة: سألتك بالله لما فعلت؛ بمعنى إلا فعلت؛ ومثله قوله تعالى: « إن كل نفس لما عليها حافظ » [ الطارق: 4 ] أي إلا عليها؛ فمعنى الآية: ما كل واحد منهم إلا ليوفينهم؛ قال القشيري: وزيف الزجاج هذا القول بأنه لا نفي لقوله: « وإن كلا لما » حتى تقدر « إلا » ولا يقال: ذهب الناس لما زيد. الرابع: قال أبو عثمان المازني: الأصل وإن كلا لما بتخفيف « لما » ثم ثقلت كقوله:

لقد خشيت أن أرى جدبا في عامنا ذا بعد ما أخصبا

وقال أبو إسحاق الزجاج: هذا خطأ، إنما يخفف المثقل؛ ولا يثقل المخفف. الخامس: قال أبو عبيد القاسم بن سلام: يجوز أن يكون التشديد من قولهم: لممت الشيء ألمه لما إذا جمعته؛ ثم بني منه فعلى، كما قرئ « ثم أرسلنا رسلنا تترى » [ المؤمنون: 44 ] بغير تنوين وبتنوين. فالألف على هذا للتأنيث، وتمال على هذا القول لأصحاب الإمالة؛ قال أبو إسحاق: القول الذي لا يجوز غيره عندي أن تكون مخففة من الثقيلة، وتكون بمعنى « ما » مثل: « إن كل نفس لما عليها حافظ » [ الطارق: 4 ] وكذا أيضا تشدد على أصلها، وتكون بمعنى « ما » و « لما » بمعنى « إلا » حكى ذلك الخليل وسيبويه وجميع البصريين؛ وأن « لما » يستعمل بمعنى « إلا » قلت: هذا القول الذي ارتضاه الزجاج حكاه عنه النحاس وغيره؛ وقد تقدم مثله وتضعيف الزجاج له، إلا أن ذلك القول صوابه « إن » فيه نافية، وهنا مخففة من الثقيلة فافترقا وبقيت قراءتان؛ قال أبو حاتم: وفي حرف أبي: « وإن كلا لما لي وفينهم » [ هود: 111 ] وروي عن الأعمش « وإن كل لما » بتخفيف « إن » ورفع « كل » وبتشديد « لما » . قال النحاس: وهذه القراءات المخالفة للسواد تكون فيها « إن » بمعنى « ما » لا غير، وتكون على التفسير؛ لأنه لا يجوز أن يقرأ بما خالف السواد إلا على هذه الجهة. « إنه بما يعملون خبير » تهديد ووعيد.

 

الآية: 112 ( فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير )

 

قوله تعالى: « فاستقم كما أمرت » الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره. وقيل: له والمراد أمته؛ قاله السدى. وقيل: « استقم » اطلب الإقامة على الدين من الله واسأله ذلك. فتكون السين سين السؤال، كما تقول: استغفر الله أطلب الغفران منه. والاستقامة الاستمرار في جهة واحدة من غير أخذ في جهة اليمين والشمال؛ فاستقم على امتثال أمر الله. وفي صحيح مسلم عن سفيان بن عبدالله الثقفي قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك! قال: ( قل آمنت بالله ثم استقم ) . وروى الدارمي أبو محمد في مسنده عن عثمان بن حاضر الأزدي قال: دخلت على ابن عباس فقلت أوصني! فقال: نعم! عليك بتقوى الله والاستقامة، اتبع ولا تبتدع. « ومن تاب معك » أي استقم أنت وهم؛ يريد أصحابه الذين تابوا من الشرك ومن بعده ممن اتبعه من أمته. قال ابن عباس ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشد ولا أشق من هذه الآية عليه، ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له: لقد أسرع إليك الشيب! فقال: ( شيبتني هود وأخواتها ) . وقد تقدم في أول السورة. وروي عن أبي عبدالرحمن السلمي قال سمعت أبا علي السري يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول الله! روي عنك أنك قلت: ( شيبتني هود ) . فقال: ( نعم ) فقلت له: ما الذي شيبك منها؟ قصص الأنبياء وهلاك الأمم! فقال: ( لا ولكن قوله: فاستقم كما أمرت ) . « ولا تطغوا » نهى عن الطغيان والطغيان مجاوزة الحد؛ ومنه « إنا لما طغى الماء » . وقيل: أي لا تتجبروا على أحد.

 

الآية: 113 ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون )

 

قوله تعالى: « ولا تركنوا » الركون حقيقة الاستناد والاعتماد والسكون إلى، الشيء والرضا به، قال قتادة: معناه لا تودوهم ولا تطيعوهم. ابن جريج: لا تميلوا إليهم. أبو العالية: لا ترضوا أعمالهم؛ وكله متقارب. وقال ابن زيد: الركون هنا الإدهان وذلك ألا ينكر عليهم كفرهم.

 

قرأ الجمهور: « تركنوا » بفتح الكاف؛ قال أبو عمرو: هي لغة أهل الحجاز. وقرأ طلحة بن مصرف وقتادة وغيرهما: « تركنوا » بضم الكاف؛ قال الفراء: وهي لغة تميم وقيس. وجوز قوم ركن يركن مثل منع يمنع. « » إلى الذين ظلموا « قيل: أهل الشرك. وقيل: عامة فيهم وفي العصاة، على نحو قوله تعالى: » وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا « [ الأنعام: 68 ] الآية. وقد تقدم. وهذا هو الصحيح في معنى الآية؛ وأنها دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم؛ فإن صحبتهم كفر أو معصية؛ إذ الصحبة لا تكون إلا عن مودة؛ وقد قال حكيم: »

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارِن يقتدي

فإن كانت الصحبة عن ضرورة وتقية فقد مضى القول فيها في « آل عمران » و « المائدة » . وصحبة الظالم على التقية مستثناة من النهي بحال الاضطرار. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « فتمسكم النار » أي تحرقكم. بمخالطتهم ومصاحبتهم وممالأتهم على إعراضهم وموافقتهم في أمورهم.

 

الآية: 114 ( وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين )

 

قوله تعالى: « وأقم الصلاة طرفي النهار » لم يختلف أحد من أهل التأويل في أن الصلاة في هذه الآية يراد بها الصلوات المفروضة؛ وخصها بالذكر لأنها ثانية الإيمان، وإليها يفزع في النوائب؛ وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.

وقال شيوخ الصوفية: إن المراد بهذه الآية استغراق الأوقات بالعبادة فرضا ونفلا؛ قال ابن العربي: وهذا ضعيف، فإن الأمر لم يتناول ذلك إلا واجبا لا نفلا، فإن الأوراد معلومة، وأوقات النوافل المرغب فيها محصورة، وما سواها من الأوقات يسترسل عليها الندب على البدل لا على العموم، وليس ذلك في قوة بشر.

 

قوله تعالى: « طرفي النهار » قال مجاهد: الطرف الأول، صلاة الصبح، والطرف الثاني صلاة الظهر والعصر؛ واختاره ابن عطية. وقيل: الطرفان الصبح والمغرب؛ قال ابن عباس والحسن. وعن الحسن أيضا الطرف الثاني العصر وحده؛ وقال قتادة والضحاك. وقيل: الطرفان الظهر والعصر. والزلف المغرب والعشاء والصبح؛ كأن هذا القائل راعى جهر القراءة. وحكى الماوردي أن الطرف الأول صلاة الصبح باتفاق.

قلت: وهذا الاتفاق ينقضه القول الذي قبله. ورجح الطبري أن الطرفين الصبح والمغرب، وأنه ظاهر؛ قال ابن عطية: ورد عليه بأن المغرب لا تدخل فيه لأنها من صلاة الليل. قال ابن العربي: والعجب من الطبري الذي يرى أن طرفي النهار الصبح والمغرب، وهما طرفا الليل! فقلب القوس ركوة، وحاد عن البرجاس غلوة؛ قال الطبري: والدليل عليه إجماع الجميع على أن أحد الطرفين الصبح، فدل على أن الطرف الآخر المغرب، ولم يجمع معه على ذلك أحد.

قلت: هذا تحامل من ابن العربي في الرد؛ وأنه لم يجمع معه على ذلك أحد؛ وقد ذكرنا عن مجاهد أن الطرف الأول صلاة الصبح، وقد وقع الاتفاق - إلا من شذ - بأن من أكل أو جامع بعد طلوع الفجر متعمدا أن يومه ذلك يوم فطر، وعليه القضاء والكفارة، وما ذلك، إلا وما بعد طلوع الفجر من النهار؛ فدل على صحة ما قاله الطبري في الصبح، وتبقى عليه المغرب والرد عليه فيه ما تقدم. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « وزلفا من الليل » أي في زلف من الليل، والزلف الساعات القريبة بعضها من بعض؛ ومنه سميت المزدلفة؛ لأنها منزل بعد عرفة بقرب مكة. وقرأ ابن القعقاع وابن أبي إسحاق وغيرهما « وزلفا » بضم اللام جمع زليف؛ لأنه قد نطق بزليف، ويجوز أن يكون واحده « زلفة » لغة؛ كبسرة وبسر، في لغة من ضم السين. وقرأ ابن محيصن « وزلفا » من الليل بإسكان اللام؛ والواحدة زلفة تجمع جمع الأجناس التي هي أشخاص كدرة ودر وبرة وبر. وقرأ مجاهد وابن محيصن أيضا « زلفى » مثل قربى. وقرأ الباقون « وزلفا » بفتح اللام كغرفة وغرف. قال ابن الأعرابي: الزلف الساعات، واحدها زلفة. وقال قوم: الزلفة أول ساعة من الليل بعد مغيب الشمس؛ فعلى هذا يكون المراد بزلف الليل صلاة العتمة؛ قاله ابن عباس. وقال الحسن: المغرب والعشاء. وقيل: المغرب والعشاء والصبح؛ وقد تقدم. وقال الأخفش: يعني صلاة الليل ولم يعين.

 

قوله تعالى: « إن الحسنات يذهبن السيئات » ذهب جمهور المتأولين من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين إلى أن الحسنات ههنا هي الصلوات الخمس، وقال مجاهد: الحسنات قول الرجل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، قال ابن عطية: وهذا على جهة المثال في الحسنات، والذي يظهر أن اللفظ عام في الحسنات خاص في السيئات؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتنبت الكبائر ) .

قلت: سبب النزول يعضد قول الجمهور؛ نزلت في رجل من الأنصار، قيل: هو أبو اليسر بن عمرو. وقيل: اسمه عباد؛ خلا بامرأة فقبلها وتلذذ بها فيما دون الفرج. روى الترمذي عن عبدالله قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:: إني عالجت امرأة في أقصى المدينة وإني أصبت منها ما دون أن أمسها وأنا هذا فاقض في ما شئت. فقال له عمر: لقد سترك الله! لو سترت على نفسك؛ فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فانطلق الرجل فأتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فدعاه، فتلا عليه: « أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين » إلى آخر الآية؛ فقال رجل من القوم: هذا له خاصة؟ قال: ( لا بل للناس كافة ) . قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وخرج أيضا عن ابن مسعود أن رجلا أصاب من امرأة قبلة حرام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن كفارتها فنزلت: « أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات » فقال الرجل: ألي هذه يا رسول الله؟ فقال: ( لك ولمن عمل بها من أمتي ) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وروي عن أبي اليسر. قال: أتتني امرأة تبتاع تمرا فقلت: إن في البيت تمرا أطيب من هذا، فدخلت معي في البيت فأهويت إليها فقبلتها، فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال: استر على نفسك وتب ولا تخبر أحدا فلم أصبر، فأتيت عمر فذكرت ذلك له فقال: استر على نفسك وتب ولا تخبر أحدا فلم أصبر، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: ( أخلفت غازيا في سبيل الله في أهله بمثل هذا ) ؟ حتى تمنى أنه لم يكن أسلم إلا تلك الساعة، حتى ظن أنه من أهل النار. قال: وأطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أوحى الله إليه « أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين » . قال أبو اليسر: فأتيته فقرأها علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أصحابه: يا رسول الله! ألهذا خاصة أم للناس عامة؟ فقال: ( بل للناس عامة ) . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، وقيس بن الربيع ضعفه وكيع وغيره؛ وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أعرض عنه، وأقيمت صلاة العصر فلما فرغ منها نزل جبريل عليه السلام عليه بالآية فدعاه فقال له: ( أشهدت معنا الصلاة ) ؟ قال نعم؛ قال: ( اذهب فإنها كفارة لما فعلت ) . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تلا عليه هذه الآية قال له: ( قم فصل أربع ركعات ) . والله أعلم. وخرج الترمذي الحكيم في « نوادر الأصول » من حديث ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لم أر شيئا أحسن طلبا ولا أسرع إدراكا من حسنة حديثة لذنب قديم، « إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين » .

 

دلت الآية مع هذه الأحاديث على أن القبلة الحرام واللمس الحرام لا يجب، فيهما الحد، وقد يستدل به على أن لا حد ولا أدب على الرجل والمرأة وإن وجدا في ثوب واحد، وهو اختيار ابن المنذر؛ لأنه لما ذكر اختلاف العلماء في هذه المسألة ذكر هذا الحديث مشيرا إلى أنه لا يجب عليهما شيء، وسيأتي ما للعلماء في هذا في « النور » إن شاء الله تعالى.

 

ذكر الله سبحانه في كتابه الصلاة بركوعها وسجودها وقيامها وقراءتها وأسمائها فقال: « أقم الصلاة » الآية. وقال: « أقم الصلاة لدلوك الشمس » [ الإسراء: 78 ] الآية. وقال: « فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحوا. وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون » [ الروم:17 - 18 ] . وقال: « وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها » [ طه: 130 ] . وقال: « اركعوا واسجدوا » [ الحج: 77 ] . وقال: « وقوموا لله قانتين » [ البقرة: 238 ] . وقال: « وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا » [ الأعراف: 204 ] على ما تقدم. وقال: « ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها » [ الإسراء: 110 ] أي بقراءتك؛ وهذا كله مجمل أجمله في كتابه، وأحال على نبيه في بيانه؛ فقال جل ذكره: « وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم » [ النحل: 44 ] فبين صلى الله عليه وسلم مواقيت الصلاة، وعدد الركعات والسجدات، وصفة جميع الصلوات فرضها وسننها، وما لا تصح الصلاة إلا به من الفرائض وما يستحب فيها من السنن والفضائل؛ فقال في صحيح البخاري: ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) . ونقل ذلك عنه الكافة عن الكافة، على ما هو معلوم، ولم يمت النبي صلى الله عليه وسلم حتى بين جميع ما بالناس الحاجة إليه؛ فكمل الدين، وأوضح السبيل؛ قال الله تعالى: « اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا » [ المائدة: 3 ] .

 

قوله تعالى: « ذلك ذكرى للذاكرين » أي القرآن موعظة وتوبة لمن اتعظ وتذكر؛ وخص الذاكرين بالذكر لأنهم المنتفعون بالذكرى. والذكرى مصدر جاء بألف التأنيث.

 

الآيتان: 115 - 116 ( واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين )

 

قوله تعالى: « واصبر » أي على الصلاة؛ كقوله: « وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها » [ طه: 132 ] . وقيل: المعنى واصبر يا محمد على ما تلقى من الأذى. « فإن الله لا يضيع أجر المحسنين » يعني المصلين.

 

قوله تعالى: « فلولا كان » أي فهلا كان. « من القرون من قبلكم » أي من الأمم التي قبلكم. « أولو بقية » أي أصحاب طاعة ودين وعقل وبصر. « ينهون » قومهم. « عن الفساد في الأرض » لما أعطاهم الله تعالى من العقول وأراهم من الآيات؛ وهذا توبيخ للكفار. وقيل: ولولا ههنا للنفي؛ أي ما كان من قبلكم؛ كقوله: « فلولا كانت قرية آمنت » [ يونس: 98 ] أي ما كانت. « إلا قليلا » استثناء منقطع؛ أي لكن قليلا. « ممن أنجينا منهم » نهوا عن الفساد في الأرض. قيل: هم قوم يونس؛ لقوله: « إلا قوم يونس » . وقيل: هم أتباع الأنبياء وأهل الحق. « واتبع الذين ظلموا » أي أشركوا وعصوا. « ما أترفوا فيه » أي من الاشتغال بالمال واللذات، وإيثار ذلك على الآخرة.

الآية [ 117 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات: 117 - 119 ( وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون، ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين )

 

قوله تعالى: « وما كان ربك ليهلك القرى » أي أهل القرى. « بظلم » أي بشرك وكفر. « وأهلها مصلحون » أي فيما بينهم في تعاطي الحقوق؛ أي لم يكن ليهلكهم بالكفر وحده حتى ينضاف إليه الفساد، كما أهلك قوم شعيب ببخس المكيال والميزان، وقوم لوط باللواط؛ ودل هذا على أن المعاصي أقرب إلى عذاب الاستئصال في الدنيا من الشرك، وإن كان عذاب الشرك في الآخرة أصعب. وفي صحيح الترمذي من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده ) . وقد تقدم. وقيل: المعنى وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مسلمون، فإنه يكون ذلك ظلما لهم ونقصا من حقهم، أي ما أهلك قوما إلا بعد إعذار وإنذار. وقال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى ما كان ربك ليهلك أحدا وهو يظلمه وإن كان على نهاية الصلاح؛ لأنه تصرف في ملكه؛ دليله قوله: « إن الله لا يظلم الناس شيئا » [ يونس: 44 ] . وقيل: المعنى وما كان الله ليهلكهم بذنوبهم وهم مصلحون؛ أي مخلصون في الإيمان. فالظلم المعاصي على هذا.

 

قوله تعالى: « ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة » قال سعيد بن جبير: على ملة الإسلام وحدها. وقال الضحاك: أهل دين واحد، أهل ضلالة أو أهل هدى. « ولا يزالون مختلفين » أي على أديان شتى؛ قاله مجاهد وقتادة. « إلا من رحم ربك » استثناء منقطع؛ أي لكن من رحم ربك بالإيمان والهدى فإنه لم يختلف. وقيل: مختلفين في الرزق، فهذا غني وهذا فقير. « إلا من رحم ربك » بالقناعة؛ قاله الحسن. « ولذلك خلقهم » قال الحسن ومقاتل، وعطاء ويمان: الإشارة للاختلاف، أي وللاختلاف خلقهم. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: ولرحمته خلقهم؛ وإنما قال: « ولذلك » ولم يقل ولتلك، والرحمة مؤنثة لأنه مصدر؛ وأيضا فإن تأنيث الرحمة غير حقيقي، فحملت على معنى الفضل. وقيل. الإشارة بذلك للاختلاف والرحمة، وقد يشارك بـ « ذلك » إلى شيئين متضادين؛ كقوله تعالى: « لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك » [ البقرة: 68 ] ولم يقل بين ذينك ولا تينك، وقال: « والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما » [ الفرقان: 67 ] وقال: « ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا » [ الإسراء: 110 ] وكذلك قوله: « قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا » [ يونس: 58 ] وهذا أحسن الأقوال إن شاء الله تعالى؛ لأنه يعم، أي ولما ذكر خلقهم؛ وإلى هذا أشار مالك رحمه الله فيما روى عنه أشهب؛ قال أشهب: سألت مالكا عن هذه الآية قال: خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير؛ أي خلق أهل الاختلاف للاختلاف، وأهل الرحمة للرحمة. وروي عن ابن عباس أيضا قال: خلقهم فريقين، فريقا يرحمه وفريقا لا يرحمه. قال المهدوي: وفي الكلام على هذا التقدير تقديم وتأخير؛ المعنى: ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين؛ ولذلك، خلقهم. وقيل: هو. متعلق بقوله « ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود » [ هود: 103 ] والمعنى: ولشهود ذلك اليوم خلقهم. وقيل: هو متعلق بقوله: « فمنهم شقي وسعيد » [ هود: 105 ] أي للسعادة والشقاوة خلقهم.

 

قوله تعالى: « وتمت كلمة ربك » معنى « تمت » ثبت ذلك كما أخبر وقدر في أزله؛ وتمام الكلمة امتناعها عن قبول التغيير والتبديل. « لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين » « من » لبيان الجنس؛ أي من جنس الجنة وجنس الناس. « أجمعين » تأكيد؛ وكما أخبر أنه يملأ ناره كذلك أخبر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يملأ جنته بقوله: ( ولكل واحدة منكما ملؤها ) . خرجه البخاري من حديث أبي هريرة وقد تقدم.

 

الآية: 120 ( وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين )

 

قوله تعالى: « وكلا نقص عليك » « كلا » نصب بـ « نقص » معناه وكل الذي تحتاج إليه من أنباء الرسل نقص عليك. وقال الأخفش: « كلا » حال مقدمة، كقولك: كلا ضربت القوم. « من أنباء الرسل » أي من أخبارهم وصبرهم على أذى قومهم. « ما نثبت به فؤادك » أي على أداء الرسالة، والصبر على ما ينالك فيها من الأذى. وقيل: نزيدك به تثبيتا ويقينا. وقال ابن عباس: ما نشد به قلبك. وقال ابن جريج: نصبر به قلبك حتى لا تجزع. وقال أهل المعاني: نطيب، والمعنى متقارب. و « ما » بدل من « كلا » المعنى: نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك. « وجاءك في هذه الحق » أي في هذه السورة؛ عن ابن عباس وأبي موسى وغيرهما؛ وخص هذه السورة لأن فيها أخبار الأنبياء والجنة والنار. وقيل: خصها بالذكر تأكيدا وإن كان الحق في كل القرآن. وقال قتادة والحسن: المعنى في هذه الدنيا، يريد النبوة. « وموعظة وذكرى للمؤمنين » الموعظة ما يتعظ به من إهلاك الأمم الماضية، والقرون الخالية المكذبة؛ وهذا تشريف لهذه السورة؛ لأن غيرها من السور قد جاء فيها الحق والموعظة والذكرى ولم يقل فيها كما قال في هذه على التخصيص. « وذكرى للمؤمنين » أي يتذكرون ما نزل بمن هلك فيتوبون؛ وخص المؤمنين لأنهم المتعظون إذا سمعوا قصص الأنبياء.

 

الآيات: 121 - 123 ( وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون، وانتظروا إنا منتظرون، ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون )

 

قوله تعالى: « وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم » تهديد ووعيد. « إنا عاملون. وانتظروا إنا منتظرون » تهديد آخر، وقد تقدم معناه. « ولله غيب السماوات والأرض » أي غيبهما وشهادتهما؛ فحذف لدلالة المعنى. وقال ابن عباس: خزائن السماوات والأرض. وقال الضحاك: جميع ما غاب عن العباد فيهما. وقال الباقون: غيب السماوات والأرض نزول العذاب من السماء وطلوعه من الأرض. وقال أبو علي الفارسي: « ولله غيب السماوات والأرض » أي علم ما غاب فيهما؛ أضاف الغيب وهو مضاف إلى المفعول توسعا؛ لأنه حذف حرف الجر؛ تقول: غبت في الأرض وغبت ببلد كذا.. « وإليه يرجع الأمر كله » أي يوم القيامة، إذ ليس لمخلوق أمر إلا بإذنه. وقرأ نافع وحفص « يرجع » بضم الياء وبفتح الجيم؛ أي يرد. « فاعبده وتوكل عليه » أي الجأ إليه وثق به. « وما ربك بغافل عما تعملون » أي يجازي كلا بعمله. وقرأ أهل المدينة والشام وحفص بالتاء على المخاطبة. الباقون بياء على الخبر. قال الأخفش سعيد: « يعملون » إذا لم يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم معهم؛ قال: بعضهم وقال: « تعملون » بالتاء لأنه خاطب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: قل لهم « وما ربك بغافل عما تعملون » . وقال كعب الأحبار: خاتمة التوراة خاتمة « هود » من قوله: « ولله غيب السماوات والأرض » إلى آخر السورة.

 

سورة يوسف

*مقدمة السورة

 

وهي مكية كلها. وقال ابن عباس وقتادة: إلا أربع آيات منها. وروي أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف فنزلت السورة؛ وسيأتي. وقال سعد بن أبي وقاص: أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاه عليهم زمانا فقالوا: لو قصصت علينا؛ فنزل: « نحن نقص عليك » [ يوسف: 3 ] فتلاه عليهم زمانا فقالوا: لو حدثتنا؛ فأنزل: « الله نزل أحسن الحديث » [ الزمر: 23 ] . قال العلماء: وذكر الله أقاصيص الأنبياء في القرآن وكررها بمعنى واحد في وجوه مختلفة، بألفاظ متباينة على درجات البلاغة، وقد ذكر قصة يوسف ولم يكررها، فلم يقدر مخالف على معارضة ما تكرر، ولا على معارضة غير المتكرر، والإعجاز لمن تأمل.

 

الآية: 1 ( الر تلك آيات الكتاب المبين )

 

قوله تعالى: « الر » تقدم القول فيه؛ والتقدير هنا: تلك آيات الكتاب، على الابتداء والخبر. وقيل: « الر » اسم السورة؛ أي هذه السورة المسماة « الر » « تلك آيات الكتاب المبين » يعني بالكتاب المبين القرآن المبين؛ أي المبين حلاله وحرامه، وحدوده وأحكامه وهداه وبركته. وقيل: أي هذه تلك الآيات التي كنتم توعدون بها في التوراة.

 

الآية: 2 ( إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون )

 

قوله تعالى: « إنا أنزلناه قرآنا عربيا » يجوز أن يكون المعنى: إنا أنزلنا القرآن عربيا؛ نصب « قرآنا » على الحال؛ أي مجموعا. و « عربيا » نعت لقوله « قرآنا » . ويجوز أن يكون توطئة للحال، كما تقول: مررت بزيد رجلا صالحا، و « عربيا » على الحال، أي يقرأ بلغتكم يا معشر العرب. أعرب بين، ومنه ( الثيب تعرب عن نفسها ) . « لعلكم تعقلون » أي لكي تعلموا معانيه، وتفهموا ما فيه. وبعض العرب يأتي بأن مع « لعل » تشبيها بعسى. واللام في « لعل » زائدة للتوكيد؛ كما قال الشاعر:

يا أبتا علك أو عساكا

وقيل: « لعلكم تعقلون » أي لتكونوا على رجاء من تدبره؛ فيعود معنى الشك إليهم لا إلى الكتاب، ولا إلى الله عز وجل. وقيل: معنى « أنزلناه » أي أنزلنا خبر يوسف، قال النحاس: وهذا أشبه بالمعنى؛ لأنه يروى أن اليهود قالوا: سلوه لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر؟ وعن خبر يوسف؛ فأنزل الله عز وجل هذا بمكة موافقا لما في التوراة، وفيه زيادة ليست عندهم. فكان هذا للنبي صلى الله عليه وسلم - إذ أخبرهم ولم يكن يقرأ كتابا قط ولا هو في موضع كتاب - بمنزلة إحياء عيسى عليه السلام الميت على ما يأتي فيه.

 

الآية: 3 ( نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين )

 

قوله تعالى: « نحن نقص عليك » ابتداء وخبره: « أحسن القصص » بمعنى المصدر، والتقدير: قصصنا أحسن القصص. وأصل القصص تتبع الشيء، ومنه قوله تعالى: « وقالت لأخته قصيه » [ القصص: 11 ] أي تتبعي أثره؛ فالقاص، يتبع الآثار فيخبر بها. والحسن يعود إلى القصص لا إلى القصة. يقال: فلان حسن الاقتصاص للحديث أي جيد السياقة له. وقيل: القصص ليس مصدرا، بل هو في معنى الاسم، كما يقال: الله رجاؤنا، أي مرجونا فالمعنى على هذا: نحن نخبرك بأحسن الأخبار. « بما أوحينا إليك » أي بوحينا فـ « ما » مع الفعل بمنزلة المصدر. « هذا القرآن » نصب القرآن على أنه نعت لهذا، أو بدل منه، أو عطف بيان. وأجاز الفراء الخفض؛ قال: على التكرير؛ وهو عند البصريين على البدل من « ما » . وأجاز أبو إسحاق الرفع على إضمار مبتدأ، كأن سائلا سأله عن الوحي فقيل له: هو هذا القرآن. « وإن كنت من قبله لمن الغافلين » أي من الغافلين عما عرفناكه.

مسألة: واختلف العلماء لم سميت هذه السورة أحسن القصص من بين سائر الأقاصيص؟ فقيل: لأنه ليست قصة في القرآن تتضمن من العبر والحكم ما تتضمن هذه القصة؛ وبيانه قوله في آخرها: « لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب » [ يوسف: 111 ] . وقيل: سماها أحسن القصص لحسن مجاوزة يوسف عن إخوته، وصبره على أذاهم، وعفوه عنهم - بعد الالتقاء بهم - عن ذكر ما تعاطوه، وكرمه في العفو عنهم، حتى قال: « لا تثريب عليكم اليوم » [ يوسف: 92 ] . وقيل: لأن فيها ذكر الأنبياء والصالحين والملائكة والشياطين، والجن والإنس والأنعام والطير، وسير الملوك والممالك، والتجار والعلماء والجهال، والرجال والنساء وحيلهن ومكرهن، وفيها ذكر التوحيد والفقه والسير وتعبير الرؤيا، والسياسة والمعاشرة وتدبير المعاش، وجمل الفوائد التي تصلح للدين والدنيا. وقيل لأن فيها ذكر الحبيب والمحبوب وسيرهما. وقيل: « أحسن » هنا بمعنى أعجب. وقال بعض أهل المعاني: إنما كانت أحسن القصص لأن كل من ذكر فيها كان مآله السعادة؛ انظر إلى يوسف وأبيه وإخوته، وامرأة العزيز؛ قيل: والملك أيضا أسلم بيوسف وحسن إسلامه، ومستعبر الرؤيا الساقي، والشاهد فيما يقال: فما كان أمر الجميع إلا إلى خير.

