الجزء الثالث عشر

 

الآية: 53 ( وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم )

 

قوله تعالى: « وما أبرئ نفسي » قيل: هو من قول المرأة. وقال القشيري: فالظاهر أن قوله: « ذلك ليعلم » وقوله: « وما أبرئ نفسي » من قول يوسف.

قلت: إذا احتمل أن يكون من قول المرأة فالقول به أولى حتى نبرئ يوسف من حل الإزار والسراويل؛ وإذا قدرناه من قول يوسف فيكون مما خطر بقلبه، على ما قدمناه من القول المختار في قوله: « وهم بها » . قال أبو بكر الأنباري: من الناس من يقول: « ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب » إلى قوله: « إن ربي غفور رحيم » من كلام امرأة العزيز؛ لأنه متصل بقولها: « أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين » [ يوسف: 51 ] وهذا مذهب الذين ينفون الهم عن يوسف عليه السلام؛ فمن بنى على قولهم قال: من قوله: « قالت امرأة العزيز » [ يوسف: 51 ] إلى قوله: « إن ربي غفور رحيم » كلام متصل بعضه ببعض، ولا يكون فيه وقف تام على حقيقة؛ ولسنا نختار هذا القول ولا نذهب إليه. وقال الحسن: لما قال يوسف « ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب » كره نبي الله أن يكون قد زكى نفسه فقال: « وما أبرئ نفسي » لأن تزكية النفس مذمومة؛ قال الله تعالى: « فلا تزكوا أنفسكم » [ النجم: 32 ] وقد بيناه في « النساء » . وقيل: هو من قول العزيز؛ أي وما أبرئ نفسي من سوء الظن بيوسف. « إن النفس لأمارة بالسوء » أي مشتهية له. « إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم » « إلا ما رحم ربي » في موضع نصب بالاستثناء؛ و « ما » بمعنى من؛ أي إلا من رحم ربي فعصمه؛ و « ما » بمعنى من كثير؛ قال الله تعالى: « فانكحوا ما طاب لكم من النساء » [ النساء: 3 ] وهو استثناء منقطع، لأنه استثناء المرحوم بالعصمة من النفس الأمارة بالسوء؛ وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما تقولون في صاحب لكم إن أنتم أكرمتموه وأطعمتموه وكسوتموه أفضى بكم إلى شر غاية وإن أهنتموه وأعريتموه وأجعتموه أفضى بكم إلى خير غاية ) قالوا: يا رسول الله! هذا شر صاحب في الأرض. فال: ( فوالذي نفسي بيده إنها لنفوسكم التي بين جنوبكم ) .

 

الآية: 54 ( وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين )

 

قوله تعالى: « وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي » لما ثبت للملك براءته مما نسب إليه؛ وتحقق في القصة أمانته، وفهم أيضا صبره وجلده عظمت منزلته عنده، وتيقن حسن خلال قال: « ائتوني به استخلصه لنفسي » فانظر إلى قول الملك أولا - حين تحقق علمه - « ائتوني به » فقط، فلما فعل يوسف ما فعل ثانيا قال: « ائتوني به استخلصه لنفسي » وروي عن وهب بن منبه قال: لما دعي يوسف وقف بالباب فقال: حسبي ربي من خلقه، عز جاره وجل ثناؤه ولا إله غيره. ثم دخل فلما نظر إليه الملك نزل عن سريره فخر له ساجدا؛ ثم أقعده الملك معه على سريره فقال. « إنك اليوم لدينا مكين أمين » قال له يوسف « اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ » [ يوسف: 55 ] بوجوه تصرفاتها. وقيل: حافظ للحساب، عليم بالألسن. وفي الخبر: ( يرحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته ولكن أخر ذلك سنة ) . وقيل: إنما تأخر تمليكه إلى سنة لأنه لم يقل إن شاء الله. وقد قيل في هذه القصة: إن يوسف عليه السلام لما دخل على الملك قال: اللهم إني أسألك بخيرك من خيره، وأعوذ بك، من شره وشر غيره؛ ثم سلم على الملك بالعربية فقال: ما هذا اللسان؟ فال: هذا لسان عمي إسماعيل، ثم دعا له بالعبرانية فقال: ما هذا اللسان؟ قال: لسان آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب؛ وكان الملك يتكلم بسبعين لسانا، فكلما تكلم الملك بلسان أجابه يوسف بذلك اللسان، فأعجب الملك أمره، وكان يوسف إذ ذاك ابن ثلاثين سنة؛ ثم أجلسه على سريره وقال: أحب أن أسمع منك رؤياي، قال يوسف نعم أيها الملك! رأيت سبع بقرات سمان شهبا غرا حسانا، كشف لك عنهن النيل فطلعن عليك من شاطئه تشخب أخلافها لبنا؛ فبينا أنت تنظر إليهن وتتعجب من حسنهن إذ نضب النيل فغار ماؤه، وبدا أسه، فخرج من حمئه ووحله سبع بقرات عجاف شعث غبر مقلصات البطون، ليس لهن ضروع ولا أخلاف،، لهن أنياب وأضراس، وأكف كأكف الكلاب وخراطيم كخراطيم السباع، فاختلطن بالسمان فافترسنهن افتراس السباع، فأكلن لحومهن، ومزقن جلودهن، وحطمن عظامهن، ومشمشن مخهن؛ فبينا أنت تنظر وتتعجب كيف غلبنهن وهن مهازيل! ثم لم يظهر منهن سمن ولا زيادة بعد أكلهن! إذا بسبع سنابل خضر طريات ناعمات ممتلئات حبا وماء، وإلى جانبهن سبع يابسات ليس فيهن ماء ولا خضرة في منبت واحد، عروقهن في الثرى والماء، فبينا أنت تقول في نفسك: أي شيء هذا؟! هؤلاء خضر مثمرات، وهؤلاء سود يابسات، والمنبت واحد، وأصولهن في الماء، إذ هبت ريح فذرت الأوراق من اليابسات السود على الخضر المثمرات، فأشعلت فيهن النار فأحرقتهن؛ فصرن سودا مغبرات؛ فانتبهت مذعورا أيها الملك؛ فقال الملك: والله ما شأن هذه الرؤيا وإن كان عجبا بأعجب مما سمعت منك! فما ترى في رؤياي أيها الصديق؟ فقال يوسف: أرى أن تجمع الطعام، وتزرع زرعا كثيرا في هذه السنين المخصبة؛ فإنك لو زرعت على حجر أو مدر لنبت، وأظهر الله فيه النماء والبركة، ثم ترفع الزرع في قصبه وسنبله تبني له المخازن العظام؛ فيكون القصب والسنبل علفا للدواب، وحبه للناس، وتأمر الناس فيرفعون من طعامهم إلى أهرائك الخمس؛ فيكفيك من الطعام الذي جمعته لأهل مصر ومن حولها، ويأتيك الخلق من النواحي يمتارون منك، ويجتمع عندك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد قبلك؛ فقال الملك: ومن لي بتدبير هذه الأمور؟ ولو جمعت أهل مصر جميعا ما أطاقوا، ولم يكونوا فيه أمناء؛ فقال يوسف عليه السلام عند ذلك: « اجعلني على خزائن الأرض » [ يوسف: 55 ] أي على خزائن أرضك؛ وهي جمع خزانة؛ ودخلت الألف واللام عوضا من الإضافة، كقول النابغة:

لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم من الجود والأحلام غير كواذب

 

قوله تعالى: « استخلصه لنفسي » جزم لأنه جواب الأمر؛ وهذا يدل على أن قوله: « ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب » جرى في السجن. ويحتمل أنه جرى عند الملك ثم قال في مجلس آخر: « ائتوني به » [ يوسف: 50 ] تأكيدا « استخلصه لنفسي » أي اجعله خالصا لنفسي، أفوض إليه أمر مملكتي؛ فذهبوا فجاؤوا به؛ ودل على هذا قوله: « فلما كلمه » أي كلم الملك يوسف، وسأله عن الرؤيا فأجاب يوسف؛ « قال إنك اليوم لدينا مكين » « قال » الملك: « إنك اليوم لدينا مكين أمين » أي متمكن نافذ القول، « أمين » لا تخاف غدرا.

 

الآية: 55 ( قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم )

 

قوله تعالى: « قال اجعلني على خزائن الأرض » قال سعيد بن منصور: سمعت مالك بن أنس يقول: مصر خزانة الأرض؛ أما سمعت إلى قوله: « اجعلني على خزائن الأرض » أي على حفظها، فحذف المضاف. « إني حفيظ » لما وليت « عليم » بأمره. وفي التفسير: إني حاسب كاتب؛ وأنه أول من كتب في القراطيس. وقيل: « حفيظ » لتقدير الأقوات « عليم » بسني المجاعات. قال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال قال وسول الله صلى الله عليه وسلم: ( رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته ولكن أخر ذلك عنه سنة ) .

قال ابن عباس: لما انصرمت السنة من يوم سأل الإمارة دعاه الملك فتوجه ورداه بسيفه، ووضع له سريرا من ذهب، مكللا بالدر والياقوت، وضرب عليه حلة من إستبرق؛ وكان طول السرير ثلاثين ذراعا وعرضه عشرة أذرع، عليه ثلاثون فراشا وستون مرفقه، ثم أمره أن يخرج، فخرج متوجا، لونه كالثلج، ووجهه كالقمر؛ يرى الناظر وجهه من صفاء لون وجهه، فجلس على السرير ودانت له الملوك، ودخل الملك بيته مع نسائه، وفوض إليه أمر مصر، وعزل قطفير عما كان عليه وجعل يوسف مكانه. قال ابن زيد: كان لفرعون ملك مصر خزائن كثيرة غير الطعام، فسلم سلطانه كله إليه، وهلك قطفير تلك الليالي، فزوج الملك يوسف راعيل امرأة العزيز، فلما دخل عليها قال: أليس هذا خيرا مما كنت تريدين؟! فقالت: أيها الصديق لا تلمني؛ فإني كنت امرأة حسناء ناعمة كما ترى، وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله من الحسن فغلبتني نفسي. فوجدها يوسف عذراء فأصابها فولدت له رجلين: إفراثيم بن يوسف، ومنشا بن يوسف. وقال وهب بن منبه: إنما كان تزويجه زليخاء امرأة العزيز بين دخلتي الإخوة، وذلك أن زليخاء مات زوجها ويوسف في السجن، وذهب مالها وعمي بصرها بكاء على يوسف، فصارت تتكفف الناس، فمنهم من يرحمها ومنهم من لا يرحمها، وكان يوسف يركب في كل أسبوع مرة في موكب زهاء مائة ألف من عظماء قومه، فقيل لها: لو تعرضت له لعله يسعفك بشيء؛ ثم قيل لها: لا تفعلي، فربما ذكر بعض ما كان منك من المراودة والسجن فيسيء إليك، فقالت: أنا أعلم بخلق حبيبي منكم، ثم تركته حتى إذا ركب في موكبه، قامت فنادت بأعلى صوتها: سبحان من جعل الملوك عبيدا بمعصيتهم، وجعل العبيد ملوكا بطاعتهم، فقال يوسف: ما هذه؟ فأتوا بها؛ فقالت: أنا التي كنت أخدمك على صدور قدمي، وأرجل جمتك، بيدي، وتربيت في بيتي، وأكرمت مثواك، لكن فرط ما فرط من جهلي وعتوي فذقت وبال أمري، فذهب مالي، وتضعضع ركني، وطال ذلي، وعمي بصري، وبعدما كنت مغبوطة أهل مصر صرت مرحومتهم، أتكفف الناس، فمنهم من يرحمني، ومنهم من لا يرحمني، وهذا جزاء المفسدين؛ فبكى يوسف بكاء شديدا، ثم قال لها: هل بقيت تجدين مما كان في نفسك من حبك لي شيئا؟ فقالت: والله لنظرة إلى وجهك أحب إلي من الدنيا بحذافيرها، لكن ناولني صدر سوطك، فناولها فوضعته على صدرها، فوجد للسوط في يده اضطرابا وارتعاشا من خفقان قلبها، فبكى ثم مضى إلى منزله فأرسل إليها رسولا: إن كنت أيما تزوجناك، وإن كنت ذات بعل أغنيناك، فقالت للرسول: أعوذ بالله أن يستهزئ بي الملك! لم يردني أيام شبابي وغناي ومالي وعزي أفيريدني اليوم وأنا عجوز عمياء فقيرة؟! فأعلمه الرسول بمقالتها، فلما ركب في الأسبوع الثاني تعرضت له، فقال لها: ألم يبلغك الرسول؟ فقالت: قد أخبرتك أن نظرة واحدة إلى وجهك أحب إلي من الدنيا وما فيها؛ فأمر بها فأصلح من شأنها وهيئت، ثم زفت إليه، فقام يوسف يصلي ويدعو الله، وقامت وراءه، فسأل الله تعالى أن يعيد إليها شبابها وجمالها وبصرها، فرد الله عليها شبابها وجمالها وبصرها حتى عادت أحسن ما كانت يوم راودته، إكراما ليوسف عليه السلام لما عف عن محارم الله، فأصابها فإذا هي عذراء، فسألها؛ فقالت: يا نبي الله إن زوجي كان عنينا لا يأتي النساء، وكنت أنت من الحسن والجمال بما لا يوصف؛ قال: فعاشا في خفض عيش، في كل يوم يجدد الله لهما خيرا، وولدت له ولدين؛ إفراثيم ومنشا. وفيما روي أن الله تعالى ألقى في قلب يوسف من محبتها أضعاف ما كان في قلبها، فقال لها: ما شأنك لا تحبينني كما كنت في أول مرة؟ فقالت له: لما ذقت محبة الله تعالى شغلني ذلك عن كل شيء.

 

قال بعض أهل العلم: في هذه الآية ما يبيح للرجل الفاضل أن يعمل للرجل الفاجر، والسلطان الكافر، بشرط أن يعلم أنه يفوض إليه في فعل لا يعارضه فيه، فيصلح منه ما شاء؛ وأما إذا كان عمله بحسب اختيار الفاجر وشهواته وفجوره فلا يجوز ذلك. وقال قوم: إن هذا كان ليوسف خاصة، وهذا اليوم غير جائز؛ والأول أولى إذا كان على الشرط الذي ذكرناه. والله أعلم. قال الماوردي: فان كان المولي ظالما فقد اختلف الناس في جواز الولاية من قبله على قولين: أحدهما - جوازها إذا عمل بالحق فيما تقلده؛ لأن يوسف ولي من قبل فرعون، ولأن الاعتبار في حقه بفعله لا بفعل غيره. الثاني: أنه لا يجوز ذلك؛ لما فيه من تولي الظالمين بالمعونة لهم، وتزكيتهم بتقلد أعمالهم؛ فأجاب من ذهب إلى هذا المذهب عن ولاية يوسف من قبل فرعون بجوابين: أحدهما: أن فرعون يوسف كان صالحا، وإنما الطاغي فرعون موسى. الثاني: أنه نظر في أملاكه دون أعماله، فزالت عنه التبعة فيه. قال الماوردي: والأصح من إطلاق هذين القولين أن يفصل ما يتولاه من جهة الظالم على ثلاثة أقسام: أحدها: ما يجوز لأهله فعله من غير اجتهاد في تنفيذه كالصدقات والزكوات، فيجوز توليه من جهة الظالم، لأن النص على مستحقه قد أغنى عن الاجتهاد فيه، وجواز تفرد أربابه به قد أغنى عن التقليد. والقسم الثاني: ما لا يجوز أن يتفردوا به ويلزم الاجتهاد في مصرفه كأموال الفيء، فلا يجوز توليه من جهة الظالم؛ لأنه يتصرف بغير حق، ويجتهد فيما لا يستحق. والقسم الثالث: ما يجوز أن يتولاه لأهله، وللاجتهاد فيه مدخل كالقضايا والأحكام، فعقد التقليد محلول، فإن كان النظر تنفيذا للحكم بين متراضيين، وتوسطا بين مجبورين جاز، وإن كان إلزام إجبار لم يجز.

 

ودلت الآية أيضا على جواز أن يخطب الإنسان عملا يكون له أهلا؛ فإن قيل: فقد روى مسلم عن عبدالرحمن بن سمرة قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا عبدالرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها ) . وعن أبي بردة قال قال أبو موسى: أقبلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعي رجلان من الأشعريين، أحدهما عن يميني والآخر عن يساري، فكلاهما سأل العمل، والنبي صلى الله عليه وسلم يستاك، فقال: ( ما تقول يا أبا موسى - أو يا عبدالله بن قيس ) . قال قلت: والذي بعثك بالحق ما أطلعاني على ما في أنفسهما، وما شعرت أنهما يطلبان العمل، قال: وكأني أنظر إلى سواكه تحت شفته وقد قلصت، فقال: ( لن - أو - لا نستعمل على عملنا من أراده ) وذكر الحديث؛ خرجه مسلم أيضا وغيره؛ فالجواب: أولا: أن يوسف عليه السلام إنما طلب الولاية لأنه علم أنه لا أحد يقوم مقامه في العدل والإصلاح وتوصيل الفقراء إلى حقوقهم فرأى أن ذلك فرض متعين عليه فإنه لم يكن هناك غيره، وهكذا الحكم اليوم، لو علم إنسان من نفسه أنه يقوم بالحق في القضاء أو الحسبة ولم يكن هناك من يصلح ولا يقوم مقامه لتعين ذلك عليه، ووجب أن يتولاها ويسأل ذلك، ويخبر بصفاته التي يستحقها به من العلم والكفاية وغير ذلك، كما قال يوسف عليه السلام، فأما لو كان هناك من يقوم بها ويصلح لها وعلم بذلك فالأولى ألا يطلب؛ لقول عليه السلام، لعبدالرحمن: ( لا تسأل، الإمارة وأيضا فإن في سؤالها والحرص عليها مع العلم بكثرة آفاتها وصعوبة التخلص منها دليل على، أنه يطلبها لنفسه ولأغراضه، ومن كان هكذا يوشك أن تغلب عليه نفسه فيهلك؛ وهذا معنى قوله عليه السلام: ( وكل إليها ) ومن أباها لعلمه بآفاتها، ولخوفه من التقصير في حقوقها فر منها، ثم إن ابتلي بها فيرجى له التخلص منها، وهو معنى قوله: ( أعين عليها ) . الثاني: أنه لم يقل: إني حسيب كريم، وإن كان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ) ولا قال: إني جميل مليح، إنما قال: « إني حفيظ عليم » فسألها بالحفظ والعلم، لا بالنسب والجمال. الثالث: إنما قال ذلك عند من لا يعرفه فأراد تعريف نفسه، وصار ذلك مستثنى من قوله تعالى: « فلا تزكوا أنفسكم » . الرابع: أنه رأى ذلك فرضا متعينا عليه؛ لأنه لم يكن هنالك غيره، وهو الأظهر، والله أعلم.

 

ودلت الآية أيضا على أنه يجوز للإنسان أن يصف نفسه بما فيه من علم وفضل؛ قال الماوردي: وليس هذا على الإطلاق في عموم الصفات، ولكنه مخصوص فيما اقترن بوصله، أو تعلق بظاهر من مكسب، وممنوع منه فيما سواه، لما فيه من تزكية ومراءاة، ولو ميزه الفاضل عنه لكان أليق بفضله؛ فإن يوسف دعته الضرورة إليه لما سبق من حاله، ولما يرجو من الظفر بأهله.

 

الآية: 56 ( وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين )

 

قوله تعالى: « وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء » أي ومثل هذا الإنعام الذي أنعمنا عليه في تقريبه إلى قلب الملك، وإنجائه من السجن مكنا له في الأرض؛ أي أقدرناه على ما يريد. وقال الكيا الطبري قوله تعالى: « وكذلك مكنا ليوسف في الأرض » دليل على إجازة الحيلة في التوصل إلى المباح، وما فيه الغبطة والصلاح، واستخراج الحقوق، ومثله قوله تعالى: « وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث » [ ص: 44 ] وحديث أبي سعيد الخدري في عامل خيبر، والذي أداه من التمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما قاله.

قلت: وهذا مردود على ما يأتي. يقال: مكناه ومكنا له، قال الله تعالى: « مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم » [ الأنعام: 6 ] . قال الطبري: استخلف الملك الأكبر الوليد بن الريان يوسف على عمل إطفير وعزله؛ فال مجاهد: وأسلم على يديه. قال ابن عباس: ملكه بعد سنة ونصف. وروى مقاتل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لو أن يوسف قال إني حفيظ عليم إن شاء الله لملك في وقته ) . ثم مات إطفير فزوجه الوليد بزوجة إطفير راعيل، فدخل بها يوسف فوجدها عذراء، وولدت له ولدين: إفراثيم ومنشا، ابني يوسف، ومن زعم أنها زليخاء قال: لم يتزوجها يوسف، وأنها لما رأته في موكبه بكت، ثم قالت: الحمد لله الذي جعل الملوك عبيدا بالمعصية، والحمد لله الذي جعل العبيد بالطاعة ملوكا، فضمها إليه، فكانت من عياله حتى ماتت عنده، ولم يتزوجها؛ ذكره الماوردي؛ وهو خلاف ما تقدم عن وهب، وذكره الثعلبي؛ فالله أعلم. ولما فوض الملك أمر مصر إلى يوسف تلطف بالناس، وجعل يدعوهم إلى الإسلام حتى آمنوا به، وأقام فيهم العدل، فأحبه الرجال والنساء، قال وهب والسدي وابن عباس وغيرهم: ثم دخلت السنون المخصبة، فأمر يوسف بإصلاح المزارع، وأمرهم أن يتوسعوا في الزراعة، فلما أدركت الغلة أمر بها فجمعت، ثم بنى لها الأهرام، فجمعت فيها في تلك السنة غلة ضاقت عنها المخازن لكثرتها، ثم جمع عليه غلة كل سنة كذلك، حتى إذا انقضت السبع المخصبة وجاءت السنون المجدبة نزل جبريل وقال: يا أهل مصر جوعوا؛ فإن الله سلط عليكم الجوع سبع سنين.

وقال بعض أهل الحكمة: للجوع والقحط علامتان: إحداهما: أن النفس تحب الطعام أكثر من العادة، ويسرع إليها الجوع خلاف ما كانت عليه قبل ذلك، وتأخذ من الطعام فوق الكفاية. والثانية: أن يفقد الطعام فلا يوجد رأسا ويعز إلى الغاية، فاجتمعت هاتان العلامتان في عهد يوسف، فانتبه الرجال والنساء والصبيان ينادون الجوع الجوع!! ويأكلون ولا يشبعون، وانتبه الملك، ينادى الجوع الجوع!! قال: فدعا له يوسف فأبرأه الله من ذلك، ثم أصبح فنادى يوسف في أرض مصر كلها؛ معاشر الناس! لا يزرع أحد زرعا فيضيع البذر ولا يطلع شيء. وجاءت تلك السنون بهول عظيم لا يوصف؛ قال ابن عباس: لما كان ابتداء القحط بينا الملك في جوف الليل أصابه الجوع في نصف الليل، فهتف الملك يا يوسف! الجوع الجوع!! فقال يوسف: هذا أوان القحط؛ فلما دخلت أول سنة من سني القحط هلك فيها كل شيء أعدوه في السنين المخصبة، فجعل أهل مصر يبتاعون الطعام من يوسف؛ فباعهم أول سنة بالنقود، حتى لم يبق بمصر دينار ولا درهم إلا قبضه؛ وباعهم في السنة الثانية بالحلي والجواهر، حتى لم يبق في أيدي الناس منها شيء؛ وباعهم في السنة الثالثة بالمواشي والدواب، حتى احتوى عليها أجمع، وباعهم في السنة الرابعة بالعبيد والإماء، حتى احتوى على الكل؛ وباعهم في السنة الخامسة بالعقار والضياع، حتى ملكها كلها؛ وباعهم في السنة السادسة بأولادهم ونسائهم فاسترقهم جميعا وباعهم في السنة السابعة برقابهم، حتى لم يبق في السنة السابعة بمصر حر ولا عبد إلا صار عبدا له؛ فقال الناس: والله ما رأينا ملكا أجل ولا أعظم من هذا؛ فقال يوسف لملك مصر: كيف رأيت صنع ربي فيما خولني! والآن كل هذا لك، فما ترى فيه؟ فقال: فوضت إليك الأم فافعل ما شئت، وإنما نحن لك تبع؛ وما أنا بالذي يستنكف عن عبادتك وطاعتك، ولا أنا إلا من بعض مماليكك، وخول من خولك؛ فقال يوسف عليه السلام: إني لم أعتقهم من الجوع لأستعبدهم، ولم أجرهم من البلاء لأكون عليهم بلاء؛ وإني أشهد الله وأشهدك أني أعتقت أهل مصر عن آخرهم، ووددت عليهم أموالهم وأملاكهم، ورددت عليك ملكك بشرط أن تستن بسنتي. ويروى أن يوسف عليه السلام كان لا يشبع من طعام في تلك السنين، فقيل له: أتجوع وبيدك خزائن الأرض؟ فقال: إني أخاف إن شبعت أن أنسى الجائع؛ وأمر يوسف طباخ الملك أن يجعل غذاءه نصف النهار، حتى يذوق، الملك طعم الجوع. فلا ينسى الجائعين؛ فمن ثم جعل الملوك غذاءهم نصف النهار.

 

قوله تعالى: « نصيب برحمتنا من نشاء » أي بإحساننا؛ والرحمة النعمة والإحسان. « »

 

قوله تعالى: « ولا نضيع أجر المحسنين » أي ثوابهم. وقال ابن عباس ووهب: يعني الصابرين؛ لصبره في الجب، وفي الرق، وفي السجن، وصبره عن محارم الله عما دعته إليه المرأة. وقال الماوردي: واختلف فيما أوتيه يوسف من هذه الحال على قولين: أحدهما: أنه ثواب من الله تعالى على ما ابتلاه. الثاني: أنه أنعم الله عليه بذلك تفضلا منه عليه، وثوابه باق على حاله في الآخرة.

 

الآية: 57 ( ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون )

 

أي ما نعطيه في الآخرة خير وأكثر مما أعطيناه في الدنيا؛ لأن أجر الآخرة دائم، وأجر الدنيا ينقطع؛ وظاهر الآية العموم في كل مؤمن متق؛ وأنشدوا:

أما في رسول الله يوسف أسوة لمثلك محبوسا على الظلم والإفك

أقام جميل الصبر في الحبس برهة فآل به الصبر الجميل إلى الملك

وكتب بعضهم إلى صديق له:

وراء مضيق الخوف متسع الأمن وأول مفروج به آخر الحزن

فلا تيأسن فالله ملك يوسفا خزائنه بعد الخلاص من السجن

وأنشد بعضهم:

إذا الحادثات بلغن النهي وكادت تذوب لهن المهج

وحل البلاء وقل العزاء فعند التناهي يكون الفرج

والشعر في هذا المعنى كثير.

 

الآية: 58 ( وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون )

 

قوله تعالى: « وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه » أي جاؤوا إلى مصر لما أصابهم القحط ليمتاروا؛ وهذا من اختصار القرآن المعجز. قال ابن عباس وغيره: لما أصاب الناس القحط والشدة، ونزل ذلك بأرض كنعان بعث يعقوب عليه السلام ولده للميرة، وذاع أمر يوسف عليه السلام في الآفاق، للينه وقربه ورحمته ورأفته وعدل وسيرته؛ وكان يوسف عليه السلام حين نزلت الشدة بالناس، يجلس للناس عند البيع بنفسه، فيعطيهم من الطعام على عدد رؤوسهم، لكل رأس وسقا. « فعرفهم » يوسف « وهم له منكرون » لأنهم خلقوه صبيا، ولم يتوهموا أنه بعد العبودية يبلغ إلى تلك الحال من المملكة، مع طول المدة؛ وهي أربعون سنة. وقيل: أنكروه لأنهم اعتقدوا أنه ملك كافر: وقيل: رأوه لابس حرير، وفي عنقه طوق ذهب، وعلى رأسه تاج، وقد تزيا بزي فرعون مصر؛ ويوسف رآهم على ما كان عهدهم في الملبس والحلية. ويحتمل أنهم رأوه وراء ستر فلم يعرفوه. وقيل: أنكروه لأمر خارق امتحانا امتحن الله به يعقوب.

 

الآية: 59 ( ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين )

 

قوله تعالى: « ولما جهزهم بجهازهم » يقال: جهزت القوم تجهيزا أي تكلفت لهم بجهازهم للسفر؛ وجهاز العروس ما يحتاج إليه عند الإهداء إلى الزوج؛ وجوز بعض الكوفيين الجهاز بكسر الجيم؛ والجهاز في هذه الآية الطعام الذي امتاروه من عنده. قال السدي: وكان مع إخوة يوسف أحد عشر بعيرا، وهم عشرة، فقالوا ليوسف: إن لنا أخا تخلف عنا، وبعيره معنا؛ فسألهم لم تخلف؟ فقالوا: لحب أبيه إياه، وذكروا له أنه كان له أخ أكبر منه فخرج إلى البرية فهلك؛ فقال لهم: أردت أن أرى أخاكم هذا الذي ذكرتم، لأعلم وجه محبة أبيكم إياه، وأعلم صدقكم؛ ويروى أنهم تركوا عنده شمعون رهينة، حتى يأتوا بأخيه بنيامين. وقال ابن عباس: قال يوسف للترجمان قل لهم: لغتكم مخالفة للغتنا، وزيكم مخالف لزينا، فلعلكم جواسيس؛ فقالوا: والله! ما نحن بجواسيس، بل نحن بنو أب واحد، فهو شيخ صديق؛ قال: فكم عدتكم؟ قالوا: كنا اثني عشر فذهب أخ لنا إلى البرية فهلك فيها؛ قال: فأين الآخر؟ قالوا: عند أبينا؛ قال: فمن يعلم صدقكم؟ قالوا: لا يعرفنا ههنا أحد، وقد عرفناك أنسابنا، فبأي شيء تسكن نفسك إلينا؟ فقال يوسف: « ائتوني بأخ لكم من أبيكم » إن كنتم صادقين؛ فأنا أرضى بذلك

 

قوله تعالى: « ألا ترون أني أوفي الكيل » أي أتمه ولا أبخسه، وأزيدكم حمل بعير لأخيكم ويحتمل وجهين: أحدهما: أنه رخص لهم في السعر فصار زيادة في الكيل. والثاني: أنه كال لهم بمكيال واف. « وأنا خير المنزلين » فيه وجهان: أحدهما: أنه خير المضيفين، لأنه أحسن ضيافتهم؛ قال مجاهد. الثاني: وهو محتمل؛ أي خير من نزلتم عليه من المأمونين؛ وهو على التأويل الأول مأخوذ من النزل وهو الطعام، وعلى الثاني من المنزل وهو الدار.

 

الآية: 60 ( فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون )

 

قوله تعالى: « فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي » أي فلا أبيعكم شيئا فيما بعد، لأنه قد وفاهم كيلهم في هذه الحال. « ولا تقربون » أي لا أنزلكم عندي منزلة القريب، ولم يرد أنهم يبعدون منه ولا يعودون إليه؛ لأنه على العود حثهم. قال السدي: وطلب منهم رهينة حتى يرجعوا؛ فارتهن شمعون عنده؛ قال الكلبي: إنما اختار شمعون منهم لأنه كان يوم الجب أجملهم قولا، وأحسنهم رأيا. و « تقربون » في موضع جزم بالنهي، فلذلك حذفت منه النون وحذفت الياء؛ لأنه رأس آية؛ ولو كان خبرا لكان « تقربون » بفتح النون.

 

الآية: 61 ( قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون )

 

قوله تعالى: « قالوا سنراود عنه أباه » أي سنطلبه منه، ونسأله أن يرسله معنا. « وإنا لفاعلون » أي لضامنون المجيء به، ومحتالون في ذلك.

 

مسألة: إن قيل: كيف استجاز يوسف إدخال الحزن على أبيه بطلب أخيه؟ قيل له: عن هذا أربعة أجوبة: أحدها: يجوز أن يكون الله عز وجل أمره بذلك ابتلاء ليعقوب، ليعظم له الثواب؛ فاتبع أمره فيه. الثاني: يجوز أن يكون أراد بذلك أن ينبه يعقوب على حال يوسف عليهما السلام. الثالث: لتتضاعف المسرة ليعقوب برجوع ولديه عليه. الرابع: ليقدم سرور أخيه بالاجتماع معه قبل إخوته؛ لميل كان منه إليه؛ والأول أظهر. والله أعلم.

 

الآية: 62 ( وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون )

 

قوله تعالى: « وقال لفتيته » هذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم؛ وهي اختيار أبي حاتم والنحاس وغيرهما. وقرأ سائر الكوفيين « لفتيانه » وهو اختيار أبي عبيد؛ وقال: هو في مصحف عبدالله كذلك. قال الثعلبي: وهما لغتان جيدتان؛ مثل الصبيان والصبية قال النحاس: « لفتيانه » مخالف للسواد الأعظم؛ لأنه في السواد لا ألف فيه ولا نون، ولا يترك السواد المجتمع عليه لهذا الإسناد المنقطع؛ وأيضا فإن فتية أشبه من فتيان؛ لأن فتية عند العرب لأقل العدد، والقليل بأن يجعلوا البضاعة في الرحال أشبه. وكان هؤلاء الفتية يسوون جهازهم، ولهذا أمكنهم جعل بضاعتهم في رحالهم. ويجوز أن يكونوا أحرارا، وكانوا أعوانا له، وبضاعتهم أثمان ما اشتروه من الطعام. وقيل: كانت دراهم ودنانير. وقال ابن عباس: النعال والأدم ومتاع المسافر، ويسمى رحلا؛ قال ابن الأنباري: يقال للوعاء رحل، وللبيت رحل. وقال: « لعلهم يعرفونها » لجواز ألا تسلم في الطريق. وقيل: إنما فعل ذلك ليرجعوا إذا وجدوا ذلك؛ لعلمه أنهم لا يقبلون الطعام إلا بثمنه. قيل: ليستعينوا بذلك على الرجوع لشراء الطعام. وقيل: استقبح أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمن الطعام. وقيل: ليروا فضله، ويرغبوا في الرجوع إليه.

 

الآية: 63 ( فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون )

 

قوله تعالى: « فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل » لأنه قال لهم: « فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي » وأخبروه بما كان من أمرهم وإكرامهم إياه، وأن شمعون مرتهن حتى يعلم صدق قولهم. « فأرسل معنا أخانا نكتل » أي قالوا عند ذلك: « فأرسل معنا أخانا نكتل » والأصل نكتال؛ فحذفت الضمة من اللام للجزم، وحذفت الألف لالتقاء الساكنين. وقراءة أهل الحرمين وأبي عمرو وعاصم « نكتل » بالنون وقرأ سائر الكوفيين « يكتل » بالياء؛ والأول اختيار أبي عبيد، ليكونوا كلهم داخلين فيمن يكتال؛ وزعم أنه إذا كان بالياء كان للأخ وحده. قال النحاس: وهذا لا يلزم؛ لأنه لا يخلو الكلام من أحد جهتين؛ أن يكون المعنى: فأرسل أخانا يكتل معنا؛ فيكون للجميع، أو يكون التقدير على غير التقديم والتأخير؛ فيكون في الكلام دليل على الجميع، لقوله: « فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي » . « وإنا له لحافظون » من أن يناله سوء.

 

الآية: 64 ( قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين )

 

قوله تعالى: « قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل » أي قد فرطتم في يوسف فكيف آمنكم على أخيه!. « فالله خير حفظا » نصب على البيان، وهذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم. وقرأ سائر الكوفيين « حافظا » على الحال. وقال الزجاج: على البيان؛ وفي هذا دليل على أنه أجابهم إلى إرسال معهم؛ ومعنى الآية: حفظ الله له خير من حفظكم إياه. قال كعب الأحبار: لما قال يعقوب: « فالله خير حافظا » قال الله تعالى: وعزتي وجلالي لأردن عليك ابنيك كليهما بعدما توكلت علي

 

الآية: 65 ( ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير )

 

قوله تعالى: « ولما فتحوا متاعهم » الآية ليس فيها معنى يشكل. « ما نبغي » « ما » استفهام في موضع نصب؛ والمعنى: أي شيء نطلب وراء هذا؟! وفي لنا الكيل، ورد علينا الثمن؛ أرادوا بذلك أن يطيبوا نفس أبيهم. وقيل: هي نافية؛ أي لا نبغي منك دراهم ولا بضاعة، بل تكفينا بضاعتنا هذه التي ردت إلينا. وروي عن علقمة « ردت إلينا » بكسر الراء؛ لأن الأصل، رددت؛ فلما أدغم قلبت حركة الدال على الراء. وقوله: « ونمير أهلنا » أي نجلب لهم الطعام؛ قال الشاعر:

بعثتك مائرا فمكثت حولا متى يأتي غياثك من تغيث

وقرأ السلمي بضم النون، أي نعينهم على الميرة. « ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير » أي حمل بعير لبنيامين.

 

الآية: 66 ( قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل )

 

قوله تعالى: « تؤتون » أي تعطوني. « موثقا من الله » أي عهدا يوثق به. قال السدي: حلفوا بالله ليردنه إليه ولا يسلمونه؛ واللام في « لتأتنني » لام القسم. « إلا أن يحاط بكم » قال مجاهد: إلا أن تهلكوا أو تموتوا. وقال قتادة: إلا أن تغلبوا عليه. قال الزجاج: وهو في موضع نصب. « فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل » أي حافظ للحلف. وقيل: حفيظ للعهد قائم بالتدبير والعدل.

 

هذه الآية أصل في جواز الحمالة بالعين والوثيقة بالنفس؛ وقد اختلف العلماء في ذلك؛ فقال مالك وجميع أصحابه وأكثر العلماء: هي جائزة إذا كان المتحمل به مالا. وقد ضعف الشافعي الحمالة بالوجه في المال؛ وله قول كقول مالك. وقال عثمان البتي: إذا تكفل بنفس في قصاص أو جراح فإنه إن لم يجيء به لزمه الدية وأرش الجراح، وكانت له في مال الجاني، إذ لا قصاص على الكفيل؛ فهذه ثلاثة أقوال في الحمالة بالوجه. والصواب تفرقة مالك في ذلك، وأنها تكون في المال، ولا تكون في حد أو تعزير، على ما يأتي بيانه:

 

الآية: 67 ( وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون )

 

لما عزموا على الخروج خشي عليهم العين؛ فأمرهم ألا يدخلوا مصر من باب واحد، وكانت مصر لها أربعة أبواب؛ وإنما خاف عليهم العين لكونهم أحد عشر رجلا لرجل واحد؛ وكانوا أهل جمال وكمال وبسطة؛ قاله ابن عباس والضحاك وقتادة وغيرهم.

 

إذا كان هذا معنى الآية فيكون فيها دليل على التحرز من العين، والعين حق؛ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر ) . وفي تعوذه عليه السلام: ( أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة ) ما يدل على ذلك.

وروى مالك عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه سمع أباه يقول: اغتسل أبي سهل بن حنيف بالخرار فنزع جبة كانت عليه، وعامر بن ربيعة ينظر، قال: وكان سهل رجلا ابيض حسن الجلد قال فقال له عامر بن ربيعة: ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء! فوعك سهل مكانه واشتد وعكه، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر أن سهلا وعك، وأنه غير رائح معك يا رسول الله؛ فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره سهل بالذي كان من شأن عامر؛ فقال رسول الله صلى الله عليه سلم: ( علام يقتل أحدكم أخاه ألا بركت إن العين حق توضأ له ) فتوضأ عامر، فراح سهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس به بأس؛ في رواية ( اغتسل ) فغسل له عامر وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخل إزاره في قدح ثم صب عليه؛ فراح سهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس به بأس. وركب سعد بن أبي وقاص يوما فنظرت إليه امرأة فقالت: إن أميركم هذا ليعلم أنه أهضم الكشحين؛ فرجع إلى منزله فسقط، فبلغه ما قالت المرأة، فأرسل إليها فغسلت له؛ ففي هذين الحديثين أن العين حق، وأنها تقتل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهذا قول علماء الأمة، ومذهب، أهل السنة؛ وقد أنكرته طوائف من المبتدعة، وهم محجوجون بالسنة وإجماع علماء هذه الأمة، وبما يشاهد من ذلك في الوجود؛ فكم من رجل أدخلته العين القبر، وكم من جمل ظهير أدخلته القدر، لكن ذلك بمشيئة الله تعالى كما قال: « وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله » [ البقرة: 102 ] . قال الأصمعي: رأيت رجلا عيونا سمع بقرة تحلب فأعجبه شخبها فقال: أيتهن هذه؟ فقالوا: الفلانية لبقرة أخرى يورون عنها، فهلكتا جميعا، المروى بها والمورى عنها. قال الأصمعي. وسمعته يقول: إذا رأيت الشيء يعجبني وجدت حرارة تخرج من عيني.

 

واجب على كل مسلم أعجبه شيء أن يبرك؛ فإنه إذا دعا بالبركة صرف المحذور لا محالة؛ ألا ترى قوله عليه السلام لعامر: ( ألا بركت ) فدل على أن العين لا تضر ولا تعدو إذا برك العائن، وأنها إنما تعدو إذا لم يبرك. والتبريك أن يقول: تبارك الله أحسن الخالقين! اللهم بارك فيه.

 

العائن إذا أصاب بعينه ولم يبرك فإنه يؤمر بالاغتسال، ويجبر على ذلك إن أباه؛ لأن الأمر على الوجوب، لا سيما هذا؛ فإنه قد يخاف على المعين الهلاك، ولا ينبغي لأحد أن يمنع أخاه ما ينتفع به أخوه ولا يضره هو، ولا سيما إذا كان بسببه وكان الجاني عليه.

 

من عرف بالإصابة بالعين منع من مداخلة الناس دفعا لضرره؛ وقد قال بعض العلماء: يأمره الإمام بلزوم بيته؛ وإن كان فقيرا رزقه ما يقوم به، ويكف أذاه عن الناس. وقد قيل: إنه ينفى؛ وحديث مالك الذي ذكرناه يرد هذه الأقوال؛ فإنه عليه السلام لم يأمر في عامر بحبس ولا بنفي، بل قد يكون الرجل الصالح عائنا، وأنه لا يقدح فيه ولا يفسق به؛ ومن قال: يحبس ويؤمر بلزوم بيته. فذلك احتياط ودفع ضرر، والله أعلم.

 

روى مالك عن حميد بن قيس المكي أنه قال: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بابني جعفر بن أبي طالب فقال لحاضنتهما: ( ما لي أراهما ضارعين ) فقالت حاضنتهما: يا رسول الله! إنه تسرع إليهما العين، ولم يمنعنا أن نسترقي لهما إلا أنا لا ندري ما يوافقك من ذلك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( استرقوا لهما فإنه لو سبق شيء القدر سبقته العين ) . وهذا الحديث منقطع، ولكنه محفوظ لأسماء بنت عميس الخثعمية عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ثابتة متصلة صحاح؛ وفيه أن الرقي مما يستدفع به البلاء، وأن العين تؤثر في الإنسان وتضرعه، أي تضعفه وتنحله؛ وذلك بقضاء الله تعالى وقدره. ويقال: إن العين أسرع إلى الصغار منها إلى الكبار، والله أعلم.

 

أمر صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أمامة العائن بالاغتسال للمعين، وأمر هنا بالاسترقاء؛ قال علماؤنا: إنما يسترقى من العين إذا لم يعرف العائن؛ وأما إذا عرف الذي أصابه بعينه فإنه يؤمر بالوضوء على حديث أبي أمامة، والله أعلم.

 

قوله تعالى: « وما أغني عنكم من الله من شيء » أي من شيء أحذره عليكم؛ أي لا ينفع الحذر مع القدر. « إن الحكم إلا لله » أي الأمر والقضاء لله. « عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون » أي اعتمدت ووثقت. « وعليه فليتوكل المتوكلون » .

 

الآية: 68 ( ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون )

 

قوله تعالى: « ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم » أي من أبواب شتى. « ما كان يغني عنهم من الله من شيء » إن أراد إيقاع مكروه بهم. « إلا حاجة » استثناء ليس من الأول. « في نفس يعقوب قضاها » أي خاطر خطر بقلبه؛ وهو وصيته أن يتفرقوا؛ قال مجاهد: خشية العين، وقد تقدم القول فيه. وقيل: لئلا يرى الملك عددهم وقوتهم فيبطش بهم حسدا أو حذرا؛ قاله بعض المتأخرين، واختاره النحاس، وقال: ولا معنى للعين هاهنا. ودلت هذه الآية على أن المسلم يجب عليه أن يحذر أخاه مما يخاف عليه، ويرشده إلى ما فيه طريق السلامة والنجاة؛ فإن الدين النصيحة، والمسلم أخو المسلم.

 

قوله تعالى: « وإنه » يعني يعقوب. « لذو علم لما علمناه » أي بأمر دينه. وقيل: « لذو علم » أي عمل؛ فإن العلم أول أسباب العمل، فسمي بما هو بسببه. « ولكن أكثر الناس لا يعلمون » أي لا يعلمون ما يعلم يعقوب عليه السلام من أمر دينه

 

الآية: 69 ( ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون )

 

قوله تعالى: « ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه » قال قتادة: ضمه إليه، وأنزله معه. وقيل: أمر أن ينزل كل اثنين في منزل، فبقى أخوه منفردا فضمه إليه وقال: أشفقت عليه من الوحدة، « قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون » قال له سرا من إخوته: « إني أنا أخوك فلا تبتئس » أي لا تحزن « بما كانوا يعملون » .

 

الآية: 70 ( فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون )

 

قوله تعالى: « فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه » لما عرف بنيامين أنه يوسف قال له: لا تردني إليهم، فقال: قد علمت اغتمام يعقوب بي فيزداد غمه، فأبى بنيامين الخروج؛ فقال يوسف: لا يمكن حبسك إلا بعد أن أنسبك إلى ما لا يجمل بك: فقال: لا أبالي! فدس الصاع في رحله؛ إما بنفسه من حيث لم يطلع عليه أحد، أو أمر بعض خواصه بذلك. والتجهيز التسريح وتنجيز الأمر؛ ومنه جهز على الجريح أي قتله، ونجز أمره. والسقاية والصواع شيء واحد؛ إناء له رأسان في وسطه مقبض، كان الملك يشرب منه من الرأس الواحد، ويكال الطعام بالرأس الآخر؛ قاله النقاش عن ابن عباس، وكل شيء يشرب به فهو صواع؛ وأنشد:

نشرب الخمر بالصواع جهارا

واختلف في جنسه؛ فروى شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان صواع الملك شيء من فضة يشبه المكوك، من فضة مرصع بالجوهر، يجعل على الرأس؛ وكان للعباس واحد في الجاهلية، وسأل نافع بن الأزرق ما الصواع؟ قال: الإناء؛ قال فيه الأعشى:

له درمك في رأسه ومشارب وقدر وطباخ وصاع وديسق

وقال عكرمة: كان من فضة. وقال عبدالرحمن بن زيد: كان من ذهب؛ وبه كال طعامهم مبالغة في إكرامهم. وقيل: إنما كان يكال به لعزة الطعام. والصاع يذكر ويؤنث؛ فمن أنثه قال: أصوع؛ مثل أدور، ومن ذكره قال أصواع؛ مثل أثواب. وقال مجاهد وأبو صالح: الصاع الطر جهالة بلغة حمير. وفيه قراءات: « صواع » قراءة العامة؛ و « صوغ » بالغين المعجمة، وهي قراءة يحيى بن يعمر؛ قال: وكان إناء أصيغ من ذهب. « وصوع » بالعين غير المعجمة قراءة أبي رجا. « وصوع » بصاد مضمومة وواو ساكنة وعين غير معجمة قراءة أبي. و « صياع » بياء بين الصاد والألف؛ قراءة سعيد بن جبير. « وصاع » بألف بين الصاد والعين؛ وهي قراءة أبي هريرة.

