الجزء السادس عشر

 

 

الآيات: 75 - 76 ( قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا، قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا )

 

قوله تعالى: « قال » الخضر. « ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا » أي إنك يا موسى لا تطيق أن تصبر على ما تراه من علمي؛ لأن الظواهر التي هي علمك لا تعطيه، وكيف تصبر على ما تراه خطأ ولم تخبر بوجه الحكمة فيه، ولا طريق الصواب.

 

قوله تعالى: « قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني » شرط وهو لازم، والمسلمون عند شروطهم، وأحق الشروط أن يوفى به ما التزمه الأنبياء، والتزم للأنبياء. « فلا تصاحبني » كذا قرأ الجمهور؛ أي تتابعني. وقرأ الأعرج « تصحبني » بفتح التاء والباء وتشديد النون وقرئ « تصحبني » أي تتبعني وقرأ يعقوب « تصحبني » بضم التاء وكسر الحاء؛ ورواها سهل عن أبي عمرو؛ قال الكسائي: معناه فلا تتركني أصحبك.

 

قوله تعالى: « قد بلغت من لدني عذرا » يدل على قيام الاعتذار بالمرة الواحدة مطلقا، وقيام الحجة من المرة الثانية بالقطع؛ قاله ابن العربي. ابن عطية: ويشبه أن تكون هذه القصة أيضا أصلا للآجال في الأحكام التي هي ثلاثة، وأيام المتلوم ثلاثة؛ فتأمله.

« قد بلغت من لدن عذرا » أي بلغت مبلغا تعذر به في ترك مصاحبتي، وقرأ الجمهور: « من لدني » بضم الدال، إلا أن نافعا وعاصما خففا النون « لدن » اتصلت بها ياء المتكلم التي في غلامي وفرسي، وكسر ما قبل الياء كما كسر في هذه. وقرأ أبو بكر عن عاصم « لَدْني » بفتح اللام وسكون الدال وتخفيف النون وروي عن عاصم « لدني » بضم اللام وسكون الدال؛ قال ابن مجاهد: وهي غلط؛ قال أبو علي: هذا التغليط يشبه أن يكون من جهة الرواية، فأما على قياس العربية فهي صحيحة وقرأ الجمهور « عذر » وقرأ عيسى « عذرا » بضم الذال وحكى الداني أن أبيا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم « عذري » بكسر الراء وياء بعدها.

مسألة: أسند الطبري قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا لأحد بدأ بنفسه، فقال يوما: رحمة الله علينا وعلى موسى لو صبر على صاحبه لرأى العجب ولكنه قال « فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا » ) والذي في صحيح مسلم قال رسو ل الله صلى الله عليه وسلم: ( رحمة الله علينا وعلى موسى لولا أنه عجل لرأى العجب ولكنه أخذته من صاحبه ذمامة ولو صبر لرأى العجب ) قال: وكان إذا ذكر أحدا من الأنبياء بدأ بنفسه: ( رحمة الله علينا وعلى أخي كذا ) وفي البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يرحم الله موسى لوددنا أنه صبر حتى يقص علينا أمرهما ) الذمامة بالذال المعجمة المفتوحة، وهو بمعنى المذمة بفتح الذال وكسرها، وهي الرقة والعار من تلك الحرمة: يقال أخذتني منك مذمة ومذمة وذمامة وكأنه استحيا من تكرار مخالفته، ومما صدر عنه من تغليظ الإنكار.