 

الآية: 4 ( إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين )

 

قوله تعالى: « إذ قال يوسف » « إذ » في موضع نصب على الظرف؛ أي اذكر لهم حين قال يوسف. وقراءة العامة بضم السين. وقرأ طلحة بن مصرف « يؤسف » بالهمزة وكسر السين. وحكى أبو زيد: « يؤسف » بالهمزة وفتح السين. ولم ينصرف لأنه أعجمي؛ وقيل: هو عربي. وسئل أبو الحسن الأقطع - وكان حكيما - عن « يوسف » فقال: الأسف في اللغة الحزن؛ والأسيف العبد، وقد اجتمعا في يوسف؛ فلذلك سمي يوسف. « لأبيه يا أبت » بكسر التاء قراءة أبي عمرو وعاصم ونافع وحمزة والكسائي، وهي عند البصريين علامة التأنيث أدخلت على الأب في النداء خاصة بدلا من ياء الإضافة، وقد تدخل علامة التأنيث على المذكر فيقال: رجل نكحة وهزأة؛ قال النحاس: إذا قلت « يا أبت » بكسر التاء فالتاء عند سيبويه بدل من ياء الإضافة؛ ولا يجوز على قوله الوقف إلا بالهاء، وله على قوله دلائل: منها - أن قولك: « يا أبه » يؤدي عن معنى « يا أبي » ؛ وأنه لا يقال: « يا أبت » إلا في المعرفة؛ ولا يقال: جاءني أبت، ولا تستعمل العرب هذا إلا في النداء خاصة، ولا يقال: « يا أبتي » لأن التاء بدل من الياء فلا يجمع بينهما. وزعم الفراء أنه إذا قال: « يا أبت » فكسر دل على الياء لا غير؛ لأن الياء في النية. وزعم أبو إسحاق أن هذا خطأ، والحق ما قال، كيف تكون الياء في النية وليس يقال: « يا أبتي » ؟ وقرأ أبو جعفر والأعرج وعبدالله بن عامر « يا أبت » بفتح التاء؛ قال البصريون: أرادوا « يا أبتي » بالياء، ثم أبدلت الياء ألفا فصارت « يا أبتا » فحذفت الألف وبقيت الفتحة على التاء. وقيل: الأصل الكسر، ثم أبدل من الكسرة فتحة، كما يبدل من الياء ألف فيقال: يا غلاما أقبل. وأجاز الفراء « يا أبت » بضم التاء. « إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر » ليس بين النحويين اختلاف أنه يقال: جاءني أحد عشر، ورأيت ومررت بأحد عشر، وكذلك ثلاثة عشر وتسعة عشر وما بينهما؛ جعلوا الاسمين اسما واحدا وأعربوهما بأخف الحركات. قال السهيلي: أسماء هذه الكواكب جاء ذكرها مسندا؛ رواه الحارث بن أبي أسامة قال: جاء بستانة - وهو رجل من أهل الكتاب - فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الأحد عشر كوكبا الذي رأى يوسف فقال: ( الحرثان والطارق والذيال وقابس والمصبح والضروح وذو الكنفات وذو القرع والفليق ووثاب والعمودان؛ رآها يوسف عليه السلام تسجد له ) . قال ابن عباس وقتادة: الكواكب إخوته، والشمس أمه، والقمر أبوه. وقال قتادة أيضا: الشمس خالته، لأن أمه كانت قد ماتت، وكانت خالته تحت أبيه. « رأيتهم » توكيد. وقال: « رأيتهم لي ساجدين » فجاء مذكرا؛ فالقول عند الخليل وسيبويه أنه لما أخبر عن هذه الأشياء بالطاعة والسجود وهما من أفعال من يعقل أخبر عنها كما يخبر عمن يعقل. وقد تقدم هذا المعنى في قوله: « وتراهم ينظرون إليك » [ الأعراف: 198 ] . والعرب تجمع ما لا يعقل جمع من يعقل إذا أنزلوه منزلته، وإن كان خارجا عن الأصل.

 

الآية: 5 ( قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين )

 

قوله تعالى: « فيكيدوا لك كيدا » أي يحتالوا في هلاكك؛ لأن تأويلها ظاهر؛ فربما يحملهم الشيطان على قصدك بسوء حينئذ. واللام في « لك » تأكيد. كقوله: « إن كنتم للرؤيا تعبرون » [ يوسف: 43 ] .

 

الرؤيا حالة شريفة، ومنزلة رفيعة، قال صلى الله عليه وسلم: ( لم يبق بعدي من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة الصادقة يراها الرجل الصالح أو ترى له ) . وقال: ( أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا ) . وحكم صلى الله عليه وسلم بأنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة، وروي ( من سبعين جزءا من النبوة ) . وروي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ( جزءا من أربعين جزءا من النبوة ) . ومن حديث ابن عمر ( جزء من تسعة وأربعين جزءا ) . ومن حديث العباس ( جزء من خمسين جزءا من النبوة ) . ومن حديث أنس ( من ستة وعشرين ) . وعن عبادة بن الصامت ( من أربعة وأربعين من النبوة ) . والصحيح منها حديث الستة والأربعين، ويتلوه في الصحة حديث السبعين؛ ولم يخرج مسلم في صحيحه غير هذين الحديثين، أما سائرها فمن أحاديث الشيوخ؛ قاله ابن بطال. قال أبو عبدالله المازري: والأكثر والأصح عند أهل الحديث ( من ستة وأربعين ) . قال الطبري: والصواب أن يقال إن عامة هذه الأحاديث أو أكثرها صحاح، ولكل حديث منها مخرج معقول؛ فأما قوله: ( إنها جزء من سبعين جزءا من النبوة ) فإن ذلك قول عام في كل رؤيا صالحة صادقة، ولكل مسلم رآها في منامه على أي أحواله كان؛ وأما قوله: ( إنها من أربعين أو ستة وأربعين ) فإنه يريد بذلك من كان صاحبها بالحال التي ذكرت عن الصديق رضي الله عنه أنه كان بها؛ فمن كان من أهل إسباغ الوضوء في السبرات، والصبر في الله على المكروهات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فرؤياه الصالحة - إن شاء الله - جزء من أربعين جزءا من النبوة، ومن كانت حاله في ذاته بين ذلك فرؤياه الصادقة بين جزأين ما بين الأربعين إلى الستين لا تنقص عن سبعين، وتزيد على الأربعين وإلى هذا المعنى أشار أبو عمر بن عبدالبر فقال: اختلاف الآثار في هذا الباب في عدد أجزاء الرؤيا ليس ذلك عندي اختلاف متضاد متدافع - والله أعلم - لأنه يحتمل أن تكون الرؤيا الصالحة من بعض من يراها على حسب ما يكون من صدق الحديث، وأداء الأمانة، والدين المتين، وحسن اليقين؛ فعلى قدر اختلاف الناس فيما وصفنا تكون الرؤيا منهم على الأجزاء المختلفة العدد فمن خلصت نيته في عبادة ربه ويقينه وصدق حديثه كانت رؤياه أصدق وإلى النبوة أقرب كما أن الأنبياء يتفاضلون قال الله تعالى: « ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض » الإسراء: 55 ] .

قلت: فهذا التأويل يجمع شتات الأحاديث، وهو أولى من تفسير بعضها دون بعض وطرحه؛ ذكره أبو سعيد الأسفاقسي عن بعض أهل العلم قال: معنى قوله: ( جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ) فإن الله تعالى أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة ثلاثة وعشرين عاما - فيما رواه عكرمة وعمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - فإذا نسبنا ستة أشهر من ثلاثة وعشرين عاما وجدنا ذلك جزءا من ستة وأربعين جزءا؛ وإلى هذا القول أشار المازري في كتابه « المعلم » واختاره القونوي في تفسيره من سورة « يونس » عند قوله تعالى: « لهم البشرى في الحياة الدنيا » [ يونس: 64 ] . وهو فاسد من وجهين: أحدهما: ما رواه أبو سلمة عن ابن عباس وعائشة بأن مدة الوحي كانت عشرين سنة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث على رأس أربعين، فأقام بمكة عشر سنين؛ وهو قول عروة والشعبي وابن شهاب والحسن وعطاء الخراساني وسعيد بن المسيب على اختلاف عنه، وهي رواية ربيعة وأبي غالب عن أنس، وإذا ثبت هذا الحديث بطل ذلك التأويل - الثاني: أن سائر الأحاديث في الأجزاء المختلفة تبقى بغير معنى.

 

إنما كانت الرؤيا جزءا من النبوة؛ لأن فيها ما يعجز ويمتنع كالطيران، وقلب الأعيان، والاطلاع على شيء من علم الغيب؛ كما قال عليه السلام: ( إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصادقة في النوم... ) الحديث. وعلى الجملة فإن الرؤيا الصادقة من الله، وأنها من النبوة؛ قال صلى الله عليه وسلم: ( الرؤيا من الله والحلم من الشيطان ) وأن التصديق بها حق، ولها التأويل الحسن، وربما أغنى بعضها عن التأويل، وفيها من بديع الله ولطفه ما يزيد المؤمن في إيمانه؛ ولا خلاف في هذا بين أهل الدين والحق من أهل الرأي والأثر، ولا ينكر الرؤيا إلا أهل الإلحاد وشرذمة من المعتزلة.

إن قيل: إذا كانت الرؤيا الصادقة جزءا من النبوة فكيف يكون الكافر والكاذب والمخلط أهلا لها؟ وقد وقعت من بعض الكفار وغيرهم ممن لا يرضى دينه منامات صحيحة صادقة؛ كمنام رؤيا الملك الذي رأى سبع بقرات، ومنام الفتيين في السجن؛ ورؤيا بختنصر، التي فسرها دانيال في ذهاب ملكه، ورؤيا كسرى في ظهور النبي صلى الله عليه وسلم، ومنام عاتكة، عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره وهي كافرة، وقد ترجم البخاري « باب رؤيا أهل السجن » : فالجواب أن الكافر والفاجر والفاسق والكاذب وإن صدقت رؤياهم في بعض الأوقات لا تكون من الوحي ولا من النبوة؛ إذ ليس كل من صدق في حديث عن غيب يكون خبره ذلك نبوة؛ وقد تقدم في « الأنعام » أن الكاهن وغيره قد يخبر بكلمة الحق فيصدق، لكن ذلك على الندور والقلة، فكذلك رؤيا هؤلاء؛ قال المهلب: إنما ترجم البخاري بهذا لجواز أن تكون رؤيا أهل الشرك رؤيا صادقة، كما كانت رؤيا الفتيين صادقة، إلا أنه لا يجوز أن تضاف إلى النبوة إضافة رؤيا المؤمن إليها، إذ ليس كل ما يصح له تأويل من الرؤيا حقيقة يكون جزءا من النبوة.

 

الرؤيا المضافة إلى الله تعالى هي التي خلصت من الأضغاث والأوهام، وكان تأويلها موافقا لما في اللوح المحفوظ، والتي هي من خبر الأضغاث هي الحلم، وهي المضافة إلى الشيطان، وإنما سميت ضغثا؛ لأن فيها أشياء متضادة؛ قال معناه المهلب. وقد قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا أقساما تغني عن قول كل قائل؛ روى عوف بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الرؤيا ثلاثة منها أهاويل الشيطان ليحزن ابن آدم ومنها ما يهتم به في يقظته فيراه في منامه ومنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ) . قال: قلت: سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم! سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

قوله تعالى: « قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك » الآية. الرؤيا مصدر رأي في المنام، رؤيا على وزن فعلى كالسقيا والبشرى؛ وألفه للتأنيث ولذلك لم ينصرف. وقد اختلف العلماء في حقيقة الرؤيا؛ فقيل: هي إدراك في أجزاء لم تحلها آفة، كالنوم المستغرق وغيره؛ ولهذا أكثر ما تكون الرؤيا في آخر الليل لقلة غلبة النوم؛ فيخلق الله تعالى للرائي علما ناشئا، ويخلق له الذي يراه على ما يراه ليصح الإدراك، قال ابن العربي: ولا يرى في المنام إلا ما يصح إدراكه في اليقظة، ولذلك لا يرى في المنام شخصا قائما قاعدا بحال، وإنما يرى الجائزات المعتادات. وقيل: إن لله ملكا يعرض المرئيات على المحل المدرك من النائم، فيمثل له صورا محسوسة؛ فتارة تكون تلك الصور أمثلة موافقة لما يقع في الوجود، وتارة تكون لمعاني معقولة غير محسوسة، وفي الحالتين تكون مبشرة أو منذرة؛ قال صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم وغيره: ( رأيت سوداء ثائرة الرأس تخرج من المدينة إلى مهيعة فأولتها الحمى ) . و ( رأيت سيفي قد انقطع صدره وبقرا تنحر فأولتهما رجل من أهل بيتي يقتل والبقر نفر من أصحابي يقتلون ) . و ( رأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة ) . و ( رأيت في يدي سوارين فأولتهما كذابين يخرجان بعدي ) . إلى غير ذلك مما ضربت له الأمثال؛ ومنها ما يظهر معناه أولا فأولا، ومنها ما لا يظهر إلا بعد التفكر؛ وقد رأى النائم في زمن يوسف عليه السلام بقرا فأولها يوسف السنين، ورأى أحد عشر كوكبا والشمس والقمر فأولها بإخوته وأبويه.

 

إن قيل: إن يوسف عليه السلام كان صغيرا وقت رؤياه، والصغير لا حكم لفعله، فكيف تكون له رؤيا لها حكم حتى يقول له أبوه: « لا تقصص رؤياك على إخوتك » ؟ فالجواب: أن الرؤيا إدراك حقيقة على ما قدمناه، فتكون من الصغير كما يكون منه الإدراك الحقيقي في اليقظة، وإذا أخبر عما رأى صدق، فكذلك إذا أخبر عما يرى في المنام؛ وقد أخبر الله سبحانه عن رؤياه وأنها وجدت كما رأى فلا اعتراض؛ روي أن يوسف عليه السلام كان ابن اثنتي عشرة سنة.

 

هذه الآية أصل في ألا تقص الرؤيا على غير شفيق ولا ناصح، ولا على من لا يحسن التأويل فيها؛ روى أبو رزين العقيلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الرؤيا جزء من أربعين جزءا من النبوة ) . و ( الرؤيا معلقة برجل طائر ما لم يحدث بها صاحبها فإذا حدث بها وقعت فلا تحدثوا بها إلا عاقلا أو محبا أو ناصحا ) أخرجه الترمذي وقال فيه: حديث حسن صحيح؛ وأبو رزين اسمه لقيط بن عامر. وقيل لمالك: أيعبر الرؤيا كل أحد؟ فقال: أبالنبوة يلعب؟ وقال مالك: لا يعبر الرؤيا إلا من يحسنها، فإن رأى خيرا أخبر به، وإن رأى مكروها فليقل خيرا أو ليصمت؛ قيل: فهل يعبرها على الخير وهي عنده على المكروه لقول من قال إنها على ما تأولت عليه؟ فقال: لا! ثم قال،: الرؤيا جزء من النبوة فلا يتلاعب بالنبوة.

 

وفي هذه الآية دليل على أن مباحا أن يحذّر المسلم أخاه المسلم ممن يخافه عليه، ولا يكون داخلا في معنى الغيبة؛ لأن يعقوب - عليه السلام - قد حذر يوسف أن يقص رؤياه على إخوته فيكيدوا له كيدا، وفيها أيضا ما يدل على جواز ترك إظهار النعمة عند من تخشى غائلته حسدا وكيدا؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( استعينوا على إنجاح حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود ) . وفيها أيضا دليل واضح على معرفة يعقوب عليه السلام بتأويل الرؤيا؛ فإنه علم من تأويلها أنه سيظهر عليهم، ولم يبال بذلك من نفسه؛ فإن الرجل يود أن يكون ولده خيرا منه، والأخ لا يود ذلك لأخيه. ويدل أيضا على أن يعقوب عليه السلام كان أحسّ من بنيه حسد يوسف وبغضه؛ فنهاه عن قصص الرؤيا عليهم خوف أن تغل بذلك صدورهم، فيعملوا الحيلة في هلاكه؛ ومن هذا ومن فعلهم بيوسف يدل على أنهم كانوا غير أنبياء في ذلك الوقت، ووقع في كتاب الطبري لابن زيد أنهم كانوا أنبياء، وهذا يرده القطع بعصمة الأنبياء عن الحسد الدنيوي، وعن عقوق الآباء، وتعريض مؤمن للهلاك، والتآمر في قتله، ولا التفات لقول من قال إنهم كانوا أنبياء، ولا يستحيل في العقل زلة نبي، إلا أن هذه الزلة قد جمعت أنواعا من الكبائر، وقد أجمع المسلمون على عصمتهم منها، وإنما اختلفوا في الصغائر على ما تقدم ويأتي.

العاشرة: روى البخاري عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لم يبق من النبوة إلا المبشرات ) قالوا: وما المبشرات؟ قال: ( الرؤيا الصالحة ) وهذا الحديث بظاهره يدل على أن الرؤيا بشرى على الإطلاق وليس كذلك؛ فإن الرؤيا الصادقة قد تكون منذرة من قبل الله تعالى لا تسر رائيها، وإنما يريها الله تعالى المؤمن رفقا به ورحمة، ليستعد لنزول البلاء قبل وقوعه؛ فإن أدرك تأولها بنفسه، وإلا سأل عنها من له أهلية ذلك. وقد رأى الشافعي رضي الله عنه وهو بمصر رؤيا لأحمد بن حنبل تدل على محنته فكتب إليه بذلك ليستعد لذلك، وقد تقدم في « يونس » في تفسير قوله تعالى: « لهم البشرى في الحياة الدنيا » [ يونس: 64 ] أنها الرؤيا الصالحة. وهذا وحديث البخاري مخرجه على الأغلب، والله أعلم.

 

روى البخاري عن أبي سلمة قال: لقد كنت أرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت أبا قتادة يقول: وأنا كنت لأرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( الرؤيا الحسنة من الله فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب وإذا رأى ما يكره فليتعوذ بالله من شرها وليتفل ثلاث مرات ولا يحدث بها أحدا فإنها لن تضره ) . قال علماؤنا: فجعل الله الاستعاذة منها مما يرفع أذاها؛ ألا ترى قول أبي قتادة: إني كنت لأرى الرؤيا هي أثقل علي من الجبل، فلما سمعت بهذا الحديث كنت لا أعدها شيئا. وزاد مسلم من رواية جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثا وليتعوذ بالله من الشيطان ثلاثا وليتحول عن جنبه الذي كان عليه ) . وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا رأى أحدكم ما يكره فليقم فليصل ) . قال علماؤنا: وهذا كله ليس بمتعارض؛ وإنما هذا الأمر بالتحول، والصلاة زيادة، فعلى الرائي أن يفعل الجميع، والقيام إلى الصلاة يشمل الجميع؛ لأنه إذا صلى تضمن فعله للصلاة جميع تلك الأمور؛ لأنه إذا قام إلى الصلاة تحول عن جنبه، وإذا تمضمض تفل وبصق، وإذا قام إلى الصلاة تعوذ ودعا وتضرع لله تعالى في أن يكفيه شرها في حال هي أقرب الأحوال إلى الإجابة؛ وذلك السحر من الليل.

 

الآية: 6 ( وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم )

 

قوله تعالى: « وكذلك يجتبيك ربك » الكاف في موضع نصب؛ لأنها نعت لمصدر محذوف، وكذلك الكاف في قوله: « كما أتمها على أبويك من قبل » و « ما » كافة. وقيل: « وكذلك » أي كما أكرمك بالرؤيا فكذلك يجتبيك، ويحسن إليك بتحقيق الرؤيا. قال مقاتل: بالسجود لك. الحسن: بالنبوة. والاجتباء اختيار معالي الأمور للمجتبى، وأصله من جبيت الشيء أي حصلته، ومنه جبيت الماء في الحوض؛ قال النحاس. وهذا ثناء من الله تعالى على يوسف عليه السلام، وتعديد فيما عدده عليه من النعم التي آتاه الله تعالى؛ من التمكين في الأرض، وتعليم تأويل الأحاديث؛ وأجمعوا أن ذلك في تأويل الرؤيا. قال عبدالله بن شداد بن الهاد: كان تفسير رؤيا يوسف صلى الله عليه وسلم بعد أربعين سنة؛ وذلك منتهى الرؤيا. وعنى بالأحاديث ما يراه الناس في المنام، وهي، معجزة له؛ فإنه لم يلحقه فيها خطأ. وكان يوسف عليه السلام أعلم الناس بتأويلها، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم نحو ذلك، وكان الصديق رضي الله عنه من أعبر الناس لها، وحصل لابن سيرين فيها التقدم العظيم، والطبع والإحسان، ونحوه أو قريب منه كان سعيد بن المسيب فيما ذكروا. وقد قيل في تأويل قوله: « ويعلمك من تأويل الأحاديث » أي أحاديث الأمم والكتب ودلائل التوحيد، فهو إشارة إلى النبوة، وهو المقصود بقوله: « ويتم نعمته عليك » أي بالنبوة. وقيل: بإخراج إخوتك، إليك؛ وقيل: بإنجائك من كل مكروه. « كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم » بالخلة، وإنجائه من النار. « وإسحاق » بالنبوة. وقيل: من الذبح؛ قاله عكرمة. وأعلمه الله تعالى بقوله: « وعلى آل يعقوب » أنه سيعطي بني يعقوب كلهم النبوة؛ قاله جماعة من المفسرين. « إن ربك عليم » بما يعطيك. « حكيم » في فعله بك.

 

الآيات: 7 - 9 ( لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين، إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين، اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين )

 

قوله تعالى: « لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين » يعني من سأل عن حديثهم. وقرأ أهل مكة « آية » على التوحيد؛ واختار أبو عبيد « آيات » على الجمع؛ قال: لأنها خير كثير. قال النحاس: و « آية » هنا قراءة حسنة، أي لقد كان للذين سألوا عن خبر يوسف آية فيما خبروا به، لأنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة فقالوا: أخبرنا عن رجل من الأنبياء كان بالشام أخرج ابنه إلى مصر، فبكى عليه حتى عمي؟ - ولم يكن بمكة أحد من أهل الكتاب، ولا من يعرف خبر الأنبياء؛ وإنما وجه اليهود إليهم من المدينة يسألونه عن هذا - فأنزل الله عز وجل سورة « يوسف » جملة واحدة؛ فيها كل ما في التوراة من خبر وزيادة، فكان ذلك آية للنبي صلى الله عليه وسلم، بمنزلة إحياء عيسى ابن مريم عليه السلام الميت. « آيات » موعظة؛ وقيل: عبرة. وروي أنها في بعض المصاحف « عبرة » . وقيل: بصيرة. وقيل: عجب؛ تقول فلان آية في العلم والحسن أي عجب. قال الثعلبي في تفسيره: لما بلغت الرؤيا إخوة يوسف حسدوه؛ وقال ابن زيد: كانوا أنبياء، وقالوا: ما يرضى أن يسجد له إخوته حتى يسجد له أبواه! فبغوه بالعداوة، وقد تقدم رد هذا القول. قال الله تعالى: « لقد كان في يوسف وإخوته » وأسماؤهم: روبيل وهو أكبرهم، وشمعون ولاوى ويهوذا وزيالون ويشجر، وأمهم ليا بنت ليان، وهي بنت حال يعقوب، وولد له من سريتين أربعة نفر؛ دان ونفتالي وجاد وأشر، ثم توفيت ليا فتزوج يعقوب أختها راحيل، فولدت له يوسف وبنيامين، فكان بنو يعقوب اثني عشر رجلا. قال السهيلي: وأم يعقوب اسمها رفقا، وراحيل ماتت في نفاس بنيامين، وليان بن ناهر بن آزر هو خال يعقوب. وقيل: في اسم الأمتين ليا وتلتا، كانت إحداهما لراحيل، والأخرى لأختها ليا، وكانتا قد وهبتاهما ليعقوب، وكان يعقوب قد جمع بينهما، ولم يحل لأحد بعده؛ لقول الله تعالى: « وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف » [ النساء: 23 ] . وقد تقدم الرد على ما قاله ابن زيد، والحمد لله.

 

قوله تعالى: « إذ قالوا ليوسف وأخوه » « يوسف » رفع بالابتداء؛ واللام للتأكيد، وهي التي يتلقى بها القسم؛ أي والله ليوسف. « وأخوه » عطف عليه. « أحب إلى أبينا منا » خبره، ولا يثنى ولا يجمع لأنه بمعنى الفعل؛ وإنما قالوا هذا لأن خبر المنام بلغهم فتآمروا في كيده. « ونحن عصبة » أي جماعة، وكانوا عشرة. والعصبة ما بين الواحد إلى العشرة، وقيل: إلى الخمسة عشر. وقيل: ما بين الأربعين إلى العشرة؛ ولا واحد لها من لفظها كالنفر والرهط. « إن أبانا لفي ضلال مبين » لم يريدوا ضلال الدين، إذ لو أرادوه لكانوا كفارا؛ بل أرادوا لفي ذهاب عن وجه التدبير، في إيثار اثنين على عشرة مع استوائهم في الانتساب إليه. وقيل: لفي خطأ ببن بإيثاره يوسف وأخاه علينا.

 

قوله تعالى: « اقتلوا يوسف » في الكلام حذف؛ أي قال قائل منهم: « اقتلوا يوسف » ليكون أحسم لمادة الأمر. « أو اطرحوه أرضا » أي في أرض، فأسقط الخافض وانتصب الأرض؛ وأنشد سيبويه فيما حذف منه « في » :

لدن بهز الكف يعسل متنه فيه كما عسل الطريق الثعلب

قال النحاس: إلا أنه في الآية حسن كثير؛ لأنه يتعدى إلى مفعولين، أحدهما بحرف، فإذا حذفت الحرف تعدى الفعل إليه. والقائل قيل: هو شمعون، قال وهب بن منبه. وقال كعب الأحبار؛ دان. وقال مقاتل: روبيل؛ والله أعلم. والمعنى أرضا تبعد عن أبيه؛ فلا بد من هذا الإضمار لأنه كان عند أبيه في أرض. « يخل » جزم لأنه جواب الأمر؛ معناه: يخلص ويصفو. « لكم وجه أبيكم » فيقبل عليكم بكليته. « وتكونوا من بعده » أي من بعد الذنب، وقيل: من بعد يوسف. « قوما صالحين » أي تائبين؛ أي تحدثوا توبة بعد ذلك فيقبلها الله منكم؛ وفي هذا دليل على أن توبة القاتل مقبولة، لأن الله تعالى لم ينكر هذا القول منهم. وقيل: « صالحين » أي يصلح شأنكم عند أبيكم من غير أثرة ولا تفضيل.

 

الآية: 10 ( قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين )

 

قوله تعالى: « قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف » القائل هو يهوذا، وهو أكبر ولد يعقوب؛ قاله ابن عباس. وقيل: روبيل، وهو ابن خالته، وهو الذي قال: « فلن أبرح الأرض » [ يوسف: 80 ] الآية. وقيل: شمعون. « وألقوه في غيابة الجب » قرأ أهل مكة وأهل البصرة وأهل الكوفة « في غيابة الجب » . وقرأ أهل المدينة « في غيابات الجب » واختار أبو عبيد التوحيد؛ لأنه على موضع واحد ألقوه فيه، وأنكر الجمع لهذا. قال النحاس: وهذا تضييق في اللغة؛ « وغيابات » على الجمع يجوز من وجهين: حكى سيبويه سير عليه عشيانات وأصيلانات، يريد عشية وأصيلا، فجعل كل وقت منها عشية وأصيلا؛ فكذا جعل كل موضع مما يغيب غيابة. والآخر - أن يكون في الجب غيابات ( جماعة ) . ويقال: غاب يغيب غيبا وغيابة وغيابا؛ كما قال الشاعر:

ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالث أنا ذاكما قد غيبتني غيابيا

قال الهروي: والغيابة شبه لجف أو طاق في البئر فويق الماء، يغيب الشيء عن العين. وقال ابن عزيز: كل شيء غيب عنك شيئا فهو غيابة. قلت: ومنه قيل للقبر غيابة؛ قال الشاعر:

فإن أنا يوما غيبتني غيابتي فسيروا بسيري في العشيرة والأهل

والجب الركية التي لم تطو، فإذا طويت فهي بئر؛ قال الأعشى:

لئن كنت في جب ثمانين قامة ورقيت أسباب السماء بسلم

وسميت جبا لأنها قطعت في الأرض قطعا؛ وجمع الجب جببة وجباب وأجباب؛ وجمع بين الغيابة والجب لأنه أراد القوة في موضع مظلم من الجب حتى لا يلحقه نظر الناظرين. قيل: هو بئر بيت المقدس، وقيل: هو بالأردن؛ قال وهب بن منبه. مقاتل: وهو على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب.

