الجزء الرابع عشر

 

سورة الحجر

 

الآية: 1 ( الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين )

 

تقدم معناه. و « الكتاب » قيل فيه: إنه اسم لجنس الكتب المتقدمة من التوراة والإنجيل، ثم قرنهما بالكتاب المبين. وقيل: الكتاب هو القرآن، جمع له بين الاسمين.

 

الآية: 2 ( ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين )

 

« رب » لا تدخل على الفعل، فإذا لحقتها « ما » هيأتها للدخول على الفعل تقول: ربما قام زيد، وربما يقوم زيد. ويجوز أن تكون « ما » نكرة بمعنى شيء، و « يود » صفة له؛ أي رب شيء يود الكافر. وقرأ نافع وعاصم « ربما » مخفف الباء. الباقون مشددة، وهما لغتان. قال أبو حاتم: أهل الحجاز يخففون ربما؛ قال الشاعر:

ربَّما ضربة بسيف صقيل بين بصرى وطعنة نجلاء

وتميم وقيس وربيعة يثقلونها. وحكي فيها: رَبَّمَا ورَبَمَا، ورُّبَّتَمَا ورُّبَتَمَا، بتخفيف الباء وتشديدها أيضا. وأصلها أن تستعمل في القليل وقد تستعمل في الكثير؛ أي يود الكفار في أوقات كثيرة لو كانوا مسلمين؛ قاله الكوفيون. ومنه قول الشاعر:

ألا ربما أهدت لك العين نظرة قصاراك منها أنها عنك لا تجدي

وقال بعضهم: هي للتقليل في هذا الموضع؛ لأنهم قالوا ذلك في بعض المواضع لا في كلها؛ لشغلهم بالعذاب، والله أعلم. قال: « ربما يود » وهي إنما تكون لما وقع؛ لأنه لصدق الوعد كأنه عيان قد كان. وخرج الطبراني أبو القاسم من حديث جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن ناسا من أمتي يدخلون النار بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء الله أن يكونوا ثم يعيرهم أهل الشرك فيقولون ما نرى ما كنتم تخالفونا فيه من تصديقكم وإيمانكم نفعكم فلا يبقى موحد إلا أخرجه الله من النار - ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم - « ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين » ) . قال الحسن « إذا رأى المشركون المسلمين وقد دخلوا الجنة ومأواهم في النار تمنوا أنهم كانوا مسلمين. وقال الضحاك: هذا التمني إنما هو عند المعاينة في الدنيا حين تبين لهم الهدي من الضلالة. وقيل: في القيامة إذا رأوا كرامة المؤمنين وذل الكافرين.»

 

الآية: 3 ( ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون )

 

قوله تعالى: « ذرهم يأكلوا ويتمتعوا » تهديد لهم. « ويلههم الأمل » أي يشغلهم عن الطاعة. يقال: ألهاه عن كذا أي شغله. ولهي هو عن الشيء يلهى. « فسوف يعلمون » إذا رأوا القيامة وذاقوا وبال ما صنعوا. وهذه الآية منسوخة بالسيف.

 

في مسند البزار عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أربعة من الشقاء جمود العين وقساوة القلب وطول الأمل والحرص على الدنيا ) . وطول الأمل داء عضال ومرض مزمن، ومتى تمكن من القلب فسد مزاجه واشتد علاجه، ولم يفارقه داء ولا نجح فيه دواء، بل أعيا الأطباء ويئس من برئه الحكماء والعلماء. وحقيقة الأمل: الحرص على الدنيا والانكباب عليها، والحب لها والإعراض عن الآخرة. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( نجا أول هذه الأمة باليقين والزهد ويهلك أخرها بالبخل والأمل ) . ويروى عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قام على درج مسجد دمشق فقال: ( يا أهل دمشق، ألا تسمعون من أخ لكم ناصح، إن من كان قبلكم كانوا يجمعون كثيرا ويبنون مشيدا ويأملون بعيدا، فأصبح جمعهم بورا وبنيانهم قبورا وأملهم غرورا. هذه عاد قد ملأت البلاد أهلا ومالا وخيلا ورجالا، فمن يشتري مني اليوم تركتهم بدرهمين! وأنشد:

يا ذا المؤمل أمالا وإن بعدت منه ويزعم أن يحظى بأقصاها

أنى تفوز بما ترجوه ويك وما أصبحت في ثقة من نيل أدناها

وقال الحسن: ( ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل ) . وصدق رضي الله عنه! فالأمل يكسل عن العمل ويورث التراخي والتواني، ويعقب التشاغل والتقاعس، ويخلد إلى الأرض ويميل إلى الهوى. وهذا أمر قد شوهد بالعيان فلا يحتاج إلى بيان ولا يطلب صاحبه ببرهان؛ كما أن قصر الأمل يبعث على العمل، ويحيل على المبادرة، ويحث على المسابقة.

 

الآية: 4 ( وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم )

 

أي أجل مؤقت كتب لهم في اللوح المحفوظ.

 

الآية: 5 ( ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون )

 

« من » صلة؛ كقولك: ما جاءني من أحد. أي لا تتجاوز أجلها فتزيد عليه، ولا تتقدم قبله. ونظيره قوله تعالى: « فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون » [ الأعراف: 34 ] .

 

الآيتان: 6 - 7 ( وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون، لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين )

 

قاله كفار قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم على وجهة الاستهزاء، ثم طلبوا منه إتيان الملائكة دلالة على صدقه. و « لوما » تحضيض على الفعل كلولا وهلا. وقال الفراء: الميم في « لوما » بدل من اللام في لولا. ومثله استولى على الشيء واستومى عليه، ومثله خالمته وخاللته، فهو خلي وخلمي؛ أي صديقي. وعلى هذا يجوز « لوما » بمعنى الخبر، تقول: لوما زيد لضرب عمرو. قال الكسائي: لولا ولوما سواء في الخبر والاستفهام.

قال ابن مقبل:

لوما الحياء ولوما الدين عبتكما ببعض ما فيكما إذ عبتما عَوَري

يريد لولا الحياء. وحكى النحاس لوما ولولا وهلا واحد. وأنشد أهل اللغة على ذلك:

تعدون عقر النيب أفضل مجدكم بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا

أي هلا تعدون الكمي المقنعا.

 

الآية: 8 ( ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين )

 

قرأ حفص وحمزة والكسائي « ما ننزل الملائكة إلا بالحق » واختاره أبو عبيد. وقرأ أبو بكر والمفضل « ما تُنَزَّل الملائكة » . الباقون « ما يَنَزَّل الملائكة » وتقديره: ما تتنزل بتاءين حذفت إحداهما تخفيفا، وقد شدد التاء البزي، واختاره أبو حاتم اعتبارا بقوله: « تنزل الملائكة والروح » [ القدر: 4 ] . ومعنى « إلا بالحق » إلا بالقرآن. وقيل بالرسالة؛ عن مجاهد. وقال الحسن: إلا بالعذاب إن لم يؤمنوا. « وما كانوا إذا منظرين » أي لو تنزلت الملائكة بإهلاكهم لما أمهلوا ولا قبلت لهم توبة. وقيل: المعنى لو تنزلت الملائكة تشهد لك فكفروا بعد ذلك لم ينظروا. وأصل « إذا » إذ أن - ومعناه حينئذ - فضم إليها أن، واستثقلوا الهمزة فحذفوها.

 

الآية: 9 ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون )

 

قوله تعالى: « الذكر » يعني القرآن. « وإنا له لحافظون » من أن يزاد فيه أو ينقص منه. قال قتادة وثابت البناني: حفظه الله من أن تزيد فيه الشياطين باطلا أو تنقص منه حقا؛ فتولى سبحانه حفظه فلم يزل محفوظا، وقال في غيره: « بما استحفظوا » [ المائدة: 44 ] ، فوكل حفظه إليهم فبدلوا وغيروا. أنبأنا الشيخ الفقيه الإمام أبو القاسم عبدالله عن أبيه الشيخ الفقيه الإمام المحدث أبي الحسن علي بن خلف بن معزوز الكومي التلمساني قال: قرئ على الشيخة العالمة فخر النساء شهدة بنت أبي نصر أحمد بن الفرج الدينوري وذلك بمنزلها بدار السلام في آخر جمادى الآخرة من سنة أربع وستين وخمسمائة، قيل لها: أخبركم الشيخ الأجل العامل نقيب النقباء أبو الفوارس طراد بن محمد الزيني قراءة عليه وأنت تسمعين سنة تسعين وأربعمائة، أخبرنا علي بن عبدالله بن إبراهيم حدثنا أبو علي عيسى بن محمد بن أحمد بن عمر بن عبدالملك بن عبدالعزيز بن جريج المعروف بالطوماري حدثنا الحسين بن فهم قال: سمعت يحيى بن أكثم يقول: كان للمأمون - وهو أمير إذ ذاك - مجلس نظر، فدخل في جملة الناس رجل يهودي حسن الثوب حسن الوجه طيب الرائحة، قال: فتكلم فأحسن الكلام والعبارة، قال: فلما تقوض المجلس دعاه المأمون فقال له: إسرائيلي؟ قال نعم. قال له: أسلم حتى أفعل بك وأصنع، ووعده. فقال: ديني ودين آبائي! وانصرف. قال: فلما كان بعد سنة جاءنا مسلما، قال: فتكلم على الفقه فأحسن الكلام؛ فلما تقوض المجلس دعاه المأمون وقال: ألست صاحبنا بالأمس؟ قال له: بلى. قال: فما كان سبب إسلامك؟ قال: انصرفت من حضرتك فأحببت أن أمتحن هذه الأديان، وأنت تراني حسن الخط، فعمدت إلى التوراة فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها الكنيسة فاشتريت مني، وعمدت إلى الإنجيل فكتب نسخ فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها البيعة فاشتريت مني، وعمدت إلى القرآن فعملت ثلاث نسخ وزدت فيها ونقصت، وأدخلتها الوراقين فتصفحوها، فلما أن وجدوا فيها الزيادة والنقصان رموا بها فلم يشتروها؛ فعلمت أن هذا كتاب محفوظ، فكان هذا سبب إسلامي. قال يحيى بن أكثم: فحججت تلك السنة فلقيت سفيان بن عيينة فذكرت له الخبر فقال لي: مصداق هذا في كتاب الله عز وجل. قال قلت: في أي موضع؟ قال: في قول الله تبارك وتعالى في التوراة والإنجيل: « بما استحفظوا من كتاب الله » [ المائدة: 44 ] ، فجعل حفظه إليهم فضاع، وقال عز وجل: « إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون » فحفظه الله عز وجل علينا فلم يضع. وقيل: « وإنا له لحافظون » أي لمحمد صلى الله عليه وسلم من أن يتقول علينا أو نتقول عليه. أو « وإنا له لحافظون » من أن يكاد أو يقتل. نظيره « والله يعصمك من الناس » [ المائدة: 67 ] . و « نحن » يجوز أن يكون موضعه رفعا بالابتداء و « نزلنا » الخبر. والجملة خبر « إن » . ويجوز أن يكون « نحن » تأكيدا لاسم « إن » في موضع نصب، ولا تكون فاصلة لأن الذي بعدها ليس بمعرفة وإنما هو جملة، والجمل تكون نعوتا للنكرات فحكمها حكم النكرات.

 

الآية: 10 ( ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين )

 

المعنى: ولقد أرسلنا من قبلك رسلا، فحذف. والشيع جمع شيعة وهي الأمة، أي في أممهم؛ قاله ابن عباس وقتادة. الحسن: في فرقهم. والشيعة: الفرقة والطائفة من الناس المتآلفة المتفقة الكلمة. فكأن الشيع الفرق؛ ومنه قوله تعالى: « أو يلبسكم شيعا » [ الأنعام: 65 ] . وأصله مأخوذ من الشياع وهو الحطب الصغار يوقد به الكبار - كما تقدم في « الأنعام » . - وقال الكلبي: إن الشيع هنا القرى.

 

الآية: 11 ( وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون )

 

تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي كما فعل بك هؤلاء المشركون فكذلك فعل بمن قبلك من الرسل.

 

الآيتان: 12 - 13 ( كذلك نسلكه في قلوب المجرمين، لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين )

 

قوله تعالى: « كذلك نسلكه » أي الضلال والكفر والاستهزاء والشرك. « في قلوب المجرمين » من قومك؛ عن الحسن وقتادة وغيرهما. أي كما سلكناه في قلوب من تقدم من شيع الأولين كذلك نسلكه في قلوب مشركي قومك حتى لا يؤمنوا بك، كما لم يؤمن من قبلهم برسلهم. وروى ابن جريج عن مجاهد قال: نسلك التكذيب. والسلك: إدخال الشيء في الشيء كإدخال الخيط في المخيط. يقال: سلكه يسلكه سلكا وسلوكا، وأسلكه إسلاكا. وسلك الطريق سلوكا وسلكا وأسلكه دخله، والشيء في غيره مثله، والشيء كذلك والرمح، والخيط في الجوهر؛ كله فعل وأفعل. وقال عدي بن زيد:

وقد سلكوك في يوم عصيب

والسلك ( بالكسر ) الخيط. وفي الآية رد على القدرية والمعتزلة. وقيل: المعنى نسلك القرآن في قلوبهم فيكذبون به. وقال الحسن ومجاهد وقتادة القول الذي عليه أكثر أهل التفسير، وهو ألزم حجة على المعتزلة. وعن الحسن أيضا: نسلك الذكر إلزاما للحجة؛ ذكره الغزنوي. « وقد خلت سنة الأولين » أي مضت سنة الله بإهلاك الكفار، فما أقرب هؤلاء من الهلاك. وقيل: « خلت سنة الأولين » بمثل ما فعل هؤلاء من التكذيب والكفر، فهم يقتدون بأولئك.

 

الآيتان: 14 - 15 ( ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون، لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون )

 

يقال: ظل يفعل كذا، أي يفعله بالنهار. والمصدر الظلول. أي لو أجيبوا إلى ما اقترحوا من الآيات لأصروا على الكفر وتعللوا بالخيالات؛ كما قالوا للقرآن المعجز: إنه سحر. « يعرجون » من عرج يعرج أي صعد. والمعارج المصاعد. أي لو صعدوا إلى السماء وشاهدوا الملكوت والملائكة لأصروا على الكفر؛ عن الحسن وغيره. وقيل: الضمير في « عليهم » للمشركين. وفي « فظلوا » للملائكة، تذهب وتجيء. أي لو كشف لهؤلاء حتى يعاينوا أبوابا في السماء تصعد فيها الملائكة وتنزل لقالوا: رأينا بأبصارنا ما لا حقيقة له؛ عن ابن عباس وقتادة. ومعنى « سكرت » سدت بالسحر؛ قاله ابن عباس والضحاك. وقال الحسن: سحرت. الكلبي: أغشيت أبصارنا؛ وعنه أيضا عميت. قتادة: أخذت. وقال المؤرج: دير بنا من الدوران؛ أي صارت أبصارنا سكرى. جويبر: خدعت. وقال أبو عمرو بن العلاء: « سكرت » غشيت وغطيت. ومنه قول الشاعر:

وطلعت شمس عليها مغفر وجعلت عين الحرور تسكر

وقال مجاهد: « سكرت » حبست. ومنه قول أوس بن حجر:

فصرت على ليلة ساهره فليست بطلق ولا ساكره

قلت: وهذه أقوال متقاربة يجمعها قولك: منعت. قال ابن عزيز: « سكرت أبصارنا » سدت أبصارنا؛ هو من قولك، سكرت النهر إذا سددته. ويقال: هو من سكر الشراب، كأن العين يلحقها ما يلحق الشارب إذا سكر. وقرأ ابن كثير « سكرت » بالتخفيف، والباقون بالتشديد. قال ابن الأعرابي: سكرت ملئت. قال المهدوي: والتخفيف والتشديد في « سكرت » ظاهران، التشديد للتكثير والتخفيف يؤدي عن معناه. والمعروف أن « سكر » لا يتعدى. قال أبو علي: يجوز أن يكون سمع متعديا في البصر. ومن قرأ « سكرت » فإنه شبه ما عرض لأبصارهم بحال السكران، كأنها جرت مجرى السكران لعدم تحصيله. وقد قيل: إنه بالتخفيف [ من ] سكر الشراب، وبالتشديد أخذت، ذكرهما الماوردي. وقال النحاس: والمعروف من قراءة مجاهد والحسن « سكرت » بالتخفيف. قال الحسن: أي سحرت وحكى أبو عبيد عن أبي عبيدة أنه يقال: سحرت أبصارهم إذا غشيها سمادير حتى لا يبصروا. وقال الفراء: من قرأ « سكرت » أخذه من سكور الريح. قال النحاس: وهذه الأقوال متقاربة. والأصل فيها ما قال أبو عمرو بن العلاء رحمه الله تعالى، قال: هو من السكر في الشراب. وهذا قول حسن؛ أي غشيهم ما غطى أبصارهم كما غشي السكران ما غطى عقله. وسكور الريح سكونها وفتورها؛ فهو يرجع إلى معنى التحيير.

 

الآية: 16 ( ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين )

 

لما ذكر كفر الكافرين وعجز أصنامهم ذكر كمال قدرته ليستدل بها على وحدانيته. والبروج: القصور والمنازل. قال ابن عباس: أي جعلنا في السماء بروج الشمس والقمر؛ أي منازلهما. وأسماء هذه البروج: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت. والعرب تعد المعرفة لمواقع النجوم وأبوابها من أجل العلوم، ويستدلون بها على الطرقات والأوقات والخصب والجدب. وقالوا: الفلك اثنا عشر برجا، كل برج ميلان ونصف. وأصل البروج الظهور ومنه تبرج المرأة بإظهار زينتها. وقد تقدم هذا المعنى في النساء. وقال الحسن وقتادة: البروج النجوم، وسميت بذلك لظهورها. وارتفاعها. وقيل: الكواكب العظام؛ قال أبو صالح: يعني السبعة السيارة. وقال قوم: « بروجا » ؛ أي قصورا وبيوتا فيها الحرس، خلقها الله في السماء. فالله أعلم. « وزيناها » يعني السماء؛ كما قال في سورة الملك: « ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح » [ الملك: 5 ] . « للناظرين » للمعتبرين والمتفكرين.

 

الآية: 17 ( وحفظناها من كل شيطان رجيم )

 

أي مرجوم. والرجم الرمي بالحجارة. وقيل: الرجم اللعن والطرد. وقد تقدم. وقال الكسائي: كل رجيم في القرآن فهو بمعنى الشتم. وزعم الكلبي أن السماوات كلها لم تحفظ من الشياطين إلى زمن عيسى، فلما بعث الله تعالى عيسى حفظ منها ثلاث سماوات إلى مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحفظ جميعها بعد بعثه وحرست منهم بالشهب. وقاله ابن عباس رضي الله عنه. قال ابن عباس: ( وقد كانت الشياطين لا يحجبون عن السماء، فكانوا يدخلونها ويلقون أخبارها على الكهنة، فيزيدون عليها تسعا فيحدثون بها أهل الأرض؛ الكلمة حق والتسع باطل؛ فإذا رأوا شيئا مما قالوه صدقوهم فيما جاؤوا به، فلما ولد عيسى بن مريم عليهما السلام منعوا من ثلاث سماوات، فلما ولد محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السماوات كلها، فما منهم من أحد يريد استراق السمع إلا رمي بشهاب؛ على ما يأتي.

 

الآية: 18 ( إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين )

 

أي لكن من استرق السمع، أي الخطفة اليسيرة، فهو استثناء منقطع. وقيل، هو متصل، أي إلا ممن استرق السماع. أي حفظنا السماء من الشياطين أن تسمع شيئا من الوحي وغيره؛ إلا من استرق السمع فإنا لم نحفظها منه أن تسمع الخبر من أخبار السماء سوى الوحي، فأما الوحي فلا تسمع منه شيئا؛ لقوله: « إنهم عن السمع لمعزولون » [ الشعراء: 212 ] . وإذا استمع الشياطين إلى شيء ليس بوحي فإنهم يقذفونه إلى الكهنة في أسرع من طرفة عين، ثم تتبعهم الشهب فتقتلهم أو تخبلهم؛ ذكره الحسن وابن عباس.

 

قوله تعالى: « فأتبعه شهاب مبين » أتبعه: أدركه ولحقه. شهاب: كوكب مضيء. وكذلك شهاب ثاقب. وقوله: « بشهاب قبس » [ النمل: 7 ] بشعلة نار في رأس عود؛ قاله ابن عزيز. وقال ذو الرمة:

كأنه كوكب في إثر عفرية مسوم في سواد الليل منقضب

وسمي الكوكب شهابا لبريقه، يشبه النار. وقيل: شهاب لشعلة من نار، قبس لأهل الأرض، فتحرقهم ولا تعود إذا أحرقت كما إذا أحرقت النار لم تعد، بخلاف الكوكب فإنه إذا أحرق عاد إلى مكانه. قال ابن عباس: تصعد الشياطين أفواجا تسترق السمع فينفرد المارد منها فيعلو، فيرمى بالشهاب فيصيب جبهته أو أنفه أو ما شاء الله فيلتهب، فيأتي أصحابه وهو يلتهب فيقول: إنه كان من الأم كذا وكذا، فيذهب أولئك إلى إخوانهم من الكهنة فيزيدون عليها تسعا، فيحدثون بها أهل الأرض؛ الكلمة حق والتسع باطل. فإذا رأوا شيئا مما قالوا قد كان صدقوهم بكل ما جاؤوا به من كذبهم. وسيأتي هذا المعنى مرفوعا في سورة « سبأ » إن شاء الله تعالى.

واختلف في الشهاب هل يقتل أم لا. فقال ابن عباس: الشهاب يجرح ويحرق ويخبل ولا يقتل. وقال الحسن وطائفة: يقتل؛ فعلى هذا القول في قتلهم بالشهب قبل إلقاء السمع إلى الجن قولان: أحدهما: أنهم يقتلون قبل إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم؛ فعلى هذا لا تصل أخبار السماء إلى غير الأنبياء، ولذلك انقطعت الكهانة. والثاني: أنهم يقتلون بعد إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم من الجن؛ ولذلك ما يعودون إلى استراقه، ولو لم يصل لانقطع الاستراق وانقطع الإحراق؛ ذكره الماوردي

قلت: والقول الأول أصح على ما يأتي بيانه في « الصافات » . واختلف هل كان رمي بالشهب قبل المبعث؛ فقال الأكثرون نعم. وقيل لا، وإنما ذلك بعد المبعث. وسيأتي بيان هذه المسألة في سورة « الجن » إن شاء الله تعالى. وفي « الصافات » أيضا. قال الزجاج: والرمي بالشهب من آيات النبي صلى الله عليه وسلم مما حدث بعد مولده؛ لأن الشعراء في القديم لم يذكروه في أشعارهم، ولم يشبهوا الشيء السريع به كما شبهوا بالبرق وبالسيل. ولا يبعد أن يقال: انقضاض الكواكب كان في قديم الزمان ولكنه لم يكن رجوما للشياطين، ثم صار رجوما حين ولد النبي صلى الله عليه وسلم. وقال العلماء: نحن نرى انقضاض الكواكب، فيجوز أن يكون ذلك كما نرى ثم يصير نارا إذا أدرك الشيطان. ويجوز أن يقال: يرمون بشعلة من نار من الهوى فيخيل إلينا أنه نجم سرى. والشهاب في اللغة النار الساطعة. وذكر أبو داود عن عامر الشعبي قال: لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم رجمت الشياطين بنجوم لم تكن ترجم بها قبل، فأتوا عبد ياليل بن عمرو الثقفي فقالوا: إن الناس قد فزعوا وقد أعتقوا رقيقهم وسيبوا أنعامهم لما رأوا في النجوم. فقال لهم - وكان رجلا أعمى - : لا تعجلوا، وانظروا فإن كانت النجوم التي تعرف فهي عند فناء الناس، وإن كانت لا تعرف فهي من حدث. فنظروا فإذا هي نجوم لا تعرف، فقالوا: هذا من حدث. فلم يلبثوا حتى سمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم.

 

الآيتان: 19 - 20 ( والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون، وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين )

 

قوله تعالى: « والأرض مددناها » هذا من نعمه أيضا، ومما يدل على كمال قدرته. قال ابن عباس: بسطناها على وجه الماء؛ كما قال: « والأرض بعد ذلك دحاها » [ النازعات: 30 ] أي بسطها. وقال: « والأرض فرشناها فنعم الماهدون » [ الذاريات: 48 ] . وهو يرد على من زعم أنها كالكرة. وقد تقدم. « وألقينا فيها رواسي » جبالا ثابتة لئلا تتحرك بأهلها. « وأنبتنا فيها من كل شيء موزون » أي مقدر معلوم؛ قاله ابن عباس وسعيد بن جبير. وإنما قال « موزون » لأن الوزن يعرف به مقدار الشيء. قال الشاعر:

قد كنت قبل لقائكم ذا مِرَّة عندي لكل مخاصم ميزانه

وقال قتادة: موزون يعني مقسوم. وقال مجاهد: موزون معدود؛ ويقال: هذا كلام موزون؛ أي منظوم غير منتثر. فعلى هذا أي أنبتنا في الأرض ما يوزن من الجواهر والحيوانات والمعادن. وقد قال الله عز وجل في الحيوان: « وأنبتها نباتا حسنا » [ آل عمران: 37 ] . والمقصود من الإنبات الإنشاء والإيجاد. وقيل: « أنبتنا فيها » أي في الجبال « من كل شيء موزون » من الذهب والفضة والنحاس والرصاص والقصدير، حتى الزرنيخ والكحل، كل ذلك يوزن وزنا. روي معناه عن الحسن وابن زيد. وقيل: أنبتنا في الأرض الثمار مما يكال ويوزن. وقيل: ما يوزن فيه الأثمان لأنه أجل قدرا وأعم نفعا مما لا ثمن له. « وجعلنا لكم فيها معايش » يعني المطاعم والمشارب التي يعيشون بها؛ واحدها معيشة ( بسكون الياء ) . ومنه قول جرير:

تكلفني معيشة آل زيد ومن لي بالمرقق والصناب

والأصل معيشة على مفعلة ( بتحريك الياء ) . وقد تقدم في الأعراف. وقيل: إنها الملابس؛ قاله الحسن. وقيل: إنها التصرف في أسباب الرزق مدة الحياة. قال الماوردي: وهو الظاهر. « ومن لستم له برازقين » يريد الدواب والأنعام؛ قاله مجاهد. وعنده أيضا هم العبيد والأولاد الذين قال الله فيهم: « نحن نرزقهم وإياكم » [ الإسراء: 31 ] ولفظ « من » يجوز أن يتناول العبيد والدواب إذا اجتمعوا؛ لأنه إذا اجتمع من يعقل وما لا يعقل، غلب من يعقل. أي جعلنا لكم فيها معايش وعبيدا وإماء ودواب وأولادا نرزقهم ولا ترزقونهم. فـ « من » على هذا التأويل في موضع نصب؛ قال معناه مجاهد وغيره. وقيل: أراد به الوحش. قال سعيد: قرأ علينا منصور « ومن لستم له برازقين » قال: الوحش. فـ « من » على هذا تكون لما لا يعقل؛ مثل « فمنهم من يمشي على بطنه » [ النور: 45 ] الآية. وهي في محل خفض عطفا على الكاف والميم في قوله: « لكم » . وفيه قبح عند البصريين؛ فإنه لا يجوز عندهم عطف الظاهر على المضمر إلا بإعادة حرف الجر؛ مثل مررت به ويزيد. ولا يجوز مررت به وزيد إلا في الشعر. كما قال:

فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا فاذهب فما بك والأيام من عجب

وقد مضى هذا المعنى في « البقرة » وسورة « النساء » .

 

الآية: 21 ( وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم )

 

قوله تعالى: « وإن من شيء إلا عندنا خزائنه » أي وإن من شيء من أرزاق الخلق ومنافعهم إلا عندنا خزائنه؛ يعني المطر المنزل من السماء، لأن به نبات كل شيء. قال الحسن: المطر خزائن كل شيء. وقيل: الخزائن المفاتيح، أي في السماء مفاتيح الأرزاق؛ قاله الكلبي. والمعنى واحد. « وما ننزله إلا بقدر معلوم » أي ولكن لا ننزله إلا على حسب مشيئتنا وعلى حسب حاجة الخلق إليه؛ كما قال: « ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء » [ الشورى: 27 ] . وروي عن ابن مسعود والحكم بن عيينة وغيرهما أنه ليس عام أكثر مطرا من عام، ولكن الله يقسمه كيف شاء، فيمطر قوم ويحرم آخرون، وربما كان المطر. في البحار والقفار.

والخزائن جمع الخزانة، وهو الموضع الذي يستر فيه الإنسان ماله والخزانة أيضا مصدر خزن يخزن. وما كان في خزانة الإنسان كان معدا له. فكذلك ما يقدر عليه الرب فكأنه معد عنده؛ قاله القشيري. وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أنه قال: في العرش مثال كل شيء خلقه الله في البر والبحر. وهو تأويل قوله تعالى: « وإن من شيء إلا عندنا خزائنه » . والإنزال بمعنى الإنشاء والإيجاد؛ كقوله: « وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج » وقوله: « وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد » [ الحديد: 25 ] . وقيل: الإنزال بمعنى الإعطاء، وسماه إنزالا لأن أحكام الله إنما تنزل من السماء.

 

الآية: 22 ( وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين )

 

قوله تعالى: « وأرسلنا الرياح » قراءة العامة « الرياح » بالجمع. وقرأ حمزة بالتوحيد؛ لأن معنى الريح الجمع أيضا وإن كان لفظها لفظ الواحد. كما يقال: جاءت الريح من كل جانب. كما يقال: أرض سباسب وثوب أخلاق. وكذلك تفعل العرب في كل شيء اتسع. وأما وجه قراءة العامة فلأن الله تعالى نعتها بـ « لواقح » وهي جمع. ومعنى لواقح حوامل؛ لأنها تحمل الماء والتراب والسحاب والخير والنفع. قال الأزهري: وجعل الريح لاقحا لأنها تحمل السحاب؛ أي تقله وتصرفه ثم تمريه فتستدره، أي تنزله؛ قال الله تعالى: « حتى إذا أقلت سحابا ثقالا » [ الأعراف: 57 ] أي حملت. وناقة لاقح ونوق لواقح إذا حملت الأجنة في بطونها. وقيل: لواقح بمعنى ملقحة وهو الأصل، ولكنها لا تلقح إلا وهي في نفسها لاقح، كأن الرياح لقحت بخير. وقيل: ذوات لقح، وكل ذلك صحيح؛ أي منها ما يلقح الشجر؛ كقولهم: عيشة راضية؛ أي فيها رضا، وليل نائم؛ أي فيه نوم. ومنها ما تأتي بالسحاب. يقال: لقحت الناقة ( بالكسر ) لقحا ولقاحا ( بالفتح ) فهي لاقح. وألقحها الفحل أي ألقى إليها الماء فحملته؛ فالرياح كالفحل للسحاب. قال الجوهري: ورياح لواقح ولا يقال ملاقح، وهو من النوادر. وحكى المهدوي عن أبي عبيدة: لواقح بمعنى ملاقح، ذهب إلى أنه جمع ملقحة وملقح، ثم حذفت زوائده. وقيل: هو جمع لاقحة ولاقح، على معنى ذات اللقاح على النسب. ويجوز أن يكون معنى لاقح حاملا. والعرب تقول للجنوب: لاقح وحامل، وللشمال حامل وعقيم. وقال عبيد بن عمير: يرسل الله المبشرة فتقم الأرض قما، ثم يرسل المثيرة فتثير السحاب، ثم يرسل المؤلفة فتؤلفه، ثم يبعث اللواقح فتلقح الشجر. وقيل: الريح الملاقح التي تحمل الندى فتمجه في السحاب، فإذا اجتمع فيه صار مطرا. وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( الريح الجنوب من الجنة وهي الريح اللواقح التي ذكرها الله في كتابه وفيها منافح للناس ) . وروي عنه عليه السلام أنه قال: ( ما هبت جنوب إلا أنبع الله بها عينا غدقة ) . وقال أبو بكر بن عياش: لا تقطر قطرة من السحاب إلا بعد أن تعمل الرياح الأربع فيها؛ فالصبا تهيجه، والدبور تلقحه، والجنوب تدره، والشمال تفرقه.

 

روى ابن وهب وابن القاسم وأشهب وابن عبدالحكم عن مالك - واللفظ لأشهب - قال مالك: قال الله تعالى: « وأرسلنا الرياح لواقح » فلقاح القمح عندي أن يحبب ويسنبل، ولا أدري ما ييبس في أكمامه، ولكن يحبب حتى يكون لو يبس حينئذ لم يكن فساد الأخير فيه. ولقاح الشجر كلها أن تثمر ثم يسقط منها ما يسقط ويثبت ما يثبت، وليس ذلك بأن تورد. قال ابن العربي: إنما عول مالك في هذا التفسير على تشبيه لقاح الشجر بلقاح الحمل، وأن الولد إذا عقد وخلق ونفخ فيه الروح كان بمنزلة تحبب الثمر وتسنبله؛ لأنه سمي باسم تشترك فيه كل حاملة وهو اللقاح، وعليه جاء الحديث ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الحب حتى يشتد ) . قال ابن عبدالبر: الإبار عند أهل العلم في النخل التلقيح، وهو أن يؤخذ شيء من طلع [ ذكور ] النخل فيدخل بين ظهراني طلع الإناث. ومعنى ذلك في سائر الثمار طلوع الثمرة من التين وغيره حتى تكون الثمرة مرئية منظورا إليها. والمعتبر عند مالك وأصحابه فيما يذكر من الثمار التذكير، وفيما لا يذكر أن يثبت من نواره ما يثبت ويسقط ما يسقط. وحد ذلك في الزرع ظهوره من الأرض؛ قاله مالك. وقد روي عنه أن إباره أن يحبب. ولم يختلف العلماء أن الحائط إذا انشق طلع إناثه فأخر إباره وقد أبر غيره ممن حال مثل حاله، أن حكمه حكم ما أبر؛ لأنه قد جاء عليه وقت الإبار وثمرته ظاهرة بعد تغيبها في الحب. فإن أبر بعض الحائط كان ما لم يؤبر تبعا له. كما أن الحائط إذا بدا صلاحه كان سائر الحائط تبعا لذلك الصلاح في جواز بيعه.

 

روى الأئمة كلهم عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها إلا أن يشترط المبتاع. ومن ابتاع عبدا فماله للذي باعه إلا أن يشترطه المبتاع ) . قال علماؤنا: إنما لم يدخل الثمر المؤبر مع الأصول في البيع إلا بالشرط؛ لأنه عين موجودة يحاط بها أمن سقوطها غالبا. بخلاف التي لم تؤبر؛ إذ ليس سقوطها مأمونا فلم يتحقق لها وجود، فلم يجز للبائع اشتراطها ولا استثناؤها؛ لأنها كالجنين. وهذا هو المشهور من مذهب مالك. وقيل: يجوز استثناؤها؛ هو قول الشافعي.

لو اشتري النخل وبقي الثمر للبائع جاز لمشتري الأصل شراء الثمرة قبل طيبها على مشهور قول مالك، ويرى لها حكم التبعية وإن أفردت بالعقد. وعنه في رواية: لا يجوز. وبذلك قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأهل الظاهر وفقهاء الحديث. وهو الأظهر من أحاديث النهي عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها.

 

ومما يتعلق بهذا الباب النهي عن بيع الملاقح؛ والملاقح الفحول من الإبل، الواحد ملقح. والملاقح أيضا الإناث التي في بطونها أولادها، الواحدة ملقحة ( بفتح القاف ) . والملاقيح ما في بطون النوق من الأجنة، الواحدة ملقوحة؛ من قولهم: لقحت؛ كالمحموم من حم، والمجنون من جن. وفي هذا جاء النهي. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه ( نهى عن المجر وهو بيع ما في بطون الإناث. ونهى عن المضامين والملاقيح ) . قال أبو عبيد: المضامين ما في البطون، وهي الأجنة. والملاقيح ما في أصلاب الفحول. وهو قول سعيد بن المسيب وغيره. وقيل بالعكس: إن المضامين ما في ظهور الجمال، والملاقيح ما في بطون الإناث. وهو قول ابن حبيب وغيره. وأي الأمرين كان، فعلماء المسلمين مجمعون على أن ذلك لا يجوز. وذكر المزني عن ابن هشام شاهدا بأن الملاقيح ما في البطون لبعض الأعراب:

منيتي ملاقحا في الأبطن تنتج ما تلقح بعد أزمن

وذكر الجوهري على ذلك شاهدا قول الراجز:

إنا وجدنا طرد الهوامل خيرا من التنان والمسائل

وعدة العام وعام قابل ملقوحة في بطن ناب حامل

 

قوله تعالى: « وأنزلنا من السماء » أي من السحاب. وكل ما علاك فأظلك يسمى سماء. وقيل: من جهة السماء. « ماء » أي قطرا. « فأسقيناكموه » أي جعلنا ذلك المطر لسقياكم ولشرب مواشيكم وأرضكم. وقيل: سقى وأسقى بمعنى. وقيل بالفرق، وقد تقدم. « وما أنتم له بخازنين » أي ليست خزائنه عندكم؛ أي نحن الخازنون لهذا الماء ننزله إذا شئنا ونمسكه إذا شئنا. ومثله « وأنزلنا من السماء ماء طهورا » [ الفرقان: 48 ] ، « وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون » [ المؤمنون: 18 ] . وقال سفيان: لستم بمانعين المطر.

 

الآية: 23 ( وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون )

 

أي الأرض ومن عليها، ولا يبقى شيء سوانا. نظيره « إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون » [ مريم: 40 ] . فملك كل شيء لله تعالى. ولكن ملك عباده أملاكا فإذا ماتوا انقطعت الدعاوى، فكان الله وارثا من هذا الوجه. وقيل: الإحياء في هذه الآية إحياء النطفة في الأرحام. فأما البعث فقد ذكره بعد هذا في قوله: « وإن ربك هو يحشرهم » [ الحجر: 25 ] .

 

الآية: 24 ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين )

 

قوله تعالى: « ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين » فيه ثمان تأويلات: « المستقدمين » في الخلق إلى اليوم، و « المستأخرين » الذين لم يخلقوا بعد؛ قاله قتادة وعكرمة وغيرهما. الثاني - « المستقدمين » الأموات، و « المستأخرين » الأحياء؛ قاله ابن عباس والضحاك. الثالث: « المستقدمين » من تقدم أمة محمد، و « المستأخرين » أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ قاله مجاهد. الرابع - « المستقدمين » في الطاعة والخير، و « المستأخرين » في المعصية والشر؛ قاله الحسن وقتادة أيضا. الخامس - « المستقدمين » في صفوف الحرب، و « المستأخرين » فيها؛ قاله سعيد بن المسيب. السادس: « المستقدمين » من قتل في الجهاد، و « المستأخرين » من لم يقتل، قاله القرظي. السابع: « المستقدمين » أول الخلق، و « المستأخرين » آخر الخلق، قال الشعبي. الثامن: « المستقدمين » في صفوف الصلاة، و « المستأخرين » فيها بسبب النساء. وكل هذا معلوم الله تعالى؛ فإنه عالم بكل موجود ومعدوم، وعالم بمن خلق وما هو خالقه إلى يوم القيامة. إلا أن القول الثامن هو سبب نزول الآية؛ لما رواه النسائي والترمذي عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال: « كانت امرأة تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم حسناء من أحسن الناس، فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها، ويتأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر، فإذا ركع نظر من تحت إبطه، فأنزل الله عز وجل « ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين » . وروي عن أبي الجوزاء ولم يذكر ابن عباس. وهو أصح. »

 

هذا يدل على فضل أول الوقت في الصلاة وعلى فضل الصف الأول؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا ) . فإذا جاء الرجل عند الزوال فنزل في الصف الأول مجاور الإمام، حاز ثلاث مراتب في الفضل: أول الوقت، والصف الأول، ومجاورة الإمام. فإن جاء عند الزوال فنزل في الصف الآخر أو فيما نزل عن الصف الأول، فقد حاز فضل أول الوقت وفاته فضل الصف الأول والمجاورة. فإن جاء وقت الزوال ونزل في الصف الأول دون ما يلي الإمام فقد حاز فضل أول الوقت وفضل الصف الأول، وفاته مجاورة الإمام. فإن جاء بعد الزوال ونزل في الصف الأول فقد فاته فضيلة أول الوقت، وحاز فضيلة الصف الأول ومجاورة الإمام. وهكذا. ومجاورة الإمام لا تكون لكل أحد، وإنما هي كما قال صلى الله عليه وسلم: ( ليلني منكم أولو الأحلام والنهى ) الحديث. فيما يلي الإمام ينبغي أن يكون لمن كانت هذه صفته، فإن نزلها غيره أخر وتقدم وهو إلى الموضع؛ لأنه حقه بأمر صاحب الشرع، كالمحراب هو موضع الإمام تقدم أو تأخر؛ قاله ابن العربي.

قلت: وعليه يحمل قول عمر رضي الله عنه: تأخر يا فلان، تقدم يا فلان؛ ثم يتقدم فيكبر. وقد روي عن كعب أن الرجل من هذه الأمة ليخر ساجدا فيغفر لمن خلفه. وكان كعب يتوخى الصف المؤخر من المسجد رجاء ذلك، ويذكر أنه وجده كذلك في التوراة. ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول. وسيأتي في سورة « الصافات » زيادة بيان لهذا الباب إن شاء الله تعالى.

 

وكما تدل هذه الآية على فضل الصف الأول في الصلاة، فكذلك تدل على فضل الصف الأول في القتال؛ فإن القيام في نحر العدو، وبيع العبد نفسه من الله تعالى لا يوازيه عمل؛ فالتقدم إليه أفضل، ولا خلاف فيه ولا خفاء به. ولم يكن أحد يتقدم في الحرب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه كان أشجع الناس. قال البراء: كنا والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي صلى الله عليه وسلم.

 

الآية: 25 ( وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم )

 

قوله تعالى: « وإن ربك هو يحشرهم » أي للحساب والجزاء. « إنه حكيم عليم » تقدم.

 

الآية: 26 ( ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون )

 

قوله تعالى: « ولقد خلقنا الإنسان » يعني آدم عليه السلام. « من صلصال » أي من طين يابس؛ عن ابن عباس وغيره. والصلصال: الطين الحر خلط بالرمل فصار يتصلصل إذا جف، فإذا طبخ بالنار فهو الفخار؛ عن أبي عبيدة. وهو قول أكثر المفسرين. وأنشد أهل اللغة:

كعدو المصلصل الجوال

وقال مجاهد: هو الطين المنتن؛ واختاره الكسائي. قال: وهو من قول العرب: صل اللحم وأصل إذا أنتن - مطبوخا كان أو نيئا - يصل صلولا. قال الحطيئة:

ذاك فتى يبذل ذا قدره لا يفسد اللحم لديه الصلول

وطين صلال ومصلال؛ أي يصوت إذا نقرته كما يصوت الحديد. فكان أول ترابا، أي متفرق الأجزاء ثم بل فصار طينا؛ ثم ترك حتى أنتن فصار حمأ مسنونا؛ أي متغيرا، ثم يبس فصار صلصالا؛ على قول الجمهور. وقد مضى في « البقرة » بيان هذا. والحمأ: الطين الأسود، وكذلك الحمأة بالتسكين؛ تقول منه: حمئت البئر حمأ ( بالتسكين ) إذا نزعت حمأتها. وحمئت البئر حمأ ( بالتحريك ) كثرت حمأتها. وأحماتها إحماء ألقيت الحمأة؛ عن ابن السكيت. وقال أبو عبيدة: الحمأة ( بسكون الميم ) مثل الكمأة. والجمع حمء، مثل تمرة وتمر. والحمأ المصدر، مثل الهلع والجزع، ثم سمي به. والمسنون المتغير. قال ابن عباس: ( هو التراب المبتل المنتن، فجعل صلصالا كالفخار ) . ومثله قول مجاهد وقتادة، قالا: المنتن المتغير؛ من قولهم: قد أسن الماء إذا تغير؛ ومنه « يتسنه » [ البقرة: 259 ] و « ماء غير آسن » [ محمد: 15 ] . ومنه قول أبي قيس بن الأسلت:

سقت صداي رضابا غير ذي أسن كالمسك فت على ماء العناقيد

وقال الفراء: هو المتغير، وأصله من قولهم: سننت الحجر على الحجر إذا حككته به. وما يخرج من الحجرين يقال له السنانة والسنين؛ ومنه المسن. قال الشاعر:

ثم خاصرتها إلى القبة الحمراء تمشي في مرمر مسنون

أي محكول مملس. حكي أن يزيد بن معاوية قال لأبيه: ألا ترى عبدالرحمن بن حسان يشبب بابنتك. فقال معاوية: وما قال؟ فقال قال:

هي زهراء مثل لؤلوة الغواص ميزت من جوهر مكنون

فقال معاوية: صدق! فقال يزيد: [ إنه يقول ] :

وإذا ما نسبتها لم تجدها في سناء من المكارم دون

فقال: صدق! فقال: أين قوله: ثم خاصرتها... البيت. فقال معاوية: كذب. وقال أبو عبيدة: المسنون المصبوب، وهو من قول العرب: سننت الماء وغيره على الوجه إذا صببته. والسن الصب. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: ( المسنون الرطب ) ؛ وهذا بمعنى المصبوب؛ لأنه لا يكون مصبوبا إلا وهو رطب. النحاس: وهذا قول حسن؛ لأنه يقال: سننت الشيء أي صببته. قال أبو عمرو بن العلاء: ومنه الأثر المروي عن عمر أنه كان يسن الماء على وجهه ولا يشنه. والشن ( بالشين ) تفريق الماء، وبالسين المهملة صبه من غير تفريق. وقال سيبويه: المسنون المصور. أخذ من سنة الوجه وهو صورته. وقال ذو الرمة:

تريك سنة وجه مفرقة ملساء ليس لها خال ولا ندب

وقال الأخفش: المسنون. المنصوب القائم؛ من قولهم: وجه مسنون إذا كان فيه طول. وقد قيل: إن الصلصال للتراب المدقق؛ حكاه المهدوي. ومن قال: إن الصلصال هو المنتن فأصله صلال، فأبدل من إحدى اللامين. « من حمأ » مفسر لجنس الصلصال؛ كقولك: أخذت هذا من رجل من العرب.

 

الآية: 27 ( والجان خلقناه من قبل من نار السموم )

 

قوله تعالى: « والجان خلقناه من قبل » أي من قبل خلق آدم. وقال الحسن: يعني إبليس، خلقه الله تعالى قبل آدم عليه السلام. وسمي جانا لتواريه عن الأعين. وفي صحيح مسلم من حديث ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لما صور الله تعالى آدم عليه السلام في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه فجعل إبليس يطيف به ينظر ما هو فلما رآه أجوف عرف أنه خلق خلقا لا يمالك ) . « من نار السموم » قال ابن مسعود: ( نار السموم التي خلق الله منها الجان جزء من سبعين جزءا من نار جهنم ) . وقال ابن عباس: ( السموم الريح الحارة التي تقتل ) . وعنه ( أنها نار لا دخان لها ) ، والصواعق تكون منها، وهي نار تكون بين السماء والحجاب. فإذا أحدث الله أمرا اخترقت الحجاب فهوت الصاعقة إلى ما أمرت. فالهدة التي تسمعون خرق ذلك الحجاب. وقال الحسن: نار السموم نار دونها حجاب، والذي تسمعون من انغطاط السحاب صوتها. وعن ابن عباس أيضا قال: ( كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم من بين الملائكة - قال - : وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار.

قلت: هذا فيه نظر؛ فإنه يحتاج إلى سند يقطع العذر؛ إذ مثله لا يقال من جهة الرأي. وقد خرج مسلم من حديث عروة عن عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم ) . فقوله: ( خلقت الملائكة من نور ) يقتضي العموم. والله أعلم. وقال الجوهري: مارج من نار نار لا دخان لها خلق منها الجان. والسموم الريح الحارة تؤنث؛ يقال منه: سم يومنا فهو يوم مسموم، والجمع سمائم. قال أبو عبيدة: ( السموم بالنهار وقد تكون بالليل، والحرور بالليل وقد تكون بالنهار ) . القشيري: وسميت الريح الحارة سموما لدخولها في مسام البدن.

 

الآيتان: 28 - 29 ( وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين )

 

قوله تعالى: « وإذ قال ربك للملائكة » تقدم في « البقرة » . « إني خالق بشرا من صلصال » من طين « فإذا سويته » أي سويت خلقه وصورته. « ونفخت فيه من روحي » النفخ إجراء الريح في الشيء. والروح جسم لطيف، أجرى الله العادة بأن يخلق الحياة في البدن مع ذلك الجسم. وحقيقته إضافة خلق إلى خالق؛ فالروح خلق من خلقه أضافه إلى نفسه تشريفا وتكريما؛ كقوله: ( أرضي وسمائي وبيتي وناقة الله وشهر الله ) . ومثله « وروح منه » وقد تقدم في « النساء » مبينا. وذكرنا في كتاب ( التذكرة ) الأحاديث الواردة التي تدل على أن الروح جسم لطيف، وأن النفس والروح اسمان لمسمى واحد. وسيأتي ذلك إن شاء الله. ومن قال إن الروح هو الحياة قال أراد: فإذا ركبت فيه الحياة. « فقعوا له ساجدين » أي خروا له ساجدين. وهو سجود تحية وتكريم لا سجود عبادة. ولله أن يفضل من يريد؛ ففضل الأنبياء على الملائكة. وقد تقدم في « البقرة » هذا المعنى. وقال القفال: كانوا أفضل من آدم، وامتحنهم بالسجود له تعريضا لهم للثواب الجزيل. وهو مذهب المعتزلة. وقيل: أمروا بالسجود لله عند آدم، وكان آدم قبلة لهم.

 

الآيتان: 30 - 31 ( فسجد الملائكة كلهم أجمعون، إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين )

 

قوله تعالى « فسجد الملائكة كلهم أجمعون. إلا إبليس » فيه مسألتان: الأولى: لا شك أن إبليس كان مأمورا بالسجود؛ لقول: « ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك » [ الأعراف: 12 ] وإنما منعه من ذلك الاستكبار والاستعظام؛ كما تقدم في « البقرة » بيانه. ثم قيل: كان من الملائكة؛ فهو استثناء من الجنس. وقال قوم: لم يكن من الملائكة؛ فهو استثناء منقطع. وقد مضى في « البقرة » هذا كله مستوفى. وقال ابن عباس: الجان أبو الجن وليسوا شياطين. والشياطين ولد إبليس؛ لا يموتون إلا مع إبليس. والجن يموتون، ومنهم المؤمن ومنهم الكافر. فآدم أبو الإنس. والجان أبو الجن. وإبليس أبو الشياطين؛ ذكره الماوردي. والذي تقدم في « البقرة » خلاف هذا، فتأمله هناك.

الثانية: الاستثناء من الجنس غير الجنس صحيح عند الشافعي، حتى لو قال: لفلان علي دينار إلا ثوبا، أو عشرة أثواب إلا قفيز حنطة، وما جانس ذلك كان مقبولا، ولا يسقط عنه من المبلغ قيمة الثوب والحنطة. ويستوي في ذلك المكيلات والموزونات والمقدرات. وقال مالك وأبو حنيفة رضي الله عنهما: استثناء المكيل من الموزون والموزون من المكيل جائز، حتى لو استثنى الدراهم من الحنطة والحنطة من الدراهم قبل. فأما إذا استثنى المقومات من المكيلات أو الموزونات، والمكيلات من المقومات، مثل أن يقول: علي عشرة دنانير إلا ثوبا، أو عشرة أثواب إلا دينارا لا يصح الاستثناء، ويلزم المقر جميع المبلغ. وقال محمد بن الحسن: الاستثناء من غير الجنس لا يصح، ويلزم المقر جملة ما أقر به. والدليل لقول الشافعي أن لفظ الاستثناء يستعمل في الجنس وغير الجنس؛ قال الله تعالى: « لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما. إلا قيلا سلاما سلاما » [ الواقعة: 25 - 26 ] فاستثنى السلام من جملة اللغو. ومثله « فسجد الملائكة كلهم أجمعون. إلا إبليس » وإبليس من جملة الملائكة؛ قال الله تعالى: « إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه » [ الكهف: 50 ] وقال الشاعر:

وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس

فاستثنى اليعافير وهي ذكور الظباء، والعيس وهي الجمال البيض من الأنيس؛ ومثله قول النابغة:

[ حلفت يمينا غير ذي مثنوية ولا علم إلا حسن ظن بصاحب ] ( دار الحديث )

 

الآيات: 32 - 35 ( قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين، قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون، قال فاخرج منها فإنك رجيم، وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين )

 

قوله تعالى: « قال يا إبليس ما لك » أي ما المانع لك. « ألا تكون مع الساجدين » أي في ألا تكون. « قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون » بين تكبره وحسده، وأنه خير منه، إذ هو من نار والنار تأكل الطين؛ كما تقدم في « الأعراف » بيانه. « قال فاخرج منها » أي من السماوات، أو من جنة عدن، أو من جملة الملائكة. « فإنك رجيم » أي مرجوم بالشهب. وقيل: ملعون مشؤوم. وقد تقدم هذا كله مستوفى في البقرة والأعراف. « وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين » أي لعنتي، كما في سورة « ص » .