 

قوله تعالى: « ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون » أي نادى مناد وأعلم. « وأذن » للتكثير؛ فكأنه نادى مرارا « أيتها العير » . والعير ما امتير عليه من الحمير والإبل والبغال. قال مجاهد: كان عيرهم حميرا. قال أبو عبيدة: العير الإبل المرحولة المركوبة؛ والمعنى: يا أصحاب العير، كقوله: « واسأل القرية » [ يوسف: 82 ] ويا خيل الله اركبي: أي يا أصحاب خيل الله، وسيأتي. وهنا اعتراضان: الأول: إن قيل: كيف رضي بنيامين بالقعود طوعا وفيه عقوق الأب بزيادة الحزن، ووافقه على ذلك يوسف؟ وكيف نسب يوسف السرقة إلى إخوته وهم براء وهو - الثاني - فالجواب عن الأول: أن الحزن كان قد غلب على يعقوب بحيث لا يؤثر فيه فقد بنيامين كل التأثير، أولا تراه لما فقده قال: « يا أسفا على يوسف » [ يوسف: 84 ] ولم يعرج على بنيامين؛ ولعل يوسف إنما وافقه على القعود بوحي؛ فلا اعتراض. وأما نسبة يوسف السرقة إلى إخوته فالجواب: أن القوم كانوا قد سرقوه من أبيه فألقوه في الجب، ثم باعوه؛ فاستحقوا هذا الاسم بذلك الفعل، فصدق إطلاق ذلك عليهم. جواب آخر - وهو أنه أراد أيتها العير حالكم حال السراق؛ والمعنى: إن شيئا لغيركم صار عندكم من غير رضا الملك ولا علمه. جواب آخر - وهو أن ذلك كان حيلة لاجتماع شمله بأخيه، وفصله عنهم إليه، وهذا بناء على أن بنيامين لم يعلم بدس الصاع في رحله، ولا أخبره بنفسه. وقد قيل: إن معنى الكلام الاستفهام؛ أي أو إنكم لسارقون؟ كقوله: « وتلك نعمة » [ الشعراء: 22 ] أي أو تلك نعمة تمنها علي؟ والغرض ألا يعزى إلى يوسف صلى الله عليه وسلم الكذب.

 

الآيتان: 71 - 72 ( قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون، قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم )

 

قوله تعالى: « ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم » . البعير هنا الجمل في قول أكثر المفسرين. وقيل: إنه الحمار، وهي لغة لبعض العرب؛ قاله مجاهد واختاره. وقال مجاهد: الزعيم هو المؤذن الذي قال: « أيتها العير » . والزعيم والكفيل والحميل والضمين والقبيل سواء والزعيم الرئيس. قال:

وإني زعيم إن رجعت مملكا بسير ترى منه الفرانق أزورا

وقالت ليلى الأخيلية ترثي أخاها:

ومخرق عنه القميص تخاله يوم اللقاء من الحياء سقيما

حتى إذا رفع اللواء رأيته تحت اللواء على الخميس زعيما

 

إن قيل: كيف ضمن حمل البعير وهو مجهول، وضمان المجهول لا يصح؟ قيل له: حمل البعير كان معينا معلوما عندهم كالوسق؛ فصح ضمانه، غير أنه كان بدل مال للسارق، ولا يحل للسارق ذلك، فلعله كان يصح في شرعهم أو كان هذا جعالة، وبذل مال لمن كان يفتش ويطلب.

 

قال بعض العلماء: في هذه الآية دليلان: أحدهما: جواز الجُعْل وقد أجيز للضرورة؛ فإنه يجوز فيه من الجهالة ما لا يجوز. في غيره؛ فإذا قال الرجل: من فعل كذا فله كذا صح. وشأن الجعل أن يكون أحد الطرفين معلوما والآخر مجهولا للضرورة إليه؛ بخلاف الإجارة؛ فإنه يتقدر فيها العوض والمعوض من الجهتين؛ وهو من العقود الجائزة التي يجوز لأحدهما فسخه؛ إلا أن المجعول له يجوز أن يفسخه قبل الشروع وبعده، إذا رضي بإسقاط حقه، وليس للجاعل أن يفسخه إذا شرع المجعول له في العمل. ولا يشترط في عقد الجعل حضور المتعاقدين، كسائر العقود؛ لقوله: « ولمن جاء به حمل بعير » وبهذا كله قال الشافعي.

 

متى قال الإنسان، من جاء بعبدي الآبق فله دينار لزمه ما جعله فيه إذا جاء به؛ فلو جاء به من غير ضمان لزمه إذا جاء به على طلب الأجرة؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من جاء بآبق فله أربعون درهما ) ولم يفصل بين من جاء به من عقد ضمان أو غير عقد. قال ابن خويز منداد ولهذا قال أصحابنا: إن كان ممن يفعل بالإنسان ما يجب عليه أن يفعله بنفسه من مصالحه لزمه ذلك، وكان له أجر مثله إن كان ممن يفعل ذلك بالأجر.

قلت: وخالفنا في هذا كله الشافعي.

 

الدليل الثاني: جواز الكفالة على الرجل؛ لأن المؤذن الضامن هو غير يوسف عليه السلام، قال علماؤنا: إذا قال الرجل تحملت أو تكفلت أو ضمنت أو وأنا حميل لك أو زعيم أو كفيل أو ضامن أو قبيل، أو هو لك عندي أو علي أو إلي أو قبلي فذلك كله حمالة لازمة، وقد اختلف الفقهاء فيمن تكفل بالنفس أو بالوجه، هل يلزمه ضمان المال أم لا؟ فقال الكوفيون: من تكفل بنفس رجل لم يلزمه الحق الذي على المطلوب إن مات؛ وهو أحد قولي الشافعي في المشهور عنه. وقال مالك والليث والأوزاعي: إذا تكفل بنفسه وعليه مال فإنه إن لم يأت به غرم المال، ويرجع به إلى المطلوب؛ فإن اشترط ضمان نفسه أو وجهه وقال: لا أضمن المال فلا شيء عليه من المال؛ والحجة لمن أوجب غرم المال أن الكفيل قد علم أن المضمون وجهه لا يطلب بدم، وإنما يطلب بمال؛ فإذا ضمنه له ولم يأته به فكأنه فوته عليه، وعزه منه؛ فلذلك لزمه المال. واحتج الطحاوي للكوفيين فقال: أما ضمان المال بموت المكفول به فلا معنى له؛ لأنه إنما تكفل بالنفس ولم يتكفل بالمال، فمحال أن يلزمه ما لم يتكفل به.

 

واختلف العلماء إذا تكفل رجل عن رجل بمال؛ هل للطالب أن يأخذ من شاء منهما؟ فقال الثوري والكوفيون والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق: يأخذ من شاء حتى يستوفي حقه؛ وهذا كان قول مالك ثم رجع عنه فقال: لا يؤخذ الكفيل إلا أن يفلس الغريم أو يغيب؛ لأن التبدية بالذي عليه الحق أولى، إلا أن يكون معدما فإنه يؤخذ من الحميل، لأنه معذور في أخذه في هذه الحالة؛ وهذا قول حسن. والقياس أن للرجل مطالبة أي الرجلين شاء. وقال ابن أبي ليلى: إذا ضمن الرجل عن صاحبه ما لا تحول على الكفيل وبرئ صاحب، الأصل، إلا أن يشترط المكفول له عليهما أن يأخذ أيهما شاء؛ واحتج ببراءة الميت من الدين، بضمان أبي قتادة، وبنحوه قال أبو ثور.

 

الزعامة لا تكون إلا في الحقوق التي تجوز النيابة فيها، مما يتعلق بالذمة من الأموال، وكان ثابتا مستقرا؛ فلا تصح الحمالة بالكتابة لأنها ليست بدين ثابت مستقر؛ لأن العبد إن عجز رق وانفسخت الكتابة؛ وأما كل حق لا يقوم به أحد عن أحد كالحدود فلا كفالة فيه، ويسجن المدعى عليه الحد، حتى ينظر في أمره.

وشذ أبو يوسف ومحمد فأجازا الكفالة في الحدود والقصاص، وقالا: إذا قال المقذوف أو المدعي القصاص بينتي حاضرة كفله ثلاثة أيام؛ واحتج لهم الطحاوي بما رواه حمزة بن عمرو عن عمر وابن مسعود وجرير بن عبدالله والأشعث أنهم حكموا بالكفالة بالنفس بمحضر الصحابة.

 

الآيات: 73 - 75 ( قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين، قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين، قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين )

 

قوله تعالى: « قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض » يروى أنهم كانوا لا ينزلون على أحد ظلما، ولا يرعون زرع أحد، وأنهم جمعوا على أفواه إبلهم الأكمة لئلا تعيث في زروع الناس. ثم قال: « وما كنا سارقين » يروى أنهم ردوا البضاعة التي كانت في رحالهم؛ أي فمن رد ما وجد فكيف يكون سارقا؟ !.

 

قوله تعالى: « قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين » المعنى: فما جزاء الفاعل إن بان كذبكم؟ فأجاب إخوة يوسف: « جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه » أي يستعبد ويسترق. « فجزاؤه » مبتدأ، و « من وجد في رحله » خبره؛ والتقدير: جزاؤه استعباد من وجد في رحله؛ فهو كناية عن الاستعباد؛ وفي الجملة معنى التوكيد، كما تقول: جزاء من سرق القطع فهذا جزاؤه. « كذلك نجزي الظالمين » أي كذلك نفعل في الظالمين إذا سرقوا أن يسترقوا، وكان هذا من دين يعقوب عليه السلام وحكمه. وقولهم هذا قول من لم يسترب نفسه؛ لأنهم التزموا استرقاق من وجد في رحله، وكان حكم السارق عند أهل مصر أن يغرم ضعفي ما أخذ؛ قاله الحسن والسدي وغيرهما. مسألة: قد تقدم في سورة « المائدة » أن القطع في السرقة ناسخ لما تقدم من الشرائع، أو لما كان في شرع يعقوب من استرقاق السارق، والله أعلم.

 

الآية: 76 ( فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم )

 

قوله تعالى: « فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه » إنما بدأ يوسف برحالهم لنفي التهمة والريبة من قلوبهم إن بدأ بوعاء أخيه. والوعاء يقال بضم الواو وكسرها، لغتان؛ وهو ما يحفظ فيه المتاع ويصونه. « ثم استخرجها من وعاء أخيه » يعني بنيامين؛ أي استخرج السقاية أو الصواع عند من يؤنث، وقال: « ولمن جاء به » [ يوسف: 72 ] فذكر؛ فلما رأى ذلك إخوته نكسوا رؤوسهم، وظنوا الظنون كلها، وأقبلوا عليه وقالوا ويلك يا بنيامين! ما رأينا كاليوم قط، ولدت أمك « راحيل » أخوين لصين! قال لهم أخوهم: والله ما سرقته، ولا علم لي بمن وضعه في متاعي. ويروى أنهم قالوا له: يا بنيامين! أسرقت؟ قال: لا والله؛ قالوا: فمن جعل الصواع في رحلك؟ قال: الذي جعل البضاعة في رحالكم. ويقال: إن المفتش كان إذا فرغ من رجل رجل استغفر الله عز وجل تائبا من فعله ذلك؛ وظاهر كلام قتادة وغيره أن المستغفر كان يوسف؛ لأنه كان يفتشهم ويعلم أين الصواع حتى فرغ منهم، وانتهى إلى رحل بنيامين فقال: ما أظن هذا الفتى رضي بهذا ولا أخذ شيئا، فقال له إخوته: والله لا نبرح حتى تفتشه؛ فهو أطيب لنفسك ونفوسنا؛ ففتش فأخرج السقاية؛ وهذا التفتيش من يوسف يقتضي أن المؤذن سرقهم برأيه؛ فيقال: إن جميع ذلك كان أمر من الله تعالى؛ ويقوي ذلك قوله تعالى: « كذلك كدنا ليوسف » .

 

قوله تعالى: « كدنا » معناه صنعنا؛ عن ابن عباس. القتبي: دبرنا. ابن الأنباري: أردنا؛ قال الشاعر:

كادت وكدت وتلك خير إرادة لو عاد من عهد الصبا ما قد مضى

وفيه جواز التوصل إلى الأغراض بالحيل إذا لم تخالف شريعة، ولا هدمت أصلا، خلافا لأبي حنيفة في تجويزه الحيل وإن خالفت الأصول، وخرمت التحليل.

 

أجمع العلماء على أن للرجل قبل حلول الحول التصرف في مال بالبيع والهبة إذا لم ينو الفرار من الصدقة؛ وأجمعوا على أنه إذا حال الحول وأظل الساعي أنه لا يحل له التحيل ولا النقصان، ولا أن يفرق بين مجتمع، ولا أن يجمع بين متفرق. وقال مالك: إذا فوت من ماله شيئا ينوي به الفرار من الزكاة قبل الحول بشهر. أو نحوه لزمته الزكاة. عند الحول، أخذا منه بقوله عليه السلام: ( خشية الصدقة ) . وقال أبو حنيفة: إن نوى بتفريقه الفرار من الزكاة قبل الحول بيوم لا يضره؛ لأن الزكاة لا تلزم إلا بتمام الحول، ولا يتوجه إليه معنى قوله: ( خشية الصدقة ) إلا حينئذ. قال ابن العربي: سمعت أبا بكر محمد بن الوليد الفهري وغيره يقول: كان شيخنا قاضي القضاة أبو عبدالله محمد بن علي الدامغاني صاحب عشرات الآلاف دينار من المال، فكان إذا جاء رأس الحول دعا بنيه فقال لهم: كبرت سني، وضعفت قوتي، وهذا مال لا أحتاجه فهو لكم، ثم يخرجه فيحمله الرجال على أعناقهم إلى دور بنيه؛ فإذا جاء رأس الحول ودعا بنية لأمر قالوا: يا أبانا! إنما أملنا حياتك، وأما المال فأي رغبة لنا فيه ما دمت حيا؛ أنت ومالك لنا، فخذه إليك، ويسير الرجال به حتى يضعوه بين يديه، فيرده إلى موضعه؛ يريد بتبديل الملك إسقاط الزكاة على رأي أبي حنيفة في التفريق بين المجتمع، والجمع بين المتفرق؛ وهذا خطب عظيم وقد صنف البخاري رضي الله عنه في جامعه كتابا مقصود فقال: « كتاب الحيل » .

قلت: وترجم فيه أبوابا منها: « باب الزكاة وألا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة » . وأدخل فيه حديث أنس بن مالك، وأن أبا بكر كتب له فريضة الصدقة؛ وحديث طلحة بن عبيدالله أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس. الحديث؛ وفي آخره: ( أفلح إن صدق ) أو ( دخل الجنة إن صدق ) . وقال بعض الناس: في عشرين ومائة بعير حقتان؛ فإن أهلكها متعمدا أو وهبها أو احتال فيها فرارا من الزكاة فلا شيء عليه؛ ثم أردف بحديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يكون كنز أحدكم يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان ويقول أنا كنزك ) الحديث، قال المهلب: إنما قصد البخاري في هذا الباب أن يعرفك أن كل حيلة يتحيل بها أحد في إسقاط الزكاة فإن إثم ذلك عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما منع من جمع الغنم وتفريقها خشية الصدقة فهم منه هذا المعنى، وفهم من قوله: ( أفلح إن صدق ) أن من رام أن ينقض شيئا من فرائض الله بحيلة يحتالها أنه لا يفلح، ولا يقوم بذلك عذره عند الله؛ وما أجازه الفقهاء من تصرف صاحب المال في ماله قرب حلول الحول إنما هو ما لم يرد بذلك الهرب من الزكاة؛ ومن نوى ذلك فالإثم، عنه غير ساقط، والله حسيبه؛ وهو كمن فر من صيام رمضان قبل رؤية الهلال بيوم، واستعمل سفرا لا يحتاج إليه رغبة عن فرض الله الذي كتبه الله على المؤمنين؛ فالوعيد متوجه عليه؛ ألا ترى عقوبة من منع الزكاة يوم القيامة بأي وجه متعمدا كيف تطؤه الإبل، ويمثل له ماله شجاعا أقرع! ؟ وهذا يدل على أن الفرار من الزكاة لا يحل، وهو مطالب بذلك في الآخرة.

 

قال ابن العربي: قال بعض علماء الشافعية في قوله تعالى: « وكذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه » . دليل على وجه الحيلة إلى المباح، واستخراج الحقوق؛ وهذا وهم عظيم؛ وقوله تعالى: « وكذلك كدنا ليوسف في الأرض » قيل فيه: كما مكنا ليوسف ملك نفسه عن امرأة العزيز مكنا له ملك الأرض عن العزيز، أو مثله مما لا يشبه ما ذكره. قال الشفعوي: ومثله قوله عز وجل: « وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث » [ ص:44 ] وهذا ليس حيلة، إنما هو حمل لليمين على الألفاظ أو على المقاصد. قال الشفعوي: ومثله حديث أبي سعيد الخدري في عامل خيبر أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر جنيب، الحديث؛ ومقصود الشافعية من هذا الحديث أنه عليه السلام أمره أن يبيع جمعا ويبتاع جنيبا من الذي باع منه الجمع أو من غيره. وقالت المالكية: معناه من غيره؛ لئلا يكون جنيبا بجمع، والدراهم ربا؛ كما قال ابن عباس: جريرة بجريرة والدراهم ربا.

 

قوله تعالى: « في دين الملك » أي سلطانه، عن ابن عباس ابن عيسى: عاداته، أي يظلم بلا حجة. مجاهد: في حكمه؛ وهو استرقاق السراق. « إلا أن يشاء الله » أي إلا بأن يشاء الله أن يجعل السقاية في رحله تعلة وعذرا له. وقال قتادة: بل كان حكم الملك الضرب والغرم ضعفين، ولكن شاء الله أن يجري على ألسنتهم حكم بني، إسرائيل، على ما تقدم.

 

قوله تعالى: « نرفع درجات من نشاء » أي بالعلم والإيمان. وقرئ « نرفع درجات من نشاء » بمعنى: نرفع من نشاء درجات؛ وقد مضى في « الأنعام » وقوله: « وفوق كل ذي علم عليم » روى إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: يكون ذا أعلم من ذا وذا أعلم من ذا، والله فوق كل عالم. وروى سفيان عن عبدالأعلى عن سعيد بن جبير قال: كنا عند ابن عباس رحمه الله فتحدث بحديث فتعجب منه رجل فقال: سبحان الله! وفوق كل ذي علم عليم؛ فقال ابن عباس: بئس ما قلت؛ الله العليم وهو فوق كل عالم.

 

الآية: 77 ( قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون )

 

قوله تعالى: « قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل » اقتدى: أي اقتدى بأخيه، ولو اقتدى بنا ما سرق؛ وإنما قالوا ذلك ليبرؤوا من فعله، لأنه ليس من أمهم؛ وأنه إن سرق فقد جذبه عرق أخيه السارق؛ لأن الاشتراك في الأنساب يشاكل في الأخلاق. وقد اختلفوا في السرقة التي نسبوا إلى يوسف؛ فروي عن مجاهد وغيره أن عمة يوسف بنت إسحاق كانت أكبر من يعقوب، وكانت صارت إليها منطقة إسحاق لسنها؛ لأنهم كانوا يتوارثون بالسن، وهذا مما نسخ حكمه بشرعنا، وكان من سرق استعبد. وكانت عمة يوسف حضنته وأحبته حبا شديدا؛ فلما ترعرع وشب فال لها يعقوب: سلمي يوسف إلي، فلست أقدر أن يغيب عني ساعة؛ فولعت به، وأشفقت من فراقه؛ فقالت له: دعه عندي أياما أنظر إليه فلما خرج من عندها يعقوب عمدت إلى منطقة إسحاق، فحزمتها على يوسف من تحت ثيابه، ثم قالت: لقد فقدت منطقة إسحاق، فانظروا من أخذها ومن أصابها؛ فالتمست ثم فالت: اكشفوا أهل البيت فكشفوا؛ فوجدت مع يوسف. فقالت: إنه والله لي سلم أصنع فيه ما شئت؛ ثم أتاها يعقوب فأخبرته الخبر، فقال لها: أنت وذلك، إن كان فعل ذلك فهو سلم لك؛ فأمسكته حتى ماتت؛ فبذلك عيره إخوته في قولهم: « إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل » ومن ههنا تعلم يوسف وضع السقاية في رحل أخيه كما عملت به عمته. وقال سعيد بن جبير: إنما أمرته أن يسرق صنما كان لجده أبي أمه، فسرقه وكسره وألقاه على الطريق، وكان ذلك منهما تغييرا للمنكر؛ فرموه بالسرقة وعيروه بها، وقال قتادة. وفي كتاب الزجاج: أنه كان صنما ذهب. وقال عطية العوفي: إنه كان مع إخوته على طعام فنظر إلى عرق فخبأه فغيره بذلك. وقيل: إنه كان يسرق من طعام المائدة للمساكين؛ حكاه ابن عسى وقيل: إنهم كذبوا عليه فيما نسبوه إليه؛ قاله الحسن

 

قوله تعالى: « فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم » أي أسر في نفسه قولهم « إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل » قاله ابن شجرة وابن عيسى. وقيل: إنه أسر في نفسه قوله: « أنتم شر مكانا » ثم جهر فقال: « والله أعلم بما تصفون » . قاله ابن عباس، أي أنتم شر مكانا ممن نسبتموه إلى هذه السرقة. ومعنى قوله: « والله أعلم بما تصفون » أي الله أعلم أن ما قلتم كذب، وإن كانت لله رضا. وقد قيل: إن إخوة يوسف في ذلك الوقت ما كانوا أنبياء.

 

الآية: 78 ( قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين )

 

قوله تعالى: « قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه » خاطبوه باسم العزيز إذ كان في تلك اللحظة بعزل الأول أو موته. وقولهم: « إن له أبا شيخا كبيرا » أي كبير القدر، ولم يريدوا كبر السن؛ لأن ذلك معروف من حال الشيء. « فخذ أحدنا مكانه » أي عبدا بدله؛ وقد قيل: إن هذا مجاز؛ لأنهم يعلمون أنه لا يصح أخذ حر يسترق بدل من قد أحكمت السنة عندهم رقه؛ وإنما هذا كما تقول لمن تكره فعله: اقتلني ولا تفعل كذا وكذا، وأنت لا تريد أن يقتلك، ولكنك مبالغ في استنزاله. ويحتمل أن يكون قولهم: « فخذ أحدنا مكان » حقيقة؛ وبعيد عليهم وهم أنبياء أن يروا استرقاق حر، فلم يبق إلا أن يريدوا بذلك طريق الحمالة؛ أي خذ أحدنا مكانه. حتى ينصرف إليك صاحبك؛ ومقصدهم بذلك أن يصل بنيامين إلى أبيه؛ ويعرف يعقوب جلية الأمر؛ فمنع يوسف عليه السلام من ذلك، إذ الحمالة في الحدود ونحوها - بمعنى إحضار المضمون فقط - جائزة مع التراضي، غير لازمة إذا أبى الطالب؛ وأما الحمالة في مثل هذا على أن يلزم الحميل ما كان يلزم المضمون من عقوبة، فلا يجوز إجماعا. وفي « الواضحة » : إن الحمالة في الوجه فقط في جميع الحدود جائزة، إلا في النفس. وجمهور الفقهاء على جواز الكفالة في النفس. واختلف فيها عن الشافعي؛ فمرة ضعفها، ومرة أجازها.

 

قوله تعالى: « إنا نراك من المحسنين » يحتمل أن يريدوا وصفه بما رأوا من إحسانه في جميع أفعاله معهم، ويحتمل أن يريدوا: إنا نرى لك إحسانه علينا في هذه اليد أن أسديتها إلينا؛ وهذا تأويل ابن إسحاق.

 

الآية: 79 ( قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون )

 

قوله تعالى: « قال معاذ الله » مصدر. « أن نأخذ » في موضع نصب؛ أي من أن نأخذ. « إلا من وجدنا » في موضع نصب بـ « أخذ » . « متاعنا عنده » أي معاذ الله أن نأخذ البريء بالمجرم ونخالف ما تعاقدنا عليه. « إنا إذا لظالمون » أي أن نأخذ غيره.

 

الآية: 80 ( فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين )

 

قوله تعالى: « فلما استيئسوا منه » أي يئسوا؛ مثل عجب واستعجب، وسخر واستسخر. « خلصوا » أي انفردوا وليس هو معهم. « نجيا » نصب على الحال من المضمر في « خلصوا » وهو واحد يؤدي عن جمع، كما في هذه الآية؛ ويقع على الواحد كقوله تعالى: « وقربناه نجيا » [ مريم:52 ] وجمعه أنجية؛ قال الشاعر:

إني إذا ما القوم كانوا أنجية واضطرب القوم اضطراب الأرشية

هناك أوصيني ولا توصي بيه

وقرأ ابن كثير: « استايسوا » « ولا تايسوا » « إنه لا يايس » « أفلم يايس » بألف من غير همز على القلب؛ قدمت الهمزة وأخرت الياء، ثم قلبت الهمزة ألفا لأنها ساكنة قبلها فتحة؛ والأصل قراءة الجماعة؛ لأن المصدر ما جاء إلا على تقديم الياء - يأسا - والإياس ليس بمصدر أيس؛ بل هو مصدر أسته أوسا وإياسا أي أعطيته. وقال قوم: أيس ويئس لغتان؛ أي فلما يئسوا من رد أخيهم إليهم تشاوروا فيما بينهم لا يخالطهم غيرهم من الناس، يتناجون فيما عرض لهم. والنجي فعيل بمعنى المناجي.

 

قوله تعالى: « قال كبيرهم » قال قتادة: وهو روبيل، كان أكبرهم في السن. مجاهد: هو شمعون، كان أكبرهم في الرأي. وقال الكلبي: يهوذا؛ وكان أعقلهم. وقال محمد بن كعب وابن إسحاق: هو لاوى، وهو أبو الأنبياء. « ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله » أي عهدا من الله في حفظ ابنه، ورده إليه. « ومن قبل ما فرطتم في يوسف » « ما » في محل نصب عطفا على « أن » والمعنى: ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله، وتعلموا تفريطكم في يوسف؛ ذكر النحاس وغيره. و « من » في قوله: « ومن قبل » متعلقة بـ « تعلموا » . ويجوز أن تكون « ما » زائدة؛ فيتعلق الظرفان اللذان هما « من قبل » و « في يوسف » بالفعل وهو « فرطتم » . ويجوز أن تكون « ما » والفعل مصدرا، و « من قبل » متعلقا بفعل مضمر؛ التقدير: تفريطكم في يوسف واقع من قبل؛ فما والفعل في موضع رفع بالابتداء، والخبر هو الفعل المضمر الذي يتعلق به « من قبل » . « فلن أبرح الأرض » أي ألزمها، ولا أبرح مقيما فيها؛ يقال: برح براحا وبروحا أي زال، فإذا دخل النفي صار مثبتا. « حتى يأذن لي أبي » بالرجوع فإني أستحي منه. « أو يحكم الله لي » بالممر مع أخي فأمضي معه إلى أبي. وقيل: المعنى أو يحكم الله لي بالسيف فأحارب واخذ أخي، أو أعجز فأنصرف بعذر، وذلك أن يعقوب قال: « لتأتنني به إلا أن يحاط بكم » [ يوسف: 66 ] ومن حارب وعجز فقد أحيط به.

وقال ابن عباس: وكان يهوذا إذا غضب وأخذ السيف فلا يرد وجهه مائة ألف؛ يقوم شعره في صدره مثل المسال فتنفذ من ثيابه. وجاء في الخبر أن يهوذا قال لإخوته - وكان أشدهم غضبا - : إما أن تكفوني الملك ومن معه أكفكم أهل مصر؛ وإما أن تكفوني أهل مصر أكفكم الملك ومن معه؛ قالوا: بل أكفنا الملك ومن معه نكفك أهل مصر، فبعث واحدا من إخوته فعدوا أسواق مصر فوجدوا فيها تسعة أسواق، فأخذ كل، واحد منهم سوقا؛ ثم إن يهوذا دخل على يوسف وقال: أيها الملك! لئن لم تخل معنا أخانا لأصيحن صيحة لا تبقي في مدينتك حاملا إلا أسقطت ما في بطنها؛ وكان ذلك خاصة فيهم عند الغضب، فأغضبه يوسف وأسمعه كلمه، فغضب يهوذا واشتد غضبه، وانتبجت ؟؟ شعراته؛ وكذا كان كل واحد من بني يعقوب؛ كان إذا غضب، اقشعر جلده، وانتفخ جسده، وظهرت شعرات ظهره، من تحت الثوب، حتى تقطر من كل شعرة قطرة دم؛ وإذا ضرب الأرض برجله تزلزلت وتهدم البنيان، وإن صاح صيحة لم تسمعه حامل من النساء والبهائم والطير إلا وضعت ما في بطنها، تماما أو غير تمام؛ فلا يهدأ غضبه إلا أن يسفك دما، أو تمسكه يد من نسل يعقوب؛ فلما علم يوسف أن غضب أخيه يهوذا قد تم وكمل كلم ولدا له صغيرا بالقبطية، وأمره أن يضع يده بين كتفي يهوذا من حيث لا يراه؛ ففعل فسكن غضبه وألقى السيف فالتفت يمينا وشمالا لعله يرى أحدا من إخوته فلم يره؛ فخرج مسرعا إلى إخوته وقال: هل حضرني منكم أحد؟ قالوا: لا! قال: فأين ذهب شمعون؟ قالوا: ذهب إلى الجبل؛ فخرج فلقيه، وقد احتمل صخرة عظيمة؛ قال: ما تصنع بهذه؟ قال أذهب إلى السوق الذي وقع في نصيبي أشدخ بها رؤوس كل من فيه؛ قال: فارجع فردها أو ألقها في البحر، ولا تحدثن حدثا؛ فوالذي اتخذ إبراهيم خليلا! لقد مسني كف من نسل يعقوب. ثم دخلوا على يوسف، وكان يوسف أشدهم بطشا، فقال: يا معشر العبرانيين! أتظنون أنه ليس أحد أشد منكم قوة، ثم عمد إلى حجر عظيم من حجارة الطاحونة فركله برجله فدحا به من خلف الجدار - الركل الضرب بالرجل الواحدة؛ وقد ركله يركله؛ قال الجوهري - ثم أمسك يهوذا بإحدى يديه فصرعه لجنبه، وقال: هات الحدادين أقطع أيديهم وأرجلهم وأضرب أعناقهم، ثم صعد على سريره وجلس على فراشه، وأمر بصواعه فوضع بين يديه، ثم نقره نقرة فخرج طنينه، فالتفت إليهم وقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا! قال: فإنه يقول: إنه ليس على قلب أبي هؤلاء هم ولا غم ولا كرب إلا بسببهم، ثم نقر نقرة ثانية وقال: إنه يخبرني أن هؤلاء أخذوا أخا لهم صغيرا فحسدوه ونزعوه من أبيهم ثم أتلفوه؛ فقالوا: أيها العزيز! استر علينا ستر الله عليك، وامنن علينا من الله عليك؛ فنقره نقرة ثالثة وقال إنه يقول: إن هؤلاء طرحوا صغيرهم في الجب، ثم باعوه بيع العبيد بثمن بخس، وزعموا لأبيهم أن الذئب أكله؛ ثم نقره رابعة وقال: إنه يخبرني أنكم أذنبتم ذنبا منذ ثمانين سنة لم تستغفروا الله منه؛ ولم تتوبوا إليه، ثم نقره خامسة وقال إنه يقول: إن أخاهم الذي زعموا أنه هلك لن تذهب الأيام حتى يرجع فيخبر الناس بما صنعوا؛ ثم نقره سادسة وقال إنه يقول: لو كنتم أنبياء أو بني أنبياء ما كذبتم ولا عققتم والدكم؛ لأجعلنكم نكالا للعالمين. ايتوني بالحدادين أقطع أيديهم وأرجلهم، فتضرعوا وبكوا وأظهروا التوبة وقالوا: لو قد أصبنا أخانا يوسف إذ هو حي لنكونن طوع يده، وترابا يطأ علينا برجله؛ فلما رأى ذلك يوسف من إخوته بكى وقال لهم: اخرجوا عني! قد خليت سبيلكم إكراما لأبيكم، ولولا هو لجعلتكم نكالا.

 

الآية: 81 ( ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين )

 

قوله تعالى: « ارجعوا إلى أبيكم » قاله الذي قال: « فلن أبرح الأرض » . « فقولوا يا أبانا إن ابنك سَرَق » وقرأ ابن عباس والضحاك وأبو رزين « إن ابنك سُرِّقَ » النحاس: وحدثني محمد بن أحمد بن عمر قال حدثنا ابن شاذان قال حدثنا أحمد بن أبي سريج البغدادي قال: سمعت، الكسائي يقرأ: « يا أبانا إن ابنك سُرِّق » بضم السين وتشديد الراء مكسورة؛ على ما لم يسم فاعله؛ أي نسب، إلى السرقة ورمي بها؛ مثل خونته وفسقته وجرته إذا نسبته إلى هذه الخلال. وقال الزجاج: « سرق » يحتمل معنيين: أحدهما: علم منه السرق، والآخر: اتهم بالسرق. قال الجوهري: والسرق والسرقة بكسر الراء فيهما هو اسم الشيء المسروق، والمصدر يسرق سرقا بالفتح.

 

قوله تعالى: « وما شهدنا إلا بما علمنا » يريدون فقد شهدنا قط إلا بما علمنا، وأما الآن فقد شهدنا بالظاهر وما نعلم الغيب؛ كأنهم وقعت لهم تهمة من قول بنيامين: دس هذا في رحلي من دس بضاعتكم في رحالكم؛ قال معناه ابن إسحاق. وقيل المعنى: ما شهدنا عند يوسف بأن السارق يسترق إلا بما علمنا من دينك؛ قاله ابن زيد. « وما كنا للغيب حافظين » أي لم نعلم وقت أخذناه منك أنه يسرق فلا نأخذه. وقال مجاهد وقتادة: ما كنا نعلم أن ابنك يسترق ويصير أمرنا إلى هذا، وإنما قلنا: نحفظ أخانا فيما نطيق. وقال ابن عباس: يعنون أنه سرق ليلا وهم نيام، والغيب هو الليل بلغة حمير؛ وعنه: ما كنا نعلم ما يصنع في ليلة ونهاره وذهابه وإيابه. وقيل: ما دام بمرأى منا لم يجر خلل، فلما غاب عنا خفت عنا حالاته. وقيل معناه: قد أخذت السرقة من رحله، ونحن أخرجناها وننظر إليها، ولا علم لنا بالغيب، فلعلهم سرقوه ولم يسرق.

 

تضمنت هذه الآية جواز الشهادة بأي وجه حصل العلم بها؛ فإن الشهادة مرتبطة بالعلم عقلا وشرعا، فلا تسمع إلا ممن علم، ولا تقبل إلا منهم، وهذا هو الأصل في الشهادات؛ ولهذا قال أصحابنا: شهادة الأعمى جائزة، وشهادة المستمع جائزة، وشهادة الأخرس إذا فهمت إشارته جائزة؛ وكذلك الشهادة على الخط - إذا تيقن أنه خطه أو خط فلان - صحيحة فكل من حصل له العلم بشيء جاز أن يشهد به وإن لم يشهده المشهود عليه؛ قال الله تعالى: « إلا من شهد بالحق وهم يعلمون » [ الزخرف: 86 ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ألا أخبركم بخير الشهداء خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها ) وقد مضى في « البقرة » .

 

اختلف قول مالك في شهادة المرور؛ وهو أن يقول: مررت بفلان فسمعته يقول كذا فإن استوعب القول شهد في أحد قوليه، وفي القول الآخر لا يشهد حتى يشهداه. والصحيح أداء الشهادة عند الاستيعاب؛ وبه قال جماعة العلماء، وهو الحق؛ لأنه قد حصل المطلوب وتعين عليه أداء العلم؛ فكان. خير الشهداء إذا أعلم المشهود له، وشر الشهداء إذا كتمها والله أعلم،

إذا أدعى رجل شهادة لا يحتملها عمره ردت؛ لأنه ادعى باطلا فأكذبه العيان ظاهر.

 

الآية: 82 ( واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون )

 

قوله تعالى: « واسأل القرية التي كنا فيها والعير » حققوا بها شهادتهم عنده، ورفعوا التهمة عن أنفسهم لئلا يتهمهم. فقولهم: « واسأل القرية » أي أهلها؛ فحذف؛ ويريدون بالقرية مصر. وقيل: قرية من قراها نزلوا بها وامتاروا منها. وقيل المعنى « واسأل القرية » وإن كانت جمادا، فأنت نبي الله، وهو ينطق الجماد له؛ وعلى هذا فلا حاجة إلى إضمار؛ قال سيبويه: ولا يجوز كلم هندا وأنت تريد غلام هند؛ لأن هذا يشكل. والقول في العير كالقول في القرية سواء. « وإنا لصادقون » في قولنا.

 

في هذه الآية من الفقه أن كل من كان على حق، وعلم أنه قد يظن به أنه على خلاف ما هو عليه أو يتوهم أن يرفع التهمة وكل ريبة عن نفسه، ويصرح بالحق الذي هو عليه، حتى لا يبقى لأحد متكلم؛ وقد فعل هذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله للرجلين اللذين مرا وهو قد خرج مع صفية يقلبها من المسجد: ( على رسلكما إنما هي صفية بنت حيي ) فقالا: سبحان الله وكبر عليهما فقال النبي: ( إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا ) رواه البخاري ومسلم.

 

الآية: 83 ( قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم )

 

قوله تعالى: « قال بل سولت » أي زينت. « لكم أنفسكم » أن ابني وما سرق، وإنما ذلك لأمر يريده الله. « فصبر جميل » أي فشأني صبر جميل أو صبر جميل أولى بي على ما تقدم أول السورة.

 

الواجب على كل مسلم إذا أصيب بمكروه في نفسه أو ولده أو ماله أن يتلقى ذلك بالصبر الجميل، والرضا والتسليم لمجريه عليه وهو العليم الحكيم، ويقتدي بنبي الله يعقوب وسائر النبيين، صلوات الله عليهم أجمعين. وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن قال: ما من جرعتين يتجرعهما العبد أحب إلى الله من جرعة مصيبة يتجرعها العبد بحسن صبر وحسن عزاء، وجرعة غيظ يتجرعها العبد بحلم وعفو. وقال ابن جريج عن مجاهد في قوله تعالى: « فصبر جميل » أي لا أشكو ذلك إلى أحد. وروى قاتل بن سليمان عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من بث لم يصبر ) . وقد تقدم في « البقرة » أن الصبر عند أول الصدمة، وثواب من ذكر مصيبته واسترجع وأن تقادم عهدها. وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: إن يعقوب أعطى على يوسف أجر مائة شهيد، وكذلك من احتسب من هذه الأمة في مصيبته فله مثل أجر يعقوب عليه السلام.

 

قوله تعالى: « عسى الله أن يأتيني بهم جميعا » لأنه كان عنده أن يوسف صلى الله عليه وسلم لم يمت، وإنما غاب عنه خبره؛ لأن يوسف حمل وهو عبد لا يملك لنفسه شيئا، ثم اشتراه الملك فكان في داره لا يظهر للناس، ثم حبس، فلما تمكن احتال في أن يعلم أبوه خبره؛ ولم يوجه برسول لأنه كره من إخوته أن يعرفوا ذلك فلا يدعوا الرسول يصل إليه وقال: « بهم » لأنهم ثلاثة؛ يوسف وأخوه، والمتخلف من أجل أخيه، وهو القائل: « فلن أبرح الأرض » . « إنه هو العليم » بحالي. « الحكيم » فيما يقضي.

 

الآية: 84 ( وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم )

 

قوله تعالى: « وتولى عنهم » أي أعرض عنهم؛ وذلك أن يعقوب لما بلغه خبر بنيامين تتام حزنه، وبلغ جهده، وجدد الله مصيبته له في يوسف فقال: « يا أسفا على يوسف » ونسى ابنه بنيامين فلم يذكره؛ عن ابن عباس. وقال سعيد بن جبير: لم يكن عند يعقوب ما في كتابنا من الاسترجاع، ولو كان عنده لما قال: « يا أسفا على يوسف » قال قتادة والحسن: والمعنى يا حزناه! وقال مجاهد والضحاك: يا جزعاه!؛ قال كُثَيِّر:

فيا أسفا للقلب كيف انصرافه وللنفس لما سليت فتسلت

والأسف شدة الحزن على ما فات. والنداء على معنى: تعال يا أسف فإنه من أوقاته. وقال الزجاج: الأصل يا أسفي؛ فأبدل من الياء ألف لخفة الفتحة. « وابيضت عيناه من الحزن » قيل: لم يبصر بهما ست سنين، وأنه عمي؛ قال مقاتل. وقيل: قد تبيض العين ويبقى شيء من الرؤية، والله أعلم بحال يعقوب؛ وإنما ابيضت عيناه من البكاء، ولكن سبب البكاء الحزن، فلهذا قال: « من الحزن » . وقيل: إن يعقوب كان يصلي، ويرسف نائما معترضا ببن يديه، فغط في نومه، فالتفت يعقوب إليه، ثم غط ثانية فالتفت إليه، ثم غط ثالثة فالتفت إليه سرورا به وبغطيطه؛ فأوحى الله تعالى إلى ملائكته: « انظروا إلى صفيي وابن خليلي قائما في مناجاتي يلتفت إلى غيري، وعزتي وجلالي! لأنزعن الحدقتين اللتين التفت بهما، ولأفرقن بينه وبين من التفت إليه ثمانين سنة، ليعلم العاملون أن من قام بين يدي يجب عليه مراقبة نظري » .

 

هذا يدل على أن الالتفات في الصلاة - وإن لم يبطل - يدل على العقوبة عليها، والنقص فيها، وقد روى البخاري عن عائشة قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: ( هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد ) . وسيأتي ما للعلماء في هذا في أول سورة « المؤمنون » موعبا إن شاء الله تعالى.

قال النحاس: فإن سأل قوم عن معنى شدة حزن يعقوب - صلى الله عليه وسلم وعلى نبينا - فللعلماء في هذا ثلاثة أجوبة: منها - أن يعقوب لما علم أن يوسف صلى الله عليه وسلم حي خاف على دينه، فاشتد حزنه لذلك. وقيل: إنما حزن لأنه سلمه إليهم صغيرا، فندم على ذلك. والجواب الثالث: وهو أبينها - هو أن الحزن ليس بمحظور، وإنما المحظور الولولة وشق الثياب، والكلام بما لا ينبغي وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب ) . وقد بين الله جل وعز ذلك بقوله: « فهو كظيم » أي مكظوم مملوء من الحزن ممسك عليه لا يبثه؛ ومنه كظم الغيظ وهو إخفاؤه؛ فالمكظوم المسدود عليه طريق حزنه؛ قال الله تعالى: « إذ نادى وهو مكظوم » [ القلم: 48 ] أي مملوء كربا. ويجوز أن يكون المكظوم بمعنى الكاظم؛ وهو المشتمل على حزنه. وعن ابن عباس: كظيم مغموم؛ قال الشاعر:

فإن أك كاظما لمصاب شاس فإني اليوم منطلق لساني

وقال ابن جريج عن مجاهد عن ابن عباس قال: ذهبت عيناه من الحزن « فهو كظيم » قال: فهو مكروب. وقال مقاتل بن سليمان عن عطاء عن ابن عباس في قوله: « فهو كظيم » قال: فهو كمد؛ يقول: يعلم أن يوسف حي، وأنه لا يدري أين هو؛ فهو كمد من ذلك. قال الجوهري: الكمد الحزن المكتوم؛ تقول منه كمد الرجل فهو كمد وكميد. النحاس. يقال فلان كظيم وكاظم؛ أي حزين لا يشكو حزنه؛ قال الشاعر:

فحضضت قومي واحتسبت قتالهم والقوم من الخوف المنايا كظم

 

الآيتان: 85 - 86 ( قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين، قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون )

 

قوله تعالى: « قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف » أي قال له ولده: « تالله تفتا تذكر يوسف » قال الكسائي: فتأت وفتئت أفعل ذلك أي ما زلت. وزعم الغراء أن « لا » مضمرة؛ أي لا تفتأ، وأنشد:

فقلت يمين الله أبرح قاعدا ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي

أي لا أبرح؛ قال النحاس: والذي قال حسن صحيح. وزعم الخليل وسيبويه أن « لا » تضمر في القسم، لأنه ليس فيه إشكال؛ ولو كان واجبا لكان باللام والنون؛ وإنما قالوا له لأنهم علموا باليقين أنه يداوم على ذلك؛ يقال: ما زال يفعل كذا، وما فتئ وفتأ فهما لغتان، ولا يستعملان إلا مع الجحد قال الشاعر:

فما فئت حتى كأن غبارها سرادق يوم ذي رياح ترفع

أي ما برحت فتفتأ تبرح. وقال ابن عباس: تزال. « حتى تكون حرضا » أي تالفا. وقال ابن عباس ومجاهد: دنفا من المرض، وهو ما دون الموت؛ قال الشاعر:

سرى همي فأمرضني وقدما زادني مرضا

كذا الحب قبل اليو م مما يورث الحرضا

وقال قتادة: هرما. الضحاك: باليا دائرا. محمد بن إسحاق: فاسدا لا عقل لك. الفراء: الحارض الفاسد الجسم والعقل؛ وكذا الحرض. ابن زيد: الحرص الذي قد رد إلى أرذل العمر. الربيع بن أنس: يابس الجلد على العظم. المؤرج: ذائبا من الهم. وقال الأخفش: ذاهبا. ابن الأنباري: هالكا، وكلها متقاربة. وأصل الحرض الفساد في الجسم أو العقل من الحزن أو العشق أو الهرم، عن أبي عبيدة وغيره؛ وقال العرجي:

إني امرؤ لج بي حب فأحرضني حتى بليت وحتى شفني السقم

قال النحاس: يقال حرض حرضا وحرض حروضا وحروضة إذا بليي وسقم، ورجل حارض وحرض؛ إلا أن حرضا لا يثني ولا يجمع، ومثله فمن وحري لا يثنيان ولا يجمعان. الثعلبي: ومن العرب من يقول حارض للمذكر، والمؤنثة حارضة؛ فإذا وصف بهذا اللفظ ثنى وجمع وأنث. ويقال: حرض يحرض حراضة فهو حريض وحرض. ويقال: رجل محرض، وينشد:

طلبته الخيل يوما كاملا ولو الفته لأضحى محرضا

وقال امرؤ القيس:

أرى المرء ذا الأذواد يصبح محرضا كإحراض بكر في الديار مريض

قال النحاس: وحكى أهل اللغة أحرضه الهم إذا أسقمه، ورجل حارض أي أحمق. وقرأ أنس: « حُرْضا » بضم الحاء وسكون الراء، أي مثل عود الأشنان. وقرأ الحسن بضم الحاء والراء. قال الجوهري: الحَرَض والحُرُض الأشنان. « أو تكون من الهالكين » أي الميتين، وهو قول الجميع؛ وغرضهم منع يعقوب من البكاء والحزن شفقة عليه، وإن كانوا السبب في ذلك.

 

قوله تعالى: « قال إنما أشكو بثي » حقيقة البث في اللغة ما يرد على الإنسان من الأشياء المهلكة التي لا يتهيأ له أن يخفيها؛ وهو من بثثته أي فرقته، فسميت المصيبة بثا مجازا، قال ذو الرمة:

وقفت على ربع لمية ناقتي فما زلت أبكي عنده وأخاطبه

وأسقيه حتى كاد مما أبثه تكلمني أحجاره وملاعبه

وقال ابن عباس: « بثي » همي. الحسن: حاجتي. وقيل: أشد الحزن، وحقيقة ما ذكرناه. « وحزني إلى الله » معطوف عليه، أعاده بغير لفظه. « وأعلم من الله ما لا تعلمون » أي أعلم أن رؤيا يوسف صادقة، وأني سأسجد له. قاله ابن عباس. إني أعلم من إحسان الله تعالى إلى ما يوجب حسن ظني به. وقيل: قال يعقوب لملك الموت هل قبضت روح يوسف؟ قال: لا، فأكد هذا رجاءه. وقال السدي: أعلم أن يوسف حي، وذلك أنه لما أخبر. ولده بسيرة الملك وعدله خلفه وقوله أحست نفس يعقوب أنه ولده فطمع، وقال: لعله يوسف. وقال: لا يكون في الأرض صديق إلا نبئ. وقيل: أعلم من إجابة دعاء المضطرين ما لا تعلمون.