 

قوله تعالى: « يلتقطه بعض السيارة » جزم على جواب الأمر. وقرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن وقتادة: « تلتقطه » بالتاء، وهذا محمول على المعنى؛ لأن بعض السيارة سيارة؛ وقال سيبويه: سقطت بعض أصابعه، وأنشد:

وتشرق بالقول الذي قد أذعته كما شرقت صدر القناة من الدم

وقال آخر:

أرى مر السنين أخذن مني كما أخذ السرار من الهلال

ولم يقل شرق ولا أخذت. والسيارة الجمع الذي يسيرون في الطريق للسفر؛ وإنما قال القائل هذا حتى لا يحتاجوا إلى حمله إلى موضع بعيد ويحصل المقصود؛ فإن من التقطه من السيارة يحمله إلى موضع بعيد؛ وكان هذا وجها في التدبير حتى لا يحتاجوا إلى الحركة بأنفسهم، فربما لا يأذن لهم أبوهم، وربما يطلع على قصدهم.

 

وفي هذا ما يدل على أن إخوة يوسف ما كانوا أنبياء لا أولاً ولا آخراً؛ لأن الأنبياء لا يدبرون في قتل مسلم، بل كانوا مسلمين، فارتكبوا معصية ثم تابوا. وقيل: كانوا أنبياء، ولا يستحيل في العقل زلة نبي، فكانت هذه زلة منهم؛ وهذا يرده أن الأنبياء معصومون من الكبائر على ما قدمناه. وقيل: ما كانوا في ذلك الوقت أنبياء ثم نبأهم الله؛ وهذا أشبه، والله أعلم.

 

قال ابن وهب قال مالك: طرح يوسف في الجب وهو غلام، وكذلك روى ابن القاسم عنه، يعني أنه كان صغيرا؛ والدليل عليه قوله تعالى: « لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة » قال: ولا يلتقط إلا الصغير؛ وقوله: « وأخاف أن يأكله الذئب » [ يوسف: 13 ] وذلك أمر يختص بالصغار؛ وقولهم: « أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون » [ يوسف: 12 ] .

 

الالتقاط تناول الشيء من الطريق؛ ومنه اللقيط واللقطة، ونحن نذكر من أحكامها ما دلت عليه الآية والسنة، وما قال في ذلك أهل العلم واللغة؛ قال ابن عرفة: الالتقاط وجود الشيء على غير طلب، ومنه قوله تعالى: « يلتقطه بعض السيارة » أي يجده من غير أن يحتسبه. وقد اختلف العلماء في اللقيط؛ فقيل: أصله الحرية لغلبة الأحرار على العبيد؛ وروي عن الحسن بن علي أنه قضى بأن اللقيط حر، وتلا « وشروه بثمن بخس دراهم معدودة » [ يوسف: 20 ] وإلى هذا ذهب أشهب صاحب مالك؛ وهو قول عمر بن الخطاب، وكذلك روي عن علي وجماعة. وقال إبراهيم النخعي: إن نوى رقه فهو مملوك، وإن نوى الحسبة فهو حر. وقال مالك في موطئه: الأمر عندنا في المنبوذ أنه حر، وأن ولاءه لجماعة المسلمين، هم يرثونه ويعقلون عنه، وبه قال الشافعي؛ واحتج بقول عليه السلام: ( وإنما الولاء لمن أعتق ) قال: فنفى الولاء عن غير المعتق. واتفق مالك والشافعي وأصحابهما على أن اللقيط لا يوالي أحدا، ولا يرثه أحد بالولاء. وقال أبو حنيفة وأصحابه وأكثر الكوفيين: اللقيط يوالي من شاء، فمن ولاه فهو يرثه ويعقل عنه؛ وعند أبي حنيفة له أن ينتقل بولائه حيث شاء، ما لم يعقل عنه الذي والاه، فإن عقل عنه جناية لم يكن له أن ينتقل عنه بولائه أبدا. وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن علي رضي الله عنه: المنبوذ حر، فان أحب أن يوالي الذي التقطه والاه، وإن أحب أن يوالي غيره والاه؛ ونحوه عن عطاء، وهو قول ابن شهاب وطائفة من أهل المدينة، وهو حر. قال ابن العربي: إنما كان أصل اللقيط الحرية لغلبة الأحرار على العبيد، فقضى بالغالب، كما حكم أنه مسلم أخذا بالغالب؛ فإن كان في قرية فيها نصارى ومسلمون قال ابن القاسم: يحكم بالأغلب؛ فإن وجد عليه زي اليهود فهو يهودي، وإن وجد عليه زي النصارى فهو نصراني، وإلا فهو مسلم، إلا أن يكون أكثر أهل القرية على غير الإسلام. وقال غيره: لو لم يكن فيها إلا مسلم واحد قضي للقيط بالإسلام تغليبا لحكم الإسلام الذي يعلو ولا يعلى عليه، وهو مقتضى قول أشهب؛ قال أشهب: هو مسلم أبدا. لأني أجعله مسلما على كل حال، كما أجعله حرا على كل حال. واختلف الفقهاء في المنبوذ تدل البينة على أنه عبد؛ فقالت طائفة من أهل المدينة: لا يقبل قولها في ذلك، وإلى هذا ذهب أشهب لقول عمر: هو حر؛ ومن قضى بحريته لم تقبل البينة في أنه عبد. وقال ابن القاسم: تقبل البينة في ذلك وهو قول الشافعي والكوفي.

 

قال مالك في اللقيط: إذا اتفق عليه الملتقط ثم أقام رجل البينة أنه ابنه فإن الملتقط يرجع على الأب إن كان طرحه متعمدا، وإن لم يكن طرحه ولكنه ضل منه فلا شيء على الأب، والملتقط متطوع بالنفقة. وقال أبو حنيفة: إذا أنفق على اللقيط فهو متطوع، إلا أن يأمره الحاكم. وقال الأوزاعي: كل من أنفق علي من لا تجب عليه نفقة رجع بما أنفق. وقال الشافعي: إن لم يكن للقيط مال وجبت نفقته في بيت المال، فإن لم يكن ففيه قولان: أحدهما - يستقرض له في ذمته. والثاني - يقسط على المسلمين من غير عوض.

 

وأما اللقطة والضوال فقد اختلف العلماء في حكمهما؛ فقالت طائفة من أهل العلم: اللقطة والضوال سواء في المعنى، والحكم فيهما سواء؛ وإلى هذا ذهب أبو جعفر الطحاوي، وأنكر قول أبي عبيد القاسم بن سلام - أن الضالة لا تكون إلا في الحيوان واللقطة في غير الحيوان - وقال هذا غلط؛ واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الإفك للمسلمين: ( إن أمكم ضلت قلادتها ) فأطلق ذلك على القلادة.

 

أجمع العلماء على أن اللقطة ما لم تكن تافها يسيرا أو شيئا لا بقاء لها فإنها تعرف حولا كاملا، وأجمعوا أن صاحبها إن جاء فهو أحق بها من ملتقطها إذا ثبت له أنه صاحبها، وأجمعوا أن ملتقطها إن أكلها بعد الحول وأراد. صاحبها أن يضمنه فإن ذلك له، وإن تصدق بها فصاحبها مخير بين التضمين وبين أن ينزل على أجرها، فأي ذلك تخير كان ذلك له بإجماع؛ ولا تنطلق يد ملتقطها عليها بصدقة، ولا تصرف قبل الحول. وأجمعوا أن ضالة الغنم المخوف عليها له أكلها.

 

واختلف الفقهاء في الأفضل من تركها أو أخذها؛ فمن، ذلك أن في الحديث دليلا على إباحة التقاط اللقطة وأخذ الضالة ما لم تكن إبلا. وقال في الشاة: ( لك أو لأخيك أو للذئب ) يحضه على أخذها، ولم يقل في شيء دعوه حتى يضيع أو يأتيه ربه. ولو كان ترك اللقطة أفضل لأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال في ضالة الإبل، والله أعلم. وجملة مذهب أصحاب مالك أنه في سعة، إن شاء أخذها وإن شاء تركها؛ هذا قول إسماعيل بن إسحاق رحمه الله. وقال المزني عن الشافعي: لا أحب لأحد ترك اللقطة إن وجدها إذا كان أمينا عليها؛ قال: وسواء قليل اللقطة وكثيرها.

 

روى الأئمة مالك وغيره عن زيد بن خالد الجهني قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن اللقطة فقال: ( اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها ) قال: فضالة الغنم يا رسول الله؟ قال: ( لك أو لأخيك أو للذئب ) قال: فضالة الإبل؟ قال: ( ما لك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها ) . وفي حديث أبي قال: ( احفظ عددها ووعاءها ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها ) ففي هذا الحديث زيادة العدد؛ خرجه مسلم وغيره. وأجمع العلماء أن عفاص اللقطة ووكاءها من إحدى علاماتها وأدلها عليها؛ فإذا أتى صاحب اللقطة بجميع أوصافها دفعت له؛ قال ابن القاسم: يجبر على دفعها؛ فإن جاء مستحق يستحقها ببينة أنها كانت له لم يضمن الملتقط شيئا، وهل يحلف مع الأوصاف أو لا؟ قولان: الأول لأشهب، والثاني لابن القاسم، ولا تلزمه بينة عند مالك وأصحابه وأحمد بن حنبل وغيرهم. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا تدفع له إلا إذا أقام بينة أنها له؛ وهو بخلاف نص الحديث؛ ولو كانت البينة شرطا في الدفع لما كان لذكر العفاص والوكاء والعدد معنى؛ فإنه يستحقها بالبينة على كل حال؛ ولما جاز سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فإنه تأخير البيان عن وقت الحاجة. والله أعلم.

 

نص الحديث على الإبل والغنم وبين حكمهما، وسكت عما عداهما من الحيوان. وقد اختلف علماؤنا في البقر هل تلحق بالإبل أو بالغنم؟ قولان؛ وكذلك اختلف أئمتنا في التقاط الخيل والبغال والحمير، وظاهر قول ابن القاسم أنها تلتقط، وقال أشهب وابن كنانة: لا تلتقط؛ وقول ابن القاسم أصح؛ لقول عليه السلام: ( احفظ على أخيك المؤمن ضالته ) .

 

واختلف العلماء في النفقة على الضوال؛ فقال مالك فيما ذكر عنه ابن القاسم: إن أنفق الملتقط على الدواب والإبل وغيرها فله أن يرجع على صاحبها بالنفقة، وسواء أنفق عليها بأمر السلطان أو بغير أمره؛ قال: وله أن يحبس بالنفقة ما أنفق عليه ويكون أحق به كالرهن. وقال الشافعي: إذا أنفق على الضوال من أخذها فهو متطوع؛ حكاه عنه الربيع. وقال المزني عنه: إذا أمره الحاكم بالنفقة كانت دينا، وما ادعى قبل منه إذا كان مثله قصدا. وقال أبو حنيفة: إذا أنفق على اللقطة والإبل بغير أمر القاضي فهو متطوع، وإن أنفق بأمر القاضي فذلك دين على صاحبها إذا جاء، وله أن يحبسها إذا حضر صاحبها، والنفقة عليها ثلاثة أيام ونحوها، حتى يأمر القاضي ببيع الشاة وما أشبهها ويقضي بالنفقة.

 

ليس في قوله صلى الله عليه وسلم في اللقطة بعد التعريف: ( فاستمتع بها ) أو ( فشأنك بها ) أو ( فهي لك ) أو ( فاستنفقها ) أو ( ثم كلها ) أو ( فهو مال الله يؤتيه من يشاء ) على ما في صحيح مسلم وغيره، ما يدل على التمليك، وسقوط الضمان عن الملتقط إذا جاء ربها؛ فان في حديث زيد بن خالد الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك فإن جاء صاحبها يوما من الدهر فأدها إليه ) في رواية ( ثم كلها فإن جاء صاحبها فأدها إليه ) خرجه البخاري ومسلم. وأجمع العلماء على أن صاحبها متى جاء فهو أحق بها، إلا ما ذهب إليه داود من أن الملتقط يملك اللقطة بعد التعريف؛ لتلك الظواهر، ولا التفات لقوله؛ لمخالفة الناس، ولقوله عليه السلام: ( فأدها إليه ) .

 

الآيتان: 11 - 12 ( قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون، أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون )

 

قوله تعالى: « قالوا يا أبانا ما لك لا تأمننا على يوسف » قيل للحسن: أيحسد المؤمن؟ قال: ما أنساك ببني يعقوب. ولهذا قيل: الأب جلاب والأخ سلاب؛ فعند ذلك أجمعوا على التفريق بينه وبين ولده بضرب من الاحتيال. وقالوا ليعقوب: « يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف » وقيل: لما تفاوضوا وافترقوا على رأي المتكلم الثاني عادوا إلى يعقوب عليه السلام وقالوا هذا القول. وفيه دليل على أنهم سألوه قبل ذلك أن يخرج معهم يوسف فأبي علي ما يأتي. قرأ يزيد بن القعقاع وعمرو بن عبيد والزهري « لا تأمنا » بالإدغام، وبغير إشمام وهو القياس؛ لأن سبيل ما يدغم أن يكون ساكنا. وقرأ طلحة بن مصرف « لا تأمننا » بنونين ظاهرتين على الأصل. وقرأ يحيى بن وثاب وأبو رزبن - وروي عن الأعمش - « ولا تيمنا » بكسر التاء، وهي لغة تميم؛ يقولون: أنت تضرب؛ وقد تقدم. وقرأ سائر الناس بالإدغام والإشمام ليدل على حال الحرف قبل إدغامه. « وإنا له لناصحون » أي في حفظه وحيطته حتى نرده إليك. قال مقاتل: في الكلام تقديم وتأخير؛ وذلك أن إخوة يوسف قالوا لأبيهم: « أرسله معنا غدا » الآية؛ فحينئذ قال أبوهم: « إني ليحزنني أن تذهبوا به » [ يوسف: 13 ] فقالوا حينئذ جوابا لقوله: « ما لك لا تأمنا على يوسف » الآية. « أرسله معنا غدا » إلى الصحراء. « غدا » ظرف، والأصل عند سيبويه غدو، وقد نطق به على الأصل؛ قال النضر بن شميل: ما بين الفجر وصلاة الصبح يقال له غدوة، وكذا بكرة. « يرتع ويلعب » بالنون وإسكان العين قراءة أهل البصرة. والمعروف من قراءة أهل مكة. « نرتع » بالنون وكسر العين. وقراءة أهل الكوفة. « يرتع ويلعب » بالياء وإسكان العين. وقراءة أهل المدينة بالياء وكسر العين؛ القراءة الأولى من قول العرب رتع الإنسان والبعير إذا أكلا كيف شاءا؛ والمعنى: نتسع في الخصب؛ وكل مخصب راتع؛ قال:

فارعي فزارة لا هناك المرتع

وقال آخر:

ترتع ما غفلت حتى إذا أدكرت فإنما هي إقبال وإدبار

وقال آخر:

أكفرا بعد رد الموت عني وبعد عطائك المائة الرتاعا

أي الراتعة لكثرة المرعى. وروى معمر عن قتادة « ترتع » تسعى؛ قال النحاس: أخذه من قوله: « إنا ذهبنا نستبق » لأن المعنى: نستبق في العدو إلى غاية بعينها؛ وكذا « يرتع » بإسكان العين، إلا أنه ليوسف وحده صلى الله عليه وسلم. و « يرتع » بكسر العين من رعي الغنم، أي ليتدرب بذلك ويرتجل؛ فمرة يرتع، ومرة يلعب لصغره. وقال القتبي « نرتع » نتحارس ونتحافظ، ويرعى بعضنا بعضا؛ من قولك: رعاك الله؛ أي حفظك. « ونلعب » من اللعب وقيل لأبي عمرو بن العلاء: كيف قالوا « ونلعب » وهم أنبياء؟ فقال: لم يكونوا يومئذ أنبياء. وقيل: المراد باللعب المباح من الانبساط، لا اللعب المحظور الذي هو ضد الحق؛ ولذلك لم ينكر يعقوب قولهم « ونلعب » . ومنه قوله عليه السلام: ( فهلا بكرا تلاعبها وتلاعبك ) . وقرأ مجاهد وقتادة: « يرتع » على معنى يرتع مطيته، فحذف المفعول؛ « ويلعب » بالرفع على الاستئناف؛ والمعنى: هو ممن يلعب « وإنا له لحافظون » من كل ما تخاف عليه. ثم يحتمل أنهم كانوا يخرجون ركبانا، ويحتمل أنهم كانوا رجّالة. وقد نقل أنهم حملوا يوسف على أكتافهم ما دام يعقوب يراهم، ثم لما غابوا عن عينه طرحوه ليعدو معهم إضرارا به.

 

الآيتان: 13 - 14 ( قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون، قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون )

 

قوله تعالى: « قال إني ليحزنني أن تذهبوا به » في موضع رفع؛ أي ذهابكم به. أخبر عن حزنه لغيبته. « وأخاف أن يأكله الذئب » وذلك أنه رأى في منامه أن الذئب شد على يوسف، فلذلك خافه عليه؛ قال الكلبي. وقيل: إنه رأى في منامه كأنه على ذروة جبل، وكأن يوسف في بطن الوادي، فإذا عشرة من الذئاب قد احتوشته تريد أكله، فدرأ عنه واحد، ثم انشقت الأرض فتوارى يوسف فيها ثلاثة أيام؛ فكانت العشرة إخوته، لما تمالؤوا على قتله، والذي دافع عنه أخوه الأكبر يهوذا، وتواريه في الأرض هو مقامه في الجب ثلاثة أيام. وقيل: إنما قال ذلك لخوفه منهم عليه، وأنه أرادهم بالذئب؛ فخوفه إنما كان من قتلهم له، فكنى عنهم بالذئب مساترة لهم؛ قال ابن عباس: فسماهم ذئابا. وقيل: ما خافهم عليه، ولو خافهم لما أرسله معهم، وإنما خاف الذئب؛ لأنه أغلب ما يخاف في الصحارى. والذئب مأخوذ من تذاءبت الريح إذا جاءت من كل وجه؛ كذا قال أحمد بن يحيى؛ قال: والذئب مهموز لأنه يجيء من كل وجه. وروى ورش عن نافع « الذيب » بغير همز، لما كانت الهمزة ساكنة وقبلها كرة فخففها صارت ياء. « وأنتم عنه غافلون » أي مشغلون بالرعي.

 

قوله تعالى: « قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة » أي جماعة نرى الذئب ثم لا نرده عنه. « إنا إذا لخاسرون » أي في حفظنا أغنامنا؛ أي إذا كنا لا نقدر على دفع الذئب عن أخينا فنحن أعجز أن ندفعه عن أغنامنا. وقيل: « لخاسرون » لجاهلون بحقه. وقيل: لعاجزون.

 

الآية: 15 ( فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون )

 

قوله تعالى: « فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه » « أن » في موضع نصب؛ أي على أن يجعلوه في غيابة الجب. قيل في القصة: إن يعقوب عليه السلام لما أرسله معهم أخذ عليهم ميثاقا غليظا ليحفظنه، وسلمه إلى روبيل وقال: يا روبيل إنه صغير، وتعلم يا بني شفقتي عليه؛ فإن جاع فأطعمه، وإن عطش فاسقه، وإن أعيا فاحمله ثم عجل برده إلي. قال: فأخذوا يحملونه على أكتافهم، لا يضعه واحد إلا رفعه آخر، ويعقوب يشيعهم ميلا ثم رجع؛ فلما انقطع بصر أبيهم عنهم رماه الذي كان يحمله إلى الأرض حتى كاد ينكسر، فالتجأ إلى آخر فوجد عند كل واحد منهم أشد مما عند الآخر من الغيظ والعسف؛ فاستغاث بروبيل وقال: ( أنت أكبر إخوتي، والخليفة من بعد والدي علي، وأقرب الإخوة إلي، فارحمني وارحم ضعفي ) فلطمه لطمة شديدة وقال: لا قرابة بيني وبينك، فادع الأحد عشر كوكبا فلتنجك منا؛ فعلم أن حقدهم من أجل رؤياه، فتعلق بأخيه يهوذا وقال: يا أخي ارحم ضعفي وعجزي وحداثة سني، وارحم قلب أبيك يعقوب؛ فما أسرع ما تناسيتم وصيته ونقضتم عهده؛ فرق قلب يهوذا فقال: والله لا يصلون إليك أبدا ما دمت حيا، ثم قال: يا إخوتاه إن قتل النفس التي حرم الله من أعظم الخطايا، فردوا هذا الصبي إلى أبيه، ونعاهده ألا يحدث والده بشيء مما جرى أبدا؛ فقال له إخوته: والله ما تريد إلا أن تكون لك المكانة عند يعقوب، والله لئن لم تدعه لنقتلنك معه، قال: فإن أبيتم إلا ذلك فههنا هذا الجب الموحش القفر، الذي هو مأوى الحيات والهوام فألقوه فيه، فإن أصيب بشيء من ذلك فهو المراد، وقد استرحتم من دمه، وإن انفلت على أيدي سيارة يذهبون به إلى أرض فهو المراد؛ فأجمع رأيهم على ذلك؛ فهو قوله الله تعالى: « فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب » وجواب « لما » محذوف؛ أي فلما ذهبوا به وأجمعوا على طرحه في الجب عظمت فتنتهم. وقيل: جواب « لما » قولهم: « قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق » [ يوسف: 17 ] . وقيل: التقدير فلما ذهبوا به من عند أبيهم وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب جعلوه فيها، هذا على مذهب البصريين؛ وأما على قول الكوفيين فالجواب. « أوحينا » والواو مقحمة، والواو عندهم تزاد مع لما وحتى؛ قال الله تعالى: « حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها » [ الزمر: 73 ] أي فتحت وقوله: « حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور » [ هود: 40 ] أي فار. قال امرؤ القيس:

فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى

أي انتحى؛ ومنه قوله تعالى: « فلما أسلما وتله للجبين وناديناه » [ الصافات: 103 - 104 ] أي ناديناه. وفي قوله: « وأوحينا إليه » دليل على نبوته في ذلك الوقت. قال الحسن ومجاهد والضحاك وقتادة: أعطاه الله النبوة وهو في الجب على حجر مرتفع عن الماء. وقال الكلبي: ألقي في الجب، وهو ابن ثماني عشرة سنة، فما كان صغيرا؛ ومن قال كان صغيرا فلا يبعد في العقل أن يتنبأ الصغير ويوحى إليه. وقيل: كان وحي إلهام كقوله: « وأوحى ربك إلى النحل » [ النحل: 68 ] . وقيل: كان مناما، والأول أظهر - والله أعلم - وأن جبريل جاءه بالوحي.

 

قوله تعالى: « لتنبئنهم بأمرهم هذا » فيه وجهان: أحدهما: أنه أوحى إليه أنه سيلقاهم ويوبخهم على ما صنعوا؛ فعلى هذا يكون الوحي بعد إلقائه في الجب تقوية لقلبه، وتبشيرا له بالسلامة. الثاني: أنه أوحى إليه بالذي يصنعون به؛ فعلى هذا يكون الوحي قبل إلقائه في الجب إنذارا له. « وهم لا يشعرون » أنك يوسف؛ وذلك أن الله تعالى أمره لما أفضى إليه الأمر بمصر ألا يخبر أباه وإخوته بمكانه. وقيل: بوحي الله تعالى بالنبوة؛ قاله ابن عباس ومجاهد. وقيل: « الهاء » ليعقوب؛ أوحى الله تعالى إليه ما فعلوه بيوسف، وأنه سيعرفهم بأمره، وهم لا يشعرون بما أوحى الله إليه، والله أعلم. ومما ذكر من قصته إذ ألقي في الجب ما ذكره السدي وغيره أن إخوته لما جعلوا يدلونه في البئر، تعلق بشفير البئر، فربطوا يديه ونزعوا قميصه؛ فقال: يا إخوتاه ردوا علي قميصي أتوارى به في هذا الجب، فان مت كان كفني، وإن عشت أواري به عورتي؛ فقالوا: ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا فلتؤنسك وتكسك؛ فقال: إني لم أر شيئا، فدلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يسقط فيموت؛ فكان في البئر ماء فسقط فيه، ثم آوى إلى صخرة فقام عليها. وقيل: إن شمعون هو الذي قطع الحبل إرادة أن يتفتت على الصخرة، وكان جبريل تحت ساق العرش، فأوحى الله إليه أن أدرك عبدي؛ قال جبريل: فأسرعت وهبطت حتى عارضته بين الرمي والوقوع فأقعدته على الصخرة سالما. وكان ذلك الجب مأوى الهوام؛ فقام على الصخرة وجعل يبكي، فنادوه، فظن أنها رحمة عليه أدركتهم، فأجابهم؛ فأرادوا أن يرضخوه بالصخرة فمنعهم يهوذا، وكان يهوذا يأتيه بالطعام؛ فلما وقع عريانا نزل جبريل إليه؛ وكان إبراهيم حين ألقي في النار عريانا أتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه، فكان ذلك عند إبراهيم، ثم ورثه إسحاق، ثم ورثه يعقوب، فلما شب يوسف جعل يعقوب ذلك القميص في تعويذة وجعله في عنقه، فكان لا يفارقه؛ فلما ألقي في الجب عريانا أخرج جبريل دلك القميص فألبسه إياه. قال وهب: فلما قام على الصخرة قال: يا إخوتاه إن لكل ميت وصية، فاسمعوا وصيتي، قالوا: وما هي؟ قال: إذا اجتمعتم كلكم فأنس بعضكم بعضا فاذكروا وحشتي، وإذا أكلتم فاذكروا جوعي، وإذا شربتم فاذكروا عطشي، وإذا رأيتم غريبا فاذكروا غربتي، وإذا رأيتم شابا فاذكروا شبابي؛ فقال له جبريل: يا يوسف كف عن هذا واشتغل بالدعاء، فإن الدعاء عند الله بمكان؛ ثم علمه فقال: قل اللهم يا مؤنس كل غريب، ويا صاحب كل وحيد، ويا ملجأ كل خائف، ويا كاشف كل كربة، ويا عالم كل نجوى، ويا منتهى كل شكوى، ويا حاضر سر كل ملأ، يا حي يا قيوم أسألك أن تقذف رجاءك في قلبي، حتى لا يكون لي هم ولا شغل غيرك، وأن تجعل لي من أمري فرجا ومخرجا، إنك على كل شيء قدير؛ فقالت الملائكة: إلهنا نسمع صوتا ودعاء، الصوت صوت صبي، والدعاء دعاء نبي. وقال الضحاك: نزل جبريل عليه السلام على يوسف وهو في الجب فقال له: ألا أعلمك كلمات إذا انت قلتهن عجل الله لك خروجك من هذا الجب؟ فقال: نعم فقال له: قل يا صانع كل مصنوع، ويا جابر كل كسير، ويا شاهد كل نجوى، ويا حاضر كل ملأ، ويا مفرج كل كربة، ويا صاحب كل غريب، ويا مؤنس كل وحيد، ايتني بالفرج والرجاء، واقذف رجاءك في قلبي حتى لا أرجو أحدا سواك؛ فرددها يوسف في ليلته مرارا؛ فأخرجه الله في صبيحة يومه ذلك من الجب.

 

الآية: 16 ( وجاؤوا أباهم عشاء يبكون )

 

قوله تعالى: « وجاؤوا أباهم عشاء » أي ليلا، وهو ظرف يكون في موضع الحال؛ وإنما جاؤوا عشاء ليكونوا أقدر على الاعتذار في الظلمة، ولذا قيل: لا تطلب الحاجة بالليل، فإن الحياء في العينين، ولا تعتذر بالنهار من ذنب فتتلجلج في الاعتذار؛ فروي أن يعقوب عليه السلام لما سمع بكاءهم قال: ما بكم؟ أجرى في الغنم شيء؟ قالوا: لا. قال: فأين يوسف؟ قالوا: ذهبنا نستبق فأكله الذئب، فبكى وصاح وقال: ابن قميصه؟ على ما يأتي بيانه إن شاء الله. وقال السدي وابن حبان: إنه لما قالوا أكله الذئب خر مغشيا عليه، فأفاضوا عليه الماء فلم يتحرك، ونادوه فلم يجب؛ قال وهب: ولقد وضع يهوذا يده على مخارج نفس يعقوب فلم يحس بنفس، ولم يتحرك له عرق؛ فقال لهم يهوذا: ويل لنا من ديان يوم الدين ضيعنا أخانا، وقتلنا أبانا، فلم يفق يعقوب إلا ببرد السحر، فأفاق ورأسه في حجر روبيل؛ فقال: يا روبيل ألم آتمنك على ولدي؟ ألم أعهد إليك عهدا؟ فقال: يا أبت كف عني بكاءك أخبرك؛ فكف يعقوب بكاءه فقال: يا أبت « إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب » .

 

قال علماؤنا: هذه الآية دليل على أن بكاء المرء لا يدل على صدق مقاله، لاحتمال أن يكون تصنعا؛ فمن الخلق من يقدر على ذلك، ومنهم من لا يقدر. وقد قيل: إن الدمع المصنوع لا يخفى؛ كما قال حكيم:

إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى

 

الآية: 17 ( قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين )

 

قوله تعالى: « نستبق » نفتعل، من، المسابقة. وقيل: أي ننتضل؛ وكذا في قراءة عبدالله « إنا ذهبنا ننتضل » وهو نوع من المسابقة؛ قاله الزجاج. وقال الأزهري: النضال في السهام، والرهان في الخيل، والمسابقة تجمعهما. قال القشيري أبو نصر: « نستبق » أي في الرمي، أو على الفرس؛ أو على الأقدام؛ والغرض من المسابقة على الأقدام تدريب النفس على العدو، لأنه الآلة في قتال العدو، ودفع الذئب عن الأغنام. وقال السدي وابن حبان: « نستبق » نشتد جريا لنرى أينا أسبق. قال ابن العربي: المسابقة شرعة في الشريعة، وخصلة بديعة، وعون على الحرب؛ وقد فعلها صلى الله عليه وسلم بنفسه وبخيله، وسابق عائشة رضي الله عنها على قدميه فسبقها؛ فلما كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقها فسبقته؛ فقال لها: ( هذه بتلك ) .

قلت: وسابق سلمة بن الأكوع رجلا لما رجعوا من ذي قرد إلى المدينة فسبقه سلمة؛ خرجه مسلم.

 

وروى مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي قد أضمرت من الحفياء وكان أمدها ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق، وأن عبدالله بن عمر كان ممن سابق بها؛ وهذا الحديث مع صحته في هذا الباب تضمن ثلاثة شروط؛ فلا تجوز المسابقة بدونها، وهي: أن المسافة لا بد أن تكون معلومة. الثاني: أن تكون الخيل متساوية الأحوال. الثالث: ألا يسابق المضمر مع غير المضمر في أمد واحد وغاية واحدة. والخيل التي يجب أن تضمر ويسابق عليها، وتقام هذه السنة فيها هي الخيل المعدة لجهاد العدو لا لقتال المسلمين في الفتن.

 

وأما المسابقة بالنصال والإبل؛ فروى مسلم عن عبدالله بن عمرو قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلنا منزلا فمنا من يصلح خباءه، ومنا من ينتضل، وذكر الحديث. وخرج النسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر ) . وثبت ذكر النصل من حديث ابن أبي ذئب عن نافع بن أبي نافع عن أبي هريرة، ذكره النسائي؛ وبه يقول فقهاء الحجاز والعراق. وروى البخاري عن أنس قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم ناقة تسمى العضباء لا تسبق - قال حميد: أولا تكاد تسبق - فجاء أعرابي على قعود فسبقها، فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه؛ فقال: ( حق على الله ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه ) .

 

أجمع المسلمون على أن السبق لا يجوز على وجه الرهان إلا في الخف، والحافر والنصل؛ قال الشافعي: ما عدا هذه الثلاثة فالسبق فيها قمار. وقد زاد أبو البختري القاضي في حديث الخف والحافر والنصل « أو جناح » وهي لفظة وضعها للرشيد، فترك العلماء حديثه لذلك ولغيره من موضوعاته؛ فلا يكتب العلماء حديثه بحال. وقد روي عن مالك أنه قال: لا سبق إلا في الخيل والرمي، لأنه قوة على أهل الحرب؛ قال: وسبق الخيل أحب إلينا من سبق الرمي. وظاهر الحديث يسوي بين السبق على النجب والسبق على الخيل. وقد منع بعض العلماء الرهان في كل شيء إلا في الخيل؛ لأنها التي كانت عادة العرب المراهنة عليها. وروي عن عطاء أن المراهنة في كل شيء جائزة؛ وقد تُؤُول قوله؛ لأن حمله على العموم في كل شيء يؤدي إلى، إجازة القمار، وهو محرم باتفاق.

 

لا يجوز السبق في الخيل والإبل إلا في غاية معلومة وأمد معلوم، كما ذكرنا، وكذلك الرمي لا يجوز السبق فيه إلا بغاية معلومة ورشق معلوم، ونوع من الإصابة؛ مشترط خسقا أو إصابة بغير شرط. والأسباق ثلاثة: سبق يعطيه الوالي أو الرجل غير الوالي من ماله متطوعا فيجعل للسابق شيئا معلوما؛ فمن سبق أخذه. وسبق يخرجه أحد المتسابقين دون صاحبه، فإن سبقه صاحبه أخذه، وإن سبق هو صاحبه أخذه، وحسن أن يمضيه في الوجه الذي أخرجه له، ولا يرجع إلى ماله؛ وهذا مما لا خلاف فيه. والسبق الثالث: اختلف فيه؛ وهو أن يخرج كل واحد منهما شيئا مثل ما يخرجه صاحبه، فأيهما سبق أحرز سبقه وسبق صاحبه؛ وهذا الوجه لا يجوز حتى يدخلا بينهما محللا لا يأمنا أن يسبقهما؛ فإن سبق المحلل أحرز السبقين جميعا وأخذهما وحده، وإن سبق أحد المتسابقين أحرز سبقه وأخذ سبق صاحبه؛ ولا شيء للمحلل فيه، ولا شيء عليه. وإن سبق الثاني منهما الثالث كان كمن لم يسبق واحد منهما. وقال أبو علي بن خيران - من أصحاب الشافعي - : وحكم الفرس المحلل أن يكون مجهولا جريه؛ وسمي محللا لأنه يحلل السبق للمتسابقين أوله. واتفق العلماء على أنه إن لم يكن بينهما محلل واشترط كل واحد من المتسابقين أنه إن سبق أخذ سبقه وسبق صاحبه أنه قمار، ولا يجوز. وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فليس بقمار ومن أدخله وهو يأمن أن يسبق فهو قمار ) . وفي الموطأ عن سعيد بن المسيب قال: ليس برهان الخيل بأس إذا دخل فيها محلل، فإن سبق أخذ السبق، وإن سبق لم يكن عليه شيء؛ وبهذا قال، الشافعي وجمهور أهل العلم. واختلف في ذلك قول مالك؛ فقال مرة لا يجب المحلل في الخيل، ولا نأخذ فيه بقول سعيد، ثم قال: لا يجوز إلا بالمحلل؛ وهو الأجود من قوله.

 

ولا يحمل على الخيل والإبل في المسابقة إلا محتلم، ولو ركبها أربابها كان أولى؛ وفد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لا يركب الخيل في السباق إلا أربابها. وقال الشافعي: وأقل السبق أن يسبق بالهادي أو بعضه؛ أو بالكفل أو بعضه. والسبق من الرماة على هذا النحو عنده؛ وقول محمد بن الحسن في هذا الباب نحو قول الشافعي.

 

روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سابق، أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، فسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى أبو بكر وثلث عمر؛ ومعنى وصلى أبو بكر: يعني أن رأس فرسه كان عند صلا فرس رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصلوان موضع العجز.

 

قوله تعالى: « وتركنا يوسف عند متاعنا » أي عند ثيابنا وأقمشتنا حارسا لها. « فأكله الذئب » وذلك أنهم لما سمعوا أباهم يقول: « وأخاف أن يأكله الذئب » أخذوا ذلك من فيه فتحرموا به؛ لأنه كان أظهر المخاوف عليه. « وما أنت بمؤمن لنا » أي بمصدق. « ولو كنا » أي وإن كنا؛ قاله المبرد وابن إسحاق. « صادقين » في قولنا؛ ولم يصدقهم يعقوب لما ظهر له منهم من قوة التهمة وكثرة الأدلة على خلاف ما قالوه على ما يأتي، بيانه. وقيل: « ولو كنا صادقين » أي ولو كنا عندك من أهل الثقة ولصدق ما صدقتنا، ولا تهمتنا في هذه القضية، لشدة محبتك في يوسف؛ قال معناه الطبري والزجاج وغيرهما.

 

الآية: 18 ( وجاؤوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون )

 

قوله تعالى: « بدم كذب » قال مجاهد: كان دم سخلة أو جدي ذبحوه. وقال قتادة: كان دم ظبية؛ أي جاؤوا على قميصه بدم مكذوب فيه، فوصف الدم بالمصدر، فصار تقديره: بدم ذي كذب؛ مثل: « وسئل القرية » [ يوسف: 82 ] والفاعل والمفعول قد يسميان بالمصدر؛ يقال: هذا ضرب الأمير، أي مضروبه وماء سكب أي مسكوب، وماء غور أي غائر، ورجل عدل أي عادل.

وقرأ الحسن وعائشة: « بدم كدب » بالدال غير المعجمة، أي بدم طري؛ يقال للدم الطري الكدب. وحكي أنه المتغير؛ قاله الشعبي. والكدب أيضا البياض الذي يخرج في أظفار الأحداث؛ فيجوز أن يكون شبه الدم في القميص بالبياض الذي يخرج في الظفر من جهة اختلاف اللونين.

 

قال علماؤنا رحمة الله عليهم: لما أرادوا أن يجعلوا الدم علامة على صدقهم قرن الله بهذه العلامة علامة تعارضها، وهي سلامة القميص من التنييب؛ إذ لا يمكن افتراس الذئب ليوسف وهو لابس القميص ويسلم القميص من التخريق؛ ولما تأمل يعقوب عليه السلام القميص فلم يجد فيه خرقا ولا أثرا استدل بذلك على كذبهم، وقال لهم: متى كان هذا الذئب، حكيما يأكل يوسف ولا يخرق القميص! قاله ابن عباس وغيره؛ روى إسرائيل عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان الدم دم سخلة. وروى سفيان عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نظر إليه قال كذبتم؛ لو كان الذئب أكله لخرق القميص. وحكى الماوردي أن في القميص ثلاث آيات: حين جاؤوا عليه بدم كذب، وحين قد قميصه من دبر، وحين ألقي على وجه أبيه فارتد بصيرا.

قلت: وهذا مردود؛ فإن القميص الذي جاؤوا عليه بالدم غير القميص الذي قُد، وغير القميص الذي أتاه البشير به. وقد قيل: إن القميص الذي قُد هو الذي أتي به فارتد بصيرا، على ما يأتي بيانه آخر السورة إن شاء الله تعالى. وروي أنهم قالوا له: بل اللصوص قتلوه؛ فاختلف قولهم، فاتهمهم، فقال لهم يعقوب: تزعمون أن الذئب أكله، ولو أكله لشق قميصه قبل أن يفضي إلى جلده، وما أرى بالقميص من شق؛ وتزعمون أن اللصوص قتلوه، ولو قتلوه لأخذوا قميصه؛ هل يريدون إلا ثيابه؟! فقالوا عند ذلك: « وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين » عن الحسن وغيره؛ أي لو كنا موصوفين بالصدق لا تهمتنا.

 

استدل الفقهاء بهذه الآية في إعمال الأمارات في مسائل من الفقه كالقسامة وغيرها، وأجمعوا على أن يعقوب عليه السلام ستدل على كذبهم بصحة القميص؛ وهكذا يجب على الناظر أن يلحظ الأمارات والعلامات إذا تعارضت، فما ترجح منها قضى بجانب الترجيح، وهي قوة التهمة؛ ولا خلاف بالحكم بها، قاله بن العربي.

 

روي أن يعقوب لما قالوا له: « فأكله الذئب » قال لهم: ألم يترك الذئب له عضوا فتأتوني به أستأنس به؟! ألم يترك لي ثوبا أشم فيه رائحته؟ قالوا: بلى! هذا قميصه ملطوخ بدمه؛ فذلك قوله تعالى: « وجاؤوا على قميصه بدم كذب » فبكى يعقوب عند ذلك وقال، لبنيه: أروني قميصه، فأروه فشمه وقبله، ثم جعل يقلبه فلا يرى فيه شقا ولا تمزيقا، فقال: والله الذي لا إله إلا هو ما رأيت كاليوم ذئبا أحكم منه؛ أكل ابني واختلسه من قميصه ولم يمزقه عليه؛ وعلم أن الأمر ليس كما قالوا، وأن الذئب لم يأكله، فأعرض عنهم كالمغضب باكيا حزينا وقال: يا معشر ولدي! دلوني على ولدي؛ فإن كان حيا رددته إلي، وإن كان ميتا كفنته ودفنته، فقيل قالوا حينئذ: ألم تروا إلى أبينا كيف يكذبنا في مقالتنا! تعالوا نخرجه من الجب ونقطعه عضوا عضوا، ونأت أبانا بأحد أعضائه فيصدقنا في مقالتنا ويقطع يأسه؛ فقال يهوذا: والله لئن فعلتم لأكونن لكم عدوا ما بقيت، ولأخبرن أباكم بسوء صنيعكم؛ قالوا: فإذا منعتا من هذا فتعالوا نصطد له ذئبا، قال: فاصطادوا ذئبا ولطخوه بالدم، وأوثقوه بالحبال، ثم جاؤوا به يعقوب وقالوا: يا أبانا! إن هذا الذئب الذي يحل بأغنامنا ويفترسها، ولعله الذي أفجعنا بأخينا لا نشك فيه، وهذا دمه عليه، فقال يعقوب: اطلقوه؛ فأطلقوه، وتبصبص له الذئب؛ فأقبل يدنو منه ويعقوب يقول له: ادن ادن؛ حتى ألصق خده بخده فقال له يعقوب: أيها الذئب! لم فجعتني بولدي وأورثتني حزنا طويلا؟! ثم قال اللهم أنطقه، فأنطقه الله تعالى فقال: والذي اصطفاك نبيا ما أكلت لحمه، ولا مزقت جلده، ولا نتفت شعرة من شعراته، والله! ما لي بولدك عهد، وإنما أنا ذئب غريب أقبلت من نواحي مصر في طلب أخ لي فُقد، فلا أدري أحي هو أم ميت، فاصطادني أولادك وأوثقوني، وإن لحوم الأنبياء حرمت علينا وعلى جميع الوحوش، وتالله لا أقمت في بلاد يكذب فيها أولاد الأنبياء على الوحوش؛ فأطلقه يعقوب وقال: والله لقد أتيتم بالحجة على أنفسكم؛ هذا ذئب بهيم خرج يتبع ذمام أخيه، وأنتم ضيعتم أخاكم، وقد علمت أن الذئب بريء مما جئتم به. « بل سولت » أي زينت لكم. « أنفسكم أمرا » غير ما تصفون وتذكرون.

 

قوله تعالى: « فصبر جميل » قال الزجاج: أي فشأني والذي اعتقده صبر جميل. وقال قطرب: أي فصبري صبر جميل. وقيل: أي فصبر جميل أولى بي؛ فهو مبتدأ وخبره محذوف. ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الصبر الجميل فقال: ( هو الذي لا شكوى معه ) . وسيأتي له مزيد بيان آخر السورة إن شاء الله. قال أبو حاتم: قرأ عيسى بن عمر فيما زعم سهل بن يوسف « فصبرا جميلا » قال: وكذا قرأ الأشهب العقيلي؛ قال وكذا. في مصحف أنس وأبي صالح. قال المبرد: « فصبر جميل » بالرفع أولى من النصب؛ لأن المعنى: قال رب عندي صبر جميل؛ قال: وإنما النصب على المصدر، أي فلأصبرن صبرا جميلا؛ قال:

شكا إلي جملي طول السرى صبرا جميلا فكلانا مبتلى

والصبر الجميل هو الذي لا جزع فيه ولا شكوى. وقيل: المعنى لا أعاشركم على كآبة الوجه وعبوس الجبين، بل أعاشركم على ما كنت عليه معكم؛ وفي هذا ما يدل على أنه عفا عن مؤاخذتهم. وعن حبيب بن أبي ثابت أن يعقوب كان قد سقط حاجباه على عينيه؛ فكان يرفعهما بخرقة؛ فقيل له: ما هذا؟ قال: طول الزمان وكثرة الأحزان؛ فأوحى الله إليه أتشكوني يا يعقوب؟! قال: يا رب! خطيئة أخطأتها فاغفر لي. « والله المستعان » ابتداء وخبر. « على ما تصفون » أي على احتمال ما تصفون من الكذب.

 

قال ابن أبي رفاعة: ينبغي لأهل الرأي أن يتهموا رأيهم عند ظن يعقوب صلى الله عليه وسلم وهو نبي؛ حين قال له بنوه: « إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب » قال: « بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل » فأصاب هنا، ثم قالوا له: « إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين » [ يوسف: 81 ] قال: « بل سولت لكم أنفسكم أمرا » فلم يصب.

 

الآية: 19 ( وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون )

 

قوله تعالى: « وجاءت سيارة » أي رفقة مارة يسيرون من الشام إلى مصر فأخطؤوا الطريق وهاموا حتى نزلوا قريبا من الجب، وكان الجب في قفرة بعيدة من العمران، إنما هو للرعاة والمجتاز، وكان ماؤه ملحا فعذب حين ألقي فيه يوسف. « فأرسلوا واردهم » فذكر على المعنى؛ ولو قال: فأرسلت واردها لكان على اللفظ، مثل « وجاءت » . والوارد الذي يرد الماء يستقي للقوم؛ وكان اسمه - فيما ذكر المفسرون - مالك بن دعر، من العرب العاربة. « فأدلى دلوه » أي أرسله؛ يقال: أدلى دلوه إذا أرسلها ليملأها، ودلاها أي أخرجها: عن الأصمعي وغيره. ودلا - من ذات الواو - يدلو دلوا، أي جذب وأخرج، وكذلك أدلى إذا أرسل، فلما ثقل ردوه إلى الياء، لأنها أخف من الواو؛ قال الكوفيون. وقال الخليل وسيبويه: لما جاوز ثلاثة أحرف رجع إلى الياء، اتباعا للمستقبل. وجمع دلو في أقل العدد أدل فإذا كثرت قلت: دلي ودلي؛ فقلبت الواو ياء، إلا أن الجمع بابه التغيير، وليفرق بين الواحد والجمع؛ ودلاء أيضا. « قال يا بشرى هذا غلام » فتعلق يوسف بالحبل، فلما خرج إذا غلام كالقمر ليلة البدر، أحسن ما يكون من الغلمان. قال صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء من صحيح مسلم: ( فإذا أنا بيوسف إذا هو قد أعطي شطر الحسن ) . وقال كعب الأحبار: كان يوسف حسن الوجه، جعد الشعر، ضخم العينين، مستوي الخلق، أبيض اللون، غليظ الساعدين والعضدين، خميص البطن، صغير السرة، إذا ابتسم رأيت النور من ضواحكه، وإذا تكلم رأيت في كلامه شعاع الشمس من ثناياه، لا يستطيع أحد وصفه؛ وكان حسنه كضوء النهار عند الليل، وكان يشبه آدم عليه السلام يوم خلقه الله ونفخ فيه من روحه قبل أن يصيب المعصية، وقيل: إنه ورث ذلك الجمال من جدته سارة؛ وكانت قد أعطيت سدس الحسن؛ فلما رآه مالك بن دعر قال: « يا بشراي هذا غلام » وهذه قراءة أهل المدينة وأهل البصرة؛ إلا ابن أبي إسحاق فإنه قرأ « يا بُشْرَيَّ هذا غلام » فقلب الألف ياء، لأن هذه الياء يكسر ما قبلها، فلما لم يجز كسر الألف كان قلبها عوضا. وقرأ أهل الكوفة « يا بشرى » غير مضاف؛ وفي معناه قولان: أحدهما: اسم الغلام، والثاني: معناه يا أيتها البشرى هذا حينك وأوانك. قال قتادة والسدي: لما أدلى المدلي دلوه تعلق بها يوسف فقال: يا بشرى هذا غلام؛ قال قتادة: بشر أصحابه بأنه وجد عبدا. وقال السدي: نادى رجلا اسمه بشرى. قال النحاس: قول قتادة أولى؛ لأنه لم يأت في القرآن تسمية أحد إلا يسيرا؛ وإنما يأتي بالكناية كما قال عز وجل: « ويوم يعض الظالم على يديه » [ الفرقان: 27 ] وهو عقبة بن أبي معيط، وبعده « يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا » [ الفرقان: 28 ] وهو أمية بن خلف؛ قال النحاس. والمعنى في نداء البشرى: التبشير لمن حضر؛ وهو أوكد من قولك تبشرت، كما تقول: يا عجباه! أي يا عجب هذا من أيامك ومن آياتك، فاحضر؛ وهذا مذهب سيبويه، وكذا قال السهيلي. وقيل: هو كما تقول: واسروراه! وأن البشرى مصدر من الاستبشار: وهذا أصح؛ لأنه لو كان اسما علما لم يكن مضافا إلى، ضمير المتكلم؛ وعلى هذا يكون « بشراي » في موضع نصب، لأنه نداء مضاف؛ ومعنى النداء ههنا التنبيه، أي انتبهوا لفرحتي وسروري؛ وعلى قول السدي يكون في موضع رفع كما تقول: يا زيد هذا غلام. ويجوز أن يكون محله نصبا كقولك: يا رجلا، وقوله: « يا حسرة على العباد » [ يس:30 ] ولكنه لم ينون « بشرى » لأنه لا ينصرف. « وأسروه بضاعة » الهاء كناية عن يوسف عليه السلام؛ فأما الواو فكناية عن إخوته. وقيل: عن التجار الذين اشتروه، وقيل: عن الوارد وأصحابه. « بضاعة » نصب على الحال. قال مجاهد: أسره مالك بن دعر وأصحابه من التجار الذين معهم في الرفقة، وقالوا لهم: هو بضاعة استبضعناها بعض أهل الشام أو أهل هذا الماء إلى مصر؛ وإنما قالوا هذا خيفة الشركة. وقال ابن عباس: أسره إخوة يوسف بضاعة لما استخرج من الجب؛ وذلك أنهم جاؤوا فقالوا: بئس ما صنعتم! هذا عبد لنا أبق، وقالوا ليوسف بالعبرانية: إما أن تقر لنا بالعبودية فنبيعك من هؤلاء، وإما أن نأخذك فنقتلك؛ فقال: أنا أقر لكم بالعبودية، فأقر لهم فباعوه منهم. وقيل: إن يهوذا وصى أخاه يوسف بلسانهم أن اعترف لإخوتك بالعبودية فإني أخشى إن لم تفعل، قتلوك؛ فلعل الله أن يجعل لك مخرجا، وتنجو من القتل، فكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته؛ فقال مالك: والله ما هذه سمة العبيد!، قالوا: هو تربى في حجورنا، وتخلق بأخلاقنا، وتأدب بآدابنا؛ فقال: ما تقول يا غلام؟ قال: صدقوا! تربيت في حجورهم، وتخلقت:، بأخلاقهم؛ فقال مالك: إن بعتموه مني اشتريته منكم؛ فباعوه منه.

 

الآية: 20 ( وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين )

 

قوله تعالى: « وشروه » يقال: شريت بمعنى اشتريت، وشريت بمعنى بعت لغة؛ قال الشاعر:

وشريت بردا ليتني من بعد برد كنت هامه

أي بعت. وقال آخر:

فلما شراها فاضت العين عبرة وفي الصدر حزاز من اللوم حامز

« بثمن بخس » أي نقص؛ وهو هنا مصدر وضع موضع الاسم؛ أي باعوه بثمن مبخوس، أي منقوص. ولم يكن قصد إخوته ما يستفيدونه من ثمنه، وإنما كان قصدهم ما يستفيدونه من خلو وجه أبيهم عنه. وقيل: إن يهوذا رأى من بعيد أن يوسف أخرج من الجب فأخبر إخوته فجاؤوا وباعوه من الواردة. وقيل: لا بل عادوا بعد ثلاث إلى البئر يتعرفون الخبر، فرأوا أثر السيارة فاتبعوهم وقالوا: هذا عبدنا أبق منا فباعوه منهم. وقال قتادة: « بخس » ظلم وقال الضحاك ومقاتل والسدي وابن عطاء: « بخس » حرام. وقال ابن العربي: ولا وجه له، وإنما الإشارة فيه إلى أنه لم يستوف ثمنه بالقيمة؛ لأن إخوته إن كانوا باعوه فلم يكن قصدهم ما يستفيدونه من ثمنه، وإنما كان قصدهم ما يستفيدون من خلو وجه أبيهم عنه؛ وإن كان الذين باعوه الواردة فإنهم أخفوه مقتطعا؛ أو قالوا لأصحابهم: أرسل معنا بضاعة فرأوا أنهم لم يعطوا عنه ثمنا وأن ما أخذوا فيه ربح كله.

قلت: قوله - وإنما الإشارة فيه إلى أنه لم يستوف ثمنه بالقيمة - يدل على أنهم لو أخذوا القيمة فيه كاملة كان ذلك جائزا وليس كذلك؛ فدل على صحة ما قاله السدي وغيره؛ لأنهم أوقعوا البيع على نفس لا يجوز بيعها، فلذلك كان لا يحل لهم ثمنه. وقال عكرمة والشعبي: قليل. وقال ابن حيان: زيف. وعن ابن عباس وابن مسعود باعوه بعشرين درهما أخذ كل واحد من إخوته درهمين، وكانوا عشرة؛ وقاله قتادة والسدي. وقال أبو العالية ومقاتل: اثنين وعشرين درهما، وكانوا أحد عشر أخذ كل واحد درهمين؛ وقاله مجاهد. وقال عكرمة: أربعين درهما؛ وما روي عن الصحابة أولى. و « بخس » من نعت « ثمن » .

 

قوله تعالى: « دراهم معدودة » على البدل والتفسير له. ويقال: دراهيم على أنه جمع درهام، وقد يكون اسما للجمع عند سيبويه، ويكون أيضا عنده على أنه مد الكسرة فصارت ياء، وليس هذا مثل مد المقصور؛ لأن مد المقصور لا يجوز عند البصريين في شعر ولا غيره. وأنشد النحويون:

تنفي يداها الحصى في كل هاجرة نفي الدراهيم تنقاد الصياريف

« معدودة » نعت؛ وهذا يدل على أن الأثمان كانت تجري عندهم عدا لا وزنا بوزن. وقيل: هو عبارة عن قلة الثمن؛ لأنها دراهم لم تبلغ أن توزن لقلتها؛ وذلك أنهم كانوا لا يزنون ما كان دون الأوقية، وهي أربعون درهما.

 

قال القاضي ابن العربي: وأصل النقدين الوزن؛ قال صلى الله عليه وسلم: ( لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الفضة بالفضة إلا وزنا بوزن من زاد أو ازداد فقد أربى ) . والزنة لا فائدة فيها إلا المقدار؛ فأما عينها فلا منفعة فيه، ولكن جرى فيها العد تخفيفا عن الخلق لكثرة المعاملة، فيشق الوزن؛ حتى لو ضرب مثاقيل أو دراهم لجاز بيع بعضها ببعض عدا إذا لم يكن بها نقصان ولا رجحان؛ فإن نقصت عاد الأمر إلى الوزن؛ ولأجل ذلك كان كسرها أو قرضها من الفساد في الأرض حسب ما تقدم.

واختلف العلماء في الدراهم والدنانير هل تتعين أم لا؟ وقد اختلفت الرواية في ذلك عن مالك: فذهب أشهب إلى أن ذلك لا يتعين، وهو الظاهر من قول مالك؛ وبه قال أبو حنيفة. وذهب ابن القاسم إلى أنها تتعين، وحكي عن الكرخي؛ وبه قال الشافعي. وفائدة الخلاف أنا إذا قلنا لا تتعين فإذا قال: بعتك، هذه الدنانير بهذه الدراهم تعلقت الدنانير بذمة صاحبها، والدراهم بذمة صاحبها؛ ولو تعينت ثم تلفت لم يتعلق بذمتهما شيء، وبطل العقد كبيع الأعيان من العروض وغيرها.

روي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه قضى، في اللقيط أنه حر، وقرأ: « وشروه بثمن بخس دراهم معدودة » وقد مضى القول فيه.

 

قوله تعالى: « وكانوا فيه من الزاهدين » قيل: المراد إخوته. وقيل: السيارة. وقيل: الواردة؛ وعلى أي تقدير فلم يكن عندهم غبيطا، لا عند الإخوة؛ لأن المقصد زواله عن أبيه لا ماله، ولا عند السيارة لقول الإخوة إنه عبد أبق منا - والزهد قلة الرغبة - ولا عند الواردة لأنهم خافوا اشتراك أصحابهم معهم، ورأوا أن القليل من ثمنه في الانفراد أولى.

 

في هذه الآية دليل واضح على جواز شراء الشيء الخطير بالثمن اليسير، ويكون البيع لازما؛ ولهذا قال مالك: لو باع درة ذات خطر عظيم بدرهم ثم قال لم أعلم أنها درة وحسبتها مخشلبة لزمه البيع ولم يلتفت إلى قوله. وقيل: « وكانوا فيه من الزاهدين » أي في حسنه؛ لأن الله تعالى وإن أعطى يوسف شطر الحسن صرف عنه دواعي نفوس القوم إليه إكراما له. وقيل: « وكانوا فيه من الزاهدين » لم يعلموا منزلته عند الله تعالى. وحكى سيبويه والكسائي: زهدت وزهدت بكسر الهاء وفتحها.