 

الآيات: 36 - 38 ( قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون، قال فإنك من المنظرين، إلى يوم الوقت المعلوم )

 

قوله تعالى: « قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون » هذا السؤال من إبليس لم يكن عن ثقته منه بمنزلته عند الله تعالى، وأنه أهل أن يجاب له دعاء؛ ولكن سأل تأخير عذابه زيادة في بلائه؛ كفعل الآيس من السلامة. وأراد بسؤاله الإنظار إلى يوم يبعثون: أجلا يموت؛ لأن يوم البعث لا موت فيه ولا بعده. قال الله تعالى: « فإنك من المنظرين » يعني من المؤجلين. « إلى يوم الوقت المعلوم » قال ابن عباس: ( أراد به النفخة الأولى ) ، أي حين تموت الخلائق. وقيل: الوقت المعلوم الذي استأثر الله بعلمه، ويجهله إبليس. فيموت إبليس ثم يبعث؛ قال الله تعالى: « كل من عليها فان » [ الرحمن: 26 ] . وفي كلام الله تعالى له قولان: أحدهما: كلمه على لسان رسوله.

الثاني: كلمه تغليظا في الوعيد لا على وجه التكرمة والتقريب.

 

الآية: 39 ( قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين )

 

قوله تعالى: « قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض » تقدم معنى الإغواء والزينة في الأعراف. وتزيينه هنا يكون بوجهين: إما بفعل المعاصي، وإما بشغلهم بزينة الدنيا عن فعل الطاعة. ومعنى: « ولأغوينهم أجمعين » أي لأضلنهم عن طريق الهدى. وروى ابن لهيعة عبدالله عن دراج أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن إبليس قال يا رب وعزتك وجلالك لا أزال أغوي بني آدم ما دامت أرواحهم في أجسامهم فقال الرب وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني ) .

 

الآية: 40 ( إلا عبادك منهم المخلصين )

 

قرأ أهل المدينة وأهل الكوفة بفتح اللام؛ أي الذين استخلصتهم وأخلصتهم. وقرأ الباقون بكسر اللام؛ أي الذين أخلصوا لك العبادة من فساد أو رياء. حكى أبو ثمامة أن الحواريين سألوا عيسى عليه السلام عن المخلصين لله فقال: ( الذي يعمل ولا يحب أن يحمده الناس ) .

 

الآية: 41 ( قال هذا صراط علي مستقيم )

 

قال عمر بن الخطاب: معناه هذا صراط يستقيم بصاحبه حتى يهجم به على الجنة. الحسن: « علي » بمعنى إلي. مجاهد والكسائي: هذا على الوعيد والتهديد؛ كقولك لمن تهدده: طريقك علي ومصيرك إلي. وكقوله: « إن ربك لبالمرصاد » [ الفجر: 14 ] . فكان معنى الكلام: هذا طريق مرجعه إلي فأجازي كلا بعمله، يعني طريق العبودية. وقيل: المعنى علي أن أدل على الصراط المستقيم بالبيان والبرهان. وقيل: بالتوفيق والهداية. وقرأ ابن سيربن وقتادة والحسن وقيس بن عباد وأبو رجاء وحميد ويعقوب « هذا صراط علي مستقيم » برفع « علي » وتنوينه؛ ومعناه رفيع مستقيم، أي رفيع في الدين والحق. وقيل: رفيع أن ينال، مستقيم أن يمال.

 

الآية: 42 ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين )

 

قوله تعالى: « إن عبادي ليس لك عليهم سلطان » قال العلماء: يعني على قلوبهم. وقال ابن عيينة: أي في أن يلقيهم في ذنب يمنعهم عفوي ويضيقه عليهم. وهؤلاء الذين هداهم الله واجتباهم واختارهم واصطفاهم.

قلت: لعل قائلا يقول: قد أخبر الله عن صفة آدم وحواء عليهما السلام بقوله: « فأزلهما الشيطان » [ البقرة: 36 ] ، وعن جملة من أصحاب نبيه بقوله: « إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا » [ آل عمران: 155 ] فالجواب ما ذكر، وهو أنه ليس له سلطان على قلوبهم، ولا موضع إيمانهم، ولا يلقيهم في ذنب يؤول إلى عدم القبول، بل تزيله التوبة وتمحوه الأوبة. ولم يكن خروج آدم عقوبة لما تناول؛ على ما تقدم في « البقرة » بيانه. وأما أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقد مضى القول عنهم في آل عمران. ثم إن قوله سبحانه: « ليس لك عليهم سلطان » يحتمل أن يكون خاصا فيمن حفظه الله، ويحتمل أن يكون في أكثر الأوقات والأحوال، وقد يكون في تسلطه تفريج كربة وإزالة غمة؛ كما فعل ببلال، إذ أتاه يهديه كما يهدي الصبي حتى نام، ونام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلم يستيقظوا حتى طلعت الشمس، وفزعوا وقالوا: ما كفارة ما صنعنا بتفريطنا في صلاتنا؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ( ليس في النوم تفريط ) ففرج عنهم. « إلا من اتبعك من الغاوين » أي الضالين المشركين. أي سلطانه على هؤلاء؛ دليله « إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون » [ النحل: 100 ] .

وهذه الآية والتي قبلها دليل على جواز استثناء القليل من الكثير والكثير من القليل؛ مثل أن يقول: عشرة إلا درهما. أو يقول: عشرة إلا تسعة. وقال أحمد بن حنبل: لا يجوز أن يستثنى إلا قدر النصف فما دونه. وأما استثناء الأكثر من الجملة فلا يصح. ودليلنا هذه الآية، فإن فيها استثتاء « الغاوين » من العباد والعباد من الغاوين، وذلك يدل على أن استثناء الأقل من الجملة واستثناء الأكثر من الجملة جائز.

 

الآيتان: 43 - 44 ( وإن جهنم لموعدهم أجمعين، لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم )

 

قوله تعالى: « وإن جهنم لموعدهم أجمعين » يعني إبليس ومن اتبعه. « لها سبعة أبواب » أي أطباق، طبق فوق طبق « لكل باب منهم » أي لكل طبقة « منهم جزء مقسوم » أي حظ معلوم. ذكر ابن المبارك قال: أخبرنا إبراهيم أبو هارون الغنوي قال: سمعت حطان بن عبدالله الرقاشي يقول سمعت عليا رضي الله عنه يقول: هل تدرون كيف أبواب جهنم؟ قلنا: هي مثل أبوابنا. قال لا، هي هكذا بعضها فوق بعض، - زاد الثعلبي: ووضع إحدى يديه على الأخرى: وأن الله وضع الجنان على الأرض، والنيران بعضها فوق بعض، فأسفلها جهنم، وفوقها الحطمة، وفوقها سقر، وفوقها الجحيم، وفوقها لظى، وفوقها السعير، وفوقها الهاوية، وكل باب أشد حرا من الذي يليه سبعين مرة.

قلت: كذا وقع هذا التفسير. والذي عليه الأكثر من العلماء أن جهنم أعلى الدركات، وهي مختصة بالعصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهي التي تخلى من أهلها فتصفق الرياح أبوابها. ثم لظى، ثم الحطمة، ثم سعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية. قال الضحاك: في الدرك الأعلى المحمديون، وفي الثاني النصارى، وفي الثالث اليهود، وفي الرابع الصابئون، وفي الخامس المجوس، وفي السادس مشركو العرب، وفي السابع المنافقون وآل فرعون ومن كفر من أهل المائدة. قال الله تعالى: « إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار » [ النساء: 145 ] - وقد تقدم في النساء - ، وقال: « أدخلوا آل فرعون أشد العذاب » [ غافر:46 ] . وقسم معاذ بن جبل رضي الله عنه العلماء السوء من هذه الأمة تقسيما على تلك الأبواب؛ ذكرناه في كتاب ( التذكرة ) وروى الترمذي من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لجهنم سبعة أبواب باب منها لمن سل سيفه على أمتي ) قال: حديث غريب.

وقال أبي بن كعب: ( لجهنم سبعة أبواب باب منها للحرورية. وقال وهب بن منبه: بين كل بابين مسيرة سبعين سنة، كل باب أشد حرا من الذي فوقه بسبعين ضعفا، وقد ذكرنا هذا كله في كتاب التذكرة. وروى سلام الطويل عن أبي سفيان عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله الله تعالى: « لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم » جزء أشركوا بالله، وجزء شكوا في الله، وجزء غفلوا عن الله، وجزء آثروا شهواتهم على الله، وجزء شفوا غيظهم بغضب الله، وجزء صيروا رغبتهم بحظهم من الله، وجزء عتوا على الله. ذكره الحليمي أبو عبدالله الحسين بن الحسن في كتاب ( منهاج الدين ) له، وقال: فإن كان ثابتا فالمشركون بالله هم الثنوية. والشاكون هم الذين لا يدرون أن لهم إلها أو لا إله لهم، ويشكون في شريعته أنها من عنده أم لا. والغافلون عن الله هم الذين يجحدونه أصلا ولا يثبتونه، وهم الدهرية. والمؤثرون شهواتهم على الله هم المنهمكون في المعاصي؛ لتكذيبهم رسل الله وأمره ونهيه. والشافون غيظهم بغضب الله هم القاتلون أنبياء الله وسائر الداعين إليه، المعذبون من ينصح لهم أو يذهب غير مذهبهم. والمصيرون رغبتهم بحظهم من الله هم المنكرون بالبعث والحساب؛ فهم يعبدون ما يرغبون فيه، لهم جميع حظهم من الله تعالى. والعاتون على الله الذين لا يبالون بأن يكون ما هم فيه حقا أو باطلا، فلا يتفكرون ولا يعتبرون ولا يستدلون. والله أعلم بما أراد رسوله صلى الله عليه وسلم إن ثبت الحديث. ويروى أن سلمان الفارسي رضي الله عنه لما سمع هذه الآية « وإن جهنم لموعدهم أجمعين » فر ثلاثة أيام من الخوف لا يعقل، فجيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: يا رسول الله، أنزلت هذه الآية « وإن جهنم لموعدهم أجمعين » ؟ فوالذي بعثك بالحق لقد قطعت قلبي؛ فأنزل الله تعالى « إن المتقين في جنات وعيون » [ الحجر: 45 ] . وقال بلال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في مسجد المدينة وحده، فمرت به امرأة أعرابية فصلت خلفه ولم يعلم بها، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية « لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم » فخرت الأعرابية مغشيا عليها، وسمع النبي صلى الله عليه وسلم وجبتها فانصرف ودعا بماء فصب على وجهها حتى أفاقت وجلست، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا هذه مالك ) ؟ فقالت: أهذا شيء من كتاب الله المنزل، أو تقوله من تلقاء نفسك؟ فقال: ( يا أعرابيه، بل هو من كتاب الله تعالى المنزل ) فقالت: كل عضو من أعضائي يعذب على كل باب منها؟ قال: ( يا أعرابية، بل لكل باب منهم جزء مقسوم يعذب أهل كل منها على قدر أعمالهم ) فقالت: والله إني امرأة مسكينة، ما لي مال، وما لي إلا سبعة أعبد، أشهدك يا رسول الله، أن كل عبد منهم عن كل باب من أبواب جهنم حر لوجه الله تعالى: فأتاه جبريل فقال. « يا رسول الله، بشر الأعرابية أن الله قد حرم عليها أبواب جهنم كلها وفتح لها أبواب الجنة كلها ) .»

 

الآيتان: 45 - 46 ( إن المتقين في جنات وعيون، ادخلوها بسلام آمنين )

 

قوله تعالى: « إن المتقين في جنات وعيون » أي الذين اتقوا الفواحش والشرك. و « في جنات » أي بساتين. « وعيون » هي الأنهار الأربعة: ماء وخمر ولبن وعسل. وأما العيون المذكورة في سورة « الإنسان » : الكافور والزنجبيل والسلسبيل، وفي « المطففين » : التسنيم، فيأتي ذكرها وأهلها إن شاء الله. وضم العين من « عيون » على الأصل، والكسر مراعاة للياء، وقرئ بهما - « ادخلوها بسلام آمنين » قراءة العامة « ادخلوها » بوصل الألف وضم الخاء، من دخل يدخل، على الأمر. تقديره: قيل ادخلوها. وقرأ الحسن وأبو العالية ورويس عن يعقوب « ادخلوها » بضم التنوين ووصل الألف وكسر الخاء على الفعل المجهول، من أدخل. أي أدخلهم الله إياها. ومذهبهم كسر التنوين في مثل « برحمة ادخلوا الجنة » [ الأعراف: 49 ] وشبهه؛ إلا أنهم ههنا ألقوا حركة الهمزة على التنوين؛ إذ هي ألف قطع، ولكن فيه انتقال من كسر إلى ضم ثم من ضم إلى كسر فيثقل على اللسان. « بسلام » أي بسلامة من كل داء وآفة. وقيل: بتحية من الله لهم. « آمنين » أي من الموت والعذاب والعزل والزوال.

 

الآيتان: 47 - 48 ( ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين، لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين )

 

قال ابن عباس: أول ما يدخل أهل الجنة الجنة تعرض لهم عينان، فيشربون من إحدى العينين فيذهب الله ما في قلوبهم من غل، ثم يدخلون العين الأخرى فيغتسلون فيها فتشرق ألوانهم وتصفو وجههم، وتجري عليهم نضرة النعيم؛ ونحوه عن علي رضي الله عنه. وقال علي بن الحسين: نزلت في أبي بكر وعمر وعلي والصحابة، يعني ما كان بينهم في الجاهلية من الغل. والقول الأول أظهر، يدل عليه سياق الآية. وقال علي رضي الله عنه: ( أرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير من هؤلاء ) . والغل: الحقد والعداوة؛ يقال منه: غل يغل. ويقال من الغلول وهو السرقة من المغنم: غل يغل: ويقال من الخيانة: أغل يغل. كما قال:

جزى الله عنا حمزة بنة نوفل جزاء مغل بالأمانة كاذب

وقد مضى هذا في آل عمران. « إخوانا على سرر متقابلين » أي لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض تواصلا وتحاببا؛ عن مجاهد وغيره. وقيل: الأسرة تدور كيفما شاؤوا، فلا يرى أحد قفا أحد. وقيل: « متقابلين » قد أقبلت عليهم الأزواج وأقبلوا عليهن بالود. وسرر جمع سرير. مثل جديد وجدد. وقيل: هو من السرور؛ فكأنه مكان رفيع ممهد للسرور. والأول أظهر. قال ابن عباس: ( على سرر مكللة بالياقوت والزبرجد والدر ) ، السرير ما بين صنعاء إلى الجابية وما بين عدن إلى أيلة. « وإخوانا » نصب على الحال من « المتقين » أو من المضمر في « ادخلوها » ، أو من المضمر في « آمنين » ، أو يكون حالا مقدرة من الهاء والميم في « صدورهم » . « لا يمسهم فيها نصب » أي إعياء وتعب. « وما هم منها بمخرجين » دليل على أن نعيم الجنة دائم لا يزول، وأن أهلها فيها باقون. أكلها دائم؛ « إن هذا لرزقنا ما له من نفاد » [ ص: 54 ] .

 

الآيتان: 49 - 50 ( نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم، وأن عذابي هو العذاب الأليم )

 

هذه الآية وزان قوله عليه السلام: ( لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من رحمته أحد ) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. وقد تقدم في الفاتحة. وهكذا ينبغي للإنسان أن يذكر نفسه وغيره فيخوف ويرجى، ويكون الخوف في الصحة أغلب عليه منه في المرض. وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على الصحابة وهم يضحكون فقال: ( أتضحكون وبين أيديكم الجنة والنار ) فشق ذلك عليهم فنزلت الآية. ذكره الماوردي والمهدوي. ولفظ الثعلبي عن ابن عمر قال: اطلع علينا النبي صلى الله عليه وسلم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة ونحن نضحك فقال: ( مالكم تضحكون لا أراكم تضحكون ) ثم أدبر حتى إذا كان عند الحجر رجع القهقري فقال لنا: ( إني لما خرجت جاءني جبريل فقال يا محمد لم تقنط عبادي من رحمتي « نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم. وأن عذابي هو العذاب الأليم » . فالقنوط إياس، والرجاء إهمال، وخير الأمور أوساطها.

الآية [ 51 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات: 51 - 54 ( ونبئهم عن ضيف إبراهيم، إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون، قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم، قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون )

 

قوله تعالى: « ونبئهم عن ضيف إبراهيم » ضيف إبراهيم: الملائكة الذين بشروه بالولد وبهلاك قوم لوط. وقد تقدم ذكرهم. وكان إبراهيم عليه السلام يكنى أبا الضيفان، وكان لقصره أربعة أبواب لكيلا يفوته أحد. وسمي الضيف ضيفا لإضافته إليك ونزوله عليك. وقد مضى من حكم الضيف في « هود » ما يكفي والحمد لله. « إذ دخلوا عليه » جمع الخبر لأن الضيف اسم يصلح للواحد والجمع والتثنية والمذكر والمؤنث كالمصدر. ضافه وأضافه أماله؛ ومنه الحديث ( حين تضيف الشمس للغروب ) ، وضيفوفة السهم، والإضافة والنحوية. « فقالوا سلاما » أي سلموا سلاما. « قال إنا منكم وجلون » أي فزعون خائفون، وإنما قال هذا بعد أن قرب العجل ورآهم لا يأكلون، على ما تقدم في هود. وقيل: أنكر السلام ولم يكن في بلادهم رسم السلام. « قالوا لا توجل » أي قالت الملائكة لا تخف. « إنا نبشرك بغلام عليم » أي حليم؛ قاله مقاتل. وقال الجمهور: عالم. وهو إسحاق. « قال أبشرتموني على أن مسني الكبر » « أن » مصدرية؛ أي علي مس الكبر إياي وزوجتي، وقد تقدم في هود وإبراهيم، حيث يقول: « فبم تبشرون » استفهام تعجب. وقيل: استفهام حقيقي. وقرأ الحسن « توجل » بضم التاء. والأعمش « بشرتموني » بغير ألف، ونافع وشيبة « تبشرون » بكسر النون والتخفيف؛ مثل، « أتحاجوني » وقد تقدم تعليله. وقرأ ابن كثير وابن محيصن « تبشرون » بكسر النون مشددة، تقديره تبشرونني، فأدغم النون في النون. الباقون « تبشرون » بنصب النون بغير إضافة.

 

الآية: 55 ( قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين )

 

قوله تعالى: « قالوا بشرناك بالحق » أي بما لا خلف فيه، وأن الولد لابد منه. « فلا تكن من القانطين » أي من الآيسين من الولد، وكان قد أيس من الولد لفرط الكبر. وقراءة العامة « من القانطين » بالألف. وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب « من القنطين » بلا ألف. وروي عن أبي عمرو. وهو مقصور من « القانطين » . ويجوز أن يكون من لغة من قال: قنط يقنط؛ مثل حذر يحذر. وفتح النون وكسرها من « يقنط » لغتان قرئ بهما. وحكى فيه « يقنط » بالضم. ولم يأت فيه « قنط يقنط » [ و ] من فتح النون في الماضي والمستقبل فإنه جمع بين اللغتين، فأخذ في الماضي بلغة من قال: قنَط يقنِط، وفي المستقبل بلغة من قال: قنِظ يقنَط؛ ذكره المهدوي.

 

الآية: 56 ( قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون )

 

أي المكذبون الذاهبون عن طريق الصواب. يعني أنه استبعد الولد لكبر سنه لا أنه قنط من رحمة الله تعالى.

 

الآيات: 57 - 60 ( قال فما خطبكم أيها المرسلون، قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين، إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين، إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين )

 

لما علم أنهم ملائكة - إذ أخبروه بأمر خارق للعادة وهو بشراهم بالولد - قال: فما خطبكم؟ والخطب الأمر الخطير. أي فما أمركم وشأنكم وما الذي جئتم به. « قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين » أي مشركين ضالين. وفي الكلام إضمار؛ أي أرسلنا إلى قوم مجرمين لنهلكهم. « إلا آل لوط » أتباعه وأهل دينه. « إنا لمنجوهم » وقرأ حمزة والكسائي « لمنْجُوهم » بالتخفيف من أنجى. الباقون: بالتشديد من نجى، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. والتنجية والإنجاء التخليص. « إلا امرأته » استثنى من آل لوط امرأته وكانت كافرة فالتحقت بالمجرمين في الهلاك. وقد تقدمت قصة قوم لوط في « الأعراف » وسورة « هود » بما فيه كفاية. « قدرنا إنها لمن الغابرين » أي قضينا وكتبنا إنها لمن الباقين في العذاب. والغابر: الباقي. قال:

لا تكسع الشول بأغبارها إنك لا تدري من الناتج

الأغبار بقايا اللبن. وقرأ أبو بكر والمفضل « قَدَرنا » بالتخفيف هنا وفي النمل، وشدد الباقون. الهروي: يقال قدَّر وقدَر، بمعنى.

 

لا خلاف بين أهل اللسان وغيرهم أن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي؛ فإذا قال رجل: له علي عشرة دراهم إلا أربعة إلا درهما؛ ثبت الإقرار بسبعة؛ لأن الدرهم مستثنى من الأربعة، وهو مثبت لأنه مستثنى من منفي، وكانت الأربعة منفية لأنها مستثناة من موجب وهو العشرة، فعاد الدرهم إلى الستة فصارت سبعة. وكذلك لو قال: علي خمسة دراهم إلا درهم إلا ثلثيه؛ كان عليه أربعة دراهم وثلث. وكذلك إذا قال: لفلان علي عشرة إلا تسعة إلا ثمانية إلا سبعة؛ كان الاستثناء الثاني راجعا إلى ما قبله، والثالث إلى الثاني فيكون عليه درهمان؛ لأن العشرة إثبات والثمانية إثبات فيكون مجموعها ثمانية عشر. والتسعة نفي والسبعة نفي فيكون ستة عشر تسقط من ثمانية عشر ويبقى درهمان، وهو القدر الواجب بالإقرار لا غير. فقوله سبحانه: « إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين. إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين. إلا امرأته » فاستثنى آل لوط من القوم المجرمين، ثم قال: « إلا امرأته » فاستثناها من آل لوط، فرجعت في التأويل إلى القوم المجرمين كما بينا. وهكذا الحكم في الطلاق، لو قال لزوجته: أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين إلا واحدة طلقت اثنتين؛ لأن الواحدة رجعت إلى الباقي من المستثنى منه وهي الثلاث. وكذا كل ما جاء من هذا فتفهمه.

 

الآيات: 61 - 65 ( فلما جاء آل لوط المرسلون، قال إنكم قوم منكرون، قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون، وأتيناك بالحق وإنا لصادقون، فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون )

 

قوله تعالى: « فلما جاء آل لوط المرسلون، قال إنكم قوم منكرون » أي لا أعرفكم. وقيل: كانوا شبابا ورأى جمالا فخاف عليهم من فتنة قومه؛ فهذا هو الإنكار. « قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون » أي يشكون أنه نازل بهم، وهو العذاب. « وأتيناك بالحق » أي بالصدق. وقيل: بالعذاب. « وإنا لصادقون » أي في هلاكهم. « فأسر بأهلك بقطع من الليل » تقدم في « هود » . « واتبع أدبارهم » أي كن من ورائهم لئلا يتخلف منهم أحد فيناله العذاب. « ولا يلتفت منكم أحد » نهوا عن الالتفات ليجدوا في السير ويتباعدوا عن القرية قبل أن يفاجئهم الصبح. وقيل: المعنى لا يتخلف. « وامضوا حيث تؤمرون » قال ابن عباس ( يعني الشام ) . مقاتل. يعني صفد، قرية من قرى لوط. وقد تقدم. وقيل: إنه مضى إلى أرض الخليل بمكان يقال له اليقين، وإنما سمي اليقين لأن إبراهيم لما خرجت الرسل شيعهم، فقال لجبريل: من أين يخسف بهم؟ قال: ( من هاهنا ) وحد له حدا، وذهب جبريل، فلما جاء لوط. جلس عند إبراهيم وارتقبا ذلك العذاب، فلما اهتزت الأرض قال إبراهيم: ( أيقنت بالله ) فسمي اليقين.

الآية [ 66 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات: 66 - 71 ( وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين، وجاء أهل المدينة يستبشرون، قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون، واتقوا الله ولا تخزون، قالوا أولم ننهك عن العالمين، قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين )

 

قوله تعالى: « وقضينا إليه » أي أوحينا إلى لوط. « ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين » نظيره « فقطع دابر القوم الذين ظلموا » . [ الأنعام: 45 ] « مصبحين » أي عند طلوع الصبح. وقد تقدم. « وجاء أهل المدينة » أي أهل مدينة لوط « يستبشرون » مستبشرين بالأضياف طمعا منهم في ركوب الفاحشة. « قال إن هؤلاء ضيفي » أي أضيافي. « فلا تفضحون » أي تخجلون. « واتقوا الله ولا تخزون » يجوز أن يكون من الخزي وهو الذل والهوان، ويجوز أن يكون من الخزاية وهو الحياء والخجل. وقد تقدم في هود. « قالوا أولم ننهك عن العالمين » أي عن أن تضيف، أحدا لأنا نريد منهم الفاحشة. وكانوا يقصدون بفعلهم الغرباء؛ عن الحسن. وقد تقدم في الأعراف. وقيل: أو لم ننهك عن أن تكلمنا في أحد من الناس إذا قصدناه بالفاحشة. « قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين » أي فتزوجوهن ولا تركنوا إلى الحرام. وقد تقدم بيان هذا في هود.

 

الآية: 72 ( لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون )

 

قال القاضي أبو بكر بن العربي: قال المفسرون بأجمعهم أقسم الله تعالى ههنا بحياة محمد صلى الله عليه وسلم تشريفا له، أن قومه من قريش في سكرتهم يعمهون وفي حيرتهم يترددون.

قلت: وهكذا قال القاضي عياض: أجمع أهل التفسير في هذا أنه قسم من الله جل جلاله بمدة حياة محمد صلى الله عليه وسلم. وأصله ضم العين من العمر ولكنها فتحت لكثرة الاستعمال. ومعناه وبقائك يا محمد. وقيل وحياتك. وهذا نهاية التعظيم وغاية البر والتشريف. قال أبو الجوزاء: ما أقسم الله بحياة أحد غير محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أكرم البرية عنده. قال ابن العربي: « ما الذي يمنع أن يقسم الله سبحانه وتعالى بحياة لوط ويبلغ به من التشريف ما شاء، وكل ما يعطيه الله تعالى للوط من فضل يؤتي ضعفيه من شرف لمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أكرم على الله منه؛ أو لا ترى أنه سبحانه أعطى إبراهيم الخلة وموسى التكليم وأعطى ذلك لمحمد، فإذا أقسم بحياة لوط فحياة محمد أرفع. ولا يخرج من كلام إلى كلام لم يجر له ذكر لغير ضرورة » .

قلت: ما قاله حسن؛ فإنه كان يكون قسمه سبحانه بحياة محمد صلى الله عليه وسلم كلاما معترضا في قصة لوط. قال القشيري أبو نصر عبدالرحيم بن عبدالكريم في تفسيره: ويحتمل أن يقال: يرجع ذلك إلى قوم لوط، أي كانوا في سكرتهم يعمهون. وقيل: لما وعظ لوط قومه وقال هؤلاء بناتي قالت الملائكة: يا لوط، « لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون » ولا يدرون ما يحل بهم صباحا. فإن قيل: فقد أقسم تعالى بالتين والزيتون وطور سينين؛ فما في هذا؟ قيل له: ما من شيء أقسم الله به إلا وذلك دلالة على فضله على ما يدخل في عداده، فكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون أفضل ممن هو في عداده. والعمر والعمر ( بضم العين وفتحها ) لغتان ومعناهما واحد؛ إلا أنه لا يستعمل في القسم إلا بالفتح لكثرة الاستعمال. وتقول: عمرك الله، أي أسأل الله تعميرك. و « لعمرك » رفع بالابتداء وخبره محذوف. المعنى لعمرك مما أقسم به.

 

كره كثير من العلماء أن يقول الإنسان لعمري؛ لأن معناه وحياتي. قال إبراهيم النخعي: يكره للرجل أن يقول لعمري؛ لأنه حلف بحياة نفسه، وذلك من كلام ضعفة الرجال. ونحو هذا قال مالك: إن المستضعفين من الرجال والمؤنثين يقسمون بحياتك وعيشك، وليس من كلام أهل الذكران، وإن كان الله سبحانه أقسم به في هذه القصة، فذلك بيان لشرف المنزلة والرفعة لمكانه، فلا يحمل عليه سواه ولا يستعمل في غيره. وقال ابن حبيب: ينبغي أن يصرف « لعمرك » في الكلام لهذه الآية. وقال قتادة: هو من كلام العرب. قال ابن العربي: وبه أقول، لكن الشرع قد قطعه في الاستعمال ورد القسم إليه.

قلت. القسم بـ « لعمرك ولعمري » ونحوه في أشعار العرب وفصيح كلامها كثير.

قال النابغة:

لعمري وما عمري علي بهين لقد نطقت بطلا على الأقارع

آخر:

لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى لكالطول المرخى وثنياه باليد

آخر:

أيها المنكح الثريا سهيلا عمرك الله كيف يلتقيان

آخر:

إذا رضيت علي بنو قشير لعمر الله أعجبني رضاها

وقال بعض أهل المعاني: لا يجوز هذا؛ لأنه لا يقال لله عمر، وإنما هو تعالى أزلي. ذكره الزهراوي.

 

قد مضى الكلام فيما يحلف به وما لا يجوز الحلف به في « المائدة » ، وذكرنا هناك قول أحمد بن حنبل فيمن أقسم بالنبي صلى الله عليه وسلم لزمته الكفارة. قال ابن خويز منداد: من جوز الحلف بغير الله تعالى مما يجوز تعظيمه بحق من الحقوق فليس يقول إنها يمين تتعلق بها كفارة؛ إلا أنه من قصد الكذب كان ملوما؛ لأنه في الباطن مستخف بما وجب عليه تعظيمه. قالوا: وقوله تعالى « لعمرك » أي وحياتك. وإذا أقسم الله تعالى بحياة نبيه فإنما أراد بيان التصريح لنا أنه يجوز لنا أن نحلف بحياته. وعلى مذهب مالك معنى قوله: « لعمرك » و « التين والزيتون » [ التين: 1 ] . « والطور. وكتاب مسطور » [ الطور: 1 - 2 ] « والنجم إذا هوى » [ النجم: 1 ] « والشمس وضحاها » [ الضحى. 1 ] « لا أقسم بهذا البلد. وأنت حل بهذا البلد. ووالد وما ولد » [ البلد: 1 - 3 ] كل هذا معناه: وخالق التين والزيتون، وبرب الكتاب المسطور، وبرب البلد الذي حللت به، وخالق عيشك وحياتك، وحق محمد؛ فلليمين والقسم حاصل به سبحانه لا بالمخلوق. قال ابن خويز منداد: ومن جوز اليمين بغير الله تعالى تأول قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا تحلفوا بآبائكم ) وقال: إنما نهى عن الحلف بالآباء الكفار، ألا ترى أنه قال لما حلفوا بآبائهم: ( للجبل عند الله أكرم من آبائكم الذين ماتوا في الجاهلية ) . ومالك حمل الحديث على ظاهره. قال ابن خويز منداد: واستدل أيضا من جوز ذلك بأن أيمان المسلمين جرت منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا أن يحلفوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، حتى أن أهل المدينة إلى يومنا هذا إذا حاكم أحدهم صاحبه قال: احلف لي بحق ما حواه هذا القبر، وبحق ساكن هذا القبر، يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك بالحرم والمشاعر العظام، والركن والمقام والمحراب وما يتلى فيه.

 

الآيتان: 73 - 74 ( فأخذتهم الصيحة مشرقين، فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل )

 

قوله تعالى: « فأخذتهم الصيحة مشرقين » نصب على الحال، أي وقت شروق الشمس. يقال: أشرقت الشمس أي أضاءت، وشرقت إذا طلعت. وقيل: هما لغتان بمعنى. وأشرق القوم أي دخلوا في وقت شروق الشمس. مثل أصبحوا وأمسوا، وهو المراد في الآية. وقيل: أراد شروق الفجر. وقيل: أول العذاب كان عند الصبح وامتد إلى شروق الشمس، فكان تمام الهلاك عند ذلك. والله أعلم. و « الصيحة » العذاب. وتقدم ذكر « سجيل » [ هود: 82 ] .

 

الآية: 75 ( إن في ذلك لآيات للمتوسمين )

 

قوله تعالى: « للمتوسمين » روى الترمذي الحكيم في ( نوادر الأصول ) من حديث أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( للمتفرسين ) وهو قول مجاهد. وروى أبو عيسى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله - ثم قرأ - « إن في ذلك لآيات للمتوسمين » ) . قال: هذا حديث غريب. وقال مقاتل وابن زيد: للمتوسمين للمتفكرين. الضحاك: للنظارين. قال الشاعر:

أو كلما وردت عكاظ قبيلة بعثوا إلى عريفهم يتوسموا

وقال قتادة: للمعتبرين. قال زهير:

وفيهن ملهى للصديق ومنظر أنيق لعين الناظر المتوسم

وقال أبو عبيدة: للمتبصرين، والمعنى متقارب. وروى الترمذي الحكيم من حديث ثابت عن أنس ابن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن لله عز وجل عبادا يعرفون الناس بالتوسم ) . قال العلماء: التوسم تفعل من الوسم، وهي العلامة التي يستدل بها على مطلوب غيرها. يقال: توسمت فيه الخير إذا رأيت ميسم ذلك فيه؛ ومنه قول عبدالله بن رواحة للنبي صلى الله عليه وسلم:

إني توسمت فيك الخير أعرفه والله يعلم أني ثابت البصر

آخر:

توسمته لما رأيت مهابة عليه وقلت المرء من آل هاشم

واتسم الرجل إذا جعل لنفسة علامة يعرف بها. وتوسم الرجل طلب كلأ الوسمي. وأنشد:

وأصبحن كالدوم النواعم غدوة على وجهة من ظاعن متوسم

وقال ثعلب: الواسم الناظر إليك من فرقك إلى قدمك. وأصل التوسم التثبت والتفكر؛ مأخوذ من الوسم وهو التأثير بحديدة في جلد البعير وغيره، وذك يكون بجودة القريحة وحدة الخاطر وصفاء الفكر. زاد غيره: وتفريغ القلب من حشو الدنيا، وتطهيره من أدناس المعاصي وكدورة الأخلاق وفضول الدنيا. روى نهشل عن ابن عباس « للمتوسمين » قال: لأهل الصلاح والخير. وزعمت الصوفية أنها كرامة. وقيل: بل هي استدلال بالعلامات، ومن العلامات ما يبدو ظاهرا لكل أحد وبأول نظرة، ومنها ما يخفى فلا يبدو لكل أحد ولا يدرك ببادئ النظر. قال الحسن: المتوسمون هم الذين يتوسمون الأمور فيعلمون أن الذي أهلك قوم لوط قادر على أن يهلك الكفار؛ فهذا من الدلائل الظاهرة. ومثله قول ابن عباس،: ( ما سألني أحد عن شيء إلا عرفت أفقيه هو أو غير فقيه ) . وروي عن الشافعي ومحمد بن الحسن أنهما كانا بفناء الكعبة ورجل على باب المسجد فقال أحدهما: أراه نجارا، وقال الآخر: بل حدادا، فتبادر من حضر إلى الرجل فسأل فقال: كنت نجارا وأنا اليوم حداد. وروي عن جندب بن عبدالله البجلي أنه أتى على رجل يقرأ القرآن فوقف فقال: من سمع سمع الله به، ومن راءى راءى الله به. فقلنا له: كأنك عرضت بهذا الرجل، فقال: إن هذا يقرأ عليك القرآن اليوم ويخرج غدا حروريا؛ فكان رأس الحرورية، واسمه مرداس. وروي عن الحسن البصري أنه دخل عليه عمرو بن عبيد فقال: هذا سيد فتيان البصرة إن لم يحدث، فكان من أمره من القدر ما كان، حتى هجره عامة إخوانه. وقال لأيوب: هذا سيد فتيان أهل البصرة، ولم يستثن. وروي عن الشعبي أنه قال لداود الأزدي وهو يماريه: إنك لا تموت حتى تكوى في رأسك، وكان كذلك. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل عليه قوم من مذحج فيهم الأشتر، فصعد فيه النظر وصوبه وقال: أيهم هذا؟ قالوا: مالك بن الحارث. فقال: ما له قاتله الله! إني لأرى للمسلمين منه. يوما عصيبا؛ فكان منه في الفتنة ما كان. وروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: أن أنس بن مالك دخل عليه، وكان قد مر بالسوق فنظر إلى امرأة، فلما نظر إليه قال عثمان: ( يدخل أحدكم علي وفي عينيه أثر الزنى فقال له أنس: أوحيا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال لا ولكن برهان وفراسة وصدق ) . ومثله كثير عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين.

 

قال أبو بكر بن العربي: « إذا ثبت أن التوسم والتفرس من مدارك المعاني فإن ذلك لا يترتب عليه حكم ولا يؤخذ به موسوم ولا متفرس. وقد كان قاضي القضاة الشامي المالكي ببغداد أيام كوني بالشام يحكم بالفراسة في الأحكام، جريا على طريق إياس بن معاوية أيام كان قاضيا، وكان شيخنا فخر الإسلام أبو بكر الشاشي صنف جزءا في الرد عليه، كتبه لي بخطه وأعطانيه، وذلك صحيح؛ فإن مدارك الأحكام معلومة شرعا مدركة قطعا وليست الفراسة منها»

 

الآيات: 76 - 79 ( وإنها لبسبيل مقيم، إن في ذلك لآية للمؤمنين، وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين، فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين )

 

قوله تعالى: « وإنها » يعني قرى قوم لوط. « لبسبيل مقيم » أي على طريق قومك يا محمد إلى الشام. « إن في ذلك لآية للمؤمنين » أي لعبرة للمصدقين. « وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين » يريد قوم شعيب، كانوا أصحاب غياض ورياض وشجر مثمر. والأيكة: الغيضة، وهي جماعة الشجر، والجمع الأيك. ويروى أن شجرهم كان دوما وهو المقل. قال النابغة:

تجلو بقادمتي حمامة أيكة بردا أسف لثاته بالإثمد

وقيل: الأيكة اسم القرية. وقيل اسم البلدة. وقال أبو عبيدة: الأيكة وليكة مدينتهم، بمنزلة بكة من مكة. وتقدم خبر شعيب وقومه. « وإنهما لبإمام مبين » أي بطريق واضح في نفسه، يعني مدينة قوم لوط وبقعة أصحاب الأيكة يعتبر بهما من يمر عليهما.

 

الآية: 80 ( ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين )

 

الحجر ينطلق على معان: منها حجر الكعبة. ومنها الحرام؛ قال الله تعالى: « وحجرا محجورا » [ الفرقان: 53 ] أي حراما محرما. والحجر العقل؛ قال الله تعالى: « لذي حجر » [ الفجر: 5 ] والحجر حجر القميص؛ والفتح أفصح. والحجر الفرس الأنثى. والحجر ديار ثمود، وهو المراد هنا، أي المدينة؛ قال الأزهري. قتادة: وهي ما بين مكة وتبوك، وهو الوادي الذي فيه ثمود. الطبري: هي أرض بين الحجاز والشام، وهم قوم صالح. وقال: « المرسلين » وهو صالح وحده، ولكن من كذب نبيا فقد كذب الأنبياء كلهم؛ لأنهم على دين واحد في الأصول فلا يجوز التفريق بينهم. وقيل: كذبوا صالحا ومن تبعه ومن تقدمه من النبيين أيضا. والله أعلم

روى البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم ألا يشربوا من بئرها ولا يستقوا منها. فقالوا: قد عجنا واستقينا. فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا الماء وأن يطرحوا ذلك العجين. وفي الصحيح عن ابن عمر أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر أرض ثمود، فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما استقوا ويعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي تردها الناقة. وروي أيضا عن ابن عمر قال: مررنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين حذرا أن يصيبكم مثل ما أصابهم ) ثم زجر فأسرع.

قلت: ففي هذه الآية التي بين الشارع حكمها وأوضح أمرها ثمان مسائل، استنبطها العلماء واختلف في بعضها الفقهاء، فأولها: كراهة دخول تلك المواضع، وعليها حمل بعض العلماء دخول مقابر الكفار؛ فإن دخل الإنسان شيئا من تلك المواضع والمقابر فعلى الصفة التي أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلم من الاعتبار والخوف والإسراع. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تدخلوا أرض بابل فإنها ملعونة ) .

مسألة: أمر النبي بهرق ما استقوا من بئر ثمود وإلقاء ما عجن وخبز به لأجل أنه ماء سخط، فلم يجز الانتفاع به فرارا من سخط الله. وقال ( اعلفوه الإبل ) . قلت: وهكذا حكم الماء النجس وما يعجن به. وثانيها: قال مالك: إن ما لا يجوز استعماله من الطعام والشراب يجوز أن تعلفه الإبل والبهائم؛ إذ لا تكليف عليها؛ وكذلك قال، في العسل النجس: إنه يعلفه النحل. وثالثها: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلف ما عجن بهذا الماء الإبل، ولم يأمر بطرحه كما أمر لحوم الحمر الإنسية يوم خيبر؛ فدل على أن لحم الحمر أشد. في التحريم وأغلظ في التنجيس. وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكسب الحجام أن يعلف الناضح والرقيق، ولم يكن ذلك لتحريم ولا تنجيس. قال الشافعي: ولو كان حراما لم يأمره أن يطعمه رقيقه؛ لأنه متعبد فيه كما تعبد في نفسه. ورابعها: في أمره صلى الله عليه وسلم بعلف الإبل العجين دليل على جواز حمل الرجل النجاسة إلى كلابه ليأكلوها؛ خلافا لمن منع ذلك من أصحابنا وقال: تطلق الكلاب عليها ولا يحملها إليهم. وخامسها: أمره صلى الله عليه وسلم أن يستقوا من بئر الناقة دليل على التبرك بآثار الأنبياء والصالحين، وإن تقادمت أعصارهم وخفيت آثارهم؛ كما أن في الأول دليلا على بغض أهل الفساد وذم ديارهم وآثارهم. هذا، وإن كان التحقيق أن الجمادات غير مؤاخذات، لكن المقرون بالمحبوب محبوب، والمقرون بالمكروه المبغوض مبغوض؛ كما كثير:

أحب لحبها السودان حتى أحب لحبها سود الكلاب

وكما قال آخر:

أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا

وما تلك الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا

وسادسها: منع بعض العلماء الصلاة بهذا الموضع وقال: لا تجوز الصلاة فيها لأنها دار سخط وبقعة غضب. قال ابن العربي: فصارت هذه البقعة مستثناة من قوله صلى الله عليه وسلم: ( جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ) فلا يجوز التيمم بترابها ولا الوضوء من مائها ولا الصلاة فيها. وقد روى الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلى في سبع مواطن: في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق، وفي الحمام وفي معاطن الإبل وفوق ببت الله. وفي الباب عن أبي مرثد وجابر وأنس: حديث ابن عمر إسناده ليس بذاك القوي، وقد تكلم في زيد بن جبيرة من قبل حفظه. وقد زاد علماؤنا: الدار المغصوبة والكنيسة والبيعة والبيت الذي فيه تماثيل، والأرض المغصوبة أو موضعا تستقبل فيه نائما أو وجه رجل أو جدارا عليه نجاسة. قال ابن العربي: ومن هذه المواضع ما منع لحق الغير، ومنه ما منع لحق الله تعالى، ومنه ما منع لأجل النجاسة المحققة أو لغلبتها؛ فما منع لأجل النجاسة إن فرش فيه ثوب طاهر كالحمام والمقبرة فيها أو إليها فإن ذلك جائز في المدونة. وذكر أبو مصعب عنه الكراهة. وفرق علماؤنا بين المقبرة القديمة والجديدة لأجل النجاسة، وبين مقبرة المسلمين والمشركين؛ لأنها دار عذاب وبقعة سخط كالحجر. وقال مالك في المجموعة: لا يصلي في أعطان الإبل وإن فرش ثوبا؛ كأنه رأى لها علتين: الاستتار بها ونفارها فتفسد على المصلي صلاته، فإن كانت واحدة فلا بأس؛ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل؛ في الحديث الصحيح. وقال مالك: لا يصلي على بساط فيه تماثيل إلا من ضرورة. وكره ابن القاسم الصلاة إلى القبلة فيها تماثيل، وفي الدار المغصوبة، فإن فعل أجزأه وذكر بعضهم عن مالك أن الصلاة في الدار المغصوبة لا تجزئ. قال ابن العربي: وذلك عندي بخلاف الأرض. فإن الدار لا تدخل إلا بإذن، والأرض وإن كانت ملكا فإن المسجدية فيها قائمة لا يبطلها الملك.

قلت: الصحيح - إن شاء الله - الذي يدل عليه النظر والخبر أن الصلاة بكل موضع طاهر جائزة صحيحة. وما روي من قوله صلى الله عليه وسلم: ( إن هذا واد به شيطان ) وقد رواه معمر عن الزهري فقال: واخرجوا عن الموضع الذي أصابتكم فيه الغفلة. وقول علي: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أصلي بأرض بابل فإنها ملعونة. وقوله عليه السلام حين مر بالحجر من ثمود: ( لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين ) ونهيه عن الصلاة في معاطن الإبل إلى ذلك مما في هذا الباب، فإنه مردود إلى الأصول المجتمع عليها والدلائل الصحيح مجيئها. قال الإمام الحافظ أبو عمر: المختار عندنا في هذا الباب أن ذلك الوادي وغيره من بقاع الأرض جائز أن يصلى فيها كلها ما لم تكن فيها نجاسة متيقنة تمنع من ذلك، ولا معنى لاعتلال من اعتل بأن موضع النوم عن الصلاة موضع شيطان، وموضع ملعون لا يجب أن تقام فيه الصلاة، وكل ما روي في هذا الباب من النهي عن الصلاة في المقبرة وبأرض بابل وأعطان الإبل وغير ذلك مما في هذا المعنى، كل ذلك عندنا منسوخ ومدفوع لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: ( جعلت لي الأرض كلها مسجدا وطهورا ) ، وقوله صلى الله عليه وسلم مخبرا: إن ذلك من فضائله ومما خصى به، وفضائله عند أهل العلم لا يجوز عليها النسخ ولا التبديل ولا النقص. قال صلى الله عليه وسلم: ( أوتيت خمسا - وقد روي ستا، وقد روي ثلاثا وأربعا، وهي تنتهي إلى أزيد من تسع، قال فيهن - ( لم يؤتهن أحد قبلي بعثت إلى الأحمر والأسود ونصرت بالرعب وجعلت أمتي خير الأمم وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأوتيت الشفاعة وبعثت بجوامع الكلم وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح الأرض فوضعت في يدي وأعطيت الكوثر. وختم بي النبيون ) رواه جماعة من الصحابة. وبعضهم يذكر بعضها، ويذكر بعضهم ما لم يذكر غيره، وهي صحاح كلها. وجائز على فضائله الزيادة وغير جائز فيها النقصان؛ ألا ترى أنه كان عبدا قبل أن يكون نبيا ثم كان نبيا قبل أن يكون رسولا؛ وكذلك روي عنه. وقال: ( ما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) ثم نزلت « ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر » [ الفتح: 2 ] . وسمع رجلا يقوله: يا خير البرية؛ فقال: ( ذاك إبراهيم ) وقال: ( لا يقولن أحدكم أنا خير من يونس بن متى ) وقال: ( السيد يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام ) ثم قال بعد ذلك كله: ( أنا سيد ولد آدم ولا فخر ) . ففضائله صلى الله عليه وسلم لم تزل تزداد إلى أن قبضه الله؛ فمن ههنا قلنا: إنه لا يجوز عليها النسخ ولا الاستثناء ولا النقصان، وجائز فيها الزيادة. وبقوله صلى الله عليه وسلم: ( جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ) أجزنا الصلاة في المقبرة والحمام وفي كل موضع من الأرض إذا كان طاهرا من الأنجاس. وقال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: ( حيثما أدركتك الصلاة فصل فإن الأرض كلها مسجد ) ذكره البخاري ولم يخص موضعا من موضع.

وأما من احتج بحديث ابن وهب قال: أخبرني يحيى بن أيوب عن زيد بن جبيرة عن داود بن حصين عن نافع عن ابن عمر حديث الترمذي الذي ذكرناه فهو حديث انفرد به زيد بن جبيرة وأنكروه عليه، ولا يعرف هذا الحديث مسندا إلا برواية يحيى بن أيوب عن زيد بن جبيرة. وقد كتب الليث بن سعد إلى عبدالله بن نافع مولى ابن عمر يسأله عن هذا الحديث، وكتب إليه عبدالله بن نافع لا أعلم من حدث بهذا عن نافع إلا قد قال عليه الباطل. ذكره الحلواني عن سعيد بن أبي مريم عن الليث، وليس فيه تخصيص مقبرة المشركين من غيرها. وقد روي عن علي بن أبي طالب قال: نهاني حبيبي صلى الله عليه وسلم أن أصلي في المقبرة، ونهاني أن أصلي في أرض بابل فإنها ملعونة. وإسناده ضعيف مجتمع على ضعفه، وأبو صالح الذي رواه عن علي هو سعيد بن عبدالرحمن الغفاري، بصري ليس بمشهور ولا يصح له سماع عن علي، ومن دونه مجهولون لا يعرفون. قال أبو عمر: وفي الباب عن علي من قوله غير مرفوع حديث حسن الإسناد، رواه الفضل بن دكين قال: حدثنا المغيرة بن أبي الحر الكندي قال حدثني أبو العنبس حجر بن عنبس قال: خرجنا مع علي إلى الحرورية، فلما جاوزنا سوريا وقع بأرض بابل، قلنا: يا أمير المؤمنين أمسيت، الصلاة الصلاة؛ فأبى أن يكلم أحدا. قالوا: يا أمير المؤمنين، قد أمسيت. قال بلى، ولكن لا أصلي في أرض خسف الله بها. والمغيرة بن أبي الحر كوفي ثقة؛ قاله يحيى بن معين وغيره. وحجر بن عنبس من كبار أصحاب علي. وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام ) . قال الترمذي: رواه سفيان الثوري عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي مرسلا، وكأنه أثبت وأصح. قال أبو عمر: فسقط الاحتجاج به عند من لا يرى المرسل حجة، ولو ثبت كان الوجه ما ذكرنا. ولسنا نقول كما قال بعض المنتحلين لمذهب المدنين: إن المقبرة في هذا الحديث وغيره أريد بها مقبرة المشركين خاصة؛ فإنه قال: المقبرة والحمام بالألف واللام؛ فغير جائز أن يرد ذلك إلى مقبرة دون مقبرة أو حمام دون حمام بغير توقيف عليه، فهو قول لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا خبر صحيح، ولا مدخل له في القياس ولا في المعقول، ولا دل عليه فحوى الخطاب ولا خرج عليه الخبر. ولا يخلو تخصيص من خص مقبرة المشركين من أحد وجهين: إما أن يكون من أجل اختلاف الكفار إليها بأقدامهم فلا معنى لخصوص المقبرة بالذكر؛ لأن كل موضع هم فيه بأجسامهم وأقدامهم فهو كذلك، وقد جل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتكلم بما لا معنى له. أو يكون من أجل أنها بقعة سخط، فلو كان كذلك ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبني مسجده في مقبرة المشركين وينبشها ويسويها ويبني عليها، ولو جاز لقائل أن يخص من المقام مقبرة للصلاة فيها لكانت مقبرة المشركين أولى بالخصوص والاستثناء من أجل هذا الحديث. وكل من كره الصلاة في المقبرة لم يخص مقبرة من مقبرة؛ لأن الألف واللام إشارة إلى الجنس لا إلى معهود، ولو كان بين مقبرة المسلمين والمشركين فرق لنبيه صلى الله عليه وسلم ولم يهمله؛ لأنه بعث مبينا. ولو ساغ لجاهل أن يقول: مقبرة كذا لجاز لآخر أن يقول: حمام كذا؛ لأن في الحديث المقبرة والحمام. وكذلك قوله: المزبلة والمجزرة؛ غير جائز أن يقال: مزبلة كذا ولا مجزرة كذا ولا طريق كذا؛ لأن التحكم في دين الله غير جائز.