 

الآية: 87 ( يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون )

 

قوله تعالى: « يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه » هذا يدل على أنه تيقن حياته؛ إما بالرؤيا، وإما بإنطاق الله تعالى الذئب كما في أول القصة، وإما بإخبار ملك الموت إياه بأنه لم يقبض روحه؛ وهو أظهر. والتحسس طلب الشيء بالحواس؛ فهو تفعل من الحس، أي اذهبوا إلى هذا الذهب طلب منكم أخاكم، واحتال عليكم في أخذه فاسألوا عنه وعن مذهبه. ويروى أن ملك الموت قال له: اطلبه من هاهنا! وأشار إلى ناحية مصر. وقيل: إن يعقوب تنبه على يوسف برد البضاعة، واحتباس أخيه، وإظهار الكرامة؛ فلذلك وجههم سلى جهة مصر دون غيرها. « ولا تيأسوا من روح الله » أي لا تقنطوا من فرج الله؛ قال ابن زيد، يريد: أن المؤمن يرجو فرج الله، والكافر يقنط في الشدة. وقال قتادة والضحاك: من رحمة الله. « إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون » دليل على أن القنوط من الكبائر، وهو اليأس في « الزمر » بيانه إن شاء الله تعالى.

 

الآية: 88 ( فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين )

 

قوله تعالى: « فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز » أي الممتنع. « مسنا وأهلنا الضر » هذه المرة الثالثة من عودهم إلى مصر؛ وفي الكلام حذف، أي فخرجوا إلى مصر، فلما دخلوا على يوسف قالوا: « مسنا » أي أصابنا « وأهلنا الضر » أي الجوع والحاجة؛ وفي هذا دليل على جواز الشكوى عند الضر، أي الجوع؛ بل واجب عليه إذا خاف على نفسه الضر من الفقر وغيره أن يبدي حالته إلى من يرجو منه النفع؛ كما هو واجب عليه أن يشكو ما به من الألم إلى الطبيب ليعالجه؛ ولا يكون ذلك قدحا في التوكل، وهذا ما لم يكن التشكي على سبيل التسخط؛ والصبر والتجلد في النوائب أحسن، والتعفف عن المسألة أفضل؛ وأحسن الكلام في الشكوى سؤال المولى زوال البلوى؛ وذلك قول يعقوب: « إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون » [ يوسف: 86 ] أي من جميل صنعه، وغريب لطفه، وعائدته على عباده؛ فأما الشكوى على غير مشك فهو السفه، إلا أن يكون على وجه البث والتسلي؛ كما قال ابن دريد:

لا تحسبن يا دهر أني ضارع لنكبة تعرفني عرق المدى

مارست ما لو هوت الأفلاك من جوانب الجو عليه ما شكا

لكنها نفثة مصدر إذا جاش لغام من نواحيها غما

 

قوله تعالى: « وجئنا ببضاعة » البضاعة القطعة من المال يقصد بها شراء شيء؛ تقول: أبضعت الشيء واستبضعته أي جعلته بضاعة؛ وفي المثل: كمستبضع التمر إلى هجر. « مزجاة » صفة لبضاعة؛ والإزجاء السوق بدفع؛ ومنه قوله تعالى: « ألم تر أن الله يزجي سحابا » [ النور: 43 ] والمعنى أنها بضاعة تدفع؛ ولا يقبلها كل أحد. قال ثعلب: البضاعة المزجاة الناقصة غير التامة. واختلفت في تعيينها هنا؛ فقيل: كانت قديدا وحيسا؛ ذكره الواقدي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقيل: خلق الغرائر والحبال؛ روى عن ابن عباس. وقيل: متاع الأعراب صوف وسمن؛ قال عبدالله بن الحارث. وقيل: الحبة الخضراء والصنوبر وهو البطم، حب شجرة بالشام؛ يؤكل ويعصر الزيت منه لعمل الصابون، قاله أبو صالح؛ فباعوها بدراهم لا تنفق في الطعام، وتنفق فيما بين الناس؛ فقالوا: خذها منا بحساب جياد تنفق من الطعام. وقيل: دراهم رديئه؛ فال ابن عباس أيضا. وقيل: ليس عليها صورة يوسف، وكانت دراهم مصر عليهم صورة يوسف. وقال الضحاك: النعال والأدم؛ وعنه: كانت سويقا منخلا. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « فأوف لنا الكيل » يريدون كما تبيع بالدراهم الجياد لا تنقصنا بمكان دراهمنا؛ هذا قول أكثرا المفسرين. وقال ابن جريج. « فأوف لنا الكيل » يريدون الكيل الذي كان قد كاله لأخيهم. « وتصدق علينا » أي تفضل علينا بما بين سعر الجياد والرديئة. قاله سعيد بن جبير والسدي والحسن: لأن الصدفة تحرم على الأنبياء. وقيل المعنى: « تصدق علينا » بالزيادة على حقنا؛ قاله سفيان بن عيينة. قال مجاهد: ولم تحرم الصدقة إلا على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن جريج: المعنى « تصدق علينا » برد أخينا إلينا. وقال ابن شجرة: « تصدق علينا » تجوز عنا؛ استشهد بقول الشاعر:

تصدق علينا يا ابن عفان واحتسب وأمر علينا الأشعري لياليا

« إن الله يجزي المتصدقين » يعني في الآخرة؛ يقال: هذا من معاريض الكلا؛ لأنه لم يكن عندهم أنه على دينهم، فلذلك لم يقولوا: إن الله يجزيك بصدقتك، فقالوا لفظا يوهمه أنهم أرادوه، وهم يصح لهم إخراجه بالتأويل؛ قاله النقاش وفي الحديث: ( إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب ) .

 

استدل مالك وغيره من العلماء على أن أجرة الكيال على البائع؛ قال ابن القاسم وابن نافع قال مالك: قالوا ليوسف « فأوف لنا الكيل » فكان يوسف هو الذي يكيل، وكذلك الوزان والعداد وغيرهم، لأن الرجل إذا باع عدة معلومة من طعامه، وأوجب العقد عليه، وجب عليه أن يبرزها ويميز حق المشتري من حقه، إلا أن يبيع منه معينا صبره أو ما لا حق توفيه فيه ـ فخلى ما بينه وبينه، فما جرى على المبيع فهو على المبتاع؛ وليس كذلك ما فيه حق توفيه من كيل أو وزن، ألا ترى أنه لا يستحق البائع الثمن إلا بعد التوفية، وإن تلف فهو منه قبل التوفية.

 

وأما أجرة النقد فعلى البائع أيضا؛ لأن المبتاع الدافع لدراهمه يقول: إنها طيبة، فأنت الذي تدعي الرداءة فانظر لنفسك؛ وأيضا فإن النفع يقع له فصار الأجر عليه، وكذلك لا يجب على الذي يجب عليه القصاص؛ لأنه لا يجب عليه أن يقطع يد نفسه، إلا أن يمكن من ذلك طائعا؛ ألا ترى أن قرضا عليه أن يفدي يده، ويصالح عليه إذا طلب المقتص ذلك منه، فأجر القطاع على المقتص. وقال الشافعي في المشهور عنه: إنها على المقتص منه كالبائع.

 

يكره للرجل أن يقول في دعائه: اللهم تصدق علي؛ لأن الصدقة إنما تكون ممن يبتغي الثواب، والله تعالى متفضل بالثواب بجميع النعم لا رب غيره؛ وسمع الحسن رجلا يقول: اللهم تصدق علي؛ فقال الحن: يا هذا! إن الله لا يتصدق إنما يتصدق من يبتغي الثواب؛ أما سمعت قول الله تعالى: « إن الله يجزي المتصدقين » قل: اللهم أعطني وتفضل علي.

 

الآيتان: 89 - 90 ( قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون، قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين )

 

قوله تعالى: « قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه » استفهام بمعنى التذكير والتوبيخ، وهو الذي قال الله: « لتنبئنهم بأمرهم هذا » [ يوسف: 15 ] الآية. « إذ أنتم جاهلون » دليل على أنهم كانوا صغارا في وقت أخذهم ليوسف، غير أنبياء؛ لأنه لا يوصف بالجهل إلا من كانت هذه صفته؛ ويدل على أنه حسنت حالهم الآن؛ أي فعلتم ذلك إذ أنتم صغار جهال؛ قال معناه ابن عباس والحسن؛ ويكون قولهم: « وإن كنا لخاطئين » على هذا، لأنهم كبروا ولم يخبروا أباهم بما فعلوا حياء وخوفا منه. وقيل: جاهلون بما تؤول إليه العاقبة. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « قالوا أئنك لأنت يوسف » لما دخلوا عليه فقالوا: « مسنا وأهلنا الضر » فخضوا له وتواضعوا رق لهم، وعرقهم بنفسه، فقال: « هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه » فتنبهوا فقالوا: « أئنك لأنت يوسف » قاله ابن إسحاق. وقيل: إن يوسف تبسم فشبهوه بيوسف واستفهموا قال ابن عباس لما قال لهم: « هل علمتم ما فعلتم بيوسف » الآية، ثم تبسم يوسف - وكان إذا تبسم كأن ثناياه اللؤلؤ المنظوم - فشبهوه بيوسف، فقالوا له على جهة الاستفهام: « أئنك لأنت يوسف » . وعن ابن عباس أيضا: أن إخوته لم يعرفوه حتى وضع التاج عنه، وكان في قرنه علامة، وكان ليعقوب مثلها شبه الشامة، فلما قال لهم: « هل علمتم ما فعلتم بيوسف » رفع التاج عنه فعرفوه، فقالوا: « أئنك لأنت يوسف » . وقال ابن عباس: كتب يعقوب إليه يطلب رد ابنه، وفي الكتاب: من يعقوب صفي الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر - أما بعد - فإنا أهل بيت بلاء ومحن، ابتلى الله جدي إبراهيم بنمروذ وناره، ثم ابتلى أبي إسحاق بالذبح، ثم ابتلاني بولد كان لي أحب أولادي إلي حتى كف بصري من البكاء، وإني لم أسرق ولم ألد سارقا والسلام. فلما قرأ يوسف الكتاب ارتعدت مفاصله، واقشعر جلده، وأرخى عينيه بالبكاء، وعيل صبره فباح بالسر. وقرأ ابن كثير « إنك » على الخبر، ويجوز أن تكون هذه القراءة استفهاما كقوله: « وتلك نعمة » [ الشعراء: 22 ] . « قال أنا يوسف » أي أنا المظلوم والمراد قتله، ولم يقل أنا هو تعظيما للقصة. « قد من الله علينا » أي بالنجاة والملك. « إنه من يتق ويصبر » أي يتق الله ويصبر على المصائب، وعن المعاصي. « فإن الله لا يضيع أجر المحسنين » أي الصابرين في بلائه، القائمين بطاعته. وقرأ ابن كثير: « إنه من يتقي » بإثبات الياء؛ والقراءة بها جائزة على أن تجعل « من » بمعنى الذي، وتدخل « يتقي » في الصلة، فتثبت الياء لا غير، وترفع « ويصبر » . وقد يجوز أن تجزم « ويصير » على أن تجعل « يتقي » في موضع جزم و « من » للشرط، وتثبت الياء، وتجعل علامة الجزم حذف الضمة التي كانت في الياء على الأصل؛ كما قال:

ثم نادي إذا دخلت دمشقا يا يزيد بن خالد بن يزيد

وقال آخر:

ألم يأتيك والأنباء تنمي بما لاقت لبون بني زياد

وقراءة الجماعة ظاهرة، والهاء في « إنه » كناية عن الحديث، والجملة الخبر.

 

الآيتان: 91 - 92 ( قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين )

 

قوله تعالى: « قالوا تالله لقد آثرك الله علينا » الأصل همزتان خففت الثانية، ولا يجوز تحقيقها، واسم الفاعل مؤثر، والمصدر إيثار. ويقال: أثرت التراب إثارة فإنا مثير؛ وهو أيضا على أفعل ثم أعل، والأصل أثير نقلت حركة الياء على الثاء، فانقلبت الياء ألفا، ثم حذفت لالتقاء الساكنين. وأثرت الحديث على فعلت فأنا اثر؛ والمعنى: لقد فضلك الله علينا، واختارك بالعلم والحلم والحكم والعقل والملك. « وإن كنا لخاطئين » أي مذنبين من خطئ يخطأ إذا أتى الخطيئة، وفي ضمن هذا سؤال العفو. وقيل لابن عباس: كيف قالوا « وإن كنا لخاطئين » وقد تعمدوا لذلك؟ قال: وإن تعمدوا لذلك، فما تعمدوا حتى أخطؤوا الحق، وكذلك كل من أتى ذنبا تخطى المنهاج الذي عليه من الحق، حتى يقع في الشبهة والمعصية.

 

قوله تعالى: « لا تثريب عليكم اليوم » أي قال يوسف - وكان حليما موفقا: « لا تثريب عليكم اليوم » وتم الكلام. ومعنى « اليوم » : الوقت. والتثريب التعيير والتوبيخ، أي تعيير ولا توبيخ ولا لوم عليكم اليوم؛ قال سفيان الثوري وغيره؛ ومنه قوله عليه السلام: ( إذا زنت أمه أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ) أي لا يعيرها؛ وقال بشر:

فعفوت عنهم عفو مثرب وتركتهم لعقاب يوم سرمد

وقال الأصمعي: ثربت عليه وعربت عليه بمعنى إذا قبحت عليه فعله. وقال الزجاج: المعنى لا إفساد لما بيني وبينكم من الحرمة، وحق الإخوة، ولكم عندي العفو والصفح؛ وأصل التثريب الإفساد، وهي لغة أهل الحجاز. وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بعضادتي الباب يوم فتح مكة، وقد لاذ الناس بالبيت فقال: ( الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ) ثم قال: ( ماذا تظنون يا معشر قريش ) قالوا: خيرا، أخ كريم، ابن أخ كريم وقد قدرت؛ قال: ( وأنا أقول كما قال أخي يوسف « لا تثريب عليكم اليوم » فقال عمر رضي الله عنه: ففضت عرقا من الحياء من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ذلك أني قد كنت قلت لهم حين دخلنا مكة: اليوم ننتقم منكم ونفعل، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال استحييت من قولي. « يغفر الله لكم » مستقبل فيه معنى الدعاء؛ سأل الله أن يستر عليهم ويرحمهم. وأجاز الأخفش الوقت على « عليكم » والأول هو المستعمل؛ فإن في الوقف على « عليكم » والابتداء بـ « اليوم يغفر الله لكم » جزم بالمغفرة في اليوم، وذلك لا يكون إلا عن وحي، وهذا بين. وقال عطاء الخراساني: طلب الحوائج من الشباب أسهل منه من الشيوخ؛ ألم تر قول يوسف: « لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم » وقال يعقوب: « سوف أستغفر لكم ربي » .

 

الآية: 93 ( اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين )

 

قوله تعالى: « اذهبوا بقميصي هذا » نعت للقميص، والقميص مذكر، فأما قول الشاعر:

تدعو هوازن والقميص مفاضة فوق النطاق تشد بالأزرار

فتقديره: [ والقميص ] درع مفاضة. قاله النحاس. وقال ابن السدي عن أبيه عن مجاهد: قال لهم يوسف: « اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا » قال: كان يوسف أعلم بالله من أن يعلم أن قميصه يرد على يعقوب بصره، ولكن ذلك قميص إبراهيم الذي البسه الله في النار من حرير الجنة، وكان كساه إسحاق، وكان إسحاق كساه يعقوب، وكان يعقوب أدرج ذلك القميص في قصبة من فضة وعلقة في عنق يوسف، لما كان يخاف عليه من العين، وأخبره جبريل بأن أرسل قميصك فإن فيه ريح الجنة، وإن ريح الجنة لا يقع على سقيم ولا مبتلى إلا عوفي. وقال قميصه يهوذا، قال يوسف: أنا الذي حملت إليه قميصك بدم كذب فأحزنته، وأنا الذي أحمله الآن لأسره، وليعود إليه بصره، فحمله؛ حكاه السدي. « وأتوني بأهلكم أجمعين » لتتخذوا مصر دارا. قال مسروق: فكانوا ثلاثة وتسعين، ما بين رجل وامرأة. وقد قيل: إن القميص الذي بعثه هو القميص الذي قد من دبره، ليعلم يعقوب أنه عصم من الزنى؛ والقول الأول أصح، وقد روى مرفوعا من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ذكره القشيري والله أعلم.

 

الآية: 94 ( ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون )

 

قوله تعالى: « ولما فصلت العير » أي خرجت منطلقة من مصر إلى الشام، يقال: فصل فصولا، وفصلته فصلا، فهو لازم ومتعد. « قال أبوهم » أي قال لمن حضر من قرابته ممن لم يخرج إلى مصر وهم ولد ولده: « إني لأجد ريح يوسف » وقد يحتمل، أن يكون خرج بعض بنيه، فقال لمن بقي: « إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون » . قال ابن عباس: هاجت ريح فحملت ريح قميص يوسف إليه، وبينهما مسيرة ثمان ليال. وقال الحسن: مسيرة عشر ليال؛ وعنه أيضا مسيرة شهر. وقال مالك بن أنس رضي الله عنه: إنما أوصل ريحه من أوصل عرش. بلقيس قبل أن يرتد إلى سليمان عليه السلام طرفه. وقال مجاهد: هبت ريح فصفقت القميص فراحت روائح الجنة في الدنيا واتصلت بيعقوب، فوجد ريح الجنة فعلم أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص، فعند ذلك قال: « إني لأجد » أي أشم؛ فهو وجود بحاسة الشم. « لولا أن تفندوني » قال ابن عباس ومجاهد: لولا أن تسفهون؛ ومنه قول النابغة:

إلا سليمان إذ قال المليك له قم في البرية فاحددها عن الفند

أي عن السفه. وقال سعيد بن جبير والضحاك: لولا أن تكذبون. والفند الكذب. وقد أفند إفنادا كذب؛ ومنه قول الشاعر:

يا صاحبي دعا لومي وتفنيدي فليس ما فات من أمري مردود

وقال ابن الأعرابي: « لولا أم تفندون » لولا أن تُضعفوا رأي؛ وقاله ابن إسحاق. والفند ضعف الرأي من كبر. وقول رابع: تضللون، قاله أبو عبيدة. وقال الأخفش: تلوموني؛ والتفنيد اللوم وتضعيف الرأي. وقال الحسن وقتادة ومجاهد أيضا: تهرمون؛ وكله متقارب المعنى، وهو راجع إلى التعجيز وتضعيف الرأي؛ يقال: فنده تفنيدا إذا أعجزه، كما قال:

أهلكني باللوم والتفنيد

ويقال: أفند إذا تكلم بالخطأ؛ والفند الخطأ في الكلام والرأي، كما قال النابغة:

. ... فاحددها عن الفند

أي امنعها عن الفساد في العقل، ومن ذلك قيل: اللوم تفنيد؛ قال الشاعر:

يا عاذلي دعا الملام وأقصرا طال الهوى وأطلتما التفنيدا

ويقال: أفند فلانا الدهر إذا أفسده؛ ومنه قول ابن مقبل:

دع الدهر يفعل ما أراد فإنه إذا كلف الإفناد بالناس أفندا

 

الآية: 95 ( قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم )

 

قوله تعالى: « قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم » أي لفي ذهاب عن طريق الصواب. وقال ابن عباس وابن زيد: لفي خطئك الماضي من حب يوسف لا تنساه. وقال سعيد بن جبير: لفي جنونك القديم. قال الحسن: وهذا عقوق. وقال قتادة وسفيان: لفي محبتك القديمة. وقيل: إنما قالوا هذا؛ لأن يوسف عندهم كان قد مات. وقيل: إن الذي قال له ذلك من بقي معه من ولده ولم يكن عندهم الخبر. وقيل: قال له ذلك من كان معه من أهله وقرابته. وقيل: بنو بنيه وكانوا صغارا؛ فالله أعلم.

 

الآية: 96 ( فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون )

 

قوله تعالى: « فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه » أي على عينيه. « فارتد بصيرا » « أن » زائدة، والبشير قيل هو شمعون. وقيل: يهوذا قال: أنا أذهب بالقميص اليوم كما ذهبت به ملطخا بالدم؛ قال ابن عباس. وعن السدي أنه قال لإخوته: قد علمتم أني ذهبت إليه بقميص الترحة فدعوني أذهب إليه بقميص الفرحة. وقال يحيى بن يمان عن سفيان: لما جاء البشير إلى يعقوب قال له: على أي دين تركت يوسف؟ قال: على الإسلام؛ قال: الآن تمت النعمة؛ وقال الحسن: لما ورد البشير على يعقوب لم يجد عنده شيئا يثيبه به؛ فقال: والله ما أصبت عندنا شيئا؛ وما خبزنا شيئا منذ سبع ليال، ولكن هون الله عليك سكرات الموت.

قلت: وهذا الدعاء من أعظم ما يكون من الجوائز، وأفضل العطايا والذخائر. ودلت هذه الآية على جواز البذل والهبات عند البشائر. وفي الباب حديث كعب بن مالك - الطويل - وفيه: « فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته » وذكر الحديث، وقد تقدم بكماله في قصة الثلاثة الذين خلفوا، وكسوة كعب ثوبيه للبشير مع كونه ليس له غيرهما دليل على جواز مثل ذلك إذا ارتجى حصول ما يستبشر به. وهو دليل على جواز إظهار الفرح بعد زوال الغم والترح. ومن هذا الباب جواز حذاقة الصبيان، وإطعام الطعام فيها، قد نحر عمر بعد حفظه سورة « البقرة » جزورا. والله أعلم. « قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون » ذكرهم قوله: « إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون » [ يوسف: 86 ] .

 

الآيتان: 97 - 98 ( قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين، قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم )

 

قوله تعالى: « قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين » في الكلام حذف، التقدير: فلما رجعوا من مصر قالوا يا أبانا؛ وهذا يدل على أن الذي قال له: « تالله إنك لفي ضلالك » القديم « بنو بنيه أو غيرهم من قرابته وأهله لا ولده، فإنهم كانوا غيبا، وكان يكون ذلك زيادة في العقوق. والله أعلم. وإنما سألوه المغفرة، لأنهم أدخلوا عليه من ألم الحزن ما لم يسقط المأثم عنه إلا بإحلاله. »

قلت: وهذا الحكم ثابت فيمن آذى مسلما في نفسه أو ماله أو غير ذلك ظالما له؛ فإنه يجب عليه أن يتحلل له ويخبره بالمظلمة وقدرها؛ وهل ينفعه التحليل المطلق أم لا؟ فيه خلاف والصحيح أنه لا ينفع؛ فإنه لو أخبره بمظلمة لها قدر وبال ربما لم تطب نفس المظلوم في التحلل منها. والله أعلم. وفي صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: ( من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه ) قال المهلب فقوله صلى الله عليه وسلم: ( أخذ منه بقدر مظلمته ) يجب أن تكون المظلمة معلومة القدر مشارا إليها مبينة، والله أعلم.

 

قوله تعالى: « قال سوف أستغفر لكم ربي » قال ابن عباس: أخر دعاءه إلى السحر. وقال المثنى بن الصباح عن طاوس قال: سحر ليلة الجمعة، ووافق ذلك ليلة عاشوراء. وفي دعاء الحفظ - من كتاب الترمذي - عن ابن عباس أنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه علي بن أبي طالب - رضى الله عنه - فقال: - بأبي أنت وأمي - تفلت هذا القرآن من صدري، فما أجدني أقدر عليه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أفلا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن وينفع بهن من علمته ويثبت ما تعلمت في صدرك ) قال: أجل يا رسول الله! فعلمني؛ قال: ( إذا كان ليلة الجمعة فإن استطعت أن تقوم في ثلث الليل الآخر فإنها ساعة مشهودة والدعاء فيها مستجاب وقد قال أخي يعقوب لبنيه « سوف أستغفر لكم ربي » يقول حتى تأتي ليلة الجمعة ) وذكر الحديث. وقال قال أيوب بن أبي تميمة السختياني عن سعيد بن جبير قال: « سوف استغفر لكم ربي » في الليالي البيض، في الثالثة عشرة، والرابعة عشرة، والخامسة عشرة فإن الدعاء فيها مستجاب. وعن عامر الشعبي قال: « سوف استغفر لكم ربي » أي أسأل يوسف إن عفا عنكم استغفرت لكم ربي؛ وذكر سنيد بن داود قال: حدثنا هشيم قال حدثنا عبدالرحمن بن إسحاق عن محارب بن دثار عن عمه قال: كنت آتي المسجد في السحر فأمر بدار ابن مسعود فأسمعه يقول: اللهم إنك أمرتني فأطعت، ودعوتني فأجبت، وهذا سحر فاغفر لي، فلقيت ابن مسعود فقلت: كلمات أسمعك تقولهن في السحر فقال: إن يعقوب أخر بنيه إلى السحر بقوله: « سوف استغفر لكم ربي » .

 

الآية: 99 ( فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين )

 

قوله تعالى: « فلما دخلوا على يوسف » أي قصرا كان له هناك. « آوى إليه أبويه » قيل: إن يوسف بعث مع البشير مائتي راحلة وجهازا، وسأل يعقوب أن يأتيه بأهله وولده جميعا؛ فلما دخلوا عليه آوى إليه أبويه، أي ضم؛ ويعني بأبويه أباه وخالته، وكانت أمه قد ماتت في ولادة أخيه بنيامين. وقيل: أحيا الله له أمه تحقيقا للرؤيا حتى سجدت له، قاله الحسن؛ وقد تقدم في « البقرة » أن الله تعالى أحيا لنبيه عليه السلام أباه وأمه فآمنا به.

 

قوله تعالى: « وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين » قال ابن جريج: أي سوف أستغفر لكم ربي إن شاء الله؛ قال: وهذا من تقديم القرآن وتأخيره؛ قال النحاس: يذهب ابن جريج إلى أنهم قد دخلوا مصر فكيف يقول: « ادخلوا مصر إن شاء الله » . وقيل: إنما قال: « إن شاء الله » تبركا وجزما. « آمنين » من القحط، أو من فرعون؛ وكانوا لا يدخلونها إلا بجوازه.

 

الآية: 100 ( ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم )

 

قوله تعالى: « ورفع أبويه على العرش » قال قتادة: يريد السرير، وقد تقدمت محامله؛ قد يعبر بالعرش عن الملك والملك نفسه؛ ومنه قول النابغة الذبياني:

عروش تفانوا بعد وأمنة

وقد تقدم.

 

قوله تعالى: « وخروا له سجدا » الهاء في « خروا له » قيل: إنها تعود على الله تعالى؛ المعنى: وخروا شكرا لله سجدا؛ ويوسف كالقبلة لتحقيق روياه، وروي عن الحسن؛ قال النقاش: وهذا خطأ؛ والهاء راجعة إلى يوسف لقوله تعالى في أول السورة: « رأيتهم لي ساجدين » [ يوسف: 4 ] . وكان تحيتهم أن يسجد الوضيع للشريف، والصغير للكبير؛ سجد يعقوب وخالته وإخوته ليوسف عليه السلام، فاقشعر جلده وقال: « هذا تأويل رؤياي من قبل » وكان بين رؤيا يوسف وبين تأويلها اثنتان وعشرون سنة. وقال سلمان الفارسي وعبدالله بن شداد: أربعون سنة؛ قال عبدالله بن شداد: وذلك آخر ما تبطئ الرؤيا. وقال قتادة: خمس وثلاثون سنة. وقال السدي وسعيد بن جبير وعكرمة: ست وثلاثون سنة. وقال الحسن وجسر بن فرقد وفضيل ابن عياض: ثمانون سنة. وقال وهب بن منبه: ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة، وغاب عن أبيه ثمانين سنة، وعاش بعد أن التقى بأبيه ثلاثا وعشرين سنة، ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة. وفي التوراة مائة وست وعشرون سنة. وولد ليوسف من امرأة العزيز إفراثيم ومنشا ورحمة امرأة أيوب. وبين يوسف وموسى أربعمائة سنة. وقيل: إن يعقوب بقي عند يوسف عشرين سنة، ثم توفي صلى الله عليه وسلم. وقيل: أقام عنده ثماني عشرة سنة. وقال بعض المحدثين: بعضا وأربعين سنة؛ وكان بين يعقوب ويوسف ثلاث وثلاثون سنة حتى جمعهم الله. وقال ابن إسحاق: ثماني عشرة سنة، والله أعلم.

 

قال سعيد بعد جبير عن قتادة عن الحسن: في قوله: « وخروا له سجدا » - قال: لم يكن سجودا، لكنه سنة كانت فيهم، يومئون برؤوسهم إيماء، كذلك كانت تحيتهم. وقال الثوري والضحاك وغيرهما: كان سجودا كالسجود المعهود عندنا، وهو كان تحيتهم. وقيل: كان انحناء كالركوع، ولم يكن خرورا على الأرض، وهكذا كان سلامهم بالتكفي والانحناء، وقد نسخ الله ذلك كله في شرعنا، وجعل الكلام بدلا عن الانحناء. وأجمع المفسرون أن ذلك السجود على أي وجه كان فإنما كان تحية لا عبادة؛ قال قتادة: هذه كانت تحية الملوك عندهم؛ وأعطى الله هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة.

قلت: هذا الانحناء والتكفي الذي نسخ عنا قد صار عادة بالديار المصرية، وعند العجم، وكذلك قيام بعضهم إلى بعض؛ حتى أن أحدهم إذا لم يقم له وجد في نفسه كأنه لا يؤبه به، وأنه لا قدر له؛ وكذلك إذا التقوا انحنى بعضهم لبعض، عادة مستمرة، ووراثة مستقرة لا سيما عند التقاء الأمراء والرؤساء. نكبوا عن السنن، وأعرضوا عن السنن. وروى أنس بن مالك قال: قلنا يا رسول الله أينحني بعضنا إلى بعض إذا التقينا؟ قال: ( لا ) ؛ قلنا: أفيعتنق بعضنا بعضا؟ قال ( لا ) . قلنا: أفيصافح بعضنا بعضا؟ قال ( نعم ) . خرجه أبو عمر في « التمهيد » فإن قيل: فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قوموا إلى سيدكم وخيركم ) - يعني سعد بن معاذ - قلنا: ذلك مخصوص بسعد لما تقتضيه الحال المعينة؛ وقد قيل: إنما كان قيامهم لينزلوه عن الحمار؛ وأيضا فإنه يجوز للرجل الكبير إذا لم يؤثر ذلك في نفسه، فإن أثر فيه وأعجب به ورأى لنفسه حظا لم يجز عونه على ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( من سره أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار ) . وجاء عن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أنه لم يكن وجه أكرم عليهم من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كانوا يقومون له إذا رأوه، لما يعرفون من كراهته لذلك.

 

فإن قيل: فما تقول في الإشارة بالإصبع؟ قيل له: ذلك جائز إذا بعد عنك، لتعين له به وقت السلام، فإن كان دانيا فلا؛ وقد قيل بالمنع في القرب والبعد؛ لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من تشبه بغيرنا فليس منا ) . وقال: ( لا تسلموا تسليم اليهود والنصارى فإن تسليم اليهود بالأكف والنصارى بالإشارة ) . وإذا سلم فإنه لا ينحني، ولا أن يقبل مع السلام يده، ولأن الانحناء على معنى التواضع لا ينبغي إلا لله. وأما تقبيل اليد فإنه من فعل الأعاجم، ولا يتبعون على أفعالهم التي أحدثوها تعظيما منهم لكبرائهم؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تقوموا عند رأسي كما تقوم الأعاجم عند رؤوس أكاسرتها « فهذا مثله. ولا بأس بالمصافحة؛ فقد صافح النبي صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب حين قدم من الحبشة، وأمر بها، وندب إليها، وقال: ( تصافحوا يذهب الغل ) وروى غالب التمار عن الشعبي أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا إذا التقوا تصافحوا، وإذا قدموا من سفر تعانقوا؛ فإن قيل: فقد كره مالك المصافحة؟ قلنا: روى ابن وهب عن مالك أنه كره المصافحة والمعانقة، وذهب إلى هذا سحنون وغيره من أصحابنا؛ وقد روي عن مالك خلاف ذلك من جواز المصافحة، وهو الذي يدل عليه معنى ما في الموطأ؛ وعلى جواز المصافحة جماعة العلماء من السلف والخلف. قال ابن العربي: إنما كره مالك المصافحة لأنه لم يرها أمرا عاما في الدين، ولا منقولا نقل »

قلت: قد جاء في المصافحة حديث يدل على الترغيب فيها، والدأب عليها والمحافظة؛ وهو ما رواه البراء بن عازب قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي فقلت: يا رسول الله! إن كنت لأحسب أن المصافحة للأعاجم؟ فقال: ( نحن أحق بالمصافحة منهم ما من مسلمين يلتقيان فيأخذ أحدهما بيد صاحبه مودة بينهما ونصيحة إلا ألقيت ذنوبها بينهما ) .

 

قوله تعالى: « وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن » ولم يقل من الجب استعمالا للكرم؛ لئلا يذكر إخوته صنيعهم بعد عفوه عنهم بقوله: « لا تثريب عليكم » .

قلت: وهذا هو الأصل عند مشايخ الصوفية: ذكر الجفا في وقت الصفا جفا، وهو قول صحيح دل عليه الكتاب. وقيل: لأن في دخول السجن كان باختياره بقوله: « رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه » [ يوسف: 33 ] وكان في الجب بإرادة الله تعالى له. وقيل: لأنه كان في السجن مع اللصوص والعصاة، وفي الجب مع الله تعالى؛ وأيضا فإن المنة في النجاة من السجن كانت أكبر، لأنه دخله بسبب أمرهم به؛ وأيضا دخله باختياره إذ قال: « رب السجن أحب إلي » فكان الكرب فيه أكثر؛ وقال فيه أيضا: « اذكرني عند ربك » [ يوسف: 42 ] فعوقب فيه.

 

قوله تعالى: « وجاء بكم من البدو » يروى أن مسكن يعقوب كان بأرض كنعان، وكانوا أهل مواش وبرية؛ وقيل: كان يعقوب تحول إلى بادية وسكنها، وأن الله لم يبعث نبيا من أهل البادية. وقيل: إنه كان خرج إلى بدا، وهو موضع؛ وإياه عنى جميل بقوله:

وأنت التي حببت شغبا إلى بدا إلي وأوطاني بلاد سواهما

وليعقوب بهذا الموضع مسجد تحت جبل. يقال: بدا القوم بدوا إذا أتوا بدا، كما يقال: غاروا غورا أي أتوا الغور؛ والمعنى: وجاء بكم من مكان بدا؛ ذكره القشيري، وحكاه الماوردي عن الضحاك عن ابن عباس. « من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي » بإيقاع الحسد؛ قاله ابن عباس. وقيل: أفسد ما بيني وبين إخوتي؛ أحال ذنبهم على الشيطان تكرما منه. « إن ربي لطيف لما يشاء » أي رفيق بعباده. وقال الخطابي: اللطيف هو البر بعباده الذي يلطف بهم من حيث لا يعلمون، ويسبب لهم مصالحهم من حيث لا يحتسبون؛ كقوله: « الله لطيف بعباده يرزق من يشاء » [ الشورى: 19 ] . وقيل: اللطيف العالم بدقائق الأمور؛ والمراد هنا الإكرام والرفق. قال قتادة، لطف بيوسف بما خراجه من السجن، وجاءه بأهله من البدو، ونزع عن قلبه نزغ الشيطان. ويروى أن يعقوب لما قدم بأهله وولده وشارف أرض مصر وبلغ ذلك يوسف استأذن فرعون - واسمه الريان - أن يأذن له في تلقي أبيه يعقوب؛ وأخبره بقدومه فأذن له، وأمر الملأ من أصحابه بالركوب معه؛ فخرج يوسف والملك معه في أربعة آلاف من الأمراء مع كل أمير خلق الله أعلم بهم؛ وركب أهل مصر معهم يتلقون يعقوب، فكان يعقوب يمشي متكئا على يد يهوذا؛ فنظر يعقوب إلى الخيل والناس والعساكر فقال: يا يهوذا! هذا فرعون مصر؟ قال: لا، بل هذا ابنك يوسف؛ فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه ذهب يوسف ليبدأه بالسلام فمنع من ذلك، وكان يعقوب أحق بذلك منه وأفضل؛ فابتدأ يعقوب بالسلام فقال: السلام عليك يا مذهب الأحزان، وبكى وبكى معه يوسف؛ فبكى يعقوب فرحا، وبكى يوسف لما رأى بأبيه من الحزن؛ قال ابن عباس: فالبكاء أربعة، بكاء من الخوف، وبكاء من الجزع، وبكاء من الفرح، وبكاء رياء. ثم فال يعقوب: الحمد لله الذي أقر عيني بعد الهموم والأحزان، ودخل، مصر في اثنين وثمانين من أهل بيته؛ فلم يخرجوا من مصر حتى بلغوا ستمائة ألف ونيف ألف؛ وقطعوا البحر مع موسى عليه السلام؛ رواه عكرمة عن ابن عباس. وحكى ابن مسعود أنهم دخلوا مصر وهم ثلاثة وتسعون إنسانا ما بين رجل وامرأة، وخرجوا مع موسى وهم ستمائة ألف وسبعون ألفا. وقال الربيع بن خيثم: دخلوها وهم اثنان وسبعون ألفا، وخرجوا مع موسى وهم ستمائة ألف. وقال وهب: بن منبه دخل يعقوب وولده مصر وهم تسعون إنسانا ما بين رجل وامرأة وصغير، وخرجوا منها مع موسى فرارا من فرعون، وهم ستمائة ألف وستمائة وبضع وسبعون رجل مقاتلين، سوى الذرية. والهرمى والزمنى؛ وكانت الذرية ألف ألف ومائتي ألف سوى المقاتلة، وقال أهل التواريخ: أقام يعقوب بمصر أربعا وعشرين سنة في أغبط حال ونعمة، ومات بمصر، وأوصى إلى ابنه يوسف أن يحمل جسده حتى يدفنه عند أبيه إسحاق بالشام ففعل، ثم انصرف إلى مصر. قال سعيد بن جبير: نقل يعقوب صلى الله عليه وسلم في تابوت من ساج إلى بيت المقدس، ووافق ذلك يوم مات عيصو، فدفنا في قبر واحد؛ فمن ثم تنقل اليهود موتاهم إلى بيت المقدس، من فعل ذلك منهم؛ وولد يعقوب وعيصو في بطن واحد، ودفنا في قبر واحد وكان عمرهما جميعا مائة وسبعا وأربعين سنة.

 

الآية: 101 ( رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين )

 

قوله تعالى: « رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث » قال قتادة: لم يتمن الموت أحد؛ نبي ولا غيره إلا يوسف عليه السلام؛ حين تكاملت عليه النعم وجمع له الشمل اشتاق إلى لقاء ربه عز وجل. وقيل: إن يوسف لم يتمن الموت، وإنما تمنى الوفاة على الإسلام؛ أي إذا جاء أجلي توفني مسلما؛ وهذا قول الجمهور. وقال سهل بن عبدالله التستري: لا يتمنى الموت إلا ثلاث: رجل جاهل بما بعد الموت، أو رجل يفر من أقدار الله تعالى عليه، أو مشتاق محب للقاء الله عز وجل. وثبت في الصحيح عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به فإن كان لا بد متمنيا فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي ) رواه مسلم. وفيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يتمنين أحدكم الموت ولا يدع به من قبل أن يأتيه إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا ) . وإذا ثبت هذا فكيف يقال: إن يوسف عليه السلام تمنى الموت والخروج من الدنيا وقطع العمل؟ هذا بعيد! إلا أن يقال: إن ذلك كان جائزا في شرعه؛ أما أنه يجوز تمني الموت والدعاء به عند ظهور الفتن وغلبتها، وخوف ذهاب الدين، على ما بيناه في كتاب « التذكرة » . « ومن » من قوله: « من الملك » للتبعيض، وكذلك قوله: « وعلمتني من تأويل الأحاديث » لأن ملك مصر ما كان كل الملك، وعلم التعبير ما كان كل العلوم. وقيل: « من » للجنس كقوله: « فاجتنبوا الرجس من الأوثان » [ الحج:30 ] وقيل: للتأكد. أي آتيتني الملك وعلمتني تأويل الأحاديث.

 

قوله تعالى: « فاطر السماوات والأرض » نصب على النعت للنداء، وهو رب، وهو نداء مضاف؛ والتقدير: يا رب! ويجوز أن يكون نداء ثانيا. والفاطر الخالق؛ فهو سبحانه فاطر الموجودات، أي خالقها ومبدئها ومنشئها ومخترعها على الإطلاق من غير شيء، ولا مثال سبق؛ وقد تقدم هذا المعنى في « البقرة » مستوفى؛ عند قوله: « بديع السماوات والأرض » [ البقرة: 117 ] وزدناه بيانا في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى. « أنت وليي » أي ناصري ومتولي أموري في الدنيا والآخرة. « توفني مسلما وألحقني بالصالحين » يريد آباءه الثلاثة؛ إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فتوفاه الله - طاهرا طيبا صلى الله عليه وسلم - بمصر، ودفن في النيل في صندوق من رخام؛ وذلك أنه لما مات تشاح الناس عليه؛ كل يحب أن يدفن في محلتهم، لما يرجون من بركته؛ واجتمعوا على ذلك حتى هموا بالقتال، فرأوا أن يدفنوه في النيل من حيث مفرق الماء بمصر، فيمر عليه الماء، ثم يتفرق في جميع مصر، فيكونوا فيه شرعا ففعلوا؛ فلما خرج موسى ببني إسرائيل أخرجه من النيل: ونقل تابوته بعد أربعمائة سنة إلى بيت المقدس، فدفنوه مع آبائه لدعوته: « وألحقني بالصالحين » وكان عمره مائة عام وسبعة أعوام. وعن الحسن قال: ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة، وكان في العبودية والسجن والملك ثمانين سنة، ثم جمع له شمله فعاش بعد ذلك ثلاثا وعشرين سنه؛ وكان له من الولد إفراثيم، ومنشا، ورحمة، زوجة أيوب؛ في قول ابن لهيعة. قال الزهري: وولد لإفراثيم - بن يوسف - نون بن إفراثيم، وولد لنون يوشع؛ فهو يوشع بن نون، وهو فتى موسى الذي كان معه صاحب أمره، ونبأه الله في زمن موسى عليه السلام؛ فكان بعده نبيا، وهو الذي افتتح أريحا، وقتل من كان بها من الجبابرة، واستوقفت له الشمس حسب ما تقدم في « المائدة » . وولد لمنشا بن يوسف موسى بن منشا، قبل موسى بن عمران. وأهل التوراة يزعمون أنه هو الذي طلب العالم ليتعلم منه حتى أدركه، والعالم هو الذي خرق السفينة، وقتل الغلام، وبنى الجدار، وموسى بن منشا معه حتى بلغه معه حيث بلغ؛ وكان ابن عباس ينكر ذلك؛ والحق الذي قاله ابن عباس؛ وكذلك في القرآن. ثم كان بين يوسف وموسى أمم وقرون، وكان فيما بينهما شعيب، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

 

الآية: 102 ( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون )

 

قوله تعالى: « ذلك من أنباء الغيب » ابتداء وخبر. « نوحيه إليك » خبر ثان. قال الزجاج: ويجوز أن يكون « ذلك » بمعنى الذي! « نوحيه إليك » خبره؛ أي الذي من أنباء الغيب نوحيه إليك؛ يعني هو الذي قصصنا عليك يا محمد من أمر يوسف من أخبار الغيب « نوحيه إليك » أي نعلمك بوحي هذا إليك. « وما كنت لديهم » أي مع إخوة يوسف « إذ أجمعوا أمرهم » في إلقاء يوسف في الجب. « وهم يمكرون » أي بيوسف في إلقائه في الجب. وقيل: « يمكرون » بيعقوب حين جاؤوه بالقميص ملطخا بالدم؛ أي ما شاهدت تلك الأحوال، ولكن الله أطلعك عليها.

 

الآية: 103 ( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين )

 

قوله تعالى: « وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين » ظن أن العرب لما سألته عن هذه القصة وأخبرهم يؤمنون، فلم يؤمنوا؛ فنزلت الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي ليس تقدر على هداية من أردت هدايته؛ تقول: حرص يحرص، مثل: ضرب يضرب. وفي لغة ضعيفة حرص يحرص مثل حمد يحمد. والحرص طلب الشيء باختيار.

 

الآية: 104 ( وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين )

 

قوله تعالى: « وما تسألهم عليه من أجر » « من » صلة؛ أي ما تسألهم جعلا. « إن هو » أي ما هو؛ يعني القرآن والوحي. « إلا ذكر » أي عظة وتذكرة « للعالمين » .

 

الآية: 105 ( وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون )

 

قال الخليل وسيبويه: هي « أي » دخل عليها كاف التشبيه وبنيت معها، فصار في الكلام معنى كم، وقد مضى في « آل عمران » القول فيها مستوفى. ومضى القول في آية « السماوات والأرض » في « البقرة » . وقيل: الآيات آثار عقوبات الأمم السالفة؛ أي هم غافلون معرضون عن تأمل. وقرأ عكرمة وعمرو بن فائد « والأرض » رفعا ابتداء، وخبره. « يمرون عليها » . وقرأ السدي « والأرض » نصبا بإضمار فعل، والوقف على هاتين القراءتين على « السماوات » . وقرأ ابن مسعود: « يمشون عليها » .

 

الآية: 106 ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون )

 

قوله تعالى: « وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون » نزلت في قوم أقروا بالله خالقهم وخالق الأشياء كلها، وهم يعبدون الأوثان؛ قاله الحسن، ومجاهد وعامر الشعبي وأكثر المفسرين. وقال عكرمة هو قوله: « ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله » [ الزخرف: 87 ] ثم يصفونه بغير صفته ويجعلون له أندادا؛ ودعن الحسن أيضا: أنهم أهل كتاب معهم شرك وإيمان، آمنوا بالله وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ فلا يصح إيمانهم؛ حكاه ابن، الأنباري. وقال ابن عباس: نزلت في تلبية مشركي العرب: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. وعنه أيضا أنهم النصارى. وعنه أيضا أنهم المشبهة، آمنوا مجملا وأشركوا مفصلا. وقيل: نزلت في المنافقين؛ المعنى: « وما يؤمن أكثرهم بالله » أي باللسان إلا وهو كافر بقلبه؛ ذكره الماوردي عن الحسن أيضا. وقال عطاء: هذا في الدعاء؛ وذلك أن الكفار ينسون ربهم في الرخاء، فإذا أصابهم البلاء أخلصوا في الدعاء؛ بيانه: « وظنوا أنهم أحيط بهم » [ يونس: 22 ] الآية. وقوله: « وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه » [ يونس: 12 ] الآية. وفي آية أخرى: « وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض » [ فصلت: 51 ] . وقيل: معناها أنهم يدعون الله ينجيهم من الهلكة، فإذا أنجاهم قال قائلهم: لولا فلان ما نجونا، ولولا الكلب لدخل علينا اللص، ونحو هذا؛ فيجعلون. نعمة الله منسوبة إلى فلان، ووقايته منسوبة إلى الكلب.