 

الآية: 21 ( وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون )

 

قوله تعالى: « وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته » قيل: الاشتراء هنا بمعنى الاستبدال؛ إذ لم يكن ذلك عقدا، مثل: « أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى » . [ البقرة: 16 ] وقيل: إنهم ظنوه في ظاهر الحال اشتراء، فجرى هذا اللفظ على ظاهر الظن. قال الضحاك: هذا الذي اشتراه ملك مصر، ولقبه العزيز. السهيلي: واسمه قطفير. وقال ابن إسحاق: إطفير بن رويحب اشتراه لامرأته راعيل؛ ذكره الماوردي. وقيل: كان اسمها زليخاء. وكان الله ألقى محبة يوسف على قلب العزيز، فأوصى به أهله؛ ذكره القشيري. وقد ذكر القولين في اسمها الثعلبي وغيره. وقال ابن عباس: إنما اشتراه قطفير وزير ملك مصر، وهو الريان بن الوليد. وقيل: الوليد بن الريان، وهو رجل من العمالقة. وقيل: هو فرعون موسى؛ لقول موسى: « ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات » [ غافر: 34 ] وأنه عاش أربعمائة سنة. وقيل: فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف، على ما يأتي في « غافر ] بيانه. وكان هذا العزيز الذي اشترى يوسف على خزائن الملك؛ واشترى يوسف من مالك بن دعر بعشرين دينارا، وزاده حلة ونعلين. وقيل: اشتراه من أهل الرفقة. وقيل: تزايدوا في ثمنه فبلغ أضعاف وزنه مسكا وعنبرا وحريرا وورقا وذهبا ولآلئ وجواهر لا يعلم قيمتها إلا الله؛ فابتاعه قطفير من مالك بهذا الثمن؛ قاله وهب بن منبه. وقال وهب أيضا وغيره: ولما اشترى مالك بن دعر يوسف من إخوته كتب بينهم وبينه كتابا: هذا ما اشترى مالك بن دعر من بني يعقوب، وهم فلان وفلان مملوكا لهم بعشرين درهما، وقد شرطوا له أنه آبق، وأنه لا ينقلب به إلا مقيدا مسلسلا، وأعطاهم على ذلك عهد الله. قال: فودعهم يوسف عند ذلك، وجعل يقول: حفظكم الله وإن ضيعتموني، نصركم الله وإن خذلتموني، رحمكم الله وإن لم ترحموني؛ قالوا: فألقت الأغنام ما في بطونها دما عبيطا لشدة هذا التوديع، وحملوه على قتب بغير غطاء ولا وطاء، مقيدا مكبلا مسلسلا، فمر على مقبرة آل كنعان فرأى قبر أمه - وقد كان وكل به أسود يحرسه فغفل الأسود - فألقى يوسف نفسه على قبر أمه فجعل يتمرغ ويعتنق القبر ويضطرب ويقول: يا أماه! ارفعي رأسك ترى ولدك مكبلا مقيدا مسلسلا مغلولا؛ فرقوا بيني وبين والدي، فاسألي الله أن يجمع بيننا في مستقر رحمته إنه أرحم الراحمين، فتفقده الأسود على البعير فلم يره، فقفا أثره، فإذا هو بياض على قبر، فتأمله فإذا هو إياه، فركضه برجله في التراب ومرغه وضربه ضربا وجيعا؛ فقال له: لا تفعل! والله ما هربت ولا أبقت وإنما مررت بقبر أمي فأحببت أن أودعها، ولن أرجع إلى ما تكرهون؛ فقال الأسود: والله إنك لعبد سوء، تدعو أباك مرة وأمك أخرى! فهلا كان هذا عند مواليك؛ فرفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إن كانت لي عندك خطيئة أخلقت بها وجهي فأسألك بحق آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن تغفر لي وترحمني؛ فضجت الملائكة في السماء، ونزل جبريل فقال له: يا يوسف غض صوتك فلقد أبكيت ملائكة السماء أفتريد أن أقلب الأرض فأجعل عاليها سافلها؟ قال: تثبت يا جبريل، فإن الله حليم لا يعجل؛ فضرب الأرض بجناحه فأظلمت، وارتفع الغبار، وكسفت الشمس، وبقيت القافلة لا يعرف بعضها بعضا؛ فقال رئيس القافلة: من أحدث منكم حدثا؟ - فإني أسافر منذ كيت وكيت ما أصابني قط مثل هذا - فقال الأسود: أنا لطمت ذلك الغلام العبراني فرفع يده إلى السماء وتكلم بكلام لا أعرفه، ولا أشك أنه دعا علينا؛ فقال له: ما أردت إلا هلاكنا ايتنا به، فأتاه به، فقال له: يا غلام لقد لطمك فجاءنا ما رأيت؛ فإن كنت تقتص فاقتص ممن شئت، وإن كنت تعفو فهو الظن بك؛ قال: قد عفوت رجاء أن يعفو الله عني؛ فانجلت الغبرة، وظهرت الشمس، وأضاء مشارق الأرض ومغاربها، وجعل التاجر يزوره بالغداة والعشي ويكرمه، حتى وصل إلى مصر فاغتسل في نيلها وأذهب الله عنه كآبة السفر، ورد عليه جماله، ودخل به البلد نهارا فسطع نوره على الجدران، وأوقفوه للبيع فاشتراه قطفير وزير الملك؛ قاله ابن عباس على ما تقدم. وقيل: إن هذا الملك لم يمت حتى آمن واتبع يوسف على دينه، ثم مات الملك ويوسف يومئذ على خزائن الأرض؛ فملك بعده قابوس وكان كافرا، فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى. »

 

قوله تعالى: « أكرمي مثواه » أي منزله ومقامه بطيب المطعم واللباس الحسن؛ وهو مأخوذ من ثوى بالمكان أي أقام به؛ وقد تقدم في « آل عمران » وغيره. « عسى أن ينفعنا » أي يكفينا بعض المهمات إذا بلغ. « أو نتخذه ولدا » قال ابن عباس: كان حصورا لا يولد له، وكذا قال ابن إسحاق: كان قطفير لا يأتي النساء ولا يولد له. فإن قيل: كيف قال « أو نتخذه ولدا » وهو ملكه، والولدية مع العبدية تتناقض؟ قيل له: يعتقه ثم يتخذه ولدا بالتبني؛ وكان التبني في الأمم معلوما عندهم، وكذلك كان في أول الإسلام، على ما يأتي بيانه في « الأحزاب » إن شاء الله تعالى. وقال عبدالله بن مسعود: أحسن الناس فراسة ثلاثة؛ العزيز حين تفرس في يوسف فقال: « عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا » وبنت شعيب حين قالت لأبيها في موسى « استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين » [ القصص: 26 ] ، وأبو بكر حين استخلف عمر. قال ابن العربي: عجبا للمفسرين في اتفاقهم على جلب هذا الخبر والفراسة هي علم غريب على ما يأتي بيانه في سورة [ الحجر ] وليس كذلك فيما نقلوه؛ لأن الصديق إنما ولى عمر بالتجربة في الأعمال، والمواظبة على الصحبة وطولها، والاطلاع على ما شاهد منه من العلم والمنة، وليس ذلك من طريق الفراسة؛ وأما بنت شعيب فكانت معها العلامة البينة على ما يأتي بيانه في « القصص » . وأما أمر العزيز فيمكن أن يجعل فراسة؛ لأنه لم يكن معه علامة ظاهرة. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « وكذلك مكنا ليوسف في الأرض » الكاف في موضع نصب؛ أي وكما أنقذناه من إخوته ومن الجب فكذلك مكنا له؛ أي عطفنا عليه قلب الملك الذي اشتراه حتى تمكن من الأمر والنهي في البلد الذي الملك مستول عليه. « ولنعلمه من تأويل الأحاديث » أي فعلنا ذلك تصديقا لقول يعقوب: « ويعلمك من تأويل الأحاديث » . وقيل: المعنى مكناه لنوحي إليه بكلام منا، ونعلمه تأويله. وتفسيره، وتأويل الرؤيا، وتم الكلام. « والله غالب على أمره » الهاء راجعة إلى الله تعالى؛ أي لا يغلب الله شيء، بل هو الغالب على أمر نفسه فيما يريده أن يقول له: كن فيكون. وقيل: ترجع إلى يوسف؛ أي الله غالب على أمر يوسف يدبره ويحوطه ولا يكله إلى غيره، حتى لا يصل إليه كيد كائد. « ولكن أكثر الناس لا يعلمون » أي لا يطلعون على غيبه. وقيل: المراد بالأكثر الجميع؛ لأن أحدا لا يعلم الغيب. وقيل: هو مجرى على ظاهره؛ إذ قد يطلع من يريد على بعض، غيبه. وقيل: المعنى « ولكن أكثر الناس لا يعلمون » أن الله غالب على أمره، وهم المشركون ومن لا يؤمن بالقدر. وقالت الحكماء في هذه الآية: « والله غالب على أمره » حيث، أمره يعقوب ألا يقص رؤياه على إخوته فغلب أمر الله حتى قص، ثم أراد إخوته قتله فغلب أمر الله حتى صار ملكا وسجدوا بين يديه، ثم أراد الإخوة أن يخلو لهم وجه أبيهم فغلب أمر الله حتى ضاق عليهم قلب أبيهم، وافتكره بعد سبعين سنة أو ثمانين سنة، فقال: « يا أسفا على يوسف » ثم تدبروا أن يكونوا من بعده قوما صالحين، أي تائبين فغلب أمر الله حتى نسوا الذنب وأصروا عليه حتى أقروا بين يدي يوسف في آخر الأمر بعد سبعين سنة، وقالوا لأبيهم: « إنا كنا خاطئين » [ يوسف: 97 ] ثم أرادوا أن يخدعوا أباهم بالبكاء والقميص فغلب أمر الله فلم ينخدع، وقال: « بل سولت لكم أنفسكم أمرا » [ يوسف: 18 ] ثم احتالوا في أن تزول محبته من قلب، أبيهم فغلب أمر الله فازدادت المحبة والشوق في قلبه، ثم دبرت امرأة العزيز أنها إن ابتدرته بالكلام غلبته، فغلب أمر الله حتى قال العزيز: « استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين » [ يوسف: 29 ] ، ثم دبر يوسف أن يتخلص من السجن بذكر الساقي فغلب أمر الله فنسي الساقي، ولبث يوسف في السجن بضع سنين.

 

الآية: 22 ( ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين )

 

قوله تعالى: « ولما بلغ أشده » « أشده » عند سيبويه جمع، واحده شدة. وقال الكسائي: واحده شد؛ كما قال الشاعر:

عهدي به شد النهار كأنما خضب اللبان ورأسه بالعظلم

وزعم أبو عبيد أنه لا واحد له من لفظه عند العرب؛ ومعناه استكمال القوة ثم يكون النقصان بعد. وقال مجاهد وقتادة: الأشد ثلاث وثلاثون سنة. وقال ربيعة وزيد بن أسلم ومالك بن أنس: الأشد بلوغ الحلم؛ وقد مضى ما للعلماء في هذا في « النساء » و « الأنعام » مستوفى. « آتيناه حكما وعلما » قيل: جعلناه المستولي على الحكم، فكان يحكم في سلطان الملك؛ أي وآتيناه علما بالحكم. وقال مجاهد: العقل والفهم والنبوة. وقيل: الحكم النبوة، والعلم علم الدين؛ وقيل: علم الرؤيا؛ ومن قال: أوتي النبوة صبيا قال: لما بلغ أشده زدناه فهما وعلما. « وكذلك نجزي المحسنين » يعني المؤمنين. وقيل: الصابرين على النوائب كما صبر يوسف؛ قاله الضحاك. وقال الطبري: هذا وإن كان مخرجه ظاهرا على كل محسن فالمراد به محمد صلى الله عليه وسلم؛ يقول الله تعالى: كما فعلت هذا بيوسف بعد أن قاسى ما قاسى ثم أعطيته ما أعطيته، كذلك أنجيك من مشركي قومك الذين يقصدونك بالعداوة، وأمكن لك في الأرض.

 

الآيتان: 23 - 24 ( وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون، ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين )

 

قوله تعالى: « وراودته التي هو في بيتها عن نفسه » وهي امرأة العزيز، طلبت منه أن يواقعها. وأصل المراودة الإرادة والطلب برفق ولين. والرود والرياد طلب الكلأ؛ وقيل: هي من رويد؛ يقال: فلان يمشي رويدا، أي برفق؛ فالمراودة الرفق في الطلب؛ يقال في الرجل: راودها عن نفسها، وفي المرأة راودته عن نفسه. والرود التأني؛ يقال: أرودني أمهلني. « وغلقت الأبواب » غلق للكثير، ولا يقال: غلق الباب؛ وأغلق يقع للكثير والقليل؛ كما قال الفرزدق في أبي عمرو بن العلاء:

ما زلت أغلق أبوابا وأفتحها حتى أتيت أبا عمرو بن عمار

يقال: إنها كانت سبعة أبواب غلقتها ثم دعته إلى نفسها. « وقالت هيت لك » أي هلم وأقبل وتعال؛ ولا مصدر له ولا تصريف. قال النحاس: فيها سبع قراءات؛ فمن أجل ما فيها وأصحه إسنادا ما رواه الأعمش عن أبي وائل قال: سمعت عبدالله بن مسعود يقرأ « هَيتَ لك » قال فقلت: إن قوما يقرؤونها « هِيتَ لك » فقال: إنما أقرأ كما علمت. قال أبو جعفر: وبعضهم يقول عن عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يبعد ذلك؛ لأن قوله: إنما أقرأ كما علمت يدل على أنه مرفوع، وهذه القراءة بفتح التاء والهاء هي الصحيحة من قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وعكرمة؛ وبها قرأ أبو عمرو بن العلاء وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي. قال عبدالله ابن مسعود: لا تقطعوا في القرآن؛ فإنما هو مثل، قول أحدكم: هلم تعال. وقرأ ابن أبي إسحاق النحوي « قالت هَيتِ لك » بفتح الهاء وكسر التاء. وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي وابن كثير « هَيتُ لك » بفتح الهاء وضم التاء؛ قال طرفة:

ليس قومي بالأبعدين إذا ما قال داع من العشيرة هيت

فهذه ثلاث قراءات الهاء فيهن مفتوحة. وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع « وقالت هِيتَ لك » بكسر الهاء وفتح التاء. وقرأ يحيى بن وثاب « وقالت هِيْتُ لك » بكسر الهاء وبعدها ياء ساكنة والتاء مضمومة. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس ومجاهد وعكرمة: « وقالت هَئتُ لك » بكسر الهاء وبعدها همزة ساكنة والتاء مضمومة. وعن ابن عامر وأهل الشام: « وقالت هِئتَ » بكسر الهاء وبالهمزة وبفتح التاء؛ قال أبو جعفر: « هئتَ لك » بفتح التاء لالتقاء الساكنين، لأنه صوت نحومه وصه يجب ألا يعرب، والفتح خفيف؛ لأن قبل التاء ياء مثل، أين وكيف؛ ومن كسر التاء فإنما كسرها لأن الأصل الكسر؛ لأن الساكن إذا حرك حرك إلى الكسر، ومن ضم فلأن فيه معنى الغاية؛ أي قالت: دعائي لك، فلما حذفت الإضافة بني على الضم؛ مثل حيث وبعد. وقراءة أهل المدينة فيها قولان: أحدهما: أن يكون الفتح لالتقاء الساكنين كما مر. والآخر: أن يكون فعلا من هاء يهيئ مثل جاء يجيء؛ فيكون المعنى في « هئت » أي حسنت هيئتك، ويكون « لك » من كلام آخر، كما تقول: لك أعني. ومن همز. وضم التاء فهو فعل بمعنى تهيأت لك؛ وكذلك من قرأ « هيت لك » . وأنكر أبو عمرو هذه القراءة؛ قال أبو عبيدة - معمر بن المثنى: سئل أبو عمرو عن قراءة من قرأ بكسر الهاء وضم التاء مهموزا فقال أبو عمرو: باطل؛ جعلها من تهيأت! اذهب فاستعرض العرب حتى تنتهي إلى اليمن هل تعرف أحدا يقول هذا؟! وقال الكسائي أيضا: لم تحك « هئت » عن العرب. قال عكرمة: « هئت لك » أي تهيأت لك وتزينت وتحسنت، وهي قراءة غير مرضية؛ لأنها لم تسمع في العربية. قال النحاس: وهي جيدة عند البصريين؛ لأنه يقال: هاء الرجل يهاء ويهيئ هيأة فهاء يهيئ مثل جاء يجيء وهئت مثل جئت. وكسر الهاء في « هيت » لغة لقوم يؤثرون كسر الهاء على فتحها. قال الزجاج: أجود القراءات « هيت » بفتح الهاء والتاء؛ قال طرفة:

ليس قومي بالأبعدين إذا ما قال داع من العشيرة هيت

بفتح الهاء والتاء. وقال الشاعر في علي بن أبي طالب رضي الله عنه:

أبلغ أمير المؤمنـ ـين أخا العراق إذا أتيتا

إن العراق وأهله سلم إليك فهيت هيتا

قال ابن عباس والحسن: « هيت » كلمة بالسريانية تدعوه إلى نفسها. وقال السدي: معناها بالقبطية هلم لك. قال أبو عبيد: كان الكسائي يقول: هي لغة لأهل حوران وقعت إلى أهل الحجاز معناه تعال؛ قال أبو عبيد: فسألت شيخا عالما من حوران فذكر أنها لغتهم؛ وبه قال عكرمة. وقال مجاهد وغيره: هي لغة عربية تدعوه بها إلى نفسها، وهي كلمة حث وإقبال على الأشياء؛ قال الجوهري: يقال هوت به وهيت به إذا صاح به ودعاه؛ قال:

قد رابني أن الكري أسكتا لو كان معنيا بها لهيتا

أي صاح؛ وقال آخر: يحدو بها كل فتى هيات

 

قوله تعالى: « قال معاذ الله » أي أعوذ بالله وأستجير به مما دعوتني إليه؛ وهو مصدر، أي أعوذ بالله معاذا؛ فيحذف المفعول وينتصب بالمصدر بالفعل المحذوف، ويضاف المصدر إلى اسم الله كما يضاف المصدر إلى المفعول، كما تقول: مررت بزيد مرور عمرو أي كمروري بعمرو. « إنه ربي » يعني زوجها، أي هو سيدي أكرمني فلا أخونه؛ قاله مجاهد وابن إسحاق والسدي. وقال الزجاج: أي إن الله ربي تولاني بلطفه، فلا أرتكب ما حرمه. وفي الخبر أنها قالت له: يا يوسف! ما أحسن صورة وجهك! قال: في الرحم صورني ربي؛ قالت: يا يوسف ما أحسن شعرك! قال: هو أول شيء يبلى مني في قبري؛ قالت: يا يوسف! ما أحسن عينيك؟ قال: بهما أنظر إلى ربي. قالت: يا يوسف! ارفع بصرك فانظر في وجهي، قال: إني أخاف العمى في آخرتي. قالت يا يوسف ! أدنو منك وتتباعد مني؟! قال: أريد بذلك القرب من ربي. قالت: يا يوسف! القيطون فرشته لك فادخل معي، قال: القيطون لا يسترني من ربي. قالت: يا يوسف! فراش الحرير قد فرشته لك، قم فاقض حاجتي، قال: إذا يذهب من الجنة نصيبي؛ إلى غير ذلك من كلامها وهو يراجعها؛ إلى أن هم بها. وقد ذكر بعضهم ما زال النساء يملن إلى يوسف ميل شهوة حتى نبأه الله، فألقى عليه هيبة النبوة؛ فشغلت هيبته كل من رآه عن حسنه. واختلف العلماء في همه. ولا خلاف أن همها كان المعصية، وأما يوسف فهم بها « لولا أن رأى برهان ربه » ولكن لما رأى البرهان ما هم؛ وهذا لوجوب العصمة للأنبياء؛ قال الله تعالى: « كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين » فإذا في الكلام تقديم وتأخير؛ أي لولا أن رأى برهان ربه هم بها. قال أبو حاتم: كنت أقرأ غريب القرآن على أبي عبيدة فلما أتيت على قوله: « ولقد همت به وهم بها » الآية، قال أبو عبيدة: هذا على التقديم والتأخير؛ كأنه أراد ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها. وقال أحمد بن يحيى: أي همت زليخاء بالمعصية وكانت مصرة، وهم يوسف ولم يواقع ما هم به؛ فبين الهمتين فرق، ذكر هذين القولين الهروي في كتابه. قال جميل:

هممت بهم من بثينة لو بدا شفيت غليلات الهوى من فؤاديا

آخر:

هممت ولم أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكي حلائله

فهذا كله حديث نفس من غير عزم. وقيل: هم بها تمنى زوجيتها. وقيل: هم بها أي بضربها ودفعها عن نفسه، والبرهان كفه عن الضرب؛ إذ لو ضربها لأوهم أنه قصدها بالحرام فامتنعت فضربها. وقيل: إن هم يوسف كان معصية، وأنه جلس منها مجلس الرجل من امرأته، وإلى هذا القول ذهب معظم المفسرين وعامتهم، فيما ذكر القشيري أبو نصر، وابن الأنباري والنحاس والماوردي وغيرهم. قال ابن عباس: حل الهميان وجلس منها مجلس الخاتن، وعنه: استلقت، على قفاها وقعد بين رجليها ينزع ثيابه. وقال سعيد بن جبير: أطلق تكة سراويله. وقال مجاهد: حل السراويل حتى بلغ الأليتين، وجلس منها مجلس الرجل من امرأته. قال ابن عباس: ولما قال: « ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب » [ يوسف: 52 ] قال له جبريل: ولا حين هممت بها يا يوسف؟! فقال عند ذلك: « وما أبرئ نفسي » [ يوسف: 53 ] . قالوا: والانكفاف في مثل هذه الحالة دال على الإخلاص، وأعظم للثواب.

قلت: وهذا كان سبب ثناء الله تعالى على ذي الكفل حسب، ما يأتي بيانه في « ص ] إن شاء الله تعالى. وجواب » لولا « على هذا محذوف؛ أي لولا أن رأى برهان ربه لأمضى ما هم به؛ ومثله » كلا لو تعلمون علم اليقين « [ التكاثر: 5 ] وجوابه لم تتنافسوا؛ قال ابن عطية: روي هذا القول عن ابن عباس وجماعة من السلف، وقالوا: الحكمة في ذلك أن يكون مثلا للمذنبين ليروا أن توبتهم ترجع إلى، عفو الله تعالى كما رجعت ممن هو خير منهم ولم يوبقه القرب من الذنب، وهذا كله على أن هم يوسف بلغ فيما روت هذه الفرقة إلى أن جلس بين رجلي زليخاء وأخذ في حل ثيابه وتكته ونحو ذلك، وهي قد استلقت له؛ حكاه الطبري. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: وابن عباس ومن دونه لا يختلفون في أنه هم بها، وهم أعلم بالله وبتأويل كتابه، وأشد تعظيما للأنبياء من أن يتكلموا فيهم بغير علم. وقال الحسن: إن الله عز وجل لم يذكر معاصي الأنبياء ليعيرهم بها؛ ولكنه ذكرها لكيلا تيأسوا من التوبة. قال الغزنوي: مع أن زلة الأنبياء حكما: زيادة الوجل، وشدة الحياء بالخجل، والتخلي عن عجب، العمل، والتلذذ بنعمة العفو بعد الأمل، وكونهم أئمة رجاء أهل الزلل. قال القشيري أبو نصر: وقال قوم جرى من يوسف هم، وكان ذلك الهم حركة طبع من غير تصميم للعقد على الفعل؛ وما كان من هذا القبيل لا يؤخذ به العبد، وقد يخطر بقلب المرء وهو صائم شرب الماء البارد؛ وتناول الطعام اللذيذ؛ فإذا لم يأكل ولم يشرب، ولم يصمم عزمه على الأكل والشرب لا يؤاخذ بما هجس في النفس؛ والبرهان صرفه عن هذا الهم حتى لم يصر عزما مصمما.»

قلت: هذا قول حسن؛ وممن قال به الحسن. قال ابن عطية: الذي أقول به في هذه الآية إن كون يوسف نبيا في وقت هذه النازلة لم يصح، ولا تظاهرت به رواية؛ وإذا كان كذلك فهو مؤمن قد أوتي حكما وعلما، ويجوز عليه الهم الذي هو إرادة الشيء دون مواقعته وأن يستصحب الخاطر الرديء على ما في ذلك من الخطيئة؛ وإن فرضناه نبيا في ذلك الوقت فلا يجوز عليه عندي إلا الهم الذي هو خاطر، ولا يصح عليه شيء مما ذكر من حل تكته ونحوه؛ لأن العصمة مع النبوة. وما روي من أنه قيل له: تكون في ديوان الأنبياء وتفعل فعل السفهاء. فإنما معناه العدة بالنبوة فيما بعد.

قلت: ما ذكره من هذا التفصيل صحيح؛ لكن قوله تعالى: « وأوحينا إليه » [ يوسف: 15 ] يدل على أنه كان نبيا على ما ذكرناه، وهو قول جماعة من العلماء؛ وإذا كان نبيا فلم يبق إلا أن يكون الهم الذي هم به ما يخطر في النفس ولا يثبت في الصدر؛ وهو الذي رفع الله فيه المؤاخذة عن الخلق، إذ لا قدرة للمكلف على دفعه؛ ويكون قوله: « وما أبرئ نفسي » [ يوسف: 53 ] - إن كان من قول يوسف - أي من هذا الهم، أو يكون ذلك منه على طريق التواضع والاعتراف، لمخالفة النفس لما زكي به قبل وبرئ؛ وقد أخبر الله تعالى عن حال يوسف من حين بلوغه فقال: « ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما » [ يوسف: 22 ] على ما تقدم بيانه؛ وخبر الله تعالى صدق، ووصفه صحيح، وكلامه حق؛ فقد عمل يوسف بما علمه الله من تحريم الزنى ومقدماته؛ وخيانة السيد والجار والأجنبي في أهله؛ فما تعرض لامرأة العزيز، ولا أجاب إلى المراودة، بل أدبر عنها وفر منها؛ حكمة خص بها، وعملا بمقتضى ما علمه الله. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قالت الملائكة رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به فقال ارقبوه فإن عملها فاكتبوها له بمثلها وإن تركها فاكتبوها له حسنة إنما تركها من جراي ) . وقال عليه السلام مخبرا عن ربه: ( إذا هم عبدي بسيئة فلم يعملها كتبت حسنة ) . فإن كان ما يهم به العبد من السيئة يكتب له بتركها حسنة فلا ذنب؛ وفي الصحيح: ( إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم به ) وقد تقدم. قال ابن العربي: كان بمدينة السلام إمام من أئمة الصوفية، - وأي إمام - يعرف بابن عطاء! تكلم يوما على يوسف وأخباره حتى ذكر تبرئته مما نسب إليه من مكروه؛ فقام رجل من آخر مجلسه وهو مشحون بالخليقة من كل طائفة فقال: يا شيخ! يا سيدنا! فإذا يوسف هم وما تم؟ قال: نعم! لأن العناية من ثم. فانظر إلى حلاوة العالم والمتعلم، وانظر إلى فطنة العامي في سؤاله، وجواب العالم في اختصاره واستيفائه؛ ولذلك قال علماء الصوفية: إن فائدة قوله: « ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما » [ يوسف: 22 ] إنما أعطاه ذلك إبان غلبة الشهوة لتكون له سببا للعصمة.

قلت: وإذا تقررت عصمته وبراءته بثناء الله تعالى عليه فلا يصح ما قال مصعب بن عثمان: إن سليمان بن يسار كان من أحسن الناس وجها، فاشتاقته امرأة فسامته نفسها فامتنع عليها وذكرها، فقالت: إن لم تفعل لأشهرنك؛ فخرج وتركها، فرأى في منامه يوسف الصديق عليه السلام جالسا فقال: أنت يوسف؟ فقال: أنا يوسف الذي هممت، وأنت سليمان الذي لم تهم؟! فإن هذا يقتضي أن تكون درجة الولاية أرفع من درجة النبوة وهو محال؛ ولو قدرنا يوسف غير نبي فدرجته الولاية، فيكون محفوظا كهو؛ ولو غلقت على سليمان الأبواب، وروجع في المقال والخطاب، والكلام والجواب مع طول الصحبة لخيف عليه الفتنة، وعظيم المحنة، والله أعلم.