وأجمع العلماء على أن التيمم على مقبرة المشركين إذا كان الموضع طيبا طاهرا نظيفا جائز. وكذلك أجمعوا على أن من صلى في كنيسة أو بيعة على موضع طاهر، أن صلاته ماضية جائزة. وقد تقدم هذا في سورة « براءة » . ومعلوم أن الكنيسة أقرب إلى أن تكون بقعة سخط من المقبرة؛ لأنها بقعة يعصى الله ويكفر به فيها، وليس كذلك المقبرة. وقد وردت السنة باتخاذ البيع والكنائس مساجد. روى النسائي عن طلق بن علي قال: خرجنا وفدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه وصلينا معه، وأخبرناه أن بأرضنا بيعة لنا، وذكر الحديث. وفيه: ( فإذا أتيتم أرضكم فاكسروا بيعتكم واتخذوها مسجدا ) . وذكر أبو داود عن عثمان بن أبي العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجعل مسجد الطائف حيث كانت طواغيتهم. وقد تقدم في « براءة » . وحسبك بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم الذي أسس على التقوى مبنيا في مقبرة المشركين؛ وهو حجة على كل من كره الصلاة فيها. وممن كره الصلاة في المقبرة سواء كانت لمسلمين أو مشركين الثوري أجزأه إذا صلى في المقبرة في موضع ليس فيه نجاسة؛ للأحاديث المعلومة في ذلك، ولحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا ) ، ولحديث أبي مرثد الغنوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها ) . وهذان حديثان ثابتان من جهة الإسناد، ولا حجة فيهما؛ لأنهما محتملان للتأويل، ولا يجب أن يمتنع من الصلاة في كل موضع طاهر إلا بدليل لا يحتمل تأويلا. ولم يفرق أحد من فقهاء المسلمين بين مقبرة المسلمين والمشركين إلا ما حكيناه من خطل القول الذي لا يشتغل بمثله، ولا وجه له في نظر ولا في صحيح أثر. وثامنها: الحائط يلقى فيه النتن والعذرة ليكرم فلا يصلى فيه حتى يسقى ثلاث مرات، لما رواه الدارقطني عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحائط يلقى فيه العذرة والنتن قال: ( إذا سقي ثلاث مرات فصل فيه ) . وخرجه أيضا من حديث نافع عن ابن عمر أنه سئل عن هذه الحيطان التي تلقى فيها العذرات وهذا الزبل، أيصلى فيها؟ فقال: إذا سقيت ثلاث مرات فصل فيها. رفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم اختلفا في الإسناد، والله أعلم.

 

الآية: 81 ( وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين )

 

قوله تعالى: « وآتيناهم آياتنا » أي بآياتنا. كقوله: « آتنا غداءنا » [ الكهف: 62 ] أي بغدائنا. والمراد الناقة، وكان فيها آيات جمة: خروجها من الصخرة، ودنو نتاجها عند خروجها، وعظمها حتى لم تشبهها ناقة، وكثرة لبنها حتى تكفيهم جميعا. ويحتمل أنه كان لصالح آيات أخر سوى الناقة، كالبئر وغيره. « معرضين » أي لم يعتبروا.

 

الآيات: 82 - 84 ( وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين، فأخذتهم الصيحة مصبحين، فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون )

 

قوله تعالى: « وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا » النحت في كلام العرب: البري والنجر. نحته ينحته ( بالكسر ) نحتا أي براه. والنحاتة البراية. والمنحت ما ينحت به. وفي التنزيل « أتعبدون ما تنحتون » [ الصافات: 95 ] أي تنجرون وتصنعون. فكانوا يتخذون من الجبال بيوتا لأنفسهم بشدة قوتهم. « آمنين » أي من أن تسقط عليهم أو تخرب. وقيل: آمنين من الموت. وقيل: من العذاب. « فأخذتهم الصيحة مصبحين » أي في وقت الصبح، وهو نصب على الحال. وقد تقدم ذكر الصيحة في هود والأعراف. « فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون » من الأموال والحصون في الجبال، ولا ما أعطوه من القوة.

 

الآيتان: 85 - 86 ( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل، إن ربك هو الخلاق العليم )

 

قوله تعالى: « وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق » أي للزوال والفناء. وقيل: أي لأجازي المحسن والمسيء؛ كما قال: « ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزى الذين أساؤوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى » [ النجم: 31 ] . « وإن الساعة لآتية » أي لكائنة فيجزى كل بعمله. « فاصفح الصفح الجميل » مثل « واهجرهم هجرا جميلا » [ المزمل: 10 ] أي تجاوز عنهم يا محمد، واعفو عفوا حسنا؛ ثم نسخ بالسيف. قال قتادة: نسخه قوله: « فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم » [ النساء: 91 ] . وأن النبي صلى الله عليه وسلم فال لهم: ( لقد جئتكم بالذبح وبعثت بالحصاد ولم أبعث بالزراعة ) ؛ قاله عكرمة ومجاهد. وقيل: ليس بمنسوخ، وأنه أمر بالصفح في حق نفسه فيما بينه وبينهم. والصفح: الإعراض؛ عن الحسن وغيره. « إن ربك هو الخلاق » أي المقدر للخلق والأخلاق. « العليم » بأهل الوفاق والنفاق.

 

الآية: 87 ( ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم )

 

قوله تعالى: « ولقد آتيناك سبعا من المثاني » اختلف العلماء في السبع المثاني؛ فقيل: الفاتحة؛ قاله علي بن أبي طالب وأبو هريرة والربيع بن أنس وأبو العالية والحسن وغيرهم، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ثابتة، من حديث أبي بن كعب وأبي سعيد بن المعلى. وقد تقدم في تفسير الفاتحة. وخرج الترمذي من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الحمد لله أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني ) . قال: هذا حديث حسن صحيح. وهذا نص، وقد تقدم في الفاتحة. وقال الشاعر:

نشدتكم بمنزل القرآن أم الكتاب السبع من مثاني

وقال ابن عباس: ( هي السبع الطول: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال والتوبة معا؛ إذ ليس بينهما التسمية ) . روى النسائي حدثنا علي بن حجر أخبرنا شريك عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله عز وجل: « سبعا من المثاني » قال: السبع الطول، وسميت مثاني لأن العبر والأحكام والحدود ثنيت فيها. وأنكر قوم هذا وقالوا: أنزلت هذه الآية بمكة، ولم ينزل من الطول شيء إذ ذاك. وأجيب بأن الله تعالى أنزل القرآن إلى السماء الدنيا ثم أنزل منها نجوما، فما أنزله إلى السماء الدنيا فكأنما أتاه محمدا صلى الله عليه وسلم وإن لم ينزل عليه بعد. وممن قال إنها السبع الطول: عبدالله بن مسعود وعبدالله بن عمر وسعيد بن جبير ومجاهد. وقال جرير:

جزى الله الفرزدق حين يمسي مضيعا للمفصل والمثاني

وقيل: ( المثاني القرآن كله؛ قال الله تعالى: « كتابا متشابها مثاني » [ الزمر: 23 ] ) . هذا قول الضحاك وطاوس وأبو مالك، وقاله ابن عباس. وقيل له مثاني لأن الأنباء والقصص ثنيت فيه. وقالت صفية بنت عبدالمطلب ترثي رسول الله صلى الله عليه وسلم:

فقد كان نورا ساطعا يهتدى به يخص بتنزيل القران المعظم

أي القرآن. وقيل: المراد بالسبع المثاني أقسام القرآن من الأمر والنهي والتبشير والإنذار وضرب الأمثال وتعديد نعم وأنباء قرون؛ قال زياد بن أبي مريم. والصحيح الأول لأنه نص. وقد قدمنا في الفاتحة أنه ليس في تسميتها بالمثاني ما يمنع من تسمية غيرها بذلك؛ إلا أنه إذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وثبت عنه نص في شيء لا يحتمل التأويل كان الوقوف عنده.

 

قوله تعالى: « والقرآن العظيم » فيه إضمار تقديره: وهو أن الفاتحة القرآن العظيم لاشتمالها على ما يتعلق بأصول الإسلام. وقد تقدم في الفاتحة. وقيل: الواو مقحمة، التقدير: ولقد آتيناك سبعا من المثاني القرآن العظيم. ومنه قول الشاعر:

إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم

وقد تقدم عند قوله: « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى » [ البقرة: 238 ]

 

الآية: 88 ( لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين )

 

قوله تعالى: « لا تمدن عينيك » المعنى: قد أغنيتك بالقرآن عما في أيدي الناس؛ فإنه ليس منا من لم يتغن بالقرآن؛ أي ليس منا من رأى أنه ليس يغني بما عنده من القرآن حتى يطمح بصره إلى زخارف الدنيا وعنده معارف المولى. يقال: إنه وافى سبع قوافل من البصرة وأذرعات ليهود قريظة والنضير في يوم واحد، فيها البر والطيب والجوهر وأمتعة البحر، فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها وأنفقناها في سبيل الله، فأنزل الله تعالى: « ولقد آتيناك سبعا من المثاني » أي فهي خير لكم من القوافل السبع، فلا تمدن أعينكم إليها. وإلى هذا صار ابن عيينة، وأورد قوله عليه السلام: ( ليس منا من لم يتغن بالقرآن ) أي من لم يستغن به. وقد تقدم هذا المعنى في أول الكتاب. « أزواجا منهم » أي أمثالا في النعم، أي الأغنياء بعضهم أمثال بعض في الغنى، فهم أزواج.

 

هذه الآية تقتضي الزجر عن التشوف إلى متاع الدنيا على الدوام، وإقبال العبد على عبادة مولاه. ومثله « ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه » [ طه: 131 ] الآية. وليس كذلك؛ فإنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة ) . وكان عليه الصلاة والسلام متشاغل بالنساء، جبلة الآدمية وتشوف الخلقة الإنسانية، ويحافظ على الطيب، ولا تقر له عين إلا في الصلاة لدى مناجاة المولى. ويرى أن مناجاته أحرى من ذلك وأولى. ولم يكن في دين محمد الرهبانية والإقبال على الأعمال الصالحة بالكلية كما كان في دين عيسى، وإنما شرع الله سبحانه حنيفية سمحة خالصة عن الحرج خفيفة على الآدمي، يأخذ من الآدمية بشهواتها ويرجع إلى الله بقلب سليم. ورأى الفراء والمخلصون من الفضلاء الانكفاف عن اللذات والخلوص لرب الأرض والسماوات اليوم أولى؛ لما غلب على الدنيا من الحرام، واضطر العبد في المعاش إلى مخالطة من لا تجوز مخالطته ومصانعة من تحرم مصانعته، فكانت القراءة أفضل، والفرار عن الدنيا أصوب للعبد وأعدل؛ قال صلى الله عليه وسلم: ( يأتي على الناس زمان يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن ) .

 

قوله تعالى: « ولا تحزن عليهم » أي ولا تحزن على المشركين إن لم يؤمنوا. وقيل: المعنى لا تحزن على ما متعوا به في الدنيا فلك في الآخرة أفضل منه. وقيل: لا تحزن عليهم إن صاروا إلى العذاب فهم أهل العذاب. « واخفض جناحك للمؤمنين » أي ألن جانبك لمن آمن بك وتواضع لهم. وأصله أن الطائر إذا ضم فرخه إلى نفسه بسط جناحه ثم قبضه على الفرخ، فجعل ذلك وصفا لتقريب الإنسان أتباعه. ويقال: فلان خافض الجناح، أي وقور ساكن. والجناحان من ابن آدم جانباه؛ ومنه « واضمم يدك إلى جناحك » [ طه: 22 ] وجناح الطائر يده. وقال الشاعر:

وحسبك فتية لزعيم قوم يمد على أخي سقم جناحا

أي تواضعا ولينا.

 

الآيتان: 89 - 90 ( وقل إني أنا النذير المبين، كما أنزلنا على المقتسمين )

 

في الكلام حذف؛ أي إني أنا النذير المبين عذابا، فحذف المفعول، إذ كان الإنذار يدل عليه، كما قال في موضع آخر: « أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود » [ فصلت: 13 ] . وقيل: الكاف زائدة، أي أنذرتكم ما أنزلنا على المقتسمين؛ كقوله: « ليس كمثله شيء » [ الشورى: 11 ] وقيل: أنذرتكم مثل ما أنزلنا بالمقتسمين. وقيل: المعنى كما أنزلنا على المقتسمين، أي من العذاب وكفيناك المستهزئين، فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين الذين بغوا، فإنا كفيناك أولئك الرؤساء الذين كنت تلقى منهم ما تلقى.

واختلف في « المقتسمين » على أقوال سبعة: الأول: قال مقاتل والفراء: هم ستة عشر رجلا بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم فاقتسموا أعقاب مكة وأنقابها وفجاجها يقولون لمن سلكها: لا تغتروا بهذا الخارج فينا يدعي النبوة؛ فإنه مجنون، وربما قالوا ساحر، وربما قالوا شاعر، وربما قالوا كاهن. وسموا المقتسمين لأنهم اقتسموا هذه الطرق، فأماتهم الله شر ميتة، وكانوا نصبوا الوليد بن المغيرة حكما على باب المسجد، فإذا سألوه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صدق أولئك.

الثاني: قال قتادة: هم قوم من كفار قريش اقتسموا كتاب الله فجعلوا بعضه شعرا، وبعضه سحرا، وبعضه كهانة، وبعضه أساطير الأولين. الثالث: قال ابن عباس: ( هم أهل الكتاب آمنوا ببعضه وكفروا ببعضه ) . وكذلك قال عكرمة: هم أهل الكتاب، وسموا مقتسمين لأنهم كانوا مستهزئين، فيقول بعضهم: هذه السورة لي وهذه السورة لك. وهو القول الرابع. الخامس: قال قتادة: قسموا كتابهم ففرقوه وبددوه وحرفوه. السادس: قال زيد بن أسلم: المراد قوم صالح، تقاسموا على قتله فسموا مقتسمين؛ كما قال تعالى: « تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله » [ النمل: 49 ] .

السابع: قال الأخفش: هم قوم اقتسموا أيمانا تحالفوا عليها. وقيل: إنهم العاص بن وائل وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام وأبو البختري بن هشام والنضر بن الحارث وأمية بن خلف ومنبه بن الحجاج؛ ذكره الماوردي.

 

الآية: 91 ( الذين جعلوا القرآن عضين )

 

هذه صفة المقتسمين. وقيل: هو مبتدأ وخبره « لنسألنهم » . وواحد العضين عضة، من عضيت الشيء تعضية أي فرقته؛ وكل فرقة عضة. وقال بعضهم: كانت في الأصل عضوة فنقصت الواو، ولذلك جمعت عضين؛ كما قالوا: عزين في جمع عزة، والأصل عزوة. وكذلك ثبة وثبين. ويرجع المعنى إلى ما ذكرناه في المقتسمين. قال ابن عباس: ( آمنوا ببعض وكفروا ببعض ) . وقيل: فرقوا أقاويلهم فيه فجعلوه كذبا وسحرا وكهانة وشعرا. عضوته أي فرقته. قال الشاعر - هو رؤبة - :

وليس دين الله بالمعضى

أي بالمفرق. ويقال: نقصانه الهاء وأصله عضهة؛ لأن العضه والعضين في لغة قريش السحر. وهم يقولون للساحر: عاضه وللساحرة عاضهة. قال الشاعر:

أعوذ بربي من النافثا ت في عُقَد العاضه المُعْضه

وفي الحديث: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم العاضهة والمستعضهة، وفسر: الساحرة والمستسحرة. والمعنى: أكثروا البهت على القرآن ونوعوا الكذب فيه، فقالوا: سحر وأساطير الأولين، وأنه مفترى، إلى غير ذلك. ونظير عضة في النقصان شفة، والأصل شفهة. كما قالوا: سنة، والأصل سنهة، فنقصوا الهاء الأصلية وأثبتت هاء العلامة وهي للتأنيث. وقيل: هو من العضه وهي النميمة. والعضيهة البهتان، وهو أن يعضه الإنسان ويقول، فيه ما ليس فيه. يقال عضهه عضها رماه بالبهتان. وقد أعضهت أي جئت بالبهتان. قال الكسائي: العضة الكذب والبهتان، وجمعها عضون؛ مثل عزة وعزون؛ قال تعالى: « الذين جعلوا القرآن عضين » . ويقال: عضوه أي آمنوا بما أحبوا منه وكفروا بالباقي، فأحب كفرهم إيمانهم. وكان الفراء يذهب إلى أنه مأخوذ من العضاة، وهي شجر الوادي ويخرج كالشوك.

 

الآيتان: 92 - 93 ( فوربك لنسألنهم أجمعين، عما كانوا يعملون )

 

قوله تعالى: « فوربك لنسألنهم أجمعين » أي لنسألن هؤلاء الذين جرى ذكرهم عما عملوا في الدنيا. وفي البخاري: وقال عدة من أهل العلم في قوله: « فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون » عن لا إله إلا الله.

قلت: وهذا قد روي مرفوعا، روى الترمذي الحكيم قال: حدثنا الجارود بن معاذ قال حدثنا الفضل بن موسى عن شريك عن ليث عن بشير بن نهيك عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: « فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعمون » قال: ( عن قول لا إله إلا الله ) قال أبو عبدالله: معناه عندنا عن صدق لا إله إلا الله ووفائها؛ وذلك أن الله تعالى ذكر في تنزيله العمل فقال: « عما كانوا يعملون » ولم يقل عما كانوا يقولون، وإن كان قد يجوز أن يكون القول أيضا عمل اللسان، فإنما المعني به ما يعرفه أهل اللغة أن القول قول والعمل عمل. وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( عن لا إله إلا الله ) أي عن الوفاء بها والصدق لمقالها. كما قال الحسن البصري: ليس الإيمان بالتحلي ولا الدين بالتمني ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال. ولهذا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة ) قيل: يا رسول الله، وما إخلاصها؟ قال: ( أن تحجزه عن محارم الله ) . رواه زيد بن أرقم. وعنه أيضا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله عهد إلي ألا يأتيني أحد من أمتي بلا إله إلا الله لا يخلط بها شيئا إلا وجبت له الجنة ) قالوا: يا رسول الله، وما الذي يخلط بلا إله إلا الله؟ قال: ( حرصا على الدنيا وجمعا لها ومنعا لها، يقولون قول الأنبياء ويعملون أعمال الجبابرة ) . وروى أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا إله إلا الله تمنع العباد من سخط الله ما لم يؤثروا صفقة دنياهم على دينهم فإذا آثروا صفقة دنياهم على دينهم ثم قالوا لا إله إلا الله ردت عليهم وقال الله كذبتم ) . أسانيدها في نوادر الأصول.

قلت: والآية بعمومها تدل على سؤال الجميع ) ومحاسبتهم كافرهم ومؤمنهم، إلا من دخل الجنة بغير حساب على ما بيناه في كتاب ( التذكرة ) . فإن قيل: وهل يسأل الكافر ويحاسب؟ قلنا: فيه خلاف وذكرناه في التذكرة. والذي يظهر سؤال، للآية وقوله: « وقفوهم إنهم مسؤولون » [ الصافات: 24 ] وقوله: « إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم » [ الغاشية: 25 - 26 ] . فإن قيل: فقد قال تعالى: « ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون » [ القصص: 78 ] وقال: « فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان » [ الرحمن: 39 ] ، وقال: « ولا يكلمهم الله » [ البقرة: 174 ] ، وقال: « إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون » [ المطففين: 15 ] . قلنا: القيامة مواطن، فموطن يكون فيه سؤال وكلام، وموطن لا يكون ذلك فيه. قال عكرمة: القيامة مواطن، يسأل في بعضها ولا يسأل في بعضها. وقال ابن عباس: ( لا يسألهم سؤال استخبار واستعلام هل عملتم كذا وكذا؛ لأن الله عالم بكل شيء، ولكن يسألهم سؤال تقريع وتوبيخ فيقول لهم: لم عصيتم القرآن وما حجتكم فيه؟ واعتمد قطرب هذا القول. وقيل: « لنسألنهم أجمعين » يعني المؤمنين المكلفين؛ بيانه قوله تعالى: « ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم » [ التكاثر: 8 ] . والقول بالعموم أولى كما ذكر. والله أعلم.

 

الآيتان: 94 - 95 ( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين، إنا كفيناك المستهزئين )

 

قوله تعالى: « فاصدع بما تؤمر » أي بالذي تؤمر به، أي بلغ رسالة الله جميع الخلق لتقوم الحجة عليهم، فقد أمرك الله بذلك. والصدع: الشق. وتصدع القوم أي تفرقوا؛ ومنه « يومئذ يصدعون » [ الروم: 43 ] أي يتفرقون. وصدعته فانصدع أي انشق. أصل الصدع الفرق والشق. قال أبو ذؤيب يصف الحمار وأتنه:

وكأنهن ربابة وكأنه يسر يفيض على القداح ويصدع

أي يفرق ويشق. فقوله: « اصدع بما تؤمر » قال الفراء: أراد فاصدع بالأمر، أي أظهر دينك، فـ « ما » مع الفعل على هذا بمنزلة المصدر. وقال ابن الأعرابي: معنى اصدع بما تؤمر، أي اقصد. وقيل: « فاصدع بما تؤمر » أي فرق جمعهم وكلمتهم بأن تدعوهم إلى التوحيد فإنهم يتفرقون بأن يجيب البعض؛ فيرجع الصدع على هذا إلى صدع جماعة الكفار.

 

قوله تعالى: « وأعرض عن المشركين » أي عن الاهتمام باستهزائهم وعن المبالاة بقولهم، فقد برأك الله عما يقولون. وقال ابن عباس: ( هو منسوخ بقوله « فاقتلوا المشركين » [ التوبة: 5 ] ) . وقال عبدالله بن عبيد: ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفيا حتى نزل قوله تعالى: « فاصدع بما تؤمر » فخرج هو وأصحابه. وقال مجاهد: أراد الجهر بالقرآن في الصلاة. « وأعرض عن المشركين » لا تبال بهم. قال ابن إسحاق: لما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله صلى الله عليه وسلم الاستهزاء أنزل الله تعالى « فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين. إنا كفيناك المستهزئين. الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون » . والمعنى: اصدع بما تؤمر ولا تخف غير الله؛ فإن الله كافيك من أذاك كما كفاك المستهزئين، وكانوا خمسة من رؤساء أهل مكة، وهم الوليد بن المغيرة وهو رأسهم، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب بن أسد أبو زمعة. والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن الطلاطلة، أهلكهم الله جميعا، قيل يوم بدر في يوم واحد؛ لاستهزائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم. وسبب هلاكهم فيما ذكر ابن إسحاق: أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يطوفون بالبيت، فقام وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر به الأسود بن المطلب فرمى في وجهه بورقة خضراء فعمي ووجعت عينه، فجعل يضرب برأسه الجدار. ومر به الأسود بن عبد يغوث فأشار إلى بطنه فاستسقى بطنه فمات منه حَبَنا. ( يقال: حبِن ( بالكسر ) حَبَنا وحُبِن للمفعول عظم بطنه بالماء الأصفر، فهو أحبن، والمرأة حبناء؛ قاله في الصحاح ) . ومر به الوليد بن المغيرة فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعب رجله، وكان أصابه قبل ذلك بسنين، وهو يجر سبله، وذلك أنه مر برجل من خزاعة يريش نبلا له فتعلق سهم من نبله بإزاره فخدش في رجله ذلك الخدش وليس بشيء، فانتقض به فقتله. ومر به العاص بن وائل فأشار إلى أخمص رجله، فمرج على حمار له يريد الطائف، فربض به على شبرمة فدخلت في أخمص رجله شوكة فقتلته. ومر به الحارث بن الطلاطلة، فأشار إلى رأسه فامتخط قيحا فقتله. وقد ذكر في سبب موتهم اختلاف قريب من هذا. وقيل: إنهم المراد بقوله تعالى: « فخر عليهم السقف من فوقهم » [ النحل: 26 ] شبه ما أصابهم في موتهم بالسقف الواقع عليهم؛ على ما يأتي.

 

الآية: 96 ( الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون )

 

هذه صفة المستهزئين. وقيل: هو ابتداء وخبره « فسوف يعلمون » .

 

الآية: 97 ( ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون )

 

قوله تعالى: « ولقد نعلم أنك يضيق صدرك » أي قلبك؛ لأن الصدر محل القلب. « بما يقولون » أي بما تسمعه من تكذيبك ورد قولك، وتنال. ويناله أصحابك من أعدائك.

 

الآية: 98 ( فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين )

 

قوله تعالى: « فسبح بحمد ربك » أي فافزع إلى الصلاة، فهي غاية التسبيح ونهاية التقديس.

 

قوله تعالى: « وكن من الساجدين » لا خفاء أن غاية القرب في الصلاة حال السجود، كما قال عليه السلام: ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأخلصوا الدعاء ) . ولذلك خص السجود بالذكر

قال ابن العربي: ظن بعض الناس أن المراد بالأمر هنا السجود نفسه، فرأى هذا الموضع محل سجود في القرآن، وقد شاهدت الإمام بمحراب زكريا من البيت المقدس طهره الله، يسجد في هذا الموضع وسجدت معه فيها، ولم يره جماهير العلماء.

قلت: قد ذكر أبو بكر النقاش أن ههنا سجدة عند أبي حذيفة ويمان بن رئاب، ورأى أنها واجبة

 

الآية: 99 ( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين )

 

فيه مسألة واحدة: وهو أن اليقين الموت. أمره بعبادته إذ قصر عباده في خدمته، وأن ذلك يجب عليه. فإن قيل: فما فائدة قوله: « حتى يأتيك اليقين » وكان قوله: « واعبد ربك » كافيا في الأمر بالعبادة. قيل له: الفائدة في هذا أنه لو قال: « واعبد ربك » مطلقا ثم عبده مرة واحدة كان مطيعا؛ وإذا قال « حتى يأتيك اليقين » كان معناه لا تفارق هذا حتى تموت. فإن قيل: كيف قال سبحانه: « واعبد ربك حتى يأتيك اليقين » ولم يقل أبدا؛ فالجواب أن اليقين أبلغ من قوله: أبدا؛ لاحتمال لفظ الأبد للحظة الواحدة ولجميع الأبد. وقد تقدم هذا المعنى. والمراد استمرار العبادة مدة حياته، كما قال العبد الصالح: وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا. ويتركب على هذا أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق أبدا، وقال: نويت يوما أو شهرا كانت عليه الرجعة. ولو قال: طلقتها حياتها لم يراجعها. والدليل على أن اليقين الموت حديث أم العلاء الأنصارية، وكانت من المبايعات، وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أما عثمان - أعني عثمان بن مظعون - فقد جاءه اليقين وإني لأرجو له الخير والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل به ) وذكر الحديث. انفرد بإخراجه البخاري رحمه الله وكان عمر بن عبدالعزيز يقول: ما رأيت يقينا أشبه بالشك من يقين الناس بالموت ثم لا يستعدون له؛ يعني كأنهم فيه شاكون. وقد قيل: إن اليقين هنا الحق الذي لا ريب فيه من نصرك على أعدائك؛ قال ابن شجرة؛ والأول أصح، وهو قول مجاهد وقتادة والحسن. والله اعلم. وقد روى جبير بن نفير عن أبي مسلم الخولاني أنه سمعه يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين لكن أوحي إلي أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) .

 

سورة النحل

مقدمة السورة

 

سورة النحل وهي مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وتسمى سورة النعم بسبب ما عدد الله فيها من نعمه على عباده. وقيل: هي مكية غير قوله تعالى: « وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به » [ النحل: 126 ] الآية؛ نزلت بالمدينة في شأن التمثيل بحمزة وقتلى أحد. وغير قوله تعالى: « واصبر وما صبرك إلا بالله » [ النحل: 127 ] . وغير قوله: « ثم إن ربك للذين هاجروا » [ النحل:110 ] الآية. وأما قوله: « والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا » [ النحل: 41 ] فمكي، في شأن هجرة الحبشة. وقال ابن عباس: هي مكية إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة بعد قتل حمزة، وهي قوله: « ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا » إلى قوله « بأحسن ما كانوا يعملون » [ النحل: 95 ] .

 

الآية: 1 ( أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون )

 

قوله تعالى: « أتى أمر الله فلا تستعجلوه » قيل: « أتى » بمعنى يأتي؛ فهو كقولك: إن أكرمتني أكرمتك. وقد تقدم أن أخبار الله تعالى في الماضي والمستقبل سواء؛ لأنه آت لا محالة، كقوله: « ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار » [ الأعراف: 44 ] . و « أمر الله » عقابه لمن أقام على الشرك وتكذيب رسوله. قال الحسن وابن جريج والضحاك: إنه ما جاء به القرآن من فرائضه وأحكامه. وفيه بعد؛ لأنه لم ينقل أن أحدا من الصحابة استعجل فرائض الله من قبل أن تفرض عليهم، وأما مستعجلو العذاب والعقاب فذلك منقول عن كثير من كفار قريش وغيرهم، حتى قال النضر بن الحارث: « اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك » الآية، فاستعجل العذاب.

قلت: قد يستدل الضحاك بقول عمر رضي الله عنه: وافقت ربي في ثلاث: في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أسارى بدر؛ خرجه مسلم والبخاري. وقال الزجاج: هو ما وعدهم به من المجازاة على كفرهم، وهو كقوله: « حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور » [ هود: 40 ] . وقيل: هو يوم القيامة أو ما يدل على قربها من أشراطها. قال ابن عباس: لما نزلت « اقتربت الساعة وانشق القمر » [ القمر: 1 ] قال الكفار: إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت، فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون، فأمسكوا وانتظروا فلم يروا شيئا، فقالوا: ما نرى شيئا فنزلت « اقترب للناس حسابهم » [ الأنبياء: 1 ] الآية. فأشفقوا وانتظروا قرب الساعة، فامتدت الأيام فقالوا: ما نرى شيئا فنزلت « أتى أمر الله » فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وخافوا؛ فنزلت « فلا تستعجلوه » فاطمأنوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( بعثت أنا والساعة كهاتين ) وأشار بأصبعيه: السبابة والتي تليها. يقول: ( إن كادت لتسبقني فسبقتها ) . وقال ابن عباس: كان بعث النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة، وأن جبريل لما أمر بأهل السماوات مبعوثا إلى محمد صلى الله عليه وسلم قالوا الله أكبر، قد قامت الساعة.

 

قوله تعالى: « سبحانه وتعالى عما يشركون » أي تنزيها له عما يصفونه به من أنه لا يقدر على قيام الساعة، وذلك أنهم يقولون: لا يقدر أحد على بعث الأموات، فوصفوه بالعجز الذي لا يوصف به إلا المخلوق، وذلك شرك. وقيل: « عما يشركون » أي عن إشراكهم. وقيل: « ما » بمعنى الذي أي ارتفع عن الذين أشركوا به.

 

الآية: 2 ( ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون )

 

قرأ المفضل عن عاصم « تَنَزَّل الملائكةُ » والأصل تتنزل، فالفعل مسند إلى الملائكة. وقرأ الكسائي عن أبي بكر عن عاصم باختلاف عنه والأعمش « تُنَزَّل الملائكةُ » غير مسمى الفاعل. وقرأ الجعفي عن أبي بكر عن عاصم « تُنَزِّل الملائكةَ » بالنون مسمى الفاعل، الباقون « يُنَزِّل » بالياء مسمى الفاعل، والضمير فيه لاسم الله عز وجل. وروي عن قتادة « تنزل الملائكة » بالنون والتخفيف. وقرأ الأعمش « تنزل » بفتح التاء وكسر الزاي، من النزول. « الملائكة » رفعا مثل « تنزل الملائكة » [ القدر: 4 ] « بالروح » أي بالوحي وهو النبوة؛ قاله ابن عباس. نظيره « يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده » [ غافر: 15 ] . الربيع بن أنس: بكلام الله وهو القرآن. وقيل: هو بيان الحق الذي يجب اتباعه. وقيل أرواح الخلق؛ قاله قتادة، لا ينزل ملك إلا ومعه روح. وكذا روي عن ابن عباس أن الروح خلق من خلق الله عز وجل كصور ابن آدم، لا ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد منهم. وقيل بالرحمة؛ قاله الحسن وقتادة. وقيل بالهداية؛ لأنها تحيا بها القلوب كما تحيا بالأرواح الأبدان، وهو معنى قول الزجاج. قال الزجاج: الروح ما كان فيه من أمر الله حياة بالإرشاد إلى أمره. وقال أبو عبيدة: الروح هنا جبريل. والباء في قوله: « بالروح » بمعنى مع، كقولك: خرج بثيابه، أي مع ثيابه. « من أمره » أي بأمره. « على من يشاء من عباده » أي على الذين اختارهم الله للنبوة. وهذا رد لقولهم: « لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم » [ الزخرف: 31 ] . « أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون » تحذير من عبادة الأوثان، ولذلك جاء الإنذار؛ لأن أصله التحذير مما يخاف منه. ودل على ذلك قوله: « فاتقون » . و « أن » في موضع نصب بنزع الخافض، أي بأن أنذروا أهل الكفر بأنه لا إله إلا الله، « فأن » في محل نصب بسقوط الخافض أو بوقوع الإنذار عليه.

 

الآية: 3 ( خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون )

 

قوله تعالى: « خلق السماوات والأرض بالحق » أي للزوال والفناء. وقيل: « بالحق » أي للدلالة على قدرته، وأن له أن يتعبد العباد بالطاعة وأن يحيى بعد الموت. « تعالى عما يشركون » أي من هذه الأصنام التي لا تقدر على خلق شيء.

 

الآية: 4 ( خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين )

 

قوله تعالى: « خلق الإنسان من نطفة » لما ذكر الدليل على توحيده ذكر بعده الإنسان ومناكدته وتعدي طوره. و « الإنسان » اسم للجنس. وروي أن المراد به أبي بن خلف الجمحي، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم رميم فقال: أترى يحيي الله هذا بعد ما قد رم. وفي هذا أيضا نزل « أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين » [ يس: 77 ] أي خلق الإنسان من ماء يخرج من بين الصلب والترائب، فنقله أطوارا إلى أن ولد ونشأ بحيث يخاصم في الأمور. فمعنى الكلام التعجب من الإنسان « وضرب لنا مثلا ونسي خلقه » [ يس: 78 ] وقوله: « فإذا هو خصيم » أي مخاصم، كالنسيب بمعنى المناسب. أي يخاصم الله عز وجل في قدرته. و « مبين » أي ظاهر الخصومة. وقيل: يبين عن نفسه الخصومة بالباطل. والمبين: هو المفصح عما في ضميره بمنطقه.

 

الآية: 5 ( والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون )

 

قوله تعالى: « والأنعام خلقها لكم » لما ذكر الإنسان ذكر ما من به عليه. والأنعام: الإبل والبقر والغنم. وأكثر ما يقال: نعم وأنعام للإبل، ويقال للمجموع ولا يقال للغنم مفردة. قال حسان:

عفت ذات الأصابع فالجواء إلى عذراء منزلها خلاء

ديار من بني الحسحاس قفر تعفيها الروامس والسماء

وكانت لا يزال بها أنيس خلال مروجها نعم وشاء

فالنعم هنا الإبل خاصة. وقال الجوهري: والنعم واحد الأنعام وهي المال الراعية، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل. قال الفراء: هو ذكر لا يؤنث، يقولون: هذا نعم وارد، ويجمع على نعمان مثل حمل وحملان. والأنعام تذكر وتؤنث؛ قال الله تعالى: « مما في بطونه » [ النحل:66 ] . وفي موضع « مما في بطونها » [ المؤمنون: 21 ] . وانتصب الأنعام عطفا على الإنسان، أو بفعل مقتدر، وهو أوجه.

 

قوله تعالى: « دفء » الدفء: السخانة، وهو ما استدفئ به من أصوافها وأوبارها وأشعارها، ملابس ولحف وقطف. وروي عن ابن عباس: دفؤها نسلها؛ والله أعلم قال الجوهري في الصحاح: الدفء نتاج الإبل وألبانها وما ينتفع به منها؛ قال الله تعالى: « لكم فيها دفء » . وفي الحديث ( لنا من دفئهم ما سلموا بالميثاق ) . والدفء أيضا السخونة، تقول منه: دفئ الرجل دفاءة مثل كره كراهة. وكذلك دفئ دفأ مثل ظمئ ظمأ. والاسم الدفء بالكسر وهو الشيء الذي يدفئك، والجمع الأدفاء. تقول: ما عليه دفء؛ لأنه اسم. ولا تقول: ما عليك دفاءة؛ لأنه مصدر. وتقول: اقعد في دفء هذا الحائط أي ركنه. ورجل دفئ على فعل إذا لبس ما يدفئه. وكذلك رجل دفآن وامرأة دفأى. وقد أدفأه الثوب وتدفأ هو بالثوب واستدفأ به، وأدفأ به وهو افتعل؛ أي ما لبس ما يدفئه. ودفؤت ليلتنا، ويوم دفيء على فعيل وليلة دفيئة، وكذلك الثوب والبيت. والمدفئة الإبل الكثيرة؛ لأن بعضها يدفئ بعضا بأنفاسها، وقد يشدد. والمدفأة الإبل الكثيرة الأوبار والشحوم؛ عن الأصمعي. وأنشد الشماخ:

وكيف يضيع صاحب مدفآت على أثباجهن من الصقيع

 

قوله تعالى: « ومنافع » قال ابن عباس: المنافع نسل كل دابة. مجاهد: الركوب والحمل والألبان واللحوم والسمن. « ومنها تأكلون » أفرد منفعة الأكل بالذكر لأنها معظم المنافع. وقيل: المعنى ومن لحومها تأكلون عند الذبح.

 

دلت هذه الآية على لباس الصوف، وقد لبسه رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله كموسى وغيره. وفي حديث المغيرة: فغسل وجهه وعليه جبة من صوف شامية ضيقة الكمين... الحديث، خرجه مسلم وغيره. قال ابن العربي: وهو شعار المتقين ولباس الصالحين وشارة الصحابة والتابعين، واختيار الزهاد والعارفين، وهو يلبس لينا وخشنا وجيدا ومقاربا ورديئا، وإليه نسب جماعة من الناس الصوفية؛ لأنه لباسهم في الغالب، فالياء للنسب والهاء للتأنيث. وقد انشدني بعض أشياخهم بالبيت المقدس طهره الله:

تشاجر الناس في الصوفي واختلفوا فيه وظنوه مشتقا من الصوف

ولست أنحل هذا الاسم غير فتى صافى فصوفي حتى سمي الصوفي

 

الآية: 6 ( ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون )

 

الجمال ما يتجمل به ويتزين. والجمال: الحسن. وقد جمُل الرجل - بالضم - جمالا فهو جميل، والمرأة جميلة، وجملاء أيضا؛ عن الكسائي. وأنشد:

فهي جملاء كبدر طالع بذَّت الخلق جميعا بالجمال

وقول أبي ذؤيب:

جمالك أيها القلب القريح

يريد: الزم تجملك وحياءك ولا تجزع جزعا قبيحا. قال علماؤنا: فالجمال يكون في الصورة وتركيب الخلقة، ويكون في الأخلاق الباطنة، ويكون في الأفعال. فأما جمال الخلقة فهو أمر يدركه البصر ويلقيه إلى القلب متلائما، فتتعلق به النفس من غير معرفة بوجه ذلك ولا نسبته لأحد من البشر. وأما جمال الأخلاق فكونها على الصفات المحمودة من العلم والحكمة والعدل والعفة، وكظم الغيظ وإرادة الخير لكل أحد. وأما جمال الأفعال فهو وجودها ملائمة لمصالح الخلق وقاضية لجلب المنافع فيهم وصرف الشر عنهم. وجمال الأنعام والدواب من جمال الخلقة، وهو مرئي بالأبصار موافق للبصائر. ومن جمالها كثرتها وقول الناس إذا رأوها هذه نعم فلان؛ قاله السدي. ولأنها إذا راحت توفر حسنها وعظم شأنها وتعلقت القلوب بها؛ لأنها إذ ذاك أعظم ما تكون أسمنة وضروعا؛ قاله قتادة. ولهذا المعنى قدم الرواح على السراح لتكامل درها وسرور النفس بها إذ ذاك. والله أعلم. وروى أشهب عن مالك قال: يقول الله عز وجل « ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون » وذلك في المواشي حين تروح إلى المرعى وتسرح عليه. والرواح رجوعها بالعشي من المرعى، والسراح بالغداة؛ تقول: سرحت الإبل أسرحها سرحا وسروحا إذا غدوت بها إلى المرعى فخليتها، وسرحت هي. المتعدي واللازم واحد.

 

الآية: 7 ( وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم )

 

قوله تعالى: « وتحمل أثقالكم » الأثقال أثقال الناس من متاع وطعام وغيره، وهو ما يثقل الإنسان حمله. وقيل: المراد أبدانهم؛ يدل على ذلك قوله تعالى: « وأخرجت الأرض أثقالها » [ الزلزلة: 2 ] . والبلد مكة، في قول عكرمة. وقيل: هو محمول على العموم في كل بلد مسلكه على الظهر. وشق الأنفس: مشقتها وغاية جهدها. وقراءة العامة بكسر الشين. قال الجوهري: والشق المشقة؛ ومنه قوله تعالى: « لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس » وهذا قد يفتح، حكاه أبو عبيدة. قال المهدوي: وكسر الشين وفتحها في « شق » متقاربان، وهما بمعنى المشقة، وهو من الشق في العصا ونحوها؛ لأنه ينال منها كالمشقة من الإنسان. وقال الثعلبي: وقرأ أبو جعفر « إلا بشق الأنفس » وهما لغتان، مثل رق ورق وجص وجص ورطل ورطل. وينشد قول الشاعر بكسر الشين وفتحها:

وذي إبل يسعى ويحسبها له أخي نصب من شقها ودؤوب

ويجوز أن يكون بمعمى المصدر، من شققت عليه شقا. والشق أيضا بالكسر النصف، يقال: أخذت شق الشاة وشقة الشاة. وقد يكون المراد من الآية هذا المعنى؛ أي لم تكونوا بالغيه إلا بنقص من القوة وذهاب شق منها، أي لم تكونوا تبلغوه إلا بنصف قوى أنفسكم وذهاب النصف الآخر. والشق أيضا الناحية من الجبل. وفي حديث أم زرع: وجدني في أهل غنيمة بشق. قال أبو عبيد: هو اسم موضع. والشق أيضا: الشقيق، يقال: هو أخي وشق نفسي. وشق اسم كاهن من كهان العرب. والشق أيضا: الجانب؛ ومنه قول امرئ القيس:

إذا ما بكى من خلفها انصرفت له بشق وتحتي شقها لم يحول

فهو مشترك.

 

منَّ الله سبحانه بالأنعام عموما، وخص الإبل هنا بالذكر في حمل الأثقال على سائر الأنعام؛ فإن الغنم للسرح والذبح، والبقر للحرث، والإبل للحمل. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( بينما رجل يسوق بقرة له قد حمل عليها التفتت إليه البقرة فقالت إني لم أخلق لهذا ولكني إنما خلقت للحرث فقال الناس سبحان الله تعجبا وفزعا أبقرة تتكلم ) ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وإني أومن به وأبو بكر وعمرو ) . فدل هذا الحديث على أن البقر لا يحمل عليها ولا تركب، وإنما هي للحرث وللأكل والنسل والرسل.

 

في هذه الآية دليل على جواز السفر بالدواب وحمل الأثقال عليها. ولكن على قدر ما تحتمله من غير إسراف في الحمل مع الرفق في السير. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرفق بها والإراحة لها ومراعاة التفقد لعلفها وسقيها. وروى مسلم من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظها من الأرض وإذا سافرتم في السنة فبادروا بها نقيها ) رواه مالك في الموطأ عن أبي عبيد عن خالد بن معدان. وروى معاوية بن قرة قال: كان لأبي الدرداء جمل يقال له دمون، فكان يقول: يا دمون، لا تخاصمني عند ربك. فالدواب عجم لا تقدر أن تحتال لنفسها ما تحتاج إليه، ولا تقدر أن تفصح بحوائجها، فمن ارتفق بمرافقها ثم ضيعها من حوائجها فقد ضيع الشكر وتعرض للخصومة بين يدي الله تعالى. وروى مطر بن محمد قال: حدثنا أبو داود قال حدثنا ابن خالد قال حدثنا المسيب بن آدم قال. رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضرب جمالا وقال: تحمل على بعيرك ما لا يطيق.

 

الآية: 8 ( والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون )

 

قوله تعالى: « والخيل » بالنصب معطوف، أي وخلق الخيل. وقرأ ابن أبي عبلة « والخيل والبغال والحمير » بالرفع فيها كلها. وسميت الخيل خيلا لاختيالها في المشية. وواحد الخيل خائل، كضائن واحد ضين. وقيل لا واحد له. ولما أفرد سبحانه الخيل والبغال والحمير بالذكر دل على أنها لم تدخل تحت لفظ الأنعام وقيل دخلت ولكن أفردها بالذكر لما يتعلق بها من الركوب؛ فإنه يكثر في الخيل والبغال والحمير.

 

قال العلماء: ملكنا الله تعالى الأنعام والدواب وذللها لنا، وأباح لنا تسخيرها والانتفاع بها رحمة منه تعالى لنا، وما ملكه الإنسان وجاز له تسخيره من الحيوان فكراؤه له جائز بإجماع أهل العلم، لا اختلاف بينهم في ذلك. وحكم كراء الرواحل والدواب مذكور في كتب الفقه.

 

لا خلاف بين العلماء في اكتراء الدواب والرواحل عليها والسفر بها؛ لقوله تعالى: « وتحمل أثقالكم » [ النحل: 7 ] الآية. وأجازوا أن يكري الرجل الدابة والراحلة إلى مدينة بعينها وإن لم يسم أين ينزل منها، وكم من منهل ينزل فيه، وكيف صفة سيره، وكم ينزل في طريقة، واجتزوا بالمتعارف بين الناس في ذلك. قال علماؤنا: والكراء يجري مجرى البيوع فيما يحل منه ويحرم. قال ابن القاسم فيمن اكترى دابة إلى موضع كذا بثوب مروي ولم يصف رقعته وذرعه: لم يجز؛ لأن مالكا لم يجيز هذا في البيع، ولا يجيز في ثمن الكراء إلا ما يجوز في ثمن البيع.

قلت: ولا يختلف في هذا إن شاء الله؛ لأن ذلك إجارة. قال ابن المنذر: وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن من اكترى دابة ليحمل عليها عشرة أقفزة قمح فحمل عليها ما اشترط فتلفت أن لا شيء عليه. وهكذا إن حمل عليها عشرة أقفزة شعير. واختلفوا فيمن اكترى دابة ليحمل عليها عشرة أقفزة فحمل عليها أحد عشر قفيزا، فكان الشافعي وأبو ثور يقولان: هو ضامن لقيمة الدابة وعليه الكراء. وقال ابن أبي ليلى: عليه قيمتها ولا أجر عليه. وفيه قول ثالث - وهو أن عليه الكراء وعليه جزء من أجر وجزء من قيمة الدابة بقدر ما زاد من الحمل؛ وهذا قول النعمان ويعقوب ومحمد. وقال ابن القاسم صاحب مالك: لا ضمان عليه في قول مالك إذا كان القفيز الزائد لا يفدح الدابة، ويعلم أن مثله لا تعطب فيه الدابة، ولرب الدابة أجر القفيز الزائد مع الكراء الأول؛ لأن عطبها ليس من أجل الزيادة. وذلك بخلاف مجاوزة المسافة؛ لأن مجاوزة المسافة تَعَد كله فيضمن إذا هلكت في قليله وكثيره. والزيادة على الحمل المشترط اجتمع فيه إذنٌ وتعد، فإذا كانت الزيادة لا تعطب في مثلها علم أن هلاكها مما أذن له فيه.

 

واختلف أهل العلم في الرجل يكتري الدابة بأجر معلوم إلى موضع مسمى، فيتعدى فيجتاز ذلك المكان ثم يرجع إلى المكان المأذون له في المصير إليه. فقالت طائفة: إذا جاوز ذلك المكان ضمن وليس عليه في التعدي كراء؛ هكذا قال الثوري. وقال أبو حنيفة: الأجر له فيما سمى، ولا أجر له فيما لم يسم؛ لأنه خالف فهو ضامن، وبه قال يعقوب. وقال الشافعي: عليه الكراء الذي سمى، وكراء المثل فيما جاوز ذلك، ولو عطبت لزمه قيمتها. ونحوه قال الفقهاء السبعة، مشيخة أهل المدينة قالوا: إذا بلغ المسافة ثم زاد فعليه كراء الزيادة إن سلمت وإن هلكت ضمن. وقال أحمد وإسحاق وأبو ثور: عليه الكراء والضمان. قال ابن المنذر: وبه نقول. وقال ابن القاسم: إذا بلغ المكتري الغاية التي اكترى إليها ثم زاد ميلا ونحوه أو أميالا أو زيادة كثيرة فعطبت الدابة، فلربها كراؤه الأول والخيار في أخذه كراء الزائد بالغا ما بلغ، أو قيمة الدابة يوم التعدي. ابن المواز: وقد روى أنه ضامن ولو زاد خطوة. وقال ابن القاسم عن مالك في زيادة الميل ونحوه: وأما ما يعدل الناس إليه في المرحلة فلا يضمن. وقال ابن حبيب عن ابن الماجشون وأصبغ: إذا كانت الزيادة يسيرة أو جاز الأمد الذي تكاراها إليه بيسير، ثم رجع بها سالمة إلى موضع تكاراها إليه فماتت، أو ماتت في الطريق إلى الموضع الذي تكاراها إليه، فليس له إلا كراء الزيادة، كرده لما تسلف من الوديعة. ولو زاد كثيرا مما فيه مقام الأيام الكثيرة التي يتغير في مثلها سوقها فهو ضامن، كما لو ماتت في مجاوزة الأمد أو المسافة؛ لأنه إذا كانت زيادة يسيرة مما يعلم أن ذلك مما لم يعن على قتلها فهلاكها بعد ردها إلى الموضع المأذون له فيه كهلاك ما تسلف من الوديعة بعد رده لا محالة. وإن كانت الزيادة كثيرة فتلك الزيادة قد أعانت على قتلها.