قلت: وقد يقع في هذا القول والذي قبله كثير من عوام المسلمين؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وقيل: نزلت هذه الآية في قصة الدخان؛ وذلك أن أهل مكة لما غشيهم الدخان في سني القحط قالوا: « ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون » [ الدخان: 12 ] فذلك إيمانهم، وشركهم عودهم إلى الكفر بعد كشف العذاب؛ بيانه قوله: « إنكم عائدون » [ الدخان: 15 ] والعود لا يكون إلا بعد ابتداء؛ فيكون معنى: « إلا وهم مشركون » أي إلا وهم عائدون إلى الشرك، والله أعلم.

 

الآية: 107 ( أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون )

 

قوله تعالى: « أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله » قال ابن عباس: مجللة. وقال مجاهد: عذاب يغشاهم؛ نظيره. « يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم » [ العنكبوت: 55 ] . وقال قتادة: وقيعة تقع لهم. وقال الضحاك: يعني الصواعق والقوارع. « أو تأتيهم الساعة » يعني القيامة. « بغتة » نصب على الحال؛ وأصله المصدر. وقال المبرد: جاء عن العرب حال بعد نكرة؛ وهو قولهم: وقع أمر بغتة وفجأة؛ قال النحاس: ومعنى « بغتة » إصابة من حيث لم يتوقع. « وهم لا يشعرون » وهو توكيد. وقوله: « بغتة » قال ابن عباس: تصيح الصيحة بالناس وهم في أسواقهم ومواضعهم، كما قال: « تأخذهم وهم يخصمون » [ يس: 49 ] على ما يأتي.

 

الآية: 108 ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين )

 

قوله تعالى: « قل هذه سبيلي » ابتداء وخبر؛ أي قل يا محمد هذه طريقي وسنتي ومنهاجي؛ قاله ابن زيد. وقال الربيع: دعوتي، مقاتل: ديني، والمعنى واحد؛ أي الذي أنا عليه وأدعو إليه يؤدي إلى الجنة. « على بصيرة » أي على يقين وحق؛ ومنه: فلان مستبصر بهذا. « أنا » توكيد. « ومن اتبعني » عطف على المضمر. « وسبحان الله » أي قل يا محمد: « وسبحان الله » . « وما أنا من المشركين » الذين يتخذون من دون الله أندادا.

 

الآية: 109 ( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون )

 

قوله تعالى: « وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى » هذا رد على القائلين: « لولا أنزل عليه ملك » [ الأنعام: 8 ] أي أرسلنا رجالا ليس فيهم امرأة ولا جني ولا ملك؛ وهذا يرد ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن في النساء أربع نبيات حواء وآسية وأم موسى ومريم ) . وقد تقدم في « آل عمران » شيء من هذا. « من أهل القرى » يريد المدائن؛ ولم يبعث الله نبيا من أهل البادية لغلبة الجفاء والقسوة على أهل البدو؛ ولأن أهل الأمصار أعقل وأحلم وأفضل وأعلم. قال الحسن: لم يبعث الله نبيا من أهل البادية قط، ولا من النساء، ولا من الجن. وقال قتادة: « من أهل القرى » أي من أهل الأمصار؛ لأنهم أعلم وأحلم. وقال العلماء: من شرط الرسول أن يكون رجلا آدميا مدنيا؛ وإنما قالوا آدميا تحرزا؛ من قوله: « يعوذون برجال من الجن » [ الجن: 6 ] والله أعلم.

 

قوله تعالى: « أفلم يسيروا في الأرض فينظروا » إلى مصارع الأمم المكذبة لأنبيائهم فيعتبروا. « ولدار الآخرة خير » ابتداء وخبره. وزعم الفراء أن الدار هي الآخرة؛ وأضيف الشيء إلى نفسه لاختلاف اللفظ، كيوم الخميس، وبارحة الأولى؛ قال الشاعر:

ولو أقوت عليك ديار عبس عرفت الذل عرفان اليقين

أي عرفانا يقينا؛ واحتج الكسائي بقولهم: صلاة الأولى؛ واحتج الأخفش بمسجد الجامع. قال النحاس: إضافة الشيء إلى نفسه محال؛ لأنه إنما يضاف الشيء إلى غيره ليتعرف به؛ والأجود الصلاة الأولى، ومن قال صلاة الأولى فمعناه: عند صلاة الفريضة الأولى؛ وإنما سميت الأولى لأنها أول ما صلي حين فرضت الصلاة، وأول ما أظهر؛ فلذلك قيل لها أيضا الظهر. والتقدير: ولدار الحال الآخرة خير، وهذا قول البصريين؛ والمراد بهذه الدار الجنة؛ أي هي خير للمتقين. وقرئ: « وللدار الآخرة » . وقرأ نافع وعاصم ويعقوب وغيرهم. « أفلا تعقلون » بالتاء على الخطاب. الباقون بالياء على الخبر.

 

الآية: 110 ( حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين )

 

قوله تعالى: « حتى إذا استيأس الرسل » تقدم القراءة فيه ومعناه. « وظنوا أنهم قد كذبوا » وهذه الآية فيها تنزيه الأنبياء وعصمتهم عما لا يليق بهم. وهذا الباب عظيم، وخطره جسيم، ينبغي الوقوف، عليه لئلا يزل الإنسان فيكون في سواء الجحيم. المعنى: وما أرسلنا قبلك يا محمد إلا رجالا ثم لم نعاقب أممهم بالعذاب. « حتى إذا استيأس الرسل » أي يئسوا من إيمان قومهم. « وظنوا أنهم قد كذبوا » بالتشديد؛ أي أيقنوا أن قومهم كذبوهم. وقيل المعنى: حسبوا أن من آمن بهم من قومهم كذبوهم، لا أن القوم كذبوا، ولكن الأنبياء ظنوا وحسبوا أنهم يكذبونهم؛ أي خافوا أن يدخل قلوب أتباعهم شك؛ فيكون « وظنوا » على بابه في هذا التأويل. وقرأ ابن عباس وابن مسعود وأبو عبدالرحمن السلمي وأبو جعفر بن القعقاع والحسن وقتادة وأبو رجاء العطاردي وعاصم وحمزة والكسائي ويحيى بن وثاب والأعمش وخلف « كذبوا » بالتخفيف؛ أي ظن القوم أن الرسل كذبوهم فيما أخبروا به من العذاب، ولم يصدقوا. وقيل: المعنى ظن الأمم أن الرسل قد كذبوا فيما وعدوا به من نصرهم. وفي رواية عن ابن عباس؛ ظن الرسل أن الله أخلف ما وعدهم. وقيل: لم تصح هذه الرواية؛ لأنه لا يظن بالرسل هذا الظن، ومن ظن هذا الظن لا يستحق النصر؛ فكيف قال: « جاءكم نصرنا » ؟ ! قال القشيري أبو نصر: ولا يبعد إن صحت الرواية أن المراد خطر بقلوب الرسل هذا من غير أن يتحققوه في نفوسهم؛ وفي الخبر: ( إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم ينطق به لسان أو تعمل به ) . ويجوز أن يقال: قربوا من ذلك الظن؛ كقولك: بلغت المنزل، أي قربت منه.

وذكر الثعلبي والنحاس عن ابن عباس قال: كانوا بشرا فضعفوا من طول البلاء، ونسوا وظنوا أنهم أخلفوا؛ ثم تلا: « حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله » [ البقرة: 214 ] . وقال الترمذي الحكيم: وجهه عندنا أن الرسل كانت تخاف بعد ما وعد الله النصر، لا من تهمة لوعد الله، ولكن لتهمة النفوس أن تكون قد أحدثت، حدثا ينقض ذلك الشرط والعهد الذي عهد إليهم؛ فكانت إذا طالت عليهم المدة دخلهم الإياس والظنون من هذا الوجه. وقال المهدوي عن ابن عباس: ظنت الرسل أنهم قد أخلفوا على ما يلحق البشر؛ واستشهد بقول إبراهيم عليه السلام: « رب أرني كيف تحيى الموتى » [ البقرة: 260 ] الآية. والقراءة الأولى أولى. وقرأ مجاهد وحميد - « قد كذبوا » بفتح الكاف والذال مخففا؛ على معنى: وظن قوم الرسل أن الرسل قد كذبوا، لما رأوا من تفضل الله عز وجل في تأخير العذاب. ويجوز أن يكون المعنى: ولما أيقن الرسل أن قومهم قد كذبوا على الله بكفرهم جاء الرسل نصرنا. وفي البخاري عن عروة عن عائشة قالت له وهو يسألها عن قول الله عز وجل: « حتى إذا استيأس الرسل » قال قلت: أكذبوا أم كذبوا؟ قالت عائشة: كذبوا. قلت: فقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن؟ قالت: أجل! لعمري! لقد استيقنوا بذلك؛ فقلت لها: « وظنوا أنهم قد كذبوا » قالت: معاذ الله! لم تكن الرسل تظن ذلك بربها. قلت: فما هذه الآية؟ قالت: هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم، فطال عليهم البلاء، واستأخر عنهم النصر حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم جاءهم نصرنا عند ذلك. وفي قوله تعالى: « جاءهم نصرنا » قولان: أحدهما: جاء الرسل نصر الله؛ قال مجاهد. الثاني: جاء قومهم عذاب الله؛ قاله ابن عباس. « فننجي من نشاء » قيل: الأنبياء ومن آمن معهم. وروي عن عاصم « فنجي من نشاء » بنون واحدة مفتوحة الياء، و « من » في موضع رفع، اسم ما لم يسم فاعله؛ واختار أبو عبيد هذه القراءة لأنها في مصحف عثمان، وسائر مصاحف البلدان بنون واحدة. وقرأ ابن محيصن « فنجا » فعل ماض، و « من » في موضع رفع لأنه الفاعل، وعلى قراءة الباقين نصبا على المفعول. « ولا يرد بأسنا » أي عذابنا. « عن القوم المجرمين » أي الكافرين المشركين.

 

الآية: 111 ( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون )

 

قوله تعالى: « لقد كان في قصصهم عبرة » أي في قصة يوسف وأبيه وإخوته، أو في قصص الأمم. « عبرة » أي فكرة وتذكرة وعظة. « لأولي الألباب » أي العقول. وقال محمد بن إسحاق عن الزهري عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي: إن يعقوب عاش مائة سنة وسبعا وأربعين سنة، وتوفي أخوه عيصو معه في يوم واحد، وقبرا في قبر واحد؛ فذلك قوله: « لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب » إلى آخر السورة. « ما كان حديثا يفترى » أي ما كان القرآن حديثا يفترى، أو ما كانت هذه القصة حديثا يفترى. « ولكن تصديق الذي بين يديه » أي ولكن كان تصديق، ويجوز الرفع بمعنى لكن هو تصديق الذي بين يديه أي ما كان قبله من التوراة والإنجيل وسائر كتب الله تعالى؛ وهذا تأويل من زعم أنه القرآن. « وتفصيل كل شيء » مما يحتاج العباد إليه من الحلال والحرام، والشرائع والأحكام. « وهدى ورحمة لقوم يؤمنون » .

 

سورة الرعد

مقدمة السورة

 

سورة الرعد مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، ومدنية في قول الكلبي ومقاتل. وقال ابن عباس وقتادة: مدنية إلا آيتين منها نزلتا بمكة؛ وهما قوله عز وجل: « ولو أن قرآنا سيرت به الجبال » [ الرعد: 31 ] [ إلى آخرهما ] .

 

الآية: 1 ( المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون )

 

قوله تعالى: « المر تلك آيات الكتاب » تقدم القول فيها. « والذي أنزل إليك » يعني وهذا القرآن الذي أنزل إليك. « من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون » لا كما يقول المشركون: إنك تأتي به من تلقاء نفسك؛ فاعتصم به، وأعمل بما فيه. قال مقاتل: نزلت حين قال المشركون: إن محمدا أتى بالقرآن من تلقاء نفسه. « والذي » في موضع رفع عطفا على « آيات » أو على الابتداء، و « الحق » خبره؛ ويجوز أن يكون موضعه جرا على تقدير: وآيات الذي أنزل إليك، وارتفاع « الحق » على هذا على إضمار مبتدأ، تقديره: ذلك الحق؛ كقوله تعالى: « وهم يعلمون الحق » [ البقرة:146 - 147 ] يعني ذلك الحق. قال الفراء: وإن شئت جعلت « الذي » خفضا نعتا للكتاب، وإن كانت فيه الواو كما يقال: أتانا هذا الكتاب عن أبي حفص والفاروق؛ ومنه قول الشاعر:

إلى الملك القرم وابن الهمام وليت الكتيبة في المزدحم

يريد: إلى الملك القرم بن الهمام، ليث الكتيبة. « ولكن أكثر الناس لا يؤمنون »

 

الآية: 2 ( الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون )

 

قوله تعالى: « الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها » الآية. لما بين تعالى أن القرآن حق، بين أن من أنزل قادر على الكمال؛ فانظروا في مصنوعاته لتعرفوا كمال قدرته؛ وقد تقدم هذا المعنى. وفي قوله: « بغير عمد ترونها » قولان: أحدهما: أنها مرفوعة بغير عمد ترونها؛ قاله قتادة وإياس بن معاوية وغيرهما. الثاني: لها عمد، ولكنا لا نراه؛ قال ابن عباس: لها عمد على جبل قاف؛ ويمكن أن يقال على هذا القول: العمد قدرته التي يمسك بها السماوات والأرض، وهي غير مرئية لنا؛ ذكره الزجاج. وقال ابن عباس أيضا: هي توحيد المؤمن. أعمدت السماء حين كادت تنفطر من كفر الكافر؛ ذكره الغزنوي. والعمد جمع عمود؛ قال النابغة:

وخيس الجن إني قد أذنت لهم يبنون تدمر بالصفاح والعمد

 

قوله تعالى: « ثم استوى على العرش » تقدم الكلام فيه. « وسخر الشمس والقمر » أي ذللهما لمنافع خلقه ومصالح عباده؛ وكل مخلوق مذلل للخالق. « كل يجري لأجل مسمى » أي إلى وقت معلوم؛ وهو فناء الدنيا، وقيام الساعة التي عندها تكور الشمس، ويخسف القمر، وتنكدر النجوم، وتنتثر الكواكب. وقال ابن عباس: أراد بالأجل المسمى درجاتهما ومنازلها التي ينتهيان إليها لا يجاوزانها. وقيل: معنى الأجل المسمى أن القمر يقطع فلكه في شهر، والشمس في سنة. « يدبر الأمر » أي يصرفه على ما يريد. « يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون » « يفصل الآيات » أي يبينها أي من قدر على هذه الأشياء يقدر على الإعادة؛ ولهذا قال: « لعلكم بلقاء ربكم توقنون » .

 

الآية: 3 ( وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون )

 

قوله تعالى: « وهو الذي مد الأرض » لما بين آيات السماوات بين آيات الأرض؛ أي بسط الأرض طولا وعرضا. « وجعل فيها رواسي » أي جبالا ثوابت؛ واحدها راسية؛ لأن الأرض ترسو بها، أي تثبت؛ والإرساء الثبوت؛ قال عنترة:

فصبرت عارفة لذلك حرة ترسوا إذا نفس الجبان تطلع

وقال جميل:

أحبها والذي أرسى قواعده حبا إذا ظهرت آياته بطنا

وقال ابن عباس وعطاء: أول جبل وضع على الأرض أبو قبيس.

مسألة: في هذه الآية رد على من زعم أن الأرض كالكرة، ورد على من زعم أن الأرض تهوي أبوابها عليها؛ وزعم ابن الراوندي أن تحت الأرض جسما صعادا كالريح الصعادة؛ وهي منحدرة فاعتدل الهاوي والصعادي في الجرم والقوة فتوافقا. وزعم آخرون أن الأرض مركب من جسمين، أحدهما منحدر، والآخر مصعد، فاعتدلا، فلذلك وقفت. والذي عليه المسلمون وأهل الكتاب القول بوقوف الأرض وسكونها ومدها، وأن حركتها إنما تكون في العادة بزلزلة تصيبها. وقوله تعالى: « وأنهارا » أي مياها جارية في الأرض، فيها منافع الخلق. « ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين » بمعنى صنفين. قال أبو عبيدة: الزوج واحد، ويكون اثنين. الفراء: يعني بالزوجين ها هنا الذكر والأنثى؛ وهذا خلاف النص. وقيل: معنى « زوجين » نوعان، كالحلو والحامض، والرطب واليابس، والأبيض والأسود، والصغير والكبير. « إن في ذلك لآيات » أي دلالات وعلامات « لقوم يتفكرون »

 

الآية: 4 ( وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون )

 

قوله تعالى: « وفي الأرض قطع متجاورات » « وفي الأرض قطع متجاورات » في الكلام حذف؛ المعنى: وفي الأرض قطع متجاورات وغير متجاورات؛ كما قال: « سرابيل تقيكم الحر » والمعنى: وتقيكم البرد، ثم حذف لعلم السامع. والمتجاورات المدن وما كان عامرا، وغير متجاورات الصحارى وما كان غير عامر. « متجاورات » أي قرى متدانيات، ترابها واحد، وماؤها واحد، وفيها زروع وجنات، ثم تتفاوت في الثمار والتمر؛ فيكون البعض حلوا، والبعض حامضا؛ والغصن الواحد من الشجرة قد يختلف الثمر فيه من الصغر والكبر واللون والمطعم، وإن انبسط الشمس والقمر على الجميع على نسق واحد؛ وفي هذا أدل دليل على وحدانيته وعظم صمديته، والإرشاد لمن ضل عن معرفته؛ فإنه نبه سبحانه بقوله: « تسقى بماء واحد » على أن ذلك كله ليس إلا بمشيئته وإرادته، وأنه مقدور بقدرته؛ وهذا أدل دليل على بطلان القول بالطبع؛ إذ لو كان ذلك بالماء والتراب والفاعل له الطبيعة لما وقع الاختلاف. وقيل: وجه الاحتجاج أنه أثبت التفاوت بين البقاع؛ فمن تربة عذبة، ومن تربة سبخة مع تجاورهما؛ وهذا أيضا من دلالات كمال قدرته؛ جل وعز تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا.

 

ذهبت الكفرة - لعنهم الله - إلى أن كل حادث يحدث بنفسه لا من صانع؛ وادعوا ذلك في الثمار الخارجة من الأشجار، وقد أقروا بحدوثها، وأنكروا محدثها، وأنكروا الأعراض. وقالت فرقة: بحدوث الثمار لا من صانع، وأثبتوا للأعراض فاعلا؛ والدليل على أن الحادث لا بد له من محدث أنه يحدث في وقت، ويحدث ما هو من جنسه في وقت آخر؛ فلو كان حدوثه في وقته لاختصاصه به، لوجب أن يحدث في وقته كل ما هو من جنسه؛ وإذا بطل اختصاصه بوقته صح أن اختصاصه به لأجل مخصص خصصه به، ولولا تخصيصه إياه به لم يكن حدوثه في وقته أولى من حدوثه قبل ذلك أو بعده؛ واستيفاء هذا في علم الكلام.

 

قوله تعالى: « وجناتٌ من أعناب » قرأ الحسن « وجناتٍ » بكسر التاء، على التقدير: وجعل فيها جنات، فهو محمول على قوله: « وجعل فيها رواسي » . ويجوز أن تكون مجرورة على الحمل على « كل » التقدير: ومن كل الثمرات، ومن جنات. الباقون « جنات » بالرفع على تقدير: وبينهما جنات. « وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان » بالرفع. ابن كثير وأبو عمرو وحفص عطفا على الجنات؛ أي على تقدير: وفي الأرض زرع ونخيل. وخفضها الباقون نسقا على الأعناب؛ فيكون الزرع والنخيل من الجنات؛ ويجوز أن يكون معطوفا على « كل » حسب ما تقدم في « وجنات » . وقرأ مجاهد والسلمي وغيرهما « صنوان » بضم الصاد، الباقون بالكسر؛ وهما لغتان؛ وهما جمع صنو، وهي النخلات والنخلتان، يجمعهن أصل واحد، وتتشعب منه رؤوس فتصير نخيلا؛ نظيرها قنوان، واحدها قنو وروى أبو إسحاق عن البراء قال: الصنوان المجتمع، وغير الصنوان المتفرق؛ النحاس: وكذلك هو في اللغة؛ يقال للنخلة إذا كانت فيها نخلة أخرى أو أكثر صنوان. والصنو المثل؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( عم الرجل صنو أبيه ) . ولا فرق فيها بين التثنية والجمع ولا بالإعراب؛ فتعرب نون الجمع، وتكسر نون التثنية؛ قال الشاعر:

العلم والحلم خلتا كرم للمرء زين هما اجتمعا

صنوان لا يستتم حسنهما إلا بجمع ذا وذاك معا

 

قوله تعالى: « يسقى بماء واحد » كصالح بني آدم وخبيثهم؛ أبوهم واحد؛ قاله النحاس والبخاري. وقرأ عاصم وابن عامر: « يسقى » بالياء، أي يسقى ذلك كله. وقرأ الباقون بالتاء، لقوله: « جنات » واختاره أبو حاتم وأبو عبيدة؛ قال أبو عمرو: والتأنيث أحسن؛ « ونفضل بعضها على بعض في الأكل » ولم يقل بعضه. وقرأ حمزة والكسائي وغيرهما « ويُفَضِّل » بالياء ردا على قوله: « يدبر الأمر » [ الرعد: 2 ] و « يفصل » [ الرعد: 2 ] و « يغشي » [ الرعد:3 ] الباقون بالنون على معنى: ونحن نفضل. وروى جابر بن عبدالله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لعلي رضي الله عنه: ( الناس من شجر شتى وأنا وأنت من شجرة واحدة ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم « وفي الأرض قطع متجاورات » حتى بلغ قوله: « يسقى بماء واحد » ) و « الأكل » الثمر. قال ابن عباس: يعني الحلو والحامض والفارسي والدقل. وروي مرفوعا من حديث أبي هريرة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قوله تعالى: « ونفضل بعضها على بعض في الأكل » قال: الفارسي والدقل والحلو والحامض ) ذكره الثعلبي. قال الحسن: المراد بهذه الآية المثل؛ ضربه الله تعالى لبني آدم، أصلهم واحد، وهم مختلفون في الخير والشر. والإيمان والكفر، كاختلاف الثمار التي تسقى بماء واحد؛ ومنه قول الشاعر:

الناس كالنبت والنبت ألوان منها شجر الصندل والكافور والبان

ومنها شجر ينضج طول الدهر قطران

« إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون » أي لعلامات لمن كان له قلب يفهم عن الله تعالى.

 

الآية: 5 ( وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون )

 

قوله تعالى: « وإن تعجب فعجب قولهم » أي إن تعجب يا محمد من تكذيبهم لك بعدما كنت عندهم الصادق الأمين فأعجب منه تكذيبهم بالبعث؛ والله تعالى لا يتعجب، ولا يجوز عليه التعجب؛ لأنه تغير النفس بما تخفى أسبابه، وإنما ذكر ذلك ليتعجب منه نبيه والمؤمنون. وقيل المعنى: أي إن عجبت يا محمد من إنكارهم الإعادة مع إقرارهم بأني خالق السماوات والأرض والثمار المختلفة من الأرض الواحدة فقولهم عجب يعجب منه الخلق؛ لأن الإعادة في معنى الابتداء. وقيل: الآية في منكري الصانع؛ أي إن تعجب من إنكارهم الصانع مع الأدلة الواضحة بأن المتغير لا بد له من مغير فهو محل التعجب؛ ونظم الآية يدل على الأول والثاني؛ لقوله: « أئذا كنا ترابا » أي انبعث إذا كنا ترابا؟ !. « أئنا لفي خلق جديد » وقرئ « إنا » . و « الأغلال » جمع غل؛ وهو طوق تشد به اليد إلى العنق، أي يغلون يوم القيامة؛ بدليل قوله: « إذ الأغلال في أعناقهم » [ غافر: 71 ] إلى قوله: « ثم في النار يسجرون » [ غافر: 72 ] . وقيل: الأغلال أعمالهم السيئة التي هي لازمة لهم.

 

الآية: 6 ( ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب )

 

قوله تعالى: « ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة » أي لفرط إنكارهم وتكذيبهم يطلبون العذاب؛ قيل هو قولهم: « اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء » [ الأنفال: 32 ] . قال قتادة: طلبوا العقوبة قبل العافية؛ وقد حكم سبحانه بتأخير العقوبة عن هذه الأمة إلى يوم القيامة. وقيل: « قبل الحسنة » أي قبل الإيمان الذي يرجى به الأمان والحسنات. « وقد خلت من قبلهم المثلات » العقوبات؛ الواحدة مثلة. ورى عن الأعمش أنه قرأ « المثلات » بضم الميم وإسكان الثاء؛ وهذا جمع مثلة، ويجوز « المثلات » تبدل من الضمة فتحة لثقلها، وقيل: يؤتى بالفتحة عوضا من الهاء. وروي عن الأعمش أنه قرأ « المثلات » بفتح الميم وإسكان الثاء؛ فهذا جمع مثلة، ثم حذف الضمة لثقلها؛ ذكره جميعه النحاس رحمه الله. وعلى قراءة الجماعة واحدة مثلة، نحو صدقة وصدقة؛ وتميم تضم الثاء والميم جميعا، واحدها على لغتهم مثلة، بضم الميم وجزم الثاء؛ مثل: غرفة وغرفات، والفعل منه مثلت به أمثل مثلا، بفتح الميم وسكون الثاء.

 

قوله تعالى: « وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب » أي لذو تجاوز عن المشركين إذا أمنوا، وعن المذنبين إذا تابوا. وقال ابن عباس: أرجى آية في كتاب الله تعالى « وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم » . « وإن ربك لشديد العقاب » إذا أصروا على الكفر. وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال: لما نزلت: « وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب » قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لولا عفو الله ورحمته وتجاوزه لما هَنَأَ أحداً عيشٌ ولولا عقابه ووعيده وعذابه لاتكل كل أحد ) .

 

الآية: 7 ( ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد )

 

قوله تعالى: « ويقول الذين كفروا لولا » أي هلا « أنزل عليه آية من ربه » . لما اقترحوا الآيات وطلبوها قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: « إنما أنت منذر » أي معلم. « ولكل قوم هاد » أي نبي يدعوهم إلى الله. وقيل: الهادي الله؛ أي عليك الإنذار، والله هادي، كل قوم إن أراد هدايتهم.

 

الآيتان: 8 - 9 ( الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال )

 

قوله تعالى: « الله يعلم ما تحمل كل أنثى » أي من ذكر وأنثى، صبيح وقبيح، صالح وطالح؛ وقد تقدم في سورة « الأنعام » أن الله سبحانه منفرد بعلم الغيب وحده لا شريك له؛ وذكرنا هناك حديث البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( مفاتيح الغيب خمس ) الحديث. وفيه ( لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ) . واختلف العلماء في تأويل قوله: « وما تغيض الأرحام وما تزداد » فقال قتادة: المعنى ما تسقط قبل التسعة الأشهر، وما تزداد فوق التسعة؛ وكذلك قال ابن عباس. وقال مجاهد: إذا حاضت المرأة في حملها كان ذلك نقصانا في ولدها؛ فإن زادت على التسعة كان تماما لما نقص؛ وعنه: الغيض ما تنقصه الأرحام من الدم، والزيادة ما تزداد منه. وقيل: الغيض والزياد. يرجعان إلى الولد، كنقصان إصبع أو غيرها، وزيادة إصبع أو غيرها. وقيل: الغيض انقطاع دم الحيض. « وما تزداد » بدم النفاس بعد الوضع.

 

في هذه الآية دليل على أن الحامل تحيض؛ وهو مذهب مالك والشافعي في أحد قوليه. وقال عطاء والشعبي وغيرهما: لا تحيض؛ وبه قال أبو حنيفة؛ ودليله الآية. قال ابن عباس في تأويلها: إنه. حيض الحبالى، وكذلك روي عن عكرمة ومجاهد؛ وهو قول عائشة، وأنها كانت تفتي النساء الحوامل إذا حضن أن يتركن الصلاة؛ والصحابة إذ ذاك متوافرون، ولم ينكر منهم أحد عليها، فصار كالإجماع؛ قاله ابن القصار. وذكر أن رجلين، تنازعا ولدا، فترافعا إلى عمر رضي الله عنه فعرضه على القافة، فألحقه القافة بهما، فعلاه عمر بالدرة، وسأل نسوة من قريش فقال: انظرن ما شأن هذا الولد؟ فقلن: إن الأول خلا بها وخلاها، فحاضت على الحمل، فظنت أن عدتها انقضت؛ فدخل بها الثاني، فانتعش الولد بماء الثاني؛ فقال عمر: الله أكبر! وألحقه بالأول، ولم يقل إن الحامل لا تحيض، ولا قال ذلك أحد من الصحابة؛ فدل أنه إجماع، والله أعلم. واحتج المخالف بأن قال لو كان الحامل تحيض، وكان ما تراه المرأة من الدم حيضا لما صح استبراء الأمة بحيض؛ وهو إجماع وروي عن مالك في كتاب محمد ما يقتضي أنه ليس بحيض.

 

في هذه الآية دليل على أن الحامل قد تضع حملها لأقل من تسعة أشهر والأكثر، وأجمع العلماء على أن أقل الحمل ستة أشهر، وأن عبدالملك، بن مروان ولد لستة أشهر. وهذه الستة الأشهر هي بالأهلة كسائر أشهر الشريعة؛ ولذلك قد روي في المذهب عن بعض أصحاب مالك، وأظنه في كتاب ابن حارث أنه إن نقص عن الأشهر الستة ثلاثة أيام فإن الولد يلحق لعلة نقص الأشهر وزيادتها؛ حكاه ابن عطية.

 

واختلف العلماء في أكثر الحمل؛ فروى ابن جريج عن جميلة بنت سعد عن عائشة قالت: يكون الحمل أكثر من سنتين قدر ما يتحول ظل المغزل؛ ذكره الدارقطني. وقالت جميلة بنت سعد - أخت عبيد بن سعد، وعن الليث بن سعد - إن أكثره ثلاث سنين. وعن الشافعي أربع سنين؛ وروي عن مالك في إحدى روايتيه، والمشهور عنه خمس سنين؛ وروي عنه لا حد له، ولو زاد على العشرة الأعوام؛ وهي الرواية الثالثة عنه. وعن الزهري ست وسبع. قال أبو عمر: ومن الصحابة من يجعله إلى سبع؛ والشافعي: مدة الغاية منها أربع سنين. والكوفيون يقولون: سنتان لا غير. ومحمد بن عبدالحكم يقول: سنة لا أكثر. وداود يقول: تسعة أشهر، لا يكون عنده حمل أكثر منها. قال أبو عمر: وهذه مسألة لا أصل لها إلا الاجتهاد، والرد إلى ما عرف من أمر النساء وبالله التوفيق. روى الدارقطني عن الوليد بن مسلم قال: قلت لمالك ابن أنس إني حدثت عن عائشة أنها قالت: لا تزيد المرأة في حملها على سنتين قدر ظل المغزل، فقال: سبحان الله! من يقول هذا؟ ! هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان، تحمل وتضع في أربع سنين، امرأة صدق، وزوجها رجل صدق؛ حملت ثلاثة أبطن في اثنتي عشرة سنة، تحمل كل بطن أربع سنين. وذكره عن المبارك ابن مجاهد قال: مشهور عندنا كانت امرأة محمد بن عجلان تحمل وتضع في أربع سنين، وكانت تسمى حاملة الفيل. وروى أيضا قال: بينما مالك بن دينار يوما جالس إذ جاءه رجل فقال: يا أبا يحيى! ادع لامرأة حبلى منذ أربع سنين قد أصبحت في كرب شديد؛ فغضب مالك وأطبق المصحف ثم قال: ما يرى هؤلاء القوم إلا أنا أنبياء! ثم قرأ، ثم دعا، ثم قال: اللهم هذه المرأة إن كان في بطنها ريح فأخرجه عنها الساعة، وإن كان في بطنها جارية فأبدلها بها غلاما، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أم الكتاب، ورفع مالك يده، ورفع الناس أيديهم، وجاء الرسول إلى الرجل فقال: أدرك امرأتك، فذهب الرجل، فما حط مالك يده حتى طلع الرجل من باب المسجد على رقبته غلام جعد قطط، ابن أربع سنين، قد استوت أسنانه، ما قطعت سراره؛ وروي أيضا أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين! إني غبت عن امرأتي سنتين فجئت وهي حبلى؛ فشاور عمر الناس في رجمها، فقال معاذ بن جبل: يا أمير المؤمنين! إن كان لك عليها سبيل فليس لك على ما في بطنها سبيل؛ فاتركها حتى تضع، فتركها، فوضعت غلاما قد خرجت ثنيتاه؛ فعرف الرجل الشبه فقال: ابني ورب الكعبة!؛ فقال عمر: عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ؛ لولا معاذ لهلك عمر. وقال الضحاك: وضعتني أمي وقد حملت بي في بطنها سنتين، فولدتني وقد خرجت سني. ويذكر عن مالك أنه حمل به في بطن أمه سنتين، وقيل: ثلاث سنين. ويقال: إن محمد بن عجلان مكث في بطن أمه ثلاث سنين، فماتت به وهو يضطرب اضطرابا شديدا، فشق بطنها وأخرج وقد نبتت أسنانه. وقال حماد بن سلمة: إنما سمي هرم بن حيان هرما لأنه بقي في بطن أمه أربع سنين. وذكر الغزنوي أن الضحاك ولد لسنتين، وقد طلعت سنه فسمي ضحاكا. وقال عباد بن العوام: ولدت جارة لنا لأربع سنين غلاما شعره إلى منكبيه، فمر به طير فقال: كش.

 

قال ابن خويز منداد: أقل الحيض والنفاس وأكثره وأقل الحمل وأكثره مأخوذ من طريق الاجتهاد؛ لأن علم ذلك استأثر الله به، فلا يجوز أن يحكم في شيء منه إلا بقدر ما أظهره لنا، ووجد ظاهرا في النساء نادرا أو معتادا؛ ولما وجدنا امرأة قد حملت أربع سنين وخمس سنين حكمنا بذلك، والنفاس والحيض لما لم نجد فيه أمرا مستقرا رجعنا فيه إلى ما يوجد في النادر منهن.

 

قال ابن العربي: نقل بعض المتساهلين من المالكيين أن أكثر الحمل تسعة أشهر؛ وهذا ما لم ينطق به قط إلا هالكي، وهم الطبائعيون الذين يزعمون أن مدبر الحمل في الرحم الكواكب السبعة؛ تأخذه شهرا شهرا، ويكون الشهر الرابع منها للشمس؛ ولذلك يتحرك ويضطرب، وإذا تكامل التداول في السبعة الأشهر بين الكواكب السبعة عاد في الشهر الثامن إلى زحل، فيبقله ببرده؛ فيا ليتني تمكنت من مناظرتهم أو مقاتلتهم! ما بال المرجع بعد تمام الدور يكون إلى زحل دون غيره؟ الله أخبركم بهذا أم على الله تفترون؟ ! وإذا جاز أن يعود إلى اثنين منها لم لا يجوز أن يعود التدبير إلى ثلاث أو أربع، أو يعود إلى جميعها مرتين أو ثلاثا؟ ! ما هذا التحكم بالظنون الباطلة على الأمور الباطنة!.

 

قوله تعالى: « وكل شيء عنده بمقدار » يعني من النقصان والزيادة. ويقال: « بمقدار » قدر خروج الولد من بطن أمه، وقد مكثه في بطنها إلى خروجه. وقال قتادة: في الرزق والأجل. والمقدار القدر؛ وعموم الآية يتناول كل ذلك، والله سبحانه أعلم.

قلت: هذه الآية تمدح الله سبحانه وتعالى بها بأنه « عالم الغيب والشهادة » أي هو عالم بما غاب عن الخلق، وبما شهدوه. فالغيب مصدر بمعنى الغائب. والشهادة مصدر بمعنى الشاهد؛ فنبه سبحانه على انفراده بعلم الغيب، والإحاطة بالباطن الذي يخفى على الخلق، فلا يجوز أن يشاركه في ذلك أحد؛ فأما أهل الطب الذين يستدلون بالأمارات والعلامات فإن قطعوا بذلك فهو كفر، وإن قالوا إنها تجربة تركوا وما هم عليه، ولم يقدح ذلك في الممدوح؛ فإن العادة يجوز انكسارها، والعلم لا يجوز تبدله. و « الكبير » الذي كل شيء دونه. « المتعال » عما يقول المشركون، المستعلي على كل شيء بقدرته وقهره؛ وقد ذكرناهما في شرح الأسماء مستوفى، والحمد لله.

 

الآية: 10 ( سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار )

 

قوله تعالى: « سواء منكم من أسر القول ومن جهر به » إسرار القول: ما حدث به المرء نفسه، والجهر ما حدث به غيره؛ والمراد بذلك أن الله سبحانه يعلم ما أسره الإنسان من خير وشر، كما يعلم ما جهر به من خير وشر. و « منكم » يحتمل أن يكون وصفا لـ « سواء » التقدير: سير من أسر وجهر من جهر سواء منكم؛ ويجوز أن يتعلق « بسواء » على معنى: يستوي منكم، كقولك: مررت بزيد. ويجوز أن يكون على تقدير: سر من أسر منكم وجهر من جهر منكم. ويجوز أن يكون التقدير: ذو سواء منكم من أسر القول ومن جهر به، كما تقول: عدل زيد وعمرو أي ذوا عدل. وقيل: « سواء » أي مستو، فلا يحتاج إلى تقدير حذف مضاف. « ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار » « بالنهار » أي يستوي في علم الله السر والجهر، والظاهر في الطرقات، والمستخفي في الظلمات. وقال الأخفش وقطرب: المستخفي بالليل الظاهر؛ ومنه خفيت الشيء وأخفيته أي أظهرته؛ وأخفيت الشيء أي استخرجته؛ ومنه قيل للنباش: المختفي. وقال امرؤ القيس:

خفاهن من أنفاقهن كأنما خفاهن ودق من عشي مجلب

والسارب المتواري، أي الداخل سربا؛ ومنه قولهم: انسرب الوحشي إذا دخل في كناسه. وقال ابن عباس: « مستخف » مستتر، « وسارب » ظاهر. مجاهد: « مستخف » بالمعاصي، « وسارب » ظاهر. وقيل: معنى « سارب » ذاهب؛ قال الكسائي: سرب يسرب سربا وسروبا إذا ذهب؛ وقال الشاعر:

وكل أناس قاربوا قيد فحلهم ونحن خلعنا قيدة فهو سارب

أي ذاهب. وقال أبو رجاء: السارب الذاهب على وجهه في الأرض؛ قال الشاعر:

أني سربت وكنت غير سروب

وقال القتبي: « سارب بالنهار » أي منصرف في حوائجه بسرعة؛ من قولهم: أنسرب الماء. وقال الأصمعي: خل سربه أي طريقه.

 

الآية: 11 ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له وما لهم من دونه من وال )

 

قوله تعالى: « له معقبات » قوله تعالى: « له معقبات » أي لله ملائكة يتعاقبون بالليل والنهار؛ فإذا صعدت ملائكة الليل أعقبتها ملائكة النهار. وقال: « معقبات » والملائكة ذكران لأنه جمع معقبة؛ يقال: ملك معقب، وملائكة معقبة، ثم معقبات جمع الجمع. وقرأ بعضهم - « له معاقيب من بين يديه ومن خلفه » . ومعاقيب جمع معقب؛ وقيل للملائكة معقبة على لفظ الملائكة وقيل: أنث لكثرة ذلك منهم؛ نحو نسابة وعلامة وراوية؛ قال الجوهري وغيره. والتعقب العود بعد البدء؛ قال الله تعالى: « ولى مدبرا ولم يعقب » [ النمل: 10 ] أي لم يرجع؛ وفي الحديث: ( معقبات لا يخيب قائلهن - أو - فاعلهن ) فذكر التسبيح والتحميد والتكبير. قال أبو الهيثم: سمين « معقبات » لأنهن عادت مرة بعد مرة، فعل من عمل عملا ثم عاد إليه فقد عقب. والمعقبات من الإبل اللواتي يقمن عند أعجاز الإبل المعتركات على الحوض؛ فإذا انصرفت ناقة دخلت مكانها أخرى. وقوله: « من بين يديه ومن خلفه » أي المستخفي بالليل والسارب بالنهار.

 

قوله تعالى: « يحفظونه من أمر الله » اختلف في هذا الحفظ؛ فقيل: يحتمل أن يكون توكيل الملائكة بهم لحفظهم من الوحوش والهوام والأشياء المضرة، لطفا منه به، فإذا جاء القدر. خلوا بينه وبينه؛ قال ابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما. قال أبو مجلز: جاء رجل من مراد إلى علي فقال: احترس فإن ناسا من مراد يريدون قتلك؛ فقال: إن مع كل رجل ملكين يحفظانه ما لم يقدر، فإذا جاء القدر خليا بينه وبين قدر الله، وإن الأجل حصن حصينة؛ وعلى هذا، « يحفظونه من أمر الله » أي بأمر الله وبإذنه؛ فـ « من » بمعنى الباء؛ وحروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض. وقيل: « من » بمعنى عن؛ أي يحفظونه عن أمر الله، وهذا قريب من الأول؛ أي حفظهم عن أمر الله لا من عند أنفسهم؛ وهذا قول الحسن؛ تقول: كسوته عن عري ومن عري؛ ومنه قوله عز وجل: « أطعمهم من جوع » [ قريش: 4 ] أي عن جوع. وقيل: يحفظونه من ملائكة العذاب، حتى لا تحل به عقوبة؛ لأن الله لا يغير ما بقوم من النعمة والعافية حتى يغيروا ما بأنفسهم بالإصرار على الكفر، فإن أصروا حان الأجل المضروب ونزلت بهم النقمة، وتزول عنهم الحفظة المعقبات. وقيل: يحفظونه من الجن؛ قال كعب: لولا أن الله وكل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لتخطفتكم الجن. وملائكة العذاب من أمر الله؛ وخصهم بأن قال: « من أمر الله » لأنهم غير معاينين؛ كما قال: « قل الروح من أمر ربي » [ الإسراء: 85 ] أي ليس مما تشاهدونه أنتم. وقال الفراء: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره، له معقبات من أم الله من بين يديه ومن خلفه يحفظونه. وهو مروي عن مجاهد وابن جريج والنخعي؛ وعلى أن ملائكة العذاب والجن من أمر الله لا تقديم فيه ولا تأخير. وقال ابن جريج: إن المعنى يحفظون عليه عمله؛ فحذف المضاف. وقال قتادة: يكتبون أقواله وأفعاله. ويجوز إذا كانت المعقبات الملائكة أن تكون الهاء في « له » لله عز وجل، كما ذكرنا؛ ويجوز أن تكون للمستخفي، فهذا قول.

وقيل: « له معقبات من بين يديه ومن خلفه » يعني به النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي أن الملائكة تحفظه من أعدائه؛ وقد جرى ذكر الرسول في قوله: « لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر » [ الرعد: 7 ] أي سواء منكم من أسر القول ومن جهر به في أنه لا يضر النبي صلى الله عليه وسلم، بل له معقبات يحفظونه عليه السلام؛ ويجوز أن يرجع هذا إلى جميع الرسل؛ لأنه قد قال: « ولكل قوم هاد » [ الرعد: 7 ] أي يحفظون الهادي من بين يديه ومن خلفه. وقول رابع: أن المراد. بالآية السلاطين والأمراء الذين لهم قوم من بين أيديهم ومن خلفهم يحفظونهم؛ فإذا جاء أمر الله لم يغنوا عنهم من الله شيئا؛ قال ابن عباس وعكرمة؛ وكذلك قال الضحاك: هو السلطان المتحرس من أمر الله، المشرك. وقد قيل: إن في الكلام على هذا التأويل نفيا محذوفا، تقديره: لا يحفظونه من أمر الله تعالى، ذكره الماوردي. قال المهدوي: ومن جعل المعقبات الحرس فالمعنى: يحفظونه من أمر الله على ظنه وزعمه. وقيل: سواء من أسر القول ومن جهر به فله حراس وأعوان يتعاقبون عليه فيحملونه على المعاصي، ويحفظونه من أن ينجع فيه وعظ؛ قال القشيري: وهذا لا يمنع الرب من الإمهال إلى أن يحق العذاب؛ وهو إذا غير هذا العاصي ما بنفسه بطول الإصرار فيصير ذلك سببا للعقوبة؛ فكأنه الذي يحل العقوبة بنفسه؛ فقوله: « يحفظونه من أمر الله » أي من امتثال أمر الله. وقال عبدالرحمن بن زيد: المعقبات ما يتعاقب من أمر الله تعالى وقضائه في عباده؛ قال الماوردي: ومن قال بهذا القول ففي تأويل قوله: « يحفظونه من أمر الله » وجهان: أحدهما: يحفظونه من الموت ما لم يأت أجل؛ قاله الضحاك. الثاني: يحفظونه من الجن والهوام المؤذية، ما لم يأت قدر؛ - قاله أبو أمامة وكعب الأحبار - فإذا جاء المقدور خلوا عنه؛ والصحيح أن المعقبات الملائكة، وبه قال الحسن ومجاهد وقتادة وابن جريج؛ وروي عن ابن عباس، واختاره النحاس، واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ) الحديث، رواه الأئمة.

وروى الأئمة عن عمرو عن ابن عباس قرأ - « معقبات من بين يديه ووقباء من خلفه من أمر الله يحفظونه » فهذا قد بين المعنى. وقال كنانة العدوي: دخل عثمان رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أخبرني عن العبد كم معه من ملك؟ قال: ( ملك عن يمينك يكتب الحسنات وآخر عن الشمال يكتب السيئات والذي على اليمين أمير على الذي على الشمال فإذا عملت حسنة كتبت عشرا وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين أأكتب قال لا لعله يستغفر الله تعالى أو يتوب إليه فإذا قال ثلاثا قال نعم اكتب أراحنا الله تعالى منه فبئس القرين هو ما أقل مراقبته لله عز وجل وأقل استحياءه منا يقول الله تعالى « ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد » [ ق: 18 ] وملكان من بين يديك ومن خلفك يقول الله تعالى « له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله » وملك قابض على ناصيتك فإذا تواضعت لله رفعك وإذا تجبرت على الله قصمك وملكان على شفتيك وليس يحفظان عليك إلا الصلاة على محمد وآله وملك قاسم على فيك لا يدع أن تدخل الحية في فيك وملكان على عينيك فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي يتداولون ملائكة الليل على ملائكة النهار لأن ملائكة الليل ليسوا بملائكة النهار فهؤلاء عشرون ملكا على كل آدمي وإبليس مع ابن آدم بالنهار وولده بالليل ) . ذكره الثعلبي. قال الحسن: المعقبات أربعة أملاك يجتمعون عند صلاة الفجر. واختيار الطبري: أن المعقبات المواكب بين أيدي الأمراء وخلفهم؛ والهاء في « له » لهن؛ على ما تقدم. وقال العلماء رضوان الله عليهم: إن الله سبحانه جعل أوامره على وجهين: أحدهما: قضى حلوله ووقوعه بصاحبه؛ فذلك لا يدفعه أحد ولا يغيره. والآخر: قضى مجيئه ولم يقض حلوله ووقوعه، بل قضى صرفه بالتوبة والدعاء والصدقة والحفظ.

 

قوله تعالى: « إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم » أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لا يغير ما بقوم حتى يقع منهم تغيير، إما منهم أو من الناظر لهم، أو ممن هو منهم بسبب؛ كما غير الله بالمنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة بأنفسهم، إلى غير هذا من أمثلة الشريعة؛ فليس معنى الآية أنه ليس ينزل بأحد عقوبة إلا بأن يتقدم منه ذنب، بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: وقد ( سئل أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث ) . والله أعلم.