 

قوله تعالى: « لولا أن رأى برهان ربه » « أن » في موضع رفع أي لولا رؤية برهان ربه والجواب محذوف. لعلم السامع؛ أي لكان ما كان. وهذا البرهان غير مذكور في القرآن؛ فروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن زليخاء قامت إلى صنم مكلل بالدر والياقوت في زاوية البيت فسترته بثوب، فقال: ما تصنعين؟ قالت: أستحي من إلهي هذا أن يراني في هذه الصورة؛ فقال يوسف: أنا أولى أن أستحي من الله؛ وهذا أحسن ما قيل فيه، لأن فيه إقامة الدليل. وقيل: رأى مكتوبا في سقف البيت « ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا » [ الإسراء: 32 ] . وقال ابن عباس: بدت كف مكتوب عليها « وإن عليكم لحافظين » [ الانفطار: 10 ] وقال قوم: تذكر عهد. الله وميثاقه. وقيل: نودي يا يوسف! أنت مكتوب في ديوان الأنبياء وتعمل عمل السفهاء؟! وقيل: رأى صورة يعقوب على الجدران عاضا على أنملته يتوعده فسكن، وخرجت شهوته من أنامله؛ قال قتادة ومجاهد والحسن والضحاك. وأبو صالح وسعيد بن جبير. وروى الأعمش عن مجاهد قال: حل سراويله فتمثل له يعقوب، وقال له: يا يوسف! فولى هاربا. وروى سفيان عن أبي حصين عن سعيد بن جبير قال: مثل له يعقوب فضرب صدره فخرجت شهوته من أنامله، قال مجاهد: فولد لكل واحد من أولاد يعقوب اثنا عشر ذكرا إلا يوسف لم يولد له إلا غلامان، ونقص بتلك الشهوة ولده؛ وقيل غير هذا. وبالجملة: فذلك البرهان آية من آيات الله أراها الله يوسف حتى قوي إيمانه، وامتنع عن المعصية.

 

قوله تعالى: « كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء » الكاف من « كذلك » يجوز أن تكون رفعا، بأن يكون خبر ابتداء محذوف، التقدير.: البراهين كذلك، ويكون نعتا لمصدر محذوف؛ أي أريناه البراهين رؤية كذلك. والسوء الشهوة، والفحشاء المباشرة. وقيل: السوء الثناء القبيح، والفحشاء الزنى. وقيل: السوء خيانة صاحبه، والفحشاء ركوب الفاحشة. وقيل: السوء عقوبة الملك العزيز. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر « المخلصين » بكسر اللام؛ وتأويلها الذين أخلصوا طاعة الله. وقرأ الباقون بفتح اللام، وتأويلها: الذين أخلصهم الله لرسالته؛ وقد كان يوسف صلى الله عليه وسلم بهاتين الصفتين؛ لأنه كان مخلصا في طاعة الله تعالى، مستخلصا لرسالة الله تعالى.

 

الآية: 25 ( واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوء إلا أن يسجن أو عذاب أليم )

 

قوله تعالى: « واستبقا الباب » قال العلماء: وهذا من اختصار القرآن المعجز الذي يجتمع فيه المعاني؛ وذلك أنه لما رأى برهان ربه هرب منها فتعاديا، هي لترده إلى نفسها، وهو ليهرب عنها، فأدركته قبل أن يخرج. وحذفت الألف من « استبقا » في اللفظ لسكونها وسكون اللام بعدها؛ كما يقال: جاءني عبدالله في التثنية؛ ومن العرب من يقول: جاءني عبدا الله بإثبات الألف بغير همز، يجمع بين ساكنين؛ لأن الثاني مدغم، والأول حرف مد ولين. ومنهم من يقول: عبدا الله بإثبات الألف والهمز، كما تقول في الوقف.

 

قوله تعالى: « وقدت قميصه من دبر » أي من خلفه؛ قبضت في أعلى قميصه فتخرق القميص عند طوقه، ونزل التخريق إلى أسفل القميص. والاستباق طلب السبق إلى الشيء؛ ومنه السباق. والقد القطع، وأكثر ما يستعمل فيما كان طولا؛ قال النابغة:

تقد السلوقي المضاعف نسجه وتوقد بالصفاح نار الحباحب

والقط بالطاء يستعمل فيما كان عرضا. وقال المفضل بن حرب: قرأت في مصحف « فلما رأى قميصه عط من دبره » أي شق. قال يعقوب: العط الشق في الجلد الصحيح والثوب الصحيح.

 

في الآية دليل على القياس والاعتبار، والعمل بالعرف والعادة؛ لما ذكر من قد القميص مقبلا ومدبرا، وهذا أمر انفرد به المالكية في كتبهم؛ وذلك أن القميص إذا جبذ من خلف تمزق من تلك الجهة، وإذا جبذ من قدام تمزق من تلك الجهة، وهذا هو الأغلب.

 

قوله تعالى: « وألفيا سيدها لدى الباب » أي وجدا العزيز عند الباب، وعني بالسيد الزوج، والقبط يسمون الزوج سيدا. يقال: ألفاه وصادفه ووارطه ووالطه ولاطه كله بمعنى واحد؛ فلما رأت زوجها طلبت وجها للحيلة وكادت فـ « قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا » أي زنى.

 

قوله تعالى: « إلا أن يسجن » تقول: يضرب ضربا وجيعا. و « ما جزاء » ابتداء، وخبره « أن يسجن » . « أو عذاب أليم » عطف على موضع « أن يسجن » لأن المعنى: إلا السجن. ويجوز أو عذابا أليما بمعنى: أو يعذب عذابا أليما؛ قال الكسائي.

 

الآيات: 26 - 29 ( قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين، وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين، فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم، يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين )

 

قوله تعالى: « قال هي راودتني عن نفسي » قال العلماء: لما برأت نفسها؛ ولم تكن صادقة في حبه - لأن من شأن المحب إيثار المحبوب - قال: « هي راودتني عن نفسي » نطق يوسف بالحق في مقابلة بهتها وكذبها عليه. قال نوف الشامي وغيره: كأن يوسف عليه السلام لم يبن عن كشف القضية، فلما بغت به غضب فقال الحق.

 

قوله تعالى: « وشهد شاهد من أهلها » لأنهما لما تعارضا في القول احتاج الملك إلى شاهد ليعلم الصادق من الكاذب، فشهد شاهد من أهلها. أي حكم حاكم من أهلها؛ لأنه حكم منه وليس بشهادة. وقد اختلف في هذا الشاهد على أقوال أربعة: الأول - أنه طفل في المهد تكلم؛ قال السهيلي: وهو الصحيح؛ للحديث الوارد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قوله: ( لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة... ) وذكر فيهم شاهد يوسف. وقال القشيري أبو نصر: قيل فيه: كان صبيا في المهد في الدار وهو ابن خالتها؛ وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( تكلم أربعة وهم صغار... ) فذكر منهم شاهد يوسف؛ فهذا قول. الثاني - أن الشاهد قد القميص؛ رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد، وهو مجاز صحيح من جهة اللغة؛ فإن لسان الحال أبلغ من لسان المقال؛ وقد تضيف العرب الكلام إلى الجمادات وتخبر عنها بما هي عليه من الصفات، وذلك كثير في أشعارها وكلامها؛ ومن أحلاه قول بعضهم: قال الحائط للوتد لم تشقني؟ قال له: سل من يدقني. إلا أن قول الله تعالى بعد « من أهلها » يبطل أن يكون القميص. الثالث - أنه خلق من خلق الله تعالى ليس بإنسي ولا بجني؛ قال مجاهد أيضا، وهذا يرده قوله تعالى: « من أهلها » . الرابع - أنه رجل حكيم ذو عقل كان الوزير يستشيره في أموره، وكان من جملة أهل المرأة وكان مع زوجها فقال: قد سمعت الاستبدار والجلبة من وراء الباب، وشق القميص، فلا يدري أيكما كان قدام صاحبه؛ فإن كان شق القميص من قدامه فأنت صادقة، وإن كان من خلفه فهو صادق، فنظروا إلى القميص فإذا هو مشقوق من خلف؛ هذا قول الحسن وعكرمة وقتادة والضحاك ومجاهد أيضا والسدي. قال السدي: كان ابن عمها؛ وروي عن ابن عباس، وهو الصحيح في الباب، والله أعلم. وروي عن ابن عباس - رواه عنه إسرائيل عن سماك عن عكرمة - قال: كان رجلا ذا لحية. وقال سفيان عن جابر عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه قال: كان من خاصة الملك. وقال عكرمة: لم يكن بصبي، ولكن كان رجلا حكيما. وروى سفيان عن منصور عن مجاهد قال: كان رجلا. قال أبو جعفر النحاس: والأشبه بالمعنى - والله أعلم - أن يكون رجلا عاقلا حكيما شاوره الملك فجاء بهذه الدلالة؛ ولو كان طفلا لكانت شهادته ليوسف صلى الله عليه وسلم تغني عن أن يأتي بدليل من العادة؛ لأن كلام الطفل آية معجزة، فكادت أوضح من الاستدلال بالعادة؛ وليس هذا بمخالف للحديث ( تكلم أربعة وهم صغار ) منهم صاحب يوسف، يكون المعنى: صغيرا ليس بشيخ؛ وفي هذا دليل آخر وهو: أن ابن عباس رضي الله عنهما روى الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تواترت الرواية عنه أن صاحب يوسف ليس بصبي.

قلت: قد روي عن ابن عباس وأبي هريرة وابن جبير وهلال بن يساف والضحاك أنه كان صبيا في المهد؛ إلا أنه لو كان صبيا تكلم لكان الدليل نفس كلامه، دون أن يحتاج إلى استدلال بالقميص، وكان يكون ذلك خرق عادة، ونوع معجزة؛ والله أعلم. وسيأتي من تكلم في المهد من الصبيان في سورة [ البروج ] إن شاء الله.

 

إذا تنزلنا على أن يكون الشاهد طفلا صغيرا فلا يكون فيه دلالة على العمل بالإمارات كما ذكرنا؛ وإذا كان رجلا فيصح أن يكون حجة بالحكم بالعلامة في اللقطة وكثير من المواضع؛ حتى قال مالك في اللصوص: إذا وجدت معهم أمتعة فجاء قوم فادعوها، وليست لهم بينة فإن السلطان يتلوم لهم في ذلك؛ فإن لم يأت غيرهم دفعها إليهم. وقال محمد في متاع البيت إذا اختلفت فيه المرأة والرجل: إن ما كان للرجال فهو للرجل، وما كان للنساء فهو للمرأة، وما كان للرجل والمرأة فهو للرجل. وكان شريح وإياس بن معاوية يعملان على العلامات في الحكومات؛ وأصل ذلك هذه الآية، والله أعلم.

 

قوله تعالى: « إن كان قميصه قد من قبل » كان في موضع جزم بالشرط، وفيه من النحو ما يشكل، لأن حروف الشرط ترد الماضي إلى المستقبل، وليس هذا في كان؛ فقال المبرد محمد بن يزيد: هذا لقوة كان، وأنه يعبر بها عن جميع الأفعال. وقال الزجاج: المعنى إن يكن؛ أي إن يعلم، والعلم لم يقع، وكذا الكون لأنه يؤدي عن العلم. « قد من قبل » فخبر عن « كان » بالفعل الماضي؛ كما قال زهير:

وكان طوى كشحا على مستكنة فلا هو أبداها ولم يتقدم

وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق « من قبل » بضم القاف والباء واللام، وكذا « دبر » قال الزجاج: يجعلهما غايتين كقبل وبعد؛ كأنه قال: من قبله ومن دبره، فلما حذف المضاف إليه - وهو مراد - صار المضاف غاية نفسه بعد أن كان المضاف إليه غاية له. ويجوز « من قبل » « ومن دبر » بفتح الراء واللام تشبيها بما لا ينصرف؛ لأنه معرفة ومزال عن بابه. وروى محبوب عن أبي عمرو « من قبل » « ومن دبر » مخففان مجروران.

 

قوله تعالى: « فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن » قيل: قال لها ذلك العزيز عند قولها: « ما جزاء من أراد بأهلك سوءا » [ يوسف: 25 ] . وقيل: قاله لها الشاهد. والكيد: المكر والحيلة، وقد تقدم في ( الأنفال ) . « إن كيدكن عظيم » وإنما قال « عظيم » لعظم فتنتهن واحتيالهن في التخلص من ورطتهن. وقال مقاتل عن يحيى بن أبي كثير عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان لأن الله تعالى يقول: « إن كيد الشيطان كان ضعيفا » [ النساء: 76 ] وقال: « إن كيدكن عظيم » .

 

قوله تعالى: « يوسف أعرض عن هذا » القائل هذا هو الشاهد. و « يوسف » نداء مفرد، أي يا يوسف، فحذف. « أعرض عن هذا » أي لا تذكره لأحد واكتمه. « واستغفري لذنبك » أقبل عليها فقال: وأنت استغفري زوجك من ذنبك لا يعاقبك. « إنك كنت من الخاطئين » ولم يقل من الخاطئات لأنه قصد الإخبار عن المذكر والمؤنث، فغلب المذكر؛ والمعنى: من الناس الخاطئين، أو من القوم الخاطئين؛ مثل: « إنها كانت من قوم كافرين » [ النمل: 43 ] « وكانت من القانتين » [ التحريم: 12 ] . وقيل: إن القائل ليوسف أعرض ولها استغفري زوجها الملك؛ وفيه قولان: أحدهما: أنه لم يكن غيورا؛ فلذلك، كان ساكنا. وعدم الغيرة في كثير من أهل مصر موجود. الثاني: أن الله تعالى سلبه الغيرة وكان فيه لطف بيوسف حتى كفي بادرته وعفا عنها.

الآية [ 30 ] في الصفحة التالية ...

 

الآية: 30 - 31 ( وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين، فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم )

 

قوله تعالى: « وقال نسوة في المدينة » ويقال: « نُسوة » بضم النون، وهي قراءة الأعمش والمفضل والسلمي، والجمع الكثير نساء. ويجوز: وقالت نسوة، وقال نسوة، مثل قالت الأعراب وقال الأعراب؛ وذلك أن القصة انتشرت في أهل مصر فتحدث النساء. قيل: امرأة ساقي العزيز، وامرأة خبازه، وامرأة صاحب دوابه، وامرأة صاحب سجنه. وقيل: امرأة الحاجب؛ عن ابن عباس وغيره. « تراود فتاها عن نفسه » الفتى في كلام العرب الشاب، والمرأة فتاة. « قد شغفها حبا » قيل: شغفها غلبها. وقيل: دخل حبه في شغافها؛ عن مجاهد. وغيره. وروى عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال: دخل تحت شغافها. وقال الحسن: الشغف باطن القلب. السدي وأبو عبيد: شغاف القلب غلافه، وهو جلد عليه. وقيل: هو وسط القلب؛ والمعنى في هذه الأقوال متقارب، والمعنى: وصل حبه إلى شغافها فغلب عليه؛ قال النابغة:

وقد حال هم دون ذلك داخل دخول الشغاف تبتغيه الأصابع

وقد قيل: إن الشغاف داء؛ وأنشد الأصمعي للراجز:

يتبعها وهي له شغاف

وقرأ أبو جعفر بن محمد وابن محيصن والحسن « شعفها » بالعين غير معجمة؛ قال ابن الأعرابي: معناه أحرق حبه قلبها؛ قال: وعلى الأول العمل. قال الجوهري: وشعفه الحب أحرق قلبه. وقال أبو زيد: أمرضه. وقد شعف بكذا فهو مشعوف. وقرأ الحسن « قد شعفها » قال: بطنها حبا. قال النحاس: معناه عند أكثر أهل اللغة قد ذهب بها كل مذهب؛ لأن شعاف الجبال. أعاليها؛ وقد شغف بذلك شغفا بإسكان الغين إذا أولع به؛ إلا أن أبا عبيدة أنشد بيت امرئ القيس:

لتقتلني وقد شعفت فؤادها كما شعف المهنوءة الرجل الطالي

قال: فشبهت لوعة الحب وجواه بذلك. وروي عن الشعبي أنه قال: الشغف بالغين المعجمة حب، والشعف بالعين غير المعجمة جنون. قال النحاس: وحكي « قد شغِفها » بكسر الغين، ولا يعرف في كلام العرب إلا « شغفها » بفتح الغين، وكذا « شعفها » أي تركها مشعوفة. وقال سعيد بن أبي عروبة عن الحسن: الشغاف حجاب القلب، والشعاف سويداء القلب، فلو وصل الحب إلى الشعاف لماتت؛ وقال الحسن: ويقال إن الشغاف الجلدة اللاصقة بالقلب التي لا ترى، وهي الجلدة البيضاء، فلصق حبه بقلبها كلصوق الجلدة بالقلب.

 

قوله تعالى: « إنا لنراها في ضلال مبين » أي في هذا الفعل. وقال قتادة: « فتاها » وهو فتى زوجها، لأن يوسف كان عندهم في حكم المماليك، وكان ينفذ أمرها فيه. وقال مقاتل عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال: إن امرأة العزيز استوهبت زوجها يوسف فوهبه لها، وقال: ما تصنعين به؟ قالت: أتخذه ولدا؛ قال: هو لك؛ فربته حتى أيفع وفي نفسها منه ما في نفسها، فكانت تنكشف له وتتزين وتدعوه من وجه اللطف فعصمه الله.

 

قوله تعالى: « فلما سمعت بمكرهن » أي بغيبتهن إياها، واحتيالهن في ذمها. وقيل: إنها أطلعتهن واستأمنتهن فأفشين سرها، فسمي ذلك مكرا. وقوله: « أرسلت إليهن » في الكلام حذف؛ أي أرسلت إليهن تدعوهن إلى وليمة لتوقعهن فيما وقعت فيه؛ فقال مجاهد عن ابن عباس: إن امرأة العزيز قالت لزوجها إني أريد أن أتخذ طعاما فأدعو هؤلاء النسوة؛ فقال لها: افعلي؛ فاتخذت طعاما، ثم نجدت لهن البيوت؛ نجدت أي زينت؛ والنجد ما ينجد به البيت من المتاع أي يزين، والجمع نجود عن أبي عبيد؛ والتنجيد التزيين؛ وأرسلت إليهن أن يحضرن طعامها، ولا تتخلف منكن امرأة ممن سميت. قال وهب بن منبه: إنهن كن أربعين امرأة فجئن على كره منهن، وقد قال فيهن أمية بن أبي الصلت:

حتى إذا جئنها قسرا ومهدت لهن أنضادا وكبابا

ويروى: أنماطا. قال وهب بن منبه: فجئن وأخذن مجالسهن. « وأعتدت لهن متكأ » أي هيأت لهن مجالس يتكئن عليها. قال ابن جبير: في كل مجلس جام فيه عسل وأترج وسكين حاد. وقرأ مجاهد وسعيد بن جبير « متكا » مخففا غير مهموز، والمتك هو الأترج بلغة القبط، وكذلك فسره مجاهد روى سفيان عن منصور عن مجاهد قال: المتكأ مثقلا هو الطعام، والمتك مخففا هو الأترج؛ وقال الشاعر:

نشرب الإثم بالصواع جهارا وترى المتك بيننا مستعارا

وقد تقول أزد شنوءة: الأترجة المتكة؛ قال الجوهري: المُتْكَ ما تبقيه الخاتنة. وأصل المتك الزماورد. والمتكاء من النساء التي لم تحفض. قال الفراء: حدثني شيخ من ثقات أهل البصرة أن المتك مخففا الزماورد. وقال بعضهم: إنه الأترج؛ حكاه الأخفش. ابن زيد: أترجا وعسلا يؤكل به؛ قال الشاعر:

فظلنا بنعمة واتكأنا وشربنا الحلال من قلله

أي أكلنا.

النحاس: قوله تعالى: « واعتدت » من العتاد؛ وهو كل ما جعلته عدة لشيء. « متكأ » أصح ما قيل فيه ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: مجلسا، وأما قول جماعة من أهل، التفسير إنه الطعام فيجوز على تقدير: طعام متكأ، مثل: « واسأل القرية » ؛ ودل على هذا الحذف « وآتت كل واحدة منهن سكينا » لأن حضور النساء معهن سكاكين إنما هو لطعام يقطع بالسكاكين؛ كذا قال في كتاب « إعراب القرآن » له. وقال في كتاب « معاني القرآن » له: وروى معمر عن قتادة قال: « المتكأ » الطعام. وقيل: « المتكأ » كل ما أتكئ عليه عند طعام أو شراب أو حديث؛ وهذا هو المعروف عند أهل اللغة، إلا أن الروايات قد صحت بذلك. وحكى القتبي أنه يقال: اتكأنا عند فلان أي أكلنا، والأصل في « متكأ » موتكأ، ومثله متزن ومتعد؛ لأنه من وزنت، ووعدت ووكأت، ويقال: اتكأ يتكئ اتكاء. « كل واحدة منهن سكينا » مفعولان؛ وحكى الكسائي والفراء أن السكين يذكر ويؤنث، وأنشد الفراء:

فعيث في السنام غداة قر بسكين موثقة النصاب

الجوهري: والغالب عليه التذكير، وقال:

يرى ناصحا فيما بدا فإذا خلا فذلك سكين على الحلق حاذق

الأصمعي: لا يعرف في السكين إلا التذكير.

 

قوله تعالى: « وقالت اخرج عليهن » بضم التاء لالتقاء الساكنين؛ لأن الكسرة تثقل إذا كان بعدها ضمة، وكسرت التاء على الأصل. قيل: إنها قالت لهن: لا تقطعن ولا تأكلن حتى أعلمكن، ثم قالت لخادمها: إذا قلت لك ادع إيلا فادع يوسف؛ وإيل: صنم كانوا يعبدونه، وكان يوسف عليه السلام يعمل في الطين، وقد شد مئزره، وحسر عن ذراعيه؛ فقالت للخادم: ادع لي إيلا؛ أي ادع لي الرب؛ وإيل بالعبرانية الرب؛ قال: فتعجب النسوة وقلن: كيف يجيء؟! فصعدت الخادم فدعت يوسف، فلما انحدر قالت لهن: اقطعن ما معكن. « فلما رأينه أكبرنه » واختلف في معنى « أكبرنه » فروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: أعظمنه وهبنه؛ وعنه أيضا أمنين وأمذين من الدهش؛ وقال الشاعر:

إذا ما رأين الفحل من فوق قارة صهلن وأكبرن المني المدفقا

وقال ابن سمعان عن عدة من أصحابه: إنهم قالوا أمذين عشقا؛ وهب بن منبه: عشقنه حتى مات منهن عشر في ذلك المجلس دهشا وحيرة ووجدا بيوسف. وقيل: معناه حضن من الدهش؛ قاله قتادة ومقاتل والسدي؛ قال الشاعر:

نأتي النساء على أطهارهن ولا نأتي النساء إذا أكبرن إكبارا

وأنكر ذلك أبو عبيدة وغيره وقالوا: ليس ذلك في كلام العرب، ولكنه يجوز أن يكن حضن من شدة إعظامهن له، وقد تقزع المرأة فتسقط ولدها أو تحيض. قال الزجاج يقال أكبرنه، ولا يقال حضنه، فليس الإكبار بمعنى الحيض؛ وأجاب الأزهري فقال: يجوز أكبرت بمعنى حاضت؛ لأن المرأة إذا حاضت في الابتداء خرجت من حيز الصغر إلى الكبر؛ قال: والهاء في « أكبرنه » يجوز أن تكون هاء الوقف لا هاء الكناية، وهذا مزيف، لأن هاء الوقف تسقط في الوصل، وأمثل منه قول ابن الأنباري: إن الهاء كناية عن مصدر الفعل، أي أكبرن إكبارا، بمعنى حضن حيضا. وعلى قول ابن عباس الأول تعود الهاء إلى يوسف؛ أي أعظمن يوسف وأجللنه.

 

قوله تعالى: « وقطعن أيديهن » بالمدى حتى بلغت السكاكين إلى العظم؛ قاله وهب بن منبه. سعيد بن جبير: لم يخرج عليهن حتى زينته، فخرج عليهن فجأة فدهشن فيه، وتحيرن لحسن وجهه وزينته وما عليه، فجعلن يقطعن أيديهن، ويحسبن أنهن يقطعن الأترج؛ قال مجاهد: قطعنها حتى ألقينها. وقيل: خدشنها. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: حزا بالسكين، قال النحاس: يريد مجاهد أنه ليس قطعا تبين منه اليد، إنما هو خدش وحز، وذلك معروف في اللغة أن يقال إذا خدش الإنسان يد صاحبه قطع يده. وقال عكرمة: « أيديهن » أكمامهن، وفيه بعد. وقيل: أناملهن؛ أي ما وجدن ألما في القطع والجرح، أي لشغل قلوبهن بيوسف، والتقطيع يشير إلى الكثرة، فيمكن أن ترجع الكثرة إلى واحدة جرحت يدها في موضع، ويمكن أن يرجع إلى عددهن.

 

قوله تعالى: « وقلن حاش لله » أي معاذ الله. وروى الأصمعي عن نافع أنه قرأ كما قرأ أبو عمرو بن العلاء. « وقلن حاشا لله » بإثبات الألف وهو الأصل، ومن حذفها جعل اللام في « لله » عوضا منها. وفيها أربع لغات؛ يقال: حاشاك وحاشا لك وحاش لك وحشا لك. ويقال: حاشا زيد وحاشا زيدا؛ قال النحاس: وسمعت علي بن سليمان يقول سمعت محمد بن يزيد يقول: النصب أولى؛ لأنه قد صح أنها فعل لقولهم حاش لزيد، والحرف لا يحذف منه؛ وقد قال، النابغة:

ولا أحاشي من الأقوام من أحد

وقال بعضهم: حاش حرف، وأحاشي فعل. ويدل على كون حاشا فعلا وقوع حرف الجر بعدها. وحكى أبو زيد عن أعرابي: اللهم اغفر لي ولمن يسمع، حاشا الشيطان وأبا الأصبغ؛ فنصب بها. وقرأ الحسن « وقلن حاش لله » بإمكان الشين، وعنه أيضا « حاش الإله » . ابن مسعود وأبي: « حاش الله » بغير لام، ومنه قول الشاعر:

حاشا أبي ثوبان إن به ضنا عن الملحاة والشتم

قال الزجاج: وأصل الكلمة من الحاشية، والحشا بمعنى الناحية، تقول: كنت في حشا فلان أي في ناحيته؛ فقولك: حاشا لزيد أي تنحى زيد من هذا وتباعد عنه، والاستثناء إخراج وتنحية عن جملة المذكورين. وقال أبو علي: هو فاعل من المحاشاة؛ أي حاشا يوسف وصار في حاشية وناحية مما قرف به، أو من أن يكون بشرا؛ فحاشا وحاش في الاستثناء حرف جر عند سيبويه، وعلى ما قال المبرد وأبو علي فعل.

 

قوله تعالى: « ما هذا بشرا » قال الخليل وسيبويه: « ما » بمنزلة ليس؛ تقول: ليس زيد قائما، و « ما هذا بشرا » و « ما هن أمهاتهم » [ المجادلة: 2 ] . وقال الكوفيون: لما حذفت الباء نصبت؛ وشرج هذا - فيما قال أحمد بن يحيى، - إنك إذا قلت: ما زيد بمنطلق، فموضع الباء موضع نصب، وهكذا سائر حروف الخفض؛ فلما حذفت الباء نصبت لتدل على محلها، قال: وهذا قول الفراء، قال: ولم تعمل « ما » شيئا؛ فألزمهم البصريون أن يقولوا: زيد القمر؛ لأن المعنى كالقمر! فرد أحمد بن يحيى بأن قال: الباء أدخل في حروف الخفض من الكاف؛ لأن الكاف تكون اسما. قال النحاس: لا يصح إلا قول البصريين؛ وهذا القول يتناقض؛ لأن الفراء أجاز نصا ما بمنطلق زيد، وأنشد:

أما والله أن لو كنت حرا وما بالحر أنت ولا العتيق

ومنع نصا النصب؛ ولا نعلم بين النحويين اختلافا أنه جائز: ما فيك براغب زيد، وما إليك بقاصد عمرو، ثم يحذفون الباء ويرفعون. وحكى البصريون والكوفيون ما زيد منطلق بالرفع، وحكى البصريون أنها لغة تميم، وأنشدوا:

أتيما تجعلون إلي ندا وما تيم لذي حسب نديد

الند والنديد والنديدة المثل والنظير. وحكى الكسائي أنها لغة تهامة ونجد. وزعم الفراء أن الرفع أقوى الوجهين: قال أبو إسحاق: وهذا غلط؛ كتاب الله عز وجل ولغة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوى وأولى.

قلت: وفي مصحف حفصة رضي الله عنها « ما هذا ببشر » ذكره الغزنوي. قال القشيري أبو نصر: وذكرت النسوة أن صورة يوسف أحسن، من صورة البشر، بل هو في صورة ملك؛ وقال الله تعالى: « لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم » [ التين: 4 ] والجمع بين الآيتين أن قولهن: « حاش لله » تبرئة ليوسف عما رمته به امرأة العزيز. من المراودة، أي بعد يوسف عن هذا؛ وقولهن: « لله » أي لخوفه، أي براءة لله من هذا؛ أي قد نجا يوسف من ذلك، فليس هذا من الصورة في شيء؛ والمعنى: أنه في التبرئة عن المعاصي كالملائكة؛ فعلى هذا لا تناقض. وقيل: المراد تنزيهه عن مشابهة البشر في الصورة، لفرط جماله. وقوله: « لله » تأكيد لهذا المعنى؛ فعلى هذا المعنى قالت النسوة ذلك ظنا منهن أن صورة الملك أحسن، وما بلغهن قوله تعالى: « لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم » [ التين: 4 ] فإنه من كتابنا. وقد ظن بعض، الضعفة أن هذا القول لو كان ظنا باطلا منهن لوجب على الله أن يرد عليهن، ويبين كذبهن، وهذا باطل؛ إذ لا وجوب على الله تعالى، وليس كل ما يخبر به الله سبحانه من كفر الكافرين وكذب الكاذبين يجب عليه أن يقرن به الرد عليه، وأيضا أهل العرف قد يقولون في القبيح كأنه شيطان، وفي الحسن كأنه ملك؛ أي لم ير مثله، لأن الناس لا يرون الملائكة؛ فهو بناء على ظن في أن صورة الملك أحسن، أو على الإخبار بطهارة أخلاقه وبعده عن التهم.. « إن هذا إلا ملك » أي ما هذا إلا ملك؛ وقال الشاعر:

فلست لإني ولكن لملاك تنزل من جو السماء يصوب

وروي عن الحسن: « ما هذا بشرى » بكسر الباء والشين، أي ما هذا عبدا مشترى، أي ما ينبغي لمثل هذا أن يباع، فوضع المصدر موضع اسم المفعول، كما قال: « أحل لكم صيد البحر » [ المائدة: 96 ] أي مصيده، وشبهه كثير. ويجوز أن يكون المعنى: ما هذا بثمن، أي مثله لا يثمن ولا يقوم؛ فيراد بالشراء على هذا الثمن المشترى به: كقولك: ما هذا بألف إذا نفيت قول القائل: هذا بألف. فالباء على هذا متعلقة بمحذوف هو الخبر، كأنه قال: ما هذا مقدرا بشراء. وقراءة العامة أشبه؛ لأن بعده « إن هذا إلا ملك كريم » مبالغة في تفضيله في جنس الملائكة تعظيما لشأنه، ولأن مثل « بشرى » يكتب في المصحف بالياء.