 

قال ابن القاسم وابن وهب قال مالك قال الله تعالى: « والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة » فجعلها للركوب والزينة ولم يجعلها للأكل؛ ونحوه عن أشهب. ولهذا قال أصحابنا: لا يجوز أكل لحوم الخيل والبغال والحمير؛ لأن الله تعالى لما نص على الركوب والزينة دل على ما عداه بخلافه. وقال في « الأنعام » « ومنها تأكلون » مع ما امتن الله منها من الدفء والمنافع، فأباح لنا أكلها بالذكاة المشروعة فيها. وبهذه الآية احتج ابن عباس والحكم بن عيينة، قال الحكم: لحوم الخيل حرام في كتاب الله، وقرأ هذه الآية والتي قبلها وقال: هذه للأكل وهذه للركوب. وسئل ابن عباس عن لحوم الخيل فكرهها، وتلا هذه الآية وقال: هذه للركوب، وقرأ الآية التي قبلها « والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع » ثم قال: هذه للأكل. وبه قال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما والأوزاعي ومجاهد وأبو عبيد وغيرهم، واحتجوا بما أخرجه أبو داود والنسائي والدارقطني وغيرهم عن صالح بن يحيى بن المقدام بن معد يكرب عن أبيه عن جده عن خالد بن الوليد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير، وكل ذي ناب من السباع أو مخلب من الطير. لفظ الدارقطني. وعند النسائي أيضا عن خالد بن الوليد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا يحل أكل لحوم الخيل والبغال والحمير ) . وقال الجمهور من الفقهاء والمحدثين: هي مباحة. وروي عن أبي حنيفة. وشذت طائفة فقالت بالتحريم؛ منهم الحكم كما ذكرنا، وروي عن أبي حنيفة. حكى الثلاث روايات عنه الروياني في بحر المذهب على مذهب الشافعي.

قلت: الصحيح الذي يدل عليه النظر والخبر جواز أكل لحوم الخيل، وأن الآية والحديث لا حجة فيهما لازمة. أما الآية فلا دليل فيها على تحريم الخيل. إذ لو دلت عليه لدلت على تحريم لحوم الحمر، والسورة مكية، وأي حاجة كانت إلى تجديد تحريم لحوم الحمر عام خيبر وقد ثبت في الأخبار تحليل الخيل على ما يأتي. وأيضا لما ذكر تعالى الأنعام ذكر الأغلب من منافعها وأهم ما فيها، وهو حمل الأثقال والأكل، ولم يذكر الركوب ولا الحرث بها ولا غير ذلك مصرحا به، وقد تركب ويحرث بها؛ قال الله تعالى: « الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون » [ غافر:79 ] . وقال في الخيل: « لتركبوها وزينة » فذكر أيضا أغلب منافعها والمقصود منها، ولم يذكر حمل الأثقال عليها، وقد تحمل كما هو مشاهد فلذلك لم يذكر الأكل. وقد بينه عليه السلام الذي جعل إليه بيان ما أنزل عليه ما يأتي، ولا يلزم من كونها خلقت للركوب والزينة ألا تؤكل، فهذه البقرة قد أنطقها خالقها الذي أنطق كل شيء فقالت: إنما خلقت للحرث. فيلزم من علل أن الخيل لا تؤكل لأنها خلقت للركوب وألا تؤكل البقر لأنها خلقت للحرث. وقد أجمع المسلمون على جواز أكلها، فكذلك الخيل بالسنة الثابتة فيها. روى مسلم من حديث جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل. وقال النسائي عن جابر: أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر لحوم الخيل ونهانا عن لحوم الحمر. وفي رواية عن جابر قال: كنا نأكل لحوم الخيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: الرواية عن جابر بأنهم أكلوها في خيبر حكاية حال وقضية في عين، فيحتمل أن يكونوا ذبحوا لضرورة، ولا يحتج بقضايا الأحوال. قلنا: الرواية عن جابر وإخباره بأنهم كانوا يأكلون لحوم الخيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيل ذلك الاحتمال، ولئن سلمناه فمعنا حديث أسماء قالت: نحرنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة فأكلناه؛ رواه مسلم. وكل تأويل من غير ترجيح في مقابلة النص فإنما هو دعوى، لا يلتفت إليه ولا يعرج عليه. وقد روى الدارقطني زيادة حسنة ترفع كل تأويل في حديث أسماء، قالت أسماء: كان لنا فرس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أرادت أن تموت فذبحناها فأكلناها. فذبحها إنما كان لخوف الموت عليها لا لغير ذلك من الأحوال. وبالله التوفيق. فإن قيل: حيوان من ذوات الحوافر فلا يؤكل كالحمار؟ قلنا: هذا قياس الشبه وقد اختلف أرباب الأصول في القول به، ولئن سلمناه فهو منتقض بالخنزير؛ فإنه ذو ظلف وقد باين ذوات الأظلاف، وعلى أن القياس إذا كان في مقابلة النص فهو فاسد الوضع لا التفات إليه. قال الطبري: وفي إجماعهم على جواز ركوب ما ذكر للأكل دليل على جواز أكل ما ذكر للركوب.

 

وأما البغال فإنها تلحق بالحمير، إن قلنا إن الخيل لا تؤكل؛ فإنها تكون متولدة من عينين لا يؤكلان. وإن قلنا إن الخيل تؤكل، فإنها عين متولدة من مأكول وغير مأكول فغلب التحريم على ما يلزم في الأصول. وكذلك ذبح المولود بين كافرين أحدهما من أهل الذكاة والآخر ليس من أهلها، لا تكون ذكاة ولا تحل به الذبيحة. وقد علل تحريم أكل الحمار بأنه أبدى جوهره الخبيث حيث نزا على ذكر وتلوط؛ فسمي رجسا.

 

في الآية دليل على أن الخيل لا زكاة فيها؛ لأن الله سبحانه من علينا بما أباحنا منها وكرمنا به من منافعها، فغير جائز أن يلزم فيها كلفة إلا بدليل. وقد روى مالك عن عبدالله بن دينار عن سليمان بن يسار عن عراك بن مالك عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة ) . وروى أبو داود عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس في الخيل والرقيق زكاة إلا زكاة الفطر في الرقيق ) . وبه قال مالك والشافعي والأوزاعي والليث وأبو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: إن كانت إناثا كلها أو ذكورا وإناثا، ففي كل فرس دينار إذا كانت سائمة، وإن شاء قومها فأخرج عن كل مائتي درهم خمسة دراهم. واحتج بأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( في الخيل السائمة في كل فرس دينار ) وبقوله صلى الله عليه وسلم: ( الخيل ثلاثة... ) الحديث. وفيه: ( ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها ) . والجواب عن الأول أنه حديث لم يروه إلا غورك السعدي عن جعفر عن محمد عن أبيه عن جابر. قال الدارقطني: تفرد به غورك عن جعفر وهو ضعيف جدا، ومن دونه ضعفاء. وأما الحديث فالحق المذكور فيه هو الخروج عليها إذا وقع النفير وتعين بها لقتال العدو إذا تعين ذلك عليه، ويحمل المنقطعين عليها إذا احتاجوا لذلك، وهذا واجب عليه إذا تعين ذلك، كما يتعين عليه أن يطعمهم عند الضرورة، فهذه حقوق الله في رقابها. فإن قيل: هذا هو الحق الذي في ظهورها وبقي الحق الذي في رقابها؛ قيل: قد روي ( لا ينسى حق الله فيها ) ولا فرق بين قوله: ( حق الله فيها ) أو ( في رقابها وظهورها ) فإن المعنى يرجع إلى شيء واحد؛ لأن الحق يتعلق بجملتها. وقد قال جماعة من العلماء : إن الحق هنا حسن ملكها وتعهد شبعها والإحسان إليها وركوبها غير مشقوق عليها؛ كما جاء في الحديث ( لا تتخذوا ظهورها كراسي ) . وإنما خص رقابها بالذكر لأن الرقاب والأعناق تَسْتعّار كثيرا في مواضع الحقوق اللازمة والفروض الواجبة؛ ومنه قوله تعالى: « فتحرير رقبة مؤمنة » [ النساء: 92 ] وكثر عندهم استعمال ذلك واستعارته حتى جعلوه في الرباع والأموال؛ ألا ترى قول كثير:

غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا غلقت لضحكته رقاب المال

وأيضا فإن الحيوان الذي تجب فيه الزكاة له نصاب من جنسه، ولما خرجت الخيل عن ذلك علمنا سقوط الزكاة فيها. وأيضا فإيجابه الزكاة في إناثها منفردة دون الذكور تناقض منه. وليس في الحديث فصل بينهما. ونقيس الإناث على الذكور في نفي الصدقة بأنه حيوان مقتنى لنسله لا لدره، ولا تجب الزكاة في ذكوره فلم تجب في إناثه كالبغال والحمير. وقد روي عنه أنه لا زكاة في إناثها وإن انفردت كذكورها منفردة، وهذا الذي عليه الجمهور. قال ابن عبدالبر: الخبر في صدقة الخيل عن عمر صحيح من حديث الزهري وغيره. وقد روي من حديث مالك، ورواه عنه جويرية عن الزهري أن السائب بن يزيد قال : لقد رأيت أبي يقوم الخيل ثم يدفع صدقتها إلى عمر. وهذا حجة لأبي حنيفة وشيخه حماد بن أبي سليمان، لا أعلم أحدا من فقهاء الأمصار أوجب الزكاة في الخيل غيرهما. تفرد به جويرية عن مالك وهو ثقة.

 

قوله تعالى: « وزينة » منصوب بإضمار فعل، المعنى: وجعلها زينة. وقيل : هو مفعول من أجله. والزينة: ما يتزين به، وهذا الجمال والتزيين وإن كان من متاع الدنيا فقد أذن الله سبحانه لعباده فيه؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الإبل عز لأهلها والغنم بركة والخيل في نواصيها الخير ) . خرجه البرقاني وابن ماجة في السنن. وإنما جمع النبي صلى الله عليه وسلم العز في الإبل؛ لأن فيها اللباس والأكل واللبن والحمل والغزو وإن نقصها الكر والفر وجعل البركة في الغنم لما فيها من اللباس والطعام والشراب وكثرة الأولاد؛ فإنها تلد في العام ثلاث مرات إلى ما يتبعها من السكينة، وتحمل صاحبها عليه من خفض الجناح ولين الجانب؛ بخلاف الفدادين أهل الوبر. وقرن النبي صلى الله عليه وسلم الخير بنواصي الخيل بقية الدهر لما فيها من الغنيمة المستفادة للكسب والمعاش، وما يوصل إليه من قهر الأعداء وغلب الكفار وإعلاء كلمة الله تعالى.

 

قوله تعالى: « ويخلق ما لا تعلمون » قال الجمهور: من الخلق. وقيل: من أنواع الحشرات والهوام في أسافل الأرض والبر والبحر مما لم يره البشر ولم يسمعوا به. وقيل : ويخلق ما لا تعلمون « مما أعد الله في الجنة لأهلها وفي النار لأهلها، مما لم تره عين ولم تسمع به أذن ولا خطر على قلب بشر. وقال قتادة والسدي: هو خلق السوس في الثياب والدود في الفواكه. ابن عباس: عين تحت العرش؛ حكاه الماوردي. الثعلبي: وقال ابن عباس عن يمين العرش نهر من النور مثل السماوات السبع والأرضين السبع والبحار السبع سبعين مرة، يدخله جبريل كل سحر فيغتسل فيزداد نورا إلى نوره وجمالا إلى جماله وعِظما إلى عظمه، ثم ينتفض فيخرج الله من كل ريشة سبعين ألف قطرة، ويخرج من كل قطرة سبعة آلاف ملك، يدخل منهم كل يوم سبعون ألف ملك إلى البيت المعمور، وفي الكعبة سبعون ألفا لا يعدون إليه إلى يوم القيامة. وقول خامس: وهو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها أرض بيضاء، مسيرة الشمس ثلاثين يوما مشحونة خلقا لا يعلمون أن الله تعالى يعصى في الأرض، قالوا: يا رسول الله، من ولد آدم؟ قال: ( لا يعلمون أن الله خلق آدم ) . قالوا: يا رسول الله، فأين إبليس منهم؟ قال : ( لا يعلمون أن الله خلق إبليس ) - ثم تلا « ويخلق ما لا تعلمون » ذكره الماوردي. »

قلت: ومن هذا المعنى ما ذكر البيهقي عن الشعبي قال: إن لله عبادا من وراء الأندلس كما بيننا وبين الأندلس، ما يرون أن الله عصاه مخلوق، رضراضهم الدر والياقوت وجبالهم الذهب والفضة، لا يحرثون ولا يزرعون ولا يعملون عملا، لهم شجر على أبوابهم لها ثمر هي طعامهم وشجر لها أوراق عراض هي لباسهم؛ ذكره في بدء الخلق من « كتاب الأسماء والصفات » . وخرج من حديث موسى بن عقبة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله الأنصاري أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام ) .

 

الآية: 9 ( وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين )

 

قوله تعالى: « وعلى الله قصد السبيل » أي على الله بيان قصد السبيل، فحذف المضاف وهو البيان. والسبيل: السلام، أي على الله بيانه بالرسل والحجج والبراهين. وقصد السبيل: استعانة الطريق؛ يقال: طريق قاصد أي يؤدي إلى المطلوب. « ومنها جائر » أي ومن السبيل جائر؛ أي عادل عن الحق فلا يهتدى به؛ ومنه قول امرئ القيس:

ومن الطريقة جائر وهدى قصد السبيل ومنه ذو دخل

وقال طرفة:

عدولية أو من سفين ابن يامن يجور بها الملاح طورا ويهتدي

العدولية سفينة منسوبة إلى عَدَوْلَي قرية بالبحرين. والعدولي: الملاح؛ قاله في الصحاح. وفي التنزيل « وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل » [ الأنعام: 153 ] . وقيل: المعنى ومنهم جائر عن سبيل الحق، أي عادل عنه فلا يهتدى إليه. وفيهم قولان: أحدهما: أنهم أهل الأهواء المختلفة؛ قاله ابن عباس. الثاني: ملل الكفر من اليهودية والمجوسية والنصرانية. وفي مصحف عبدالله « ومنكم جائر » وكذا قرأ علي « ومنكم » بالكاف. وقيل: المعنى وعنها جائر؛ أي عن السبيل. فـ « من » بمعنى عن. وقال ابن عباس: أي من أراد الله أن يهديه سهل له طريق الإيمان، ومن أراد أن يضله ثقل عليه الإيمان وفروعه. وقيل: معنى « قصد السبيل » مسيركم ورجوعكم. والسبيل واحدة بمعنى الجمع، ولذلك أنث الكناية فقال: « ومنها » والسبيل مؤنثة في لغة أهل الحجاز.

 

قوله تعالى: « ولو شاء لهداكم أجمعين » بين أن المشيئة لله تعالى، وهو يصحح ما ذهب إليه ابن عباس في تأويل الآية، ويرد على القدرية ومن وافقها كما تقدم.

 

الآية: 10 ( هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون )

 

الشراب ما يشرب، والشجر معروف. أي ينبت من الأمطار أشجارا وعروشا ونباتا. و « تسيمون » ترعون إبلكم؛ يقال: سامت السائمة تسوم سوما أي رعت، فهي سائمة. والسوام والسائم بمعنى، وهو المال الراعي. وجمع السائم والسائمة سوائم. وأسمتها أنا أي أخرجتها إلى الرعي، فأنا مسيم وهي مسامة وسائمة. قال:

أولى لك ابن مسيمة الأجمال

وأصل السوم الإبعاد في المرعى. وقال الزجاج: أخذ من السومة وهي العلامة؛ أي أنها تؤثر في الأرض علامات برعيها، أو لأنها تعلم للإرسال في المرعى.

قلت: والخيل المسومة تكون المرعية. وتكون المعلمة. وقوله: « مسومين » [ آل عمران: 125 ] قال الأخفش تكون معلمين وتكون مرسلين؛ من قولك: سوم فيها الخيل أي أرسلها، ومنه السائمة، وإنما جاء بالياء والنون لأن الخيل سومت وعليها ركبانها.

 

الآية: 11 ( ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون )

 

قوله تعالى: « ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات » قرأ أبو بكر عن عاصم « ننبت » بالنون على التعظيم. العامة بالياء على معنى ينبت الله لكم؛ يقال: ينبت الأرض وأنبتت بمعنى، ونبت البقل وأنبت بمعنى. وأنشد الفراء:

رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم قطينا بها حتى إذا أنبت البقل

أي نبت. وأنبته الله فهو منبوت، على غير قياس. وأنبت الغلام نبتت عانته. ونبت الشجر غرسه؛ يقال: نبت أجلك بين عينيك. ونبت الصبي تنبيتا ربيته. والمنبت موضع النبات؛ يقال: ما أحسن نابتة بني فلان؛ أي ما ينت عليه أموالهم وأولادهم. ونبتت لهم نابتة إذا نشأ لهم نشء صغار. وإن بني فلان لنابتة شر. والنوابت من الأحادث الأغمار. والنبيت حي من اليمن. والينبوت شجر؛ كله عن الجوهري. « والزيتون » جمع زيتونة. ويقال للشجرة نفسها: زيتونة، وللثمرة زيتونة. « إن في ذلك » أي الإنزال والإنبات. « لآية » أي دلالة « لقوم يتفكرون » .

 

الآية: 12 ( وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون )

 

قوله تعالى: « وسخر لكم الليل والنهار » أي للسكون والأعمال؛ كما قال: « ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله » [ القصص: 73 ] . « والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره » أي مذللات لمعرفة الأوقات ونضج الثمار والزرع والاهتداء بالنجوم في الظلمات. وقرأ ابن عامر وأهل الشام « والشمس والقمر والنجوم مسخرات » بالرفع على الابتداء والخبر. الباقون بالنصب عطفا على ما قبله. وقرأ حفص عن عاصم برفع « والنجوم » ، « مسخرات » خبره. وقرئ « والشمس والقمر والنجوم » بالنصب. « مسخرات » بالرفع، وهو خبر ابتداء محذوف أي في مسخرات، وهي في قراءة من نصبها حال مؤكدة؛ كقوله: « وهو الحق مصدقا » [ البقرة: 91 ] . « إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون » أي يعقلون عن الله ما نبههم عليه ووفقهم له.

 

الآية: 13 ( وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون )

 

قوله تعالى: « وما ذرأ » أي وسخر ما ذرأ في الأرض لكم. « ذرأ » أي خلق؛ ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءا خلقهم، فهو ذارئ؛ ومنه الذرية وهي نسل الثقلين، إلا أن العرب تركت همزها، والجمع الذراري. يقال: أنمى الله ذرأك وذروك، أي ذريتك. وأصل الذرو والذرء التفريق عن جمع. وفي الحديث: ذرء النار؛ أي أنهم خلقوا لها.

 

ما ذرأه الله سبحانه منه مسخر مذلل كالدواب والأنعام والأشجار وغيرها، ومنه غير ذلك. والدليل عليه ما رواه مالك في الموطأ عن كعب الأحبار قال: لولا كلمات أقولهن لجعلتني يهود حمارا. فقيل له: وما هن؟ فقال: أعوذ بوجه الله العظيم الذي ليس شيء أعظم منه، وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وبأسماء الله الحسنى كلها ما علمت منها وما لم أعلم، من شر ما خلق وبرأ وذرأ. وفيه عن يحيى بن سعيد أنه قال: أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى عفريتا من الجن يطلبه بشعلة من نار، الحديث. وفيه: وشر ما ذرأ في الأرض. وقد ذكرناه وما في معناه في غير هذا الموضع.

 

قوله تعالى: « مختلفا ألوانه » « مختلفا » نصب على الحال. و « ألوانه » هيئاته ومناظره، يعني الدواب والشجر وغيرها. « إن في ذلك » أي في اختلاف ألوانها. « لآية » أي لعبرة. « لقوم يذكرون » أي يتعظون ويعلمون أن في تسخير هذه المكونات لعلامات على وحدانية الله تعالى، وأنه لا يقدر على ذلك أحد غيره.

 

الآية: 14 ( وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون )

 

قوله تعالى: « وهو الذي سخر البحر » تسخير البحر هو تمكين البشر من التصرف فيه وتذليله بالركوب والإرفاء وغيره، وهذه نعمة من نعم الله علينا، فلو شاء سلطه علينا وأغرقنا. وقد مضى الكلام في البحر وفي صيده. وسماه هنا لحما واللحوم عند مالك ثلاثة أجناس: فلحم ذوات الأربع جنس، ولحم ذوات الريش جنس، ولحم ذوات الماء جنس. فلا يجوز بيع الجنس من جنسه متفاضلا، ويجوز بيع لحم البقر والوحش بلحم الطير والسمك متفاضلا، وكذلك لحم الطير بلحم البقر والوحش والسمك يجوز متفاضلا. وقال أبو حنيفة: اللحم كلها أصناف مختلفة كأصولها؛ فلحم البقر صنف، ولحم الغنم صنف، ولحم الإبل صنف، وكذلك الوحش مختلف، كذلك الطير، وكذلك السمك، وهو جحد قولي الشافعي. والقول الآخر أن الكل من النعم والصيد والطير والسمك جنس واحد لا يجوز التفاضل فيه. والقول الأول هو المشهور من مذهبه عند أصحابه. ودليلنا هو أن الله تعالى فرق بين أسماء الأنعام في حياتها فقال: « ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين » [ الأنعام: 143 ] ثم قال: « ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين » فلما أن أم بالجميع إلى اللحم قال: « أحلت لكم بهيمة الأنعام » [ المائدة: 1 ] فجمعها بلحم واحد لتقارب منافعها كتقارب لحم الضأن والمعز. وقال في موضع آخر: « ولحم طير مما يشتهون » [ الواقعة: 21 ] وهذا جمع طائر الذي هو الواحد، لقوله تعالى: « ولا طائر يطير بجناحيه » [ الأنعام: 38 ] فجمع لحم الطير كله باسم واحد. وقال هنا: « لحما طريا » فجمع أصناف السمك بذكر واحد، فكان صغاره ككباره في الجمع بينهما. وقد روي عن ابن عمر أنه سئل عن لحم المعز بلحم الكباش أشيء واحد؟ فقال لا؛ ولا مخالف له فصار كالإجماع، والله أعلم. ولا حجة للمخالف في نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام إلا مثلا بمثل؛ فإن الطعام في الإطلاق يتناول الحنطة وغيرها من المأكولات ولا يتناول اللحم؛ ألا ترى أن القائل إذا قال: أكلت اليوم طعاما لم يسبق الفهم منه إلى أكل اللحم، وأيضا فإنه معارض بقوله صلى الله عليه وسلم: ( إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم ) وهذان جنسان، وأيضا فقد اتفقنا على جواز بيع اللحم بلحم الطير متفاضلا لا لعلة أنه بيع طعام لا زكاة له بيع بلحم ليس فيه الزكاة، وكذلك بيع السمك بلحم الطير متفاضلا.

وأما الجراد فالمشهور عندنا جواز بيع بعضه ببعض متفاضلا. وذكر عن سحنون أنه يمنع من ذلك، وإليه مال بعض المتأخرين ورآه مما يدخر.

 

اختلف العلماء فيمن حلف ألا يأكل لحما؛ فقال ابن القاسم: يحنث بكل نوع من هذه الأنواع الأربعة. وقال أشهب في المجموعة. لا يحنث إلا بكل لحوم الأنعام دون الوحش وغيره، مراعاة للعرف والعادة، وتقديما لها على إطلاق اللفظ اللغوي، وهو أحسن.

 

قوله تعالى: « وتستخرجوا منه حلية تلبسونها » يعني به اللؤلؤ والمرجان؛ لقوله تعالى: « يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان » [ الرحمن: 22 ] . وإخراج الحلية إنما هي فيما عرف من الملح فقط. وقال: إن في الزمرد بحريا. وقد خطئ الهذلي في قوله في وصف الدرّة:

فجاء بها من در ة لطمية على وجهها ماء الفرات يدوم

فجعلها من الماء الحلو. فالحلية حق وهي نحلة الله تعالى لآدم وولده. خلق آدم وتوج وكلل بإكليل الجنة، وختم بالخاتم الذي ورثه عنه سليمان بن داود صلوات الله عليهم، وكان يقال له خاتم العز فيما روي.

 

امتن الله سبحانه على الرجال والنساء امتنانا عاما بما يخرج من البحر، فلا يحرم عليهم شيء منه، وإنما حرم الله تعالى على الرجال الذهب والحرير. روى الصحيح عن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تلبسوا الحرير فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ) . وسيأتي في سورة « الحج » الكلام فيه إن شاء الله. وروى البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ذهب، وجعل فصه مما يلي باطن كفه، ونقش فيه محمد رسول الله؛ فاتخذ الناس مثله؛ فلما رآهم قد اتخذوها رمى به وقال: ( لا ألبسه أبدا ) ثم اتخذ خاتما من فضة فاتخذ الناس خواتيم الفضة. قال ابن عمر: فلبس الخاتم بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، حتى وقع من عثمان في بئر أريس. قال أبو داود: لم يختلف الناس على عثمان حتى سقط الخاتم من يده. وأجمع العلماء على جواز التختم بالورق على الجملة للرجال. قال الخطابي. وكره للنساء التختم بالفضة؛ لأنه من زي الرجال، فإن لم يجدن ذهبا فليصفرنه بزعفران أو بشبهه. وجمهور العلماء من السلف والخلف على تحريم اتخاذ الرجال خاتم الذهب، إلا ما روي عن أبي بكر بن عبدالرحمن وخباب، وهو خلاف شاذ، وكل منهما لم يبلغهما النهي والنسخ. والله أعلم. وأما ما رواه أنس بن مالك أنه رأى في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما من ورق يوما واحدا، ثم إن الناس اصطنعوا الخواتم، من ورق ولبسوها، فطرح رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمه فطرح الناس خواتيمهم - أخرجه الصحيحان واللفظ للبخاري - فهو عند العلماء وهم من ابن شهاب؛ لأن الذي نبذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو خاتم الذهب. رواه عبدالعزيز بن صهيب وقتادة عن أنس، وهو خلاف ما روى ابن شهاب عن أنس فوجب القضاء بالجملة على الواحد إذا خالفها، مع ما يشهد للجماعة من حديث ابن عمر.

 

إذا ثبت جواز التختم للرجال بخاتم الفضة والتحلي به، فقد كره ابن سيرين وغيره من العلماء نقشه وأن يكون فيه ذكر الله. وأجاز نقشه جماعة من العلماء. ثم إذا نقش عليه اسم الله أو كلمة حكمة أو كلمات من القرآن وجعله في شماله، فهل يدخل به الخلاء ويستنجي بشماله؟ خففه سعيد بن المسيب ومالك. قيل لمالك: إن كان في الخاتم ذكر الله ويلبسه في الشمال أيستنجى به؟ قال: أرجو أن يكون خفيفا. وروي عنه الكراهة وهو الأولى. وعلى المنع من ذلك أكثر أصحابه. وقد روى همام عن ابن جريج عن الزهري عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه. قال أبو داود: هذا حديث منكر، وإنما يعرف عن ابن جريج عن زياد ابن سعد عن الزهري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ورق ثم ألقاه. قال أبو داود: لم يحدث بهذا إلا همام.

 

روى البخاري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من فضة ونقش فيه « محمد رسول الله » وقال: ( إني اتخذت خاتما من ورق ونقشت فيه محمد رسول الله فلا ينقشن أحد على نقشه ) . قال علماؤنا: فهذا دليل على جواز نقش اسم صاحب الخاتم على خاتمه. قال مالك: ومن شأن الخلفاء والقضاة نقش أسمائهم على خواتيمهم، ونهيه عليه السلام: لا ينقشن أحد على نقش خاتمه، من أجل أن ذلك اسمه وصفته برسالة الله له إلى خلقه. وروى أهل الشام أنه لا يجوز الخاتم لغير ذي سلطان. وروى في ذلك حديثا عن أبي ريحانة، وهو حديث لا حجة فيه لضعفه. وقوله عليه السلام: ( لا ينقشن أحد على نقشه ) يرده ويدل على جواز اتخاذ الخاتم لجميع الناس، إذا لم ينقش على نقش خاتمه. وكان نقش خاتم الزهري « محمد يسأل الله العافية » . وكان نقش خاتم مالك « حسبي الله ونعم الوكيل » . وذكر الترمذي الحكيم في « نوادر الأصول » أن نقش خاتم موسى عليه السلام « لكل أجل كتاب » [ الرعد: 38 ] . وبلغ عمر بن عبدالعزيز أن ابنه اشترى خاتما بألف درهم فكتب إليه: إنه بلغني أنك اشتريت خاتما بألف درهم، فبعه وأطعم منه ألف جائع، واشتر خاتما من حديد بدرهم، واكتب عليه « رحم الله امرأ عرف قدر نفسه » .

 

من حلف ألا يلبس حليا فلبس لؤلؤا لم يحنث؛ وبه قال أبو حنيفة. قال ابن خويز منداد: لأن هذا وإن كان الاسم اللغوي يتناوله فلم يقصده باليمين، والأيمان تخص بالعرف؛ ألا ترى أنه لو حلف ألا ينام على فراش فنام على الأرض لم يحنث، وكذلك لا يستضيء بسراج فجلس في الشمس لا يحنث، وإن كان الله تعالى قد سمى الأرض فراشا والشمس سراجا. وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد: من حلف ألا يلبس حليا ولبس اللؤلؤ فإنه يحنث؛ لقوله تعالى: « وتستخرجوا منه حلية تلبسونها » والذي يخرج منه: اللؤلؤ والمرجان.

 

قوله تعالى: « وترى الفلك مواخر فيه » الفلك: السفن، وإفراده وجمعه بلفظ واحد، ويذكر ويؤنث. وليست الحركات في المفرد تلك بأعيانها في الجمع، بل كأنه بنى الجمع بناء آخر؛ يدل على ذلك توسط التثنية في قولهم: فلكان. والفلك المفرد مذكر؛ قال تعالى: « في الفلك المشحون » [ يس: 41 ] فجاء به مذكرا، وقال: « والفلك التي تجري في البحر » فأنث. ويحتمل واحدا وجمعا؛ وقال: « حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة » [ يونس: 22 ] فجمع؛ فكأنه يذهب بها إذا كانت واحدة إلى المركب فيذكر، وإلى السفينة فيؤنث. وقيل: واحده فلك؛ مثل أسد وأسد، وخشب وخشب، وأصله من الدوران، ومنه: فلك السماء التي تدور عليه النجوم. وفلكت الجارية استدار ثديها؛ ومنه فلكة المغزل. وسميت السفينة فلكا لأنها تدور بالماء أسهل دور. وقوله: « مواخر » قال ابن عباس: جواري، من جرت تجري. سعيد بن جبير: معترضة. الحسن: مواقر. قتادة والضحاك: أي تذهب وتجيء، مقبلة ومدبرة بريح واحدة. وقيل: « مواخر » ملججة في داخل البحر؛ وأصل المخر شق الماء عن يمين وشمال. مخرت السفينة تمخر وتمخر مخرا ومخورا إذا جرت تشق الماء مع صوت؛ ومنه قوله تعالى: « وترى الفلك مواخر فيه » يعني جواري. وقال الجوهري: ومخر السابح إذا شق الماء بصدره، ومخر الأرض شقها للزراعة، ومخرها بالماء إذا حبس الماء فيها حتى تصير أريضة؛ أي خليقة بجودة نبات الزرع. وقال الطبري: المخر في اللغة صوت هبوب الريح؛ ولم يقيد كونه في ماء، وقال: إن من ذلك قول واصل مولى أبي عيينة: إذا أراد أحدكم البول فليتمخر الريح؛ أي لينظر في صوتها في الأجسام من أين تهب، فيتجنب استقبالها لئلا ترد عليه بوله. « ولتبتغوا من فضله » أي ولتركبوه للتجارة وطلب الربح. « ولعلكم تشكرون » تقدم

 

الآية: 15 ( وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون )

 

قوله تعالى: « وألقى في الأرض رواسي » أي جبالا ثابتة. رسا يرسو إذا ثبت وأقام. قال:

فصبرت عارفة لذلك حرة ترسو إذا نفس الجبان تُطلَّع

« أن تميد بكم » أي لئلا تميد؛ عند الكوفيين. وكراهية أن تميد؛ على قول البصريين. والميد: الاضطراب يمينا وشمالا؛ ماد الشيء يميد ميدا إذا تحرك؛ ومادت الأغصان تمايلت، وماد الرجل تبختر. قال وهب بن منبه: خلق الله الأرض فجعلت تميد وتمور، فقالت الملائكة. إن هذه غير مقرة أحدا على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال، ولم تدر الملائكة مم خلقت الجبال. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لما خلق الله الأرض قمصت ومالت وقالت: أي رب! أتجعل علي من يعمل بالمعاصي والخطايا، ويلقي علي الجيف والنتن! فأرسى الله تعالى فيها من الجبال ما ترون وما لا ترون. وروى الترمذي في آخر « كتاب التفسير » حدثنا محمد بن بشار حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا العوام بن حوشب عن سليمان بن أبي سليمان عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لما خلق الله الأرض جعلت تميد فخلق الجبال فعاد بها عليها فاستقرت فعجبت الملائكة من شدة الجبال قالوا يا رب هل من خلقك شيء أشد من الجبال قال نعم الحديد قالوا يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الحديد قال نعم النار فقالوا يا رب فهل من خلقك شيء أشد من النار قال نعم الماء قالوا يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الماء قال نعم الريح قالوا يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الريح قال نعم ابن آدم تصدق بصدقة بيمينه يخفيها من شماله ) . قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه.

قلت: وفي هذه الآية أدل دليل على استعمال الأسباب، وقد كان قادرا على سكونها دون الجبال. وقد تقدم هذا المعنى. « وأنهارا » أي وجعل فيها أنهارا، أو ألقى فيها أنهارا. « وسبلا » أي طرقا ومسالك. « لعلكم تهتدون » أي إلى حيث تقصدون من البلاد فلا تضلون ولا تتحيرون.

 

الآية: 16 ( وعلامات وبالنجم هم يهتدون )

 

قوله تعالى: « وعلامات » قال ابن عباس: العلامات معالم الطرق بالنهار؛ أي جعل للطريق علامات يقع الاهتداء بها. « وبالنجم هم يهتدون » يعني بالليل، والنجم يراد به النجوم. وقرأ ابن وثاب « وبالنجم » . الحسن: بضم النون والجيم جميعا ومراده النجوم، فقصره؛ كما قال الشاعر:

إن الفقير بيننا قاض حكم أن ترد الماء إذا غاب النجم

وكذلك القول لمن قرأ « النجم » إلا أنه سكن استخفافا. ويجوز أن يكون النجم جمع نجم كسُقُف وسَقف. واختلف في النجوم؛ فقال الفراء: الجدي والفرقدان. وقيل: الثريا. قال الشاعر:

حتى إذا ما استقل النجم في غلس وغودر البقل ملوى ومحصود

أي منه ملوي ومنه محصود، وذلك عند طلوع الثريا يكون. وقال الكلبي: العلامات الجبال. وقال مجاهد: هي النجوم؛ لأن من النجوم ما يهتدى بها، ومنها ما يكون علامة لا يهتدى بها؛ وقاله قتادة والنخعي. وقيل: تم الكلام عند قوله « وعلامات » ثم ابتدأ وقال: « وبالنجم هم يهتدون » . وعلى الأول: أي وجعل لكم علامات ونجوما تهتدون بها. ومن العلامات الرياح يهتدى بها. وفي المراد بالاهتداء قولان: أحدهما: في الأسفار، وهذا قول الجمهور. الثاني: في القبلة. وقال ابن عباس: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: « وبالنجم هم يهتدون » قال: ( هو الجدي يا ابن عباس، عليه قبلتكم وبه تهتدون في بركم وبحركم ) ذكره الماوردي.

 

قال ابن العربي: أما جميع النجوم فلا يهتدي بها إلا العارف بمطالعها ومغاربها، والفرق بين الجنوبي والشمالي منها، وذلك قليل في الآخرين. وأما الثريا فلا يهتدي بها إلا من يهتدي بجميع النجوم. وإنما الهدي لكل أحد بالجدي والفرقدين؛ لأنها من النجوم المنحصرة المطالع الظاهرة السمت الثابتة في المكان، فإنها تدور على القطب الثابت دورانا محصلا، فهي أبدا هدى الخلق في البر إذا عميت الطرق، وفي البحر عند مجرى السفن، وفي القبلة إذا جهل السمت، وذلك على الجملة بأن تجعل القطب على ظهر منكبك الأيسر فما استقبلت فهو سمت الجهة.

قلت: وسأل ابن عباس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النجم فقال: ( هو الجدي عليه قبلتكم وبه تهتدون في بركم وبحركم ) . وذلك أن آخر الجدي بنات نعش الصغرى والقطب الذي تستوي عليه القبلة بينها.

 

قال علماؤنا: وحكم استقبال القبلة على وجهين: أحدهما: أن يراها ويعاينها فيلزمه استقبالها وإصابتها وقصد جهتها بجميع بدنه. والآخر: أن تكون الكعبة بحيث لا يراها فيلزمه التوجه نحوها وتلقاءها بالدلائل، وهي الشمس والقمر والنجوم والرياح وكل ما يمكن به معرفة جهتها، ومن غابت عنه وصلى مجتهدا إلى غير ناحيتها وهو ممن يمكنه الاجتهاد فلا صلاة له؛ فإذا صلى مجتهدا مستدلا ثم انكشف له بعد الفراغ من صلاته أنه صلى إلى غير القبلة أعاد إن كان في وقتها، وليس ذلك بواجب عليه؛ لأنه قد أدى فرضه على ما أمر به. وقد مضى هذا المعنى في « البقرة » مستوفى والحمد لله.

 

الآية: 17 ( أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون )

 

قوله تعالى: « أفمن يخلق » هو الله تعالى. « كمن لا يخلق » يريد الأصنام. « أفلا تذكرون » أخبر عن الأوثان التي لا تخلق ولا تضر ولا تنفع، كما يخبر عمن يعقل على ما تستعمله العرب في ذلك؛ فإنهم كانوا يعبدونها فذكرت بلفظ « من » كقوله: « ألهم أرجل » [ الأعراف: 195 ] . وقيل: لاقتران الضمير في الذكر بالخالق. قال الفراء: هو كقول العرب: اشتبه علي الراكب وجمله فلا أدري من ذا ومن ذا؛ وإن كان أحدهما غير إنسان. قال المهدوي: ويسأل بـ « من » عن البارئ تعالى ولا يسأل عنه بـ « ما » ؛ لأن « ما » إنما يسأل بها عن الأجناس، والله تعالى ليس بذي جنس، ولذلك أجاب موسى عليه السلام حين قال له: « فمن ربكما يا موسى » [ طه: 49 ] ولم يجب حين قال له: « وما رب العالمين » [ الشعراء: 23 ] إلا بجواب « من » وأضرب عن جواب « ما » حين كان السؤال فاسدا. ومعنى الآية: من كان قادرا على خلق الأشياء المتقدمة الذكر كان بالعبادة أحق ممن هو مخلوق لا يضر ولا ينفع؛ « هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه » [ لقمان: 11 ] « أروني ماذا خلقوا من الأرض » [ فاطر: 40 ] .

 

الآيتان: 18 - 19 ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم، والله يعلم ما تسرون وما تعلنون )

 

قوله تعالى: « أي إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها » تقدم في إبراهيم. « إن الله لغفور رحيم، والله يعلم ما تسرون وما تعلنون » أي ما تبطنونه وما تظهرونه. وقد تقدم.

 

الآيتان: 20 - 21 ( والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون، أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون )

 

قوله تعالى: « والذين يدعون من دون الله » قراءة العامة « تدعون » بالتاء لأن ما قبله خطاب. روى أبو بكر عن عاصم وهبيرة عن حفص « يدعون » بالياء، وهي قراءة يعقوب. فأما قوله: « ما تسرون وما تعلنون » فكلهم بالتاء على الخطاب؛ إلا ما روى هبيرة عن حفص عن عاصم أنه قرأ بالياء. « لا يخلقون شيئا » أي لا يقدرون على خلق شيء « وهم يخلقون » . « أموات غير أحياء » أي هم أموات، يعني الأصنام، لا أرواح فيها ولا تسمع ولا تبصر، أي هي جمادات فكيف تعبدونها وأنتم أفضل منها بالحياة. « وما يشعرون » يعني الأصنام. « أيان يبعثون » وقرأ السلمي، « إيان » بكسر الهمزة، وهما لغتان، موضعه نصب بـ « يبعثون » وهي في معنى الاستفهام. والمعنى: لا يدرون متى يبعثون. وعبر عنها كما عبر عن الآدميين؛ لأنهم زعموا أنها تعقل عنهم وتعلم وتشفع لهم عند الله تعالى، فجرى خطابهم على ذلك. وقد قيل: إن الله يبعث الأصنام يوم القيامة ولها أرواح فتتبرأ من عبادتهم، وهي في الدنيا جماد لا تعلم متى تبعث. قال ابن عباس؛ تبعث الأصنام وتركب فيها الأرواح ومعها شياطينها فيتبرؤون من عبدتها، ثم يؤمر بالشياطين والمشركين إلى النار. وقيل: إن الأصنام تطرح في النار مع عبادتها يوم القيامة؛ دليله « إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم » [ الأنبياء: 98 ] . وقيل: تم الكلام عند قوله: « لا يخلقون شيئا وهم يخلقون » ثم ابتدأ فوصف المشركين بأنهم أموات، وهذا الموت موت كفر. « وما يشعرون أيان يبعثون » أي وما يدري الكفار متى يبعثون، أي وقت البعث؛ لأنهم لا يؤمنون بالبعث حتى يستعدوا للقاء الله وقيل: أي وما يدريهم متى الساعة، ولعلها تكون قريبا.

 

الآيتان: 22 - 23 ( إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون، لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين )

 

قوله تعالى: « إلهكم إله واحد » لما بين استحالة الإشراك بالله تعالى بين أن المعبود واحد لا رب غيره ولا معبود سواه. « فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة » أي لا تقبل الوعظ ولا ينفع فيها الذكر، وهذا رد على القدرية. « وهم مستكبرون » متكبرون متعظمون عن قبول الحق. وقد تقدم. « لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون » أي من القول والعمل فيجازيهم. قال الخليل: « لا جرم » كلمة تحقيق ولا تكون إلا جوابا؛ يقال: فعلوا ذلك؛ فيقال: لا جرم سيندمون. أي حقا أن لهم النار. وقد مضى القول فيه. « إنه لا يحب المستكبرين » أي لا يثيبهم ولا يثني عليهم. وعن الحسن بن علي أنه مر بمساكين قد قدموا كسرا بينهم وهم يأكلون فقالوا: الغذاء يا أبا عبدالله، فنزل وجلس معهم وقال: « إنه لا يحب المستكبرين » فلما فرغ قال: قد أجبتكم فأجيبوني؛ فقاموا معه إلى منزله فأطعمهم وسقاهم وأعطاهم وانصرفوا. قال العلماء. وكل ذنب يمكن التستر منه وإخفاؤه إلا الكبر؛ فإنه فسق يلزمه الإعلان، وهو أصل العصيان كله. وفي الحديث الصحيح ( إن المستكبرين يحشرون أمثال الذر يوم القيامة يطؤهم الناس بأقدامهم لتكبرهم ) . أو كما قال صلى الله عليه وسلم: ( تصغر لهم أجسامهم في المحشر حتى يضرهم صغرها وتعظم لهم في النار حتى يضرهم عظمها ) .

 

الآية: 24 ( وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين )

 

قوله تعالى: « وإذا قيل لكم ماذا أنزل ربكم » يعني وإذا قيل لمن تقدم ذكره ممن لا يؤمن بالآخرة وقلوبهم منكرة بالبعث « ماذا أنزل ربكم » . قيل: القائل النضر بن الحارث، وأن الآية نزلت فيه، وكان خرج إلى الحيرة فاشترى أحاديث « كليلة ودمنة » فكان يقرأ على قريش ويقول: ما يقرأ محمد على أصحابه إلا أساطير الأولين؛ أي ليس هو من تنزيل ربنا. وقيل: إن المؤمنين هم القائلون لهم اختبارا فأجابوا بقولهم: « أساطير الأولين » فأقروا بإنكار شيء هو أساطير الأولين. والأساطير: الأباطيل والترهات. والقول في « ماذا أنزل ربكم » كالقول في « ماذا ينفقون » [ البقرة: 215 ] وقوله: « أساطير الأولين » . خبر ابتداء محذوف، التقدير: الذي أنزله أساطير الأولين.

 

الآية: 25 ( ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون )

 

قوله تعالى: « ليحملوا أوزارهم » قيل: هي لام كي، وهي متعلقة بما قبلها. وقيل: لام العاقبة، كقوله: « ليكون لهم عدوا وحزنا » [ القصص: 8 ] . أي قولهم في القرآن والنبي أدّاهم إلى أن حملوا أوزارهم؛ أي ذنوبهم. وقيل: هي لام الأمر، والمعنى التهدد. « كاملة » لم يتركوا منها شيئا لنكبة أصابتهم في الدنيا بكفرهم. « ومن أوزار الذين يضلونهم » قال مجاهد: يحملون وزر من أضلوه ولا ينقص من إثم المضل شيء. وفي الخبر ( أيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع فإن عليه مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء وأيما داع دعا إلى هدى فاتبع فله مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء ) خرجه مسلم بمعناه. و « من » للجنس لا للتبعيض؛ فدعاة الضلالة عليهم مثل أوزار من اتبعهم. وقوله: « بغير علم » أي يضلون الخلق جهلا منهم بما يلزمهم من الآثام؛ إذ لو علموا لما أضلوا. « ألا ساء ما يزرون » أي بئس الوزر الذي يحملونه. ونظير هذه الآية « وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم » [ العنكبوت: 13 ] وقد تقدم.

 

الآية: 26 ( قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون )

 

قوله تعالى: « قد مكر الذين من قبلهم » أي سبقهم بالكفر أقوام مع الرسل المتقدمين فكانت العاقبة الجميلة للرسل. « فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم » قال ابن عباس وزيد بن أسلم وغيرهما: إنه النمرود بن كنعان وقومه، أرادوا صعود السماء وقتال أهله؛ فبنوا الصرح ليصعدوا منه بعد أن صنع بالنسور ما صنع، فخر. كما تقدم بيانه في آخر سورة « إبراهيم » . ومعنى « فأتى الله بنيانهم » أي أتى أمره البنيان، إما زلزلة أو ريحا فخربته. قال ابن عباس ووهب: كان طول الصرح في السماء خمسة آلاف ذراع، وعرضه ثلاثة آلاف. وقال كعب ومقاتل: كان طول فرسخين، فهبت ريح فألقت رأسه في البحر وخر عليهم الباقي. ولما سقط الصرح تبلبلت ألسن الناس من الفزع يومئذ، فتكلموا بثلاثة وسبعين لسانا، فلذلك سمي بابل، وما كان لسان قبل ذلك إلا السريانية. وقرأ ابن هرمز وابن محيصن « السقف » بضم السين والقاف جميعا. وضم مجاهد السين وأسكن القاف تخفيفا؛ كما تقدم في « وبالنجم » في الوجهين. والأشبه أن يكون جمع سقف. والقواعد: أصول البناء، وإذا اختلت القواعد سقط البناء. وقوله: « من فوقهم » قال ابن الأعرابي: وُكِد ليعلمك أنهم كانوا حالين تحته. والعرب تقول: خر علينا سقف ووقع علينا حائط إذا كان يملكه وإن لم يكن وقع عليه. فجاء بقوله: « من فوقهم » ليخرج هذا الشك الذي في كلام العرب فقال: « من فوقهم » أي عليهم وقع وكانوا تحته فهلكوا وما أفلتوا. وقيل: إن المراد بالسقف السماء؛ أي إن العذاب أتاهم من السماء التي هي فوقهم؛ قال ابن عباس. وقيل: إن قوله: « فأتى الله بنيانهم من القواعد » تمثيل، والمعنى: أهلكهم فكانوا بمنزلة من سقط عليه بنيانه. وقيل: المعنى أحبط الله أعمالهم فكانوا بمنزلة من سقط بنيانه. وقيل: المعنى أبطل مكرهم وتدبيرهم فهلكوا كما هلك من نزل عليه السقف من فوقه. وعلى هذا اختلف في الذين خر عليهم السقف؛ فقال ابن عباس وابن زيد ما تقدم. وقيل: إنه بختنصر وأصحابه؛ قال بعض المفسرين. وقيل: المراد المقتسمون الذين ذكرهم الله في سورة الحجر؛ قال الكلبي. وعلى هذا التأويل يخرج وجه التمثيل، والله أعلم. « وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون » أي من حيث ظنوا أنهم في أمان. وقال ابن عباس: يعني البعوضة التي أهلك الله بها نمرودا.

 

الآية: 27 ( ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين )

 

قوله تعالى: « ثم يوم القيامة يخزيهم » أي يفضحهم بالعذاب ويذلهم به ويهينهم « ويقول أين شركائي » أي بزعمكم وفي دعواكم، أي الآلهة التي عبدتم دوني، وهو سؤال توبيخ. « الذين كنتم تشاقون فيهم » أي تعادون أنبيائي بسببهم، فليدفعوا عنكم هذا العذاب. وقرأ ابن كثير « شركاي » بياء مفتوحة من غير همز، والباقون بالهمز. وقرأ نافع « تشاقون » بكسر النون على الإضافة، أي تعادونني فيهم. وفتحها الباقون. « قال الذين أوتوا العلم » قال ابن عباس: أي الملائكة. وقيل المؤمنون. « إن الخزي اليوم » أي الهوان والذل يوم القيامة. « والسوء » أي العذاب. « على الكافرين » .

 

الآية: 28 ( الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون )

 

قوله تعالى: « الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم » هذا من صفة الكافرين. و « ظالمي أنفسهم » نصب على الحال؛ أي وهم ظالمون أنفسهم إذ أوردوها موارد الهلاك. « فألقوا السلم » أي الاستسلام. أي أقروا لله بالربوبية وانقادوا عند الموت وقالوا: « ما كنا نعمل من سوء » أي من شرك. فقالت لهم الملائكة: « بلى » قد كنتم تعملون الأسواء. « إن الله عليم بما كنتم تعملون » وقال عكرمة. نزلت هذه الآية بالمدينة في قوم أسلموا بمكة ولم يهاجروا، فأخرجتهم قريش إلى بدر كرها فقتلوا بها؛ فقال: « الذين تتوفاهم الملائكة » بقبض أرواحهم. « ظالمي أنفسهم » في مقامهم بمكة وتركهم الهجرة. « فألقوا السلم » يعني في خروجهم معهم. وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه الصلح؛ قال الأخفش. الثاني: الاستسلام؛ قال قطرب. الثالث: الخضوع؛ قاله مقاتل. « ما كنا نعمل من سوء » يعني من كفر. « بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون » يعني أن أعمالهم أعمال الكفار. وقيل: إن بعض المسلمين لما رأوا قلة المؤمنين رجعوا إلى المشركين؛ فنزلت فيهم. وعلى القول الأول فلا يخرج كافر ولا منافق من الدنيا حتى ينقاد ويستسلم، ويخضع ويذل، ولا تنفعهم حينئذ توبة ولا إيمان؛ كما قال: « فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا » [ غافر: 85 ] .

 

الآية: 29 ( فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين )

 

قوله تعالى: « فادخلوا أبواب جهنم » أي يقال لهم ذلك عند الموت. وقيل: هو بشارة لهم بعذاب القبر؛ إذ هو باب من أبواب جهنم للكافرين. وقيل: لا تصل أهل الدركة الثانية إليها مثلا إلا بدخول الدركة الأولى ثم الثانية ثم الثالثة هكذا. وقيل: لكل دركة باب مفرد، فالبعض يدخلون من باب والبعض يدخلون من باب آخر. فالله أعلم. « خالدين فيها » أي ماكثين فيها. « فلبئس مثوى » أي مقام « المتكبرين » الذين تكبروا عن الإيمان وعن عبادة الله تعالى، وقد بينهم بقوله الحق: « إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون » [ الصافات: 35 ] .

 

الآيتان: 30 - 31 ( وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين، جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاؤون كذلك يجزي الله المتقين )

 

قوله تعالى: « وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا » أي قالوا: أنزل خيرا؛ وتم الكلام. و « ماذا » على هذا اسم واحد. وكان يرد الرجل من العرب مكة في أيام الموسم فيسأل المشركين عن محمد عليه السلام فيقولون: ساحر أو شاعر أو كاهن أو مجنون. ويسأل المؤمنين فيقولون: أنزل الله عليه الخير والهدى، والمراد القرآن. وقيل: إن هذا يقال لأهل الإيمان يوم القيامة. قال الثعلبي: فإن قيل: لم ارتفع الجواب في قوله: « أساطير الأولين » [ النحل: 24 ] وانتصب في قوله: « خيرا » فالجواب أن المشركين لم يؤمنوا بالتنزيل، فكأنهم قالوا: الذي يقوله محمد هو أساطير الأولين. والمؤمنين آمنوا بالنزول فقالوا: أنزل خيرا، وهذا مفهوم معناه من الإعراب، والحمد لله.