 

قوله تعالى: « وإذا أراد الله بقوم سوءا » أي هلاكا وعذابا، « فلا مرد له » وقيل: إذا أراد بهم بلاء من أمراض وأسقام فلا مرد لبلائه. وله: إذا أراد الله بقوم سوءا أعمى أبصارهم حتى يختاروا ما فيه البلاء ويعملوه؛ فيمشون إلى هلاكهم بأقدامهم، حتى يبحث أحدهم عن حتفه بكفه، ويسعى بقدمه إلى إراقة دمه. « وما لهم من دونه من وال » أي ملجأ؛ وهو معنى قول السدي. وقيل: من ناصر يمنعهم من عذابه؛ وقال الشاعر:

ما في السماء سوى الرحمن من وال

ووال وولي كقادر وقدير.

 

الآيتان: 12 - 13 ( هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال، ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال )

 

قوله تعالى: « هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال » أي بالمطر. « السحاب » جمع، والواحدة سحابة، وسحب وسحائب في الجمع أيضا. « ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته » قد مضى في « البقرة » القول في الرعد والبرق والصواعق فلا معنى للإعادة؛ والمراد بالآية بيان كمال قدرته؛ وأن تأخير العقوبة ليس عن عجز؛ أي يربكم البرق في السماء خوفا للمسافر؛ فإنه يخاف أذاه لما ينال من المطر والهول والصواعق؛ قال الله تعالى: « أذى من مطر » [ النساء: 102 ] وطمعا للحاضر أن يكون عقبه مطر وخصب؛ قال معناه قتادة ومجاهد وغيرهما. وقال الحسن: خوفا من صواعق البرق، وطمعا في غيثه المزيل للقحط. « وينشئ السحاب الثقال » قال مجاهد: أي بالماء. « ويسبح الرعد بحمده » من قال إن الرعد صوت السحاب فيجوز أن يسبح الرعد بدليل خلق الحياة فيه؛ ودليل، صحة هذا القول قوله: « والملائكة من خيفته » فلو كان الرعد ملكا لدخل في جملة الملائكة. ومن قال إنه ملك قال: معنى. « من خيفته » من خيفة الله؛ قاله الطبري وغيره. قال ابن عباس: إن الملائكة خائفون من الله ليس كخوف ابن آدم؛ لا يعرف واحدهم من على يمينه ومن على يساره، لا يشغلهم عن عبادة الله طعام ولا شراب؛ وعنه قال: الرعد ملك يسوق السحاب، وإن بخار الماء لفي نقرة إبهامه، وإنه موكل بالسحاب يصرفه حيث يؤمر، وإنه يسبح الله؛ فإذا سبح الرعد لم يبق ملك في السماء إلا رفع صوته بالتسبيح، فعندها ينزل القطر، وعنه أيضا كان إذا سمع صوت الرعد قال: سبحان الذي سبحت له. وروى مالك عن عامر بن عبدالله عن أبيه أنه كان إذا سمع صوت الرعد قال: سبحانه الذي يسح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، ثم يقول: إن هذا وعيد لأهل الأرض شديد. وقيل: إنه ملك جالس على كرسي بين السماء والأرض، وعن يمينه سبعون ألف ملك وعن يساره مثل ذلك؛ فإذا أقبل على يمينه وسبح سبح الجميع من خوف الله، وإذا أقبل على يساره وسبح سبح الجميع من خوف الله.

 

قوله تعالى: « ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء » ذكر الماوردي عن ابن عباس وعلي بن أبي طالب ومجاهد: نزلت في يهودي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرني! من أي شيء ربك؛ أمن لؤلؤ أم من ياقوت؟ فجاءت صاعقة فأحرقته. وقيل: نزلت في بعض كفار العرب؛ قال الحسن: ( كان رجل من طواغيت العرب بعث النبي صلى الله عليه وسلم نفرا يدعونه إلى الله ورسوله والإسلام فقال لهم: أخبروني عن رب محمد ما هو، ومم هو، أمن فضة أم من حديد أم نحاس؟ فاستعظم القوم مقالته؛ فقال: أجيب محمدا إلى رب لا يعرفه! فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليه مرارا وهو يقول مثل هذا؛ فبينا النفر ينازعونه ويدعونه إذ ارتفعت سحابة فكانت فوق رؤوسهم، فرعدت وأبرقت ورمت بصاعقة، فأحرقت الكافر وهم جلوس؛ فرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستقبلهم بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أحترق صاحبكم، فقالوا: من أين علمتم؟ قالوا: أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم. « ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء » ) . ذكره الثعلبي عن الحسن؛ والقشيري بمعناه عن أنس، وسيأتي. وقيل: نزلت الآية في أربد بن ربيعة أخي لبيد بن ربيعة، وفي عامر بن الطفيل؛ قال ابن عباس: ( أقبل عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة العامريان يريدان النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد جالس في نفر من أصحابه، فدخلا المسجد، فاستشرف الناس لجمال عامر وكان أعور، وكان من أجمل الناس؛ فقال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: هذا يا رسول الله عامر بن الطفيل قد أقبل نحوك؛ فقال: ( دعه فإن يرد الله به خيرا يهده ) فأقبل حتى قام عليه فقال؛ يا محمد مالي إن أسلمت؟ فقال: ( لك ما للمسلمين وعليك ما على المسلمين ) . قال: أتجعل لي الأمر من بعدك؟ قال: ( ليس ذاك إلي إنما ذلك إلى الله يجعله حيث يشاء ) . قال: أفتجعلني على الوبر وأنت على المدر؟ قال: ( لا ) . قال: فما تجعل لي؟ قال: ( أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها في سبيل الله ) . قال: أو ليس لي أعنة الخيل اليوم؟ قم معي أكلمك، فقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عامر أومأ إلى أربد: إذا رأيتني أكلمه فدر من خلفه واضربه بالسيف، فجعل يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم ويراجعه؛ فاخترط أربد من سيفه شبرا ثم حبسه الله، فلم يقدر على سله، ويبست يده على سيفه؛ وأرسل الله عليه صاعقة في يوم صائف صاح فأحرقته؛ وولى عامر هاربا وقال: يا محمد! دعوت ربك على أربد حتى قتلته؛ والله لأملأنها عليك خيلا جردا، وفتيانا مردا؛ فقال عليه السلام: ( يمنعك الله من ذلك وأبناء قيلة ) يعني الأوس والخزرج؛ فنزل عامر بيت امرأة سلولية؛ وأصبح وهو يقول: والله لئن أصحر لي محمد وصاحبه - يريد ملك الموت - لأنفذتهما برمحي؛ فأرسل الله ملكا فلطمه بجناحه فأذراه في التراب؛ وخرجت على ركبته غدة عظيمة في الوقت؛ فعاد إلى بيت السلولية وهو يقول: غدة كغدة البعير، وموت في بيت سلولية؛ ثم ركب على فرسه فمات على ظهره ) . ورثى لبيد بن ربيعة أخاه أربد فقال:

يا عين هلا بكيت أربد إذ قمـ ـنا وقام الخصوم في كبد

أخشى على أربد الحتوف ولا أرهب نوء السماك والأسد

فجعني الرعد والصواعق بالفا رس يوم الكريهة النجد

وفيه قال:

إن الرزية لا رزية مثلها فقدان كل أخ كضوء الكوكب

يا أربد الخير الكريم جدوده أفردتني أمشي بقرن أعضب

وأسلم لبيد بعد ذلك رضي الله عنه.

مسألة: روى أبان عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تأخذ الصاعقة ذاكرا لله عز وجل ) . وقال أبو هريرة رضي الله عنه: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع صوت الرعد يقول: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير فإن أصابته صاعقة فعلي ديته ) . وذكر الخطيب من حديث سليمان بن علي بن عبدالله بن عباس عن أبيه عن جده قال: كنا مع عمر في سفر فأصابنا رعد وبرد، فقال لنا كعب: من قال حين يسمع الرعد: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ثلاثا عوفي مما يكون في ذلك الرعد؛ ففعلنا فعوفينا؛ ثم لقيت عمر بن الخطاب رضى الله عنه فإذا بردة قد أصابت أنفه فأثرت به، فقلت: يا أمير المؤمنين ما هذا؟ قال بردة أصابت أنفي فأثرت، فقلت: إن كعبا حين سمع الرعد قال لنا: من قال حين يسمع الرعد سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ثلاثا عوفي مما يكون في ذلك الرعد؛ فقلنا فعوفينا؛ فقال عمر: أفلا قلتم لنا حتى نقولها؟ وقد تقدم هذا المعنى في « البقرة » .

 

قوله تعالى: « وهم يجادلون في الله » يعني جدال اليهودي حين سأل عن الله تعالى: من أي شيء هو؟ قال مجاهد. وقال ابن جريج: جدال أربد فيما هم به من قتل النبي صلى الله عليه وسلم. ويجوز أن يكون، « وهم يجادلون في الله » حالا، ويجوز أن يكون منقطعا. وروى أنس ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى عظيم من المشركين يدعوه إلى الله عز وجل، فقال لرسول الله: أخبرني عن إلهك هذا؟ أهو من فضة أم من ذهب أم من نحاس؟ فاستعظم ذلك؛ فرجع إليه فأعلمه؛ فقال: ارجع إليه فادعه فرجع إليه وقد أصابته صاعقة، وعاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نزل: « وهم يجادلون في الله » « وهو شديد المحال » قال ابن الأعرابي: « المحال » المكر، والمكر من الله عز وجل التدبير بالحق. النحاس: المكر من الله إيصال المكروه إلى من يستحقه من حيث لا يشعر. وروى ابن اليزيدي عن أبي زيد « وهو شديد المحال » أي النقمة. وقال الأزهري: « المحال » أي القوة والشدة. والمحل: الشدة؛ الميم أصلية، وما حلت فلانا محالا أي قاويته حتى يتبين أينا أشد. وقال أبو عبيد: « المحال » العقوبة والمكروه. وقال ابن عرفة: « المحال » الجدال؛ يقال: ما حل عن أمره أي جادل. وقال القتيبي: أي شديد الكيد؛ وأصله من الحيلة، جعل ميمه كميم المكان؛ وأصله من الكون، ثم يقال: تمكنت. وقال الأزهري: غلط ابن قتيبة أن الميم فيه زائدة؛ بل هي أصلية، وإذا رأيت الحرف على مثال فعال أوله ميم مكسورة فهي أصلية؛ مثل: مهاد وملاك ومراس، وغير ذلك من الحروف. ومفعل إذا كانت من بنات الثلاثة فإنه يجيء بإظهار الواو مثل: مزود ومحول ومحور، وغيرها من الحروف؛ وقال: وقرأ الأعرج ـ « وهو شديد الَمحال » بفتح الميم؛ وجاء تفسيره على هذه القراءة عن ابن عباس أنه الحول، ذكر هذا كله أبو عبيد الهروي، إلا ما ذكرناه أولا عن ابن الأعرابي؛ وأقاويل الصحابة والتابعين بمعناها؛ وهي ثمانية: أولها: شديد العداوة، قاله ابن عباس. وثانيها: شديد الحول، قاله ابن عباس أيضا. وثالثها: شديد الأخذ، قال علي بن أبي طالب. ورابعها: شديد الحقد، قاله ابن عباس. وخامسها: شديد القوة، قال مجاهد. وسادسها: شديد الغضب، قاله وهب بن منبه. وسابعها: شديد الهلاك بالمحل، وهو القحط؛ قاله الحسن أيضا. وثامنها: شديد الحيلة؛ قاله قتادة. وقال أبو عبيدة معمر: المحال والمماحلة المماكرة والمغالبة؛ وأنشد للأعشى:

فرع نبع يهتز في غصن المجـ ـد كثير الندى شديد المحال

وقال آخر:

ولبس بن أقوام فكل أعد له الشغازب والمحالا

وقال عبدالمطلب:

لا هم إن المرء يمـ ـنع رحله فامنع حلالك

لا يغلبن صليبهم ومحا لهم عدوا محالك

 

الآية: 14 ( له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال )

 

قوله تعالى: « له دعوة الحق » أي لله دعوة الصدق. قال ابن عباس وقتادة وغيرهما: لا إله إلا الله. وقال الحسن: إن الله هو الحق، فدعاؤه دعوة الحق. وقيل: إن الإخلاص في الدعاء هو دعوة الحق؛ قال بعض المتأخرين. وقيل: دعوة الحق دعاؤه عند الخوف؛ فإنه لا يدعى فيه إلا إياه. كما قال: « ضل من تدعون إلا إياه » [ الإسراء: 67 ] ؛ قال الماوردي: وهو أشبه بسياق الآية؛ لأنه قال: « والذين يدعون من دونه » يعني الأصنام والأوثان. « لا يستجيبون لهم بشيء » أي لا يستجيبون لهم دعاء، ولا يسمعون لهم نداء. « إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه » ضرب الله عز وجل الماء مثلا ليأسهم من الإجابة لدعائهم؛ لأن العرب تضرب لمن سعى فيما لا يدركه مثلا بالقابض الماء باليد؛ قال:

فأصبحت فيما كان بيني وبينها من الود مثل القابض الماء باليد

وفي معنى هذا المثل ثلاثة أوجه: أحدها: أن الذي يدعو إلها من دون الله كالظمآن الذي يدعو الماء إلى فيه من بعيد يريد تناوله ولا يقدر عليه بلسانه، ويشير إليه بيده فلا يأتيه أبدا، لأن الماء لا يستجيب، وما الماء ببالغ إليه؛ قاله مجاهد. الثاني: أنه كالظمآن الذي يرى خياله في الماء وقد بسط كفه فيه ليبلغ فاه وما هو ببالغه، لكذب ظنه، وفساد توهمه؛ قاله ابن عباس. الثالث: أنه كباسط كفه إلى الماء ليقبض عليه فلا يجمد في كفه شيء منه. وزعم الفراء أن المراد بالماء ههنا البئر؛ لأنها معدن للماء، وأن المثل كمن مد يده إلى البئر بغير رشاء؛ وشاهده قول الشاعر:

فإن الماء ماء أبي وجدي وبئري ذو حفرت وذو طويت

قال علي رضي الله عنه: هو كالعطشان على شفة البئر، فلا يبلغ قعر البئر، ولا الماء يرتفع إليه، ومعنى « إلا كباسط » إلا كاستجابة باسط كفيه « إلى الماء » فالمصدر مضاف إلى الباسط، ثم حذف المضاف؛ وفاعل المصدر المضاف مراد في المعنى وهو الماء؛ والمعنى: إلا كإجابة باسط كفيه إلى الماء؛ واللام في قوله: « ليبلغ فاه » متعلقة بالبسط، وقوله: « وما هو ببالغه » كناية عن الماء؛ أي وما الماء ببالغ فاه. ويجوز أن يكون « هو » كناية عن الفم؛ أي ما الفم ببالغ الماء. « وما دعاء الكافرين إلا في ضلال » أي ليست عبادة الكافرين الأصنام إلا في ضلال، لأنها شرك، وقيل: إلا في ضلال أي يضل عنهم ذلك الدعاء، فلا يجدون منه سبيلا؛ كما قال: « أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا » [ الأعراف: 37 ] وقال ابن عباس: أي أصوات الكافرين محجوبة عن الله فلا يسمع دعاءهم.

 

الآية: 15 ( ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال )

 

قوله تعالى: « ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها » قال الحسن وقتادة وغيرهما: المؤمن يسجد طوعا، والكافر يسجر كرها بالسيف. وعن قتادة أيضا: يسجد الكافر كارها حين لا ينفه الإيمان. وقال الزجاج: سجود الكافر كرها ما فيه من الخضوع وأثر الصنعة. وقال ابن زيد: « طوعا » من دخل في الإسلام رغبة، و « كرها » من دخل فيه رهبة بالسيف. وقيل: « طوعا » من طالت مدة إسلامه فألف السجود، و « كرها » من يكره نفسه لله تعالى؛ فالآية في المؤمنين، وعلى هذا يكون معنى « والأرض » وبعض من في الأرض. قال القشري: وفي الآية مسلكان: أحدهما: أنها عامة والمراد بها التخصيص؛ فالمؤمن يسجد طوعا، وبعض الكفار يسجدون إكراها وخوفا كالمنافقين؛ فالآية محمولة على هؤلاء، ذكره الفراء. وقيل على هذا القول: الآية في المؤمنين؛ منهم من يسجد طوعا لا يثقل عليه السجود، ومنهم من يثقل عليه؛ لأن التزام التكليف مشقة، ولكنهم يتحملون المشقة إخلاصا وإيمانا، إلى أن يألفوا الحق ويمرنوا عليه. والمسلك الثاني: وهو الصحيح - إجراء الآية على التعميم؛ وعلى هذا طريقان: أحدهما: أن المؤمن يسجد طوعا، وأما الكافر فمأمور: السجود مؤاخذ به. والثاني: وهو الحق - أن المؤمن يسجد ببدنه طوعا، وكل مخلوق من المؤمن والكافر يسجد من حيث إنه مخلوق، يسجد دلالة وحاجة إلى الصانع؛ وهذا كقوله: « وإن من شيء إلا يسبح بحمده » [ الإسراء: 44 ] وهو تسبيح دلالة لا تسبيح عبادة.

 

قوله تعالى: « وظلالهم بالغدو والآصال » أي ظلال الخلق ساجدة لله تعالى بالغدو والآصال؛ لأنها تبين في هذين الوقتين، وتميل من ناحية إلى ناحية؛ وذلك تصريف الله إياها على ما يشاء؛ وهو كقوله تعالى: « أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون » [ النحل: 48 ] قال ابن عباس وغيره. وقال مجاهد: ظل المؤمن يسجد طوعا وهو طائع؛ وظل الكافر يسجد كرها وهو كاره. وقال ابن الأنباري: يجعل للظلال عقول تسجد بها وتخشع بها، كما جعل للجبال أفهام حتى خاطبت وخوطبت. قال القشيري: في هذا نظر؛ لأن الجبل عين، فيمكن أن يكون له عقل بشرط تقدير الحياة، وأما الظلال فآثار وأعراض، ولا يتصور تقدير الحياة لها، والسجود بمعنى الميل؛ فسجود الظلال ميلها من جانب إلى جانب؛ يقال: سجدت النخلة أي مالت. و « الآصال » جمع أصل، والأصل جمع أصيل؛ وهو ما بين العصر إلى الغروب، ثم أصائل جمع الجمع؛ قال أبو ذؤيب الهذلي:

لعمري لأنت البيت أكرم أهله وأقعد في أفيائه بالأصائل

و « ظلالهم » يجوز أن يكون معطوفا على « من » ويجوز أن يكون ارتفع بالابتداء والخبر محذوف؛ التقدير: وظلالهم سجد بالغدو والآصال و « بالغدو » يجوز أن يكون مصدرا، ويجوز أن يكون جمع غداة؛ يقوى كونه جمعا مقابلة الجمع الذي هو الآصال به.

 

الآية: 16 ( قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار )

 

قوله تعالى: « قل من رب السماوات والأرض قل الله » أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين: « قل من رب السماوات والأرض » ثم أمره أن يقول لهم: هو الله إلزاما للحجة إن لم يقولوا ذلك، وجهلوا من هو. « قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا » هذا يدل على اعترافهم بأن الله هو الخالق وإلا لم يكن للاحتجاج بقوله: « قل أفاتخذتم من دونه أولياء » معنى؛ دليله قوله: « ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله » [ الزمر: 38 ] أي فإذا اعترفتم فلم تعبدون غيره؟،! وذلك الغير لا ينفع ولا يضر؛ وهو إلزام صحيح. ثم ضرب لهم مثلا فقال: « قل هل يستوي الأعمى والبصير » فكذلك لا يستوي المؤمن الذي يبصر الحق، والمشرك الذي لا يبصر الحق. وقيل: الأعمى مثل لما عبدوه من دون الله، والبصير مثل الله تعالى: « أم هل تستوي الظلمات والنور » أي الشرك والإيمان. وقرأ ابن محيصن وأبو بكر والأعمش وحمزة والكسائي « يسوي » بالياء لتقدم الفعل؛ ولأن تأنيث « الظلمات » ليس بحقيقي. الباقون بالتاء؛ واختاره أبو عبيد، قال: لأنه لم يحل بين المؤنث والفعل حائل. و « الظلمات والنور » مثل الإيمان والكفر؛ ونحن لا نقف على كيفية ذلك. « أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم » هذا من تمام الاحتجاج؛ أي خلق غير الله مثل خلقه فتشابه الخلق عليهم، فلا يدرون خلق الله من خلق آلهتهم. « قل الله خالق كل شيء » أي قل لهم يا محمد: « الله خالق كل شيء » ، فلزم لذلك أن يعبده كل شيء. والآية رد على المشركين والقدرية الذين زعموا أنهم خلقوا كما خلق الله. « وهو الواحد » قبل كل شيء. « القهار » الغالب لكل شيء، الذي يغلب في مراده كل مريد. قال القشيري أبو نصر: ولا يبعد أن تكون الآية واردة فيمن لا يعترف بالصانع؛ أي سلهم عن خالق السماوات والأرض، فإنه يسهل تقرير الحجة فيه عليهم، ويقرب الأمر من الضرورة؛ فإن عجز الجماد وعجز كل مخلوق عن خلق السماوات والأرض معلوم، وإذا تقرر هذا وبان أن الصانع هو الله فكيف يجوز اعتداد الشريك له؟ ! وبين في أثناء الكلام أنه لو كان للعالم صانعان لاشتبه الخلق، ولم يتميز فعل هذا عن فعل ذلك، فبم يعلم أن الفعل من اثنين؟ !.

 

الآية: 17 ( أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال )

 

قوله تعالى: « أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا » ضرب مثلا للحق والباطل؛ فشبه الكفر بالزبد الذي يعلو الماء، فإنه يضمحل ويعلق بجنبات الأودية، وتدفعه الرياح؛ فكذلك يذهب الكفر ويضمحل، عله، ما نبينه. قال مجاهد: « فسالت أودية بقدرها » قال: بقدر ملئها. وقال ابن جريج: بقدر صغرها وكبرها. وقرأ الأشهب العقيلي والحسن « بقدرها » بسكون الدال، والمعنى واحد. وقيل: معناها بما قدر لها. والأودية. جمع الوادي؛ وسمي واديا لخروجه وسيلانه؛ فالوادي على هذا اسم للماء السائل. وقال أبو علي: « فسالت أودية » توسع؛ أي سال ماؤها فحذف، قال: ومعنى « بقدرها » بقدر مياهها؛ لأن الأودية ما سالت بقدر أنفسها. « فاحتمل السيل زبدا رابيا » أي طالعا عاليا مرتفعا فوق الماء؛ وتم الكلام؛ قال مجاهد. ثم قال: « ومما يوقدون عليه في النار » وهو المثل الثاني. « ابتغاء حلية » أي حلية الذهب والفضة. « أو متاع زبد مثله » قال مجاهد: الحديد والنحاس والرصاص. وقوله: « زبد مثله » أي يعلو هذه الأشياء زبد كما يعلو السيل؛ وإنما احتمل السيل الزبد لأن الماء خالطه تراب الأرض فصار ذلك زبدا، كذلك ما يوقد عليه في النار من الجوهر ومن الذهب والفضة مما ينبث في الأرض من المعادن فقد خالطه التراب؛ فإنما يوقد عليه ليذوب فيزايله تراب الأرض. وقوله: « كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء » قال مجاهد: جمودا. وقال أبو عبيدة قال أبو عمرو بن العلاء: أجفأت القدر إذا غلت حتى ينصب زبدها، وإذا جمد في أسفلها. والجفاء ما أجفاه الوادي أي رمى به. وحكى أبو عبيدة أنه سمع رؤبة يقرأ « جفالا » قال أبو عبيدة: يقال أجفلت القدر إذا قذفت بزبدها، وأجفلت الريح السحاب إذا قطعته. « وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض » قال مجاهد: هو الماء الخالص الصافي. وقيل: الماء وما خلص من الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص؛ وهو أن المثلين ضربهما الله للحق في ثباته، والباطل في اضمحلاله، فالباطل وإن علا في بعض الأحوال فإنه يضمحل كاضمحلال الزبد. والخبث. وقيل: المراد مثل ضربه الله للقرآن وما يدخل منه القلوب؛ فشبه القرآن بالمطر لعموم خيره وبقاء نفعه، وشبه القلوب بالأودية، يدخل فيها من القرآن مثل ما يدخل في الأودية بحسب سعتها وضيقها. قال ابن عباس: « أنزل من الماء ماء » قال: قرآنا، « فسالت أودية بقدرها » قال: الأودية قلوب العباد. قال صاحب « سوق العروس » إن صح هذا التفسير فالمعنى فيه أن الله سبحانه مثل القرآن بالماء. ومثل القلوب بالأودية، ومثل المحكم بالصافي، ومثل المتشابه بالزبد. وقيل: الزبد مخايل النفس وغوائل الشك ترتفع من حيث ما فيها فتضطرب من سلطان تلعها، كما أن ماء السيل يجري صافيا فيرفع ما يجد في الوادي باقيا، وأما حلية الذهب والفضة فمثل الأحوال النية. والأخلاق الزكية؛ التي بها جمال الرجال، وقوام صالح الأعمال، كما أن من الذهب والفضة زينة النساء. وبهما قيمة الأشياء. وقرأ جحيد وابن محيصن ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي وحفص، « يوقدون » بالياء واختاره أبو عبيد؛ لقوله: « ينفع الناس » فأخبر، ولا مخاطبة هاهنا. الباقون بالتاء لقوله في أول الكلام: « أفاتخذتم من دونه أولياء » [ الرعد: 16 ] الآية. وقوله: « في النار » متعلق بمحذوف، وهو في موضع الحال، وذو الحال الهاء التي في « عليه » التقدير: ومما توقدون عليه ثابتا في النار أو كامئا. وفي قوله: « في النار » ضمير مرفوع يعود إلى الهاء التي هي اسم ذي الحال ولا يستقيم أن يتعلق « في النار » بـ « يوقدون » من حيث لا يستقيم أوقدت عليه في النار؛ لأن الموقد عليه يكون في النار، فيصير قوله: « في النار » غير مقيد. وقوله: « ابتغاء حلية » مفعول له. « زبد مثله » ابتداء وخبر؛ أي زبد مثل زبد السيل. وقيل: إن خبر « زبد » قوله: « في النار » الكسائي: « زبد » ابتداء، و « مثله » نعت له، والخبر في الجملة التي قبله، وهو « مما يوقدون » . « كذلك يضرب الله الأمثال » أي كما بين لكم هذه الأمثال فكذلك يضربها بينات. تم الكلام.

 

الآية: 18 ( للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد )

 

قوله تعالى: « للذين استجابوا لربهم » أي أجابوا؛ واستجاب بمعنى أجاب؛ قال:

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

وقد تقدم؛ أي أجاب إلى ما دعاه الله من التوحيد والنبوات. « الحسنى » لأنها في نهاية الحسن. وقيل: من الحسنى النصر في الدنيا، والنعيم المقيم غدا. « والذين لم يستجيبوا » أي لم يجيبوا إلى الإيمان به. « لو أن لهم ما في الأرض جميعا » أي من الأموال. « ومثله معه » ملك لهم. « لافتدوا به » من عذاب يوم القيامة؛ نظيره في « آل عمران » « إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا » [ آل عمران: 10 ] ، « إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به » [ آل عمران: 91 ] حسب ما تقدم بيانه هناك. « أولئك لهم سوء الحساب » أي لا يقبل لهم حسنة، ولا يتجاوز لهم عن سيئة. وقال فرقد السبخي قال لي إبراهيم النخعي: يا فرقد! أتدري ما سوء الحساب؟ قلت لا! قال أن يحاسب الرجل: بذنبه كله لا يفقد منه شيء. « ومأواهم جهنم » أي مسكنهم ومقامهم. « وبئس المهاد » أي الفراش الذي مهدوا لأنفسهم.

 

الآية: 19 ( أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب )

 

قوله تعالى: « أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى » هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، وروي أنها نزلت في حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه، وأبي جهل لعنه الله. والمراد بالعمى عمى القلب، والجاهل بالدين أعمى القلب. « إنما يتذكر أولو الألباب » .

 

الآية: 20 ( الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق )

 

قوله تعالى: « الذين يوفون بعهد الله » هذا من صفة ذوي الألباب، أي إنما يتذكر أولو الألباب الموفون بعهد الله. والعهد اسم الجنس؛ أي بجميع عهود الله، وهي أوامره ونواهيه التي وصى بها عبيده؛ ويدخل في هذه الألفاظ التزام جميع الفروض، وتجنب جميع المعاصي. وقوله: « ولا ينقضون الميثاق » يحتمل أن يريد به جنس المواثيق، أي إذا عقدوا في طاعة الله عهدا لم ينقضوه. قال قتادة: تقدم الله إلى عباده في نقض الميثاق ونهى عنه في بضع وعشرين آية؛ ويحتمل أن يشير إلى ميثاق بعينه، هو الذي أخذه الله على عباده حين أخرجهم من صلب أبيهم آدم. وقال القفال: هو ما ركب في عقولهم من دلائل التوحيد والنبوات.

 

روى أبو داود وغيره عن عوف بن مالك قال: ( كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة أو ثمانية أو تسعة فقال: ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا حديث عهد ببيعة فقلنا: قد بايعناك حتى قالها ثلاثا؛ فبسطنا أيدينا فبايعناه، فقال قائل: يا رسول الله! إنا قد بايعناك فعلى ماذا نبايعك؟ قال: ( أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وتصلوا الصلوات الخمس وتسمعوا وتطيعوا وأسر كلمة خفية - قال: لا تسألوا الناس شيئا ) . قال: ولقد كان بعضد، أولئك النفر يسقط - سوطه فما يسأل أحدا أن يناوله. إياه. قال ابن العربي: من أعظم المواثيق في الذكر ألا يسأل سواه؛ فقد كان أبو حمزة الخراساني من كبار العباد سمع أن أناسا بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يسألوا أحدا شيئا، الحديث؛ فقال أبو حمزة: رب! إن هؤلاء عاهدوا نبيك إذ رأوه، وأنا أعاهدك ألا أسأل أحدا شيئا؛ قال: فخرج حاجا من الشام يريد مكة فبينما هو يمشي في الطريق من الليل إذ بقي عن أصحابه لعذر ثم أتبعهم، فبينما هو يمشي إليهم إذ سقط في بئر على حاشية الطريق؛ فلما حل في قعره قال: استغيث لعل أحدا يسمعني. ثم قال: إن الذي عاهدته يراني ويسمعني، والله! لا تكلمت بحرف للبشر، ثم لم يلبث إلا يسيرا إذ مر بذلك البئر نفر، فلما رأوه على حاشية الطريق قالوا: إنه لينبغي سد هذا البئر؛ ثم قطعوا خشبا ونصبوها على فم البئر وغطوها بالتراب؛ فلما رأى ذلك أبو حمزة قال: هذه مهلكة، ثم أراد أن يستغيث بهم، ثم قال: والله! لا أخرج منها أبدا؛ ثم رجع إلى نفسه فقال: أليس قد عاهدت من يراك؟ فسكت وتوكل، ثم استند في قعر البئر مفكرا في أمره، فإذا بالتراب يقع عليه؛ والخشب يرفع عنه، وسمع في أثناء ذلك من يقول: هات يدك! قال: فأعطيته يدي فأقلني في مرة واحدة إلى فم البئر؛ فخرجت فلم أر أحدا؛ فسمعت هاتفا يقول: كيف رأيت ثمرة التوكل؛ وأنشد:

نهاني حيائي منك أن أكشف الهوى فأغنيتني بالعلم منك عن الكشف

تلطفت في أمري فأبديت شاهدي إلى غائبي واللطف يدرك باللطف

تراءيت لي بالعلم حتى كأنما تخبرني بالغيب أنك في كف

أراني وبي من هيبتي لك وحشة فتؤنسني باللطف منك وبالعطف

وتحيي محبا أنت في الحب حتفه وذا عجب كيف الحياة مع الحتف

قال ابن العربي: هذا رجل عاهد الله فوجد الوفاء على التمام والكمال، فاقتدوا به إن شاء الله تهتدوا. قال أبو الفرج الجوزي: سكوت هذا الرجل في هذا المقام على التوكل بزعمه إعانة على نفسه، وذلك لا يحل؛ ولو فهم معنى التوكل لعلم أنه لا ينافي استغاثته في تلك الحالة؛ كما لم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من التوكل بإخفائه الخروج من مكة، واستئجاره دليلا، واستكتامه ذلك الأمر، واستتاره في الغار، وقوله لسراقة: ( اخف عنا ) . فالتوكل الممدوح لا ينال بفعل محظور؛ وسكوت هذا الواقع في البئر محظور عليه، وبيان ذلك أن الله تعالى قد خلق للآدمي آلة يدفع عنه بها الضرر، وآلة يجتلب بها النفع، فإذا عطلها مدعيا للتوكل كان ذلك جهلا بالتوكل، وردا لحكمة التواضع؛ لأن التوكل إنما هو اعتماد القلب على الله تعالى، وليس من ضرورته قطع الأسباب؛ ولو أن إنسانا جاع فلم يسأل حتى مات دخل النار؛ قاله سفيان الثوري وغيره، لأنه قد دل على طريقة السلامة، فإذا تقاعد عنها أعان على نفسه. وقال أبو الفرج: ولا التفات إلى قول أبي حمزة: « فجاء أسد فأخرجني » فإنه إن صح ذلك فقد يقع مثله اتفاقا وقد يكون لطفا من الله تعالى بالعبد الجاهل، ولا ينكر أن يكون الله تعالى لطف به، إنما ينكر فعله الذي هو كسبه، وهو إعانته على نفسه التي هي وديعة لله تعالى عنده، وقد أمره بحفظها.

 

الآية: 21 ( والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب )

 

قوله تعالى: « والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل » ظاهر في صلة الأرحام، وهو قول قتادة وأكثر المفسرين، وهو مع ذلك يتناول جميع الطاعات. « ويخشون ربهم } قيل: في قطع الرحم. وقيل: في جميع المعاصي. » ويخافون سوء الحساب « سوء الحساب الاستقصاء فيه والمناقشة؛ ومن نوقش الحساب عذب. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: معنى. » يصلون ما أمر الله به « الإيمان بجميع الكتب والرسل كلهم. الحسن: هو صلة محمد صلى الله عليه وسلم. ويحتمل رابعا: أن يصلوا الإيمان بالعمل الصالح؛ » ويخشون ربهم « فيما أمرهم بوصله، » ويخافون سوء الحساب « في تركه؛ والقول الأول يتناول هذه الأقوال كما ذكرنا، وبالله توفيقنا.»

 

الآية: 22 ( والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرؤون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار )

 

قوله تعالى: « والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم » قيل: « الذين » مستأنف؛ لأن « صبروا » ماض فلا ينعطف على « يوفون » وقيل.: هو من وصف من تقدم، ويجوز الوصف تارة بلفظ الماضي، وتارة بلفظ المستقبل؛ لأن المعنى من يفعل كذا فله كذا؛ ولما كان « الذين » يتضمن الشرط، والماضي في الشرط كالمستقبل جاز ذلك؛ ولهذا قال: « الذين يوفون » ثم قال: « والذين صبروا » ثم عطف عليه فقال: « ويدرؤون بالحسنة السيئة » قال ابن زيد: صبروا على طاعة الله، وصبروا عن معصية الله. وقال عطاء: صبروا على الرزايا والمصائب، والحوادث والنوائب. وقال أبو عمران الجوني: صبروا على دينهم ابتغاء وجه الله « وأقاموا الصلاة » أدوها بفروضها وخشوعها في مواقيتها. « وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية » يعني الزكاة المفروضة، عن ابن عباس، وقد مضى القول في هذا في « البقرة » وغيرها. « ويدرؤون بالحسنة السيئة » أي يدفعون بالعمل الصالح السيء من الأعمال، قال ابن عباس. ابن زيد: يدفعون الشر بالخير. سعيد بن جبير: يدفعون المنكر بالمعروف. الضحاك: يدفعون الفحش بالسلام. جويبر: يدفعون الظلم بالعفو. ابن شجرة: يدفعون الذنب بالتوبة. القتبي: يدفعون سفه الجاهل بالحلم؛ فالسفه السيئة، والحلم الحسنة. وقيل: إذا هموا بسيئة رجعوا عنها واستغفروا. وقيل: يدفعون الشرك بشهادة أن لا إله إلا الله؛ فهذه تسعة أقوال، معناها كلها متقارب، والأول يتناولها بالعموم؛ ونظيره: « إن الحسنات يذهبن السيئات » [ هود: 114 ] ومنه قول عليه السلام لمعاذ: ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن ) . قوله تعالى: « أولئك لهم عقبى الدار » أي عاقبة الآخرة، وهي الجنة بدل النار، والدار غدا داران: الجنة للمطيع، والنار للعاصي؛ فلما ذكر وصف المطيعين فدارهم الجنة لا محالة. وقيل: عني بالدار دار الدنيا؛ أي لهم جزاء ما عملوا من الطاعات في دار الدنيا.

 

الآيتان: 23 - 24 ( جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب، سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار )

 

قوله تعالى: « جنات عدن يدخلونها » أي لهم جنات عدن؛ فـ « جنات عدن » بدل من « عقبي » ويجوز أن تكون تفسيرا لـ « عقبى الدار » أي لهم دخول جنات عدن؛ لأن « عقبى الدار » حدث و « جنات عدن » عين، والحدث إنما يفسر بحدث مثله؛ فالمصدر المحذوف مضاف إلى المفعول. ويجوز أن يكون « جنات عدن » خبر ابتداء محذوف. و « جنات عدن » وسط الجنة وقصبتها، وسقفها عرش الرحمن؛ قال القشيري أبو نصر عبدالملك. وفي صحيح البخاري: ( إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة ) فيحتمل أن يكون « جنات » كذلك إن صح فذلك خبر. وقال عبدالله بن عمرو: إن في الجنة قصرا يقال له عدن، حوله البروج والمروج؛ فيه ألف باب، على كل باب خمسة آلاف حبرة لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد. و « عدن » مأخوذ من عدن بالمكان إذا أقام فيه؛ على ما يأتي بيانه في سورة « الكهف » إن شاء الله تعالى. « ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم » يجوز أن يكون معطوفا على « أولئك » المعنى: أولئك ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم لهم عقبى الدار. ويجوز أن يكون معطوفا على الضمير المرفوع في « يدخلونها » وحسن العطف لما حال الضمير المنصوب بينهما. ويجوز أن يكون المعنى: يدخلونها ويدخلها من صلح من آبائهم، أي من كان صالحا، لا يدخلونها بالأنساب. ويجوز أن يكون موضع « من » نصبا على تقدير: يدخلونها مع من صلح من آبائهم، وإن لم يعمل مثل أعمالهم يلحقه الله بهم كرامة لهم. وقال ابن عباس: هذا الصلاح الإيمان بالله والرسول، ولو كان لهم مع الإيمان طاعات أخرى لدخلوها بطاعتهم لا على وجه التبعية. قال القشيري: وفي هذا نظر؛ لأنه لا بد من الإيمان، فالقول في اشتراط العمل الصالح كالقول في اشتراط الإيمان. فالأظهر أن هذا الصلاح في جملة الأعمال، والمعنى: أن النعمة غدا تتم عليهم بأن جعلهم مجتمعين مع قراباتهم في الجنة، وإن دخلها كل إنسان بعمل نفسه؛ بل برحمة الله تعالى.

 

قوله تعالى: « والملائكة يدخلون عليهم من كل باب » أي بالتحف والهدايا من عند الله تكرمة لهم. « سلام عليكم » أي يقولون: سلام عليكم؛ فأضمر القول، أي قد سلمتم من الآفات والمحن. وقيل: هو دعاء لهم بدوام السلامة، وإن كانوا سالمين، أي سلمكم الله، فهو خبر معناه الدعاء؛ ويتضمن الاعتراف بالعبودية. « بما صبرتم » أي بصبركم؛ فـ « ما » مع الفعل بمعنى المصدر، والباء في « بما » متعلقة بمعنى. « سلام عليكم » ويجوز أن تتعلق بمحذوف؛ أي هذه الكرامة بصبركم، أي على أمر الله تعالى ونهيه؛ قال سعيد بن جبير. وقيل: على الفقر في الدنيا؛ قاله أبو عمران الجوني. وقيل: على الجهاد في سبيل الله؛ كما روي عن عبدالله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( هل تدرون من يدخل الجنة من خلق الله ) ؟ قالوا: الله ورسول أعلم؛ قال: ( المجاهدون الذين تسد بهم الثغور وتتقي بهم المكاره فيموت أحدهم وحاجته في نفسه لا يستطيع لها قضاء فتأتيهم الملائكة فيدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ) . وقال محمد بن إبراهيم: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول: السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ) وكذلك أبو بكر وعمر وعثمان؛ وذكره البيهقي عن أبي هريرة قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي الشهداء، فإذا أتى فرضة الشعب يقول: السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ) . ثم كان أبو بكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم يفعله، وكان عمر بعد أبي بكر يفعله، وكان عثمان بعد عمر يفعله. وقال الحسن البصري رحمه الله: « بما صبرتم » عن فضول الدنيا. وقيل: « بما صبرتم » على ملازمة الطاعة، ومفارقة المعصية؛ قال معناه الفضيل بن عياض. ابن زيد: « بما صبرتم » عما تحبونه إذا فقدتموه. ويحتمل سابعا - « بما صبرتم » عن اتباع الشهوات. وعن عبدالله بن سلام وعلي بن الحسين رضي الله عنهم أنهما قالا: إذا كان يوم القيامة ينادي مناد ليقم أهل الصبر؛ فيقوم ناس من الناس فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة فيقولون: إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنة؛ قالوا: قبل الحساب؟ قالوا نعم! فيقولون: من أنتم؟ فيقولون: نحن أهل الصبر، قالوا: وما كان صبركم؟ قالوا: صبرنا أنفسنا على طاعة الله، وصبرناها عن معاصي الله وصبرناها على البلاء والمحن في الدنيا. قال علي بن الحسين: فتقول لهم الملائكة: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين. وقال ابن سلام: فتقول لهم الملائكة: « سلام عليكم بما صبرتم » . « فنعم عقبى الدار » أي نعم عاقبة الدار التي كنتم فيها؛ عملتم فيها ما أعقبكم هذا الذي أنتم فيه؛ فالعقبى على هذا اسم، و « الدار » هي الدنيا. وقال أبو عمران الجوني: « فنعم عقبى الدار » الجنة عن النار. وعنه: « فنعم عقبى الدار » الجنة عن الدنيا.

 

الآية: 25 ( والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار )

 

قوله تعالى: « والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه » لما ذكر الموفين بعهده، والمواصلين لأمره، وذكر ما لهم ذكر عكسهم. نقض الميثاق: ترك أمره. وقيل: إهمال عقولهم، فلا يتدبرون بها ليعرفوا الله تعالى. « ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل » أي من الأرحام. والإيمان بجميع الأنبياء. « ويفسدون في الأرض » أي بالكفر وارتكاب المعاصي « أولئك لهم اللعنة » أي الطرد والإبعاد من الرحمة. « ولهم سوء الدار » أي سوء المنقلب، وهو جهنم. وقال سعد بن أبي وقاص: والله الذي لا إله إلا هو ! إنهم الحرورية.

 

الآية: 26 ( الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع )

 

قوله تعالى: « الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر » لما ذكر عاقبة المؤمن وعاقبة المشرك بين أنه تعالى الذي يبسط الرزق ويقدر في الدنيا، لأنها دار امتحان؛ فبسط الرزق على الكافر لا يدل على كرامته، والتقتير على بعض المؤمنين لا يدل على إهانتهم. « ويقدر » أي يضيق؛ ومنه « ومن قدر عليه رزقه » [ الطلاق: 7 ] أي ضيق. وقيل: « يقدر » يعطي بقدر الكفاية. « وفرحوا بالحياة الدنيا » يعني مشركي مكة؛ فرحوا بالدنيا ولم يعرفوا غيرها، وجهلوا ما عند الله؛ وهو معطوف على « ويفسدون في الأرض » . وفي الآية تقديم وتأخير؛ التقدير: والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض وفرحوا بالحياة الدنيا. « وما الحياة الدنيا في الآخرة » أي في جنبها. « إلا متاع » أي متاع من الأمتعة، كالقصعة والسكرجة. وقال مجاهد: شيء قليل ذاهب؛ من متع النهار إذا ارتفع؛ فلا بد له من زوال. ابن عباس: زاد كزاد الراعي. وقيل: متاع الحياة الدنيا ما يستمتع بها منها. وقيل: ما يتزود منها إلى الآخرة، من التقوى والعمل الصالح، « ولهم سوء الدار » ثم ابتدأ. « الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر » أي يوسع ويضيق.

 

الآية: 27 ( ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب )

 

قوله تعالى: « ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه » بين في مواضع أن اقتراح الآيات على الرسل جهل، بعد أن رأوا آية واحدة تدل على الصدق، والقائل، عبدالله بن أبي أمية وأصحابه حين طالبوا النبي صلى الله عليه وسلم بالآيات. « قل إن الله يضل من يشاء » عز وجل « يضل من يشاء » أي كما أضلكم بعد ما أنزل من الآيات وحرمكم الاستدلال بها يضلكم عند نزول غيرها. « ويهدي إليه من أناب » أي من رجع. والهاء في « إليه » للحق، أو للإسلام، أو لله عز وجل؛ على تقدير: ويهدي إلى دينه وطاعته من رجع إليه بقلبه. وقيل: هي للنبي صلى الله عليه وسلم.

 

الآية: 28 ( الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب )

 

قوله تعالى: « الذين آمنوا » « الذين » في موضع نصب، لأنه مفعول؛ أي يهدي الله الذين أمنوا. وقيل بدل من قوله: « من أناب » فهو في محل نصب أيضا. « وتطمئن قلوبهم بذكر الله » أي تسكن وتستأنس بتوحيد الله فتطمئن؛ قال: أي وهم تطمئن قلوبهم على الدوام بذكر الله بألسنتهم؛ قال قتادة: وقال مجاهد وقتادة وغيرهما: بالقرآن. وقال سفيان بن عيينة: بأمره. مقاتل: بوعده. ابن عباس: بالحلف باسمه، أو تطمئن بذكر فضله وإنعامه؛ كما تَْوجل بذكر عدله وانتقامه وقضائه. وقيل: « يذكر الله » أي يذكرون الله ويتأملون آياته فيعرفون كمال قدرته عن بصيرة.