 

الآية: 32 ( قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين )

 

قوله تعالى: « قالت فذلكن الذي لمتنني فيه » لما رأت افتتانهن بيوسف أظهرت عذر نفسها بقولها: « لمتنني فيه » أي بحبه، و « ذلك » بمعنى « هذا » وهو اختيار الطبري. وقيل: الهاء للحب، و « ذلك » عل بابه، والمعنى: ذلكن الحب الذي لمتنني فيه، أي حب هذا هو ذلك الحب. واللوم الوصف بالقبيح. ثم أقرت وقالت: « ولقد راودته عن نفسه فاستعصم » أي امتنع. وسميت العصمة عصمة لأنها تمنع من ارتكاب المعصية. وقيل: « استعصم » أي استعصى، والمعنى واحد. « ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن » عاودته المراودة بمحضر منهن، وهتكت جلباب الحياء، ووعدت بالسجن إن لم يفعل، وإنما فعلت هذا حين لم تخش لوما ولا مقالا خلاف أول أمرها إذ كان ذلك بينه وبينها. « وليكون من الصاغرين » أي الأذلاء. وخط المصحف « وليكونا » بالألف وتقرأ بنون مخففة للتأكيد؛ ونون التأكيد تثقل وتخفف والوقف على قوله: « ليسجنن » بالنون لأنها مثقلة، وعلى « ليكونا » بالألف لأنها مخففة، وهي تشبه نون الإعراب في قولك: رأيت رجلا وزيدا وعمرا، ومثله قوله: « لنسفعا بالناصية » ونحوها الوقف عليها بالألف، كقول الأعشى:

ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا

أي أراد فاعبدا، فلما وقف عليه كان الوقف بالألف.

 

الآيتان: 33 - 34 ( قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين، فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم )

 

قوله تعالى: « قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه » أي دخول السجن، فحذف المضاف؛ قاله الزجاج والنحاس. « أحب إلي » أي أسهل علي وأهون من الوقوع في المعصية؛ لا أن دخول السجن مما يحب على التحقيق. وحكي أن يوسف عليه السلام لما قال: « السجن أحب إلي » أوحى الله إليه « يا يوسف! أنت حبست نفسك حيث قلت السجن أحب إلي، ولو قلت العافية أحب إلي لعوفيت » . وحكى أبو حاتم أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قرأ: « السَّجن » بفتح السين وحكى أن ذلك قراءة ابن أبي إسحاق وعبدالرحمن الأعرج ويعقوب؛ وهو مصدر سجنه سجنا. « وإلا تصرف عني كيدهن » أي كيد النسوان. وقيل: كيد النسوة اللاتي رأينه؟ فإنهن أمرنه بمطاوعة امرأة العزيز، وقلن له: هي مظلومة وقد ظلمتها. وقيل: طلبت كل واحدة أن تخلو به للنصيحة في امرأة العزيز؛ والقصد بذلك أن تعذله في حقها، وتأمره بمساعدتها، فلعله يجيب؛ فصارت كل واحدة تخلو به على حدة فتقول له: يا يوسف! اقض لي حاجتي فأنا خير لك من سيدتك؛ تدعوه كل واحدة لنفسها وتراوده؛ فقال: يا رب كانت واحدة فصرن جماعة. وقيل: كيد امرأة العزيز فيما دعته إليه من الفاحشة؛ وكنى عنها بخطاب الجمع إما لتعظيم شأنها في الخطاب، وإما ليعدل عن التصريح إلى التعريض. والكيد الاحتيال والاجتهاد؛ ولهذا سميت الحرب كيدا لاحتيال الناس فيها؛ قال عمر بن لجأ:

تراءت كي تكيدك أم بشر وكيد بالتبرج ما تكيد

 

قوله تعالى: « أصب إليهن » جواب الشرط، أي أمل إليهن، من صبا يصبو - إذا مال واشتاق - صبوا وصبوة؛ قال:

إلى هند صبا قلبي وهند مثلها يصبي

أي إن لم تلطف بي في اجتناب المعصية وقعت فيها. « وأكن من الجاهلين » أي ممن يرتكب الإثم ويستحق الذم، أو ممن يعمل عمل الجهال؛ ودل هذا على أن أحدا لا يمتنع عن معصية الله إلا بعون الله؛ ودل أيضا على قبح الجهل والذم لصاحبه.

 

قوله تعالى: « فاستجاب له ربه » لما قال. « وإلا تصرف عن كيدهن » تعرض للدعاء، وكأنه قال: اللهم اصرف عني كيدهن؛ فاستجاب له دعاءه، ولطف به وعصمه عن الوقوع في الزنى. « كيدهن » قيل: لأنهن جمع قد راودنه عن نفسه. وقيل: يعني كيد النساء. وقيل: يعني كيد امرأة العزيز، على ما ذكر في الآية قبل؛ والعموم أولى.

 

الآية: 35 ( ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين )

 

قوله تعالى: « ثم بدا لهم » أي ظهر للعزيز وأهل مشورته « من بعد أن رأوا الآيات » أي علامات براءة يوسف - من قد القميص من دبر؛ وشهادة الشاهد، وحز الأيدي، وقلة صبرهن عن لقاء يوسف: أن يسجنوه كتمانا للقصة ألا تشيع في العامة، وللحيلولة بينه وبينها. وقيل: هي البركات التي كانت تنفتح عليهم ما دام يوسف فيهم؛ والأول أصح. قال مقاتل عن مجاهد عن ابن عباس في قوله: « ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات » قال: القميص من الآيات، وشهادة الشاهد من الآيات، وقطع الأيدي من الآيات، وإعظام النساء إياه من الآيات. وقيل: ألجأها الخجل من الناس، والوجل من اليأس إلى أن رضيت بالحجاب مكان خوف الذهاب، لتشتفي إذا منعت من نظره، قال:

وما صبابة مشتاق على أمل من اللقاء كمشتاق بلا أمل

أو كادته رجاء أن يمل حبسه فيبذل نفسه.

 

قوله تعالى: « ليَسْجُنُنه » « يُسْجُنُنه » في موضع الفاعل؛ أي ظهر لهم أن يسجنوه؛ هذا قول سيبويه. قال المبرد: وهذا غلط؛ لا يكون الفاعل جملة، ولكن الفاعل ما دل عليه « بدا » وهو مصدر؛ أي بدا لهم بداء؛ فحذف لأن الفعل يدل عليه؛ كما قال الشاعر:

وحق لمن أبو موسى أبوه يوقفه الذي نصب الجبالا

أي وحق الحق، فحذف. وقيل: المعنى ثم بدا لهم رأي لم يكونوا يعرفونه؛ وحذف هذا لأن في الكلام دليلا عليه، وحذف أيضا القول؛ أي قالوا: ليسجننه، واللام جواب ليمين مضمر؛ قاله الفراء، وهو فعل مذكر لا فعل مؤنث؛ ولو كان فعلا مؤنثا لكان يسجنانه؛ ويدل على هذا قوله « لهم » ولم يقل لهن، فكأنه أخبر عن النسوة وأعوانهن فغلب المذكر؛ قاله أبو علي. وقال السدي: كان سبب حبس يوسف أن امرأة العزيز شكت إليه أنه شهرها ونشر خبرها؛ فالضمير على هذا في « لهم » للملك.

 

قوله تعالى: « حتى حين » أي إلى مدة غير معلومة؛ قاله كثير من المفسرين. وقال ابن عباس: إلى انقطاع ما شاع في المدينة. وقال سعيد بن جبير: إلى ستة أشهر. وحكى الكيا أنه عنى ثلاثة عشر شهرا. عكرمة: تسع سنين. الكلبي: خمس سنين. مقاتل: سبع. وقد مضى في « البقرة » القول في الحين وما يرتبط به من الأحكام. وقال وهب: أقام في السجن اثنتي عشرة سنة. و « حتى » بمعنى إلى؛ كقوله: « حتى مطلع الفجر » [ القدر: 5 ] . وجحل الله الحبس تطهيرا ليوسف صلى الله عليه وسلم من همه بالمرأة. وكأن العزيز - وإن عرف براءة يوسف - أطاع المرأة في سجن يوسف. قال ابن عباس: عثر يوسف ثلاث عثرات: حين هم بها فسجن، وحين قال للفتى: « اذكرني عند ربك » [ يوسف: 42 ] فلبث في السجن بضع سنين، وحين قال لإخوته: « إنكم لسارقون » [ يوسف: 70 ] فقالوا: « إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل » . [ يوسف: 77 ] .

 

أكره يوسف عليه السلام على الفاحشة بالسجن، وأقام خمسة أعوام، وما رضي بذلك لعظيم منزلته وشريف قدره؛ ولو أكره رجل بالسجن على الزنى ما جاز له إجماعا. فإن أكره بالضرب فقد اختلف فيه العلماء، والصحيح أنه إذا كان فادحا فإنه يسقط عنه إثم الزنى وحده. وقد قال بعض علمائنا: إنه لا يسقط عنه الحد، وهو ضعيف؛ فإن الله تعالى لا يجمع على عبده العذابين، ولا يصرفه بين بلاءين؛ فإنه من أعظم الحرج في الدين. « وما جعل عليكم في الدين من حرج » . [ الحج: 78 ] . وسيأتي بيان هذا في « النحل » إن شاء الله. وصبر يوسف، واستعاذ به من الكيد، فاستجاب له على ما تقدم.

 

الآية: 36 ( ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين )

 

قوله تعالى: « ودخل معه السجن فتيان » « فتيان » تثنية فتى؛ وهو من ذوات الياء، وقولهم: الفتو شاذ. قال وهب وغيره: حمل يوسف إلى السجن مقيدا على حمار، وطيف به « هذا جزاء من يعصي سيدته » وهو يقول: هذا أيسر من مقطعات النيران، وسرابيل القطران، وشراب الحميم، وأكل الزقوم. فلما انتهى يوسف إلى السجن وجد فيه قوما قد انقطع رجاؤهم، واشتد بلاؤهم؛ فجعل يقول لهم: اصبروا وابشروا تؤجروا؛ فقالوا له: يا فتى ! ما أحسن حديثك! لقد بورك لنا في جوارك، من أنت يا فتى؟ قال: أنا يوسف ابن صفي الله يعقوب، ابن ذبيح الله إسحاق، ابن خليل الله إبراهيم. وقال ابن عباس: لما قالت المرأة لزوجها إن هذا العبد العبراني قد فضحني، وأنا أريد أن تسجنه، فسجنه في السجن؛ فكان يعزي فيه الحزين، ويعود فيه المريض، ويداوي فيه الجريح، ويصلي الليل كله، ويبكي حتى تبكي معه جدر البيوت وسقفها والأبواب، وطهر به السجن، واستأنس به أهل السجن؛ فكان إذا خرج الرجل من السجن رجع حتى يجلس في السجن مع يوسف، وأحبه صاحب السجن فوسع عليه فيه؛ ثم قال، له: يا يوسف! لقد أحببتك. حبا لم أحب شيئا حبك؛ فقال: أعوذ بالله من حبك، قال: ولم ذلك؟ فقال: أحبني أبي ففعل بي أخوتي ما فعلوه، وأحبتني سيدتي فنزل بي ما ترى، فكان في حبسه حتى غضب الملك على خبازه وصاحب شرابه، وذلك أن الملك عمر فيهم فملوه، فدسوا إلى خبازه وصاحب شرابه أن يسماه جميعا، فأجاب الخباز وأبى صاحب الشراب، فانطلق صاحب الشراب فأخبر الملك بذلك، فأمر الملك بحبسهما، فاستأنسا بيوسف، فذلك قوله: « ودخل معه السجن فتيان » وقد قيل: إن الخباز وضع السم في الطعام، فلما حضر الطعام قال الساقي: أيها الملك! لا تأكل فإن الطعام مسموم. وقال الخباز: أيها الملك لا تشرب! فإن الشراب مسموم؛ فقال الملك للساقي: اشرب! فشرب فلم يضره، وقال للخباز: كل؛ فأبى، فجرب الطعام على حيوان فنفق مكانه، فحبسهما سنة، وبقيا في السجن تلك المدة مع يوسف. واسم الساقي منجا، والآخر مجلث؛ ذكره الثعلبي عن كعب. وقال النقاش: اسم أحدهما شرهم، والآخر سرهم؛ الأول، بالشين المعجمة. والآخر بالسين المهملة. وقال الطبري: الذي رأى أنه يعصر خمرا هو نبو، قال السهيلي: وذكر اسم الآخر ولم أقيده.

وقال « فتيان » لأنهما كانا عبدين، والعبد يسمى فتى، صغيرا كان أو كبيرا؛ ذكره الماوردي. وقال القشيري: ولعل الفتى كان اسما للعبد في عرفهم؛ ولهذا قال: « تراود فتاها عن نفسه » [ يوسف: 30 ] . ويحتمل أن يكون الفتى اسما للخادم وإن لم يكن مملوكا. ويمكن أن يكون حبسهما مع حبس يوسف أو بعده أو قبله، غير أنهما دخلا معه البيت الذي كان فيه. « قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله » « قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا » أي عنبا؛ كان يوسف قال لأهل السجن. إني أعبر الأحلام؛ فقال أحد الفتيين لصاحبه: تعال حتى نجرب هذا العبد العبراني؛ فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئا؛ قاله ابن مسعود. وحكى الطبري أنهما سألاه عن علمه فقال: إني أعبر الرؤيا؛ فسألاه عن رؤياهما. قال ابن عباس ومجاهد: كانت رؤيا صدق رأياها وسألاه عنها؛ ولذلك صدق تأويلها. وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا ) . وقيل: إنها كانت رؤيا كذب سألاه عنها تجريبا؛ وهذا قول ابن مسعود والسدي. وقيل: إن المصلوب منهما كان كاذبا، والآخر صادقا؛ قاله أبو مجلز. وروى الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: ( من تحلم كاذبا كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين ولن يعقد بينهما ) . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح وعن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من كذب في حلمه كلف يوم القيامة عقد شعيرة ) . قال: حديث حسن. قال ابن عباس: لما رأيا رؤياهما أصبحا مكروبين؛ فقال لهما يوسف: مالي أراكما مكروبين؟ قالا: يا سيدنا! إنا رأينا ما كرهنا؛ قال: فقصا علي، فقصا عليه؛ قالا: نبئنا بتأويل ما رأينا؛ وهذا يدل على أنها كانت رؤيا منام. « إنا نراك من المحسنين » فإحسانه، أنه كان يعود المرضى ويداويهم، ويعزي الحزاني؛ قال الضحاك: كان إذا مرض الرجل من أهل السجن قام به، وإذا ضاق وسع له، وإذا احتاج جمع له، وسأل له. وقيل: « من المحسنين » أي العالمين الذين أحسنوا العلم، قال الفراء. وقال ابن إسحاق: « من المحسنين » لنا إن فسرته، كما يقول: افعل كذا وأنت محسن. قال: فما رأيتما؟ قال الخباز: رأيت كأني اختبزت في ثلاثة تنانير، وجعلته في ثلاث سلال، فوضعته على رأسي فجاء الطير فأكل منه. وقال الآخر: رأيت كأني أخذت ثلاثة عناقيد من عنب أبيض، فعصرتهن في ثلاث أوان، ثم صفيته فسقيت الملك كعادتي فيما مضى، فذلك قوله: « إني أراني أعصر خمرا » أي عنبا، بلغة عمان، قال الضحاك. وقرأ ابن مسعود: « إني أراني أعصر عنبا » . وقال الأصمعي: أخبرني المعتمر بن سليمان أنه لقي أعرابيا ومعه عنب فقال له: ما معك؟ قال: خمر. وقيل: معنى. « أعصر خمرا » أي عنب خمر، فحذف المضاف. ويقال: خمرة وخمر وخمور، مثل تمرة وتمر وتمور.

 

الآية: 37 ( قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون )

 

قال لهما يوسف: « لا يأتيكما طعام ترزقانه » يعني لا يجيئكما غدا طعام من منزلكما « إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما » لتعلما أني أعلم تأويل رؤياكما، فقالا: افعل! فقال لهما: يجيئكما كذا وكذا، فكان على ما قال؛ وكان هذا من علم الغيب خُص به يوسف. وبين أن الله خصه بهذا العلم لأنه ترك ملة قوم لا يؤمنون بالله، يعني دين الملك. ومعنى الكلام عندي: العلم بتأويل رؤياكما، والعلم بما يأتيكما من طعامكما والعلم بدين الله، فاسمعوا أولا ما يتعلق بالدين لتهتدوا، ولهذا لم يعبر لهما حتى دعاهما إلى الإسلام، فقال: « يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار، ما تعبدون » [ يوسف:39 ] الآية كلها، على ما يأتي. وقيل: علم أن أحدهما مقتول فدعاهما إلى الإسلام ليسعدا به. وقيل: إن يوسف كره أن يعبر لهما ما سألاه لما علمه من المكروه على أحدهما فأعرض عن سؤالهما، وأخذ في غيره فقال: « لا يأتيكما طعام ترزقانه » في النوم « إلا نبأتكما » بتفسيره في اليقظة، قاله السدي، فقالا له: هذا من فعل العرافين والكهنة، فقال لهما يوسف عليه السلام: ما أنا بكاهن، وإنما ذلك مما علمنيه ربي، إني لا أخبركما به تكهنا وتنجيما، بل هو بوحي من الله عز وجل. وقال ابن جريج: كان الملك إذا أراد قتل إنسان صنع له طعاما معروفا فأرسل به إليه، فالمعنى: لا يأتيكما طعام ترزقانه في اليقظة، فعلى هذا « ترزقانه » أي يجري عليكما من جهة الملك أو غيره. ويحتمل يرزقكما الله. قال الحسن: كان يخبرهما بما غاب، كعيسى عليه السلام. وقيل: إنما دعاهما بذلك إلى الإسلام؛ وجعل المعجزة التي يستدلان بها إخبارهما بالغيوب.

 

الآية: 38 ( واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون )

 

قوله تعالى: « واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب » لأنهم أنبياء على الحق. « ما كان لنا » أي ما ينبغي لنا. « أن نشرك بالله من شيء » « من » للتأكيد، كقولك: ما جاءني من أحد. « ذلك من فضل الله علينا » إشارة إلى عصمته من الزنى. « وعلى الناس » أي على المؤمنين الذين عصمهم الله من الشرك. وقيل: « ذلك من فضل الله علينا » إذ جعلنا أنبياء، « وعلى الناس » إذ جعلنا الرسل إليهم. « ولكن أكثر الناس لا يشكرون » على نعمة التوحيد والإيمان.

 

الآية: 39 ( يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار )

 

قوله تعالى: « يا صاحبي السجن » أي يا ساكني السجن؛ وذكر الصحبة لطول مقامهما فيه، كقولك: أصحاب الجنة، وأصحاب النار. « أأرباب متفرقون » أي في الصغر والكبر والتوسط، أو متفرقون في العدد. « خير أم الله الواحد القهار » وقيل: الخطاب لهما ولأهل السجن، وكان بين أيديهم أصنام يعبدونها من دون الله تعالى، فقال ذلك إلزاما للحجة؛ أي آلهة شتى لا تضر ولا تنفع. « خير أم الله الواحد القهار » الذي قهر كل شيء. نظيره: « الله خير أما يشركون » [ النمل: 59 ] . وقيل: أشار بالتفرق إلى أنه لو تعدد الإله لتفرقوا في الإرادة ولعلا بعضهم على، بعض، وبين أنها إذا تفرقت لم تكن آلهة.

 

الآية: 40 ( ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون )

 

قوله تعالى: « ما تعبدون من دونه إلا أسماء » بين عجز الأصنام وضعفها فقال: « ما تعبدون من دونه » أي من دون الله إلا ذوات أسماء لا معاني لها. « سميتموها أنتم وآباؤكم » من تلقاء أنفسكم. وقيل: عنى بالأسماء المسميات؛ أي ما تعبدون إلا أصناما ليس لها من الإلهية شيء إلا الاسم؛ لأنها جمادات. وقال: « ما تعبدون » وقد ابتدأ بخطاب الاثنين؛ لأنه قصد جميع من هو على مثل حالهما من الشرك. « إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم » فحذف، المفعول الثاني للدلالة؛ والمعنى: سميتموها آلهة من عند أنفسكم. « ما أنزل الله بها من سلطان » ذلك في كتاب. قال سعيد بن جبير: « من سلطان » أي من حجة. « إن الحكم إلا لله » الذي هو خالق الكل. « أمر ألا تعبدوا إلا إياه » تعبدوه وحده ولا تشركوا معه غيره. « ذلك الدين القيم » أي القويم. « ولكن أكثر الناس لا يعلمون »

 

الآية: 41 ( يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان )

 

قوله تعالى: « أما أحدكما فيسقي ربه خمرا » أي قال للساقي: إنك ترد على عملك الذي كنت عليه من سقي الملك بعد ثلاثة أيام، وقال للآخر: وأما أنت فتدعى إلى ثلاثة أيام فتصلب فتأكل الطير من رأسك، قال: والله ما رأيت شيئا؛ قال: رأيت أو لم تر « قضي الأمر الذي فيه تستفتيان » . وحكى أهل اللغة أن سقى وأسقى لغتان بمعنى واحد، كما قال الشاعر:

سقى قومي بني مجد وأسقى نميرا والقبائل من هلال

قال النحاس: الذي عليه أكثر أهل اللغة أن معنى سقاه ناوله فشرب، أو صب الماء في حلقه ومعنى أسقاه جعل له سقيا؛ قال الله تعالى: « وأسقيناكم ماء فراتا » [ المرسلات: 27 ]

قال علماؤنا: إن قيل من كذب في رؤياه ففسرها العابر له أيلزمه حكمها؟ قلنا: لا يلزمه؛ وإنما كان ذلك في يوسف لأنه نبي، وتعبير النبي حكم، وقد قال: إنه يكون كذا وكذا فأوجد الله تعالى ما أخبر كما قال تحقيقا لنبوته؛ فإن قيل: فقد روى عبدالرزاق عن معمر عن قتادة قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: إني رأيت كأني أعشبت ثم أجدبت ثم أعشبت ثم أجدبت، فقال له عمر: أنت رجل تؤمن ثم تكفر، ثم تؤمن ثم تكفر، ثم تموت كافرا؛ فقال الرجل: ما رأيت شيئا؛ فقال له عمر: قد قضى لك ما قضى لصاحب يوسف؛ قلنا: ليست لأحد بعد عمر؛ لأن عمر كان محدثا، وكان إذا ظن ظنا كان وإذا تكلم به وقع، على ما ورد في أخباره؛ وهي كثيرة؛ منها: أنه دخل عليه رجل فقال له: أظنك كاهنا فكان كما ظن؛ خرجه البخاري. ومنها: أنه سأل رجلا عن اسمه فقال له فيه أسماء النار كلها، فقال له: أدرك أهلك فقد احترقوا، فكان كما قال: خرجه الموطأ. وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة « الحجر » إن شاء الله تعالى.

 

الآية: 42 ( وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين )

 

قوله تعالى: « وقال للذي ظن » « ظن » ه ربي كريم لا يكدر نعمة وإذا تنوشد في المهارق أنشدا

أي اذكر ما رأيته، وما أنا عليه من عبارة الرؤيا للملك، وأخبره أني مظلوم محبوس بلا ذنب. وفي صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يقل أحدكم اسق ربك أطعم ربك وضئ ربك ولا يقل أحدكم ربي وليقل سيدي مولاي ولا يقل أحدكم عبدي أمتي وليقل فتاي فتاتي غلامي ) . وفي القرآن: « اذكرني عند ربك » « إلى ربك » « إنه ربي أحسن مثواي » [ يوسف: 23 ] أي صاحبي؛ يعني العزيز. ويقال لكل من قام بإصلاح شيء وإتمامه: قد ربه يربه، فهو رب له. قال العلماء قول عليه السلام: ( لا يقل أحدكم ) ( وليقل ) من باب الإرشاد إلى إطلاق اسم الأولى؛ لا أن إطلاق ذلك الاسم محرم؛ ولأنه قد جاء عنه عليه السلام ( أن تلد الأمة ربها ) أي مالكها وسيدها؛ وهذا موافق للقرآن في إطلاق ذلك اللفظ؛ فكان محل النهي في هذا الباب ألا نتخذ هذه الأسماء عادة فنترك الأولى والأحسن. وقد قيل: إن قول الرجل عبدي وأمتي يجمع معنيين: أحدهما: أن العبودية بالحقيقة إنما هي لله تعالى؛ ففي قول الواحد من الناس لمملوكه عبدي وأمتي تعظيم عليه، وإضافة له إلى نفسه بما أضافه الله تعالى به إلى نفسه؛ وذلك غير جائز. والثاني: أن المملوك يدخله من ذلك شيء في استصغاره بتلك التسمية، فيحمله ذلك على سوء الطاعة. وقال ابن شعبان في « الزاهي » : ( لا يقل السيد عبدي وأمتي ولا يقل المملوك ربي ولا ربتي ) وهذا محمول على ما ذكرنا. وقيل: إنما قال صلى الله عليه وسلم ( لا يقل العبد ربي وليقل سيدي ) لأن الرب من أسماء الله تعالى المستعملة بالاتفاق؛ واختلف في السيد هل هو من أسماء الله تعالى أم لا؟ فإذا قلنا ليس من أسماء الله فالفرق واضح؛ إذ لا التباس ولا إشكال، وإذا قلنا إنه من أسمائه فليس في الشهرة ولا الاستعمال كلفظ الرب، فيحصل، الفرق. وقال ابن العربي: يحتمل أن يكون ذلك جائزا في شرع يوسف عليه السلام.

 

قوله تعالى: « فأنساه الشيطان ذكر ربه » الضمير في « فأنساه » فيه قولان: أحدهما: أنه عائد إلى يوسف عليه السلام، أي أنساه الشيطان ذكر الله عز وجل؛ وذلك أنه لما قال يوسف لساقي الملك - حين علم أنه سينجو ويعود إلى حالته الأولى مع الملك - « اذكرني عند ربك » نسي في ذلك الوقت أن يشكو إلى الله ويستغيث به، وجنح إلى الاعتصام بمخلوق؛ فعقب باللبث. قال عبدالعزيز بن عمير الكندي: دخل جبريل على يوسف النبي عليه السلام في السجن فعرفه يوسف، فقال: يا أخا المنذرين! مالي أراك بين الخاطئين؟! فقال جبريل عليه السلام: يا طاهر ابن الطاهرين! يقرئك السلام رب العالمين ويقول: أما استحيت إذ استغثت بالآدميين؟! وعزتي! لألبثنك في السجن بضع سنين؛ فقال: يا جبريل! أهو عني راض؟ قال: نعم! قال: لا أبالي الساعة. وروي أن جبريل عليه السلام جاءه فعاتبه عن الله تعالى في ذلك وطول سجنه، وقال له: يا يوسف! من خلصك من القتل من أيدي أخوتك؟! قال: الله تعالى، قال: فمن أخرجك من الجب؟ قال: الله تعالى قال: فمن عصمك من الفاحشة؟ قال: الله تعالى، قال: فمن صرف عنك كيد النساء؟ قال: الله تعالى، قال: فكيف وثقت بمخلوق وتركت ربك فلم تسأله؟! قال: يا رب كلمة زلت مني! أسألك يا إله إبراهيم وإسحاق والشيخ يعقوب عليهم السلام أن ترحمني؛ فقال له جبريل: فإن عقوبتك أن تلبث في السجن بضع سنين. وروى أبو سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( رحم الله يوسف لولا الكلمة التي قال: « اذكرني عند ربك » ما لبث في السجن بضع سنين ) . وقال ابن عباس: عوقب يوسف بطول الحبس بضع سنين لما قال للذي نجا منهما « اذكرني عند ربك » ولو ذكر يوسف ربه لخلصه. وروى إسماعيل بن إبراهيم عن يونس عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لولا كلمة يوسف - يعني قوله: « اذكرني عند ربك » - ما لبث في السجن ما لبث ) قال: ثم يبكي الحسن ويقول: نحن ينزل بنا الأمر فنشكو إلى الناس. وقيل: إن الهاء تعود على الناجي، فهو الناسي؛ أي أنسى الشيطان الساقي أن يذكر يوسف لربه، أي لسيده؛ وفيه حذف، أي أنساه الشيطان ذكره لربه؛ وقد رجح بعض العلماء هذا القول فقال: لولا أن الشيطان أنسى يوسف ذكر الله لما استحق العقاب باللبث في السجن؛ إذ الناسي غير مؤاخذ. وأجاب أهل القول الأول بأن النسيان قد يكون بمعنى الترك، فلما ترك ذكر الله ودعاه الشيطان إلى ذلك عوقب؛ رد عليهم أهل القول الثاني بقوله تعالى: « وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة » [ يوسف: 45 ] فدل على أن الناسي هو الساقي لا يوسف؛ مع قوله تعالى: « إن عبادي ليس لك عليهم سلطان » [ الحجر: 42 ] فكيف يصح أن يضاف نسيانه إلى الشيطان، وليس له على الأنبياء سلطنة؟! قيل: أما النسيان فلا عصمة للأنبياء عنه إلا في وجه واحد، وهو الخبر عن الله تعالى فيما يبلغونه، فإنهم معصومون فيه؛ وإذا وقع منهم النسيان حيث يجوز وقوعه فإنه ينسب إلى الشيطان إطلاقا، وذلك إنما يكون فيما أخبر الله عنهم، ولا يجوز لنا نحن ذلك فيهم؛ قال صلى الله عليه وسلم: ( نسي آدم فنسيت ذريته ) . وقال: ( إنما أنا بشر أنسى كما تنسون ) . وقد تقدم.