 

قوله تعالى: « للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة » قيل: هو من كلام الله عز وجل. وقيل: هو من جملة كلام الذين اتقوا. والحسنة هنا: الجنة؛ أي من أطاع الله فله الجنة غدا. وقيل: « للذين أحسنوا » اليوم حسنة في الدنيا من النصر والفتح والغنيمة « ولدار الآخرة خير » أي ما ينالون في الآخرة من ثواب الجنة خير وأعظم من دار الدنيا؛ لفنائها وبقاء الآخرة. « ولنعم دار المتقين » فيه وجهان: قال الحسن: المعنى ولنعم دار المتقين الدنيا؛ لأنهم نالوا بالعمل فيها ثواب الآخرة ودخول الجنة. وقيل: المعنى ولنعم دار المتقين الآخرة؛ وهذا قول الجمهور. وعلى هذا تكون « جنات عدن » بدلا من الدار فلذلك ارتفع. « جنات عدن » بدلا من الدار فلذلك ارتفع. وقيل: ارتفع على تقدير هي جنات، فهي مبينة لقوله: « دار المتقين » . أو تكون مرفوعة بالابتداء، التقدير: جنات عدن نعم دار المتقين. « يدخلونها » في موضع الصفة، أي مدخولة. وقيل: « جنات » رفع بالابتداء، وخبره « يدخلونها » وعليه يخرج قول الحسن. والله أعلم. « تجري من تحتها الأنهار » تقدم. « لهم فيها ما يشاؤون » أي مما تمنوه وأرادوه. « كذلك يجزي الله المتقين » أي مثل هذا الجزاء يجزي الله المتقين.

 

الآية: 32 ( الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون )

 

قوله تعالى: « الذين تتوفاهم الملائكة طيبين » قرأ الأعمش وحمزة « يتوفاهم الملائكة » في الموضعين بالياء، واختاره أبو عبيد؛ لما روي عن ابن مسعود أنه قال: إن قريشا زعموا أن الملائكة إناث فذكروهم أنتم. الباقون بالتاء؛ لأن المراد به الجماعة من الملائكة. و « طيبين » فيه ستة أقوال: الأول: « طيبين » طاهرين من الشرك. الثاني: صالحين. الثالث: زاكية أفعالهم وأقوالهم. الرابع: طيبين الأنفس ثقة بما يلقونه من ثواب الله تعالى. الخامس: طيبة نفوسهم بالرجوع إلى الله. السادس: « طيبين » أن تكون وفاتهم طيبة سهلة لا صعوبة فيها ولا ألم؛ بخلاف ما تقبض به روح الكافر والمخلط. والله أعلم. « يقولون سلام عليكم » يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون السلام إنذارا لهم بالوفاة. الثاني: أن يكون تبشيرا لهم بالجنة؛ لأن السلام أمان. وذكر ابن المبارك قال: حدثني حيوة قال أخبرني أبو صخر عن محمد بن كعب القرظي قال: إذا استنقعت نفس العبد المؤمن جاءه ملك الموت فقال: السلام عليك وليّ الله الله يقرأ عليك السلام. ثم نزع بهذه الآية « الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم » . وقال ابن مسعود: إذا جاء ملك الموت يقبض روح المؤمن قال: ربك مقرئك السلام. وقال مجاهد: إن المؤمن ليبشر بصلاح ولده من بعده لتقر عينه. وقد أتينا على هذا في كتاب التذكرة وذكرنا هناك الأخبار الواردة في هذا المعنى، والحمد لله. « ادخلوا الجنة » يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون معناه أبشروا بدخول الجنة. الثاني: أن يقولوا ذلك لهم في الآخرة « بما كنتم تعملون » يعني في الدنيا من الصالحات.

 

الآية: 33 ( هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون )

 

قوله تعالى: « هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة » هذا راجع إلى الكفار، أي ما ينتظرون إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم وهم ظالمون لأنفسهم. وقرأ الأعمش وابن وثاب وحمزة والكسائي وخلف « يأتيهم الملائكة » بالياء. والباقون بالتاء على ما تقدم. « أو يأتي أمر ربك » أي بالعذاب من القتل كيوم بدر، أو الزلزلة والخسف في الدنيا. وقيل: المراد يوم القيامة. والقوم لم ينتظروا هذه الأشياء لأنهم ما آمنوا بها، ولكن امتناعهم عن الإيمان أوجب عليهم العذاب، فأضيف ذلك إليهم، أي عاقبتهم العذاب. « كذلك فعل الذين من قبلهم » أي أصروا على الكفر فأتاهم أمر الله فهلكوا. « وما ظلمهم الله » أي ما ظلمهم الله بتعذيبهم وإهلاكهم، ولكن ظلموا أنفسهم بالشرك.

 

الآية: 34 ( فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون )

 

قوله تعالى: « فأصابهم سيئات ما عملوا » قيل: فيه تقديم وتأخير؛ التقدير: كذلك فعل الذين من قبلهم فأصابهم سيئات ما عملوا، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، فأصابهم عقوبات كفرهم وجزاء الخبيث من أعمالهم. « وحاق بهم » أي أحاط بهم ودار. « ما كانوا به يستهزئون » أي عقاب استهزائهم.

 

الآية: 35 ( وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين )

 

قوله تعالى: « وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء » أي شيئا، و « من » صلة. قال الزجاج: قالوه استهزاء، ولو قالوه عن اعتقاد لكانوا مؤمنين. وقد مضى. « كذلك فعل الذين من قبلهم » أي مثل هذا التكذيب والاستهزاء فعل من كان قبلهم بالرسل فأهلكوا. « فهل على الرسل إلا البلاغ المبين » أي ليس عليهم إلا التبليغ، وأما الهداية فهي إلى الله تعالى.

 

الآية: 36 ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين )

 

قوله تعالى: « ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله » أي بأن اعبدوا الله ووحدوه. « واجتنبوا الطاغوت » أي اتركوا كل معبود دون الله كالشيطان والكاهن والصنم، وكل من دعا إلى الضلال. « فمنهم من هدى الله » أي أرشده إلى دينه وعبادته. « ومنهم من حقت عليه الضلالة » أي بالقضاء السابق عليه حتى مات على كفره، وهذا يرد على القدرية؛ لأنهم زعموا أن الله هدى الناس كلهم ووفقهم للهدى، والله تعالى يقول: « فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة » وقد تقدم. « فسيروا في الأرض » أي فسيروا معتبرين في الأرض « فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين » أي كيف صار آخر أمرهم إلى الخراب والعذاب والهلاك.

 

الآية: 37 ( إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين )

 

قوله تعالى: « إن تحرص على هداهم » أي إن تطلب يا محمد بجهدك هداهم. « فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين » أي لا يرشد من أضله، أي من سبق له من الله الضلالة لم يهده. وهذه قراءة ابن مسعود وأهل الكوفة. « فيهدي » فعل مستقبل وماضيه هدى. و « من » في موضع نصب « بيهدي » ويجوز أن يكون هدى يهدي بمعنى اهتدى يهتدي، رواه أبو عبيد عن الفراء قال: كما قرئ « أمن لا يهدي إلا أن يهدى » [ يونس: 35 ] بمعنى يهتدي. قال أبو عبيد. ولا نعلم أحدا روى هذا غير الفراء، وليس بمتهم فيما يحكيه. النحاس: حكي لي عن محمد بن يزيد كأن معنى « لا يهدي من يضل » من علم ذلك منه وسبق ذلك له عنده، قال: ولا يكون يهدي بمعنى يهتدي إلا أن يكون يهدي أو يهدي. وعلى قول الفراء « يهدي » بمعنى يهتدي، فيكون « من » في موضع رفع، والعائد إلى « من » الهاء المحذوفة من الصلة، والعائد إلى اسم « إن » الضمير المستكن في « يضل » . وقرأ الباقون « لا يهدى » بضم الياء وفتح الدال، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، على معنى من أضله الله لم يهده هاد؛ دليله قوله: « من يضلل الله فلا هادي له » [ الأعراف: 186 ] و « من » في موضع رفع على أنه اسم ما لم يسم فاعله، وهي بمعنى الذي، والعائد عليها من صلتها محذوف، والعائد على اسم إن من « فإن الله » الضمير المستكن في « يضل » .

 

الآية: 38 ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون )

 

قوله تعالى: « وأقسموا بالله جهد أيمانهم » هذا تعجيب من صنعهم، إذ أقسموا بالله وبالغوا في تغليظ اليمين بأن الله لا يبعث من يموت. ووجه التعجيب أنهم يظهرون تعظيم الله فيقسمون به ثم يعجزونه عن بعث الأموات. وقال أبو العالية: كان لرجل من المسلمين على مشرك دين فتقاضاه، وكان في بعض كلامه: والذي أرجوه بعد الموت إنه لكذا، فأقسم المشرك بالله: لا يبعث الله من يموت؛ فنزلت الآية. وقال قتادة : ذكر لنا أن ابن عباس قال له رجل: يا ابن عباس، إن ناسا يزعمون أن عليا مبعوث بعد الموت قبل الساعة، ويتأولون هذه الآية. فقال ابن عباس: كذب أولئك! إنما هذه الآية عامة للناس، لو كان علي مبعوثا قبل القيامة ما نكحنا نساءه ولا قسمنا ميراثه. « بلى » هذا رد عليهم؛ أي بلى ليبعثنهم. « وعدا عليه حقا » مصدر مؤكد؛ لأن قوله « يبعثهم » يدل على الوعد، أي وعد البعث وعدا حقا. « ولكن أكثر الناس لا يعلمون » أنهم مبعوثون. وفي البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ( قال الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ) . وقد تقدم.

 

الآية: 39 ( ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين )

 

قوله تعالى: « ليبين لهم » أي ليظهر لهم. « الذي يختلفون فيه » أي من أمر البعث. « وليعلم الذين كفروا » بالبعث وأقسموا عليه « أنهم كانوا كاذبين » وقيل: المعنى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا ليبين لهم الذي يختلفون فيه، والذي اختلف فيه المشركون والمسلمون أمور: منها البعث، ومنها عبادة الأصنام، ومنها إقرار قوم بأن محمدا حق ولكن منعهم من اتباعه التقليد؛ كأبي طالب.

 

الآية: 40 ( إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون )

 

أعلمهم سهولة الخلق عليه، أي إذا أردنا أن نبعث من يموت فلا تعب علينا ولا نصب في إحيائهم، ولا في غير ذلك مما نحدثه؛ لأنا إنما نقول له كن فيكون. قراءة ابن عامر والكسائي « فيكون » نصبا عطفا على أن نقول. وقال الزجاج: يجوز أن يكون نصبا على جواب « كن » . الباقون بالرفع على معنى فهو يكون. وقال ابن الأنباري: أوقع لفظ الشيء على المعلوم عند الله قبل الخلق لأنه بمنزلة ما وجد وشوهد. وفي الآية دليل على أن القرآن غير مخلوق؛ لأنه لو كان قوله: « كن » مخلوقا لاحتاج إلى قول ثان، والثاني إلى ثالث وتسلسل وكان محالا. وفيها دليل على أن الله سبحانه مريد لجميع الحوادث كلها خيرها وشرها نفعها وضرها؛ والدليل على ذلك أن من يرى في سلطانه ما يكرهه ولا يريده فلأحد شيئين: إما لكونه جاهلا لا يدري، وإما لكونه مغلوبا لا يطيق، ولا يجوز ذلك في وصفه سبحانه، وقد قام الدليل على أنه خالق لاكتساب العباد، ويستحيل أن يكون فاعلا لشيء وهو غير مريد له؛ لأن أكثر أفعالنا يحصل على خلاف مقصودنا وإرادتنا، فلو لم يكن الحق سبحانه مريدا لها لكانت تلك الأفعال تحصل من غير قصد؛ وهذا قول الطبيعيين، وقد أجمع الموحدون على خلافه وفساده.

 

الآية: 41 ( والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون )

 

قوله تعالى: « والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا » قد تقدم في « النساء » معنى الهجرة، وهي ترك الأوطان والأهل والقرابة في الله أو في دين الله، وترك السيئات. وقيل: « في » بمعنى اللام، أي لله. « من بعد ما ظلموا » أي عذبوا في الله. نزلت في صهيب وبلال وخباب وعمار، عذبهم أهل مكة حتى قالوا لهم ما أرادوا، فلما خلوهم هاجروا إلى المدينة؛ قاله الكلبي. وقيل: نزلت في أبي جندل بن سهيل. وقال قتادة: المراد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ظلمهم المشركون بمكة وأخرجوهم حتى لحق طائفة منهم بالحبشة؛ ثم بوأهم الله تعالى دار الهجرة وجعل لهم أنصارا من المؤمنين. والآية تعم الجميع. « لنبوئنهم في الدنيا حسنة » في الحسنة ستة أقوال: الأول: نزول المدينة؛ قاله ابن عباس والحسن والشعبي وقتادة. الثاني: الرزق الحسن؛ قاله مجاهد. الثالث: النصر على عدوهم؛ قاله الضحاك. الرابع: إنه لسان صدق؛ حكاه ابن جريج. الخامس: ما استولوا عليه من فتوح البلاد وصار لهم فيها من الولايات. السادس: ما بقي لهم في الدنيا من الثناء، وما صار فيها لأولادهم من الشرف. وكل ذلك اجتمع لهم بفضل الله، والحمد لله. « ولأجر الآخرة أكبر » أي ولأجر دار الآخرة أكبر، أي أكبر من أن يعلمه أحد قبل أن يشاهده؛ « وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا » [ الإنسان: 20 ] « لو كانوا يعلمون » أي لو كان هؤلاء الظالمون يعلمون ذلك. وقيل: هو راجع إلى المؤمنين. أي لو رأوا ثواب الآخرة وعاينوه لعلموا أنه أكبر من حسنة الدنيا. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا دفع إلى المهاجرين العطاء قال: هذا ما وعدكم الله في الدنيا وما أدخر لكم في الآخرة أكثر؛ ثم تلا عليهم هذه الآية.

 

الآية: 42 ( الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون )

 

قيل: « الذين » بدل من « الذين » الأول. وقيل: من الضمير في « لنبوئنهم » وقيل: هم الذين صبروا على دينهم. « وعلى ربهم يتوكلون » في كل أمورهم. وقال بعض أهل التحقيق: خيار الخلق من إذا نابه أمر صبر، وإذا عجز عن أمر توكل؛ قال الله تعالى: « الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون » .

 

الآيتان: 43 - 44 ( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون، بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون )

 

قوله تعالى: « وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم » قراءة العامة « يوحى » بالياء وفتح الحاء. وقرأ حفص عن عاصم « نوحي إليهم » بنون العظمة وكسر الحاء. نزلت في مشركي مكة حيث أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا، فهلا بعث إلينا ملكا؛ فرد الله تعالى عليهم بقوله: « وما أرسلنا من قبلك » إلى الأمم الماضية يا محمد « إلا رجالا » آدميين. « فاسألوا أهل الذكر » قال سفيان: يعني مؤمني أهل الكتاب. وقيل: المعنى فاسألوا أهل الكتاب فإن لم يؤمنوا فهم معترفون بأن الرسل كانوا من البشر. روي معناه عن ابن عباس ومجاهد. وقال ابن عباس: أهل الذكر أهل القرآن. وقيل: أهل العلم، والمعنى متقارب. « إن كنتم لا تعلمون » يخبرونكم أن جميع الأنبياء كانوا بشرا. « بالبينات والزبر » قيل: « بالبينات، متعلق » بأرسلنا « . وفي الكلام تقديم وتأخير، أي ما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالا - أي غير رجال، » فإلا « بمعنى غير؛ كقوله: لا إله إلا الله، وهذا قول الكلبي - نوحي إليهم. وقيل: في الكلام حذف دل عليه » أرسلنا « أي أرسلناهم بالبينات والزبر. ولا يتعلق » بالبينات « بـ » أرسلنا « الأول على هذا القول؛ لأن ما قبل » إلا « لا يعمل فيما بعدها، وإنما يتعلق بأرسلنا المقدرة، أي أرسلناهم بالبينات. وقيل: مفعول » بتعلمون « والباء زائدة، أو نصب بإضمار أعني؛ كما قال الأعشى: »

وليس مجيرا إن أتى الحي خائف ولا قائلا إلا هو المتعيبا

أي أعني المتعيب. والبينات: الحجج والبراهين. والزبر: الكتب. وقد تقدم. « وأنزلنا إليك الذكر » يعني القرآن. « لتبين للناس ما نزل إليهم » في هذا الكتاب من الأحكام والوعد والوعيد بقولك وفعلك؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم مبين عن الله عز وجل مراده مما أجمله في كتابه من أحكام الصلاة والزكاة، وغير ذلك مما لم يفصله. « ولعلهم يتفكرون » فيتعظون.

 

الآيات: 45 - 47 ( أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون، أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين، أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤوف رحيم )

 

قوله تعالى: « أفأمن الذين مكروا السيئات » أي بالسيئات، وهذا وعيد للمشركين الذين احتالوا في إبطال الإسلام. « أن يخسف الله بهم الأرض » قال ابن عباس: كما خسف بقارون، يقال: خسف المكان يخسف خسوفا ذهب في الأرض، وخسف الله به الأرض خسوفا أي غاب به فيها؛ ومنه قوله: « فخسفنا به وبداره الأرض » [ القصص: 81 ] . وخسف هو في الأرض وخسف به. والاستفهام بمعنى الإنكار؛ أي يجب ألا يأمنوا عقوبة تلحقهم كما لحقت المكذبين. « أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون » كما فعل بقوم لوط وغيرهم. يريد يوم بدر؛ فإنهم أهلكوا ذلك اليوم، ولم يكن شيء منه في حسابهم. « أو يأخذهم في تقلبهم » أي في أسفارهم وتصرفهم؛ قاله قتادة. وقيل: « في تقلبهم » على فراشهم أينما كانوا. وقال الضحاك: بالليل والنهار. « فما هم بمعجزين » أي مسابقين الله ولا فائتيه. « أو يأخذهم على تخوف » قال ابن عباس ومجاهد وغيرهم أي على تنقص من أموالهم ومواشيهم وزروعهم. وكذا قال ابن الأعرابي: أي على تنقص من الأموال والأنفس والثمرات حتى أهلكهم كلهم. وقال الضحاك: هو من الخوف؛ المعنى: يأخذ طائفة ويدع طائفة، فتخاف الباقية أن ينزل بها ما نزل بصاحبتها. وقال الحسن: « على تخوف » أن يأخذ القرية فتخافه القرية الأخرى، وهذا هو معنى القول الذي قبله بعينه، وهما راجعان إلى المعنى الأول، وأن التخوف التنقص؛ تخوفه تنقصه، وتخوفه الدهر وتخونه - بالفاء والنون - بمعنى؛ يقال: تخونني فلان حقي إذا تنقصك. قال ذو الرمة:

لا، بل هو الشوق من دار تخونها مرا سحاب ومرا بارح ترب

وقال لبيد:

تخونها نزولي وارتحالي

أي تنقص لحمها وشحمها. وقال الهيثم بن عدي: التخوف « بالفاء » التنقص، لغة لأزد شنوءة. وأنشد:

تخوف غدرهم مالي وأهدى سلاسل في الحلوق لها صليل

وقال سعيد بن المسيب: بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر قال: يا أيها الناس، ما تقولون في قول الله عز وجل: « أو يأخذهم على تخوف » فسكت الناس، فقال شيخ من بني هذيل: هي لغتنا يا أمير المؤمنين، التخوف التنقص. فخرج رجل فقال: يا فلان، ما فعل دينك؟ قال: تخوفته، أي تنقصته؛ فرجع فأخبر عمر فقال عمر: أتعرف العرب ذلك في أشعارهم؟ قال نعم؛ قال شاعرنا أبو كبير الهذلي يصف ناقة تنقص السير سنامها بعد تمكه واكتنازه:

تخوف الرحل منها تامكا قردا كما تخوف عود النبعة السفن

فقال عمر: يا أيها الناس، عليكم بديوانكم شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم. تمك السنام يتمك تمكا، أي طال وارتفع، فهو تامك. والسفن والمسفن ما يُنجر به الخشب. وقال الليث بن سعد: « على تخوف » على عجل. وقال: على تقريع بما قدموه من ذنوبهم، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا. وقال قتادة: « على تخوف » أن يعاقب أو يتجاوز. « فإن ربكم لرؤوف رحيم » أي لا يعاجل بل يمهل.

 

الآية: 48 ( أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون )

 

قرأ حمزة والكسائي وخلف ويحيى والأعمش « تروا » بالتاء، على أن الخطاب لجميع الناس. الباقون بالياء خبرا عن الذين يمكرون السيئات؛ وهو الاختيار. « من شيء » يعني من جسم قائم له ظل من شجرة أو جبل؛ قاله ابن عباس. وإن كانت الأشياء كلها سميعة مطيعة لله تعالى. « يتفيأ ظلاله » قرأ أبو عمرو ويعقوب وغيرهما بالتاء لتأنيث الظلال. الباقون بالياء، واختاره أبو عبيد. أي يميل من جانب إلى جانب، ويكون أول النهار على حال ويتقلص ثم يعود في آخر النهار على حالة أخرى؛ فدورانها وميلانها من موضع إلى موضع سجودها؛ ومنه قيل للظل بالعشي: فيء؛ لأنه فاء من المغرب إلى المشرق، أي رجع. والفيء الرجوع؛ ومنه « حتى تفيء إلى أمر الله » [ الحجرات: 9 ] . روي معنى هذا القول عن الضحاك وقتادة وغيرهما، وقال الزجاج: يعني سجود الجسم، وسجوده انقياده وما يرى فيه من أثر الصنعة، وهذا عام في كل جسم. ومعنى « وهم داخرون » أي خاضعون صاغرون. والدخور: الصغار والذل. يقال: دخر الرجل - بالفتح - فهو داخر، وأدخره الله. وقال ذو الرمة:

فلم يبق إلا داخر في مخيس ومنجحر في غير أرضك في جحر

كذا نسبه الماوردي لذي الرمة، ونسبه الجوهري للفرزدق وقال: المخيس اسم سجن كان بالعراق؛ أي موضع التذلل، وقال.

أما تراني كيسا مكيسا بنيت بعد نافع مخيسا

ووحد اليمين في قوله: « عن اليمين » وجمع الشمال؛ لأن معنى اليمين وإن كان واحدا الجمع. ولو قال: عن الأيمان والشمائل، واليمين والشمائل، أو اليمين والشمال، أو الأيمان والشمال لجاز؛ لأن المعنى للكثرة. وأيضا فمن شأن العرب إذا اجتمعت علامتان في شيء واحد أن تجمع إحداهما وتفرد الأخرى؛ كقوله تعالى: « ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم » [ البقرة: 7 ] وكقوله: « ويخرجهم من الظلمات إلى النور » [ المائدة: 16 ] ولو قال على أسماعهم وإلى الأنوار لجاز. ويجوز أن يكون رد اليمين على لفظ « ما » والشمال على معناها. ومثل هذا في الكلام كثير. فال الشاعر:

الواردون وتيم في ذرا سبأ قد عض أعناقهم جلد الجواميس

ولم يقل جلود. وقيل: وحد اليمين لأن الشمس إذا طلعت وأنت متَوجّه إلى القبلة انبسط الظل عن اليمين ثم في حال يميل إلى جهة الشمال ثم حالات، فسماها شمائل.

 

الآيتان: 49 - 50 ( ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون، يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون )

 

قوله تعالى: « ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة » أي من كل ما يدب على الأرض. « والملائكة » يعني الملائكة الذين في الأرض، وإنما أفردهم بالذكر لاختصاصهم بشرف المنزلة، فميزهم من صفة الدبيب بالذكر وإن دخلوا فيها؛ كقوله: « فيهما فاكهة ونخل ورمان » [ الرحمن: 68 ] . وقيل: لخروجهم من جملة ما يدب لما جعل الله لهم من الأجنحة، فلم يدخلوا في الجملة فلذلك ذكروا. وقيل: أراد « ولله يسجد من في السماوات » من الملائكة والشمس والقمر والنجوم والرياح والسحاب، « وما في الأرض من دابة » وتسجد ملائكة الأرض. « وهم لا يستكبرون » عن عبادة ربهم. وهذا رد على قريش حيث زعموا أن الملائكة بنات الله. ومعنى « يخافون ربهم من فوقهم » أي عقاب ربهم وعذابه، لأن العذاب المهلك إنما ينزل من السماء. وقيل: المعنى يخافون قدرة ربهم التي هي فوق قدرتهم؛ ففي الكلام حذف. وقيل: معنى « يخافون ربهم من فوقهم » يعني الملائكة، يخافون ربهم وهي من فوق ما في الأرض من دابة ومع ذلك يخافون؛ فلأن يخاف من دونهم أولى؛ دليل هذا القول قوله تعالى: « ويفعلون ما يؤمرون » يعني الملائكة.

 

الآية: 51 ( وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون )

 

قوله تعالى: « وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين » قيل: المعنى لا تتخذوا اثنين إلهين. وقيل: جاء قوله « اثنين » توكيدا. ولما كان الإله الحق لا يتعدد وأن كل من يتعدد فليس بإله، اقتصر على ذكر الاثنين؛ لأنه قصد نفي التعديد. « إنما هو إله واحد » يعني ذاته المقدسة. وقد قام الدليل العقلي والشرعي على وحدانيته والحمد لله. « فإياي فارهبوني » أي خافون. وقد تقدم.

 

الآية: 52 ( وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون )

 

قوله تعالى: « وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا » الدين: الطاعة والإخلاص. و « واصبا » معناه دائما؛ قال الفراء، حكاه الجوهري. وصب الشيء يصب وصوبا، أي دام. ووصب الرجل على الأمر إذا واظب عليه. والمعنى: طاعة الله واجبة أبدا. وممن قال واصبا دائما: الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك. ومنه قوله تعالى: « ولهم عذاب واصب » [ الصافات:9 ] أي دائم. وقال الدولي:

لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه بدم يكون الدهر أجمع واصبا

أنشد الغزنوي والثعلبي وغيرهما:

ما أبتغي الحمد القليل بقاؤه يوما بذم الدهر أجمع واصبا

وقيل: الوصب التعب والإعياء؛ أي تجب طاعة الله وإن تعب العبد فيها. ومنه قول الشاعر:

لا يمسك الساق من أين ولا وصب ولا يعض على شرسوفه الصفر

وقال ابن عباس: « واصبا » واجبا. الفراء والكلبي: خالصا. « أفغير الله تتقون » أي لا ينبغي أن تتقوا غير الله. « فغير » نصب بـ « تتقون » .

الآية [ 53 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات: 53 - 55 ( وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون، ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون، ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون )

 

قوله تعالى: « وما بكم من نعمة فمن الله » قال الفراء. « ما » بمعنى الجزاء. والباء في « بكم » متعلقة بفعل مضمر، تقديره: وما يكن بكم. « من نعمة » أي صحة جسم وسعة رزق وولد فمن الله. وقيل: المعنى وما بكم من نعمة فمن الله هي. « ثم إذا مسكم الضر » أي السقم والبلاء والقحط. « فإليه تجأرون » أي تضجون بالدعاء. يقال: جأر يجار جؤارا. والجؤار مثل الخوار؛ يقال: جأر الثور يجأر، أي صاح. وقرأ بعضهم « عجلا جسدا له جؤار » ؛ حكاه الأخفش. وجأر الرجل إلى الله، أي تضرع بالدعاء. وقال الأعشى يصف بقرة:

فطافت ثلاثا بين يوم وليلة وكان النكير أن تضيف وتجأرا

« ثم إذا كشف الضر عنكم » أي البلاء والسقم. « إذا فريق منكم بربهم يشركون » بعد إزالة البلاء وبعد الجؤار. فمعنى الكلام التعجيب من الإشراك بعد النجاة من الهلاك، وهذا المعنى مكرر في القرآن، وقال الزجاج: هذا خاص بمن كفر. « ليكفروا بما آتيناهم » أي ليجحدوا نعمة الله التي أنعم بها عليهم من كشف الضر والبلاء. أي أشركوا ليجحدوا، فاللام لام كي. وقيل لام العاقبة. وقيل: « ليكفروا بما آتيناهم » أي ليجعلوا النعمة سببا للكفر، وكل هذا فعل خبيث؛ كما قال:

والكفر مخبثة لنفس المنعم

« فتمتعوا » أمر تهديد. وقرأ عبدالله « قل تمتعوا » . « فسوف تعلمون » أي عاقبة أمركم.

 

الآية: 56 ( ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون )

 

قوله تعالى: « ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم » ذكر نوعا آخر من جهالتهم، وأنهم يجعلون لما لا يعلمون أنه يضر وينفع - وهي الأصنام - شيئا من أموالهم يتقربون به إليه؛ قال مجاهد وقتادة وغيرهما. فـ « يعلمون » على هذا للمشركين. وقيل هي للأوثان، وجرى بالواو والنون مجرى من يعقل، فهو رد على « ما » ومفعول يعلم محذوف، والتقدير: ويجعل هؤلاء الكفار للأصنام التي لا تعلم شيئا نصيبا. وقد مضى في « الأنعام:136 » تفسير هذا المعنى، ثم رجع من الخبر إلى الخطاب فقال: « تالله لتسئلن » وهذا سؤال توبيخ. « عما كنتم تفترون » أي تختلقونه من الكذب على الله أنه أمركم بهذا.

 

الآية: 57 ( ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون )

 

قوله تعالى: « ويجعلون لله البنات » نزلت في خزاعة وكنانة؛ فإنهم زعموا أن الملائكة بنات الله، فكانوا يقولون الحقوا البنات بالبنات. « سبحانه » نزه نفسه وعظمها عما نسبوه إليه من اتخاذ الأولاد. « ولهم ما يشتهون » أي يجعلون لأنفسهم البنين ويأنفون من البنات. وموضع « ما » رفع بالابتداء، والخبر « لهم » وتم الكلام عند قوله: « سبحانه » . وأجاز الفراء كونها نصبا، على تقدير: ويجعلون لهم ما يشتهون. وأنكره الزجاج وقال: العرب تستعمل في مثل هذا ويجعلون لأنفسهم.

 

الآية: 58 ( وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم )

 

قوله تعالى: « وإذا بشر أحدهم بالأنثى » أي أخبر أحدهم بولادة بنت. « ظل وجهه مسودا »

أي متغيرا، وليس يريد السواد الذي هو ضد البياض، وإنما هو كناية عن غمه بالبنت. والعرب تقول لكل من لقي مكروها: قد اسود وجهه غما وحزنا؛ قال الزجاج. وحكى الماوردي أن المراد سواد اللون قال: وهو قول الجمهور. « وهو كظيم » أي ممتلئ من الغم. وقال ابن عباس: حزين. وقال الأخفش: هو الذي يكظم غيظه فلا يظهره. وقيل: إنه المغموم الذي يطبق فاه فلا يتكلم من الغم؛ مأخوذ من الكظامة وهو شد فم القربة؛ قاله علي بن عيسى. وقد تقدم.

 

الآية: 59 ( يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون )

 

قوله تعالى: « يتوارى من القوم » أي يختفي ويتغيب. « من سوء ما بشر به » أي من سوء الحزن والعار والحياء الذي يلحقه بسبب البنت. « أيمسكه » ذكر الكناية لأنه مردود على « ما » . « على هون » أي هوان. وكذا قرأ عيسى الثقفي « على هوان » والهون الهوان بلغة قريش؛ قاله اليزيدي وحكاه أبو عبيد عن الكسائي. وقال الفراء: هو القليل بلغة تميم. وقال الكسائي: هو البلاء والمشقة. وقالت الخنساء:

نهين النفوس وهون النفو س يوم الكريهة أبقى لها

وقرأ الأعمش « أيمسكه على سوء » ذكره النحاس، قال: وقرأ الجحدري « أم يدسها في التراب » يرده على قوله: « بالأنثى » ويلزمه أن يقرأ « أيمسكها » . وقيل: يرجع الهوان إلى البنت؛ أي أيمسكها وهي مهانة عنده. وقيل: يرجع إلى المولود له؛ أيمسكه على رغم أنفه أم يدسه في التراب، وهو ما كانوا يفعلونه من دفن البنت حية. قال قتادة: كان مضر وخزاعة يدفنون البنات أحياء؛ وأشدهم في هذا تميم. زعموا خوف القهر عليهم وطمع غير الأكفاء فيهن. وكان صعصعة ابن ناجية عم الفرزدق إذا أحس بشيء من ذلك وجه إلى والد البنت إبلا يستحييها بذلك. فقال الفرزدق يفتخر:

وعمي الذي منع الوائدات وأحيا الوئيد فلم يوأد

وقيل: دسها إخفاؤها عن الناس حتى لا تعرف، كالمدسوس في التراب لإخفائه عن الأبصار؛ وهذا محتمل.

 

مسألة: ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءتني امرأة ومعها ابنتان لها، فسألتني فلم تجد عندي غير تمرة واحدة، فأعطيتها إياها فأخذتها فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها شيئا، ثم قامت فخرجت وابنتاها، فدخل علي النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته حديثها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من ابتلي من البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترا من النار ) . ففي هذا الحديث ما يدل على أن البنات بلية، ثم أخبر أن في الصبر عليهن والإحسان إليهن ما يقي من النار. وعن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها، فأطعمتها ثلاث تمرات فأعطت كل واحدة منهما تمرة، ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها فاستطعمتها ابنتاها فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما؛ فأعجبني شأنها، فذكرت الذي صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( إن الله عز وجل قد أوجب لها بها الجنة أو أعتقها بها من النار ) . وعن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو ) وضم أصابعه، خرجهما أيضا مسلم رحمه الله وخرج أبو نعيم الحافظ من حديث الأعمش عن أبي وائل عن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من كانت له بنت فأدبها فأحسن أدبها وعلمها فأحسن تعليمها وأسبغ عليها من نعم الله التي أسبغ عليه كانت له سترا أو حجابا من النار ) . وخطب إلى عقيل بن علفة ابنته الجرباء فقال:

إني وإن سيق إلي المهر ألف وعبدان وخور عشر

أحب أصهاري إلي القبر

وقال عبدالله بن طاهر:

لكل أبي بنت يراعي شؤونها ثلاثة أصهار إذا حمد الصهر

فبعل يراعيها وخدر يكنها وقبر يواريها وخيرهم القبر

« ألا ساء ما يحكمون » أي في إضافة البنات إلى خالقهم وإضافة البنين إليهم. نظيره « ألكم الذكر وله الأنثى. تلك إذا قسمة ضيزى » [ النجم: 21 ] أي جائرة، وسيأتي.

 

الآية: 60 ( للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم )

 

قوله تعالى: « للذين لا يؤمنون بالآخرة » أي لهؤلاء الواصفين لله البنات « مثل السوء » أي صفة السوء من الجهل والكفر. وقيل: هو وصفهم الله تعالى بالصاحبة والولد. وقيل: أي العذاب والنار. « ولله المثل الأعلى » أي الوصف الأعلى من الإخلاص والتوحيد؛ قاله قتادة. وقيل: أي الصفة العليا بأنه خالق رازق قادر ومجاز. وقال ابن عباس: « مثل السوء » النار، و « المثل الأعلى » شهادة أن لا إله إلا الله. وقيل: ليس كمثله شيء. وقيل: « ولله المثل الأعلى » كقوله: « الله نور السماوات والأرض مثل نوره » [ النور: 35 ] . فإن قيل: كيف أضاف المثل هنا إلى نفسه وقد قال: « فلا تضربوا لله الأمثال » [ النحل: 74 ] فالجواب أن قوله: « فلا تضربوا لله الأمثال » أي الأمثال التي توجب الأشباه والنقائص؛ أي لا تضربوا لله مثلا يقتضي نقصا وتشبيها بالخلق. والمثل الأعلى وصفه بما لا شبيه له ولا نظير، جل وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا. « وهو العزيز الحكيم » تقدم.

 

الآية: 61 ( ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون )

 

قوله تعالى: « ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم » أي بكفرهم وافترائهم، وعاجلهم. « ما ترك عليها » أي على الأرض، فهو كناية عن غير مذكور، لكن دل عليه قوله: « من دابة » فإن الدابة لا تدب إلا على الأرض. والمعنى المراد من دابة كافرة، فهو خاص. وقيل: المعنى أنه لو أهلك الآباء بكفرهم لم تكن الأبناء. وقيل: المراد بالآية العموم؛ أي لو أخذ الله الخلق بما كسبوا ما ترك على ظهر هذه الأرض من دابة من نبي ولا غيره؛ وهذا قول الحسن. وقال ابن مسعود وقرأ هذه الآية: لو أخذ الله الخلائق بذنوب المذنبين لأصاب العذاب جميع الخلق حتى الجعلان في حجرها، ولأمسك الأمطار من السماء والنبات من الأرض فمات الدواب، ولكن الله يأخذ بالعفو والفضل؛ كما قال: « ويعفو عن كثير » [ الشورى: 30 ] . « فإذا جاء أجلهم » أي أجل موتهم ومنتهى أعمارهم. أو الوقت المعلوم عند الله عز وجل. وقرأ ابن سيرين « جاء آجالهم » بالجمع وقيل: « فإذا جاء أجلهم » أي فإذا جاء يوم القيامة. والله أعلم. « لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون » وقد تقدم. فإن قيل: فكيف يعم بالهلاك مع أن فيهم مؤمنا ليس بظالم؟ قيل: يجعل هلاك الظالم انتقاما وجزاء، وهلاك المؤمن معوضا بثواب الآخرة. وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا أراد الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على نياتهم ) . وعن أم سلمة وسئلت عن الجيش الذي يخسف به وكان ذلك في أيام ابن الزبير، فقالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يعوذ بالبيت عائذ فيبعث إليه بعث فإذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم ) فقلت: يا رسول الله، فكيف بمن كان كارها؟ قال: ( يخسف به معهم ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته ) . وقد أتينا على هذا المعنى مجودا في « كتاب التذكرة » وتقدم في « المائدة » وآخر « الأنعام » ما فيه كفاية، والحمد لله. وقيل « فإذا جاء أجلهم » أي فإذا جاء يوم القيامة. والله أعلم.

 

الآية: 62 ( ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون )

 

قوله تعالى: « ويجعلون لله ما يكرهون » أي من البنات. « وتصف ألسنتهم الكذب » أي وتقول ألسنتهم الكذب. « الكذب » مفعول « تصف » و « أن » في محل نصب بدل من الكذب؛ لأنه بيان له. وقيل: « الحسنى » الجزاء الحسن؛ قال الزجاج. وقرأ ابن عباس وأبو العالية ومجاهد وابن محيصن « الكذب » برفع الكاف والذال والباء نعتا للألسنة؛ وكذا « ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب » [ النحل: 116 ] . والكذب جمع كذوب؛ مثل رسول ورسل وصبور وصبر وشكور وشكر. « أن لهم الحسنى » قال مجاهد: هو قولهم أن لهم البنين ولله البنات. « لا جرم أن لهم النار » قال الخليل: « لا جرم » كلمة تحقيق ولا تكون إلا جوابا؛ يقال: فعلوا ذلك؛ فيقال: لا جرم سيندمون. أي حقا أن لهم النار. « وأنهم مفرطون » متركون منسيون في النار؛ قاله ابن الأعرابي وأبو عبيدة والكسائي والفراء، وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد. وقال ابن عباس وصعيد بن جبير أيضا: مبعدون. قتادة والحسن: معجلون إلى النار مقدمون إليها. والفارط: الذي يتقدم إلى الماء؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنا فرطكم على الحوض ) أي متقدمكم. وقال القطامي:

فاستعجلونا وكانوا من صحابتنا كما تعجل فراط لوراد

والفراط: المتقدمون في طلب الماء. والوراد: المتأخرون. وقرأ نافع في رواية ورش « مفرطون » بكسر الراء وتخفيفها، وهي قراءة عبدالله بن مسعود وابن عباس، ومعناه مسرفون في الذنوب والمعصية، أي أفرطوا فيها. يقال: أفرط فلان على فلان إذا أربى عليه، وقال له أكثر مما قال من الشر. وقرأ أبو جعفر القارئ « مفرطون » بكسر الراء وتشديدها، أي مضيعون أمر الله؛ فهو من التفريط في الواجب.

 

الآية: 63 ( تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم )

 

قوله تعالى: « تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم » أي أعمالهم الخبيثة. هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأن من تقدمه من الأنبياء قد كفر بهم قومهم. « فهو وليهم اليوم » أي ناصرهم في الدنيا على زعمهم. وقيل: « فهو وليهم » أي قرينهم في النار. « اليوم » يعني يوم القيامة، وأطلق عليه اسم اليوم لشهرته. وقيل يقال لهم يوم القيامة: هذا وليكلم فاستنصروا به لينجيكم من العذاب، على جهة التوبيخ لهم. « ولهم عذاب أليم » في الآخرة.

 

الآية: 64 ( وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون )

 

قوله تعالى: « وما أنزلنا عليك الكتاب » أي القرآن « إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه » من الدين والأحكام فتقوم الحجة عليهم ببيانك. وعطفك « هدى ورحمة » على موضع قوله: « لتبين » لأن محله نصب. ومجاز الكلام: وما أنزلنا عليك الكتاب إلا تبيانا للناس. « وهدى ورحمة لقوم يؤمنون » أي رشدا ورحمة للمؤمنين.

 

الآية: 65 ( والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون )

 

قوله تعالى: « والله أنزل من السماء » أي السحاب. « ماء فأحيا به الأرض بعد موتها » عاد الكلام إلى تعداد النعم وبيان كمال القدرة. « إن في ذلك لآية » أي دلالة على البعث على وحدانيته؛ إذ علموا أن معبودهم لا يستطيع شيئا، فتكون هذه الدلالة. « لقوم يسمعون » عن الله تعالى بالقلوب لا بالآذان؛ « فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور » [ الحج: 46 ] .

 

الآية: 66 ( وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين )

 

قوله تعالى: « وإن لكم في الأنعام لعبرة » قد تقدم القول في الأنعام، وهي هنا الأصناف الأربعة: الإبل والبقر والضأن والمعز. « لعبرة » أي دلالة على قدرة الله ووحدانيته وعظمته. والعبرة أصلها تمثيل الشيء بالشيء لتعرف حقيقته من طريق المشاكلة، ومنه « فاعتبروا » [ الحشر: 2 ] . وقال أبو بكر الوراق: العبرة في الأنعام تسخيرها لأربابها وطاعتها لهم، وتمردك على ربك وخلافك له في كل شيء. ومن أعظم العبر بريء يحمل مذنبا.

 

قوله تعالى: « نسقيكم » قراءة أهل المدينة وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر بفتح النون من سقى يسقي. وقرأ الباقون وحفص عن عاصم بضم النون من أسقى يسقي، وهي قراءة الكوفيين وأهل مكة. قيل: هما لغتان. وقال لبيد:

سقى قومي بني مجد وأسقى نميرا والقبائل من هلال

وقيل: يقال لما كان من يدك إلى فيه سقيته، فإذا جعلت له شرابا أو عرضته لأن يشرب بفيه أو يزرعه قلت أسقيته؛ قال ابن عزيز، وقد تقدم. وقرأت فرقة « تسقيكم » بالتاء، وهي ضعيفة، يعني الأنعام. وقرئ بالياء، أي يسقيكم الله عز وجل. والقراء على القراءتين المتقدمتين؛ ففتح النون لغة قريش وضمها لغة حمير.

 

قوله تعالى: « مما في بطونه » اختلف الناس في الضمير من قوله: « مما في بطونه » على ماذا يعود. فقيل: هو عائد إلى ما قبله وهو جمع المؤنث. قال سيبويه: العرب تخبر عن الأنعام بخبر الواحد. قال ابن العربي: وما أراه عول عليه إلا من هذه الآية، وهذا لا يشبه منصبه ولا يليق بإدراكه. وقيل: لما كان لفظ الجمع وهو اسم الجنس يذكر ويؤنث فيقال: هو الأنعام وهي الأنعام، جاز عود الضمير بالتذكير؛ وقال الزجاج، وقال الكسائي: معناه مما في بطون ما ذكرناه، فهو عائد على المذكور؛ وقد قال الله تعالى: « إنها تذكرة، فمن شاء ذكره » [ عبس: 11 - 12 ] وقال الشاعر:

مثل الفراخ نتفت حواصله

ومثله كثير. وقال الكسائي: « مما في بطونه » أي مما في بطون بعضه؛ إذ الذكور لا ألبان لها، وهو الذي عول عليه أبو عبيدة. وقال الفراء: الأنعام والنعم واحد، والنعم يذكر، ولهذا تقول العرب: هذا نعم وارد، فرجع الضمير إلى لفظ النعم الذي هو بمعنى الأنعام. قال ابن العربي: إنما رجع التذكير إلى معنى الجمع، والتأنيث إلى معنى الجماعة، فذكره هنا باعتبار لفظ الجمع، وأنثه في سورة المؤمنين باعتبار لفظ الجماعة فقال: « نسقيكم مما في بطونها » [ المؤمنون: 21 ] وبهذا التأويل ينتظم المعنى انتظاما حسنا. والتأنيث باعتبار لفظ الجماعة والتذكير باعتبار لفظ الجمع أكثر من رمل يبرين وتيهاء فلسطين.

 

استنبط بعض العلماء الجلة وهو القاضي إسماعيل من عود هذا الضمير، أن لبن الفحل يفيد التحريم، وقال: إنما جيء به مذكرا لأنه راجع إلى ذكر النعم؛ لأن اللبن للذكر محسوب، ولذلك قضى النبي صلى الله عليه وسلم بأن لبن الفحل يحرم حين أنكرته عائشة في حديث أفلح أخي أبي القعيس ( فللمرأة السقي وللرجل اللقاح ) فجرى الاشتراك فيه بينهما. وقد مضى.

 

قوله تعالى: « من بين فرث ودم لبنا خالصا » نبه سبحانه على عظيم قدرته بخروج اللبن خالصا بين الفرث والدم. والفرث: الزبل الذي ينزل إلى الكرش، فإذا خرج لم يسم فرثا. يقال: أفرثت الكرش إذا أخرجت ما فيها. والمعنى: أن الطعام يكون فيه ما في الكرش ويكون منه الدم، ثم يخلص اللبن من الدم؛ فأعلم الله سبحانه أن هذا اللبن يخرج من بين ذلك وبين الدم في العروق. وقال ابن عباس: إن الدابة تأكل العلف فإذا استقر في كرشها طبخته فكان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما، والكبد مسلط على هذه الأصناف فتقسم الدم وتميزه وتجريه في العروق، وتجري اللبن في الضرع ويبقى الفرث كما هو في الكرش؛ « حكمة بالغة فما تغن النذر » [ القمر:5 ] . « خالصا » يريد من حمرة الدم وقذارة الفرث وقد جمعهما وعاء واحد. وقال ابن بحر: خالصا بياضه. قال النابغة:

بخالصة الأردان خضر المناكب

أي بيض الأكمام. وهذه قدرة لا تنبغي إلا للقائم على كل شيء بالمصلحة.

 

قال النقاش: في هذا دليل على أن المني ليس بنجس. وقاله أيضا غيره واحتج بأن قال: كما يخرج اللبن من بين الفرث والدم سائغا خالصا كذلك يجوز أن يخرج المني على مخرج البول طاهرا. قال ابن العربي: إن هذا لجهل عظيم وأخذ شنيع. اللبن جاء الخبر عنه مجيء النعمة والمنة الصادرة عن القدرة ليكون عبرة، فاقتضى ذلك كله وصف الخلوص واللذة؛ وليس المني من هذه الحالة حتى يكون ملحقا به أو مقيسا عليه.

قلت: قد يعارض هذا بأن يقال: وأي منة أعظم وأرفع من خروج المني الذي يكون عنه الإنسان المكرم؛ وقد قال تعالى: « يخرج من بين الصلب والترائب » [ الطارق: 7 ] ، وقال: « والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة » [ النحل: 72 ] وهذا غاية في الامتنان. فإن قيل: إنه يتنجس بخروجه في مجرى البول، قلنا: هو ما أردناه، فالنجاسة عارضة وأصله طاهر؛ وقد قيل: إن مخرجه غير مخرج البول وخاصة المرأة؛ فإن مدخل الذكر منها ومخرج الولد غير مخرج البول على ما قال العلماء. فإن قيل: أصله دم فهو نجس، قلنا ينتقض بالمسك، فإن أصله دم وهو طاهر. وممن قال بطهارته الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وغيرهم؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يابسا بظفري. قال الشافعي: فإن لم يفرك فلا بأس به. وكان سعد بن أبي وقاص يفرك المني من ثوبه. وقال ابن عباس: هو كالنخامة أمطه عنك بإذخرة وامسحه بخرقة. فإن قيل: فقد ثبت عن عائشة أنها قالت: كنت أغسل المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه. قلنا: يحتمل أن تكون غسلته استقذارا كالأشياء التي تزال من الثوب كالنجاسة، ويكون هذا جمعا بين الأحاديث. والله أعلم. وقال مالك وأصحابه والأوزاعي: هو نجس. قال مالك: غسل الاحتلام من الثوب أمر واجب مجتمع عليه عندنا، وهو قول الكوفيين. ويروى عن عمر بن الخطاب وابن مسعود وجابر بن سمرة أنهم غسلوه من ثيابهم. واختلف فيه عن ابن عمر وعائشة. وعلى هذين القولين في نجاسة المني وطهارته التابعون.

 

في هذه الآية دليل على جواز الانتفاع بالألبان من الشرب وغيره، فأما لبن الميتة فلا يجوز الانتفاع به؛ لأنه مانع طاهر حصل في وعاء نجس، وذلك أن ضرع الميتة نجس واللبن طاهر فإذا حلب صار مأخوذا من وعاء نجس. فأما لبن المرأة الميتة فاختلف أصحابنا فيه، فمن قال: إن الإنسان طاهر حيا وميتا فهو طاهر. ومن قال: ينجس بالموت فهو نجس. وعلى القولين جميعا تثبت الحرمة؛ لأن الصبي قد يغتذي به كما يغتذي من الحية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم ) . ولم يخص.

 

قوله تعالى: « سائغا للشاربين » أي لذيذا هينا لا يغص به من شربه. يقال: ساغ الشراب يسوغ سوغا أي سهل مدخله في الحلق، وأساغه شاربه، وسغته أنا أسيغه وأسوغه، يتعدى، والأجود أسغته إساغة. يقال: أسغ لي غصتي أي أمهلني ولا تعجلني؛ وقال تعالى: « يتجرعه ولا يكاد يسيغه » [ إبراهيم: 17 ] . والسواغ - بكسر السين - ما أسغت به غصتك. يقال: الماء سواغ الغصص؛ ومنه قول الكميت:

فكانت سواغا أن جئزت بغصة

وروي أن اللبن لم يَشرَق به أحد قط، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.

 

في هذه الآية دليل على استعمال الحلاوة والأطعمة اللذيذة وتناولها، ولا يقال: إن ذلك يناقض الزهد أو يباعده، لكن إذا كان من وجهه ومن غير سرف ولا إكثار. وفي الصحيح عن أنس قال: لقد سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدحي هذا الشراب كله: العسل والنبيذ واللبن والماء. وقد كره القراء أكل الفالوذج واللبن من الطعام، وأباحه عامة العلماء. وروي عن الحسن أنه كان على مائدة ومعه مالك بن دينار، فأتى بفالوذج فامتنع عن أكله، فقال له الحسن: كل فإن عليك في الماء البارد أكثر من هذا.

 

روى أبو داود وغيره عن ابن عباس قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن فشرب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا أكل أحدكم طعاما فليقل اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه. وإذا سقي لبنا فليقل اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه فإنه ليس شيء يجزي عن الطعام والشراب إلا اللبن ) . قال علماؤنا: فكيف لا يكون ذلك وهو أول ما يغتذي به الإنسان وتنمي به الجثث والأبدان، فهو قوت خلي عن المفاسد به قوام الأجسام، وقد جعله الله تعالى علامة لجبريل على هداية هذه الأمة التي هي خير الأمم أمة؛ فقال في الصحيح: ( فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال لي جبريل اخترت الفطرة أما إنك لو اخترت الخمر غوت أمتك ) . ثم إن في الدعاء بالزيادة منه علامة الخصب وظهور الخيرات والبركات؛ فهو مبارك كله.