 

قوله تعالى: « ألا بذكر الله تطمئن القلوب » أي قلوب المؤمنين. قال ابن عباس: هذا في الحلف؛ فإذا حلف خصمه بالله سكن قلبه. وقيل: « بذكر الله » أي بطاعة الله. وقيل: بثواب الله. وقيل: بوعد الله. وقال مجاهد: هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

 

الآية: 29 ( الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب )

 

قوله تعالى: « الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم » ابتداء وخبره. وقيل: معناه لهم طوبى، فـ « طوبى » رفع بالابتداء، ويجوز أن يكون موضعه نصبا على تقدير: جعل لهم طوبى، ويعطف عليه « وحسن مآب » على الوجهين المذكورين، فترفع أو تنصب. وذكر عبدالرزاق: أخبرنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عمرو بن أبي يزيد البكالي عن عتبة بن عبدالسلمي قال: ( جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الجنة وذكر الحوض فقال: فيها فاكهة؟ قال: ( نعم شجرة تدعى طوبى ) قال: يا رسول الله! أي شجر أرضنا تشبه؟ قال ( لا تشبه شيئا من شجر أرضك أأتيت الشام هناك شجرة تدعي الجوزة تنبت على ساق ويفترش أعلاها ) . قال: يا رسول الله! فما عظم أصلها! قال: ( لو ارتحلت جذعة من إبل أهلك ما أحطت بأصلها حتى تنكسر ترقوتها هرما ) . وذكر الحديث، وقد كتبناه بكمال في أبواب الجنة من كتاب « التذكرة » ، والحمد لله. وذكر ابن المبارك قال: أخبرنا معمر عن الأشعث عن عبدالله عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال: في الجنة شجرة يقال لها طوبى؛ يقول الله تعالى لها: تفتقي لعبدي عما شاء؛ فتفتق له عن فرس بسرجه ولجامه وهيئته كما شاء، وتفتق عن الراحلة برحلها وزمامها وهيئتها كما شاء، وعن النجائب والثياب. وذكر ابن وهب من حديث شهر بن حوشب عن أبي أمامة الباهلي قال: « طوبى » شجرة في الجنة ليس منها دار إلا وفيها غصن منها، ولا طير حسن إلا هو فيها، ولا ثمرة إلا هي منها؛ وقد قيل: إن أصلها في قصر النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، ثم تنقسم فروعها على منازل أهل الجنة، كما انتشر منه العلم والإيمان على جميع أهل الدنيا. وقال ابن عباس: « طوبى لهم » فرح لهم وقرة عين؛ وعنه أيضا أن « طوبى » اسم الجنة بالحبشية؛ وقال سعيد بن جبير. الربيع بن أنس: هو البستان بلغة الهند؛ قال القشيري: إن صح هذا فهو وفاق بين اللغتين. وقال قتادة: « طوبى لهم » حسنى لهم. عكرمة: نعمى لهم. إبراهيم النخعي: خير لهم، وعنه أيضا كرامة من الله لهم. الضحاك: غبطة لهم. النحاس: وهذه الأقوال متقاربة؛ لأن طوبى فعلى من الطيب؛ أي العيش الطيب لهم؛ وهذه الأشياء ترجع إلى الشيء الطيب. وقال الزجاج: طوبى فعلى من الطيب، وهي الحالة المستطابة لهم؛ والأصل طيبي، فصارت الياء واوا لسكونها وضم ما قبلها، كما قالوا: موسر وموقن.

قلت: والصحيح أنها شجرة؛ للحديث المرفوع الذي ذكرناه، وهو صحيح على ما ذكره السهيلي؛ ذكره أبو عمر في التمهيد، ومنه نقلناه؛ وذكره أيضا الثعلبي في تفسيره؛ وذكر أيضا المهدوي والقشيري عن معاوية بن قرة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( طوبى شجرة في الجنة غرسها الله بيده ونفخ فيها من روحه تنبت الحلي والحلل وإن أغصانها لترى من وراء سور الجنة ) ومن أراد زيادة على هذه الأخبار فليطالع الثعلبي. وقال ابن عباس: « طوبى » شجرة في الجنة أصلها في دار علي، وفي دار كل مؤمن منها غصن. وقال أبو جعفر محمد بن علي: ( سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: « طوبى لهم وحسن مآب » قال: ( شجرة أصلها في داري وفروعها في الجنة ) ثم سئل عنها مرة أخرى فقال: ( شجرة أصلها في دار على وفروعها في الجنة ) . فقيل له: يا رسول الله! سئلت عنها فقلت: ( أصلها في داري وفروعها في الجنة ) ثم سئلت عنها فقلت: ( أصلها في دار علي وفروعها في الجنة ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن داري ودار علي غدا في الجنة واحدة في مكان واحد ) وعنه صلى الله عليه وسلم: ( هي شجرة أصلها في داري وما من دار من دوركم إلا مدلى فيها غصن منها ) « وحسن مآب » آب إذا رجح. وقيل: تقدير الكلام الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله وعملوا الصالحات طوبى لهم.

 

الآية: 30 ( كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب )

 

قوله تعالى: « كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم » أي أرسلناك كما أرسلنا الأنبياء من قبلك؛ قاله الحسن. وقيل: شبه الإنعام على من أرسل إليه محمد عليه السلام بالإنعام على من أرسل إليه الأنبياء قبله. « لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك » يعني القرآن. « وهم يكفرون بالرحمن » قال مقاتل وابن جريج: نزلت في صلح الحديبية حين أرادوا أن يكتبوا كتاب الصلح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: ( اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ) فقال سهيل بن عمرو والمشركون: ما نعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب؛ اكتب باسمك اللهم، وهكذا كان أهل الجاهلية يكتبون؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: ( اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله ) فقال مشركو قريش: لئن كنت رسول الله ثم قاتلناك وصددناك لقد ظلمناك، ولكن اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبدالله؛ فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: دعنا نقاتلهم؛ فقال: ( لا ولكن اكتب ما يريدون ) فنزلت. وقال ابن عباس: نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ( اسجدوا للرحمن ) [ الفرقان: 60 ] « قالوا وما الرحمن » فنزلت. « قل » لهم يا محمد: الذي أنكرتم. « هو ربي لا إله إلا هو » ولا معبود سواه؛ هو واحد بذاته؛ وإن اختلفت أسماء صفاته. « عليه توكلت » واعتمدت ووثقت. « وإليه متاب » أي مرجعي غدا، واليوم أيضا عليه توكلت ووثقت، رضا بقضائه، وتسليما لأمره. وقيل: سمع أبو جهل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في الحجر ويقول: ( يا الله يا رحمن ) فقال: كان محمد ينهانا عن عبادة الآلهة وهو يدعو إلهين؛ فنزلت هذه الآية، ونزل. « قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن » [ الإسراء: 110 ] .

 

الآية: 31 ( ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد )

 

قوله تعالى: « ولو أن قرآنا سيرت به الجبال » هذا متصل بقوله: « لولا أنزل عليه آية من ربه » [ يونس: 20 ] . وذلك أن نفرا من مشركي مكة فيهم أبو جهل وعبدالله بن أبي أمية المخزوميان جلسوا خلف الكعبة، ثم أرسلوا إلى رسول الله فأتاهم؛ فقال له عبدالله: إن سرك أن نتبعك فسير لنا جبال مكة بالقرآن، فأذهبها عنا حتى تنفسح؛ فإنها أرض ضيقة، واجعل لنا فيها عيونا وأنهارا، حتى نغرس ونزرع؛ فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود حين سخر له الجبال تسير معه، وسخر لنا الريح فنركبها إلى الشام نقضي عليها ميرتنا وحوائجنا، ثم نرجع من يومنا؛ فقد كان سليمان سحرت له الريح كما زعمت؛ فلست بأهون على ربك من سليمان بن داود، وأحي لنا قصيا جدك، أو من شئت أنت من موتانا نسأله؛ أحق ما تقول أنت أم باطل؟ فإن عيسى كان يحيى الموتى، ولست بأهون على الله منه؛ فأنزل الله تعالى: « ولو أن قرآنا سيرت به الجبال » الآية؛ قال معناه الزبير بن العوام ومجاهد وقتادة والضحاك؛ والجواب محذوف تقديره: لكان هذا القرآن، لكن حذف إيجازا، لما في ظاهر الكلام من الدلالة عليه؛ كما قال امرؤ القيس:

فلو أنها نفس تموت جميعة ولكنها نفس تساقط أنفسا

يعني لهان علي؛ هذا معنى قول قتادة؛ قال: لو فعل هذا قرآن قبل قرآنكم لفعله قرآنكم. وقيل: الجواب متقدم، وفي الكلام تقديم وتأخير؛ أي وهم يكفرون بالرحمن لو أنزلنا القرآن وفعلنا بهم ما اقترحوا. الفراء: يجوز أن يكون الجواب لو فعل بهم هذا لكفروا بالرحمن. الزجاج: « ولو أن قرآنا » إلى قوله: « الموتى » لما آمنوا، والجواب المضمر هنا ما أظهر في قوله: « ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة » [ الأنعام: 111 ] إلى قوله: « ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله » [ الأنعام: 111 ] . « بل لله الأمر جميعا » أي هو المالك لجميع الأمور، الفاعل لما يشاء منها، فليس ما تلتمسونه مما يكون بالقرآن، إنما يكون بأمر الله.

 

قوله تعالى: « أفلم ييئس الذين آمنوا » قال الفراء قال الكلبي: « ييأس » بمعنى يعلم، لغة النخع؛ وحكاه القشيري عن ابن عباس؛ أي أفلم يعلموا؛ وقاله الجوهري في الصحاح. وقيل: هو لغة هوازن؛ أي أفلم يعلم؛ عن ابن عباس ومجاهد والحسن. وقال أبو عبيدة: أفلم يعلموا ويتبينوا، وأنشد في ذلك أبو عبيدة لمالك بن عوف النصري:

أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم

ييسرونني من الميسر، وقد تقدم في « البقرة » ويروى يأسرونني من الأسر. وقال رباح بن عدي:

ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا

في كتاب الرد « أني أنا ابنه » وكذا ذكره الغزنوي: ألم يعلم؛ والمعنى على هذا: أفلم يعلم الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا من غير أن يشاهدوا الآيات. وقيل: هو من اليأس المعروف؛ أي أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء الكفار، لعلمهم أن الله تعالى لو أراد هدايتهم لهداهم؛ لأن المؤمنين تمنوا نزول الآيات طمعا في إيمان الكفار. وقرأ علي وابن عباس: « أفلم يتبين الذين آمنوا » من البيان. قال القشيري: وقيل لابن عباس المكتوب « أفلم ييئس » قال: أظن الكاتب كتبها وهو ناعس؛ أي زاد بعض الحروف حتى صار « ييئس » . قال أبو بكر الأنباري: روي عن عكرمة عن ابن أبي: نجيح أنه قرأ - « أفلم يتبين الذين آمنوا » وبها احتج من زعم أنه الصواب في التلاوة؛ وهو باطل عن بن عباس، لأن مجاهدا وسعيد بن جبير حكيا الحرف عن ابن عباس، على ما هو في المصحف بقراءة أبي عمرو وروايته عن مجاهد وسعيد بن جبير عن ابن عباس؛ ثم إن معناه: أفلم يتبين؛ فإن كان مراد الله تحت اللفظة التي خالفوا بها الإجماع فقراءتنا تقع عليها، وتأتي بتأويلها، وإن أراد الله المعنى الآخر الذي اليأس فيه ليس من طريق العلم فقد سقط مما أوردوا؛ وأما سقوطه يبطل القرآن، ولزوم أصحابه البهتان. « أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا » « أن » مخففة من القيلة، أي أنه لو يشاء الله « لهدى الناس جميعا » وهو يرد على القدرية وغيرهم.

 

قوله تعالى: « ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة » أي داهية تفجؤهم بكفرهم؛ وعتوهم؛ ويقال: قرعه أمر إذا أصابه، والجمع قوارع؛ والأصل في القرع الضرب؛ قال:

أفني تلادي وما جمعت من نشب قرع القواقيز أفواه الأباريق

أي لا يزال الكافرون تصيبهم داهية مهلكة من صاعقة كما أصاب أربد أو من قتل أو من أسر أو جدب، أو غير ذلك من العذاب والبلاء؛ كما نزل بالمستهزئين، وهم رؤساء المشركين. وقال عكرمة عن ابن عباس: القارعة النكبة. وقال ابن عباس أيضا وعكرمة: القارعة الطلائع والسرايا التي كان ينفذها رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم « أو تحل » أي القارعة. « قريبا من دارهم » قاله قتادة والحسن. وقال ابن عباس: أو تحل أنت قريبا من دارهم. وقيل: نزلت الآية بالمدينة؛ أي لا تزال تصيبهم القوارع فتنزل بساحتهم أو بالقرب منهم كقرى المدينة ومكة. « حتى يأتي وعد الله » في فتح مكة؛ قاله مجاهد وقتادة وقيل: نزلت بمكة؛ أي تصيبهم القوارع، وتخرج عنهم إلى المدينة يا محمد، فتحل قريبا من دارهم، أو تحل بهم محاصرا لهم؛ وهذه المحاصرة لأهل الطائف، ولقلاع خيبر، ويأتي وعد الله بالإذن لك في قتالهم وقهرهم. وقال الحسن: وعد الله يوم القيامة.

 

الآية: 32 ( ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب )

 

قوله تعالى: « ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم » تقدم معنى الاستهزاء في « البقرة » ومعنى الإملاء في « آل عمران » أي سخر بهم، وأزري عليهم؛ فأمهلت الكافرين مدة ليؤمن من كان في علمي أنه يؤمن منهم؛ فلما حق القضاء أخذتهم بالعقوبة. « فكيف كان عقاب » أي فكيف رأيتم ما صنعت بهم، فكذلك أصنع بمشركي قومك.

 

الآية: 33 ( أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد )

 

قوله تعالى: « أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت » ليس هذا القيام القيام الذي هو ضد القعود، بل هو بمعنى التولي لأمور الخلق؛ كما يقال: قام فلان بشغل كذا؛ فإنه قائم على كل نفس بما كسبت أي يقدرها على الكسب، ويخلقها ويرزقها ويحفظها ويجازيها على عملها؛ فالمعنى: أنه حافظ لا يغفل، والجواب محذوف؛ والمعنى: أفمن هو حافظ لا يغفل كمن يغفل. وقيل: « أفمن هو قائم » أي عالم؛ قاله الأعمش. قال الشاعر:

فلولا رجال من قريش أعزة سرقتم ثياب البيت والله قائم

أي عالم؛ فالله عالم بكسب كل نفس. وقيل: المراد بذلك الملائكة الموكلون ببني آدم، عن الضحاك. « وجعلوا » حال؛ أي أوقد جعلوا، أو عطف على « استهزئ » أي استهزؤوا وجعلوا؛ أي سموا « لله شركاء » يعني أصناما جعلوها آلهة. « قل سموهم » أي قل لهم يا محمد: « سموهم » أي بينوا أسماءهم، على جهة التهديد؛ أي إنما يسمون: اللات والعزى ومناة وهبل. « أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض » « أم » استفهام توبيخ، أي أتنبئونه؛ وهو على التحقيق عطف على استفهام متقدم في المعنى؛ لأن قوله: « سموهم » معناه: ألهم أسماء الخالقين. « أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض » ؟. وقيل: المعنى قل لهم أتنبئون الله بباطن لا يعلمه. « أم بظاهر من القول » يعلمه؟ فإن قالوا: بباطن لا يعلمه أحالوا، وإن قالوا: بظاهر يعلمه فقل لهم: سموهم؛ فإذا سموهم اللات والعزى فقل لهم: إن الله لا يعلم لنفسه شريكا. وقيل: « أم تنبئونه » عطف على قوله: « أفمن هو قائم » أي أفمن هو قائم، أم تنبئون الله بما لا يعلم؛ أي أنتم تدعون لله شريكا، والله لا يعلم لنفسه شريكا؛ أفتنبئونه بشريك له في الأرض وهو لا يعلمه! وإنما خص الأرض بنفي الشريك عنها وإن لم يكن له شريك في غير الأرض لأنهم ادعوا له شركاء في الأرض. ومعنى. « أم بظاهر من القول » : الذي أنزل الله على أنبيائه. وقال قتادة: معناه بباطل من القول؛ ومنه قول الشاعر:

أعيرتنا ألبانها ولحومها وذلك عار يا ابن ريطة ظاهر

أي باطل. وقال الضحاك: بكذب من القول. ويحتمل خامسا - أن يكون الظاهر من القول حجة يظهرونها بقولهم؛ ويكون معنى الكلام: أتجبرونه بذلك مشاهدين، أم تقولون محتجين. « بل زين للذين كفروا مكرهم » أي دع هذا! بل زين للذين كفروا مكرهم قيل: استدراك. على هذا الوجه، أي ليس لله شريك، لكن زين للذين كفروا مكرهم. وقرأ ابن عباس ومجاهد - « بل زين للذين كفروا مكرهم » مسمى الفاعل، وعلى قراءة الجماعة فالذي زين للكافرين مكرهم الله تعالى، وقيل: الشيطان. ويجوز أن يسمى الكفر مكرا؛ لأن مكرهم بالرسول كان كفرا. « وصدوا عن السبيل » أي صدهم الله؛ وهي قراءة حمزة والكسائي. الباقون بالفتح؛ أي صدوا غيرهم؛ واختاره أبو حاتم، اعتبارا بقوله: « ويصدون عن سبيل الله » [ الأنفال: 47 ] وقوله: « هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام » [ الفتح: 25 ] . وقراءة الضم أيضا حسنة في « زين » و « صدوا » لأنه معلوم أن الله فاعل، ذلك في مذهب أهل السنة؛ ففيه إثبات القدر، وهو اختيار أبي عبيد. وقرأ يحيى بن وثاب وعلقمة - « وصِدوا » بكسر الصاد؛ وكذلك. « هذه بضاعتنا ردت إلينا » [ يوسف: 65 ] بكسر الراء أيضا على ما لم يسم فاعله؛ وأصلها صددوا ورددت، فلما أدغمت الدال الأولى في الثانية نقلت حركتها على ما قبلها فانكسر. « ومن يضلل الله » بخذلانه. « فما له من هاد » أي موفق؛ وفي هذا إثبات قراءة الكوفيين ومن تابعهم؛ لقوله: « ، ومن يضلل الله » فكذلك قوله: « وصدوا » . ومعظم القراء يقفون على الدال من غير الياء؛ وكذلك « وال » و « واق » ؛ لأنك تقول في الرجل: هذا قاض ووال وهاد، فتحذف الياء لسكونها والتقائها مع التنوين. وقرئ « فما له من هادي » و « والي » و « واقي » بالياء؛ وهو على لغة من يقول: هذا داعي وواقي بالياء؛ لأن حذف الياء في حالة الوصل لالتقائها مع التنوين، وقد أمنا هذا في الوقف؛ فردت الياء فصار هادي ووالي وواقي. وقال الخليل في نداء قاض: يا قاضي بإثبات الياء؛ إذ لا تنوين مع النداء، كما لا تنوين في نحو الداعي والمتعالي.

 

الآية: 34 ( لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق )

 

قوله تعالى: « لهم عذاب في الحياة الدنيا » أي للمشركين الصادين: بالقتل والسبي والإسار، وغير ذلك من الأسقام والمصائب. « ولعذاب الآخرة أشق » أي أشد؛ من قولك: شق علي كذا يشق. « وما لهم من الله من واق » أي مانع يمنعهم من عذابه ولا دافع. و « من » زائدة.

 

الآية: 35 ( مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار )

 

قوله تعالى: « مثل الجنة التي وعد المتقون » اختلف النحاة في رفع « مثل » فقال سيبويه: ارتفع بالابتداء والخبر محذوف؛ والتقدير: وفيما يتلى عليكم مثل الجنة. وقال الخليل: ارتفع الابتداء وخبره « تجري من تحتها الأنهار » أي صفة الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار؛ كقولك: قولي يقوم زيد؛ فقولي مبتدأ، ويقوم زيد خبره؛ والمثل بمعنى الصفة موجود؛ قال الله تعالى: « ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل » [ الفتح: 29 ] وقال: « ولله المثل الأعلى » [ النحل: 60 ] أي الصفة العليا؛ وأنكره أبو علي وقال: لم يسمع مثل بمعنى الصفة؛ إنما معناه الشبه؛ ألا تراه يجري مجراه في مواضعه ومتصرفاته، كقولهم: مررت برجل مثلك؛ كما تقول: مررت برجل شبهك؛ قال: ويفسد أيضا من جهة المعنى؛ لأن مثلا إذا كان معناه صفة كان تقدير الكلام: صفة الجنة التي فيها أنهار، وذلك غير مستقيم؛ لأن الأنهار في الجنة نفسها لا صفتها وقال الزجاج: مثل الله عز وجل لنا ما غاب عنا بما نراه؛ والمعنى: مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار؛ وأنكره أبو علي فقال: لا يخلو المثل على قوله أن يكون الصفة أو الشبه، وفي كلا الوجهين لا يصح ما قاله؛ لأنه إذا كان بمعنى الصفة لم يصح، لأنك إذا قلت: صفة الجنة جنة، فجعلت الجنة خبرا لم يستقم ذلك؛ لأن الجنة لا تكون الصفة، وكذلك أيضا شبه الجنة جنة؛ ألا ترى أن الشبه عبارة عن المماثلة التي بين المتماثلين، وهو حدث؛ والجنة غير حدث؛ فلا يكون الأول الثاني. وقال الفراء: المثل مقحم للتأكيد؛ والمعنى: الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار؛ والعرب تفعل ذلك كثيرا بالمثل؛ كقوله: « ليس كمثله شيء » [ الشورى: 11 ] : أي ليس هو كشيء. وقيل التقدير: صفة الجنة التي وعد المتقون صفة جنة « تجري من تحتها الأنهار » وقيل معناه: شبه الجنة التي وعد المتقون في الحسن والنعمة والخلود كشبه النار في العذاب والشدة والخلود؛ قاله مقاتل. « أكلها دائم وظلها » لا ينقطع؛ وفي الخبر: ( إذا أخذت ثمرة عادت مكانها أخرى ) وقد بيناه في « التذكرة » . « وظلها » أي وظلها كذلك؛ فحذف؛ أي ثمرها لا ينقطع، وظلها لا يزول؛ وهذا رد على الجهمية في زعمهم أن نعيم الجنة يزول ويفني. « تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار » أي عاقبة أمر المكذبين وآخرتهم النار يدخلونها.

 

الآية: 36 ( والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب )

 

قوله تعالى: « والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك » أي بعض من أوتي الكتاب يفرح بالقرآن، كابن سلام وسلمان، والذين جاؤوا من الحبشة؛ فاللفظ عام، والمراد الخصوص. وقال قتادة: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يفرحون بنور القرآن؛ وقاله مجاهد وابن زيد. وعن مجاهد أيضا أنهم مؤمنو أهل الكتاب. وقيل: هم جماعة أهل الكتاب من اليهود والنصارى يفرحون بنزول القرآن لتصديقه كتبهم. وقال أكثر العلماء: كان ذكر الرحمن في القرآن قليلا في أول ما أنزل، فلما أسلم عبدالله بن سلام وأصحابه ساءهم قلة ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة؛ فسألوا النبي عن ذلك؛ فأنزل الله تعالى: « قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى » [ الإسراء: 110 ] فقالت قريش: ما بال محمد يدعو إلى إله واحد فأصبح اليوم يدعو إلهين، الله والرحمن! والله ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب؛ فنزلت: « وهم بذكر الرحمن هم كافرون » [ الأنبياء: 36 ] « وهم يكفرون بالرحمن » [ الرعد: 30 ] ففرح مؤمنو أهل الكتاب بذكر الرحمن؛ فأنزل الله تعالى: « والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك » . « ومن الأحزاب » يعني مشركي مكة، ومن لم يؤمن من اليهود والنصارى والمجوس. وقيل: هم العرب المتحزبون على النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: ومن أعداء المسلمون من ينكر بعض ما في القرآن؛ لأن فيهم من كان يعترف ببعض الأنبياء، وفيهم من كان يعترف بأن الله خالق السماوات والأرض. « قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به » قراءة الجماعة بالنصب عطفا على « أعبد » . وقرأ أبو خالد بالرفع على الاستئناف أي أفرده بالعبادة وحده لا شريك له، وأتبرأ عن المشركين، ومن قال: المسيح ابن الله وعزير ابن الله، ومن اعتقد التشبيه كاليهود. « إليه أدعو » أي إلى عبادته أدعو الناس. « وإليه مآب » أي أرجع في أموري كلها.

 

الآية: 37 ( وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق )

 

قوله تعالى: « وكذلك أنزلناه حكما عربيا » أي وكما أنزلنا عليك القرآن فأنكره بعض الأحزاب كذلك أنزلناه حكما عريبا؛ وإذا وصفه بذلك لأنه أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو عربي، فكذب الأحزاب بهذا الحكم أيضا. وقيل نظم الآية: وكما أنزلنا الكتب على الرسل بلغاتهم كذلك أنزلنا إليك القرآن حكما عربيا، أي بلسان العرب؛ ويريد بالحكم ما فيه من الأحكام. وقيل: أراد بالحكم العربي القرآن كله؛ لأنه يفصل بين الحق والباطل ويحكم. « ولئن اتبعت أهواءهم » أي أهواء المشركين في عبادة ما دون الله، وفي التوجيه إلى غير الكعبة. « بعدما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق » أي ناصر ينصرك. « ولا واق » يمنعك من عذابه؛ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد الأمة.

 

الآية: 38 ( ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب )

 

قيل: إن اليهود عابوا على النبي صلى الله عليه وسلم الأزواج، وعيرته بذلك وقالوا: ما نرى لهذا الرجل همة إلا النساء والنكاح، ولو كان نبيا لشغله أم النبوة عن النساء؛ فأنزل الله هذه والآية، وذكرهم أمر داود وسليمان فقال: « ولقد أرسلنا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية » أي جعلناهم بشرا يقصون ما أحل الله من شهوات الدنيا، وإنما التخصيص في الوحي.

 

هذه الآية تدل على الترغيب في النكاح والحض عليه، وتنهي عن التبتل، وهو ترك النكاح، وهذه سنة المرسلين كما نصت عليه هذه الآية، والسنة واردة بمعناها؛ قال صلى الله عليه وسلم: ( تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم ) الحديث. وقد تقدم في « آل عمران » وقال: ( من تزوج فقد استكمل نصف الدين فليتق الله في النصف الثاني ) . ومعنى ذلك أن النكاح يعف عن الزني، والعفاف أحد الخصلتين اللتين ضمن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما الجنة فقال: ( من وقاه الله شر اثنتين ولج الجنة ما بين لحييه وما بين رجليه ) خرجه الموطأ وغيره. وفي صحيح البخاري عن أنس قال: ( جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم! قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فقال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال الآخر: إني أصوم الدهر فلا أفطر. وقال الآخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج؛ فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: ( أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ) . خرجه مسلم بمعناه؛ وهذا أبين. وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: ( أراد عثمان أن يتبتل فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولو أجاز له ذلك لاختصينا، وقد تقدم في « آل عمران » الحض على طلب الولد والرد على من جهل ذلك. وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول: إني لأتزوج المرأة وما لي فيها من حاجة، وأطؤها وما أشتهيها؛ قيل له: وما يحملك على ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: حبي أن يخرج الله مني من يكاثر به النبي صلى الله عليه وسلم النبيين يوم القيامة؛ وإني سمعته يقول: ( عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواها وأحسن أخلاقا وأنتق أرحاما وإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ) يعني بقول: ( أنتق أرحاما ) أقبل للولد؛ ويقال للمرأة الكثيرة الولد ناتق؛ لأنها ترمي بالأولاد رميا. وخرج أبو داود عن معقل بن يسار قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال، وإنها لا تلد، أفأتزوجها؟ قال « لا » ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال: ( تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم ) . صححه أبو محمد عبدالحق وحسبك.

 

قوله تعالى: « وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله » عاد الكلام إلى ما اقترحوا من الآيات - ما تقدم ذكره في هذه السورة - فأنزل الله ذلك فيهم؛ وظاهر الكلام حظر ومعناه النفي؛ لأنه لا يحظر على أحد ما لا يقدر عليه. « لكل أجل كتاب » أي لكل أمر قضاه الله كتاب عند الله؛ قال الحسن. وقيل: فيه تقديم وتأخير، المعنى: لكل كتاب أجل؛ قال الفراء والضحاك؛ أي لكل أمر كتبه الله أجل مؤقت، ووقت معلوم؛ نظيره. « لكل نبأ مستقر » [ الأنعام: 67 ] ؛ بين أن المراد ليس على اقتراح الأمم في نزول العذاب، بل لكل أجل كتاب. وقيل: المعنى لكل مدة كتاب مكتوب، وأمر مقدر لا تقف عليه الملائكة. وذكر الترمذي الحكيم في « نوادر الأصول » عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال: لما ارتقى موسى صلوات الله عليه وسلامه طور سيناء رأى الجبار في إصبعه خاتما، فقال: يا موسى ما هذا؟ وهو أعلم به، قال: شيء من حلي الرجال، قال: فهل عليه شيء من أسمائي مكتوب أو كلامي؟ قال: لا، قال: فاكتب عليه « لكل أجل كتاب » .

 

الآية: 39 ( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب )

 

قوله تعالى: « يمحو الله ما يشاء ويثبت » أي يمحو من ذلك الكتاب ما يشاء أن يوقعه بأهله ويأتي به. « ويثبت » ما يشاء؛ أي يؤخره إلى وقته؛ يقال: محوت الكتاب محوا، أي أذهبت أثره. « ويثبت » أي ويثبته؛ كقوله: « والذاكرين الله كثيرا والذاكرات » [ الأحزاب: 35 ] أي والذاكرات الله.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم « ويثبت » بالتخفيف، وشدد الباقون؛ وفي قراءة ابن عباس، واختيار أبي حاتم وأبي عبيد لكثرة من قرأ بها؛ لقول: « يثبت الله الذين آمنوا » [ إبراهيم: 27 ] . وقال ابن عمر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا السعادة والشقاوة والموت ) . وقال ابن عباس: يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا أشياء؛ الخَلق والخُلق والأجل والرزق والسعادة والشقاوة؛ وعنه: هما كتابان سوى أم الكتاب، يمحو الله منهما ما يشاء ويثبت. « وعنده أم الكتاب » الذي لا يتغير منه شيء. قال القشيري: وقيل السعادة والشقاوة والخلق والخلق والرزق لا تتغير؛ فالآية فيما عدا هذه الأشياء؛ وفي هذا القول نوع تحكم.

قلت: مثل هذا لا يدرك بالرأي والاجتهاد، وإنما يؤخذ: توقيفا، فإن صح فالقول به يجب ويوقف عنده، وإلا فتكون الآية عامة في جميع الأشياء، وهو الأظهر والله أعلم؛ وهذا يروي معناه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن مسعود وأبي وائل وكعب الأحبار وغيرهم، وهو قول الكلبي. وعن أبي عثمان النهدي أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه كان يطوف بالبيت وهو يبكي ويقول: اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها، وإن كنت كتبتني في أهل الشقاوة والذنب فامحني وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة؛ فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أم الكتاب. وقال ابن مسعود: اللهم إن كنت كتبتني في السعداء فأثبتني فيهم، وإن كنت كتبتني في الأشقياء فامحني من الأشقياء واكتبني في السعداء؛ فإنك: تمحو ما تشاء وتثبت؛ وعندك أم الكتاب. وكان أبو وائل يكثر أن يدعو: اللهم إن كنت كتبتنا أشقياء فامح واكتبنا سعداء، وإن كنت كتبتنا سعداء فأثبتنا، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب. وقال كعب لعمر بن الخطاب: لولا آية في كتاب الله لأنبأتك بما هو كائن إلى يوم القيامة. « يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب » . وقال مالك بن دينار في المرأة التي دعا لها: اللهم إن كان في بطنها جارية فأبدلها غلاما فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب. وقد تقدم في الصحيحين عن أبي هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من سره أن يبسط له رزقه وينسأ له أثره فليصل رحمه ) . ومثله عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من أحب ) فذكره بلفظه سواء؛ وفيه تأويلان: أحدهما: معنوي، وهو ما يبقى بعده من الثناء الجميل والذكر الحسن، والأجر المتكرر، فكأنه لم يمت. والآخر: يؤخر أجله المكتوب في اللوح المحفوظ؛ والذي في علم الله ثابت لا تبدل له، كما قال: « يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب » . وقيل لابن عباس لما روى الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من أحب أن يمد الله في عمره وأجله ويبسط له في رزقه فليتق الله وليصل رحمه ) كيف يزاد في العمر والأجل؟ ! فقال: قال الله عز وجل: « هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده » [ الأنعام: 2 ] . فالأجل الأول أجل العبد من حين ولادته إلى حين موته، والأجل الثاني: يعني المسمى عنده - من حين وفاته إلى يوم يلقاه في البرزخ لا يعلمه إلا الله؛ فإذا اتقى العبد ربه ووصل رحمه زاده الله في أجل عمره الأول من أجل البرزخ؛ ما شاء، وإذا عصى وقطع رحمه نقصه الله من أجل عمره في الدنيا ما شاء، فيزيده في البرزخ فإذا تحتمل الأجل في علمه السابق امتنع الزيادة والنقصان؛ لقوله تعالى: « فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون » [ الأعراف: 34 ] فتوافق الخبر والآية؛ وهذه زيادة في نفس العمر وذات الأجل على ظاهر اللفظ، في اختيار حبر الأمة، والله أعلم. وقال مجاهد: يحكم الله أمر السنة في رمضان فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، إلا الحياة والموت، والشقاء والسعادة؛ وقد مضى القول فيه. وقال الضحاك: يمحو الله ما يشاء من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب ولا عقاب، ويثبت ما فيه ثواب وعقاب؛ وروى معناه أبو صالح عن ابن عباس.

وقال الكلبي: يمحو من الرزق ويزيد فيه، ويمحو من الأجل ويزيد فيه، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم سئل الكلبي عن هذه الآية فقال: يكتب القول كله، حتى إذا كان يوم الخميس طرح منه كل شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب، مثل قولك: أكلت وشربت ودخلت وخرجت ونحوه، وهو صادق، ويثبت ما فيه الثواب والعقاب. وقال قتادة وابن زيد وسعيد بن جبير: يمحو الله ما يشاء من الفرائض والنوافل فينسخه ويبدله، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه، وجملة الناسخ والمنسوخ عنده في أم الكتاب؛ ونحوه ذكره النحاس والمهدوي عن ابن عباس؛ قال النحاس: وحدثنا بكر بن سهل، قال حدثنا أبو صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، « يمحو الله ما يشاء » يقول: يبدل الله من القرآن ما يشاء فينسخه، « ويثبت » ما يشاء فلا يبدله، « وعنده أم الكتاب » يقول: جملة ذلك عنده في أم الكتاب، الناسخ والمنسوخ. وقال سعيد بن جبير أيضا: يغفر ما يشاء - يعني - من ذنوب عباده، ويترك ما يشاء فلا يغفره. وقال عكرمة: يمحو ما يشاء - يعني بالتوبة - جميع الذنوب ويثبت بدل الذنوب حسنات قال تعالى: « إلا من تاب وأمن وعمل عملا صالحا » [ الفرقان: 70 ] الآية. وقال الحسن: « يمحو الله ما يشاء » من جاء أجله، « ويثبت » من لم يأت أجله. وقال الحسن: يمحو الآباء، ويثبت الأبناء. وعنه أيضا. ينسى الحفظة من الذنوب ولا ينسي. وقال السدي: « يمحو الله ما يشاء » يعني: القمر، « ويثبت » يعني: الشمس؛ بيانه قوله: « فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة » [ الإسراء: 12 ] وقال الربيع بن أنس: هذا في الأرواح حالة النوم؛ يقبضها عند النوم، ثم إذا أراد موته فجأة أمسكه، ومن أراد بقاءه أثبته ورده إلى صاحبه؛ بيانه قوله: « الله يتوفى الأنفس حين موتها » الآية [ الزمر: 42 ] . وقال علي بن أبي طالب يمحو الله ما يشاء من القرون، كقوله: « ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون » [ يس: 31 ] ويثبت ما يشاء منها، كقوله: « ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين » [ المؤمنون: 31 ] فيمحو قرنا، ويثبت قرنا. وقيل: هو الرجل يعمل الزمن الطويل بطاعة الله، ثم يعمل بمعصية الله فيموت على ضلاله؛ فهو الذي يمحو، والذي يثبت: الرجل يعمل بمعصية الله الزمان الطويل ثم يتوب، فيمحوه الله من ديوان السيئات، ويثبته في ديوان الحسنات؛ ذكره الثعلبي والماوردي عن ابن عباس. وقيل: يمحو الله ما يشاء - يعني الدنيا - ويثبت الآخرة. وقال قيس بن عباد في اليوم العاشر من رجب: هو اليوم الذي يمحو الله فيه ما يشاء، ويثبت فيه ما يشاء، وقد تقدم عن مجاهد أن ذلك يكون في رمضان. وقال ابن عباس: إن لله لوحا محفوظا مسيرة خمسمائة عام، من درة بيضاء، لها دفتان من ياقوتة حمراء، لله فيه كل يوم ثلاثمائة وستون نظرة، يثبت ما يشاء ويمحو ما يشاء. وروي أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله سبحانه يفتح الذكر في ثلاث ساعات يبقين من الليل فينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيثبت ما يشاء ويمحو ما يشاء ) . والعقيدة أنه لا تبديل لقضاء الله؛ وهذا المحو والإثبات مما سبق به القضاء، وقد تقدم أن من القضاء ما يكون واقعا محتوما، وهو الثابت؛ ومنه ما يكون مصروفا بأسباب، وهو الممحو، والله أعلم. وقال الغزنوي: وعندي أن ما في اللوح خرج عن الغيب لإحاطة بعض الملائكة؛ فيحتمل التبديل؛ لأن إحاطة الخلق بجميع علم الله محال؛ وما في علمه من تقدير الأشياء لا يبدل. « وعنده أم الكتاب » أصل ما كتب من الآجال وغيرها. وقيل: أم الكتاب اللوح المحفوظ الذي لا يبدل ولا يغير. وقد قيل: إنه يجري فيه التبديل. وقيل: إنما يجري في الجرائد الأخر. وسئل ابن عباس عن أم الكتاب فقال: علم الله ما هو خالق، وما خلقه عاملون؛ فقال لعلمه: كن كتابا، ولا تبديل في علم الله، وعنه أنه الذكر؛ دليله قوله تعالى: « ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر » [ الأنبياء: 105 ] وهذا يرجع معناه إلى الأول؛ وهو معنى قول كعب. قال كعب الأحبار: أم الكتاب علم الله تعالى بما خلق وبما هو خالق.

 

الآية: 40 ( وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب )

 

قوله تعالى: « وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم » « ما » زائدة، والتقدير: وإن نرينك بعض الذي نعدهم، أي من العذاب لقوله: « لهم عذاب في الحياة الدنيا » [ الرعد: 34 ] وقوله: « ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة » [ الرعد: 31 ] أي إن أريناك بعض ما وعدناهم « أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ » فليس عليك إلا البلاغ؛ أي التبليغ؛ « وعلينا الحساب » أي الجزاء والعقوبة.

 

الآية: 41 ( أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب )

 

قوله تعالى: « أولم يروا » يعني، أهل مكة، « أنا نأتي الأرض » أي نقصدها. « ننقصها من أطرافها » اختلف فيه؛ فقال ابن عباس ومجاهد: « ننقصها من أطرافها » موت علمائها وصلحائها قال القشيري: وعلى هذا فالأطراف الأشراف؛ وقد قال ابن الأعرابي: الطرف والطرف الرجل الكريم؛ ولكن هذا القول بعيد، لأن مقصود الآية: أنا أريناهم النقصان في أمورهم، ليعلموا أن تأخير العقاب عنهم ليس عن عجز؛ إلا أن يحمل قول ابن عباس على موت أحبار اليهود والنصارى. وقال مجاهد أيضا وقتادة والحسن: هو ما يغلب عليه المسلمون مما في أيدي المشركين؛ وروي ذلك عن ابن عباس، وعنه أيضا هو خراب الأرض حتى يكون العمران في ناحية منها؛ وعن مجاهد: نقصانها خرابها وموت أهلها. وذكر وكيع بن الجراح عن طلحة بن عمير عن عطاء بن أبي رباح في قول الله تعالى: « أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها » قال: ذهاب فقهائها وخيار أهلها. قال أبو عمر بن عبدالبر: قول عطاء في تأويل الآية حسن جدا؛ تلقاه أهل العلم بالقبول.

قلت: وحكاه المهدوي عن مجاهد وابن عمر، وهذا نص القول الأول نفسه، روى سفيان عن منصور عن مجاهد، « ننقصها من أطرفها » قال: موت الفقهاء والعلماء؛ ومعروف في اللغة أن الطرف الكريم من كل شيء؛ وهذا خلاف ما ارتضاه أبو نصر عبدالرحيم بن عبدالكريم من قول ابن عباس. وقال عكرمة والشعبي: هو النقصان وقبض الأنفس. قال أحدهما: ولو كانت الأرض تنقص لضاق عليك حشك. وقال الآخر: لضاق عليك حش تتبرز فيه. قيل: المراد به هلاك من هلك من الأمم قبل قريش وهلاك أرضهم بعدهم؛ والمعنى: أو لم تر قريش هلاك من قبلهم، وخراب أرضهم بعدهم؟! أفلا يخافون أن يحل بهم مثل ذلك؛ وروي ذلك أيضا عن ابن عباس ومجاهد وابن جريج. وعن ابن عباس أيضا أنه بركات الأرض وثمارها وأهلها. وقيل: نقصها بجور ولاتها.

قلت: وهذا صحيح معنى؛ فإن الجور والظلم يخرب البلاد، بقتل أهلها وانجلائهم عنها، وترفع من الأرض البركة، والله أعلم.

 

قوله تعالى: « والله يحكم لا معقب لحكمه » أي ليس يتعقب حكمه أحد بنقص ولا تغير. « وهو سريع الحساب » أي الانتقام من الكافرين، سريع الثواب للمؤمن. وقيل: لا يحتاج. في حسابه إلى روية قلب، ولا عقد بنان؛ حسب ما تقدم في « البقرة » بيانه.

 

الآية: 42 ( وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار )

 

قوله تعالى: « وقد مكر الذين من قبلهم » أي من قبل مشركي مكة، مكروا بالرسل وكادوا لهم وكفروا بهم. « فلله المكر جميعا » أي هو مخلوق له مكر الماكرين، فلا يضر إلا بإذنه. وقيل: فلله خير المكر؛ أي يجازيهم به. « يعلم ما تكسب كل نفس » من خير وشر، فيجازي عليه. « وسيعلم الكفار » كذا قراءه نافع وابن كثير وأبي عمرو. الباقون: « الكفار » على الجمع. وقيل: عني به أبو جهل. « لمن عقبى الدار » أي عاقبة دار الدنيا ثوابا وعقابا، أو لمن الثواب والعقاب في الدار الآخرة؛ وهذا تهديد ووعيد.

 

الآية: 43 ( ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب )

 

قوله تعالى: « ويقول الذين كفروا لست مرسلا » قال قتادة: هم مشركو العرب؛ أي لست بنبي ولا رسول، وإنما أنت متقول؛ أي لما لم يأتهم بما اقترحوا قالوا ذلك. « قل كفى بالله » أي قل لهم يا محمد: « كفى بالله شهيدا بيني وبينكم » بصدقي وكذبكم. « ومن عنده علم الكتاب » وهذا إحجاج على مشركي العرب لأنهم كانوا يرجعون إلى أهل الكتاب - من آمن منهم - في التفاسير. وقيل: كانت شهادتهم قاطعة لقول الخصوم؛ وهم مؤمنو أهل الكتاب كعبدالله بن سلام وسلمان الفارسي وتميم الداري والنجاشي وأصحابه، قاله قتادة وسعيد بن جبير. وروى الترمذي عن ابن أخي عبدالله بن سلام قال: لما أريد قتل عثمان جاء عبدالله بن سلام فقال له عثمان: ما جاء بك؟ قال: جئت في نصرتك؛ قال: أخرج إلى الناس فاطردهم عني، فإنك خارج خير لي من داخل؛ قال فخرج عبدالله بن سلام إلى الناس فقال: أيها الناس! إنه كان اسمي في الجاهلية فلان، فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله، ونزلت في آيات من كتاب الله؛ فنزلت في. « وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين » [ الأحقاف: 10 ] ونزلت في. « قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب » الحديث. وقد كتبناه بكماله في كتاب « التذكرة » . وقال فيه أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. وكان اسمه الجاهلية حصين فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبدالله. وقال أبو بشر: قلت لسعيد بن جبير « ومن عنده علم الكتاب » ؟ قال: هو عبدالله بن سلام.

قلت: وكيف يكون عبدالله بن سلام وهذه السورة مكية وابن سلام ما أسلم إلا بالمدينة؟! ذكره الثعلبي. وقال القشيري: وقال ابن جبير السورة مكية وابن سلام أسلم بالمدينة بعد هذه السورة؛ فلا يجوز أن تحمل هذه الآية على ابن سلام؛ فمن عنده علم الكتاب جبريل؛ وهو قول ابن عباس. وقال الحسن ومجاهد والضحاك: هو الله تعالى؛ وكانوا يقرؤون « ومن عنده علم الكتاب » وينكرون على من يقول: هو عبدالله بن سلام وسلمان؛ لأنهم يرون أن السورة مكية، وهؤلاء أسلموا بالمدينة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ « ومن عنده علم الكتاب » وإن كان في الرواية ضعف، وروى ذلك سليمان بن أرقم عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وروى محبوب عن إسماعيل بن محمد اليماني أنه قرأ كذلك - « ومِن عنده » بكسر الميم والعين والدال « علم الكتاب » بضم العين ورفع الكتاب. وقال عبدالله بن عطاء: قلت، لأبي جعفر بن على بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم زعموا أن الذي عنده علم الكتاب عبدالله بن سلام فقال: إنما ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ وكذلك قال محمد ابن الحنفية. وقيل: جميع المؤمنين، والله أعلم. قال القاضي أبو بكر بن العربي: أما من قال إنه علي فعول على أحد وجهين: إما لأنه عنده أعلم المؤمنين وليس كذلك؛ بل أبو بكر وعمر وعثمان أعلم منه. ولقول النبي صلى الله عليه وسلم. ( أنا مدينة العلم وعلي بابها ) وهو حديث باطل؛ النبي صلى الله عليه وسلم علم وأصحابه أبوابها؛ فمنهم الباب المنفسح، ومنهم المتوسط، على قدر منازلهم في العلوم. وأما من قال إنهم جميع المؤمنين فصدق؛ لأن كل مؤمن يعلم الكتاب، ويدرك وجه إعجازه، ويشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بصدقه.

قلت: فالكتاب على هذا هو القرآن. وأما من قال هو عبدالله بن سلام فعوَّل، على حديث الترمذي؛ وليس يمتنع أن ينزل في عبدالله بن سلام شيئا ويتناول جميع المؤمنين لفظا؛ ويعضده من النظام أن قوله تعالى: « ويقول الذين كفروا » يعني قريشا؛ فالذين عندهم علم الكتاب هم المؤمنون من اليهود والنصارى، الذين هم إلى معرفة النبوة والكتاب أقرب من عبدة الأوثان. قال النحاس: وقول من قال هو عبدالله بن سلام وغيره يحتمل أيضا؛ لأن البراهين إذا صحت وعرفها من قرأ الكتب التي أنزلت قبل القرآن كان أمرا مؤكدا؛ والله أعلم بحقيقة ذلك.

 

سورة إبراهيم

 

سورة إبراهيم مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وجابر. وقال ابن عباس وقتادة: إلا آيتين منها مدنيتين وقيل: ثلاث، نزلت في الذين حاربوا الله ورسوله وهي قوله تعالى: « ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا » [ إبراهيم: 28 ] إلى قوله: « فإن مصيركم إلى النار » [ إبراهيم: 30 ] .

 

الآية: 1 ( الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد )

 

قوله تعالى: « الر كتاب أنزلناه إليك » تقدم معناه. « لتخرج الناس » أي بالكتاب، وهو القرآن، أي بدعائك إليه. « من الظلمات إلى النور » أي من ظلمات الكفر الضلالة والجهل إلى نور الإيمان والعلم؛ وهذا على التمثيل؛ لأن الكفر بمنزلة الظلمة؛ والإسلام بمنزلة النور. وقيل: من البدعة إلى السنة، ومن الشك إلى اليقين، والمعنى. متقارب. « بإذن ربهم » أي بتوفيقه إياهم ولطفه بهم، والباء في « بإذن ربهم » متعلقة بـ « تخرج » وأضيف الفعل إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه الداعي والمنذر الهادي. « إلى صراط العزيز الحميد » هو كقولك: خرجت إلى زيد العاقل الفاضل من غير واو، لأنهما شيء واحد؛ والله هو العزيز الذي لا مثل له ولا شبيه. وقيل: « العزيز » الذي لا يغلبه غالب. وقيل: « العزيز » المنيع في ملكه وسلطانه. « الحميد » أي المحمود بكل لسان، والممجد في كل مكان على كل حال. وروى مقسم عن ابن عباس قال: كان قوم آمنوا بعيسى ابن مريم، وقوم كفروا به، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم آمن به الذين كفروا بعيسى، وكفر الذين آمنوا بعيسى؛ فنزلت هذه الآية، ذكره الماوردي.