 

قوله تعالى: « فلبث في السجن بضع سنين » البضع قطعة من الدهر مختلف فيها؛ قال يعقوب عن أبي زيد: يقال بضع وبضع بفتح الباء وكسرها، قال أكثرهم: ولا يقال بضع ومائة، وإنما هو إلى التسعين. وقال الهروي: العرب تستعمل البضع فيما بين الثلاث إلى التسع. والبضع والبضعة واحد، ومعناهما القطعة من العدد. وحكى أبو عبيدة أنه قال: البضع ما دون نصف العقد، يريد ما بين الواحد إلى أربعة، وهذا ليس بشيء. وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر الصديق رضي الله عنه: ( وكم البضع ) فقال: ما بين الثلاث إلى السبع. فقال: ( اذهب فزائد في الخطر ) . وعلى هذا أكثر المفسرين، أن البضع سبع، حكاه الثعلبي. قال الماوردي: وهو قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقطرب. وقال مجاهد: من ثلاث إلى تسع، وقال الأصمعي. ابن عباس: من ثلاث إلى عشرة. وحكى الزجاج أنه ما بين الثلاث إلى الخمس قال الفراء: والبضع لا يذكر العشرة والعشرين إلى التسعين، ولا يذكر بعد المائة. وفي المدة التي لبث فيها يوسف مسجونا ثلاثة أقاويل: أحدها: سبع سنين، قاله ابن جريج وقتادة ووهب بن منبه، قال وهب: أقام أيوب في البلاء سبع سنين، وأقام يوسف في السجن سبع سنين. الثاني: - اثنتا عشرة سنة، قال ابن عباس. الثالث: أربع عشرة سنة، قاله الضحاك. وقال مقاتل عن مجاهد عن ابن عباس قال: مكث يوسف في السجن خمسا وبضعا. واشتقاقه من بضعت الشيء أي قطعته، فهو قطعة من العدد، فعاقب الله يوسف بأن حبس سبع سنين أو تسع سنين بعد الخمس التي مضت، فالبضع مدة العقوبة لا مدة الحبس كله. قال وهب بن منبه: حبس يوسف في السجن سبع سنين، ومكث أيوب في البلاء سبع سنين، وعذب بختنصر بالمسخ سبع سنين. وقال عبدالله بن راشد البصري عن سعيد بن أبي عروبة: إن البضع ما بين الخمس إلى الاثنتي عشرة سنة.

 

في هذه الآية دليل على جواز التعلق بالأسباب وإن كان اليقين حاصلا فإن الأمور بيد مسببها، ولكنه جعلها سلسلة، وركب بعضها على بعض، فتحريكها سنة، والتعويل على المنتهى يقين. والذي يدل على جواز ذلك نسبة ما جرى من النسيان إلى الشيطان كما جرى لموسى في لقيا الخضر؛ وهذا بين فتأملوه.

 

الآية: 43 ( وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون )

 

قوله تعالى: « وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان » لما دنا فرج يوسف عليه السلام رأى الملك رؤياه، فنزل جبريل فسلم على يوسف وبشره بالفرج وقال: إن الله مخرجك من سجنك، وممكن لك في الأرض، يذل لك ملوكها، ويطيعك جبابرتها، ومعطيك الكلمة العليا على إخوتك، وذلك بسبب رؤيا رآها الملك، وهي كيت وكيت، وتأويلها كذا وكذا، فما لبث في السجن أكثر مما رأى الملك الرؤيا حتى خرج، فجعل الله الرؤيا أولا ليوسف بلاء وشدة، وجعلها آخرا بشرى ورحمة؛ وذلك أن الملك الأكبر الريان بن الوليد رأى في نومه كأنما خرج من نهر يابس سبع بقرات سمان، في أثرهن سبع عجاف - أي مهازيل - وقد أقبلت العجاف على السمان فأخذن بآذانهن فأكلنهن، إلا القرنين، ورأى سبع سنبلات خضر قد أقبل عليهن سبع يابسات فأكلنهن حتى أتين عليهن فلم يبق منهن شيء وهن يابسات، وكذلك البقر كن عجافا فلم يزد فيهن شيء من أكلهن السمان، فهالته الرؤيا، فأرسل إلى الناس وأهل العلم منهم والبصر بالكهانة والنجامة والعرافة والسحر، وأشراف قومه، فقال: « يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي » فقص عليهم، فقال القوم: « أضغاث أحلام » [ يوسف: 44 ] قال ابن جريج قال لي عطاء: إن أضغاث الأحلام الكاذبة المخطئة من الرؤيا. وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: إن الرؤيا منها حق، ومنها أضغاث أحلام، يعني بها الكاذبة. وقال الهروي: قوله تعالى: « أضغاث أحلام » أي أخلاط أحلام. والضغث في اللغة الحزمة من الشيء كالبقل والكلأ وما أشبههما، أي قالوا: ليست رؤياك ببينة، والأحلام الرؤيا المختلطة. وقال مجاهد: أضغاث الرؤيا أهاويلها. وقال أبو عبيدة: الأضغاث ما لا تأويل له من الرؤيا.

 

قوله تعالى: « سبع بقرات سمان » حذفت الهاء من « سبع » فرقا بين المذكر والمؤنث « سمان » من نعت البقرات، ويجوز في غير القرآن سبع بقرات سمانا، نعت للسبع، وكذا خضرا، قال الفراء: ومثله: « سبع سماوات طباقا » [ نوح: 15 ] . وقد مضى في سورة « البقرة » اشتقاقها ومعناها. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: المعز والبقر إذا دخلت المدينة فإن كانت سمانا فهي سني رخاء، وإن كانت عجافا كانت شدادا، وإن كانت المدينة مدينة بحر وإبان سفر قدمت سفن على عددها وحالها، وإلا كانت فتنا مترادفة، كأنها وجوه البقر، كما في الخبر ( يشبه بعضها بعضا ) . وفي خبر آخر في الفتن ( كأنها صياصي البقر ) يريد لتشابهها، إلا أن تكون صفرا كلها فإنها أمراض تدخل على الناس، وإن كانت مختلفة الألوان، شنيعة القرون وكان الناس ينفرون منها، أو كأن النار والدخان يخرج من أفواهها فإنه عسكر أو غارة، أو عدو يضرب عليهم، وينزل بساحتهم. وقد تدل البقرة على الزوجة والخادم والغلة والسنة؛ لما يكون فيها من الولد والغلة والنبات. « يأكلهن سبع عجاف » من عجُف يعجُف، على وزن عظم يعظم، وروي عجِف يعجَف على وزن حمد يحمد.

 

قوله تعالى: « يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي » جمع الرؤيا رؤى: أي أخبروني بحكم هذه الرؤيا. « إن كنتم للرؤيا تعبرون » العبارة مشتقة من عبور النهر، فمعنى عبرت النهر، بلغت شاطئه، فعابر الرؤيا يعبر بما يؤول إليه أمرها. واللام في « للرؤيا » للتبيين، أي إن كنتم تعبرون، ثم بين فقال: للرؤيا قاله الزجاج.

 

الآية: 44 ( قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين )

 

قوله تعالى: « أضغاث أحلام » قال الفراء: ويجوز « أضغاث أحلام » قال النحاس: النصب بعيد، لأن المعنى: لم تر شيئا له تأويل، إنما هي أضغاث أحلام، أي أخلاط. وواحد الأضغاث ضغث، يقال لكل مختلط من بقل أو حشيش أو غيرهما ضغث؛ قال الشاعر:

كضغث حلم غر منه حالمه

 

قوله تعالى: « وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين » قال الزجاج: المعنى بتأويل الأحلام المختلطة، نفوا عن أنفسهم علم ما لا تأويل له، لا أنهم نفوا عن أنفسهم علم التأويل. وقيل: نفوا عن أنفسهم علم التعبير. والأضغاث على هذا الجماعات من الرؤيا التي منها صحيحة ومنها باطلة، ولهذا قال الساقي: « أنا أنبئكم بتأويله » [ يوسف: 45 ] فعلم أن القوم عجزوا عن التأويل، لا أنهم ادعوا ألا تأويل لها. وقيل: إنهم لم يقصدوا تفسيرا، وإنما أرادوا محوها من صدر الملك حتى لا تشغل باله، وعلى هذا أيضا فعندهم علم. و « الأحلام » جمع حلم، والحلم بالضم ما يراه النائم، تقول منه حلم بالفتح واحتلم، وتقول: حلمت، بكذا وحلمته، قال:

فحلمتها وبنو رفيدة دونها لا يبعدن خيالها المحلوم

أصله الأناة، ومنه الحلم ضد الطيش؛ فقيل لما يرى في النوم حلم لأن النوم حالة أناة وسكون ودعة.

 

وفي الآية دليل على بطلان قول من يقول: إن الرؤيا على أول ما تعبر، لأن القوم قالوا: « أضغاث أحلام » ولم تقع كذلك؛ فإن يوسف فسرها على سني الجدب والخصب، فكان كما عبر؛ وفيها دليل على فساد أن الرؤيا على، رجل طائر، فإذا عبرت وقعت.

 

الآية: 45 ( وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون )

 

قوله تعالى: « وقال الذي نجا منهما » يعني ساقي الملك. « وادكر بعد أمة » أي بعد حين، عن ابن عباس وغيره؛ ومنه « إلى أمة معدودة » [ هود: 8 ] وأصله الجملة من الحين. وقال ابن درستويه: والأمة لا تكون الحين إلا على حذف مضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، كأنه قال - والله أعلم - : وادكر بعد حين أمة، أو بعد زمن أمة، وما أشبه ذلك؛ والأمة الجماعة الكثيرة من الناس. قال الأخفش: هو في اللفظ واحد، وفي المعنى جمع؛ وقال جنس من الحيوان أمة؛ وفي الحديث: ( لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأم بقتلها ) . « وادكر » أي تذكر حاجة يوسف، وهو قوله: « اذكرني عند ربك » . وقرأ ابن عباس فيما روى عفان عن همام عن قتادة عن عكرمة عنه - « وادكر بعه أمة » . النحاس: المعروف من قراءة ابن عباس وعكرمة والضحاك « وادكر بعد أمه » بفتح الهمزة وتخفيف الميم؛ أي بعد نسيان؛ قال الشاعر:

أمهت وكنت لا أنسى حديثا كذاك الدهر يودي بالعقول

وعن شبيل بن عزرة الضبعي: « بعد أمه » بفتح الألف وإسكان الميم وهاء خالصة؛ وهو مثل الأمه، وهما لغتان، ومعناهما النسيان؛ ويقال: أمه يأمه أمها إذا نسي؛ فعلى هذا « وادكر بعد أمه » ؛ ذكره النحاس؛ ورجل أمه ذاهب العقل. قال الجوهري: وأما ما في حديث الزهري ( أمه ) بمعنى أقر واعترف فهي لغة غير مشهورة. وقرأ الأشهب العقيلي - « بعد إمة » أي بعد نعمة؛ أي بعد أن أنعم الله عليه بالنجاة. ثم قيل: نسي الفتى يوسف لقضاء الله تعالى في بقائه في السجن مدة. وقيل: ما نسي، ولكنه خاف أن يذكر الملك الذنب الذي بسببه حبس هو والخباز؛ فقوله: « وادكر » أي ذكر وأخبر. قال النحاس: أصل ادكر اذتكر؛ والذال قريبة المخرج من التاء؛ ولم يجز إدغامها فيها لأن الذال مجهورة، والتاء مهموسة، فلو أدغموا ذهب الجهر، فأبدلوا من موضع التاء حرفا مجهورا وهو الدال؛ وكان أولى من الطاء لأن الطاء مطبقة؛ فصار أذدكر، فأدغموا الذال في الدال لرخاوة الدال ولينها. ثم قال: « أنا أنبئكم بتأويله » أي أنا أخبركم. وقرأ الحسن « أنا آتيكم بتأويله » وقال: كيف ينبئهم العلج؟! قال النحاس: ومعنى « أنبئكم » صحيح حسن؛ أي أنا أخبركم إذا سألت. « فأرسلوني » خاطب الملك ولكن بلفظ التعظيم، أو خاطب الملك وأهل مجلسه.

 

الآية: 46 ( يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون )

 

قوله تعالى: « يوسف » نداء مفرد، وكذا « الصديق » أي الكثير الصدق. « أفتنا » أي فأرسلوه، فجاء إلى يوسف فقال: أيها الصديق! وسأله عن رؤيا الملك. « لعلي أرجع إلى الناس » أي إلى الملك وأصحابه. « لعلهم يعلمون » التعبير، أو « لعلهم يعلمون » مكانك من الفضل والعلم فتخرج. ويحتمل أن يريد بالناس الملك وحده تعظيما.

 

الآية: 47 ( قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون )

 

قوله تعالى: « قال تزرعون » لما أعلمه بالرؤيا جعل يفسرها له، فقال: السبع من البقرات السمان والسنبلات الخضر سبع سنين مخصبات؛ وأما البقرات العجاف والسنبلات اليابسات فسبع سنين مجدبات؛ فذلك قوله: « تزرعون سبع سنين دأبا » أي متوالية متتابعة؛ وهو مصدر على غير المصدر، لأن معنى « تزرعون » تدأبون كعادتكم في الزراعة سبع سنين. وقيل: هو حال؛ أي دائبين. وقيل: صفة لسبع سنين، أي دائبة. وحكى أبو حاتم عن يعقوب « دأبا » بتحريك الهمزة، وكذا روى حفص عن عاصم، وهما لغتان، وفيه قولان، قول أبي حاتم: إنه من دئب. قال النحاس: ولا يعرف أهل اللغة إلا دأب. والقول الآخر - إنه حرك لأن فيه حرفا من حروف الحلق؛ قاله الفراء، قال: وكذلك كل حرف فتح أول وسكن ثانية فتثقيله جائز إذا كان ثانيه همزة، أو هاء، أو عينا، أو غينا، أو حاء، أو خاء؛ وأصله العادة؛ قال:

كدأبك من أم الحويرث قبلها

وقد مضى في « آل عمران » القول فيه. « فما حصدتم فذروه في سنبله » قيل: لئلا يتسوس، وليكون أبقى؛ وهكذا الأمر في ديار مصر. « إلا قليلا مما تأكلون » أي استخرجوا ما تحتاجون إليه بقدر الحاجة؛ وهذا القول منه أمر، والأول خبر. ويحتمل أن يكون الأول أيضا أمرا، وإن كان الأظهر منه الخبر؛ فيكون معنى: « تزرعون » أي ازرعوا.

 

هذه الآية أصل في القول بالمصالح الشرعية التي هي حفظ الأديان والنفوس والعقول والأنساب والأموال؛ فكل ما تضمن تحصيل شيء من هذه الأمور فهو مصلحة، وكل ما يفوت شيئا منها فهو مفسدة، ودفعه مصلحة؛ ولا خلاف أن مقصود الشرائع إرشاد الناس إلى مصالحهم الدنيوية؛ ليحصل لهم التمكن من معرفة الله تعالى وعبادته الموصلتين إلى السعادة الأخروية، ومراعاة ذلك فضل من الله عز وجل ورحمة رحم بها عباده، من غير وجوب عليه، ولا استحقاق؛ هذا مذهب كافة المحققين من أهل السنة أجمعين؛ وبسطه في أصول الفقه.

 

الآية: 48 ( ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون )

 

قوله تعالى: « سبع شداد » يعني السنين المجدبات. « يأكلن » مجاز، والمعنى يأكل أهلهن. « ما قدمتم لهن » أي ما ادخرتم لأجلهن؛ ونحوه قول القائل:

نهارك يا مغرور سهو وغفلة وليلك نوم والردى لك لازم

والنهار لا يسهو، والليل لا ينام؛ وإنما يسهى في النهار، وينام في الليل. وحكى زيد بن أسلم عن أبيه: أن يوسف كان يضع طعام الاثنين فيقربه إلى رجل واحد فيأكل بعضه، حتى إذا كان يوم قربه له فأكله كله؛ فقال يوسف: هذا أول يوم من السبع الشداد. « إلا قليلا » نصب على الاستثناء. « مما تحصنون » أي مما تحبسون لتزرعوا؛ لأن في استبقاء البذر تحصين الأقوات. وقال أبو عبيدة: تحرزون. وقال قتادة: « تحصنون » تدخرون، والمعنى واحد؛ وهو يدل على جواز احتكار الطعام إلى وقت الحاجة.

 

هذه الآية أصل في صحة رؤيا الكافر، وأنها تخرج على حسب ما رأى، لا سيما إذا تعلقت بمؤمن؛ فكيف إذا كانت آية لنبي. ومعجزة لرسول، وتصديقا لمصطفى للتبليغ، وحجة للواسطة بين الله - جل جلال - وبين عباده.

 

الآية: 49 ( ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون )

 

قوله تعالى: « ثم يأتي من بعد ذلك عام » هذا خبر من يوسف عليه السلام عما لم يكن في رؤيا الملك، ولكنه من علم الغيب الذي آتاه الله. قال قتادة: زاده الله علم سنة لم يسألوه عنها إظهارا لفضله، وإعلاما لمكانه من العلم وبمعرفته. « فيه يغاث الناس » من الإغاثة أو الغوث؛ غوث الرجل فال واغوثاه، والاسم الغوث والغواث والغواث، واستغاثني فلان فأغثته، والاسم الغياث؛ صارت الواو ياء لكسرة ما قبلها. والغيث المطر؛ وقد غاث الغيث الأرض أي أصابها؛ وغاث الله البلاد يغيثها غيثا، وغيثت الأرض تغاث غيثا، فهي أرض مغيثة ومغيوثة؛ فمعنى « يغاث الناس » يمطرون. « وفيه يعصرون » فال ابن عباس: يعصرون الأعناب والدهن؛ ذكره البخاري. وروى حجاج عن ابن جريح قال: يعصرون العنب خمرا والسمسم دهنا، والزيتون زيتا. وقيل: أراد حلب الألبان لكثرتها؛ ويدل ذلك على كثرة النبات. وقيل: « يعصرون » أي ينجون؛ وهو من العصرة، وهي المنجاة. قال أبو عبيدة والعصر بالتحريك الملجأ والمنجاة، وكذلك العصرة؛ قال أبو زبيد:

صاديا يستغيث غير مغاث ولقد كان عصره المنجود

والمنجود الفزع. واعتصرت بفلان وتعصرت أي التجأت إليه. قال أبو الغوث: « يعصرون » يستغلون؛ وهو من عصر العنب. واعتصرت ماله أي استخرجته من يده. وقرأ عيسى « تعصرون » بضم التاء وفتح الصاد، ومعناه: تمطرون؛ من قول الله: « وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا » [ النبأ: 14 ] وكذلك معنى « تعصرون » بضم التاء وكسر الصاد، فيمن قرأه كذلك.

 

الآيتان: 50 - 51 ( وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم، قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين )

 

قوله تعالى: « وقال الملك ائتوني به » أي فذهب الرسول فأخبر الملك، فقال: ائتوني به. « فلما جاءه الرسول » أي يأمره بالخروج. « قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة » أي حال النسوة. « فاسأله ما بال النسوة » ذكر النساء جملة ليدخل فيهن امرأة العزيز مدخل العموم بالتلويح حتى لا يقع عليها تصريح؛ وذلك حسن عشرة وأدب؛ وفي الكلام محذوف، أي فاسأله أن يتعرف ما بال النسوة. « اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم » فأبى أن يخرج إلا أن تصح براءته عند الملك مما قذف به، وأنه حبس بلا جرم. وروى الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - قال - ولو لبث في، السجن ما لبث ثم جاءني الرسول أجبت - ثم قرأ - « فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي يقطعن أيديهن » - قال - ورحمة الله على لوط لقد كان يأوي إلى ركن شديد إذ قال « لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد فما بعث الله من بعده نبيا إلا في ذروة من قومه ) . وروى البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي ونحن أحق من إبراهيم إذ قال له » أو لم تؤمن قال بلى ولكني ليطمئن قلبي « [ البقرة: 260 ] وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( يرحم الله أخي يوسف لقد كان صابرا حليما ولو لبثت في السجن ما لبثه أجبت الداعي ولم ألتمس العذر ) . وروي نحو هذا الحديث من طريق عبدالرحمن بن القاسم صاحب مالك، في كتاب التفسير من صحيح البخاري، وليس لابن القاسم في الديوان غيره. وفي رواية الطبري ( يرحم الله يوسف لو كنت أنا المحبوس ثم أرسل إلي لخرجت سريعا أن كان لحليما ذا أناة ) . وقال صلى الله عليه وسلم: ( لقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له حين سئل عن البقرات لو كنت مكانه لما أخبرتهم حتى اشترط أن يخرجوني ولقد عجبت منه حين آتاه الرسول ولو كنت مكانه لبادرتهم الباب ) . قال ابن عطية: كان هذا الفعل من يوسف عليه السلام أناة وصبرا، وطلبا لبراءة الساحة؛ وذلك أنه - فيما روي - خشي أن يخرج وينال من الملك مرتبة ويسكت عن أمر ذنبه صفحا فيراه الناس بتلك العين أبدا ويقولون: هذا الذي راود امرأة مولاه؛ فأراد يوسف عليه السلام أن يبين براءته، ويحقق منزلته من العفة والخير؛ وحينئذ يخرج للإحظاء والمنزلة؛ فلهذا قال للرسول: ارجع إلى ربك وقل له ما بال النسوة، ومقصد يوسف عليه السلام إنما كان: وقل له يستقصي عن ذنبي، وينظر في أمري هل سجنت بحق أو بظلم؛ ونكب عن امرأة العزيز حسن عشرة، ورعاية لذمام الملك العزيز له. فإن قيل: كيف مدح النبي صلى الله عليه وسلم يوسف بالصبر والأناة وترك المبادرة إلى الخروج، ثم هو يذهب بنفسه عن حالة قد مدح بها غيره؟ فالوجه في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخذ لنفسه وجها آخر من الرأي، له جهة أيضا من الجودة؛ يقول: لو كنت أنا لبادرت بالخروج، ثم حاولت بيان عذري بعد ذلك، وذلك أن هذه القصص والنوازل هي معرضة لأن يقتدي الناس بها إلى يوم القيامة؛ فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل الناس على الأحزم من الأمور؛ وذلك أن تارك الحزم في مثل هذه النازلة، التارك فرصة الخروج من مثل ذلك السجن، ربما نتج له البقاء في سجنه، وانصرفت نفس مخرجه عنه، وإن كان يوسف عليه السلام أمن من ذلك بعلمه من الله، فغيره من الناس لا يأمن ذلك؛ فالحالة التي ذهب النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه إليها حالة حزم، وما فعله يوسف عليه السلام صبر عظيم وجلد.»

 

قوله تعالى: « فاسأله ما بال النسوة » ذكر النساء جملة ليدخل فيهن امرأة العزيز مدخل العموم بالتلويح حتى لا يقع عليها تصريح؛ وذلك حسن عشرة وأدب؛ وفي الكلام محذوف، أي فاسأله أن يتعرف ما بال النسوة. قال ابن عباس: فأرسل الملك إلى النسوة وإلى امرأة العزيز - وكان قد مات العزيز فدعاهن فـ « قال ما خطبكن » أي ما شأنكن. « إذ راودتن يوسف عن نفسه » وذلك أن كل واحدة منهن كلمت يوسف في حق نفسها، على ما تقدم، أو أراد قول كل واحدة قد ظلمت امرأة العزيز، فكان ذلك مراودة منهن. « قلن حاش لله » أي معاذ الله. « ما علمنا عليه من سوء » أي زنى. « قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق » لما رأت إقرارهن ببراءة يوسف، وخافت أن يشهدن عليها إن أنكرت أقرت هي أيضا؛ وكان ذلك لطفا من الله بيوسف. و « حصحص الحق » أي تبين وظهر؛ وأصله حصص، فقيل: حصحص؛ كما قال: كبكبوا في كببوا، وكفكف في كفف؛ قال الزجاج وغيره. وأصل الحص استئصال الشيء؛ يقال: حص شعره إذا استأصله جزا؛ قال أبو القيس بن الأسلت:

قد حصَّت البيضة رأسي فما أطعم نوما غير تهجاع

وسنة حصَّاء أي جرداء لا خير فيها، قال جرير:

يأوي إليكم بلا من ولا جحد من ساقه السنة الحصا والذيب

كأنه أراد أن يقول: والضبع، وهي السنة المجدبة؛ فوضع الذئب موضعه لأجل القافية؛ فمعنى « حصحص الحق » أي انقطع عن الباطل، بظهوره وثباته؛ قال:

ألا مبلغ عني خداشا فإنه كذوب إذا ما حصحص الحق ظالم

وقيل: هو مشتق من الحصة؛ فالمعنى: بانت حصة الحق من حصة الباطل. وقال مجاهد وقتادة: وأصله مأخوذ من قولهم؛ حص شعره إذا استأصل قطعه؛ ومنه الحصة من الأرض إذا قطعت منها. والحصحص بالكسر التراب والحجارة؛ ذكره الجوهري. « أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين » وهذا القول منها - وإن لم يكن سأل عنه - إظهار لتوبتها وتحقيق لصدق يوسف وكرامته؛ لأن إقرار المقر على نفسه أقوى من الشهادة عليه؛ فجمع الله تعالى ليوسف لإظهار صدقه الشهادة والإقرار، حتى لا يخامر نفسا ظن، ولا يخالطها شك. وشددت النون في « خطبكن » و « راودتن » لأنها بمنزلة الميم والواو في المذكر.

 

الآية: 52 ( ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين )

 

قوله تعالى: « ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب » اختلف فيمن قاله، فقيل: هو من، قول امرأة العزيز، وهو متصل بقولها: « الآن حصحص الحق » أي أقررت بالصدق ليعلم أني لم أخنه بالغيب أي بالكذب عليه، ولم أذكره بسوء وهو غائب، بل صدقت وحدت عن الخيانة؛ ثم قالت: « وما أبرئ نفسي » بل أنا راودته؛ وعلى هذا هي كانت مقرة بالصانع، ولهذا قالت: « إن ربي غفور رحيم » . وقيل: هو من قول يوسف؛ أي قال يوسف: ذلك الأمر الذي فعلته، من رد الرسول « ليعلم » العزيز « أني لم أخنه بالغيب » قاله الحسن وقتادة وغيرهما. ومعنى « بالغيب » وهو غائب. وإنما قال يوسف ذلك بحضرة الملك، وقال: « ليعلم » على الغائب توقيرا للملك. وقيل: قاله إذ عاد إليه الرسول وهو في السجن بعد؛ قال ابن عباس: جاء الرسول إلى يوسف عليه السلام بالخبر وجبريل معه يحدثه؛ فقال يوسف: « ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين » أي لم أخن سيدي بالغيب؛ فقال له جبريل عليه السلام: يا يوسف! ولا حين حللت الإزار، وجلست مجلس الرجل من المرأة؟! فقال يوسف: « وما أبرئ نفسي » الآية. وقال السدي: إنما قالت له امرأة العزيز ولا حين حللت سراويلك يا يوسف؟! فقال يوسف: « وما أبرئ نفسي » . وقيل: « ذلك ليعلم » من قول العزيز؛ أي ذلك ليعلم يوسف أني لم أخنه بالغيب، وأني لم أغفل عن مجازاته على أمانته. « وأن الله لا يهدي كيد الخائنين » معناه: أن الله لا يهدي الخائنين بكيدهم.