 

الآية: 67 ( ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون )

 

قوله تعالى: « ومن ثمرات النخيل » قال الطبري: التقدير ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون؛ فحذف « ما » ودل على حذفه قوله: « منه » . وقيل: المحذوف شيء، والأمر قريب. وقيل: معنى « منه » أي من المذكور، فلا يكون في الكلام حذف وهو أولى. ويجوز أن يكون قوله: « ومن ثمرات » عطفا على « الأنعام » ؛ أي ولكم من ثمرات النخيل والأعناب عبرة. ويجوز أن يكون معطوفا على « مما » أي ونسقيكم أيضا مشروبات من ثمرات. « سكرا » السكر ما يسكر؛ هذا هو المشهور في اللغة. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر. وأراد بالسكر الخمر، وبالرزق الحسن جميع ما يؤكل ويشرب حلالا من هاتين الشجرتين. وقال بهذا القول ابن جبير والنخعي والشعبي وأبو ثور. وقد قيل: إن السكر الخل بلغة الحبشة، والرزق الحسن الطعام. وقيل: السكر العصير الحلو الحلال، وسمي سكرا لأنه قد يصير مسكرا إذا بقي، فإذا بلغ الإسكار حرم. قال ابن العربي: أسَدُ هذه الأقوال قول ابن عباس، ويخرج ذلك على أحد معنيين، إما أن يكون ذلك قبل تحريم الخمر، وإما أن يكون المعنى: أنعم الله عليكم بثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه ما حرم الله عليكم اعتداء منكم، وما أحل لكم اتفاقا أو قصدا إلى منفعة أنفسكم. والصحيح أن ذلك كان قبل تحريم الخمر فتكون منسوخة؛ فإن هذه الآية مكية باتفاق من العلماء، وتحريم الخمر مدني.

قلت: فعلى أن السكر الخمر أو العصير الحلو لا نسخ، وتكون الآية محكمة وهو حسن. قال ابن عباس: الحبشة يسمون الخل السكر، إلا أن الجمهور على أن السكر الخمر، منهم ابن مسعود وابن عمر وأبو رزين والحسن ومجاهد وابن أبي ليلى والكلبي وغيرهم ممن تقدم ذكرهم، كلهم قالوا: السكر ما حرمه الله من ثمرتيهما. وكذا قال أهل اللغة: السكر اسم للخمر وما يسكر، وأنشدوا:

بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم إذا جرى فيهم المزاء والسكر

والرزق الحسن: ما أحله الله من ثمرتيهما. وقيل: إن قوله « تتخذون منه سكرا » خبر معناه الاستفهام بمعنى الإنكار، أي أتتخذون منه سكرا وتدعون رزقا حسنا الخل والزبيب والتمر؛ كقوله: « فهم الخالدون » [ الأنبياء: 34 ] أي أفهم الخالدون. والله أعلم. وقال أبو عبيدة: السكر الطعم؛ يقال: هذا سكر لك أي طعم. وأنشد:

جعلت عيب الأكرمين سكرا

أي جعلت ذمهم طعما. وهذا اختيار الطبري أن السكر ما يطعم من الطعام وحل شربه من ثمار النخيل والأعناب، وهو الرزق الحسن، فاللفظ مختلف والمعنى واحد؛ مثل « إنما أشكو بثي وحزني إلى الله » [ يوسف: 86 ] وهذا حسن ولا نسخ، إلا أن الزجاج قال: قول أبي عبيدة هذا لا يعرف، وأهل التفسير على خلافه، ولا حجة له في البيت الذي أنشده؛ لأن معناه عند غيره أنه يصف أنها تتخمر بعيوب الناس. وقال الحنفيون: المراد بقوله: « سكرا » ما لا يسكر من الأنبذة؛ والدليل عليه أن الله سبحانه وتعالى امتن على عباده بما خلق لهم من ذلك، ولا يقع الامتنان إلا بمحلل لا بمحرم، فيكون ذلك دليلا على جواز شرب ما دون المسكر من النبيذ، فإذا انتهى إلى السكر لم يجز، وعضدوا هذا من السنة بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( حرم الله الخمر بعينها والسكر من غيرها ) . وبما رواه عبدالملك بن نافع عن ابن عمر قال: رأيت رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عند الركن، ودفع إليه القدح فرفعه إلى فيه فوجده شديدا فرده إلى صاحبه، فقال له حينئذ رجل من القوم: يا رسول الله، أحرام هو؟ فقال: ( علي بالرجل ) فأتى به فأخذ منه القدح، ثم دعا بماء فصبه فيه ثم رفعه إلى فيه فقطب، ثم دعا بماء أيضا فصبه فيه ثم قال: ( إذا اغتلمت عليكم هذه الأوعية فاكسروا متونها بالماء ) . وروي أنه عليه السلام كان ينبذ له فيشربه ذلك اليوم، فإذا كان من اليوم الثاني أو الثالث سقاه الخادم إذا تغير، ولو كان حراما ما سقاه إياه. قال الطحاوي: وقد روى أبو عون الثقفي عن عبدالله بن شداد عن ابن عباس قال: حرمت الخمر بعينها القليل منها والكثير والسكر من كل شراب، خرجه الدارقطني أيضا. ففي هذا الحديث وما كان مثله، أن غير الخمر لم تحرم عينه كما حرمت الخمر بعينها. قالوا: والخمر شراب العنب لا خلاف فيها، ومن حجتهم أيضا ما رواه شريك بن عبدالله، حدثنا أبو إسحاق الهمداني عن عمرو بن ميمون قال قال عمر بن الخطاب: إنا نأكل لحوم هذه الإبل وليس يقطعه في بطوننا إلا النبيذ. قال شريك: ورأيت الثوري يشرب النبيذ في بيت حبر أهل زمانه مالك بن مغول. والجواب أن قولهم: إن الله سبحانه وتعالى امتن على عباده ولا يكون امتنانه إلا بما أحل فصحيح؛ بيد أنه يحتمل أن يكون ذلك قبل تحريم الخمر كما بيناه فيكون منسوخا كما قدمناه. قال ابن العربي: إن قيل كيف ينسخ هذا وهو خبر والخبر لا يدخله النسخ، قلنا: هذا كلام من لم يتحقق الشريعة، وقد بينا أن الخبر إذا كان عن الوجود الحقيقي أو عن إعطاء ثواب فضلا من الله فهو الذي لا يدخله النسخ، فأما إذا تضمن الخبر حكما شرعيا فالأحكام تتبدل وتنسخ، جاءت بخبر أو أمر، ولا يرجع النسخ إلى نفس اللفظ وإنما يرجع إلى ما تضمنه، فإذا فهمتم هذا خرجتم عن الصنف الغبي الذي أخبر الله عن الكفار فيه بقوله: « وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون » [ النحل: 101 ] . المعنى أنهم جهلوا أن الرب يأمر بما يشاء ويكلف ما يشاء، ويرفع من ذلك بعدل ما يشاء ويثبت ما يشاء وعنده أم الكتاب.

قلت: هذا تشنيع شنيع حتى يلحق فيه العلماء الأخيار في قصور الفهم بالكفار، والمسألة أصولية، وهي أن الأخبار عن الأحكام الشرعية هل يجوز نسخها أم لا؟ اختلف في ذلك، والصحيح جوازه لهذه الآية وما كان مثلها، ولأن الخبر عن مشروعية حكم ما يتضمن طلب ذلك المشروع، وذلك الطلب هو الحكم الشرعي الذي يستدل على نسخه. والله أعلم. وأما ما ذكروا من الأحاديث فالأول والثاني ضعيفان؛ لأنه عليه السلام قد روي عنه بالنقل الثابت أنه قال: ( كل شراب أسكر فهو حرام ) وقال: ( كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ) وقال: ( ما أسكر كثيره فقليله حرام ) . قال النسائي: وهؤلاء أهل الثبت والعدالة مشهورون بصحة النقل، وعبدالملك لا يقوم مقام واحد منهم ولو عاضده من أشكاله جماعة، وبالله التوفيق. وأما الثالث وإن كان صحيحا فإنه ما كان يسقيه للخادم على أنه مسكر، وإنما كان يسقيه لأنه متغير الرائحة. وكان صلى الله عليه وسلم يكره أن توجد منه الرائحة، فلذلك لم يشربه، ولذلك تحيل عليه أزواجه في عسل زبيب بأن قيل له: إنا نجد منك ريح مغافير، يعني ريحا منكرة، فلم يشربه بعد. وسيأتي في التحريم. وأما حديث ابن عباس فقد روي عنه خلاف ذلك من رواية عطاء وطاوس ومجاهد أنه قال: ما أسكر كثيره فقليله حرام، ورواه عنه قيس بن دينار. وكذلك فتياه في المسكر؛ قاله الدارقطني. والحديث الأول رواه عنه عبدالله بن شداد وقد خالفه الجماعة، فسقط القول به مع ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما ما روي عن عمر من قوله: ليس يقطعه في بطوننا إلا النبيذ، فإنه يريد غير المسكر بدليل ما ذكرنا. وقد روى النسائي عن عتبة بن فرقد قال: كان النبيذ الذي شربه عمر بن الخطاب قد خلل. قال النسائي: ومما يدل على صحة هذا حديث السائب، قال الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع عن ابن القاسم: حدثني مالك عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد، أنه أخبره أن عمر بن الخطاب خرج عليهم فقال: إني وجدت من فلان ريح شراب، فزعم أنه شراب الطلاء، وأنا سائل عما شرب، فإن كان مسكرا جلدته، فجلده عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحد تاما. وقد قال في خطبته على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما بعد، أيها الناس فإنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: من العنب والعسل والتمر والحنطة والشعير. والخمر ما خامر العقل. وقد تقدم في « المائدة » .

فإن قيل: فقد أحل شربه إبراهيم النخعي وأبو جعفر الطحاوي وكان إمام أهل زمانه، وكان سفيان الثوري يشربه. قلنا: ذكر النسائي في كتابه أن أول من أحل المسكر من الأنبذة إبراهيم النخعي، وهذه زلة من عالم وقد حذرنا من زلة العالم، ولا حجة في قول أحد مع السنة. وذكر النسائي أيضا عن ابن المبارك قال: ما وجدت الرخصة في المسكر عن أحد صحيحا إلا عن إبراهيم. قال أبو أسامة: ما رأيت رجلا أطلب للعلم من عبدالله بن المبارك الشامات ومصر واليمن والحجاز. وأما الطحاوي وسفيان لو صح ذلك عنهما لم يحتج بهما على من خالفهما من الأئمة في تحريم المسكر مع ما ثبت من السنة؛ على أن الطحاوي قد ذكر في كتابه الكبير في الاختلاف خلاف ذلك. قال أبو عمر بن عبدالبر في كتاب التمهيد له: قال أبو جعفر الطحاوي اتفقت الأمة على أن عصير العنب إذا اشتد وغلى وقذف بالزبد فهو خمر ومستحله كافر. واختلفوا في نقيع التمر إذا غلى وأسكر. قال: فهذا يدلك على أن حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنب ) غير معمول به عندهم؛ لأنهم لو قبلوا الحديث لكفروا مستحل نقيع التمر، فثبت أنه لم يدخل في الخمر المحرمة غير عصير العنب الذي قد اشتد وبلغ أن يسكر. قال: ثم لا يخلو من أن يكون التحريم معلقا بها فقط غير مقيس عليها غيرها أو يجب القياس عليها، فوجدناهم جميعا قد قاسوا عليها نقيع التمر إذا غلى وأسكر كثيره وكذلك نقيع الزبيب. قال: فوجب قياسا على ذلك أن يحرم كل ما أسكر من الأشربة. قال: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( كل مسكر حرام ) واستغنى عن مسنده لقبول الجميع له، وإنما الخلاف بينهم في تأويله، فقال بعضهم: أراد به جنس ما يسكر. وقال بعضهم: أراد به ما يقع السكر عنده كما لا يسمى قاتلا إلا مع وجود القتل.

قلت: فهذا يدل على أنه محرم عند الطحاوي لقوله، فوجب قياسا على ذلك أن يحرم كل ما أسكر من الأشربة. وقد روى الدارقطني في سننه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إن الله لم يحرم الخمر لاسمها وإنما حرمها لعاقبتها، فكل شراب يكون عاقبته كعاقبة الخمر فهو حرام كتحريم الخمر. قال ابن المنذر: وجاء أهل الكوفة بأخبار معلولة، وإذا اختلف الناس في الشيء وجب رد ذلك إلى كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام، وما روي عن بعض التابعين أنه شرب الشراب الذي يسكر كثيره فللقوم ذنوب يستغفرون الله منها، وليس يخلو ذلك من أحد معنيين: إما مخطئ أخطأ في التأويل على حديث سمعه، أو رجل أتى ذنبا لعله أن يكثر من الاستغفار لله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم حجة الله على الأولين والآخرين من هذه الأمة. وقد قيل في تأويل الآية: إنها إنما ذكرت للاعتبار، أي من قدر على خلق هذه الأشياء قادر على البعث، وهذا الاعتبار لا يختلف بأن كانت الخمر حلالا أو حراما، فاتخاذ السكر لا يدل على التحريم، وهو كما قال تعالى: « قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس » [ البقرة: 219 ] . والله أعلم.

 

الآية: 68 ( وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون )

 

قوله تعالى: « وأوحى ربك إلى النحل » قد مضى القول في الوحي وأنه قد يكون بمعنى الإلهام، وهو ما يخلقه الله تعالى في القلب ابتداء من غير سبب ظاهر، وهو من قوله تعالى: « ونفس وما سواها. فألهمها فجورها وتقواها » [ الشمس: 7 - 8 ] . ومن ذلك البهائم وما يخلق الله سبحانه فيها من درك منافعها واجتناب مضارها وتدبير معاشها. وقد أخبر عز وجل بذلك عن الموت فقال: « تحدث أخبارها. بأن ربك أوحى لها » [ الزلزلة: 4 - 5 ] . قال إبراهيم الحربي. لله عز وجل في الموات قدرة لم يدر ما هي، لم يأتها رسول من عند الله ولكن الله تعالى عرفها ذلك؛ أي ألهمها. ولا خلاف بين المتأولين أن الوحي هنا بمعنى الإلهام. وقرأ يحيى بن وثاب « إلى النحل » بفتح الحاء. وسمي نحلا لأن الله عز وجل نحله العسل الذي يخرج منه؛ قاله الزجاج. الجوهري: والنحل والنحلة الدّبّر يقع على الذكر والأنثى، حتى يقال: يعسوب. والنحل يؤنث في لغة أهل الحجاز، وكل جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء. وروي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الذبان كلها في النار يجعلها عذابا لأهل النار إلا النحل ) ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول. وروي عن ابن عباس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النملة والنحلة والهدهد والصرد، خرجه أبو داود أيضا، وسيأتي في « النمل » إن شاء الله تعالى. « أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر » هذا إذا لم يكن لها مالك. وجعل الله بيوت النحل في هذه الثلاثة الأنواع، إما في الجبال وكواها، وإما في متجوف الأشجار، وإما فيما يعرش ابن آدم من الإجباح والخلايا والحيطان وغيرها. وعرش معناه هنا هيأ، وأكثر ما يستعمل فيما يكون من إتقان الأغصان والخشب وترتيب ظلالها؛ ومنه العريش الذي صنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، ومن هذا لفظة العرش. يقال: عرش يعرش ويعرش [ بكسر الراء وضمها ] ، وقرئ بهما. قرأ ابن عامر بالضم وسائرهم بالكسر، واختلف في ذلك عن عاصم.

قال ابن العربي: ومن عجيب ما خلق الله في النحل أن ألهمها لاتخاذ بيوتها مسدسة، فبذلك اتصلت حتى صارت كالقطعة الواحدة، وذلك أن الأشكال من المثلث إلى المعشر إذا جمع كل واحد منها إلى أمثاله لم يتصل وجاءت بينهما فرج، إلا الشكل المسدس؛ فإنه إذا جمع إلى أمثاله اتصل كأنه كالقطعة الواحدة.

 

الآية: 69 ( ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون )

 

قوله تعالى: « ثم كلي من كل الثمرات » وذلك أنها إنما تأكل النوار من الأشجار. « فاسلكي سبل ربك » أي طرق ربك. والسبل: الطرق، وأضافها إليه لأنه خالقها. أي ادخلي طرق ربك لطلب الرزق في الجبال وخلال الشجر. « ذللا » جمع ذلول وهو المنقاد؛ أي مطيعة مسخرة. فـ « ذللا » حال من النحل. أي تنقاد وتذهب حيث شاء صاحبها؛ لأنها تتبع أصحابها حيث ذهبوا؛ قاله ابن زيد. وقيل: المراد بقوله « ذللا » السبل. يقول: مذلل طرقها سهلة للسلوك عليها؛ واختاره الطبري، و « ذللا » حال من السبل. واليعسوب سيد النحل، إذا وقف وقفت وإذا سار سارت.

 

قوله تعالى: « يخرج من بطونها شراب » رجع الخطاب إلى الخبر على جهة تعديد النعمة والتنبيه على العبرة فقال: « يخرج من بطونها شراب » يعني العسل. وجمهور الناس على أن العسل يخرج من أفواه النحل؛ وورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في تحقيره للدنيا: أشرف لباس ابن آدم فيها لعاب دودة، وأشرف شرابه رجيع نحلة. فظاهر هذا أنه من غير الفم. وبالجملة فإنه يخرج ولا يدرى من فيها أو أسفلها، ولكن لا يتم صلاحه إلا بحمي أنفاسها. وقد صنع أرسطاطاليس بيتا من زجاج لينظر إلى كيفية ما تصنع، فأبت أن تعمل حتى لطخت باطن الزجاج بالطين؛ ذكره الغزنوي. وقال: « من بطونها » لأن استحالة الأطعمة لا تكون إلا في البطن.

 

قوله تعالى: « مختلف ألوانه » يريد أنواعه من الأحمر والأبيض والأصفر والجامد والسائل، والأم واحدة والأولاد مختلفون دليل على أن القدرة نوعته بحسب تنويع الغذاء، كما يختلف طعمه بحسب اختلاف المراعي؛ ومن هذا المعنى قول زينب للنبي صلى الله عليه وسلم: ( جرست نحله العرفط ) حين شبهت رائحته برائحة المغافير.

 

قوله تعالى: « فيه شفاء للناس » الضمير للعسل؛ قال الجمهور. أي في العسل شفاء للناس. وروي عن ابن عباس والحسن ومجاهد والضحاك والفراء وابن كيسان: الضمير للقرآن؛ أي في القرآن شفاء. النحاس: وهذا قول حسن؛ أو فيما قصصنا عليكم من الآيات والبراهين شفاء للناس. وقيل: العسل فيه شفاء، وهذا القول بين أيضا؛ لأن أكثر الأشربة والمعجونات التي يتعالج بها أصلها من العسل. قال القاضي أبو بكر بن العربي: من قال إنه القرآن بعيد ما أراه يصح عنهم، ولو صح نقلا لم يصح عقلا؛ فإن مساق الكلام كله للعسل، ليس للقرآن فيه ذكر. قال ابن عطية: وذهب قوم من أهل الجهالة إلى أن هذه الآية يراد بها أهل البيت وبنو هاشم، وأنهم النحل، وأن الشراب القرآن والحكمة، وقد ذكر هذا بعضهم في مجلس المنصور أبي جعفر العباسي، فقال له رجل ممن حضر: جعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطون بني هاشم، فأضحك الحاضرين وبهت الآخر وظهرت سخافة قوله.

 

اختلف العلماء في قوله تعالى: « فيه شفاء للناس » هل هو على عمومه أم لا؛ فقالت طائفة: هو على العموم في كل حال ولكل أحد، فروي عن ابن عمر أنه كان لا يشكو قرحة ولا شيئا إلا جعل عليه عسلا، حتى الدمل إذا خرج عليه طلى عليه عسلا. وحكى النقاش عن أبي وجرة أنه كان يكتحل بالعسل ويستمشي بالعسل ويتداوى بالعسل. وروي أن عوف بن مالك الأشجعي مرض فقيل له: ألا نعالجك؟ فقال: ائتوني بالماء، فإن الله تعالى يقول: « ونزلنا من السماء ماء مباركا » [ ق: 9 ] ثم قال: ائتوني بعسل، فإن الله تعالى يقول: « فيه شفاء للناس » وائتوني بزيت، فإن الله تعالى يقول: « من شجرة مباركة » [ النور: 35 ] فجاؤوه بذلك كله فخلطه جميعا ثم شربه فبرئ. ومنهم من قال: إنه على العموم إذا خلط بالخل ويطبخ فيأتي شرابا ينتفع به في كل حالة من كل داء. وقالت طائفة: إن ذلك على الخصوص ولا يقتضي العموم في كل علة وفي كل إنسان، بل إنه خبر عن أنه يشفي كما يشفي غيره من الأدوية في بعض وعلى حال دون حال؛ ففائدة الآية إخبار منه في أنه دواء لما كثر الشفاء به وصار خليطا ومعينا للأدوية في الأشربة والمعاجين؛ وليس هذا بأول لفظ خصص فالقرآن مملوء منه ولغة العرب يأتي فيها العام كثيرا بمعنى الخاص والخاص بمعنى العام. ومما يدل على أنه ليس على العموم أن « شفاء » نكرة في سياق الإثبات، ولا عموم فيها باتفاق أهل اللسان ومحققي أهل العلم ومختلقي أهل الأصول. لكن قد حملته طائفة من أهل الصدق والعزم على العموم. فكانوا يستشفون بالعسل من كل الأوجاع والأمراض، وكانوا يشفون من عللهم ببركة القرآن وبصحة التصديق والإيقان. ابن العربي: ومن ضعفت نيته وغلبته على الدين عادته أخذه مفهوما على قول الأطباء، والكل من حكم الفعال لما يشاء.

 

إن قال قائل: قد رأينا من ينفعه العسل ومن يضره، فكيف يكون شفاء للناس؟ قيل له: الماء حياة كل شيء وقد رأينا من يقتله الماء إذا أخذه على ما يضاده من علة في البدن، وقد رأينا شفاء العسل في أكثر هذه الأشربة؛ قال معناه الزجاج. وقد اتفق الأطباء عن بكرة أبيهم على مدح عموم منفعة السكنجبين في كل مرض، وأصله العسل وكذلك سائر المعجونات، على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حسم داء الإشكال وأزاح وجه الاحتمال حين أمر الذي يشتكي بطنه بشرب العسل، فلما أخبره أخوه بأنه لم يزده إلا استطلاقا أمره بعود الشراب له فبرئ؛ وقال: ( صدق الله وكذب بطن أخيك ) .

اعترض بعض زنادقة الأطباء على هذا الحديث فقال: قد أجمعت الأطباء على أن العسل يُسهِل فكيف يوصف لمن به الإسهال؛ فالجواب أن ذلك القول حق في نفسه لمن حصل له التصديق بنبيه عليه السلام، فيستعمله على الوجه الذي عينه وفي المحل الذي أمره بعقد نية وحسن طوية، فإنه يرى منفعته ويدرك بركته، كما قد اتفق لصاحب هذا العسل وغيره كما تقدم. وأما ما حكي من الإجماع فدليل على جهله بالنقل حيث لم يقيد وأطلق. قال الإمام أبو عبدالله المازري: ينبغي أن يعلم أن الإسهال يعرض من ضروب كثيرة، منها الإسهال الحادث عن التخم والهيضات؛ والأطباء مجمعون في مثل هذا على أن علاجه بأن يترك للطبيعة وفعلها، وإن احتاجت إلى معين على الإسهال أعينت ما دامت القوة باقية، فأما حبسها فضرر، فإذا وضح هذا قلنا: فيمكن أن يكون ذلك الرجل أصابه الإسهال عن امتلاء وهيضة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بشرب العسل فزاده إلى أن فنيت المادة فوقف الإسهال فوافقه شرب العسل. فإذا خرج هذا عن صناعة الطب أذِن ذلك بجهل المعترض بتلك الصناعة. قال: ولسنا نستظهر على قول نبينا بأن يصدقه الأطباء بل لو كذبوه لكذبناهم ولكفرناهم وصدقناه صلى الله عليه وسلم؛ فإن أوجدونا بالمشاهدة صحة ما قالوه فنفتقر حينئذ إلى تأويل كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخريجه على ما يصح إذ قامت الدلالة على أنه لا يكذب.

 

في قوله تعالى: « فيه شفاء للناس » دليل على جواز التعالج بشرب الدواء وغير ذلك خلافا لمن كره ذلك من جلة العلماء، وهو يرد على الصوفية الذين يزعمون أن الولاية لا تتم إلا إذا رضي بجميع ما نزل به من البلاء، ولا يجوز له مداواة. ولا معنى لمن أنكر ذلك، روى الصحيح عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله ) . وروى أبو داود والترمذي عن أسامة بن شريك قال قالت الأعراب: ألا نتداوى يا رسول الله؟ قال: ( نعم. يا عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء أو دواء إلا داء واحد ) قالوا: يا رسول الله وما هو؟ قال: ( الهرم ) لفظ الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. وروي عن أبي خزامة عن أبيه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: ( هي من قدر الله ) قال: حديث حسن، ولا يعرف لأبي خزامة غير هذا الحديث. وقال صلى الله عليه وسلم: ( إن كان في شيء من أدويتكم خير ففي شرطة محجم أو شربة من عسل أو لذعة بنار وما أحب أن أكتوي ) أخرجه الصحيح. والأحاديث في هذا الباب أكثر من أن تحصى. وعلى إباحة التداوي والاسترقاء جمهور العلماء. روي أن ابن عمر اكتوى من اللقوة ورقي من العقرب. وعن ابن سيرين أن ابن عمر كان يسقي ولده الترياق. وقال مالك: لا بأس بذلك. وقد احتج من كره ذلك بما رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( دخلت أمة بقضها وقضيضها الجنة كانوا لا يسرقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ) . قالوا: فالواجب على المؤمن أن يترك ذلك اعتصاما بالله وتوكلا عليه وثقة به وانقطاعا إليه؛ فإن الله تعالى قد علم أيام المرض وأيام الصحة فلو حرص الخلق على تقليل ذلك أو زيادته ما قدروا؛ قال الله تعالى: « ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها » [ الحديد: 22 ] . وممن ذهب إلى هذا جماعة من أهل الفضل والأثر، وهو قول ابن مسعود وأبي الدرداء رضوان الله عليهم. دخل عثمان بن عفان على ابن مسعود في مرضه الذي قبض فيه فقال له عثمان: ما تشتكي؟ قال ذنوبي. قال: فما تشتهي؟ قال رحمة ربي. قال: ألا أدعو لك طبيبا؟ قال: الطبيب أمرضني... وذكر الحديث. وسيأتي بكماله في فضل الواقعة إن شاء الله تعالى. وذكر وكيع قال: حدثنا أبو هلال عن معاوية بن قرة قال: مرض أبو الدرداء فعادوه وقالوا: ألا ندعو لك طبيبا؟ قال: الطبيب أضجعني. وإلى هذا ذهب الربيع بن خيثم. وكره سعيد بن جبير الرقى. وكان الحسن يكره شرب الأدوية كلها إلا اللبن والعسل. وأجاب الأولون عن الحديث بأنه لا حجة فيه، لأنه يحتمل أن يكون قصد إلى نوع من الكي مكروه بدليل كي النبي صلى الله عليه وسلم أبيا يوم الأحزاب على أكحله لما رمي. وقال: ( الشفاء في ثلاثة ) كما تقدم. ويحتمل أن يكون قصد إلى الرقى بما ليس في كتاب الله، وقد قال سبحانه وتعالى: « وننزل من القرآن ما هو شفاء » [ الإسراء: 82 ] على ما يأتي بيانه. ورقى أصحابه وأمرهم بالرقية؛ على ما يأتي بيانه.

 

ذهب مالك وجماعة أصحابه إلى أن لا زكاة في العسل وإن كان مطعوما مقتاتا. واختلف فيه قول الشافعي، والذي قطع به في قوله الجديد: أنه لا زكاة فيه. وقال أبو حنيفة بوجوب زكاة العسل في قليله وكثيره؛ لأن النصاب عنده فيه ليس بشرط. وقال محمد بن الحسن: لا شيء فيه حتى يبل ثمانية أفراق، والفرق ستة وثلاثون رطلا من أرطال العراق. وقال أبو يوسف: في كل عشرة أزقاق زق؛ متمسكا بما رواه الترمذي عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( في العسل في كل عشرة أزقاق زق ) قال أبو عيسى: في إسناده مقال، ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب كبير شيء، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، وبه يقول أحمد وإسحاق، وقال بعض أهل العلم: ليس في العسل شيء.

 

قوله تعالى: « إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون » أي يعتبرون؛ ومن العبرة في النحل بإنصاف النظر وإلطاف الفكر في عجيب أمرها. فيشهد اليقين بأن ملهمها الصنعة اللطيفة مع البنية الضعيفة، وحذقها باحتيالها في تفاوت أحوالها هو الله سبحانه وتعالى؛ كما قال: « وأوحى ربك إلى النحل » [ النحل: 68 ] الآية. ثم أنها تأكل الحامض والمر والحلو والمالح والحشائش الضارة، فيجعله الله تعالى عسلا حلوا وشفاء، وفي هذا دليل على قدرته.

 

الآية: 70 ( والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير )

 

قوله تعالى: « والله خلقكم ثم يتوفاكم » بين معناه. « ومنكم من يرد إلى أرذل العمر » يعني أردأه وأوضعه. وقيل: الذي ينقص قوته وعقله ويصيره إلى الخرف ونحوه. وقال ابن عباس: يعني إلى أسفل العمر، يصير كالصبي الذي لا عقل له؛ والمعنى متقارب. وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ يقول: ( اللهم إني أعوذ بك من الكسل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك من الهرم وأعوذ بك من البخل ) . وفي حديث سعد بن أبي وقاص ( وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر ) الحديث. خرجه البخاري. « لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير » أي يرجع إلى حالة الطفولية فلا يعلم ما كان يعلم قبل من الأمور لفرط الكبر. وقد قيل: هذا لا يكون للمؤمن، لأن المؤمن لا ينزع عنه علمه. وقيل: المعنى لكيلا يعمل بعد علم شيئا؛ فعبر عن العمل بالعلم لافتقاره إليه؛ لأن تأثير الكبر في عمله أبلغ من تأثيره في علمه. والمعنى المقصود الاحتجاج على منكري البعث، أي الذي رده إلى هذه الحال قادر على أن يميته ثم يحييه.

 

الآية: 71 ( والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون )

 

قوله تعالى: « والله فضل بعضكم على بعض في الرزق » أي جعل منكم غنيا وحرا وعبدا. « فما الذين فضلوا » أي في الرزق. « برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم » أي لا يرد المولى على ما ملكت يمينه مما رزق شيئا حتى يستوي المملوك والمالك في المال. وهذا مثل ضربه الله لعبدة الأصنام، أي إذا لم يكن عبيدكم معكم سواء فكيف تجعلون عبيدي معي سواء؛ فلما لم يكن يشركهم عبيدهم في أموالهم لم يجز لهم أن يشاركوا الله تعالى في عبادة غيره من الأوثان والأنصاب وغيرهما مما عبد؛ كالملائكة والأنبياء وهم عبيده وخلقه. حكى معناه الطبري، وقاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم. وعن ابن عباس أيضا أنها نزلت في نصارى نجران حين قالوا عيسى ابن الله فقال الله لهم « فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم » أي لا يرد المولى على ما ملكت يمينه مما رزق حتى يكون المولى والعبد في المال شرعا سواء، فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم فتجعلون لي ولدا من عبيدي. ونظيرها « ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء » [ الروم: 28 ] على ما يأتي. ودل هذا على أن العبد لا يملك، على ما يأتي أنفا.

 

الآية: 72 ( والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون )

 

قوله تعالى: « والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا » جعل بمعنى خلق « من أنفسكم أزواجا » يعني آدم خلق منه حواء. وقيل: المعنى جعل لكم من أنفسكم، أي من جنسكم ونوعكم وعلى خلقتكم؛ كما قال: « لقد جاءكم رسول من أنفسكم » [ التوبة: 128 ] أي من الآدميين. وفي هذا رد على العرب التي كانت تعتقد أنها كانت تزوج الجن وتباضعها، حتى روي أن عمرو بن هند تزوج منهم غولا وكان يخبؤها عن البرق لئلا تراه فتنفر، فلما كان في بعض الليالي لمع البرق وعاينته السعلاة فقالت: عمرو ونفرت، فلم يرها أبدا. وهذا من أكاذيبها، وإن كان جائزا في حكم الله وحكمته فهو رد على الفلاسفة الذين ينكرون وجود الجن ويحيلون طعامهم. « أزواجا » زوج الرجل هي ثانيته، فإنه فرد فإذا انضافت إليه كانا زوجين، وإنما جعلت الإضافة إليه دونها لأنه أصلها في الوجود كما تقدم.

 

قوله تعالى: « وجعل لكم من أزواجكم بنين » ظاهر في تعديد النعمة في الأبناء، ووجود الأبناء يكون منهما معا؛ ولكنه لما كان خلق المولود فيها وانفصاله عنها أضيف إليها، ولذلك تبعها في الرق والحرية وصار مثلها في المالية. قال ابن العربي: سمعت إمام الحنابلة بمدينة السلام أبا الوفاء علي بن عقيل يقول: إنما تبع الولد الأم في المالية وصار بحكمها في الرق والحرية؛ لأنه انفصل عن الأب نطفة لا قيمة له ولا مالية فيه ولا منفعة، وإنما اكتسب ما اكتسب بها ومنها فلأجل ذلك تبعها. كما لو أكل رجل تمرا في أرض رجل وسقطت منه نواة في الأرض من يد الآكل فصارت نخلة فإنها ملك صاحب الأرض دون الآكل بإجماع من الأمة لأنها انفصلت عن الآكل ولا قيمة لها.

 

قوله تعالى: « وحفدة » روى ابن القاسم عن مالك قال وسألته عن قوله تعالى: « بنين وحفدة » قال: الحفدة الخدم والأعوان في رأيي. وروي عن ابن عباس في قوله تعالى: « وحفدة » قال هم الأعوان، من أعانك فقد حفدك. قيل له: فهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم وتقول أو ما سمعت قول الشاعر:

حفد الولائد حولهن وأسلمت بأكفهن أزمة الأجمال

أي أسرعن الخدمة. والولائد: الخدم، الواحدة وليدة؛ قال الأعشى:

كلفت مجهولها نوقا يمانية إذا الحداة على أكسائها حفدوا

أي أسرعوا. وقال ابن عرفة: الحفدة عند العرب الأعوان، فكل من عمل عملا أطاع فيه وسارع فهو حافد، قال: ومنه قولهم إليك نسعى ونحفد، والحفدان السرعة. قال أبو عبيد: الحفد العمل والخدمة. وقال الخليل بن أحمد: الحفدة عند العرب الخدم، وقاله مجاهد. وقال الأزهري: قيل الحفدة أولاد الأولاد. وروي عن ابن عباس. وقيل الأختان؛ قاله ابن مسعود وعلقمة وأبو الضحاك وسعيد بن جبير وإبراهيم؛ ومنه قول الشاعر:

فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحت لها حفد ما يعد كثير

ولكنها نفس علي أبية عيوف لإصهار اللئام قذور

وروى زر عن عبدالله قال: الحفدة الأصهار؛ وقاله إبراهيم، والمعنى متقارب. قال الأصمعي: الختن من كان من قبل المرأة، مثل أبيها وأخيها وما أشبههما؛ والأصهار منها جميعا. يقال: أصهر فلان إلى بني فلان وصاهر. وقول عبدالله هم الأختان، يحتمل المعنيين جميعا. يحتمل أن يكون أراد أبا المرأة وما أشبهه من أقربائها، ويحتمل أن يكون أراد وجعل لكم من أزواجكم بنين وبنات تزوجونهن، فيكون لكم بسببهن أختان. وقال عكرمة: الحفدة من نفع الرجال من ولده؛ وأصله من حفد يحفد - بفتح العين في الماضي وكسرها في المستقبل - إذا أسرع في سيره؛ كما قال كثير:

حفد الولائد بينهن... البيت

ويقال: حفدت وأحفدت، لغتان إذا خدمت. ويقال: حافد وحفد؛ مثل خادم وخدم، وحافد وحفدة مثل كافر وكفرة. قال المهدوي: ومن جعل الحفدة الخدم جعله منقطعا مما قبله ينوي به التقديم؛ كأنه قال: جعل لكم حفدة وجعل لكم من أزواجكم بنين.

قلت: ما قال الأزهري من أن الحفدة أولاد الأولاد هو ظاهر القرآن بل نصه؛ ألا ترى أنه قال: « وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة » فجعل الحفدة والبنين منهن. وقال ابن العربي: الأظهر عندي في قوله « بنين وحفدة » أن البنين أولاد الرجل لصلبه والحفدة أولاد ولده، وليس في قوة اللفظ أكثر من هذا، ويكون تقدير الآية على هذا: وجعل لكم من أزواجكم بنين ومن البنين حفدة. وقال معناه الحسن.

 

إذا فرعنا على قول مجاهد وابن عباس ومالك وعلماء اللغة في قولهم إن الحفدة الخدم والأعوان، فقد خرجت خدمة الولد والزوجة من القرآن بأبدع بيان؛ قاله ابن العربي. روي البخاري وغيره عن سهل بن سعد أن أبا أسيد الساعدي دعا النبي صلى الله عليه وسلم لعرسه فكانت امرأته خادمهم... الحديث، وفي الصحيح عن عائشة قالت: أنا فتلت قلائد بدن النبي صلى الله عليه وسلم بيدي. الحديث. ولهذا قال علماؤنا: عليها أن تفرش الفراش وتطبخ القدر وتقم الدار، بحسب حالها وعادة مثلها؛ قال الله تعالى: « وجعل منها زوجها ليسكن إليها » [ الأعراف: 189 ] فكأنه جمع لنا فيها السكن والاستمتاع وضربا من الخدمة بحسب جري العادة.

 

ويخدم الرجل زوجته فيما خف من الخدمة ويعينها، لما روته عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكون في مهنة أهله فإذا سمع الأذان خرج. وهذا قول مالك: ويعينها. وفي أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يخصف النعل ويقم البيت ويخيط الثوب. وقالت عائشة وقد قيل لها: ما كان يعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته؟ قالت: كان بشرا من البشر يفلي ثوبه ويحلب شاته ويخدم نفسه.

 

وينفق على خادمة واحدة، وقيل على أكثر؛ على قدر الثروة والمنزلة. وهذا أمر دائر على العرف الذي هو أصل من أصول الشريعة، فإن نساء الأعراب وسكان البوادي يخدمن أزواجهن في استعذاب الماء وسياسة الدواب، ونساء الحواضر يخدم المقل منهم زوجته فيما خف ويعينها، وأما أهل الثروة فيخدمون أزواجهن ويترفهن معهم إذا كان لهم منصب ذلك؛ فإن كان أمرا مشكلا شرطت عليه الزوجة ذلك، فتشهد أنه قد عرف أنها ممن لا تخدم نفسها فالتزم إخدامها، فينفذ ذلك وتنقطع الدعوى فيه.

 

قوله تعالى: « ورزقكم من الطيبات » أي من الثمار والحبوب والحيوان. « أفبالباطل » يعني الأصنام؛ قال ابن عباس. « يؤمنون » قراءة الجمهور بالياء. وقرأ أبو عبدالرحمن بالتاء. « وبنعمة الله » أي بالإسلام. « هم يكفرون » .

 

الآيتان: 73 - 74 ( ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون، فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون )

 

قوله تعالى: « ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات » يعني المطر. « والأرض »

يعني النبات. « شيئا » قال الأخفش: هو بدل من الرزق. وقال الفراء: هو منصوب بإيقاع الرزق عليه؛ أي يعبدون ما لا يملك أن يرزقهم شيئا. « ولا يستطيعون » أي لا يقدرون على شيء، يعني الأصنام. « فلا تضربوا لله الأمثال » أي لا تشبهوا به هذه الجمادات؛ لأنه واحد قادر لا مثل له. وقد تقدم.

 

الآية: 75 ( ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون )

 

قوله تعالى: « ضرب الله مثلا » نبه تعالى على ضلالة المشركين، وهو منتظم بما قبله من ذكر نعم الله عليهم وعدم مثل ذلك من آلهتهم. « ضرب الله مثلا » أي بين شبها؛ ثم ذكر ذلك فقال: « عبدا مملوكا » أي كما لا يستوي عندكم عبد مملوك لا يقدر من أمره على شيء ورجل حر قد رزق رزقا حسنا فكذلك أنا وهذه الأصنام. فالذي هو مثال في هذه الآية هو عبد بهذه الصفة مملوك لا يقدر على شيء من المال ولا من أمر نفسه، وإنما هو مسخر بإرادة سيده. ولا يلزم من الآية أن العبيد كلهم بهذه الصفة؛ فإن النكرة في الإثبات لا تقتضي الشمول عند أهل اللسان كما تقدم، وإنما تفيد واحدا، فإذا كانت بعد أمر أو نهي أو مضافة إلى مصدر كانت للعموم الشيوعي؛ كقوله: أعتق رجلا ولا تهن رجلا، والمصدر كإعتاق رقبة، فأي رجل أعتق فقد خرج عن عهدة الخطاب، ويصح منه الاستثناء. وقال قتادة: هذا المثل للمؤمن والكافر؛ فذهب قتادة إلى أن العبد المملوك هو الكافر؛ لأنه لا ينتفع في الآخرة بشيء من عبادته، وإلى أن معنى « ومن رزقناه منا رزقا حسنا » المؤمن. والأول عليه الجمهور من أهل التأويل. قال الأصم: المراد بالعبد المملوك الذي ربما يكون أشد من مولاه أسرا وأنضر وجها، وهو لسيده ذليل لا يقدر إلا على ما أذن له فيه؛ فقال الله تعالى ضربا للمثال. أي فإذا كان هذا شأنكم وشأن عبيدكم فكيف جعلتم أحجارا مواتا شركاء لله تعالى في خلقه وعبادته، وهي لا تعقل ولا تسمع.

 

فهم المسلمون من هذه الآية ومما قبلها نقصان رتبة العبد عن الحر في الملك، وأنه لا يملك شيئا وإن ملك. قال أهل العراق: الرق ينافي الملك، فلا يملك شيئا البتة بحال، وهو قول الشافعي في الجديد، وبه قال الحسن وابن سيرين. ومنهم من قال: يملك إلا أنه ناقص الملك، لأن لسيده أن ينتزعه منه أي وقت شاء، وهو قول مالك ومن اتبعه، وبه قال الشافعي في القديم. وهو قول أهل الظاهر؛ ولهذا قال أصحابنا: لا تجب عليه عبادات الأموال من زكاة وكفارات، ولا من عبادات الأبدان ما يقطعه عن خدمة سيده كالحج والجهاد وغير ذلك. وفائدة هذه المسألة أن سيده لو ملكه جارية جاز له أن يطأها بملك اليمين، ولو ملكه أربعين من الغنم فحال عليها الحول لم تجب على السيد زكاتها لأنها ملك غيره، ولا على العبد لأن ملكه غير مستقر. والعراقي يقول: لا يجوز له أن يطأ الجارية، والزكاة في النصاب واجبة على السيد كما كانت. ودلائل هذه المسألة للفريقين في كتب الخلاف. وأدل دليل لنا قوله تعالى: « الله الذي خلقكم ثم رزقكم » [ الروم: 40 ] فسوى بين العبد والحر في الرزق والخلق. وقال عليه السلام: ( من أعتق عبدا وله مال... ) فأضاف المال إليه. وكان ابن عمر يرى عبده يتسرى في ماله فلا يعيب عليه ذلك. وروي عن ابن عباس أن عبدا له طلق امرأته طلقتين فأمره أن يرتجعها بملك اليمين؛ فهذا دليل على أنه يملك ما بيده ويفعل فيه ما يفعل المالك في ملكه ما لم ينتزعه سيده. والله أعلم.

 

وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن طلاق العبد بيد سيده، وعلى أن بيع الأمة طلاقها؛ معولا على قوله تعالى: « لا يقدر على شيء » . قال: فظاهره يفيد أنه لا يقدر على شيء أصلا، لا على الملك ولا على غيره فهو على عمومه، إلا أن يدل دليل على خلافه. وفيما ذكرناه عن ابن عمر وابن عباس ما يدل على التخصيص. والله تعالى أعلم.

 

قال أبو منصور في عقيدته: الرزق ما وقع الاغتذاء به. وهذه الآية ترد هذا التخصيص؛ وكذلك قوله تعالى: « ومما رزقناهم ينفقون » [ البقرة: 3 ] . و « أنفقوا مما رزقناكم » [ البقرة: 254 ] وغير ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( جعل رزقي تحت ظل رمحي ) وقوله: ( أرزاق أمتي في سنابك خيلها وأسنة رماحها ) . فالغنيمة كلها رزق، وكل ما صح به الانتفاع فهو رزق، وهو مراتب: أعلاها ما يغذي. وقد حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوه الانتفاع في قوله: ( يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت ) . وفي معنى اللباس يدخل الركوب وغير ذلك. وفي ألسنة المحدثين: السماع رزق، يعنون سماع الحديث، وهو صحيح.

 

قوله تعالى: « ومن رزقناه منا رزقا حسنا » هو المؤمن، يطيع الله في نفسه وماله. والكافر ما لم ينفق في الطاعة صار كالعبد الذي لا يملك شيئا. « هل يستوون » أي لا يستوون، ولم يقل يستويان لمكان « من » لأنه اسم مبهم يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث. وقيل: « إن عبدا مملوكا » ، « ومن رزقناه » أريد بهما الشيوع في الجنس. « الحمد لله » أي هو مستحق للحمد دون ما يعبدون من دونه؛ إذ لا نعمة للأصنام عليهم من يد ولا معروف فتحمد عليه، إنما الحمد الكامل لله؛ لأنه المنعم الخالق. « بل أكثرهم » أي أكثر المشركين. « لا يعلمون » أن الحمد لي، وجميع النعمة مني. وذكر الأكثر وهو يريد الجميع، فهو خاص أريد به التعميم. وقيل: أي بل أكثر الخلق لا يعلمون، وذلك أن أكثرهم المشركون.

 

الآية: 76 ( وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم )

 

قوله تعالى: « وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم » هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لنفسه وللوثن، فالأبكم الذي لا يقدر على شيء هو الوثن، والذي يأمر بالعدل هو الله تعالى؛ قاله قتادة وغيره. وقال ابن عباس: الأبكم عبد كان لعثمان رضي الله عنه، وكان يعرض عليه الإسلام فيأبى، ويأمر بالعدل عثمان. وعنه أيضا أنه مثل لأبي بكر الصديق ومولى له كافر. وقيل: الأبكم أبو جهل، والذي يأمر بالعدل عمار بن ياسر العنسي، وعنس « بالنون » حي من مذحج، وكان حليفا لبني مخزوم رهط أبي جهل، وكان أبو جهل يعذبه على الإسلام ويعذب أمه سمية، وكانت مولاة لأبي جهل، وقال لها ذات يوم: إنما آمنت بمحمد لأنك تحبينه لجماله، ثم طعنها بالرمح في قبلها فماتت، فهي أول شهيد مات في الإسلام، رحمها الله. من كتاب النقاش وغيره. وسيأتي هذا في آية الإكراه مبينا إن شاء الله تعالى. وقال عطاء: الأبكم أبي بن خلف، كان لا ينطق بخير. « وهو كل على مولاه » أي قومه لأنه كان يؤذيهم ويؤذي عثمان بن مظعون. وقال مقاتل: نزلت في هشام بن عمرو بن الحارث، كان كافرا قليل الخير يعادي النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: إن الأبكم الكافر، والذي يأمر بالعدل المؤمن جملة بجملة؛ روى عن ابن عباس وهو حسن لأنه يعم. والأبكم الذي لا نطق له. وقيل الذي لا يعقل. وقيل الذي لا يسمع ولا يبصر. وفي التفسير إن الأبكم ها هنا الوثن. بين أنه لا قدرة له ولا أمر، وأن غيره ينقله وينحته فهو كل عليه. والله الآمر بالعدل، الغالب على كل شيء. « وهو كل على مولاه » أي ثقل على وليه وقرابته، ووبال على صاحبه وابن عمه. وقد يسمى اليتيم كلا لثقله على من يكفله؛ ومنه قول الشاعر:

أكول لمال الكل قبل شبابه إذا كان عظم الكل غير شديد

والكل أيضا الذي لا ولد له ولا والد. والكل العيال، والجمع الكلول، يقال منه: كل السكين يكل كلا أي غلظت شفرته فلم يقطع. « أينما يوجه لا يأت بخير » قرأ الجمهور « يوجهه » وهو خط المصحف؛ أي أينما يرسله صاحبه لا يأت بخير، لأنه لا يعرف ولا يفهم ما يقال له ولا يفهم عنه. وقرأ يحيى بن وثاب « أينما يوجه » على الفعل المجهول. وروي عن ابن مسعود أيضا « توجه » على الخطاب. « هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم » أي هل يستوي هذا الأبكم ومن يأمر بالعدل وهو على الصراط المستقيم.

 

الآية: 77 ( ولله غيب السماوات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير )

 

قوله تعالى: « ولله غيب السماوات والأرض » تقدم معناه. وهذا متصل بقوله « إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون » [ النحل: 74 ] أي شرع التحليل والتحريم إنما يحسن ممن يحيط بالعواقب والمصالح وأنتم أيها المشركون لا تحيطون بها فلم تتحكمون. « وما أمر الساعة إلا كلمح البصر » وتجازون فيها بأعمالكم. والساعة هي الوقت الذي تقوم فيه القيامة؛ سميت ساعة لأنها تفجأ الناس في ساعة فيموت الخلق بصيحة. واللمح النظر بسرعة؛ يقال لمحه لمحا ولمحانا. ووجه التأويل أن الساعة لما كانت آتية ولا بد جعلت من القرب كلمح البصر. وقال الزجاج: لم يرد أن الساعة تأتي في لمح البصر، وإنما وصف سرعة القدرة على الإتيان بها؛ أي يقول للشيء كن فيكون. وقيل: إنما مثل بلمح البصر لأنه يلمح السماء مع ما هي عليه من البعد من الأرض. وقيل: هو تمثيل للقرب؛ كما يقول القائل: ما السنة إلا لحظة، وشبهه. وقيل: المعنى هو عند الله كذلك لا عند المخلوقين؛ دليله قوله: « إنهم يرونه بعيدا. ونراه قريبا » . [ المعارج: 6 - 7 ] . « أو هو أقرب » ليس « أو » للشك بل للتمثيل بأيهما أراد الممثل. وقيل: دخلت لشك المخاطب. وقيل: « أو » بمنزلة بل. « إن الله على كل شيء قدير » تقدم.

 

الآية: 78 ( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون )

 

قوله تعالى: « والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا » ذكر أن من نعمه أن أخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا لا علم لكم بشيء. وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: لا تعلمون شيئا مما أخذ عليكم من الميثاق في أصلاب آبائكم. الثاني: لا تعلمون شيئا مما قضى عليكم من السعادة والشقاء. الثالث: لا تعلمون شيئا من منافعكم؛ وتم الكلام، ثم ابتدأ فقال: « وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة » أي التي تعلمون بها وتدركون؛ لأن الله جعل ذلك لعباده قبل إخراجهم من البطون وإنما أعطاهم ذلك بعدما أخرجهم؛ أي وجعل لكم السمع لتسمعوا به الأمر والنهي، والأبصار لتبصروا بها آثار صنعه، والأفئدة لتصلوا بها إلى معرفته. والأفئدة: جمع الفؤاد نحو غراب وأغربة. وقد قيل في ضمن قوله « وجعل لكم السمع » إثبات النطق لأن من لم يسمع لم يتكلم، وإذا وجدت حاسة السمع وجد النطق. وقرأ الأعمش وابن وثاب وحمزة « إمهاتكم » هنا وفي النور والزمر والنجم، بكسر الهمزة والميم. وأما الكسائي فكسر الهمزة وفتح الميم؛ وإنما كان هذا للإتباع. الباقون بضم الهمزة وفتح الميم على الأصل. وأصل الأمهات: أمات، فزيدت الهاء تأكيدا كما زادوا هاء في أهرقت الماء وأصله أرقت. وقد تقدم هذا المعنى في « الفاتحة » . « لعلكم تشكرون » فيه تأويلان: أحدهما: تشكرون نعمه. الثاني: يعني تبصرون آثار صنعته؛ لأن إبصارها يؤدي إلى الشرك.