 

الآية: 2 ( الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد )

 

قوله تعالى: « الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض » أي ملكا وعبيدا واختراعا وخلقا. وقرأ نافع وابن عامر وغيرهما: « الله » بالرفع على الابتداء « الذي » خبره. وقيل: « الذي » صفة، والخبر مضمر؛ أي الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض قادر على كل شيء. الباقون بالخفض نعتا للعزيز الحميد فقدم النعت على المنعوت؛ كقولك: مررت بالظريف زيد. وقيل: على البدل من « الحميد » وليس صفة؛ لأن اسم الله صار كالعلم فلا يوصف؛ كما لا يوصف بزيد وعمرو، بل يجوز أن يوصف به من حيث المعنى؛ لأن معناه أنه المنفرد بقدرة الإيجاد. وقال أبو عمرو: والخفض على التقديم والتأخير، مجازه: إلى صراط الله العزيز الحميد الذي له ما في السماوات وما في الأرض. وكان يعقوب إذا وقف على « الحميد » رفع، وإذا وصل خفض على النعت. قال ابن الأنباري: من خفض وقف على « وما في الأرض » . « وويل للكافرين من عذاب شديد » قد تقدم معنى الويل في « البقرة » وقال الزجاج: هي كلمة تقال للعذاب والهلكة. « من عذاب شديد » أي من جهنم.

 

الآية: 3 ( الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلال بعيد )

 

قوله تعالى: « الذين يستحبون الحياة الدنيا » أي يختارونها على الآخرة، والكافرون يفعلون ذلك. فـ « الذين » في موضع خفض صفة لهم. وقيل: في موضع رفع خبر ابتداء مضمر، أي هم الذين وقيل: « الذين يستحبون » مبتدأ وخبره. « أولئك » . وكل من آثر الدنيا وزهرتها، واستحب البقاء في نعيمها على النعيم في الآخرة، وصد عن سبيل الله - أي صرف الناس عنه وهو دين الله، الذي جاءت به الرسل، في قول ابن عباس وغيره - فهو داخل في هذه الآية؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون ) وهو حديث صحيح. وما أكثر ما هم في هذه الأزمان، والله المستعان. وقيل: « يستحبون » أي يلتمسون الدنيا من غير وجهها، لأن نعمة الله لا تلتمس إلا بطاعته دون معصيته. « ويبغونها عوجا » أي يطلبون لها زيغا وميلا لموافقة أهوائهم، وقضاء حاجاتهم وأغراضهم. والسبيل تذكر وتؤنث. والموج بكسر العين في الدين والأمر والأرضي، وفي كل ما لم يكن قائما؛ وبفتح العين في كل ما كان قائما، كالحائط والرمح ونحوه؛ وقد تقدم في « آل عمران » وغيرها. « أولئك في ضلال بعيد » أي ذهاب عن الحق بعيد عنه.

 

الآية: 4 ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم )

 

قوله تعالى: « وما أرسلنا من رسول » أي قبلك يا محمد « إلا بلسان قومه » أي بلغتهم، ليبينوا لهم أمر دينهم؛ ووحد اللسان وإن أضافه إلى القوم لأن المراد اللغة؛ فهي اسم جنس يقع على القليل والكثير؛ ولا حجة للعجم وغيرهم في هذه الآية؛ لأن كل من ترجم له ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ترجمة يفهمها لزمته الحجة، وقد قال الله تعالى: « وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا » [ سبأ: 28 ] . وقال صلى الله عليه وسلم: ( أرسل كل نبي إلى أمته بلسانها وأرسلني الله إلى كل أحمر وأسود من خلقه ) . وقال صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار ) . خرجه مسلم، وقد تقدم. « فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء » رد على القدرية في نفوذ المشيئة، وهو مستأنف، وليس بمعطوف على « ليبين » لأن الإرسال إنما وقع للتبيين لا للإضلال. ويجوز النصب في « يضل » لأن الإرسال صار سببا للإضلال؛ فيكون كقوله: « ليكون لهم عدوا وحزنا » [ القصص: 8 ] وإنما صار الإرسال سببا للإضلال لأنهم كفروا به لما جاءهم؛ فصار كأنه سبب لكفرهم « وهو العزيز الحكيم » تقدم معناه.

 

الآية: 5 ( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور )

 

قوله تعالى: « ولقد أرسلنا موسى بآياتنا » أي بحجتنا وبراهيننا؛ أي بالمعجزات الدالة على صدقه. قال مجاهد: هي التسع الآيات. « أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور » نظيره قوله تعالى: لنبينا عليه السلام أول السورة: « لتخرج الناس من الظلمات إلى النور » : « أن » هنا بمعنى أي، كقوله تعالى: « وانطلق الملأ منهم أن امشوا » [ ص: 6 ] أي امشوا.

 

قوله تعالى: « وذكرهم بأيام الله » أي قل لهم قولا يتذكرون به أيام الله تعالى. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: بنعم الله عليهم؛ وقاله أبي بن كعب ورواه مرفوعا؛ أي بما أنعم الله عليهم من النجاة من فرعون ومن التيه إلى سائر النعم، وقد تسمى النعم الأيام؛ ومنه قول عمرو بن كلثوم:

وأيام لنا غر طوال

وعن ابن عباس أيضا ومقاتل: بوقائع الله في الأمم السالفة؛ يقال: فلان عالم بأيام العرب، أي بوقائعها. قال ابن زيد: يعني الأيام التي انتقم فيها من الأمم الخالية؛ وكذلك روى ابن وهب عن مالك قال: بلاؤه. وقال الطبري: وعظهم بما سلف في الأيام الماضية لهم، أي بما كان في أيام الله من النعمة والمحنة؛ وقد كانوا عبيدا مستذلين؛ واكتفى بذكر الأيام عنه لأنها كانت معلومة عندهم. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( بينا موسى عليه السلام في قومه يذكرهم بأيام الله وأيام الله بلاؤه ونعماؤه ) وذكر حديث الخضر؛ ودل هذا على جواز الوعظ المرفق للقلوب، المقوي لليقين. الخالي من كل بدعة، والمنزه عن كل ضلالة وشبهة. « إن في ذلك » أي في التذكير بأيام الله « لآيات » أي دلالات. « لكل صبار » أي كثير الصبر على طاعة الله، وعن معاصيه. « شكور » لنعم الله. وقال قتادة: هو العبد؛ إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر. وروى عن النبي أنه قال: ( الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر - ثم تلا هذه الآية - « إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور » . ) ونحوه عن الشعبي موقوفا. وتواري الحسن البصري عن الحجاج سبع سنين، فلما بلغه موته قال: اللهم قد أمته فأمت سنته، وسجد شكرا، وقرأ: « إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور » . وإنما خص بالآيات كل صبار شكور؛ لأنه يعتبر بها ولا يغفل عنها؛ كما قال: « إنما أنت منذر من يخشاها » [ النازعات: 45 ] وإن كان منذرا للجميع.

 

الآية: 6 ( وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم )

 

تقدم معناه في « البقرة » مستوفى والحمد لله.

 

الآية: 7 ( وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد )

 

قوله تعالى: « وإذ تأذن ربكم » قيل: هو من قول موسى لقومه. وقيل: هو من قول الله؛ أي واذكر يا محمد إذ قال ربك كذا. و « تأذن » وأذن بمعنى أعلم؛ مثل أوعد وتوعد؛ روي معنى ذلك عن الحسن وغيره. ومنه الأذان، لأنه إعلام؛ قال الشاعر:

فلم نشعر بضوء الصبح حتى سمعنا في مجالسنا الأذينا

وكان ابن مسعود يقرأ: « وإذ قال ربكم » والمعنى واحد. « لئن شكرتم لأزيدنكم » أي لئن شكرتم إنعامي لأزيدنكم من فضلي. الحسن: لئن شكرتم نعمتي لأزيدنكم من طاعتي. ابن عباس: لئن وحدتم وأطعتم لأزيدنكم من الثواب، والمعنى متقارب في هذه الأقوال؛ والآية نص في أن الشكر سبب المزيد؛ وقد تقدم في « البقرة » ما للعلماء في معنى الشكر. وسئل بعض الصلحاء عن الشكر لله فقال: ألا تتقوى بنعمه على معاصيه. وحكي عن داود عليه السلام أنه قال: أي رب كيف أشكرك، وشكري لك نعمة مجددة منك علي. قال: يا داود الآن شكرتني. قلت: فحقيقة الشكر على هذا الاعتراف بالنعمة للمنعم. وألا يصرفها في غير طاعته؛ وأنشد الهادي وهو يأكل:

أنالك رزقه لتقوم فيه بطاعته وتشكر بعض حقه

فلم تشكر لنعمته ولكن قويت على معاصيه برزقه

فغص باللقمة، وخنقته العبرة. وقال جعفر الصادق: إذا سمعت النعمة الشكر فتأهب للمزيد. « ولئن كفرتم إن عذابي لشديد » أي جحدتم حقي. وقيل: نعمي؛ وعد بالعذاب على الكفر، كما وعد بالزيادة على الشكر، وحذفت الفاء التي في جواب الشرط من « إن » للشهرة.

 

الآية: 8 ( وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد )

 

قوله تعالى: « وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد » أي لا يلحقه بذلك نقص، بل هو الغني. ( الحميد ) أي المحمود.

 

الآية: 9 ( ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب )

 

قوله تعالى: « ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود » النبأ الخبر، والجمع الأنباء؛ قال:

ألم يأتيك والأنباء تنمي

ثم قيل: هو من قول موسى. وقيل: من قول الله؛ أي واذكر يا محمد إذ قال ربك كذا. وقيل: هو ابتداء خطاب من الله تعالى. وخبر قوم نوح وعاد وثمود مشهور قصه الله في كتابه. وقوله: « والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله » أي لا يحصي عددهم إلا الله، ولا يعرف نسبهم إلا الله، والنسابون وإن نسبوا إلى آدم فلا يدعون إحصاء جميع الأمم، وإنما ينسبون البعض؛ ويمسكون عن نسب البعض؛ وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع النسابين ينسبون إلى معد بن عدنان ثم زادوا فقال: ( كذب النسابون إن الله يقول: « لا يعلمهم إلا الله » ) . وقد روي عن عروة بن الزبير أنه قال: ما وجدنا أحدا يعرف ما بين عدنان وإسماعيل. وقال بن عباس: بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون. وكان ابن مسعود يقول حين يقرأ: « لا يعلمهم إلا الله » . كذب النسابون. « جاءتهم رسلهم بالبينات » أي بالحجج والدلالات. « فردوا أيديهم في أفواههم » أي جعل أولئك القوم أيدي أنفسهم في أفواههم ليعضوها غيظا مما جاء به الرسل؛ إذ كان فيه تسفيه أحلامهم، وشتم أصنامهم؛ قاله بن مسعود، ومثله قاله عبدالرحمن بن زيد؛ وقرأ: « عضوا عليكم الأنامل من » الغيظ « [ آل عمران: 119 ] . وقال ابن عباس: لما سمعوا كتاب الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم. وقال أبو صالح: كانوا إذا قال لهم نبيهم أنا رسول الله إليكم أشاروا بأصابعهم إلى أفواههم: أن اسكت، تكذيبا له، وردا لقوله؛ وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة المعنى. والضميران للكفار؛ والقول الأول أصحها إسنادا؛ قال أبو عبيد: حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبدالله في قوله تعالى: « فردوا أيديهم في أفواههم » قال: عضوا عليها غيظا؛ وقال الشاعر: »

لو أن سلمى أبصرت تخددي ودقة في عظم ساقي ويدي

وبعد أهلي وجفاء عودي عضت من الوجد بأطراف اليد

وقد مضى هذا المعنى في « آل عمران » مجودا، والحمد لله. وقال مجاهد وقتادة: ردوا على الرسل قولهم وكذبوهم بأفواههم؛ فالضمير الأول للرسل، والثاني للكفار. وقال الحسن وغيره: جعلوا أيديهم في أفواه الرسل ردا لقولهم؛ فالضمير الأول على هذا للكفار، والثاني للرسل. وقيل معناه: أومأوا للرسل أن يسكتوا. وقال مقاتل: أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواه الرسل ليسكتوهم ويقطعوا كلامهم. وقيل: رد الرسل أيدي القوم في أفواههم. وقيل: إن الأيدي هنا النعم؛ أي ردوا نعم الرسل بأفواههم، أي بالنطق والتكذيب، ومجيء الرسل بالشرائع نعم؛ والمعنى: كذبوا بأفواههم ما جاءت به الرسل. و « في » بمعنى الباء؛ يقال: جلست في البيت وبالبيت؛ وحروف الصفات يقام بعضها مقام بعض. وقال أبو عبيدة: هو ضرب مثل؛ أي لم يؤمنوا ولم يجيبوا؛ والعرب تقول للرجل إذا أمسك عن الجواب وسكت: قد رد يده في فيه. وقاله الأخفش أيضا. وقال القتبي: لم نسمع أحدا من العرب يقول: رد يده في فيه إذا ترك ما أمر به؛ وقاله المغني: عضوا على الأيدي حنقا وغيظا؛ لقول الشاعر:

تردون في فيه غش الحسو د حتى يعض علي الأكفا

يعني أنهم يغيظون الحسود حتى يعض على أصابعه وكفيه. وقال آخر:

قد أفني أنامل أزمة فأضحى يعض علي الوظيفا

وقالوا: - يعني الأمم للرسل: « وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به » أي بالإرسال على زعمكم، لا أنهم أقروا أنهم أرسلوا. « وإنا لفي شك » أي في ريب ومرية. « مما تدعوننا إليه » من التوحيد.

 

قوله تعالى: « مريب » أي موجب للريبة؛ يقال: أربته إذ فعلت أمرا من أوجب ريبة وشكا؛ أي نظن أنكم تطلبون الملك والدنيا.

 

الآية: 10 ( قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين )

 

قوله تعالى: « قالت رسلهم أفي الله شك » استفهام معناه الإنكار؛ أي لا شك في الله؛ أي في توحيده؛ قال قتادة. وقيل: في طاعته. ويحتمل وجها ثالثا: أفي قدرة الله شك؟ ! لأنهم متفقون عليها ومختلفون فيما عداها؛ يدل عليه قوله: « فاطر السماوات والأرض » خالقها ومخترعها ومنشئها وموجدها بعد العدم؛ لينبه على قدرته فلا تجوز العبادة إلا له. « يدعوكم » أي إلى طاعته بالرسل والكتب. « ليغفر لكم من ذنوبكم » قال أبو عبيد: « من » زائدة. وقال سيبويه: هي للتبعيض؛ ويجوز أن يذكر البعض والمراد منه الجميع. وقيل: « من » للبدل وليست بزائدة ولا مبعضة؛ أي لتكون المغفرة بدلا من الذنوب. « ويؤخركم إلى أجل مسمى » يعني الموت، فلا يعذبكم في لدنيا. « قالوا إن أنتم » أي ما أنتم. « إلا بشر مثلنا » في الهيئة والصورة؛ تأكلون مما نأكل، وتشربون مما نشرب، ولستم ملائكة. « تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا » من الأصنام والأوثان « فأتونا بسلطان مبين » أي بحجة ظاهرة؛ وكان محالا منهم؛ فإن الرسل ما دعوا إلا ومعهم المعجزات.

 

الآية: 11 ( قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون )

 

قوله تعالى: « قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم » أي في الصورة والهيئة كما قلتم. « ولكن الله يمن على من يشاء من عباده » أي يتفضل عليه بالنبوة. وقيل؛ بالتوفيق، والحكمة والمعرفة والهداية. وقال سهل بن عبدالله: بتلاوة القرآن وفهم ما فيه.

قلت: وهذا قول حسن، وقد خرج الطبري من حديث ابن عمر قال قلت لأبي ذر: يا عم أوصني؛ قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال: ( ما من يوم ولا ليلة ولا ساعة إلا ولله فيه صدقة يمن بها على من يشاء من عباده وما من الله تعالى على عباده بمثل أن يلهمهم ذكره ) . « وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان » أي بحجة وآية. « إلا بإذن الله » أي بمشيئته، وليس ذلك في قدرتنا؛ أي لا نستطيع أن نأتي بحجة كما تطلبون إلا بأمره وقدرته؛ فلفظه؛ لفظ الخبر، ومعناه النفي، لأنه لا يحظر على أحد ما لا يقدر عليه. « وعلى الله فليتوكل المؤمنون » تقدم معناه.

 

الآية: 12 ( وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون )

 

قوله تعالى: « وما لنا ألا نتوكل على الله » « ما » استفهام في موضع رفع بالابتداء، و « لنا » الخبر؛ وما بعدها في موضع الحال؛ التقدير: أي شيء لنا في ترك التوكل على الله. « وقد هدانا سبلنا » أي الطريق الذي يوصل إلى رحمته، وينجي من سخطه ونقمته. « ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون » « ولنصبرنَّ » لام قسم؛ مجازه: والله لنصبرن « على ما آذيتمونا » به، أي من الإهانة والضرب، والتكذيب والقتل، ثقة بالله أنه يكفينا ويثيبنا. « وعلى الله فليتوكل المتوكلون » .

 

الآيتان: 13 - 14 ( وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين، ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد )

 

قوله تعالى: « وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا » اللام لام قسم؛ أي والله لنخرجنكم. « أو لتعودن » أي حتى تعودوا أو إلا أن تعودوا؛ قاله الطبري وغيره. قال ابن العربي: وهو غير مفتقر إلى هذا التقدير؛ فإن « أو » على بابها من التخيير؛ خير الكفار الرسل بين أن يعودوا في ملتهم أو يخرجوهم من أرضهم؛ وهذه سيرة الله تعالى في رسله وعباده؛ ألا ترى إلى قوله: « وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا. سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا » [ الإسراء: 76 - 77 ] وقد تقدم هذا المعنى في « الأعراف » وغيرها. « في ملتنا » أي إلى ديننا، « فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين، ولنسكننكم الأرض من بعدهم »

 

قوله تعالى: « ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد » أي مقامه بين يدي يوم القيامة؛ فأضيف المصدر إلى الفاعل. والمقام مصدر كالقيام؛ يقال: قام قياما ومقاما؛ وأضاف ذلك إليه لاختصاصه به. والمقام بفتح الميم مكان الإمامة، وبالضم فعل الإقامة؛ و « ذلك لمن خاف مقامي » أي قيامي عليه، ومراقبتي له؛ قال الله تعالى: « أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت » . [ الرعد 33 ] وقال الأخفش: « ذلك لمن خاف مقامي » أي عذابي، « وخاف وعيد » أي القرآن وزواجره. وقيل: إنه العذاب. والوعيد الاسم من الوعد.

 

الآية: 15 ( واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد )

 

قوله تعالى: « واستفتحوا » أي واستنصروا؛ أي أذن للرسل في الاستفتاح على قومهم، والدعاء بهلاكهم؛ قاله ابن عباس وغيره، وقد مضى في « البقرة » . ومنه الحديث: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتح بصعاليك المهاجرين، أي يستنصر. وقال ابن زيد: استفتحت الأمم بالدعاء كما قالت قريش: « اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك » [ الأنفال: 32 ] الآية. وروي عن ابن عباس. وقيل قال الرسول: ( إنهم كذبوني فافتح بيني وبينهم فتحا ) وقالت الأمم: إن كان هؤلاء صادقين فعذبنا، عن ابن عباس أيضا؛ نظيره « ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين » [ العنكبوت: 29 ] « ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين » [ الأعراف: 77 ] . « وخاب كل جبار عنيد » الجبار المتكبر الذي لا يري لأحد عليه حقا؛ هكذا هو عند أهل اللغة؛ ذكره النحاس. والعنيد المعاند للحق والمجانب له، عن ابن عباس وغيره؛ يقال: عند عن قومه أي تباعد عنهم. وقيل: هو من العند، وهو الناحية وعاند فلان أي أخذ في ناحية معرضا؛ قال الشاعر:

إذا نزلت فاجعلوني وسطا إني كبير لا أطيق العندا

وقال الهروي: قوله تعالى: « جبار عنيد » أي جائر عن القصد؛ وهو العنود والعنيد والعاند؛ وفي حديث ابن عباس وسئل عن المستحاضة فقال: إنه عرق عاند. قال أبو عبيد: هو الذي عند وبغى كالإنسان يعاند؛ فهذا العرق في كثرة ما يخرج منه بمنزلته. وقال شمر: العاند الذي لا يرقأ. وقال عمر يذكر سيرته: أضم العنود؛ قال الليث: العنود من الإبل الذي لا يخالطها إنما هو في ناحية أبدا؛ أراد من هم بالخلاف أو بمفارقة الجماعة عطفت به إليها. وقال مقاتل: العنيد المتكبر. وقال ابن كيسان: هو الشامخ بأنفه. وقيل: العنود والعنيد الذي يتكبر على الرسل وبذهب عن طريق الحق فلا يسلكها؛ تقول العرب: شر الإبل العنود الذي يخرج عن الطريق. وقيل: العنيد العاصي. وقال قتادة: العنيد الذي أبي أن يقول لا إله إلا الله.

قلت: والجبار والعنيد في الآية بمعنى واحد، وإن كان اللفظ مختلفا، وكل متباعد عن الحق جبار وعنيد أي متكبر. وقيل: إن المراد به في الآية أبو جهل؛ ذكره المهدوي. وحكى الماوردي في كتاب « أدب الدنيا والدين » أن الوليد بن يزيد بن عبدالملك تفاءل يوما في المصحف فخرج له قوله عز وجل: « واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد » فمزق المصحف وأنشأ يقول:

أتوعد كل جبار عنيد فها أنا ذاك جبار عنيد

إذا ما جئت ربك يوم حشر فقل يا رب مزقني الوليد

فلم يلبث إلا أياما حتى قتل شر قتلة، وصلب رأسه على قصره، ثم على سور بلده.

 

الآية: 16 ( من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد )

 

قوله تعالى: « من ورائه جهنم » أي من وراء ذلك الكافر جهنم، أي من بعد هلاكه. ووراء بمعنى بعد؛ قال النابغة:

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب

أي بعد الله جل جلاله؛ وكذلك قوله تعالى: « ومن ورائه عذاب غليظ » أي من بعده؛ وقوله تعالى: « ويكفرون بما وراءه » [ البقرة: 91 ] أي بما سواه؛ قاله الفراء. وقال أبو عبيد: بما بعده: وقيل: « من ورائه » أي من أمامه، ومنه قول الشاعر:

ومن ورائك يوم أنت بالغه لا حاضر معجز عنه ولا بادي

وقال آخر:

أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي وقومي تميم والفلاة ورائيا

وقال لبيد:

ليس ورائي إن تراخت منيتي لزوم العصا تحني عليها الأصابع

يريد أمامي. وفي التنزيل: « كان وراءهم ملك » [ الكهف: 79 ] أي أمامهم، وإلى هذا ذهب أبو عبيدة وأبو علي قطرب وغيرهما. وقال الأخفش: هو كما يقال هذا الأمر من ورائك، أي سوف يأتيك، وأنا من وراء فإن أي في طلبه وسأصل إليه. وقال النحاس في قول « من ورائه جهنم » أي من أمامه، وليس من الأضداد ولكنه من تواري؛ أي استتر. وقال الأزهري: إن وراء تكون بمعنى خلف وأمام فهو من الأضداد، وقاله أبو عبيدة أيضا، واشتقاقهما مما توارى واستتر، فجهنم توارى ولا تظهر، فصارت من وراء لأنها لا ترى، حكاه ابن الأنباري وهو حسن.

 

قوله تعالى: « ويسقى من ماء صديد » أي من ماء مثل الصديد، كما يقال للرجل الشجاع أسد، أي مثل الأسد، وهو تمثيل وتشبيه. وقيل: هو ما يسيل من أجسام أهل النار من القيح والدم. وقال محمد بن كعب القرظي والربيع بن أنس: هو غسالة أهل النار، وذلك ماء يسيل من فروج الزناة والزواني. وقيل: هو من ماء كرهته تصد عنه، فيكون الصديد مأخوذا من الصد. وذكر ابن المبارك، أخبرنا صفوان بن عمرو عن عبيدالله بن بسر عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: « ويسقي من ماء صديد يتجرعه » قال: ( يقرب إلى فيه فيكرهه فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره يقول الله: « وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم » [ محمد: 15 ] ويقول الله: « وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب » ) [ الكهف: 29 ] ) خرجه الترمذي، وقال: حديث غريب، وعبيدالله بن بسر الذي روى عنه صفوان بن عمرو حديث أبي أمامة لعله أن يكون أخا عبدالله بن بسر.

 

الآية: 17 ( يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ )

 

قوله تعالى: « يتجرعه » أي يتحساه جرعا لا مرة واحدة لمرارته وحرارته. « ولا يكاد يسيغه » أي يبتلعه؛ يقال: جرع الماء واجترعه وتجرعه بمعنى. وساغ الشراب في الحلق يسوغ سوغا إذا كان سلسا سهلا، وأساغه الله إساغة. و « يكاد » صلة؛ أي يسيغه بعد إبطاء، قال الله تعالى: « وما كادوا يفعلون » [ البقرة: 71 ] أي فعلوا بعد إبطاء، ولهذا قال: « يصهر به ما في بطونهم والجلود » [ الحج: 20 ] فهذا يدل على الإساغة. وقال ابن عباس: يجيزه ولا يمر به. « ويأتيه الموت من كل مكان » قال ابن عباس: أي يأتيه أسباب الموت من كل جهة عن يمينه وشماله، ومن فوقه وتحته ومن قدامه وخلفه، كقول: « لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل » [ الزمر: 16 ] . وقال إبراهيم التيمي: يأتيه من كل مكان من جسده حتى من أطراف شعره؛ للآلام التي في كل مكان من جسد. وقال الضحاك: إنه ليأتيه الموت من كل ناحية ومكان حتى من إبهام رجليه. وقال الأخفش: يعني البلايا التي تصيب الكافر في النار سماها موتا، وهي من أعظم الموت. وقيل: إنه لا يبقى عضو من أعضائه إلا وكل به نوع من العذاب؛ لو مات سبعين مرة لكان أهون عليه من نوع منها في فرد لحظة؛ إما حية تنهشه؛ أو عقرب تلسعه، أو نار تسفعه، أو قيد برجليه، أو غل في عنقه، أو سلسلة يقرن بها، أو تابوت يكون فيه، أو زقوم أو حميم، أو غير ذلك من العذاب، وقال محمد بن كعب: إذا دعا الكافر في جهنم بالشراب فرآه مات موتات، فإذا دنا منه مات موتات، فإذا شرب منه مات موتات؛ فذلك قوله: « ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت » . قال الضحاك: لا يموت فيستريح. وقال ابن جريج: تعلق روحه في حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فتنفعه الحياة؛ ونظيره قوله: « لا يموت فيها ولا يحيا » [ طه: 74 ] . وقيل: يخلق الله في جسده آلا ما كل واحد منها كألم الموت. وقيل:

 

قوله تعالى: « وما هو بميت » لتطاول شدائد الموت به، وامتداد سكراته عليه؛ ليكون ذلك زيادة في عذابه.

قلت: ويظهر من هذا أنه يموت، وليس كذلك؛ لقوله تعالى: « لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها » [ فاطر: 36 ] وبذلك وردت السنة؛ فأحوال الكفار أحوال من استولى عليه سكرات الموت دائما، والله أعلم. « ومن ورائه » أي من أمامه. « عذاب غليظ » أي شديد متواصل الآلام غير فتور؛ ومنه قوله: « وليجدوا فيكم غلظة » [ التوبة: 123 ] أي شدة وقوة. وقال فضيل بن عياض في قول الله تعالى: « ومن ورائه عذاب غليظ » قال: حبس الأنفاس.

 

الآية: 18 ( مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد )

 

قوله تعالى: « مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد » اختلف النحويون في رفع « مثل » فقال سيبويه: ارتفع بالابتداء والخبر مضمر؛ التقدير: وفيما يتلى عليكم أو يقص « مثل الذين كفروا بربهم » ثم ابتدأ فقال: « أعمالهم كرماد » أي كمثل رماد « اشتدت به الريح » . وقال الزجاج: أي مثل الذين كفروا فيما يتلى عليكم أعمالهم كرماد، وهو عند الفراء على إلغاء المثل، التقدير: والذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد. وعنه أيضا أنه على حذف مضاف؛ التقدير: مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرماد؛ وذكر الأول عنه المهدوي، والثاني القشيري والثعلبي ويجوز أن يكون مبتدأ كما يقال: صفة فلان أسمر؛ فـ « مثل » بمعنى صفة. ويجوز في الكلام جر « أعمالهم » على بدل الاشتمال من « الذين » واتصل هذا بقوله: « وخاب جبار عنيد » والمعنى: أعمالهم محبطة غير مقبولة. والرماد ما بقي بعد احتراق الشيء؛ فضرب الله هذه الآية مثلا لأعمال الكفار في أنه يمحقها كما تمحق الريح الشديدة الرماد في يوم عاصف. والعصف شدة الريح؛ وإنما كان ذلك لأنهم أشركوا فيها غير الله تعالى. وفي وصف اليوم بالعصوف ثلاثة أقاويل: أحدها: أن العصوف وإن كان للريح فإن اليوم قد يوصف به؛ لأن الريح تكون فيه، فجاز أن يقال: يوم عاصف، كما يقال: يوم حار ويوم بارد، والبرد والحر فيهما. والثاني: أن يريد « في يوم عاصف » الريح؛ لأنها ذكرت في أول الكلمة، كما قال الشاعر:

إذا جاء يوم مظلم الشمس كاسف

يريد كاسف الشمس فحذف؛ لأنه قد مر ذكره؛ ذكرهما الهروي. والثالث: أنه من نعت الريح؛ غير أنه لما جاء بعد اليوم أتبع إعرابه كما قيل: جحر ضب خرب؛ ذكره الثعلبي والماوردي. وقرأ ابن أبي إسحاق وإبراهيم بن أبي بكر « في يوم عاصف » . « لا يقدرون » يعني الكفار. « مما كسبوا على شيء » يريد في الآخرة؛ أي من ثواب ما عملوا من البر في الدنيا، لإحباطه بالكفر. « ذلك هو الضلال البعيد » أي الخسران الكبير؛ وإنما جعله كبيرا بعيدا لفوات استدراكه بالموت.

 

الآية: 19 ( ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد )

 

قوله تعالى: « ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق » الرؤية هنا رؤية القلب؛ لأن المعنى: ألم ينته علمك إليه؛. وقرأ حمزة والكسائي - « خالق السماوات والأرض » . ومعنى « بالحق » ليستدل بها على قدرته. « إن يشأ يذهبكم » أيها الناس؛ أي هو قادر على الإفناء كما قدر على إيجاد الأشياء؛ فلا تعصوه فإنكم إن عصيتموه « يذهبكم ويأت بخلق جديد » أفضل وأطوع منكم؛ إذ لو كانوا مثل الأولين فلا فائدة في الإبدال.

 

الآية: 20 ( وما ذلك على الله بعزيز )

 

أي منيع متعذر.

 

الآية: 21 ( وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص )

 

قوله تعالى: « وبرزوا لله جميعا » أي برزوا من قبورهم، يعني يوم القيامة. والبروز الظهور. والبراز المكان الواسع لظهوره؛ ومنه امرأة برزة أي تظهر للناس؛ فمعنى، « برزوا » ظهروا من قبورهم. وجاء بلفظ؛ الماضي ومعناه الاستقبال، وأتصل هذا بقوله: « وخاب كل جبار عنيد » أي وقاربوا لما استفتحوا فأهلكوا، ثم بعثوا للحساب فبرزوا لله جميعا لا يسترهم عنه ساتر. « لله » لأجل أمر الله إياهم بالبروز. « فقال الضعفاء » يعني الأتباع « للذين استكبروا » وهم القادة. « إنا كنا لكم تبعا » يجوز أن يكون تبع مصدرا؛ التقدير: ذوي تبع. ويجوز أن يكون تابع؛ مثل حارس وحرس، وخادم وخدم، وراصد ورصد، وباقر وبقر. « فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء » أي دافعون « عنا من عذاب الله من شيء » أي شيئا، و « من » صلة؛ يقال: أغنى عنه إذا دفع عنه الأذى، وأغناه إذا أوصل إليه النفع. « قالوا لو هدانا الله لهديناكم » أي لو هدانا الله إلى الإيمان لهديناكم إليه. وقيل: لو هدانا الله إلى طريق الجنة لهديناكم إليها. وقيل؛ لو نجانا الله من العذاب لنجيناكم منه. « سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص » « سواء علينا » هذا ابتداء خبره « أجزعنا » أي: « سواء علينا » أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص « أي من مهرب وملجأ. ويجوز أن يكون بمعنى المصدر، وبمعنى الاسم؛ يقال: حاص فلان عن كذا أي فر وزاغ يحيص حيصا وحيوصا وحيصانا؛ والمعنى: ما لنا وجه نتباعد به عن النار. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يقول أهل النار إذا أشتد بهم العذاب تعالوا نصبر فيصبرون خمسمائة عام فلما رأوا أن ذلك لا ينفعهم قالوا هلم فلنجزع فيجزعون ويصيحون خمسمائة عام فلما رأوا أن ذلك لا ينفعهم قالوا « سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص » ) . وقال محمد بن كعب القرظي: ذكر لما أن أهل النار يقول بعضهم لبعض: يا هؤلاء! قد نزل بكم من البلاء والعذاب ما قد ترون، فهلم فلنصبر؛ فلعل الصبر ينفعنا كما صبر أهل الطاعة على طاعة الله فنفعهم الصبر إذ صبروا؛ فأجمعوا رأيهم على الصبر فصبروا؛ فطال صبرهم فجزعوا، فنادوا: « سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص » أي منجي، فقام إبليس عند ذلك فقال: » إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم « يقول: لست بمغن عنكم شيئا » وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل « الحديث بطوله، وقد كتبناه في كتاب { التذكرة } بكماله.»

 

الآية: 22 ( وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم )

 

قوله تعالى: « وقال الشيطان لما قضي الأمر » قال الحسن: يقف إبليس يوم القيامة خطيبا في جهنم على منبر من نار يسمعه الخلائق جميعا. ومعنى: « لما قضي الأمر » أي حصل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، على ما يأتي بيانه في « مريم » عليها السلام. « إن الله وعدكم وعد الحق » يعني البعث والجنة والنار وثواب المطيع وعقاب العاصي فصدقكم وعده، ووعدتكم أن لا بعث ولا جنة ولا نار ولا ثواب ولا عقاب فأخلفتكم. وروي ابن المبارك من حديث عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة قال: ( فيقول عيسى أدلكم على النبي الأمي فيأتوني فيأذن الله لي أن أقوم فيثور مجلسي من أطيب ريح شمها أحد حتى آتي ربي فيشفعني ويجعل لي نورا من شعر رأسي إلى ظفر قدمي ثم يقول الكافرون قد وجه المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا فيقولون ما هو غير إبليس هو الذي أضلنا فيأتونه فيقولون قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فاشفع لنا فإنك أضللتنا فيثور مجلسه من أنتن ريح شمها أحد ثم يعظم نحيبهم ويقول عند ذلك: « إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم » الآية ) . « وعد الحق » هو إضافة الشيء إلى نعته كقولهم: مسجد الجامع؛ قال الفراء قال البصريون: وعدكم وعد اليوم الحق أو وعدكم وعد الوعد الحق فصدقكم؛ فحذف المصدر لدلالة الحال. « وما كان لي عليكم من سلطان » أي من حجة وبيان؛ أي ما أظهرت لكم حجة على ما وعدتكم وزينته لكم في الدنيا، « إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي » أي أغويتكم فتابعتموني. وقيل: لم أقهركم على ما دعوتكم إليه. « إلا أن دعوتكم » هو استثناء منقطع؛ أي لكن دعوتكم بالوسواس فاستجبتم لي باختياركم، « فلا تلوموني ولوموا أنفسكم » وقيل: « وما كان لي عليكم من سلطان » أي على قلوبكم وموضع إيمانكم لكن دعوتكم فاستجبتم لي؛ وهذا على أنه خطب العاصي المؤمن والكافر الجاحد؛ وفيه نظر؛ لقوله: « لما قضي الأمر » فإنه يدل على أنه خطب الكفار دون العاصين الموحدين؛ والله أعلم. « فلا تلوموني ولوموا أنفسكم » إذا جئتموني من غير حجة. « ما أنا بمصرخكم » أي بمغيثكم. « وما أنتم بمصرخي » أي بمغيثي. والصارخ والمستصرخ هو الذي يطلب النصرة والمعاونة، والمصرخ هو المغيث. قال سلامة بن جندل.

كنا إذا ما أتانا صارخ فزع وكان الصراخ له قرع الظنابيب

وقال أمية بن أبي الصلت:

ولا تجزعوا إني لكم غير مصرخ وليس لكم عندي غناء ولا نصر

يقال: صرخ فلان أي استغاث يصرخ صرخا وصراخا وصرخة. واصطرخ بمعنى صرخ. والتصرخ تكلف الصراخ. والمصرخ المغيث، والمستصرخ المستغيث؛ تقول منه: استصرخني فأصرخته. والصريخ صوت المستصرخ. والصريخ أيضا الصارخ، وهو المغيث والمستغيث، وهو من الأضداد؛ قاله الجوهري. وقراءة العامة « بمصرخي » بفتح الياء. وقرأ الأعمش وحمزة « بمصرخي » بكسر الياء. والأصل فيها بمصرخيين فذهبت النون للإضافة، وأدغمت ياء الجماعة في ياء الإضافة، فمن نصب فلأجل التضعيف، ولأن ياء الإضافة إذا سكن ما قبلها تعين فيها الفتح مثل: هواي وعصاي، فإن تحرك ما قبلها جاز الفتح والإسكان، مثل: غلامي وغلامتي، ومن كسر فلالتقاء الساكنين حركت إلى الكسر، لأن الياء أخت الكسرة. وقال الفراء: قراءة حمزة وهم منه، وقل من سلم منهم عن خطأ. وقال الزجاج: هذه قراءة رديئة ولا وجه لها إلا وجه ضعيف. وقال قطرب: هذه لغة بني يربوع يزيدون على ياء الإضافة ياء. القشيري: والذي يغني عن هذا أن ما يثبت بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أن يقال فيه هو خطأ أو قبيح أو رديء، بل هو في القرآن فصيح، وفيه ما هو أفصح منه، فلعل هؤلاء أرادوا أن غير هذا الذي قرأ به حمزة أفصح. « إني كفرت بما أشركتموني من قبل » أي كفرت بإشراككم إياي مع الله تعالى في الطاعة؛ فـ « ما » بمعنى المصدر. وقال ابن جريج: إني كفرت اليوم بما كنتم تدعونه في الدنيا من الشرك بالله تعالى. قتادة: إني عصيت الله. الثوري: كفرت بطاعتكم إياي في الدنيا. « إن الظالمين لهم عذاب أليم » . وفي هذه الآيات رد على القدرية والمعتزلة والإمامية ومن كان على طريقهم؛ انظر إلى قول المتبوعين: « لو هدانا الله لهديناكم » وقول إبليس: « إن الله وعدكم وعد الحق » كيف اعترفوا بالحق في صفات الله تعالى وهم في دركات النار؛ كما قال في موضع آخر: « كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها » [ الملك: 8 ] إلى قوله: « فاعترفوا بذنبهم » [ الملك: 11 ] واعترافهم في دركات لظى بالحق ليس بنافع، وإنما ينفع الاعتراف صاحبه في الدنيا؛ قال الله عز وجل: « وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم » [ التوبة: 102 ] و « عسى » من الله واجبة.

 

الآية: 23 ( وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام )

 

قوله تعالى: « وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات » أي في جنات لأن دخلت لا يتعدى؛ كما لا يتعدى نقيضه وهو خرجت، ولا يقاس عليه؛ قاله المهدوي. ولما أخبر تعالى بحال أهل النار أخبر بحال أهل الجنة أيضا. وقراءة الجماعة « أدخل » على أنه فعل مبني للمفعول. وقرأ الحسن « وأدخل » على الاستقبال والاستئناف. « بإذن ربهم » أي بأمره. وقيل: بمشيئته وتيسيره. وقال: « بإذن ربهم » ولم يقل: بإذني تعظيما وتفخيما. « تحيتهم فيها سلام » تقدم في « يونس » . والحمد لله.

الآية [ 24 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيتان: 24 - 25 ( ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون )

 

قوله تعالى: « ألم تر كيف ضرب الله مثلا » لما ذكر تعالى مثل أعمال الكفار وأنها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، ذكر مثل أقوال المؤمنين وغيرها، ثم فسر ذلك المثل فقال: « كلمة طيبة » التمر، فحذف لدلالة الكلام عليه. قال ابن عباس: الكلمة الطيبة لا إله إلا الله والشجرة الطيبة المؤمن. وقال مجاهد وابن جريج: الكلمة الطيبة الإيمان. عطية العوفي والربيع بن أنس: هي المؤمن نفسه. وقال مجاهد أيضا وعكرمة: الشجرة النخلة؛ فيجز أن يكون المعنى: أصل الكلمة في قلب المؤمن - وهو الإيمان - شبهه بالنخلة في المنبت، وشبه ارتفاع عمله في السماء بارتفاع فروع النخلة، وثواب الله له بالثمر. وروي من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن مثل الإيمان كمثل شجرة ثابتة الإيمان عروقها والصلاة أصلها والزكاة فروعها والصيام أغصانها والتأذي الله نباتها وحسن الخلق ورقها والكف عن محارم الله ثمرتها ) . ويجوز أن يكون المعنى: أصل النخلة ثابت في الأرض؛ أي عروقها تشرب من الأرض وتسقيها السماء من فوقها، فهي زاكية نامية. وخرج الترمذي من حديث أنس بن مالك قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقناع فيه رطب، فقال: ( مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفروعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها - قال - هي النخلة ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار - قال - هي الحنظل ) . وروي عن أنس قوله وقال: وهو أصح. وخرج الدارقطني عن ابن عمر قال: ( قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم « ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت » فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أتدرون ما هي ) فوقع في نفسي أنها النخلة. قال السهيلي ولا يصح فيها ما روي عن علي بن أبي طالب أنها جوزة الهند؛ لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر ( إن من الشجرة شجرة لا يسقط ورقها وهي مثل المؤمن خبروني ما هي - ثم قال - هي النخلة ) خرجه مالك « الموطأ » من رواية ابن القاسم وغيره إلا يحيى فإنه أسقطه من روايته. وخرجه أهل الصحيح وزاد فيه الحارث بن أسامة زيادة تساوي رحلة؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وهى النخلة لا تسقط ها أنملة وكذلك المؤمن لا تسقط له دعوة ) . فبين معنى الحديث والمماثلة

قلت: وذكر الغزنوي عنه عليه السلام: ( مثل المؤمن كالنخلة إن صاحبته نفعك وإن جالسته نفعك وإن شاورته نفعك كالنخلة كل شيء منها ينتفع به ) . وقال: ( كلوا من عمتكم ) يعني النخلة خلقت من فضلة طينة آدم عليه السلام، وكذلك أنها برأسها تبقي، وبقلبها تحيا، وثمرها بامتزاج الذكر والأنثى. وقد قيل: إنها لما كانت أشبه الأشجار بالإنسان شبهت به؛ وذلك أن كل شجرة إذا قطع رأسها تشعبت الغصون من جوانب، والنخلة إذا قطع رأسها يبست وذهبت أصلا؛ ولأنها تشبه الإنسان وسائر الحيوان في الالتقاح لأنها لا تحمل حتى تلقح قال النبي صلى الله عليه وسلم: « خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة ) . والإبار اللقاح وسيأتي في سورة » الحجر « بيانه. ولأنها من فضلة طينة آدم. ويقال: إن الله عز وجل لما صور آدم من الطين فضلت قطعة طين فصورها بيده وغرسها في جنة عدن. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أكرموا عمتكم ) قالوا: ومن عمتنا يا رسول الله؟ قال: ( النخلة ) . » تؤتي أكلها كل حين « قال الربيع: » كل حين « غدوة وعشية كذلك يصعد عمل المؤمن أول النهار وآخره؛ وقاله ابن عباس. وعنه » تؤتي أكلها كل حين « قال: هو شجرة جوزة الهند لا تتعطل من ثمرة، تحمل في كل شهر، شبه عمل المؤمن لله عز وجل في كل وقت: لنخلة التي تؤتي أكلها في أوقات مختلفة. وقال الضحاك: كل ساعة من ليل أو نهار شتاء وصيفا يوكل في جميع الأوقات، وكذلك المؤمن لا يخلو من الخير في الأوقات كلها. وقال النحاس: وهذه الأقوال متقاربة غير متناقضة، لأن الحين عند جميع أهل اللغة إلا من شذ منهم بمعنى الوقت يقع لقليل الزمان وكثيره، وأنشد الأصمعي بيت النابغة: »

تناذرها الراقون من سوء سمها تطلقه حينا وحينا تراجع

فهذا يبين لك أن الحين بمعنى الوقت، فالإيمان ثابت في قلب المؤمن، وعمله وقوله وتسبيحه عال مرتفع في السماء ارتفاع فروع النخلة، وما يكسب من بركة الإيمان وثوابه كما ينال من ثمرة النخلة في أوقات السنة كلها، من الرطب والبسر والبلح والزهو والتمر والطلع. وفي رواية عن ابن عباس: إن الشجرة شجرة في الجنة تثمر في كل وقت. و ( مثلا ) مفعول بـ « ضرب » ، « وكلمة » بدل منه، والكاف في قوله: ( كشجرة ) في موضع نصب على الحال من « كلمة » التقدير: كلمة طيبة مشبهة بشجرة طيبة

 

قوله تعالى: « تؤتي أكلها كل حين » لما كانت الأشجار تؤتي أكلها كل سنة مرة كان في ذلك بيان حكم الحين؛ ولهذا قلنا: من حلف ألا يكلم فلانا حينا، ولا يقول كذا حينا إن الحين سنة. وقد ورد الحين في موضع آخر يراد به أكثر من ذلك لقوله تعالى: « هل أتى على الإنسان حين من الدهر » [ الإنسان: 1 ] قيل في « التفسير » : أربعون عاما. وحكى عكرمة أن رجلا قال: إن فعلت كذا وكذا إلى حين فغلامه حر، فأتى عمر بن عبدالعزيز فسأل، فسألني عنها فقلت: إن من الحين حينا لا يدرك، قوله: « وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين » [ الأنبياء: 111 ] فأرى أن تمسك ما بين صرام النخلة إلى حملها، فكأنه أعجبه؛ وهو قول أبي حنيفة في الحين أنه ستة أشهر اتباعا لعكرمة وغيره. وقد مضى ما للعلماء في الحين في « البقرة » مستوفى والحمد لله. « ويضرب الله الأمثال » أي الأشباه « للناس لعلهم يتذكرون » ويعتبرون؛ وقد تقدم.