 

الآية: 79 ( ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون )

 

قوله تعالى: « ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله » قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وابن عامر وحمزة ويعقوب « تروا » بالتاء على الخطاب، واختاره أبو عبيد. الباقون بالياء على الخبر. « مسخرات » مذللات لأمر الله تعالى؛ قاله الكلبي. وقيل: « مسخرات » مذللات لمنافعكم. « في جو السماء » الجو ما بين السماء والأرض؛ وأضاف الجو إلى السماء لارتفاعه عن الأرض. وفي قوله « مسخرات » دليل على مسخر سخرها ومدبر مكنها من التصرف. « ما يمسكهن إلا الله » في حال القبض والبسط والاصطفاف. بين لهم كيف يعتبرون بها على وحدانيته. « إن في ذلك لآيات » أي علامات وعبرا ودلالات. « لقوم يؤمنون » بالله وبما جاءت به رسلهم.

 

الآية: 80 ( والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين )

 

قوله تعالى: « جعل لكم » معناه صير. وكل ما علاك فأظلك فهو سقف وسماء، وكل ما أقلك فهو أرض، وكل ما سترك من جهاتك الأربع فهو جدار؛ فإذا انتظمت واتصلت فهو بيت. وهذه الآية فيها تعديد نعم الله تعالى على الناس في البيوت، فذكر أولا بيوت المدن وهي التي للإقامة الطويلة. وقوله: « سكنا » أي تسكنون فيها وتهدأ جوارحكم من الحركة، وقد تتحرك فيه وتسكن في غيره؛ إلا أن القول خرج على الغالب. وعد هذا في جملة النعم فإنه لو شاء خلق العبد مضطربا أبدا كالأفلاك لكان ذلك كما خلق وأراد، لو خلقه ساكنا كالأرض لكان كما خلق وأراد، ولكنه أوجده خلقا يتصرف للوجهين، ويختلف حاله بين الحالتين، وردده كيف وأين. والسكن مصدر يوصف به الواحد والجمع.

 

قوله تعالى: « وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها » ذكر تعالى بيوت القلة والرحلة فقال « وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها » أي من الأنطاع والأدم. « بيوتا » يعني الخيام والقباب يخف عليكم حملها في الأسفار. « يوم ظعنكم » الظعن: سير البادية في الانتجاع والتحول من موضع إلى موضع؛ ومنه قول عنترة:

ظعن الذين فراقهم أتوقع وجرى ببينهم الغراب الأبقع

والظعن الهودج أيضا؛ قال:

ألا هل هاجك الأظعان إذ بانوا وإذ جادت بوشك البين غربان

وقرئ بإسكان العين وفتحها كالشعر والشعر. وقيل: يحتمل أن يعم بيوت الأدم وبيوت الشعر وبيوت الصوف؛ لأن هذه من الجلود لكونها ثابتة فيها؛ نحا إلى ذلك ابن سلام. وهو احتمال حسن، ويكون قوله « ومن أصوافها » ابتداء كلام، كأنه قال جعل أثاثا؛ يريد الملابس والوطاء، وغير ذلك؛ قال الشاعر:

أهاجتك الظعائن يوم بانوا بذي الزي الجميل من الأثاث

ويحتمل أن يريد بقوله « من جلود الأنعام » بيوت الأدم فقط كما قدمناه أولا. ويكون قوله « ومن أصوافها » عطفا على قوله « من جلود الأنعام » أي جعل بيوتا أيضا. قال ابن العربي: وهذا أمر انتشر في تلك الديار، وعزبت عنه بلادنا، فلا تضرب الأخبية عندنا إلا من الكتان والصوف، وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم قبة من أدم، وناهيك من أدم الطائف غلاء في القيمة، واعتلاء في الصنعة، وحسنا في البشرة، ولم يعد ذلك صلى الله عليه وسلم ترفا ولا رآه سرفا؛ لأنه مما امتن الله سبحانه من نعمته وأذن فيه من متاعه، وظهرت وجوه منفعته في الاكتنان والاستظلال الذي لا يقدر على الخروج عنه جنس الإنسان. ومن غريب ما جرى أني زرت بعض المتزهدين من الغافلين مع بعض المحدثين، فدخلنا عليه في خباء كتان فعرض عليه صاحبي المحدث أن يحمله إلى منزله ضيفا، وقال: إن هذا موضع يكثر فيه الحر والبيت أرفق بك وأطيب لنفسي فيك؛ فقال: هذا الخباء لنا كثير، وكان في صنعنا من الحقير؛ فقلت: ليس كما زعمت فقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رئيس الزهاد قبة من أدم طائفي يسافر معها ويستظل بها؛ فبهت، ورأيته على منزلة من العي فتركته مع صاحبي وخرجت عنه.

 

قوله تعالى: « ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها » أذن الله سبحانه بالانتفاع بصوف الغنم ووبر الإبل وشعر المعز، كما أذن في الأعظم، وهو ذبحها وأكل لحومها، ولم يذكر القطن والكتان لأنه لم يكن في بلاد العرب المخاطبين به، وإنما عدد عليهم ما أنعم به عليهم، وخوطبوا فيما عرفوا بما فهموا. وما قام مقام هذه وناب منابها فيدخل في الاستعمال والنعمة مدخلها؛ وهذا كقوله تعالى: « وينزل من السماء من جبال فيها من برد » [ النور: 43 ] ؛ فخاطبهم بالبرد لأنهم كانوا يعرفون نزوله كثيرا عندهم، وسكت عن ذكر الثلج؛ لأنه لم يكن في بلادهم، وهو مثله في الصفة والمنفعة، وقد ذكرهما النبي صلى الله عليه وسلم معا في التطهير فقال: ( اللهم اغسلني بماء وثلج وبرد ) . قال ابن عباس: الثلج شيء أبيض ينزل من السماء وما رأيته قط. وقيل: إن ترك ذكر القطن والكتان إنما كان إعراضا عن الترف؛ إذ ملبس عباد الله الصالحين إنما هو الصوف. وهذا فيه نظر؛ فإنه سبحانه يقول: « يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم » [ الأعراف: 26 ] وقال هنا: « وجعل لكم سرابيل » فأشار إلى القطن والكتان في لفظة « سرابيل » والله أعلم. و « أثاثا » قال الخليل: متاعا منضما بعضه إلى بعض؛ من أث إذا كثر. قال:

وفرع يزين المتن أسود فاحم أثيث كقنو النخلة المتعثكل

ابن عباس: « أثاثا » ثيابا.

وتضمنت هذه الآية جواز الانتفاع بالأصواف والأوبار والأشعار على كل حال، ولذلك قال أصحابنا: صوف الميتة وشعرها طاهر يجوز الانتفاع به على كل حال، ويغسل مخافة أن يكون علق به وسخ؛ وكذلك روت أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا بأس بجلد الميتة إذا دبغ وصوفها وشعرها إذا غسل ) لأنه مما لا يحله الموت، سواء كان شعر ما يؤكل لحمه أو لا، كشعر ابن آدم والخنزير، فإنه طاهر كله؛ وبه قال أبو حنيفة، ولكنه زاد علينا فقال: القرن والسن والعظم مثل الشعر؛ قال: لأن هذه الأشياء كلها لا روح فيها لا تنجس بموت الحيوان. وقال الحسن البصري والليث بن سعد والأوزاعي: إن الشعور كلها نجسة ولكنها تطهر بالغسل. وعن الشافعي ثلاث روايات: الأولى: طاهرة لا تنجس بالموت. الثانية: تنجس. الثالثة: الفرق بين شعر ابن آدم وغيره، فشعر ابن آدم طاهر وما عداه نجس. ودليلنا عموم قوله تعالى: « ومن أصوافها » الآية. فمن علينا بأن جعل لنا الانتفاع بها، ولم يخصى شعر الميتة من المذكاة، فهو عموم إلا أن يمنع منه دليل. وأيضا فإن الأصل كونها طاهرة قبل الموت بإجماع، فمن زعم أنه انتقل إلى نجاسة فعليه الدليل. فإن قيل قوله: « حرمت عليكم الميتة » [ المائدة: 3 ] وذلك عبارة عن الجملة. قلنا: نخصه بما ذكرنا؛ فإنه منصوص عليه في ذكر الصوف، وليس في آيتكم ذكره صريحا، فكان دليلنا أولى. والله أعلم. وقد عول الشيخ الإمام أبو إسحاق إمام الشافعية ببغداد على أن الشعر جزء متصل بالحيوان خِلقة، فهو ينمي بنمائه ويتنجس بموته كسائر الأجزاء. وأجيب بأن الماء ليس بدليل على الحياة؛ لأن النبات ينمي وليس بحي. وإذا عولوا على النماء المتصل لما على الحيوان عولنا نحن على الإبانة التي تدل على عدم الإحساس الذي يدل على عدم الحياة. وأما ما ذكره الحنفيون في العظم والسن والقرن أنه مثل الشعر، فالمشهور عندنا أن ذلك نجس كاللحم. وقال ابن وهب مثل قول أبي حنيفة. ولنا قول ثالث: هل تلحق أطراف القرون والأظلاف بأصولها أو بالشعر، قولان. وكذلك الشعري من الريش حكمه حكم الشعر، والعظمي منه حكمه حكمه. ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا تنتفعوا من الميتة بشيء ) وهذا عام فيها وفي كل جزء منها، إلا ما قام دليله؛ ومن الدليل القاطع على ذلك قوله تعالى: « قال من يحيي العظام وهي رميم » [ يس: 78 ] ، وقال تعالى: « وانظر إلى العظام كيف ننشزها » [ البقرة: 259 ] ، وقال: « فكسونا العظام لحما » [ المؤمنون: 14 ] ، وقال: « أئذا كنا عظاما نخرة » [ النازعات: 11 ] فالأصل هي العظام، والروح والحياة فيها كما في اللحم والجلد. وفي حديث عبدالله بن عكيم: ( لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب ) . فإن قيل: قد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شاة ميمونة: ( ألا انتفعتم بجلدها ) ؟ فقالوا: يا رسول الله، إنها ميتة. فقال: ( إنما حرم أكلها ) والعظم لا يؤكل. قلنا: العظم يؤكل، وخاصة عظم الجمل الرضيع والجدي والطير، وعظم الكبير يشوى ويؤكل. وما ذكرناه قبل يدل على وجود الحياة فيه، وما كان طاهرا بالحياة ويستباح بالذكاة ينجس بالموت. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « من جلود الأنعام » عام في جلد الحي والميت، فيجوز الانتفاع بجلود الميتة وإن لم تدبغ؛ وبه قال ابن شهاب الزهري والليث بن سعد. قال الطحاوي: لم نجد عن أحد من الفقهاء جواز بيع جلد الميتة قبل الدباغ إلا عن الليث. قال أبو عمر: يعني من الفقهاء أئمة الفتوى بالأمصار بعد التابعين، وأما ابن شهاب فذلك عنه صحيح، وهو قول أباه جمهور أهل العلم. وقد روي عنهما خلاف هذا القول، والأول أشهر.

قلت: قد ذكر الدارقطني في سننه حديث يحيى بن أيوب عن يونس وعقيل عن الزهري، وحديث بقية عن الزبيدي، وحديث محمد بن كثير العبدي وأبي سلمة المنقري عن سليمان بن كثير عن الزهري، وقال في آخرها: هذه أسانيد صحاح.

 

اختلف العلماء في جلد الميتة إذا دبغ هل يطهر أم لا؛ فذكر ابن عبدالحكم عن مالك ما يشبه مذهب ابن شهاب في ذلك. وذكره ابن خويز منداد في كتابه عن ابن عبدالحكم أيضا. قال ابن خويز منداد: وهو قول الزهري والليث. قال: والظاهر من مذهب مالك ما ذكره ابن عبدالحكم، وهو أن الدباغ لا يطهر جلد الميتة، ولكن يبيح الانتفاع به في الأشياء اليابسة، ولا يصلى عليه ولا يؤكل فيه. وفي المدونة لابن القاسم: من اغتصب جلد ميتة غير مدبوغ فأتلفه كان عليه قيمته. وحكى أن ذلك قول مالك. وذكر أبو الفرج أن مالكا قال: من اغتصب لرجل جلد ميتة غير مدبوغ فلا شيء عليه. قال إسماعيل: إلا أن يكون لمجوسي. وروى ابن وهب، وابن عبدالحكم عن مالك جواز بيعه، وهذا في جلد كل ميتة إلا الخنزير وحده؛ لأن الزكاة لا تعمل فيه، فالدباغ أولى. قال أبو عمر: وكل جلد ذكي فجائز استعماله للوضوء وغيره. وكان مالك يكره الوضوء في إناء جلد الميتة بعد الدباغ على اختلاف من قوله، ومرة قال: إنه لم يكرهه إلا في خاصة نفسه، وتكره الصلاة عليه وبيعه، وتابعه على ذلك جماعة من أصحابه. وأما أكثر المدنيين فعلى إباحة ذلك وإجازته؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أيما إهاب دبغ فقد طهر ) . وعلى هذا أكثر أهل الحجاز والعراق من أهل الفقه والحديث، وهو اختيار ابن وهب.

 

ذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه إلى أنه لا يجوز الانتفاع بجلود الميتة في شيء وإن دبغت؛ لأنها كلحم الميتة. والأخبار بالانتفاع بعد الدباغ ترد قوله. واحتج بحديث عبدالله بن عكيم - رواه أبو داود - قال: قرئ علينا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأرض جهينة وأنا غلام شاب: ( ألا تستمتعوا من الميتة بإهاب ولا عصب ) . وفي رواية: قبل موته بشهر. رواه القاسم بن مخيمرة عن عبدالله بن عكيم، قال: حدثنا مشيخة لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليهم.. قال داود بن علي: سألت يحيى بن معين عن هذا الحديث، فضعفه وقال: ليس بشيء، إنما يقول حدثني الأشياخ، قال أبو عمر: ولو كان ثابتا لاحتمل أن يكون مخالفا للأحاديث المروية عن ابن عباس وعائشة وسلمة بن المحبق وغيرهم، لأنه جائز أن يكون معنى حديث ابن عكيم ( ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب ) قبل الدباغ؛ وإذا احتمل ألا يكون مخالف ا فليس لنا أن نجعله مخالفا، وعلينا أن نستعمل الخبرين ما أمكن، وحديث عبدالله بن عكيم وإن كان قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بشهر كما جاء في الخبر فيمكن أن تكون قصة ميمونة وسماع ابن عباس منه ( أيما إهاب دبغ فقد طهر ) قبل موته بجمعة أو دون جمعة، والله أعلم.

 

المشهور عندنا أن جلد الخنزير لا يدخل في الحديث ولا يتناوله العموم، وكذلك الكلب عند الشافعي. وعند الأوزاعي وأبي ثور: لا يطهر بالدباغ إلا جلد ما يؤكل لحمه. وروى معن بن عيسى عن مالك أنه سئل عن جلد الخنزير إذا دبغ فكرهه. قال ابن وضاح: وسمعت سحنونا يقول لا بأس به؛ وكذلك قال محمد بن عبدالحكم وداود بن علي وأصحابه؛ لقوله عليه السلام: ( أيما مسك دبغ فقد طهر ) . قال أبو عمر: يحتمل أن يكون أراد بهذا القول عموم الجلود المعهود الانتفاع بها، فأما الخنزير فلم يدخل في المعنى لأنه غير معهود الانتفاع بجلده، إذ لا تعمل فيه الذكاة. ودليل آخر وهو ما قاله النضر بن شميل: إن الإهاب جلد البقر والغنم والإبل، وما عداه فإنما يقال له: جلد لا إهاب.

قلت: وجلد الكلب وما لا يؤكل لحمه أيضا غير معهود الانتفاع به فلا يطهر؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( أكل كل ذي ناب من السباع حرام ) فليست الذكاة فيها ذكاة، كما أنها ليست في الخنزير ذكاة. وروى النسائي عن المقدام بن معد يكرب قال: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحرير والذهب ومياثر النمور )

 

اختلف الفقهاء في الدباغ التي تطهر به جلود الميتة ما هو؟ فقال أصحاب مالك وهو المشهور من مذهبه: كل شيء دبغ الجلد من ملح أو قرظ أو شب أو غير ذلك فقد جاز الانتفاع به. وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه، وهو قول داود. وللشافعي في هذه المسألة قولان: أحدهما: هذا، والآخر أنه لا يطهر إلا الشب والقرظ؛ لأنه الدباغ المعهود على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه خرج الخطابي - والله أعلم - ما رواه النسائي عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم رجال من قريش يجرون شاة لهم مثل الحصان؛ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لو أخذتم إهابها ) قالوا. إنها ميتة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يطهرها الماء والقرظ ) .

 

قوله تعالى: « أثاثا » الأثاث متاع البيت، واحدها أثاثة؛ هذا قول أبي زيد الأنصاري. وقال الأموي: الأثاث متاع البيت، وجمعه آثة وأثث. وقال غيرهما: الأثاث جميع أنواع المال ولا واحد له من لفظه. وقال الخليل: أصله من الكثرة واجتماع بعض المتاع إلى بعض حتى يكثر؛ ومنه شعر أثيث أي كثير. وأث شعر فلان يأث أثا إذا كثر والتف؛ قال امرؤ القيس:

وفرع يزين المتن أسود فاحم أثيث كقنو النخلة المتعثكل

وقيل: الأثاث ما يلبس ويفترش. وقد تأثثت إذا اتخذت أثاثا. وعن ابن عباس رضي الله عنه « أثاثا » مالا. وقد تقدم القول في الحين؛ وهو هنا وقت غير معين بحسب كل إنسان، إما بموته وإما بفقد تلك الأشياء التي هي أثاث. ومن هذه اللفظة قول الشاعر:

أهاجتك الظعائن يوم بانوا بذي الزي الجميل من الأثاث

 

الآية: 81 ( والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون )

 

قوله تعالى: « والله جعل لكم مما خلق ظلالا » الظلال: كل ما يستظل به من البيوت والشجر. وقوله « مما خلق » يعم جميع الأشخاص المظلة. « أكنانا » الأكنان: جمح كن، وهو الحافظ من المطر والريح وغير ذلك؛ وهي هنا الغيران في الجبال، جعلها الله عدة للخلق يأوون إليها ويتحصنون به أو يعتزلون عن الخلق فيها. وفي الصحيح أنه عليه السلام كان في أول أمره يتعبد بغار حراء ويمكث فيه الليالي.. الحديث، وفي صحيح البخاري قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجرا هاربا من قومه فارا بدينه مع صاحبه أبي بكر حتى لحقا بغار في جبل ثور، فمكنا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما فيه عبدالله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حتى تذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل، وهو لبن منحتهما ورضيفهما حتى ينعق بهما عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث... وذكر الحديث. انفراد بإخراجه البخاري.

 

قوله تعالى: « وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر » يعني القمص، واحدها سربال. « وسرابيل تقيكم بأسكم » يعني الدروع التي تقي الناس في الحرب؛ ومنه قول كعب بن زهير:

شم العرانين أبطال لبوسهم من نسج داود في الهيجا سرابيل

 

إن قال قائل: كيف قال « وجعل لكم من الجبال أكنانا » ولم يذكر السهل، فالجواب أن القوم كانوا أصحاب جبال ولم يكونوا أصحاب سهل، وأيضا: فذكر أحدهما يدال على الآخر؛ ومنه قول الشاعر:

وما أدري إذا يممت أرضا أريد الخير أيهما يليني

أألخير الذي أنا أبتغيه أم الشر الذي هو يبتغيني

 

قال العلماء: في قوله تعالى: « وسرابيل تقيكم بأسكم » دليل على اتخاذ العباد عدة الجهاد ليستعينوا بها على قتال الأعداء، وقد لبسها النبي صلى الله عليه وسلم تقاة الجراحة وإن كان يطلب الشهادة، وليس للعبد أن يطلبها بأن يستسلم للحتوف وللطعن بالسنان وللضرب بالسيوف، ولكنه يلبس لأمة حرب لتكون له قوة على قتال عدوه، ويقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ويفعل الله بعد ما يشاء.

 

قوله تعالى: « كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون » قرأ ابن محيصن وحميد « تتم » بتاءين، « نعمته » رفعا على أنها الفاعل. الباقون « يتم » بضم الياء على أن الله هو يتمها. و « تسلمون » قراءة ابن عباس وعكرمة « تسلمون » بفتح التاء واللام، أي تسلمون من الجراح، وإسناده ضعيف؛ رواه عباد بن العوام عن حنظلة عن شهر عن ابن عباس. الباقون بضم التاء، ومعناه تستسلمون وتنقادون إلى معرفة الله وطاعته شكرا على نعمه. قال أبو عبيد: والاختيار قراءة العامة؛ لأن ما أنعم الله به علينا من الإسلام أفضل مما أنعم به من السلامة من الجراح.

 

الآية: 82 ( فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين )

 

قوله تعالى: « فإن تولوا » أي أعرضوا عن النظر والاستدلال والإيمان. « فإنما عليك البلاغ » أي ليس عليك إلا التبليغ، وأما الهداية فإلينا.

 

الآية: 83 ( يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون )

 

قوله تعالى: « يعرفون نعمة الله » قال السدي: يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، أي يعرفون نبوته « ثم ينكرونها » ويكذبونه. وقال مجاهد: يريد ما عدد الله عليهم في هذه السورة من النعم؛ أي يعرفون أنها من عند الله وينكرونها بقولهم إنهم ورثوا ذلك عن آبائهم. وبمثله قال قتادة. وقال عون بن عبدالله: هو قول الرجل لولا فلان لكان كذا، ولولا فلان ما أصبت كذا، وهم يعرفون النفع والضر من عند الله. وقال الكلبي: هو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عرفهم بهذه النعم كلها عرفوها وقالوا: نعم، هي كلها نعم من الله، ولكنها بشفاعة آلهتنا. وقيل: يعرفون نعمة الله بتقلبهم فيها، وينكرونها بترك الشكر عليها. ويحتمل سادسا: يعرفونها في الشدة وينكرونها في الرخاء. ويحتمل سابعا: يعرفونها بأقوالهم وينكرونها بأفعالهم. ويحتمل ثامنا: يعرفونها بقلوبهم ويجحدونها بألسنتهم؛ نظيرها « وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم » [ النمل: 14 ] « وأكثرهم الكافرون » يعني جميعهم؛ حسبما تقدم.

 

الآية: 84 ( ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون )

 

قوله تعالى: « ويوم نبعث من كل أمة شهيدا » نظيره: « فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد » [ النساء: 41 ] وقد تقدم. « ثم لا يؤذن للذين كفروا » أي في الاعتذار والكلام؛ كقوله: « ولا يؤذن لهم فيعتذرون » [ المرسلات: 36 ] . وذلك حين تطبق عليهم جهنم، كما تقدم في أول « الحجر » ويأتي.

 

قوله تعالى: « ولا هم يستعتبون » يعني يسترضون، أي لا يكلفون أن يرضوا ربهم؛ لأن الآخرة ليست بدار تكليف، ولا يتركون إلى رجوع الدنيا فيتوبون. وأصل الكلمة من العتب وهي الموجدة؛ يقال: عتب عليه يعتب إذا وجد عليه، فإذا فاوضه ما عتب عليه فيه قيل عاتبه، فإذا رجع إلى مسرتك فقد أعتب، والاسم العتبى وهو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضي العاتب؛ قال الهروي. وقال النابغة:

فإن كنت مظلوما فعبدا ظلمته وإن كنت ذا عتبى فمثلك يُعْتِب

 

الآية: 85 ( وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون )

 

قوله تعالى: « وإذا رأى الذين ظلموا » أي أشركوا. « العذاب » أي عذاب جهنم بالدخول فيها. « فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون » أي لا يمهلون؛ إذ لا توبة لهم ثم.

 

الآيتان: 86 - 87 ( وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون، وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون )

 

قوله تعالى: « وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم » أي أصنامهم وأوثانهم التي عبدوها وذلك أن الله يبعث معبوديهم فيتبعونهم حتى يوردوهم النار. وفي صحيح مسلم: ( من كان يعبد شيئا فليتبعه فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع من كان يعبد القمر القمر ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت... ) الحديث، خرجه من حديث أنس، والترمذي من حديث أبي هريرة، وفيه: ( فيمثل لصاحب الصليب صليبه ولصاحب التصاوير تصاويره ولصاحب النار ناره فيتبعون ما كانوا يعبدون... ) وذكر الحديث. « قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك » أي الذين جعلناهم لك شركاء. « فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون » أي ألقت إليهم الآلهة القول، أي نطقت بتكذيب من عبدها بأنها لم تكن آلهة، ولا أمرتهم بعبادتها، فيُنطق الله الأصنام حتى تظهر عند ذلك فضيحة الكفار. وقيل: المراد بذلك الملائكة الذين عبدوهم. « وألقوا إلى الله يومئذ السلم » يعني المشركين، أي استسلموا لعذابه وخضعوا لعزه. وقيل: استسلم العابد والمعبود وانقادوا لحكمه فيهم. « وضل عنهم ما كانوا يفترون » أي زال عنهم ما زين لهم الشيطان وما كانوا يؤملون من شفاعة آلهتهم.

 

الآية: 88 ( الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون )

 

قوله تعالى: « الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب » قال ابن مسعود: عقارب أنيابها كالنخل الطوال، وحيات مثل أعناق الإبل، وأفاعي كأنها البخاتي تضربهم، فتلك الزيادة وقيل: المعنى يخرجون من النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة برده إلى النار. وقيل: المعنى زدنا القادة عذابا فوق السفلة، فأحد العذابين على كفرهم والعذاب الآخر على صدهم. « بما كانوا يفسدون » في الدنيا من الكفر والمعصية.

 

الآية: 89 ( ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين )

 

قوله تعالى: « ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم » وهم الأنبياء شهداء على أممهم يوم القيامة بأنهم قد بلغوا الرسالة ودعوهم إلى الإيمان، في كل زمان شهيد وإن لم يكن نبيا؛ وفيهم قولان: أحدهما: أنهم أئمة الهدى الذين هم خلفاء الأنبياء. الثاني: أنهم العلماء الذين حفظ الله بهم شرائع أنبيائه.

قلت: فعلى هذا لم تكن فترة إلا وفيها من يوحد الله؛ كقس بن ساعدة، وزيد بن عمرو بن نفيل الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ( يبعث أمة وحده ) ، وسَطيح، وورقة بن نوفل الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ( رأيته ينغمس في أنهار الجنة ) . فهؤلاء ومن كان مثلهم حجة على أهل زمانهم وشهيد عليهم. والله أعلم. وقوله: « وجئنا بك شهيدا على هؤلاء » تقدم في « البقرة و » النساء « .»

 

قوله تعالى: « ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء » نظيره: « ما فرطنا في الكتاب من شيء » [ الأنعام: 38 ] وقد تقدم. وقال مجاهد: تبيانا للحلال والحرام.

 

الآية: 90 ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون )

 

قوله تعالى: « إن الله يأمر بالعدل والإحسان » روي عن عثمان بن مظعون أنه قال: لما نزلت هذه الآية قرأتها على علي بن أبي طالب رضي الله عنه فتعجب فقال: يا آل غالب، اتبعوه تفلحوا، فوالله إن الله أرسله ليأمركم بمكارم الأخلاق. وفي حديث - إن أبا طالب لما قيل له: إن ابن أخيك زعم أن الله أنزل عليه « إن الله يأمر بالعدل والإحسان » الآية، قال: اتبعوا ابن أخي، فوالله إنه لا يأمر إلا بمحاسن الأخلاق. وقال عكرمة: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على الوليد بن المغيرة « إن الله يأمر بالعدل والإحسان » إلى آخرها، فقال: يا ابن أخي أعد، فأعاد عليه فقال: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أصله لمورق، وأعلاه لمثمر، وما هو بقول بشر، وذكر الغزنوي أن عثمان بن مظعون هو القارئ. قال عثمان: ما أسلمت ابتداء إلا حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت هذه الآية وأنا عنده فاستقر الإيمان في قلبي، فقرأتها على الوليد بن المغيرة فقال: يا ابن أخي أعد فأعدت فقال: والله إن له لحلاوة... وذكر تمام الخبر. وقال ابن مسعود: هذه أجمع آية في القرآن لخير يمتثل، ولشر يجتنب. وحكى النقاش قال: يقال زكاة العدل الإحسان، وزكاة القدرة العفو، وزكاة الغنى المعروف، وزكاة الجاه كتب الرجل إلى إخوانه.

 

اختلف العلماء في تأويل العدل والإحسان؛ فقال ابن عباس: العدل لا إله إلا الله، والإحسان أداء الفرائض. وقيل: العدل الفرض، والإحسان النافلة. وقال سفيان بن عيينة: العدل ها هنا استواء السريرة، والإحسان أن تكون السريرة أفضل من العلانية. علي بن أبي طالب: العدل الإنصاف، والإحسان التفضل. قال ابن عطية: العدل هو كل مفروض، من عقائد وشرائع في أداء الأمانات، وترك الظلم والإنصاف، وإعطاء الحق. والإحسان هو فعل كل مندوب إليه؛ فمن الأشياء ما هو كله مندوب إليه، ومنها ما هو فرض، إلا أن حد الإجزاء منه داخل في العدل، والتكميل الزائد على الإجزاء داخل في الإحسان. وأما قول ابن عباس ففيه نظر؛ لأن أداء الفرائض هي الإسلام حسبما فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سؤال جبريل، وذلك هو العدل، وإنما الإحسان التكميلات والمندوب إليه حسبما يقتضيه تفسير النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سؤال جبريل بقوله: ( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) . فإن صح هذا عن ابن عباس فإنما أراد الفرائض مكملة. وقال ابن العربي: العدل بين العبد وبين ربه إيثار حقه تعالى على حظ نفسه، وتقديم رضاه على هواه، والاجتناب للزواجر والامتثال للأوامر. وأما العدل بينه وبين نفسه فمنعها مما فيه هلاكها؛ قال الله تعالى: « ونهى النفس عن الهوى » [ النازعات: 40 ] وعزوب الأطماع عن الأتباع، ولزوم القناعة في كل حال ومعنى. وأما العدل بينه وبين الخلق فبذل النصيحة، وترك الخيانة فيما قل وكثر، والإنصاف من نفسك لهم بكل وجه، ولا يكون منك إساءة إلى أحد بقول ولا فعل لا في سر ولا في علن، والصبر على ما يصيبك منهم من البلوى، وأقل ذلك الإنصاف وترك الأذى.

قلت: هذا التفصيل في العدل حسن وعدل، وأما الإحسان فقد قال علماؤنا: الإحسان مصدر أحسن يحسن إحسانا. ويقال على معنيين: أحدهما متعد بنفسه؛ كقولك: أحسنت كذا، أي حسنته وكلمته، وهو منقول بالهمزة من حسن الشيء. وثانيهما متعد بحرف جر؛ كقولك: أحسنت إلى فلان، أي أوصلت إليه ما ينتفع به.

قلت: وهو في هذه الآية مراد بالمعنيين معا؛ فإنه تعالى يحب من خلقه إحسان بعضهم إلى بعض، حتى أن الطائر في سجنك والسنور في دارك لا ينبغي أن تقصر تعهده بإحسانك؛ وهو تعالى غني عن إحسانهم، ومنه الإحسان والنعم والفضل والمنن. وهو في حديث جبريل بالمعنى الأول لا بالثاني؛ فإن المعنى الأول راجع إلى إتقان العبادة ومراعاتها بأدائها المصححة والمكملة، ومراقبة الحق فيها واستحضار عظمته وجلاله حالة الشروع وحالة الاستمرار. وهو المراد بقوله ( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) . وأرباب القلوب في هذه المراقبة على حالين: أحدهما غالب عليه مشاهدة الحق فكأنه يراه. ولعل النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى هذه الحالة بقوله: ( وجعلت قرة عيني في الصلاة ) . وثانيهما: لا تنتهي إلى هذا، لكن يغلب عليه أن الحق سبحانه مطلع عليه ومشاهد له، وإليه الإشارة بقوله تعالى: « الذي يراك حين تقوم. وتقلبك في الساجدين » [ الشعراء: 218 - 219 ] وقوله: « إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه » [ يونس: 61 ] .

 

قوله تعالى: « وإيتاء ذي القربى » أي القرابة؛ يقول: يعطيهم المال كما قال « وآت ذا القربى حقه » [ الإسراء: 26 ] يعني صلته. وهذا من باب عطف المندوب على الواجب، وبه استدل الشافعي في إيجاب إيتاء المكاتب، على ما يأتي بيانه. وإنما خص ذا القربى لأن حقوقهم أوكد وصلتهم أوجب؛ لتأكيد حق الرحم التي اشتق الله اسمها من اسمه، وجعل صلتها من صلته، فقال في الصحيح: ( أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ) . ولا سيما إذا كانوا فقراء.

 

قوله تعالى: « وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي » الفحشاء: الفحش، وهو كل قبيح من قول أو فعل. ابن عباس: هو الزنى. والمنكر: ما أنكره الشرع بالنهي عنه، وهو يعم جميع المعاصي والرذائل والدناءات على اختلاف أنواعها. وقيل هو الشرك. والبغي: هو الكبر والظلم والحقد والتعدي؛ وحقيقته تجاوز الحد، وهو داخل تحت المنكر، لكنه تعالى خصه بالذكر اهتماما به لشدة ضرره. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ( لا ذنب أسرع عقوبة من بغيٍ ) . وقال عليه السلام: ( الباغي مصروع ) . وقد وعد الله من بُغي عليه بالنصر. وفي بعض الكتب المنزلة: لو بغى جبل على جبل لجعل الباغي منهما دكا..

 

ترجم الإمام أبو عبدالله بن إسماعيل البخاري في صحيحه فقال: ( باب قول الله تعالى: « إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون » وقوله: « إنما بغيكم على أنفسكم » [ يونس: 23 ] ، « ثم بغي عليه لينصرنه الله » ، وترك إثارة الشر على مسلم أو كافر ) ثم ذكر حديث عائشة في سحر لبيد بن الأعصم النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن بطال: فتأول رضي الله عنه من هذه الآيات ترك إثارة الشر على مسلم أو كافر؛ كما دل عليه حديث عائشة حيث قال عليه السلام: ( أما الله فقد شفاني وأما أنا فأكره أن أثير على الناس شرا ) . ووجه ذلك - والله أعلم - أنه تأول في قول الله تعالى: « إن الله يأمر بالعدل والإحسان » الندب بالإحسان إلى المسيء وترك معاقبته على إساءته. فإن قيل: كيف يصح هذا التأويل في آيات البغي. قيل: وجه ذلك - والله أعلم - أنه لما أعلم الله عباده بأن ضرر البغي ينصرف على الباغي بقوله: « إنما بغيكم على أنفسكم » وضمن تعالى نصرة من بغي عليه، كان الأولى بمن بغي عليه شكر الله على ما ضمن من نصره ومقابلة ذلك بالعفو عمن بغى عليه؛ وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم باليهودي الذي سحره، وقد كان له الانتقام منه بقوله: « وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به » [ النحل: 126 ] . ولكن آثر الصفح أخذا بقوله: « ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور » [ الشورى: 43 ] .

 

تضمنت هذه الآية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. روي أن جماعة رفعت عاملها إلى أبي جعفر المنصور العباسي، فحاجها العامل وغلبها؛ بأنهم لم يثبتوا عليه كبير ظلم ولا جوره في شيء؛ فقام فتى من القوم فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإنه عدل ولم يحسن. قال: فعجب أبو جعفر من إصابته وعزل العامل.

 

الآية: 91 ( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون )

 

قوله تعالى: « وأوفوا بعهد الله » لفظ عام لجميع ما يعقد باللسان ويلتزمه الإنسان بالعدل والإحسان لأن المعنى فيها: افعلوا كذا، وانتهوا عن كذا؛ فعطف على ذلك التقدير. وقد قيل: إنها نزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام. وقيل: نزلت في التزام الحلف الذي كان في الجاهلية وجاء الإسلام بالوفاء؛ قاله قتادة ومجاهد وابن زيد. والعموم يتناول كل ذلك كما بيناه. روى الصحيح عن جبير بن مطعم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة ) يعني في نصرة الحق والقيام به والمواساة. وهذا كنحو حلف الفضول الذي ذكره ابن إسحاق قال: اجتمعت قبائل من قريش في دار عبدالله بن جدعان لشرفه ونسبه، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو غيرهم إلا قاموا معه حتى ترد عليه مظلمته؛ فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، أي حلف الفضائل. والفضول هنا جمع فضل للكثرة كفلس وفلوس. روى ابن إسحاق عن ابن شهاب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم لو أدعى به في الإسلام لأجبت ) . وقال ابن إسحاق: تحامل الوليد بن عتبة على حسين بن علي في مال له، لسلطان الوليد فإنه كان أميرا على المدينة؛ فقال له حسين بن علي: احلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لأدعون بحلف الفضول. قال عبدالله بن الزبير: وأنا أحلف والله لئن دعانا لآخذن سيفي ثم لأقومن معه حتى ينتصف من حقه أو نموت جميعا. وبلغت المسور بن مخرمة فقال مثل ذلك. وبلغت عبدالرحمن بن عثمان بن عبيدالله التيمي فقال مثل ذلك. فلما بلغ ذلك الوليد أنصفه. قال العلماء: فهذا الحلف الذي كان في الجاهلية هو الذي شده الإسلام وخصه النبي عليه الصلاة والسلام من عموم قوله: ( لا حلف في الإسلام ) . والحكمة في ذلك أن الشرع جاء بالانتصار من الظالم وأخذ الحق منه وإيصاله إلى المظلوم، وأوجب ذلك بأصل الشريعة إيجابا عاما على من قدر من المكلفين، وجعل لهم السبيل على الظالمين فقال تعالى: « إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم » [ الشورى: 42 ] . وفي الصحيح: ( انصر أخاك ظالما أو مظلوما ) قالوا: يا رسول الله، هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما؟ قال: ( تأخذ على يديه: في رواية: تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره ) . وقد تقدم قوله عليه السلام: ( إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده ) .

 

قوله تعالى: « ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها » يقول بعد تشديدها وتغليظها؛ يقال: توكيد وتأكيد، ووكد وأكد، وهما لغتان.

 

قوله تعالى: « وقد جعلتم الله عليكم كفيلا » يعني شهيدا. ويقال حافظا، ويقال ضامنا. وإنما قال « بعد توكيدها » فرقا بين اليمين المؤكدة بالعزم وبين لغو اليمين وقال ابن وهب وابن القاسم عن مالك التوكيد هو حلف الإنسان في الشيء الواحد مرارا، يردد فيه الأيمان ثلاثا أو أكثر من ذلك؛ كقوله: والله لا أنقصه من كذا، والله لا أنقصه من كذا، والله لا أنقصه من كذا. قال: فكفارة ذلك واحدة مثل كفارة اليمين. وقال يحيى بن سعيد: هي العهود، والعهد يمين، ولكن الفرق بينهما أن العهد لا يكفر. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته يقال هذه غدرة فلان ) . وأما اليمين بالله فقد شرع الله سبحانه فيها الكفارة بخصلة واحدة، وحل ما انعقدت عليه اليمين. وقال ابن عمر: التوكيد هو أن يحلف مرتين، فإن حلف واحدة فلا كفارة فيه. وقد تقدم.

 

الآية: 92 ( ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون )

 

قوله تعالى: « ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا » النقض والنكث واحد، والاسم النكث والنقض، والجمع الأنكاث. فشبهت هذه الآية الذي يحلف ويعاهد ويبرم عهده ثم ينقضه بالمرأة تغزل غزلها وتفتله محكما ثم تحله. ويروى أن امرأة حمقاء كانت بمكة تسمى ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة كانت تفعل ذلك، فبها وقع التشبيه؛ قال الفراء، وحكاه عبدالله بن كثير والسدي ولم يسميا المرأة، وقال مجاهد وقتادة: وذلك ضرب مثل، لا على امرأة معينة. و « أنكاثا » نصب على الحال. والدخل: الدغل والخديعة والغش. قال أبو عبيدة: كل أمر لم يكن صحيحا فهو دخل. « أن تكون أمة هي أربى من أمة » قال المفسرون: نزلت هذه الآية في العرب الذين كانت القبيلة منهم إذ حالفت أخرى، ثم جاءت إحداهما قبيلة كثيرة قوية فداخلتها غدرت الأولى ونقضت عهدها ورجعت إلى هذه الكبرى - قاله مجاهد - فقال الله تعالى: لا تنقضوا العهود من أجل أن طائفة أكثر من طائفة أخرى أو أكثر أموالا فتنقضون أيمانكم إذا رأيتم الكثرة والسعة في الدنيا لأعدائكم المشركين. والمقصود النهي عن العود إلى الكفر بسبب كثرة الكفار وكثرة أموالهم. وقال الفراء: المعنى لا تغدروا بقوم لقلتهم وكثرتكم أو لقلتكم وكثرتهم، وقد عززتموهم بالأيمان. « أربى » أي أكثر؛ من ربا الشيء يربو إذا كثر. والضمير في ( به ) يحتمل أن يعود على الوفاء الذي أمر الله به. ويحتمل أن يعود على الرباء؛ أي أن الله تعالى ابتلى عباده بالتحاسد وطلب بعضهم الظهور على بعض، واختبرهم بذلك من يجاهد نفسه فيخالفها ممن يتبعها ويعمل بمقتضى هواها؛ وهو معنى قوله: « إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون » من البعث وغيره.

 

الآية: 93 ( ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون )

 

قوله تعالى: « ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة » أي على ملة واحدة. « ولكن يضل من يشاء » بخذلانه إياهم؛ عدلا منه فيهم. « ويهدي من يشاء » بتوفيقه إياهم؛ فضلا منه عليهم، ولا يسأل عما يفعل بل تسألون أنتم. والآية ترد على أهل القدر كما تقدم. واللام في « وليبينن، ولتسئلن » مع النون المشددة يدلان على قسم مضمر، أي والله ليبينن لكم ولتسئلن.

 

الآية: 94 ( ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم )

 

قوله تعالى: « ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم » كرر ذلك تأكيدا. « فتزل قدم بعد ثبوتها » مبالغة في النهي عنه لعظم موقعه في الدين وتردده في معاشرات الناس؛ أي لا تعقدوا الأيمان بالانطواء على الخديعة والفساد فتزل قدم بعد ثبوتها، أي عن الأيمان بعد المعرفة بالله. وهذه استعارة للمستقيم الحال يقع في شر عظيم ويسقط فيه؛ لأن القدم إذا زلت نقلت الإنسان من حال خير إلى حال شر؛ ومن هذا المعنى قول كثير:

فلما توافينا ثبت وزلت

والعرب تقول لكل مبتلى بعد عافية أو ساقط في ورطة: زلت قدمه؛ كقول الشاعر:

سيمنع منك السبق إن كنت سابقا وتقتل إن زلت بك القدمان

ويقال لمن أخطأ في شيء: زل فيه. ثم توعد تعالى بعدُ بعذاب في الدنيا وعذاب عظيم في الآخرة. وهذا الوعيد إنما هو فيمن نقض عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن من عاهده ثم نقض عهده خرج من الإيمان، ولهذا قال: « وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله » أي بصدكم. وذوق السوء في الدنيا هو ما يحل بهم من المكروه.

 

الآيتان: 95 - 96 ( ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون، ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون )

 

قوله تعالى: « ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا » نهى عن الرُشا وأخذ الأموال على نقض العهد؛ أي لا تنقضوا عهودكم لعرض قليل من الدنيا. وإنما كان قليلا وإن كثر لأنه مما يزول، فهو على التحقيق قليل، وهو المراد بقوله: « ما عندكم ينفد وما عند الله باق » فبين الفرق بين حال الدنيا وحال الآخرة بأن هذه تنفد وتحول، وما عند الله من مواهب فضله ونعيم جنته ثابت لا يزول لمن وفي بالعهد وثبت على العقد. ولقد أحسن من قال:

المال ينفد حله وحرامه يوما وتبقى في غد آثامه

ليس التقي بمتق لإلهه حتى يطيب شرابه وطعامه

آخر:

هب الدنيا تساق إليك عفوا أليس مصير ذاك إلى انتقال

وما دنيال إلا مثل فيء أظلك ثم آذن بالزوال

 

قوله تعالى: « ولنجزين الذين صبروا » أي على الإسلام والطاعات وعن المعاصي. « أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون » أي من الطاعات، وجعلها أحسن لأن ما عداها من الحسن مباح، والجزاء إنما يكون على الطاعات من حيث الوعد من الله. وقرأ عاصم وابن كثير « ولنجزين » بالنون على التعظيم. الباقون بالياء. وقيل: إن هذه الآية « ولا تشتروا... » نزلت في امرئ القيس بن عابس الكندي وخصمه ابن أسوع، اختصما في أرض فأراد امرؤ القيس أن يحلف فلما سمع هذه الآية نكل وأقر له بحقه؛ والله أعلم.

 

الآية: 97 ( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون )

 

قوله تعالى: « من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة » شرط وجوابه.

وفي الحياة الطيبة خمسة أقوال: الأول: أنه الرزق الحلال؛ قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والضحاك. الثاني: القناعة؛ قاله الحسن البصري وزيد بن وهب ووهب بن منبه، ورواه الحكم عن عكرمة عن ابن عباس، وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه. الثالث: توفيقه إلى الطاعات فإنها تؤديه إلى رضوان الله؛ قال معناه الضحاك. وقال أيضا: من عمل صالحا وهو مؤمن في فاقة وميسرة فحياته طيبة، ومن أعرض عن ذكر الله ولم يؤمن بربه ولا عمل صالحا فمعيشته ضنك لا خير فيها. وقال مجاهد وقتادة وابن زيد: هي الجنة، وقاله الحسن، وقال: لا تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة. وقيل هي السعادة، روي عن ابن عباس أيضا. وقال أبو بكر الوراق: هي حلاوة الطاعة. وقال سهل بن عبدالله التستري: هي أن ينزع عن العبد تدبيره ويرد تدبيره إلى الحق. وقال جعفر الصادق: هي المعرفة بالله، وصدق المقام بين يدي الله. وقيل: الاستغناء عن الخلق والافتقار إلى الحق. وقيل: الرضا بالقضاء. « ولنجزينهم أجرهم » أي في الآخرة. وقال ( فلنحيينه ) ثم قال ( ولنجزينهم ) لأن ( من ) يصلح للواحد والجمع، فأعاد مرة على اللفظ ومرة على المعنى، وقد تقدم. وقال أبو صالح: جلس ناس من أهل التوراة وناس من أهل الإنجيل وناس من أهل الأوثان، فقال هؤلاء: نحن أفضل، وقال هؤلاء: نحن أفضل؛ فنزلت.

 

الآية: 98 ( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم )

 

هذه الآية متصلة بقوله: « ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء » [ النحل: 89 ] فإذا أخذت في قراءته فاستعذ بالله من أن يعرض لك الشيطان فيصدك عن تدبره والعمل بما فيه؛ وليس يريد استعذ بعد القراءة؛ بل هو كقولك: إذا أكلت فقل بسم الله؛ أي إذا أردت أن تأكل. وقد روى جبير بن مطعم عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح الصلاة قال ( اللهم إني أعوذ بك من الشيطان من همزه ونفخه ونفثه ) . وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ في صلاته قبل القراءة. قال الكيا الطبري: ونقل عن بعض السلف التعوذ بعد القراءة مطلقا، احتجاجا بقوله تعالى: « فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم » ولا شك أن ظاهر ذلك يقتضي أن تكون الاستعاذة بعد القراءة؛ كقوله تعالى: « فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا » [ النساء: 103 ] . إلا أن غيره محتمل، مثل قوله تعالى: « وإذا قلتم فاعدلوا » [ الأنعام: 152 ] « وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب » [ الأحزاب: 53 ] وليس المراد به أن يسألها من وراء حجاب بعد سؤال متقدم. ومثله قول القائل: إذا قلت فاصدق، وإذا أحرمت فاغتسل؛ يعني قبل الإحرام. والمعنى في جميع ذلك: إذا أردت ذلك؛ فكذلك الاستعاذة. وقد تقدم هذا المعنى.

 

الآية: 99 - 100 ( إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون )

 

قوله تعالى: « إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا » أي بالإغواء والكفر، أي ليس لك قدرة على أن تحملهم على ذنب لا يغفر؛ قاله سفيان. وقال مجاهد: لا حجة له على ما يدعوهم إليه من المعاصي. وقيل: إنه ليس عليهم سلطان بحال؛ لأن الله تعالى صرف سلطانه عليهم حين قال عدو الله إبليس لعنه الله « ولأغوينهم أجمعين. إلا عبادك منهم المخلصين » [ الحجر: 39 - 40 ] قال الله تعالى: « إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين » [ الحجر: 42 ] .

قلت: قد بينا أن هذا عام يدخله التخصيص، وقد أغوى آدم وحواء عليهما السلام بسلطانه، وقد شوش على الفضلاء أوقاتهم بقوله: من خلق ربك؟ حسبما تقدم في « الأعراف » . « إنما سلطانه على الذين يتولونه » أي يطيعونه. يقال: توليته أي أطعته، وتوليت عنه، أي أعرضت عنه. « والذين هم به مشركون » أي بالله؛ قاله مجاهد والضحاك. وقيل: يرجع « به » إلى الشيطان؛ قاله الربيع بن أنس والقتيبي. والمعنى: والذين هم من أجله مشركون. يقال: كفرت بهذه الكلمة، أي من أهلها. وصار فلان بك عالما، أي من أجلك. أي والذي تولى الشيطان مشركون بالله.

 

الآيتان: 101 - 102 ( وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون، قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين )

 

قوله تعالى: « وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل » قيل: المعنى بدلنا شريعة متقدمة بشريعة مستأنفة؛ قاله ابن بحر. مجاهد: أي رفعنا آية وجعلنا موضعها غيرها. وقال الجمهور: نسخنا آية بآية أشد منها عليهم. والنسخ والتبديل رفع الشيء مع وضع عيره مكانه. « قالوا » يريد كفار قريش. « إنما أنت مفتر » أي كاذب مختلق، وذلك لما رأوا من تبديل الحكم. فقال الله: « بل أكثرهم لا يعلمون » لا يعلمون أن الله شرع الأحكام وتبديل البعض بالبعض. وقوله: « قل نزله روح القدس » يعني جبريل، نزل بالقرآن كله ناسخه ومنسوخه. وروي بإسناد صحيح عن عامر الشعبي قال: وكل إسرافيل بمحمد صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين، فكان يأتيه بالكلمة والكلمة، ثم نزل عليه جبريل بالقرآن. وفي صحيح مسلم أيضا أنه نزل عليه بسورة « الحمد » ملك لم ينزل إلى الأرض قط. كما تقدم في الفاتحة بيانه. « من ربك بالحق » أي من كلام ربك. « ليثبت الذين آمنوا » أي بما فيه من الحجج والآيات. « وهدى » أي وهو هدى « وبشرى للمسلمين » .

 

الآية: 103 ( ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين )

 

قوله تعالى: « ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر » اختلف في اسم هذا الذي قالوا إنما يعلمه؛ فقيل: هو غلام الفاكه بن المغيرة واسمه جبر، كان نصرانيا فأسلم؛ وكانوا إذا سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم ما مضى وما هو آت مع أنه أمي لم يقرأ قالوا: إنما يعلمه جبر وهو أعجمي؛ فقال الله تعالى: « لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين » أي كيف يعلمه جبر وهو أعجمي هذا الكلام الذي لا يستطيع الإنس والجن أن يعارضوا منه سورة واحدة فما فوقها. وذكر النقاش أن مولى جبر كان يضربه ويقول له: أنت تعلم محمدا، فيقول: لا والله، بل هو يعلمني ويهديني. وقال ابن إسحاق: كان النبي صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - كثيرا ما يجلس عند المروة إلى غلام نصراني يقال له جبر، عبد بني الحضرمي، وكان يقرأ الكتب، فقال المشركون: والله ما يعلم محمدا ما يأتي به إلا جبر النصراني. وقال عكرمة: اسمه يعيش عبد لبني الحضرمي، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقنه القرآن؛ ذكره المارودي. وذكر الثعلبي عن عكرمة وقتادة أنه غلام لبني المغيرة اسمه يعيش، وكان يقرأ الكتب الأعجمية، فقالت قريش: إنما يعلمه بشر، فنزلت. المهدوي عن عكرمة: هو غلام لبني عامر بن لؤي، واسمه يعيش. وقال عبدالله بن مسلم الحضرمي: كان لنا غلامان نصرانيان من أهل عين التمر، اسم أحدهما يسار واسم الآخر جبر. كذا ذكر الماوردي والقشيري والثعلبي؛ إلا أن الثعلبي قال: يقال لأحدهما نبت ويكنى أبا فكيهة، والآخر جبر، وكانا صيقلين يعملان السيوف؛ وكانا يقرأن كتابا لهم. الثعلبي: يقرأن التوراة والإنجيل. الماوردي والمهدوي: التوراة. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بهما ويسمع قراءتهما، وكان المشركون يقولون: يتعلم منهما، فأنزل الله هذه الآية وأكذبهم. وقيل: عنوا سلمان الفارسي رضي الله عنه؛ قاله الضحاك. وقيل: نصرانيا بمكة اسمه بلعام، وكان غلاما يقرأ التوراة؛ قاله ابن عباس. وقال القتبي: كان بمكة رجل نصراني يقال له أبو ميسرة يتكلم بالرومية، فربما قعد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الكفار: إنما يتعلم محمد منه، فنزلت. وفي رواية أنه عداس غلام عتبة بن ربيعة. وقيل: عابس غلام حويطب بن عبدالعزى ويسار أبو فكيهة مولى ابن الحضرمي، وكانا قد أسلما. والله أعلم

قلت: والكل محتمل؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ربما جلس إليهم في أوقات مختلفة ليعلمهم مما علمه الله، وكان ذلك بمكة. وقال النحاس: وهذه الأقوال ليست بمتناقضة؛ لأنه يجوز أن يكونوا أومأوا إلى هؤلاء جميعا، وزعموا أنهم يعلمونه.

قلت: وأما ما ذكره الضحاك من أنه سلمان ففيه بعد؛ لأن سلمان إنما أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهذه الآية مكية.

 

قوله تعالى: « لسان الذي يلحدون إليه أعجمي » الإلحاد: الميل؛ يقال: لحد وألحد، أي مال عن القصد. وقرأ حمزة « يلحدون » بفتح الياء والحاء؛ أي لسان الذي يميلون إليه ويشيرون أعجمي. والعجمة: الإخفاء وضد البيان. ورجل أعجم وامرأة عجماء، أي لا يفصح؛ ومنه عجم الذنب لاستتاره. والعجماء: البهيمة؛ لأنها لا توضح عن نفسها. وأعجمت الكتاب أي أزلت عجمته. والعرب تسمي كل من لا يعرف لغتهم ولا يتكلم بكلامهم أعجميا. وقال الفراء: الأعجم الذي في لسانه عجمة وإن كان من العرب، والأعجمي أو العجمي الذي أصله من العجم. وقال أبو علي: الأعجمي الذي لا يفصح، سواء كان من العرب أو من العجم، وكذلك الأعجم والأعجمي المنسوب إلى العجم وإن كان فصيحا. وأراد باللسان القرآن؛ لأن العرب تقول للقصيدة والبيت: لسان؛ قال الشاعر:

لسان الشر تهديها إلينا وخنت وما حسبتك أن تخونا

يعني باللسان القصيدة. « وهذا لسان عربي مبين » أي أفصح ما يكون من العربية.

 

الآية: 104 ( إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم )

 

قوله تعالى: « إن الذين لا يؤمنون بآيات الله » أي هؤلاء المشركون الذين لا يؤمنون بالقرآن. « لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم » .

 

الآية: 105 ( إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون )

 

قوله تعالى: « إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله » هذا جواب وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بالافتراء. « وأولئك هم الكاذبون » هذا مبالغة في وصفهم بالكذب؛ أي كل كذب قليل بالنسبة إلى كذبهم. ويقال: كذب فلان ولا يقال إنه كاذب؛ لأن الفعل قد يكون لازما وقد لا يكون لازما. فأما النعت فيكون لازما ولهذا يقال: عصى آدم ربه فغوى، ولا يقال: إنه عاص غاو. فإذا قيل: كذب فلان فهو كاذب، كان مبالغة في الوصف بالكذب؛ قاله القشيري.

 

الآية: 106 ( من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم )

 

قوله تعالى: « من كفر بالله » هذا متصل بقوله تعالى: « ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها » [ النحل: 91 ] فكان مبالغة في الوصف بالكذب؛ لأن معناه لا ترتدوا عن بيعة الرسول صلى الله عليه وسلم. أي من كفر من بعد إيمانه وارتد فعليه غضب الله. قال الكلبي: نزلت في عبدالله بن أبي سرح ومقيس بن ضبابة وعبدالله بن خطل، وقيس بن الوليد بن المغيرة، كفروا بعد إيمانهم. وقال الزجاج: « من كفر بالله من بعد إيمانه » بدل ممن يفتري الكذب؛ أي إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه؛ لأنه رأى الكلام إلى آخر الاستثناء غير تام فعلقه بما قبله. وقال الأخفش: « من » ابتداء وخبره محذوف، اكتفي منه بخبر « من » الثانية؛ كقولك: من يأتنا من يحسن نكرمه.

 

قوله تعالى: « إلا من أكره » هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر، في قول أهل التفسير؛ لأنه قارب بعض ما ندبوه إليه. قال ابن عباس: أخذه المشركون وأخذوا أباه وأمه سمية وصهيبا وبلالا وخبابا وسالما فعذبوهم، وربطت سمية بين بعيرين ووجئ قبلها بحربة، وقيل لها إنك أسلمت من أجل الرجال؛ فقتلت وقتل زوجها ياسر، وهما أول قتيلين في الإسلام. وأما عمار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كيف تجد قلبك ) ؟ قال: مطمئن بالإيمان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فإن عادوا فعد ) . وروى منصور بن المعتمر عن مجاهد قال: أول شهيدة في الإسلام أم عمار، قتلها أبو جهل، وأول شهيد من الرجال مهجع مولى عمر. وروى منصور أيضا عن مجاهد قال: أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وبلال، وخباب، وصهيب، وعمار، وسمية أم عمار. فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه أبو طالب، وأما أبو بكر فمنعه قومه، وأخذوا الآخرين فألبسوهم أدرع الحديد، ثم صهروهم في الشمس حتى بلغ منهم الجهد كل مبلغ من حر الحديد والشمس، فلما كان من العشي أتاهم أبو جهل ومعه حربة، فجعل يسبهم ويوبخهم، وأتى سمية فجعل يسبها ويرفث، ثم طعن فرجها حتى خرجت الحربة من فمها فقتلها؛ رضي الله عنها. قال: وقال الآخرون ما سئلوا إلا بلالا فإنه هانت عليه نفسه في الله، فجعلوا يعذبونه ويقولون له: ارجع عن دينك، وهو يقول أحد أحد؛ حتى ملوه، ثم كتفوه وجعلوا في عنقه حبلا من ليف، ودفعوه إلى صبيانهم يلعبون به بين أخشبي مكة حتى ملوه وتركوه، قال فقال عمار: كلنا تكلم بالذي قالوا - لولا أن الله تداركنا - غير بلال فإنه هانت عليه نفسه في الله، فهان على قومه حتى ملوه وتركوه. والصحيح أن أبا بكر اشترى بلالا فأعتقه. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد أن ناسا من أهل مكة آمنوا، فكتب إليهم بعض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بالمدينة: أن هاجروا إلينا، فإنا لا نراكم منا حتى تهاجروا إلينا، فخرجوا يريدون المدينة حتى أدركتهم قريش بالطريق، ففتنوهم فكفروا مكرهين، ففيهم نزلت هذه الآية. ذكر الروايتين عن مجاهد إسماعيل بن إسحاق. وروى الترمذي عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما خير عمار بين أمرين إلا اختار أرشدهما ) هذا حديث حسن غريب. وروي عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الجنة تشتاق إلى ثلاثة علي وعمار وسلمان بن ربيعة ) . قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الحسن بن صالح.

 

لما سمح الله عز وجل بالكفر به وهو أصل الشريعة عند الإكراه ولم يؤاخذ به، حمل العلماء عليه فروع الشريعة كلها، فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤاخذ به ولم يترتب عليه حكم؛ وبه جاء الأثر المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) الحديث. والخبر وإن لم يصح سنده فإن معناه صحيح باتفاق من العلماء؛ قاله القاضي أبو بكر بن العربي. وذكر أبو محمد عبدالحق أن إسناده صحيح قال: وقد ذكره أبو بكر الأصيلي في الفوائد وابن المنذر في كتاب الإقناع.

 

أجمع أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل، أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا تبين منه زوجته ولا يحكم عليه بحكم الكفر؛ هذا قول مالك والكوفيين والشافعي؛ غير محمد بن الحسن فإنه قال: إذا أظهر الشرك كان مرتدا في الظاهر، وفيما بينه وبين الله تعالى على الإسلام، وتبين منه امرأته ولا يصلى عليه إن مات، ولا يرث أباه إن مات مسلما. وهذا قول يرده الكتاب والسنة، قال الله تعالى: « إلا من أكره » الآية. وقال: « إلا أن تتقوا منهم تقاة » [ آل عمران: 28 ] وقال: « إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض » [ النساء: 97 ] الآية. وقال: « إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان » [ النساء: 98 ] الآية. فعذر الله المستضعفين الذين يمتنعون من ترك ما أمر الله به، والمكره لا يكون إلا مستضعفا غير ممتنع من فعل ما أمر به؛ قاله البخاري.

 

ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الرخصة إنما جاءت في القول، وأما في الفعل فلا رخصة فيه، مثل أن يكرهوا على السجود لغير الله أو الصلاة لغير القبلة، أو قتل مسلم أو ضربه أو أكل ماله، أو الزنى وشرب الخمر وأكل الربا؛ يروى هذا عن الحسن البصري، رضي الله عنه. وهو قول الأوزاعي وسحنون من علمائنا. وقال محمد بن الحسن: إذا قيل للأسير: اسجد لهذا الصنم وإلا قتلتك. فقال: إن كان الصنم مقابل القبلة فليسجد ويكون نيته لله تعالى، وإن كان لغير القبلة فلا يسجد وإن قتلوه. والصحيح أنه يسجد وإن كان لغير القبلة، وما أحراه بالسجود حينئذ؛ ففي الصحيح عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت « فأينما تولوا فثم وجه الله » [ البقرة: 115 ] في رواية: ويوتر عليها، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة. فإذا كان هذا مباحا في السفر في حالة الأمن لتعب النزول عن الدابة للتنفل فكيف بهذا. واحتج من قصر الرخصة على القول بقول ابن مسعود: ما من كلام يدرأ عني سوطين من ذي سلطان إلا كنت متكلما به. فقصر الرخصة على القول ولم يذكر الفعل، وهذا لا حجة فيه؛ لأنه يحتمل أن يجعل للكلام مثالا وهو يريد أن الفعل في حكمه. وقالت طائفة: الإكراه في الفعل والقول سواء إذا أسر الإيمان. روي ذلك عن عمر بن الخطاب ومكحول، وهو قول مالك وطائفة من أهل العراق. روى ابن القاسم عن مالك أن من أكره على شرب الخمر وترك الصلاة أو الإفطار في رمضان، أن الإثم عنه مرفوع.

 

أجمع العلماء على أن من أكره على قتل غيره أنه لا يجوز له الإقدام على قتله ولا انتهاك حرمته بجلد أو غيره، ويصبر على البلاء الذي نزل به، ولا يحل له أن يفدي نفسه بغيره، ويسأل الله العافية في الدنيا والآخرة.

واختلف في الزنى، فقال مطرف وأصبغ وابن عبدالحكم وابن الماجشون: لا يفعل أحد ذلك، وإن قتل لم يفعله، فإن فعله فهو آثم ويلزمه الحد؛ وبه قال أبو ثور والحسن. قال ابن العربي: الصحيح أنه يجوز الإقدام على الزنى ولا حد عليه، خلافا لمن ألزمه ذلك؛ لأنه رأى أنها شهوة خلقية لا يتصور الإكراه عليها، وغفل عن السبب في باعث الشهوة وهو الإلجاء إلى ذلك، وهو الذي أسقط حكمه، وإنما يجب الحد على شهوة بعث عليها سبب اختياري، فقاس الشيء على ضده، فلم يحل بصواب من عنده. وقال ابن خويز منداد في أحكامه: اختلف أصحابنا متى أكره الرجل على الزنى؛ فقال بعضهم: عليه الحد؛ لأنه إنما يفعل ذلك باختياره. وقال بعضهم: لا حد عليه. قال ابن خويز منداد: وهو الصحيح. وقال أبو حنيفة: إن أكرهه غير السلطان حد، وإن أكرهه السلطان فالقياس أن يحد، ولكن استحسن ألا يحد. وخالفه صاحباه فقالا: لا حد عليه في الوجهين، ولم يراعوا الانتشار، وقالوا: متى علم أنه يتخلص من القتل بفعل الزنى جاز أن ينتشر. قال ابن المنذر: لا حد عليه، ولا فرق بين السلطان في ذلك وغير السلطان.

 

اختلف العلماء في طلاق المكره وعتاقه؛ فقال الشافعي وأصحابه: لا يلزمه شيء. وذكر ابن وهب عن عمر وعلي وابن عباس أنهم كانوا لا يرون طلاقه شيئا. وذكره ابن المنذر عن ابن الزبير وابن عمر وابن عباس وعطاء وطاوس والحسن وشريح والقاسم وسالم ومالك والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور. وأجازت طائفة طلاقه؛ روي ذلك عن الشعبي والنخعي وأبي قلابة والزهري وقتادة، وهو قول الكوفيين. قال أبو حنيفة: طلاق المكره يلزم؛ لأنه لم يعدم فيه أكثر من الرضا، وليس وجوده بشرط في الطلاق كالهازل. وهذا قياس باطل؛ فإن الهازل قاصد إلى إيقاع الطلاق راض به، والمكره غير راض ولا نية له في الطلاق، وقد قال عليه السلام: ( إنما الأعمال بالنيات ) . وفي البخاري: وقال ابن عباس فيمن يكرهه اللصوص فيطلق: ليس بشيء؛ وبه قال ابن عمر وابن الزبير والشعبي والحسن. وقال الشعبي: إن أكرهه اللصوص فليس بطلاق، وإن أكرهه السلطان فهو طلاق. وفسره ابن عيينة فقال: إن اللص يقدم على قتله والسلطان لا يقتله.

 

وأما بيع المكره والمضغوط فله حالتان. الأولى: أن يبيع ماله في حق وجب عليه؛ فذلك ماض سائغ لا رجوع فيه عند الفقهاء؛ لأنه يلزمه أداء الحق إلى ربه من غير المبيع، فلما لم يفعل ذلك كان بيعه اختيارا منه فلزمه. وأما بيع المكره ظلما أو قهرا فذلك بيع لا يجوز عليه. وهو أولى بمتاعه يأخذه بلا ثمن، ويتبع المشتري بالثمن ذلك الظالم؛ فإن فات المتاع رجع بثمنه أو بقيمته بالأكثر من ذلك على الظالم إذا كان المشتري غير عالم بظلمه. قال مطرف: ومن كان من المشترين يعلم حال المكره فإنه ضامن لما ابتاع من رقيقه وعروضه كالغاصب، وكلما أحدث المبتاع في ذلك من عتق أو تدبير أو تحبيس فلا يلزم المكره، وله أخذ متاعه. قال سحنون: أجمع أصحابنا وأهل العراق على أن بيع المكره على الظلم والجور لا يجوز. وقال الأبهري : إنه إجماع.

 

وأما نكاح المكره؛ فقال سحنون: أجمع أصحابنا على إبطال نكاح المكره والمكرهة، وقالوا: لا يجوز المقام عليه، لأنه لم ينعقد. قال محمد بن سحنون: وأجاز أهل العراق نكاح المكره، وقالوا: لو أكره على أن ينكح امرأة بعشرة آلاف درهم، وصداق مثلها ألف درهم، أن النكاح جائز وتلزمه الألف ويبطل الفضل. قال محمد: فكما أبطلوا الزائد على الألف فكذلك يلزمهم إبطال النكاح بالإكراه. وقولهم خلاف السنة الثابتة في حديث خنساء بنت خذام الأنصارية، ولأمره صلى الله عليه وسلم بالاستئمار في أبضاعهن، وقد تقدم، فلا معنى لقولهم.

فان وطئها المكره على النكاح غير مكره على الوطء والرضا بالنكاح لزمه النكاح عندنا على المسمى من الصداق ودرئ عنه الحد. وإن قال: وطئتها على غير رضا مني بالنكاح فعليه الحد والصداق المسمى؛ لأنه مدع لإبطال الصداق المسمى، وتحد المرأة إن أقدمت وهي عالمة أنه مكره على النكاح. وأما المكرهة على النكاح وعلى الوطء فلا حد عليها ولها الصداق، ويحد الواطئ؛ فأعلمه. قاله سحنون.

 

إذا استكرهت المرأة على الزنى فلا حد عليها؛ لقوله « إلا من أكره » وقوله عليه السلام: ( إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) . ولقول الله تعالى: « فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم » [ النور: 33 ] يريد الفتيات. وبهذا المعنى حكم عمر في الوليدة التي استكرهها العبد فلم يحدها. والعلماء متفقون على أنه لا حد على امرأة مستكرهة. وقال مالك: إذا وجدت المرأة حاملا وليس لها زوج فقالت استكرهت فلا يقبل ذلك منها وعليها الحد، إلا أن تكون لها بينة أو جاءت تدمي على أنها أوتيت، أو ما أشبه ذلك. واحتج بحديث عمر بن الخطاب أنه قال: الرجم في كتاب الله حق على من زنى من الرجال والنساء إذا أحصن إذا قامت البينة، أو كان الحبل أو الاعتراف. قال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول.

 

واختلفوا في وجوب الصداق للمستكرهة؛ فقال عطاء والزهري: لها صداق مثلها؛ وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور. وقال الثوري: إذا أقيم الحد على الذي زنى بها بطل الصداق. وروي ذلك عن الشعبي، وبه قال أصحاب مالك وأصحاب الرأي. قال ابن المنذر: القول الأول صحيح.

 

إذا أكره الإنسان على إسلام أهله لما لم يحل أسلمها، ولم يقتل نفسه دونها ولا احتمل أذية في تخليصها. والأصل في ذلك ما خرجه البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( هاجر إبراهيم عليه السلام بسارة ودخل بها قرية فيها ملك من الملوك أو جبار من الجبابرة فأرسل إليه أن أرسل بها إلي فأرسل بها فقام إليها فقامت تتوضأ وتصلي فقالت اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك فلا تسلط علي هذا الكافر فغط حتى ركض برجله ) . ودل هذا الحديث أيضا على أن سارة لما لم يكن عليها ملامة، فكذلك لا يكون على المستكرهة ملامة، ولا حد فيما هو أكبر من الخلوة. والله أعلم.

 

وأما يمين المكره فغير لازمة عند مالك والشافعي وأبي ثور وأكثر العلماء. قال ابن الماجشون: وسواء حلف فيما هو طاعة لله أو فيما هو معصية إذ أكره على اليمين؛ وقاله أصبغ. وقال مطرف: إن أكره على اليمين فيما هو لله معصية أو ليس في فعله طاعة ولا معصية فاليمين فيه ساقطة، وإن أكره على اليمين فيما هو طاعة مثل أن يأخذ الوالي رجلا فاسقا فيكرهه أن يحلف بالطلاق لا يشرب خمرا، أولا يفسق ولا يغش في عمله، أو الولد يحلف ولده تأديبا له فإن اليمين تلزم؛ وإن كان المكره قد أخطأ فيما يكلف من ذلك. وقال به ابن حبيب. وقال أبو حنيفة ومن اتبعه من الكوفيين: إنه إن حلف ألا يفعل ففعل حنث، قالوا: لأن المكره له أن يوري في يمينه كلها، فلما لم يور ولا ذهبت نيته إلى خلاف ما أكره عليه فقد قصد إلى اليمين. احتج الأولون بأن قالوا: إذا أكره عليها فنيته مخالفة لقوله؛ لأنه كاره لما حلف عليه.

 

قال ابن العربي: ومن غريب الأمر أن علماءنا اختلفوا في الإكراه على الحنث هل يقع به أم لا؛ وهذه مسألة عراقية سرت لنا منهم، لا كانت هذه المسألة ولا كانوا! وأي فرق يا معشر أصحابنا بين الإكراه على اليمين في أنها لا تلزم وبين الحنث في أنه لا يقع! فاتقوا الله وراجعوا بصائركم، ولا تغتروا بهذه الروية فإنها وصمة في الدراية.

إذا أكره الرجل على أن يحلف وإلا أخذ له مال كأصحاب المكس وظلمة السعاة وأهل الاعتداء؛ فقال مالك: لا تقية له في ذلك، وإنما يدرأ المرء بيمينه عن بدنه لا ماله. وقال ابن الماجشون: لا يحنث وإن درأ عن ماله ولم يخف على بدنه. وقال ابن القاسم بقول مطرف، ورواه عن مالك، وقاله ابن عبدالحكم وأصبغ.

قلت: قول ابن الماجشون صحيح؛ لأن المدافعة عن المال كالمدافعة عن النفس؛ وهو قول الحسن وقتادة وسيأتي. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ) وقال: ( كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ) . وروى أبو هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجلا يريد أخذ مالي؟ قال: ( فلا تعطه مالك ) . قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: ( قاتله ) قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: ( فأنت شهيد ) قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: ( هو في النار ) خرجه مسلم. وقد مضى الكلام فيه. وقال مطرف وابن الماجشون: وإن بدر الحالف بيمينه للوالي الظالم قبل أن يسألها ليذب بها عما خاف عليه من ماله وبدنه فحلف له فإنها تلزمه. وقاله ابن عبدالحكم وأصبغ. وقال أيضا ابن الماجشون فيمن أخذه ظالم فحلف له بالطلاق البتة من غير أن يحلفه وتركه وهو كاذب، وإنما حلف خوفا من ضربه وقتله وأخذ ماله: فإن كان إنما تبرع باليمين غلبة خوف ورجاء النجاة من ظلمه فقد دخل في الإكراه ولا شيء عليه، وإن لم يحلف على رجاء النجاة فهو حانث.

 

قال المحققون من العلماء: إذا تلفظ المكره بالكفر فلا يجوز له أن يجريه على لسانه إلا مجرى المعاريض؛ فإن في المعاريض لمندوحة عن الكذب. ومتى لم يكن كذلك كان كافرا؛ لأن المعاريض لا سلطان للإكراه عليها. مثاله - أن يقال له: اكفر بالله فيقول باللاهي؛ فيزيد الياء. وكذلك إذا قيل له: أكفر بالنبي فيقول هو كافر بالنبي، مشددا وهو المكان المرتفع من الأرض. ويطلق على ما يعمل من الخوص شبه المائدة فيقصد أحدهما بقلبه ويبرأ من الكفر ويبرأ من إثمه. فإن قيل له: أكفر بالنبيء ( مهموزا ) فيقول هو كافر بالنبيء يريد بالمخبر، أي مخبر كان كطليحة ومسلمة الكذاب. أو يريد به النبيء الذي قال فيه الشاعر:

فأصبح رتما دقاق الحصى مكان النبيء من الكاثب

 

أجمع العلماء على أن من أكره على الكفر فاختار القتل أنه أعظم أجرا عند الله ممن اختار الرخصة. واختلفوا فيمن أكره على غير القتل من فعل ما لا يحل له؛ فقال أصحاب مالك: الأخذ بالشدة في ذلك واختيار القتل والضرب أفضل عند الله من الأخذ بالرخصة، ذكره ابن حبيب وسحنون. وذكر ابن سحنون عن أهل العراق أنه إذا تهدد بقتل أو قطع أو ضرب يخاف منه التلف فله أن يفعل ما أكره عليه من شرب خمر أو أكل خنزير؛ فان لم يفعل حتى قتل خفنا أن يكون آثما لأنه كالمضطر. وروى خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلت: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال: ( قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه فما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون ) . فوصفه صلى الله عليه وسلم هذا عن الأمم السالفة على جهة المدح لهم والصبر على المكروه في ذات الله، وأنهم لم يكفروا في الظاهر وتبطنوا الإيمان ليدفعوا العذاب عن أنفسهم. وهذه حجة من آثر الضرب والقتل والهوان على الرخصة والمقام بدار الجنان. وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة [ الأخدود ] [ البروج ] إن شاء الله تعالى. وذكر أبو بكر محمد بن محمد بن الفرج البغدادي قال: حدثنا شريح بن يونس عن إسماعيل بن إبراهيم عن يونس بن عبيد عن الحسن أن عيونا لمسيلمة أخذوا رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فذهبوا بهما إلى مسيلمة، فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال نعم. قال.: أتشهد أني رسول الله؟ قال نعم. فخلى عنه. وقال للآخر: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال نعم. قال: وتشهد أني رسول الله؟ قال: أنا أصم لا أسمع؛ فقدمه وضرب عنقه. فجاء هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت، قال: ( وما أهلكك ) ؟ فذكر الحديث، قال: أما صاحبك فأخذ بالثقة وأما أنت فأخذت بالرخصة على ما أنت عليه الساعة ) قال: أشهد أنك رسول الله. قال ( أنت على ما أنت عليه ) . الرخصة فيمن حلفه سلطان ظالم على نفسه أو على أن يدله على رجل أو مال رجل؛ فقال الحسن: إذا خاف عليه وعلى ماله فليحلف ولا يكفر يمينه؛ وهو قول قتادة إذا حلف على نفسه أو مال نفسه. وقد تقدم ما للعلماء في هذا.

وذكر موسى بن معاوية أن أبا سعيد بن أشرس صاحب مالك استحلفه السلطان بتونس على رجل أراد السلطان قتله أنه ما آواه، ولا يعلم له موضعا؛ قال: فحلف له ابن أشرس؛ وابن أشرس يومئذ قد علم موضعه وآواه، فحلفه بالطلاق ثلاثا، فحلف له ابن أشرس، ثم قال لامرأته: اعتزلي فاعتزلته؛ ثم ركب ابن أشرس حتى قدم على البهلول بن راشد القيروان، فأخبره بالخبر؛ فقال له البهلول: قال مالك إنك حانث. فقال ابن أشرس: وأنا سمعت مالكا يقول ذلك، وإنما أردت الرخصة أو كلام هذا معناه؛ فقال له البهلول ابن راشد: قال الحسن البصري إنه لا حنث عليك. قال: فرجع ابن أشرس إلى زوجته وأخذ بقول الحسن. وذكر عبدالملك بن حبيب قال: حدثني معبد عن المسيب بن شريك عن أبي شيبة قال: سألت أنس بن مالك عن الرجل يؤخذ بالرجل، هل ترى أن يحلف ليقيه بيمينه؟ فقال نعم؛ ولأن أحلف سبعين يمينا وأحنث أحب إلي أن أدل على مسلم. وقال إدريس بن يحيى كان الوليد بن عبدالملك يأمر جواسيس يتجسسون الخلق يأتونه بالأخبار، قال: فجلس رجل منهم في حلقة رجاء بن حيوة فسمع بعضهم يقع في الوليد، فرفع ذلك إليه فقال: يا رجاء! اذكر بالسوء في مجلسك ولم تغير! فقال: ما كان ذلك يا أمير المؤمنين؛ فقال له الوليد: قل آلله الذي لا إله إلا هو، قال: آلله الذي لا إله إلا هو، فأمر الوليد بالجاسوس فضربه سبعين سوطا، فكان يلقى رجاء فيقول: يا رجاء، بك يستقى المطر، وسبعون سوطا في ظهري! فيقول رجاء: سبعون سوطا في ظهرك خير لك من أن يقتل رجل مسلم.

 

واختلف العلماء في حد الإكراه؛ فروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ليس الرجل آمن على نفسه إذا أخفته أو أوثقته أو ضربته. وقال ابن مسعود: ما كلام يدرأ عني سوطين إلا كنت متكلما به. وقال الحسن: التقية جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة، إلا أن الله تبارك وتعالى ليس يجعل في القتل تقية. وقال النخعي: القيد إكراه، والسجن إكراه. وهذا قول مالك، إلا أنه قال: والوعيد المخوف إكراه وإن لم يقع إذا تحقق ظلم ذلك المعتدي وإنفاذه لما يتوعد به، وليس عند مالك وأصحابه في الضرب والسجن توقيت، إنما هو ما كان يؤلم من الضرب، وما كان من سجن يدخل منه الضيق على المكره. وإكراه السلطان وغيره عند مالك إكراه. وتناقض الكوفيون فلم يجعلوا السجن والقيد إكراه ما يدل على أن الإكراه يكون من غير تلف نفس. وذهب مالك إلى أن من أكره على يمين بوعيد أو سجن أو ضرب أنه يحلف، ولا حنث عليه؛ وهو قول الشافعي وأحمد وأبي ثور وأكثر العلماء.

 

ومن هذا الباب ما ثبت إن من المعاريض لمندوحة عن الكذب. وروى الأعمش عن إبراهيم النخعي أنه قال: لا بأس إذا بلغ الرجل عنك شيء أن تقول: والله، إن الله يعلم ما قلت فيك من ذلك من شيء. قال عبدالملك بن حبيب: معناه أن الله يعلم أن الذي قلت، وهو في ظاهره انتفاء من القول، ولا حنث علن من قال ذلك في يمينه ولا كذب عليه في كلامه. وقال النخعي: كان لهم كلام من ألغاز الأيمان يدرؤون به عن أنفسهم، لا يرون ذلك من الكذب ولا يخشون فيه الحنث. قال عبدالملك: وكانوا يسمون ذلك المعاريض من الكلام، إذا كان ذلك في غير مكر ولا خديعة في حق. وقال الأعمش: كان إبراهيم النخعي إذا أتاه أحد يكره الخروج إليه جلس في مسجد بيته وقال لجاريته: قولي له هو والله في المسجد. وروى مغيرة عن إبراهيم أنه كان يجيز للرجل من البعث إذا عرضوا على أميرهم أن يقول: والله ما أهتدي إلا ما سدد لي غيري، ولا أركب إلا ما حملني غيري؛ ونحو هذا من الكلام. قال عبدالملك: يعني بقوله ( غيري ) الله تعالى، هو مسدده وهو يحمله؛ فلم يكونوا يرون على الرجل في هذا حنثا في يمينه، ولا كذبا في كلامه، وكانوا يكرهون أن يقال هذا في خديعة وظلم وجحدان حق فمن اجترأ وفعل أثم في خديعته ولم تجب عليه كفارة في يمينه.

 

قوله تعالى: « ولكن من شرح بالكفر صدرا » أي وسعه لقبول الكفر، ولا يقدر أحد على ذلك إلا الله؛ فهو يرد على القدرية. و ( صدرا ) نصب على المفعول. « فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم » وهو عذاب جهنم.

 

الآيات: 107 - 109 ( ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين، أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون، لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون )

 

قوله تعالى: « ذلك » أي ذلك الغضب. « بأنهم استحبوا الحياة الدنيا » أي اختاروها على الآخرة. « وأن الله » « أن » في موضع خفض عطفا على « بأنهم » فقال: « أولئك الذين طبع الله على قلوبهم » أي عن فهم المواعظ. « وسمعهم » عن كلام الله تعالى. « وأبصارهم » عن النظر في الآيات. « وأولئك هم الغافلون » عما يراد بهم. « لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون » تقدم.

 

الآية: 110 ( ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم )

 

قوله تعالى: « ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا » هذا كله في عمار. والمعنى وصبروا على الجهاد؛ ذكره النحاس. وقال قتادة: نزلت في قوم خرجوا مهاجرين إلى المدينة بعد أن فتنهم المشركون وعذبوهم، وقد تقدم ذكرهم في هذه السورة. وقيل: نزلت في ابن أبي سرح، وكان قد ارتد ولحق بالمشركين فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله يوم فتح مكة، فاستجار بعثمان فأجاره النبي صلى الله عليه وسلم؛ ذكره النسائي عن عكرمة عن ابن عباس قال: في سورة النحل « من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره - إلى قوله - ولهم عذاب عظيم » فنسخ، واستثنى من ذلك فقال: « ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم » وهو عبدالله بن سعد بن أبي سرح الذي كان على مصر، كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأزله الشيطان فلحق بالكفار فأمر به أن يقتل يوم الفتح؛ فاستجار له عثمان بن عفان فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم. « إن ربك من بعدها لغفور رحيم » أي إن الله غفور رحيم في ذلك. أو ذكرهم:

 

الآية: 111 ( يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون )

 

قوله تعالى: « يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها » أي تخاصم وتحاج عن نفسها؛ جاء في الخبر أن كل أحد يقول يوم القيامة: نفسي نفسي! من شدة هول يوم القيمة سوى محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يسأل في أمته. وفي حديث عمر أنه قال لكعب الأحبار: يا كعب، خوّفنا هيّجنا حدّثنا نبّهنا. فقال له كعب: يا أمير المؤمنين، والذي نفسي بيده لو وافيت يوم القيامة بمثل عمل سبعين نبيا لأتت عليك تارات لا يهمك إلا نفسك، وإن لجهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي منتخب إلا وقع جاثيا على ركبتيه، حتى إن إبراهيم الخليل ليدلي بالخلة فيقول: يا رب، أنا خليلك إبراهيم، لا أسألك اليوم إلا نفسي! قال: يا كعب، أين تجد ذلك في كتاب الله؟ قال: قوله تعالى: « يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون » . وقال ابن عباس في هذه الآية: ما تزال الخصومة بالناس يوم القيامة حتى تخاصم الروح الجسد؛ فتقول الروح: رب، الروح منك أنت خلقته، لم تكن لي يد أبطش بها، ولا رجل أمشي بها، ولا عين أبصر بها، ولا أذن أسمع بها ولا عقل أعقل به، حتى جئت فدخلت في هذا الجسد، فضعف عليه أنواع العذاب ونجني؛ فيقول الجسد: رب، أنت خلقتني بيدك فكنت كالخشبة، ليس لي يد أبطش بها، ولا قدم أسعى به، ولا بصر أبصر به، ولا سمع أسمع به، فجاء هذا كشعاع النور، فبه نطق لساني، وبه أبصرت عيني، وبه مشت رجلي، وبه سمعت أذني، فضعف عليه أنواع العذاب ونجني منه. قال: فيضرب الله لهما مثلا أعمى ومقعدا دخلا بستانا فيه ثمار، فالأعمى لا يبصر الثمرة والمقعد لا ينالها، فنادى المقعد الأعمى ايتني فاحملني آكل وأطعمك، فدنا منه فحمله، فأصابوا من الثمرة؛ فعلى من يكون العذاب؟ قال: عليكما جميعا العذاب؛ ذكره الثعلبي.

 

الآية: 112 ( وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون )

 

قوله تعالى: « وضرب الله مثلا قرية » هذا متصل بذكر المشركين. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على مشركي قريش وقال: ( اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف ) . فابتلوا بالقحط حتى أكلوا العظام، ووجه إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما ففرق فيهم. « كانت آمنة » لا يهاج أهلها. « يأتيها رزقها رغدا من كل مكان » من البر والبحر؛ نظيره « يجبى إليه ثمرات كل شيء » [ القصص: 57 ] الآية. « فكفرت بأنعم الله » الأنعم: جمع النعمة؛ كالأشد جمع الشدة. وقيل: جمع نعمى؛ مثل بؤسى وأبؤس. وهذا الكفران تكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم. « فأذاقها الله » أي أذاق أهلها. « لباس الجوع والخوف » سماه لباسا لأنه يظهر عليهم من الهزال وشحوبة اللون وسوء الحال ما هو كاللباس. « بما كانوا يصنعون » أي من الكفر والمعاصي. وقرأه حفص بن غياث ونصر بن عاصم وابن أبي إسحاق والحسن وأبو عمرو فيما روى عنه عبدالوارث وعبيد وعباس « والخوف » نصبا بإيقاع أذاقها عليه، عطفا على « لباس الجوع » وأذاقها الخوف. وهو بعث النبي صلى الله عليه وسلم سراياه التي كانت تطيف بهم. وأصل الذوق بالفم ثم يستعار فيوضع موضع الابتلاء. وضرب مكة مثلا لغيرها من البلاد؛ أي أنها مع جوار بيت الله وعمارة مسجده لما كفر أهلها أصابهم القحط فكيف بغيرها من القرى. وقد قيل: إنها المدينة، آمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كفرت بأنعم الله لقتل عثمان بن عفان، وما حدث بها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفتن. وهذا قول عائشة وحفصة زوجي النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: إنه مثل مضروب بأي قرية كانت على هذه الصفة من سائر القرى.

 

الآية: 113 ( ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون )

 

قوله تعالى: « ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه » هذا يدل على أنها مكة. وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة. « فأخذهم العذاب » وهو الجوع الذي وقع بمكة. وقيل: الشدائد والجوع منها.

 

الآية: 114 ( فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون )

 

قوله تعالى: « فكلوا مما رزقكم الله » أي كلوا يا معشر المسلمين من الغنائم. وقيل: الخطاب للمشركين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليهم بطعام رقة عليهم، وذلك أنهم لما ابتلوا بالجوع سبع سنين، وقطع العرب عنهم الميرة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أكلوا العظام المحرقة والجيفة والكلاب الميتة والجلود والعلهز، وهو الوبر يعالج بالدم. ثم إن رؤساء مكة كلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جهدوا وقالوا: هذا عذاب الرجال فما بال النساء والصبيان. وقال له أبو سفيان: يا محمد، إنك جئت تأمر بصلة الرحم والعفو، وإن قومك قد هلكوا؛ فادع الله لهم. فدعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأذن للناس بحمل الطعام إليهم وهم بعد مشركون.

 

الآية: 115 ( إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم )

 

تقدم في « البقرة » القول فيها مستوفى.

 

الآيتان: 116 - 117 ( ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون، متاع قليل ولهم عذاب أليم )

 

قوله تعالى: « لما تصف » ما هنا مصدرية، أي لوصف. وقيل: اللام لام سبب وأجل، أي لا تقول لأجل وصفكم « الكذب » بنزع الخافض،، أي لما تصف ألسنتكم من الكذب. وقرئ « الكذب » بضم الكاف والذال والباء، نعتا للألسنة. وقرأ الحسن هنا خاصة « الكذب » بفتح الكاف وخفض الذال والباء، نعتا « لما » ؛ التقدير: ولا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذب. وقيل على البدل من ما؛ أي ولا تقولوا للكذب الذي تصفه ألسنتكم هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب. الآية خطاب للكفار الذين حرموا البحائر والسوائب وأحلوا ما في بطون الأنعام وإن كان ميتة. فقوله تعالى: « هذا حلال » إشارة إلى ميتة بطون الأنعام، وكل ما أحلوه. « وهذا حرام » إشارة إلى البحائر والسوائب وكل ما حرموه. « إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون، متاع قليل » أي ما هم فيه من نعيم الدنيا يزول عن قريب. وقال الزجاج: أي متاعهم متاع قليل. وقيل: لهم متاع قليل ثم يردون إلى عذاب أليم.

 

أسند الدارمي أبو محمد في مسنده أخبرنا هارون عن حفص عن الأعمش قال: ما سمعت إبراهيم قط يقول حلال ولا حرام، ولكن كان يقول: كانوا يكرهون وكانوا يستحبون. وقال ابن وهب قال مالك: لم يكن من فتيا الناس أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام، ولكن يقولوا إياكم كذا وكذا، ولم أكن لأصنع هذا. ومعنى هذا: أن التحليل والتحريم إنما هو لله عز وجل، وليس لأحد أن يقول أو يصرح بهذا في عين من الأعيان، إلا أن يكون البارئ تعالى يخبر بذلك عنه. وما يؤدي إليه الاجتهاد في أنه حرام يقول: إني أكره كذا. وكذلك كان مالك يفعل اقتداء بمن تقدم من أهل الفتوى. فإن قيل: فقد قال فيمن قال لزوجته أنت علي حرام إنها حرام ويكون ثلاثا. فالجواب أن مالكا لما سمع علي بن أبي طالب يقول إنها حرام اقتدى به. وقد يقوى الدليل على التحريم عند المجتهد فلا بأس عند ذلك أن يقول ذلك، كما يقول إن الربا حرام في غير الأعيان الستة، وكثيرا ما يطلق مالك رحمه الله؛ فذلك حرام لا يصلح في الأموال الربوية وفيما خالف المصالح وخرج عن طريق المقاصد لقوة الأدلة في ذلك.

 

الآية: 118 ( وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون )

 

قوله تعالى: « وعلى الذين هادوا » بين أن الأنعام والحرث حلال لهذه الأمة، فأما اليهود فحرمت عليهم منها أشياء. « حرمنا ما قصصنا عليك من قبل » أي في سورة الأنعام. « وما ظلمناهم » أي بتحريم ما حرمنا عليهم، ولكن ظلموا أنفسهم فحرمنا عليهم تلك الأشياء عقوبة لهم؛ كما تقدم في « النساء » .

 

الآية: 119 ( ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم )

 

قوله تعالى: « ثم إن ربك للذين عملوا السوء » أي الشرك؛ قاله ابن عباس. وقد تقدم في « النساء » .

 

الآية: 120 ( إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين )

 

قوله تعالى: « إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا » دعا عليه السلام مشركي العرب إلى ملة إبراهيم؛ إذ كان أباهم وباني البيت الذي به عزهم؛ والأمة: الرجل الجامع للخير، وقد تقدم محامله. وقال ابن وهب وابن القاسم عن مالك قال: بلغني أن عبدالله بن مسعود قال: يرحم الله معاذا! كان أمة قانتا. فقيل له: يا أبا عبدالرحمن، إنما ذكر الله عز وجل بهذا إبراهيم عليه السلام. فقال ابن مسعود: إن الأمة الذي يعلم الناس الخير، وإن القانت هو المطيع. وقد تقدم القنوت في « البقرة » و « حنيفا » في « الأنعام » .

 

الآيتان: 121 - 122 ( شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم، وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين )

 

قوله تعالى: « شاكرا » أي كان شاكرا. « لأنعمه » الأنعم جمع نعمة، وقد تقدم. « اجتباه » أي اختاره. « وهداه إلى صراط مستقيم، وآتيناه في الدنيا حسنة » قيل: الولد الطيب. وقيل الثناء الحسن. وقيل: النبوة. وقيل: الصلاة مقرونة بالصلاة على محمد عليه السلام في التشهد. وقيل: إنه ليس أهل دين إلا وهم يتولونه. وقيل: بقاء ضيافته وزيارة قبره. وكل ذلك أعطاه الله وزاده صلى الله عليه وسلم. « وإنه في الآخرة لمن الصالحين » « من » بمعنى مع، أي مع الصالحين؛ لأنه كان في الدنيا أيضا مع الصالحين. وقد تقدم.

 

الآية: 123 ( ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين )

 

قال ابن عمر: أمر باتباعه في مناسك الحج كما علم إبراهيم جبريل عليهما السلام. وقال الطبري: أمر باتباعه في التبرؤ من الأوثان والتزين بالإسلام. وقيل: أمر باتباعه في جميع ملته إلا ما أمر بتركه؛ قاله بعض أصحاب الشافعي على ما حكاه الماوردي. والصحيح الاتباع في عقائد الشرع دون الفروع؛ لقوله تعالى: « لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا » [ المائدة: 48 ] .

مسألة: في هذه الآية دليل على جواز اتباع الأفضل للمفضول - لما تقدم في الأصول - والعمل به، ولا درك على الفاضل في ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء عليهم السلام، وقد أمر بالاقتداء بهم فقال: « فبهداهم اقتده » [ الأنعام: 90 ] . وقال هنا: « ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم » .

 

الآية: 124 ( إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون )

 

قوله تعالى: « إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه » أي لم يكن في شرع إبراهيم ولا في دينه، بل كان سمحا لا تغليظ فيه، وكان السبت تغليظا على اليهود في رفض الأعمال وترك التبسيط في المعاش بسبب اختلافهم فيه، ثم جاء عيسى عليه السلام بيوم الجمعة فقال: تفرغوا للعبادة في كل سبعة أيام يوما واحدا. فقالوا: لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا، فاختاروا الأحد. وقد اختلف العلماء في كيفية ما وقع لهم من الاختلاف؛ فقالت طائفة: إن موسى عليه السلام أمرهم بيوم الجمعة وعينه لهم، وأخبرهم بفضيلته على غيره، فناظروه أن السبت أفضل؛ فقال الله له: ( دعهم وما اختاروا لأنفسهم ) . وقيل: إن الله تعالى لم يعينه لهم، وإنما أمرهم بتعظيم يوم في الجمعة فاختلف اجتهادهم في تعيينه، فعينت اليهود السبت؛ لأن الله تعالى فرغ فيه من الخلق. وعينت النصارى يوم الأحد؛ لأن الله تعالى بدأ فيه بالخلق. فألزم كل منهم ما أداه إليه اجتهاده. وعين الله لهذه الأمة يوم الجمعة من غير أن يكلهم إلى اجتهادهم فضلا منه ونعمة، فكانت خير الأمم أمة. روى الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ونحن أول من يدخل الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فاختلفوا فيه فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له - قال يوم الجمعة - فاليوم لنا وغدا لليهود وبعد غد للنصارى ) فقوله: ( فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه ) يقوي قول من قال: إنه لم يعين لهم؛ فإنه لو عين لهم وعاندوا لما قيل ( اختلفوا ) . وإنما كان ينبغي أن يقال فخالفوا فيه وعاندوا. ومما يقويه أيضا قوله عليه السلام: ( أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا ) . وهذا نص في المعنى. وقد جاء في بعض طرقه ( فهذا يومهم الذي فرض الله عليهم اختلفوا فيه ) . وهو حجة للقول الأول. وقد روي: ( إن الله كتب الجمعة على من كان قبلنا فاختلفوا فيه وهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع ) .

 

قوله تعالى: « على الذين اختلفوا فيه » يريد في يوم الجمعة كما بيناه؛ اختلفوا على نبيهم موسى وعيسى. ووجه الاتصال بما قبله أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر باتباع الحق، وحذر الله الأمة من الاختلاف عليه فيشدد عليهم كما شدد على اليهود.

 

الآية: 125 ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين )

 

هذه الآية نزلت بمكة في وقت الأمر بمهادنة قريش، وأمره أن يدعو إلى دين الله وشرعه بتلطف ولين دون مخاشنة وتعنيف، وهكذا ينبغي أن يوعظ المسلمون إلى يوم القيامة 0 فهي محكمة في جهة العصاة من الموحدين، ومنسوخة بالقتال في حق الكافرين. وقد قيل: إن من أمكنت معه هذه الأحوال من الكفار ورجي إيمانه بها دون قتال فهي فيه محكمة. والله أعلم.

 

الآية: 126 ( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين )

 

أطبق جمهور أهل التفسير أن هذه الآية مدنية، نزلت في شأن التمثيل بحمزة في يوم أحد، ووقع ذلك في صحيح البخاري وفي كتاب السير. وذهب النحاس إلى أنها مكية، والمعنى متصل بما قبلها من المكي اتصالا حسنا؛ لأنها تتدرج الرتب من الذي يُدعى ويُوعظ، إلى الذي يجادل، إلى الذي يجازى على فعله. ولكن ما روى الجمهور أثبت. روى الدارقطني عن ابن عباس قال: لما انصرف المشركون عن قتلى أحد انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى منظرا ساءه رأى حمزة قد شُق بطنه، واصطلم أنفه، وجدعت أذناه، فقال: ( لولا أن يحزن النساء أو تكون سنة بعدي لتركته حتى يبعثه الله من بطون السباع والطير لأمثلن مكانه بسبعين رجلا ) ثم دعا ببردة وغطى بها وجهه، فخرجت رجلاه فغطى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه وجعل على رجليه من الإذخر، ثم قدمه فكبر عليه عشرا، ثم جعل يجاء بالرجل فيوضع وحمزة مكانه، حتى صلى عليه سبعين صلاة، وكان القتلى سبعين، فلما دفنوا وفرغ منهم نزلت هذه الآية: « ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة - إلى قوله - وأصبر وما صبرك إلا بالله » فصبر. رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يمثل بأحد. خرجه إسماعيل بن إسحاق من حديث أبي هريرة، وحديث ابن عباس أكمل. وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: إنما نزلت هذه الآية فيمن أصيب بظلامة ألا ينال من ظالمه إذا تمكن إلا مثل ظلامته لا يتعداه إلى غيره. وحكاه الماوردي عن ابن سيرين ومجاهد.

 

واختلف أهل العلم فيمن ظلمه رجل في أخذ مال ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال، هل يجوز له خيانته في القدر الذي ظلمه؛ فقالت فرقة: له ذلك؛ منهم ابن سيرين وإبراهيم النخعي وسفيان ومجاهد؛ واحتجت بهذه الآية وعموم لفظها. وقال مالك وفرقة معه: لا يجوز له ذلك؛ واحتجوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ) . رواه الدارقطني. ووقع في مسند ابن إسحاق أن هذا الحديث إنما ورد في رجل زنى بامرأة آخر، ثم تمكن الآخر من زوجة الثاني بأن تركها عنده وسافر؛ فاستشار ذلك الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمر فقال له: ( أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ) . وعلى هذا يتقوى قول مالك في أمر المال؛ لأن الخيانة لاحقة في ذلك، وهي رذيلة لا انفكاك عنها، فينبغي أن يتجنبها لنفسه؛ فإن تمكن من الانتصاف من مال لم يأتمنه عليه فيشبه أن ذلك جائز وكأن الله حكم له؛ كما لو تمكن الأخذ بالحكم من الحاكم. وقد قيل: إن هذه الآية منسوخة، نسختها « واصبر وما صبرك إلا بالله » .

 

في هذه الآية دليل على جواز التماثل في القصاص؛ فمن قتل بحديدة قتل بها. ومن قتل بحجر قتل به، ولا يتعدى قدر الواجب، وقد تقدم.

 

سمى الله تعالى الإذايات في هذه الآية عقوبة، والعقوبة حقيقة إنما هي الثانية، وإنما فعل ذلك ليستوي اللفظان وتتناسب ديباجة القول، وهذا بعكس قوله: « ومكروا ومكر الله » [ آل عمران: 54 ] وقوله: « الله يستهزئ بهم » [ البقرة: 15 ] فإن الثاني هنا هو المجاز والأول هو الحقيقة؛ قاله ابن عطية.

 

الآيتان: 127 - 128 ( واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون، إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون )

 

قال ابن زيد: هي منسوخة بالقتال. وجمهور الناس على أنها محكمة. أي اصبر بالعفو عن المعاقبة بمثل ما عاقبوا في المثلة. « ولا تحزن عليهم » أي على قتلى أحد فإنهم صاروا إلى رحمة الله. « ولا تكن في ضيق » ضيق جمع ضيقة؛ قال الشاعر:

كشف الضيقة عنا وفسح

وقراءة الجمهور بفتح الضاد. وقرأ ابن كثير بكسر الضاد، ورويت عن نافع، وهو غلظ ممن رواه. قال بعض اللغويين: الكسر والفتح في الضاد لغتان في المصدر. قال الأخفش: الضيق والضيق مصدر ضاق يضيق. والمعنى: لا يضيق صدرك من كفرهم. وقال الفراء: الضيق ما ضاف عنه صدرك، والضيق ما يكون في الذي يتسع ويضيق؛ مثل الدار والثواب. وقال ابن السكيت: هما سواء؛ يقال: في صدره ضيق وضيق. القتبي: ضيق مخفف ضيق؛ أي لا تكن في أمر ضيق فخفف؛ مثل هين وهين. وقال ابن عرفة: يقال ضاق الرجل إذا بخل، وأضاق إذا افتقر. وقوله: « إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون » أي الفواحش والكبائر بالنصر والمعونة والفضل والبر والتأييد. وتقدم معنى الإحسان. وقيل لهَرم بن حِبان عند موته: أوصنا؛ فقال: أوصيكم بآيات الله وآخر سورة النحل « ادع إلى سبيل ربك » إلى آخرها.