 

الآية: 26 ( ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار )

 

الكلمة الخبيثة كلمة الكفر. وقيل: الكافر نفسه. والشجرة الخبيثة شجرة الحنظل كما في حديث أنس، وهو قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما، وعن ابن عباس أيضا: أنها شجرة لم تخلق على الأرض. وقيل: هي شجرة الثوم؛ عن ابن عباس أيضا. وقيل: الكمأة أو الطحلبة. وقيل: الكشوث، وهي شجرة لا ورق لها ولا عروق في الأرض؛ قال الشاعر:

وهم كشوث فلا أصل ولا ورق

« اجتثت من فوق الأرض » اقتلعت من أصلها؛ قال ابن عباس؛ ومنه قول لقيط:

والجلاء الذي تجتث أصلكم فمن رأى مثل ذا يوما ومن سمعا

وقال المؤرج: أخذت جثتها وهي نفسها، والجثة شخص الإنسان قاعدا أو قائما. وجثه قلعه، واجتثه اقتلعه من فوق الأرض؛ أي ليس لها أصل راسخ يشرب بعروقه من الأرض. « ما لها من قرار » أي من أصل في الأرض. وقيل: من ثبات؛ فكذلك الكافر لا حجة له ولا ثبات ولا خير فيه، وما يصعد له قول طيب ولا عمل صالح. وروى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة في قوله تعالى: « ضرب الله مثلا كلمة طيبة » قال: لا إله إلا الله « كشجرة طيبة » قال: المؤمن، « أصلها ثابت » لا إله إلا الله ثابتة في قلب المؤمن؛ « ومثل كلمة خبيثة » قال: الشرك، « شجرة خبيثة » قال: المشرك؛ « اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار » أي ليس للمشرك أصل يعمل عليه. وقيل: يرجع المثل إلى الدعاء إلى الإيمان، والدعاء إلى الشرك؛ لأن الكلمة يفهم منها القول والدعاء إلى الشيء.

 

الآية: 27 ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء )

 

قوله تعالى: « يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت » قال ابن عباس: هو لا إله إلا الله. وروى النسائي عن البراء قال قال: « يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة » نزلت في عذاب القبر؛ يقال: من ربك؟ فيقول: ربي الله وديني دين محمد، فذلك قوله: « يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة » .

قلت: وقد جاء هكذا موقوفا في بعض طرق مسلم عن البراء أنه قول، والصحيح فيه الرفع كما في صحيح مسلم وكتاب النسائي وأبي داود وابن ماجة وغيرهم، عن البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذكر البخاري؛ حدثنا جعفر بن عمر، قال حدثنا شعبة عن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أقعد المؤمن في قبره أتاه آت ثم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك قوله « يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة » . وقد بينا هذا الباب في كتاب ( التذكرة ) وبينا هناك من يفتن في قبره ويسأل، فمن أراد الوقوف عليه تأمله هناك. وقال سهل بن عمار: رأيت يزيد بن هارون في المنام بعد موته، فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال: أتاني في قبري ملكان فظان غليظان، فقالا: ما دينك ومن ربك ومن نبيك؟ فأخذت بلحيتي البيضاء وقلت: ألمثلي يقال هذا وقد علمت الناس جوابكما ثمانين سنة؟! فذهبا وقالا: أكتبت عن حريز بن عثمان؟ قلت نعم! فقالا: إنه كان يبغض عليا فأبغضه الله. وقيل: معنى، « يثبت الله » يديمهم الله على القول الثابت، ومنه قول عبدالله بن رواحة:

يثبت الله ما آتاك من حسن تثبيت موسى ونصرا كالذي نصرا

وقيل: يثبتهم في الدارين جزاء لهم على القول الثابت. وقال القفال وجماعة: « في الحياة الدنيا » أي في القبر؛ لأن الموتى في الدنيا إلى أن يبعثوا، « وفي الآخرة » أي عند الحساب؛ وحكاه الماوردي عن البراء قال: المراد بالحياة الدنيا المساءلة في القبر، وبالآخرة المساءلة في القيامة: « ويضل الله الظالمين » أي عن حجتهم في قبورهم كما ضلوا في الدنيا بكفرهم فلا يلقنهم كلمة الحق، فإذا سئلوا في قبورهم قالوا: لا ندري؛ فيقول: لا دريت ولا تليت؛ وعند ذلك يضرب بالمقامع على ما ثبت في الأخبار؛ وقد ذكرنا ذلك في كتاب { التذكرة } . وقيل: يمهلهم حتى يزدادوا ضلالا في الدنيا. « ويفعل الله ما يشاء » من عذاب قوم وإضلال قوم. وقيل: إن سبب نزول هذه الآية ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصف مساءلة منكر ونكير وما يكون من جواب الميت قال عمر: يا رسول الله معي عقلي؟ قال: ( نعم ) قال: كفيت إذا؛ فأنزل الله عز وجل هذه الآية.

 

الآية: 28 ( ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار )

 

قوله تعالى: « ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا » أي جعلوا بدل نعمة الله عليهم الكفر في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم، حين بعثه الله منهم وفيهم فكفروا، والمراد مشركو قريش وأن الآية نزلت فيهم؛ عن ابن عباس وعلي وغيرهما. وقيل: نزلت في المشركين الذين قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر. قال أبو الطفيل: سمعت عليا رضي الله عنه يقول: هم قريش الذين نحروا يوم بدر. وقيل: نزلت في الأفجرين من قريش بني مخزوم وبني أمية، فأما بنو أمية فمتعوا إلى حين؛ وأما بنو مخزوم فأهلكوا يوم بدر؛ قال علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما. وقول رابع: أنهم متنصرة العرب جبلة بن الأيهم وأصحابه حين لطم فجعل له عمر القصاص بمثلها، فلم يرض وأنف فارتد متنصرا ولحق بالروم في جماعة من قومه؛ عن ابن عباس وقتادة. ولما صار إلى بلد الروم ندم فقال:

تنصرت الأشراف من عار لطمة وما كان فيها لو صبرت لها ضرر

تكنفني منها لجاج ونخوة وبعت لها العين الصحيحة بالعور

فيا ليتني أرعى المخاض ببلدة ولم أنكر القول الذي قاله عمر

وقال الحسن: إنها عامة في جميع المشركين. « وأحلوا قومهم » أي أنزلوهم. قال ابن عباس: هم قادة المشركين يوم بدر. « وأحلوا قومهم » أي الذين اتبعوهم. « دار البوار » قيل: جهنم؛ قال ابن زيد. وقيل: يوم بدر؛ قال علي بن أبي طالب ومجاهد. والبوار الهلاك؛ ومنه قول الشاعر:

فلم أر مثلهم أبطال حرب غداة الحرب إذ خيف البوار

 

الآية: 29 ( جهنم يصلونها وبئس القرار )

 

قوله تعالى: « جهنم يصلونها » بين أن دار البوار جهنم كما قال ابن زيد، وعلى هذا لا يجوز الوقف على « دار البوار » لأن جهنم منصوبة على الترجمة عن « دار البوار » فلو رفعها رافع بإضمار، على معنى: هي جهنم، أو بما عاد من الضمير في « يصلونها » لحسن الوقف على « دار البوار » . « وبئس القرار » أي المستقر.

 

الآية: 30 ( وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار )

 

قوله تعالى: « وجعلوا لله أندادا » أي أصناما عبدوها؛ وقد تقدم في « البقرة » . « ليضلوا عن سبيله » أي عن دينه. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء، وكذلك في الحج « ليضل عن سبيل الله » [ الحج: 9 ] ومثله في « لقمان » و « الزمر » وضمها الباقون على معنى ليضلوا الناس عن سبيله، وأما من فتح فعلى معنى أنهم هم يضلون عن سبيل الله على اللزوم، أي عاقبتم إلى الإضلال والضلال؛ فهذه لام العاقبة. « قل تمتعوا » وعيد لهم، وهو إشارة إلى تقليل ما هم فيه من ملاذ الدنيا إذ هو منقطع. « فإن مصيركم إلى النار » أي مردكم ومرجعكم إلى عذاب جهنم.

 

الآية: 31 ( قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال )

 

قوله تعالى: « قل لعبادي الذين آمنوا » أي إن أهل مكة بدلوا نعمة الله بالكفر، فقل لمن آمن وحقق عبوديته أن « يقيموا الصلاة » يعني الصلوات الخمس، أي قل لهم أقيموا، والأمر معه شرط مقدر، تقول: أطع الله يدخلك الجنة؛ أي إن أطعته يدخلك الجنة؛ هذا قول الفراء. وقال الزجاج: « يقيموا » مجزوم بمعنى اللام، أي ليقيموا فأسقطت اللام لأن الأمر دل على الغائب بـ « قل » . قال: ويحتمل أن يقال: « يقيموا » جواب أمر محذوف؛ أي قل لهم أقيموا الصلاة يقيموا الصلاة. « وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية » يعني الزكاة؛ عن ابن عباس وغيره. وقال الجمهور: السر ما خفي والعلانية ما ظهر. وقال القاسم بن يحيى: إن السر التطوع والعلانية الفرض، وقد مضى هذا المعنى في « البقرة » مجودا عند قوله: « إن تبدوا الصدقات فنعما هي » [ البقرة: 271 ] . « من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال » وأمر تعالى عباده بالإنفاق مما رزقهم الله وأنعم به عليهم وحذرهم من الإمساك إلى أن يجيء يوم لا يمكن فيه بيع ولا شراء ولا استدراك نفقة، كما قال: « فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق » [ المنافقون: 0 1 ] . والخلة: خالص المودة، مأخوذة من تخلل الأسرار بين الصديقين جمع خلة كقلة وقلال. قال:

فلست بمقلي الخلال ولا قالي

 

الآيتان: 32 - 33 ( الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار، وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار )

 

قوله تعالى: « الله الذي خلق السماوات والأرض » أي أبدعها واخترعها على غير مثال سبق. « وأنزل من السماء » أي من السحاب. « ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم » أي من الشجر ثمرات « رزقا لكم » . « وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره » تقدم معناه في « البقرة » . « وسخر لكم الأنهار » يعني البحار العذبة لتشربوا منها وتسقوا وتزرعوا، والبحار المالحة لاختلاف المنافع من الجهات. « وسخر لكم الشمس والقمر دائبين » أي في إصلاح ما يصلحانه من النبات وغيره، والدؤوب مرور الشيء في العمل على عادة جارية. وقيل: دائبين في السير امتثالا لأمر الله، والمعنى يجريان إلى يوم القيامة لا يفتران؛ روي معناه عن ابن عباس. « وسخر لكم الليل والنهار » أي لتسكنوا في الليل ولتبتغوا من فضله في النهار، كما قال: « ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله » [ القصص: 73 ] .

 

الآية: 34 ( وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار )

 

قوله تعالى: « وآتاكم من كل ما سألتموه » أي أعطاكم من كل مسؤول سألتموه شيئا؛ فحذف؛ عن الأخفش. وقيل: المعنى وآتاكم من كل ما سألتموه، ومن كل ما لم تسألوه فحذف، فلم نسأل شمسا ولا قمرا ولا كثيرا من نعمه التي ابتدأنا بها. وهذا كما قال: « سرابيل تقيكم الحر » [ النحل: 81 ] على ما يأتي. وقيل: « من » زائدة؛ أي أتاكم كل ما سألتموه. وقرأ ابن عباس والضحاك وغيرهما « وآتاكم من كل » بالتنوين « ما سألتموه » وقد رويت هذه القراءة عن الحسن والضحاك وقتادة؛ هي على النفي أي من كل ما لم تسألوه؛ كالشمس والقمر وغيرهما. وقيل: من كل شيء ما سألتموه أي الذي ما سألتموه. « وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها » أي نعم الله. « لا تحصوها » ولا تطيقوا عدها، ولا تقوموا بحصرها لكثرتها، كالسمع والبصر وتقويم الصور إلى غير ذلك من العافية والرزق؛ نعم لا تحصى وهذه النعم من الله، فلم تبدلون نعمة الله بالكفر؟! وهلا استعنتم بها على الطاعة؟! « إن الإنسان لظلوم كفار » الإنسان لفظ جنس وأراد به الخصوص؛ قال ابن عباس: أراد أبا جهل. وقيل: جميع الكفار.

 

الآية: 35 ( وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام )

 

قوله تعالى: « وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا » يعني مكة وقد مضى في « البقرة » . « واجنبني وبني أن نعبد الأصنام » أي اجعلني جانبا عن عبادتها، وأراد بقوله: ( بني ) بنيه من، صلبه وكانوا ثمانية، فما عبد أحد منهم صنما. وقيل: هو دعاء لمن أراد الله أن يدعو له. وقرأ الجحدري وعيسى « وأجنبني » بقطع الألف والمعنى واحد؛ يقال: جنبت ذلك الأمر؛ وأجنبته وجنبته إياه فتجانبه وأجتنبه أي تركه. وكان إبراهيم التيمي يقول في قصصه: من يأمن البلاء بعد الخليل حين يقول « وأجنبني وبني أن نعبد الأصنام » كما عبدها أبي وقومي.

 

الآية: 36 ( رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم )

 

قوله تعالى: « رب إنهن أضللن كثيرا من الناس » لما كانت سببا للإضلال أضاف الفعل إليهن مجازا؛ فإن الأصنام جمادات لا تفعل. « فمن تبعني » في التوحيد. « فإنه مني » أي من أهل ديني. « ومن عصاني » أي أصر على الشرك. « فإنك غفور رحيم » قيل: قال هذا قبل أن يعرفه الله أن الله لا يغفر أن يشرك به. وقيل: غفور رحيم لمن تاب من معصيته قبل الموت. وقال مقاتل بن حيان: « ومن عصاني » فيما دون الشرك.

 

الآية: 37 ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون )

 

روى البخاري عن ابن عباس: ( أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل؛ اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد؛ وليس، بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنا لك؛ ووضع عندهما جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقا فتبعته أم إسماعيل؛ فقالت: يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء، فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت إذا لا يضيعنا؛ ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند التثنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهذه الدعوات، ورفع يديه فقال: « ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع » [ إبراهيم: 37 ] حتى بلغ « يشكرون » وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى - أو قال بتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا، فلم تر أحدا، فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي، رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود، ثم جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليه، فنظرت هل ترى أحدا فلم تر أحدا، ففعلت ذلك سبع مرات؛ قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فذلك سعي الناس بينهم ) فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت: صه! تريد نفسها، ثم تسمعت فسمعت أيضا فقالت: قد أسمعت، إن كان عندك غواث! فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه - أو قال بجناحه - حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف؛ قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم - أو قال: لو لم تغرف من الماء - لكانت زمزم عينا معينا ) قال: فشربت وأرضعت ولدها فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة فإن ها هنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله ) وذكر الحديث بطوله.

مسألة: لا يجوز لأحد أن يتعلق بهذا في طرح ولده وعياله بأرض مضيعة اتكالا على العزيز الرحيم، واقتداء بفعل إبراهيم الخليل، كما تقول غلاة الصوفية في حقيقة التوكل، فإن إبراهيم فعل ذلك بأمر الله لقوله الحديث: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. وقد روي أن سارة لما غارت من هاجر بعد أن ولدت إسماعيل خرج بها إبراهيم عليه السلام إلى مكة، فروي أنه ركب البراق هو وهاجر والطفل فجاء في يوم واحد من الشام إلى بطن مكة، وترك ابنه وأمته هنا لك وركب منصرفا من يومه، فكان ذلك كله بوحي من الله تعالى، فلما ولي دعا بضمن هذه الآية.

 

لما أراد الله تأسيس الحال، وتمهيد المقام، وخط الموضع للبيت المكرم، والبلد المحرم، أرسل الملك فبحث عن الماء وأقامه مقام الغذاء، وفي الصحيح: أن أبا ذر رضي الله عنه اجتزأ به ثلاثين بين يوم وليلة، قال أبو ذر: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكني، وما أجد على كبدي سخفة جوع؛ وذكر الحديث. وروي الدارقطني عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ماء زمزم لما شرب له إن شربته تشتفي به شفاك الله وإن شربته لشبعك أشبعك الله به وإن شربته لقطع ظمئك قطعه وهي هزمة جبريل وسقيا الله إسماعيل ) . وروي أيضا عن عكرمة قال: كان ابن عباس إذا شرب من زمزم قال: اللهم إني أسألك علما نافعا، ورزقا واسعا، وشفاء من كل داء. قال ابن العربي: وهذا موجود فيه إلى يوم القيامة لمن صحت نيته، وسلمت طويته، ولم يكن به مكذبا، ولا يشربه مجربا، فإن الله مه المتوكلين، وهو يفضح المجربين. وقال أبو عبدالله محمد بن علي الترمذي وحدثني أبي رحمه الله قال: دخلت الطواف في ليلة ظلماء فأخذني من البول ما شغلني، فجعلت أعتصر حتى آذاني، وخفت إن خرجت من المسجد أن أطأ بعض تلك الأقدام، وذلك أيام الحج؛ فذكرت هذا الحديث، فدخلت زمزم فتضلعت منه، فذهب عني إلى الصباح. وروي عن عبدالله بن عمرو: إن في زمزم عينا في الجنة من قبل الركن.

 

قوله تعالى: « ومن ذريتي » « من » في قوله تعالى: « من ذريتي » للتبعيض أي أسكنت بعض ذريتي؛ يعني إسماعيل وأمه، لأن إسحاق كان بالشام. وقيل: هي صلة؛ أي أسكنت ذريتي. « عند بيتك المحرم » يدل على أن البيت كان قديما على ما روي قبل الطوفان، وقد مضى هذا المعنى في سورة « البقرة » . أضاف البيت إليه لأنه لا يملكه غيره، ووصفه بأنه محرم، أي يحرم فيه ما يستباح في غيره من جماع واستحلال. وقيل: محرم على الجبابرة، وأن تنتهك حرمته، ويستخف بحقه، قاله قتادة وغيره. وقد مضى القول في هذا في « المائدة » . « ربنا ليقيموا الصلاة » خصها من جملة الدين لفضلها فيه، ومكانها منه، وهي عهد اله عند العباد؛ قال صلى الله عليه وسلم: ( خمس صلوات كتبهن الله على العباد ) . الحديث. واللام في « ليقيموا الصلاة » لام كي؛ هذا هو الظاهر فيها وتكون متعلقة بـ « أسكنت » ويصح أن تكون لام أمر، كأنه رغب إلى الله أن يأتمنهم وأن يوفقهم لإقامة الصلاة.

 

تضمنت هذه الآية أن الصلاة بمكة أفضل من الصلاة بغيرها؛ لأن معنى « ربنا ليقيموا الصلاة » أي أسكنتهم عند بيتك المحرم ليقيموا الصلاة فيه. وقد اختلف العلماء هل الصلاة بمكة أفضل أو في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم؟ فذهب عامة أهل الأثر إلى أن المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بمائة صلاة، واحتجوا بحديث عبدالله بن الزبيرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة مسجدي هذا بمائة صلاة « . قال الإمام الحافظ أبو عمر: وأسند هذا الحديث حبيب المعلم عن عطاء بن أبي رباح عن عبدالله بن الزبير وجوده، ولم يخلط في لفظه ولا في معناه، وكان ثقة. قال ابن أبي. خيثمة سمعت يحيى بن معين يقول: حبيب المعلم ثقة. وذكر عبدالله بن أحمد قال سمعت أبي يقول: حبيب المعلم ثقة ما أصح حديثه! وسئل أبو زرعة الرازي عن حبيب المعلم فقال: بصري ثقة.»

قلت: وقد خرج حديث حبيب المعلم هذا عن عطاء بن أبي رباح عن عبدالله بن الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم الحافظ أبو حاتم محمد بن حاتم التميمي البستي في المسند الصحيح له، فالحديث صحيح وهو الحجة عند التنازع والاختلاف. والحمد لله. قال أبو عمر: وقد روي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث ابن الزبير؛ رواه موسى الجهني عن نافع عن ابن عمرو؛ وموسى الجهني الكوفي ثقة، أثنى عليه القطان وأحمد ويحيى وجماعتهم. وروى عنه شعبة. والثوري ويحيى بن سعيد. وروى حكيم بن سيف، حدثنا عبيدالله بن عمر؛ عن عبدالكريم عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف فيمن سواه ) . وحكيم بن سيف هذا شيخ من أهل الرقة قد روى عنه أبو زرعة الرازي، وأخذ عنه ابن وضاح، وهو عندهم شيخ صدوق لا بأس به. فإن كان حفظ فهما حديثان، وإلا فالقول قول حبيب المعلم. وروى محمد بن وضاح، حدثنا يوسف بن عدي عن عمر بن عبيد عن عبدالملك عن عطاء عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام فإن الصلاة فيه أفضل ) . قال أبو عمر: وهذا كله نص في موضع الخلاف قاطع له عند من ألهم رشده، ولم تمل به عصيته. وذكر ابن حبيب عن مطرف وعن أصبغ عن ابن وهب أنهما كانا يذهبان إلى تفضيل الصلاة في المسجد الحرام على الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم على ما في هذا الباب. وقد اتفق مالك وسائر العلماء على أن صلاة العيدين يبرز لهما في كل بلد إلا مكة فإنها تصلي في المسجد الحرام. وكان عمر وعلي وابن مسعود وأبو الدرداء وجابر يفضلون مكة ومسجدها وهم أولى بالتقليد ممن بعدهم؛ وإلى هذا ذهب الشافعي. وهو قول عطاء والمكيين والكوفيين، وروي مثله عن مالك؛ ذكر ابن وهب في جامعه عن مالك أن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض قال: يا رب هذه أحب إليك أن تعبد فيها؟ قال: بل مكة. والمشهور عنه وعن أهل المدينة تفضيل المدينة، واختلف أهل البصرة والبغداديون في ذلك؛ فطائفة تقول مكة، وطائفة تقول المدينة.

 

قوله تعالى: « فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم » الأفئدة جمع فؤاد وهي القلوب، وقد يعبر عن القلب بالفؤاد كما قال الشاعر:

وإن فؤادا قادني بصبابة إليك على طول المدى لصبور

وقيل: جمع وفد، والأصل أوفدة، فقدمت الفاء وقلبت الواو ياء كما هي، فكأنه قال: واجعل وفودا من الناس تهوي إليهم؛ أي تنزع؛ يقال: هوي نحوه إذا مال، وهوت الناقة تهوي هويا فهي هاوية إذا عدت عدوا شديدا كأنها في هواء بئر، وقوله: « تهوي إليهم » مأخوذ منه. قال ابن عباس ومجاهد: لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند واليهود والنصارى والمجوس، ولكن قال: « من الناس » فهم المسلمون؛ فقوله: « تهوي إليهم » أي تحن إليهم، وتحن إلى زيارة البيت. وقرأ مجاهد « تهوَى إليهم » أي تهواهم وتجلهم. « وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون » فاستجاب الله دعاءه، وأنبت لهم بالطائف سائر الأشجار، وبما يجلب إليهم من الأمصار. وفي صحيح البخاري عن ابن عباس الحديث الطويل وقد ذكرنا بعضه: ( فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، ثم سألهم عن عيشهم وهيئتهم فقالت: نحن بشر، نحن في ضيق وشدة؛ فشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه أنس شيئا فقال: هل جاءكم من أحد! قالت: نعم جاءنا شيخ كذا وكذا فسألني عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشتنا فأخبرته أنا في جهد وشدة، قال فهل أوصاك بشيء: قالت: أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غير عتبة بابك؛ قال: ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك ألحقي بأهلك؛ فطلقها وتزوج منهم أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد فلم يجده، ودخل على امرأته فسألها عنه فقالت: خرج يبتغي لنا. قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت: نحن بخير وسعة وأثنت على الله. قال ما طعامكم؟ قالت: اللحم. قال فما شرابكم؟ قالت: الماء. قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولم يكن لهم يومئذ حب ولو كان لهم دعا لهم فيه ) . قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه؛ وذكر الحديث. وقال ابن عباس: قول إبراهيم « فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم » سأل أن يجعل الله الناس يهوون السكنى بمكة، فيصير بيتا محرما، وكل ذلك كان والحمد لله. وأول من سكنه جرهم. ففي البخاري - بعد قوله: وإن الله لا يضيع أهله - وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله، وكذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم قافلين من طريق كذا، فنزلوا بأسفل مكة، فرأوا طائرا عائفا فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء! لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء؛ فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء، فأخبروهم بالماء فأقبلوا. قال: وأم إسماعيل عند الماء؛ فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم ولكن لا حق لكم في الماء. قالوا: نعم. قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فألفي ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس ) فنزلوا وأرسلوا إلى أهلهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، شب الغلام، وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته؛ الحديث.

 

الآية: 38 ( ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء )

 

قوله تعالى: « ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن » أي، ليس يخفى عليك شيء من أحوالنا. وقال ابن عباس ومقاتل: تعلم جميع ما أخفيه وما أعلنه من الوجه بإسماعيل وأمه حيث أسكنا بواد غير ذي زرع. « وما يخفي على الله من شيء في الأرض ولا في السماء » قيل: هو من قول إبراهيم. وقيل: هو من قول الله تعالى لما قال إبراهيم: « ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن » قال الله: « وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء » .

 

الآية: 39 ( الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء )

 

أي على كبر سني وسن امرأتي؛ قال ابن عباس: ولد له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة. وإسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة. وقال سعيد بن جبير: بشر إبراهيم بإسحاق بعد عشر ومائة سنة. « إن ربي لسميع الدعاء » .

 

الآيتان: 40 - 41 ( رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء، ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب )

 

قوله تعالى: « رب اجعلني مقيم الصلاة » أي من الثابتين على الإسلام والتزام أحكامه. « ومن ذريتي » أي واجعل من ذريتي من يقيمها. « ربنا وتقبل دعاء » أي عبادتيكما قال: « وقال ربكم ادعوني أستجب لكم » [ غافر: 60 ] . وقال عليه السلام: « الدعاء مخ العبادة ) وقد تقدم في » البقرة « . » ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين « قيل: استغفر إبراهيم لوالديه قبل أن يثبت عنده أنهما عدوان لله. قال القشيري: ولا يبعد أن تكون أمه مسلمة لأن الله ذكر عذره في استغفاره لأبيه دون أمه. قلت: وعلى هذا قراءة سعيد بن جبير، » رب اغفر لي ولوالدي « يعني. أباه. وقيل: استغفر لهما طمعا في إيمانهما. وقيل: استغفر لهما بشرط أن يسلما. وقيل: أراد آدم وحواء. وقد روي أن العبد إذا قال: اللهم اغفر لي ولوالدي وكان أبواه قد ماتا كافرين انصرفت المغفرة إلى آدم وحواء لأنهما والدا الخلق أجمع. وقيل: إنه أراد ولديه إسماعيل وإسحاق. وكان إبراهيم النخعي يقرأ: » ولولدي « يعني ابنيه، وقيل: إنه أراد ولديه إسماعيل وإسحاق. وكان إبراهيم » وللمؤمنين « قال ابن عباس: من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: » للمؤمنين « كلهم وهو أظهر. » يوم يقوم الحساب « أي يوم يقوم الناس للحساب.»

 

الآية: 42 ( ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار )

 

قوله تعالى: « ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون » وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أجبه من أفعال المشركين ومخالفتهم دين إبراهيم؛ أي أصبر إبراهيم، وأعلم المشركين أن تأخير العذاب ليس للرضا بأفعالهم، بل سنة الله إمهال العصاة مدة. قال ميمون بن مهران: هذا وعبد للظالم، وتعزية للمظلوم. « إنما يؤخرهم » يعني مشركي مكة يمهلهم ويؤخر بهم. وقراءة العامة « يؤخرهم » بالياء واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله « ولا تحسبن الله » . وقرأ الحسن والسلمي وروي عن أبي عمرو أيضا « نؤخرهم » بالنون للتعظيم. « ليوم تشخص فيه الأبصار » أي لا تغمض من هول ما تراه في ذلك اليوم، قاله الفراء. يقال: شخص الرجل بصره وشخص البصر نفسه أي سما وطمح من هول ما يرى. قال ابن عباس: تشخص أبصار الخلائق يومئذ إلى الهواء لشدة الحيرة فلا يرمضون.

 

الآية: 43 ( مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء )

 

قوله تعالى: « مهطعين » أي مسرعين؛ قاله الحسن وقتادة وسعيد بن جبير؛ مأخوذ من أهطع يهطع إذا أسرع ومنه قوله تعالى: « مهطعين إلى الداع » [ القمر: 8 ] أي مسرعين. قال الشاعر:

بدجلة دارهم ولقد أراهم بدجلة مهطعين إلى السماع

وقيل: المهطع الذي ينظر في ذل وخشوع؛ أي ناظرين من غير أن يطرفوا؛ قاله ابن عباس، وقال مجاهد والضحاك: « مهطعين » أي مديمي النظر. وقال النحاس: والمعروف في اللغة أن يقال: أهطع إذا أسرع؛ قال أبو عبيد: وقد يكون الوجهان جميعا يعني الإسراع مع إدامة النظر. وقال ابن زيد: المهطع الذي لا يرفع رأسه. « مقنعي رؤوسهم » أي رافعي رؤوسهم ينظرون في ذل. وإقناع الرأس رفعه؛ قال ابن عباس ومجاهد. قال ابن عرفة والقتبي وغيرهما: المقنع الذي يرفع رأسه ويقبل ببصره على ما بين يديه؛ ومنه الإقناع في الصلاة وأقنع صوته إذا رفعه. وقال الحسن: وجوه الناس يومئذ إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد. وقيل: ناكسي رؤوسهم؛ قال المهدوي: ويقال أقنع إذا رفع رأسه، وأقنع إذا رأسه ذلة وخضوعا، والآية محتملة الوجهين، وقاله المبرد، والقول الأول أعرف في اللغة؛ قال الراجز:

أنغض نحوي رأسه وأقنعا كأنما أبصر شيئا أطمعا

وقال الشماخ يصف إبلا:

يباكرن العضاه بمقنعات نواجذهن كالحدأ الوقيع

يعني: برؤوس مرفوعات إليها لتتناولهن. ومنه قيل: مقنعة لارتفاعها. ومنه قنع الرجل إذا رضي؛ أي رفع رأسه عن السؤال. وقنع إذا سأل أي أتى ما يتقنع منه؛ عن النحاس. وفم مقنع أي معطوفة أسنانه إلى داخل. ورجل مقنع بالتشديد؛ أي عليه بيضة قاله الجوهري. « لا يرتد إليهم طرفهم » أي لا ترجع إليهم أبصارهم من شدة النظر فهي شاخصة النظر. يقال: طرف الرجل يطرف طرفا إذا أطبق جفنه على الآخر، فسمي النظر طرفا لأنه به يكون. والطرف العين. قال عنترة:

وأغض طرفي ما بدت جارتي حتى يواري جارتي مأواها

وقال جميل:

وأقصر طرفي دون جمل كرامة لجمل وللطرف الذي أنا قاصره

 

قوله تعالى: « وأفئدتهم هواء » أي لا تغني شيئا من شدة الخوف. ابن عباس: خالية من كل خير. السدي: خرجت قلوبهم من صدورهم فنشبت في حلوقهم؛ وقال مجاهد ومرة وابن زيد: خاوية خربة متخرقة ليس فيها خير ولا عقل؛ كقولك في البيت الذي ليس فيه شيء: إنما هو هواء؛ وقال ابن عباس: والهواء في اللغة المجوف الخالي؛ ومنه قول حسان:

ألا أبلغ أبا سفيان عني فأنت مجوفة نخب هواء

وقال زهير يصف صغيرة الرأس:

كأن الرجل منها فوق صعل من الظلمان جؤجؤه هواء

فارغ أي خال؛ وفي التنزيل: « وأصبح فؤاد أم موسى فارغا » [ القصص: 10 ] أي من كل شيء إلا من هم موسى. وقيل: في الكلام إضمار؛ أي ذات هواء وخلاء.

 

الآية: 44 ( وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال )

 

قوله تعالى: « وأنذر الناس » قال ابن عباس: أراد أهل مكة. « يوم يأتيهم العذاب » وهو يوم القيامة؛ أي خوفهم ذلك اليوم. وإنما خصهم بيوم العذاب وإن كان يوم الثواب، لأن الكلام خرج مخرج التهديد للعاصي. « فيقول الذين ظلموا » أي في ذلك اليوم « ربنا أخرنا » أي أمهلنا. « إلى أجل قريب » سألوه الرجوع إلى الدنيا حين ظهر الحق في الآخرة. « نجب دعوتك ونتبع الرسل » أي إلى الإسلام فيجابوا: « أولم تكونوا أقسمتم من قبل » يعني في دار الدنيا. « ما لكم من زوال » قال مجاهد: هو قسم قريش أنهم لا يبعثون. ابن جريج: هو ما حكاه عنهم في قوله: « وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت » [ النحل: 38 ] . « ما لكم من زوال » فيه تأويلان: أحدهما: ما لكم من انتقال عن الدنيا إلى الآخرة؛ أي لا تبعثون ولا تحشرون؛ وهذا قول مجاهد. الثاني: « ما لكم من زوال » أي من العذاب. وذكر البيهقي عن محمد بن كعب القرظي قال: لأهل النار خمس دعوات يجيبهم الله أربعة، فإذا كان في الخامسة لم يتكلموا بعدها أبدا، يقولون: « ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل » [ غافر: 11 ] فيجيبهم الله « ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وأن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير » [ غافر: 12 ] ثم يقولون: « ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون » [ السجدة: 12 ] فيجيبهم الله تعالى: « فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون » [ السجدة: 14 ] ثم يقولون: « ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل » فيجيبهم الله تعالى « أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال » فيقولون: « ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل » [ فاطر: 37 ] فيجيبهم الله تعالى: « أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير » [ فاطر: 37 ] . ويقولون: « ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين » [ المؤمنون: 106 ] فيجيبهم الله تعالى: « اخسؤوا فيها ولا تكلمون » [ المؤمنون: 108 ] فلا يتكلمون بعدها أبدا؛ خرجه ابن المبارك في { دقائقه } بأطول من هذا - وقد كتبناه في كتاب { التذكرة } وزاد في الحديث « وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال. وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال » [ إبراهيم:44 - 45 ] قال هذه الثالثة، وذكر الحديث وزاد بعد قوله: « اخسؤوا فيها ولا تكلمون » [ المؤمنون: 108 ] فانقطع عند ذلك الدعاء والرجاء، وأقبل بعضهم على بعض ينبح بعضهم في وجه بعضهم في وجه بعض، وأطبقت عليهم؛ وقال: فحدثني الأزهر بن أبي الأزهر أنه ذكر له أن ذلك قوله: « هذا يوم لا ينطقون. ولا يؤذن لهم فيعتذرون » [ المرسلات:35 - 36 ] .

 

الآية: 45 ( وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال )

 

قوله تعالى: « وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال » أي في بلاد ثمود ونحوها فهلا اعتبرتم بمساكنهم، بعد ما تبين لكم ما فعلنا بهم، وبعد أن ضربنا لكم الأمثال في القرآن. وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي « ونبين لكم » بنون والجزم على أنه مستقبل ومعناه الماضي؛ وليناسب قوله: « كيف فعلنا بهم » . وقراءة الجماعة، « وتبين » وهي مثلها في المعنى؛ لأن ذلك لا تبين لهم إلا بتبيين الله إياهم.

 

الآية: 46 ( وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال )

 

قوله تعالى: « وقد مكروا مكرهم » أي بالشرك بالله وتكذيب الرسل والمعاندة؛ عن ابن عباس وغيره. « وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال » « إن » بمعنى « ما » أي ما كان مكرهم لتزول منه الجبال لضعفه ووهنه؛ « وإن » بمعنى « ما » في القرآن في مواضع خمسة: أحدها هذا. الثاني: « فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك » [ يونس: 94 ] . الثالث: « لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا » [ الأنبياء: 17 ] أي ما كنا. الرابع: « قل إن كان للرحمن ولد » [ الزخرف: 81 ] . الخامس: « ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه » [ الأحقاف: 26 ] . وقرا الجماعة « وإن كان » بالنون. وقرأ عمرو بن علي وابن مسعود وأبي « وإن كاد » بالدال. والعامة على كسر اللام في « لتزول » على أنها لام الجحود وفتح اللام الثانية نصيبا. وقرأ بن محيصن وابن جريج والكسائي « لتزول » بفتح اللام الأول على أنها لام الابتداء ورفع الثانية « وإن » مخففة من الثقيلة، ومعنى هذه القراءة استعظام مكرهم؛ أي ولقد عظم مكرهم حتى كادت الجبال تزول منه؛ قال الطبري: الاختيار القراءة الأولى؛ لأنها لو كانت زالت لم تكن ثابتة؛ قال أبو بكر الأنباري: ولا حجة على مصحف المسلمين في الحديث الذي حدثناه أحمد بن الحسين: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع بن الجراح عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبدالرحمن بن دانيل قال سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: إن جبارا من الجبابرة قال لا أنتهي حتى أعلم من في السماوات، فعمد إلى فراخ نسور، فأمر أن تطعم اللحم، حتى اشتدت وعضلت واستعلجت أمر بأن يتخذ تابوت يسع فيه رجلين؛ وأن يجعل فيه عصا في رأسها لحم شديد حمرته، وأن يستوثق من أرجل النسور بالأوتاد؛ وتشد إلى قوائم التابوت، ثم جلس هو وصاحب له من التابوت وأثار النسور، فلما رأت اللحم طلبته، فجعلت ترفع التابوت حتى بلغت به ما شاء الله؛ فقال الجبار لصاحبه: افتح الباب فانظر ما ترى؟ فقال: أرى الجبال كأنها ذباب، فقال: أغلق الباب؛ ثم صعدت بالتابوت ما شاء الله أن تصعد، فقال الجبار لصاحبه: افتح الباب فانظر ما ترى؟ فقال: ما أرى إلا السماء وما تزداد منا إلا بعدا، فقال: نكس العصا فنكسها، فانقضت النسور. فلما وقع التابوت على الأرض سمعت له هدة كادت الجبال تزول عن مراتبها منها؛ قال: فسمعت عليا رضي الله عنه يقرأ « وإن كان مكرهم لتزول » بفتح اللام الأولى من « لتزول » وضم الثانية. وقد ذكر الثعلبي هذا الخبر بمعناه، وأن الجبار هو النمرود الذي حاج إبراهيم في ربه، وقال عكرمة: كان معه في التابوت غلام أمرد، وقد حمل القوس والنبل فرمى بهما فعاد إليه ملطخا بالدماء وقال: كفيت نفسك إله السماء. قال عكرمة: تلطخ بدم سمكة من السماء، فذفت نفسها إليه من بحر في الهواء معلق. وقيل: طائر من الطير أصابه السهم ثم أمر نمرود صاحبه أن يضرب العصا وأن ينكس اللحم، فهبطت النسور بالتابوت، فسمعت الجبال حفيف التابوت والنسور ففزعت، وظنت أنه قد حدث بها حدث من السماء، وأن الساعة قد قامت، فذلك قوله: « وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال » . قال القشيري: وهذا جائز بتقدير خلق الحياة في الجبال. وذكر الماوردي عن ابن عباس: أن النمرود بن كنعان بنى الصرح في قرية الرس من سواد الكوفة، وجعل طول خمسة آلاف ذراع وخمسين ذراعا، وعرضه ثلاثة آلاف ذراع وخمسة وعشرين ذراعا، وصعد منه مع النسور، فلما علم أنه لا سبيل له إلى السماء اتخذه حصنا، وجمع فيه أهله وولده ليتحصن فيه. فأتى الله بنيانه من القواعد، فتداعي الصرح عليهم فهلكوا جميعا، فهذا معنى « وقد مكروا مكرهم » وفي الجبال التي عني زوالها بمكرهم وجهان: أحدهما: جبال الأرض. الثاني: الإسلام والقرآن، لأنه لثبوته ورسوخه كالجبال. وقال القشيري: « وعند الله مكرهم » أي هو عالم بذلك فيجازيهم أو عند الله جزاء مكرهم فحذف المضاف. « وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال » بكسر اللام؛ أي ما كان مكرهم مكرا يكون له أثر وخطر عند الله تعالى، فالجبال مثل لأمر النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: « وإن كان مكرهم » في تقديرهم « لتزول منه الجبال » وتؤثر في إبطال الإسلام. وقرئ « لتزول منه الجبال » بفتح اللام الأولى وضم الثانية؛ أي كان مكرا عظيما تزول منه الجبال، ولكن الله حفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو كقوله تعالى: « ومكروا مكرا كبارا » [ نوح: 22 ] والجبال لا تزول ولكن العبارة عن تعظيم الشيء هكذا تكون.

 

الآية: 47 ( فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام )

 

قوله تعالى: « فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله » اسم الله تعالى و « مخلف » مفعولا تحسب؛ و « رسله » مفعول « وعده » وهو على الاتساع، والمعنى: مخلف وعده رسله؛ قال الشاعر:

ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه وسائره باد إلى الشمس أجمع

قال القتبي: هو من المقدم الذي يوضحه التأخير، والمؤخر الذي يوضحه التقديم، وسواء في قولك: مخلف وعده رسله، ومخلف رسله وعده. « إن الله عزيز ذو انتقام » أي من أعدائه. ومن أسمائه المنتقم وقد بيناه في « الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى » .

 

الآية: 48 ( يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار )

 

قوله تعالى: « يوم تبدل الأرض غير الأرض » أي اذكر يوم تبدل الأرض، فتكون متعلقة بما قبله. وقيل: هو صفة لقول: « يوم يقوم الحساب » [ إبراهيم: 41 ] . واختلف في كيفية تبديل الأرض، فقال كثير من الناس: إن تبدل الأرض عبارة عن تغير صفاتها، وتسوية آكامها، ونسف جبالها، ومد أرضها؛ ورواه ابن مسعود رضي الله عنه؛ خرجه ابن ماجة في سننه وذكره ابن المبارك من حديث شهر بن حوشب، قال حدثني ابن عباس قال: إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم وزيد في سعتها كذا وكذا؛ وذكر الحديث. وروي مرفوعا من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تبدل الأرض غير الأرض فيبسطها ويمدها مد الأديم العكاظي لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ثم يزجر الله الخلق زجرة فإذا هم في الثانية في مثل مواضعهم من الأولى من كان في بطنها ففي بطنها ومن كان على ظهرها كان على ظهرها ) ذكره الغزنوي. وتبديل السماء تكوير شمسها وقمرها، وتناثر نجومها؛ قال ابن عباس. وقيل: اختلاف أحوالها، فمرة كالمهل ومرة كالدهان؛ حكاه ابن الأنباري؛ وقد ذكرنا هذا الباب مبينا في كتاب { التذكرة } وذكرنا ما للعلماء في ذلك، وأن الصحيح إزالة هذه الأرض حسب ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. روى مسلم عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت قائما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه حبر من أحبار اليهود فقال: السلام عليك؛ وذكر الحديث، وفيه: فقال اليهودي أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( في الظلمة دون الجسر ) . وذكر الحديث. وخرج عن عائشة قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: « يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات » فأين الناس يومئذ؟ قال: ( على الصراط ) . خرجه ابن ماجة بإسناد مسلم سواء، وخرجه الترمذي عن عائشة وأنها هي لسائلة، قال: هذا حديث حسن صحيح؛ فهذه الأحاديث تنص على أن السماوات والأرض تبدل وتزال، ويخلق الله أرضا أخرى يكون الناس عليها بعد كونهم على الجسر. وفي صحيح مسلم عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصه النقي ليس فيها علم لأحد ) . وقال جابر: سألت أبا جعفر محمد بن علي عن قول الله عز وجل: « يوم تبدل الأرض غير الأرض » قال: تبدل خبرة يأكل منها الخلق يوم القيامة، ثم قرأ: « وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام » [ الأنبياء: 8 ] . وقال ابن مسعود: إنه تبدل بأرض غيرها بيضاء كالفضة لم يعمل عليها خطيئة. وقال ابن عباس: بأرض من فضة بيضاء. وقال علي رضي الله عنه: تبدل الأرض يومئذ من فضة والسماء من ذهب وهذا تبديل للعين، وحسبك. « وبرزوا لله الواحد القهار » أي من قبورهم، وقد تقدم.

 

الآية: 49 ( وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد )

 

قوله تعالى: « وترى المجرمين » وهم المشركون. « يومئذ » أي يوم القيامة. « مقرنين » أي مشدودين « في الأصفاد » وهي الأغلال والقيود، وأحدها صفد وصفد. ويقال: صفدته صفدا أي قيدته والاسم الصفد، فإذا أردت التكثير قلت: صفدته تصفيدا؛ قال عمرو بن كلثوم:

فآبوا بالنهاب وبالسبايا وأبنا بالملوك مصفدينا

أي مقيدينا. وقال حسان:

من كل مأسور يشد صفاده صقر إذا لاقى الكريهة حام

أي غله، وأصفدته إصفادا أعطيته. وقيل: صفدته وأصفدته جاريان في القيد والإعطاء جميعا؛ قال النابغة:

فلم أعرض أبيت اللعن بالصفد

فالصفد العطاء؛ لأنه يقيد ويعبد، قال أبو الطيب:

وقيدت نفسي في ذراك محبة ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا

قيل: يقرن كل كافر مع شيطان في غل، بيانه قوله: « احشروا الذين ظلموا وأزواجهم » [ الصافات: 22 ] يعني قرناءهم من الشياطين. وقيل: إنهم الكفار يجمعون في الأصفاد كما اجتمعوا في الدنيا على المعاصي.

 

الآية: 50 ( سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار )

 

قوله تعالى: « سرابيلهم من قطران » أي قميصهم، عن ابن دريد وغيره، واحدها سربال، والفعل تسربلت وسربلت غيري؛ قال كعب بن مالك:

تلقاكم عصب حول النبي لهم من نسج داود في الهيجا سرابيل

« من قطران » يعني قطران الإبل الذي تهنأ به؛ قال الحسن. وذلك أبلغ لاشتعال النار فيهم. وفي الصحيح: أن النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من فطران ودرع من جرب. وروي عن حماد أنهم قالوا: هو النحاس. وقرأ عيسى بن عمر: « قطران » بفتح القاف وتسكين الطاء. وفيه قراءة ثالثة: كسر القاف وجزم الطاء؛ ومنه قول أبي النجم:

جون كان العرق المنتوحا لبسه القطران والمسوحا

وقراءة رابعة: « من قطران » رويت عن ابن عباس وأبي هريرة وعكرمة وسعيد بن جبير ويعقوب؛ والقطر النحاس والصفر المذاب؛ ومنه قوله تعالى: « آتوني أفرغ عليه قطرا » [ الكهف: 96 ] . والآن: الذي قد انتهى إلى حره؛ ومنه قوله تعالى: « وبين حميم آن » . [ الرحمن: 44 ] . « وتغشى وجوههم النار » أي تضرب « وجوههم النار » فتغشيها.

 

الآية: 51 ( ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب )

 

قوله تعالى: « ليجزي الله كل نفس ما كسبت » أي بما كسبت. « إن الله سريع الحساب » تقدم.

 

الآية: 52 ( هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب )

 

قوله تعالى: « هذا بلاغ للناس » أي هذا الذي أنزلنا إليك بلاغ؛ أي تبليغ وعظة. « ولينذروا به » أي ليخوفوا عقاب الله عز وجل، وقرئ. « ولينذروا » بفتح الياء والذال، يقال: نذرت بالشيء أنذر إذا علمت به فاستعددت له، ولم يستعملوا منه مصدرا كما لم يستعملوا من عسى وليس، وكأنهم استغنوا بأن والفعل كقولك: سرني أن نذرت بالشيء. « وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب » أي وليعلموا وحدانية الله بما أقام من الحجج والبراهين. « وليذكر أولو الألباب » أي وليتعظ أصحاب العقول. وهذه اللامات في « ولينذروا » « وليعلموا » « وليذكر » متعلقة بمحذوف، التقدير: ولذلك أنزلناه. وروي يمان بن رئاب أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وسئل بعضهم هل لكتاب الله عنوان؟ فقال: نعم؛ قيل: وأين هو؟ قال قوله تعالى: « هذا بلاغ للناس ولينذروا به » إلى آخرها. تم تفسير سورة إبراهيم عليه السلام والحمد لله.