 

الآية: 77 ( فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا )

 

قوله تعالى: « فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما » في صحيح مسلم عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم: لئاما؛ فطافا في المجالس فـ « استطعما أهلها فأبوا أن يضيقوهما فوجدا فيها جدار يريد أن ينقض » يقول: مائل قال: « فأقامه » الخضر بيده قال له موسى: قوم أتيناهم فلم يضيفونا، ولم يطعمونا « لو شئت لاتخذت عليه أجرا، قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطيع عليه صبرا » قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يرحم الله موسى لوددت أنه كان صبر حتى يقص علينا من أخبارهما ) . واختلف العلماء في القرية فقيل: هي أبلة؛ قال قتادة، وكذلك قال محمد بن سيرين، وهى أبخل قرية وأبعدها من السماء وقيل: أنطاكية وقيل: بجزيرة الأندلس؛ روي ذلك عن أبي هريرة وغيره، ويذكر أنها الجزيرة الخضراء وقالت فرقة: هي باجروان وهي بناحية أذربيجان وحكى السهيلي وقال: إنها برقة الثعلبي: هي قرية من قرى الروم يقال لها ناصرة، وإليها تنسب النصارى؛ وهذا كله بحسب الخلاف في أي ناحية من الأرض كانت قصة موسى والله أعلم بحقيقة ذلك.

كان موسى عليه السلام حين سقى لبنتي شعيب أحوج منه حين أتى القرية مع الخضر؛ ولم يسأل قوتا بل سقى ابتداء، وفي القرية سألا القوات؛ وفي ذلك للعلماء انفصالات كثيرة؛ منها أن موسى كان في حديث مدين منفردا وفي قصة الخضر تبعا لغيره.

قلت: وعلى هذا المعنى يتمشى قوله في أول الآية لفتاه « آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا » فأصابه الجوع مراعاة لصاحبه يوشع؛ والله أعلم.

وقيل: لما كان هذا سفر تأديب وكل إلى تكلف المشقة، وكان ذلك سفر هجرة فوكل إلى العون والنصرة بالقوت.

 

في هذه الآية دليل على سؤال القوت، وأن من جاع وجب عليه أن يطلب ما يرد جوعه خلافا لجهال المتصوفة والاستطعام سؤال الطعام، والمراد به هنا سؤال الضيافة. بدليل قوله: « فأبوا أن يضيفوهما » فاستحق أهل القرية لذلك أن يذموا، وينسبوا إلى اللؤم والبخل، كما وصفهم بذلك نبينا عليه الصلاة والسلام قال قتادة في هذه الآية: شر القرى التي لا تضيف الضيف ولا تعرف لابن السبيل حقه. ويظهر من ذلك أن الضيافة كانت عليهم واجبة، وأن الخضر وموسى إنما سألا ما وجب لهما من الضيافة، وهذا هو الأليق بحال الأنبياء، ومنصب الفضلاء والأولياء وقد تقدم القول في الضيافة في « هود » والحمد لله.

ويعفو الله عن الحريري حيث استخف في هذه الآية وتمجن، وأتى بخطل من القول وزل؛ فاستدل بها على الكدية والإلحاح فيها، وأن ذلك ليس بمعيب على فاعله، ولا منقصة عليه؛ فقال:

وإن رددت فما في الرد منقصة عليك قد رد موسى قبل والخضر

قلت: وهذا لعب بالدين، وانسلال عن احترام النبيين، وهي شنشنة أدبية، وهفوة سخافية؛ ويرحم الله السلف الصالح، فلقد بالغوا في وصية كل ذي عقل راجح، فقالوا: مهما كنت لاعبا بشيء فإياك أن تلعب بدينك.

 

قوله تعالى: « فوجدا فيها جدارا » الجدار والجدر بمعنى واحد؛ وفي الخبر: ( حتى يبلغ الماء الجدر ) . ومكان جدير بُني حواليه جدار، وأصله الرفع وأجدرت الشجرة طلعت؛ ومنه الجدري.

 

قوله تعالى: « يريد أن ينقض » أي قرب أن يسقط، وهذا مجاز وتوسع وقد فسره في الحديث بقوله: ( مائل ) فكان فيه دليل على وجود المجاز في القرآن، وهو مذهب الجمهور. وجميع الأفعال التي حقها أن تكون للحي الناطق متى أسندت إلى جماد أو بهيمة فإنما هي استعارة، أي لو كان مكانهما إنسان لكان متمثلا لذلك الفعل، هذا كلام العرب وأشعارها كثير؛ فمن ذلك قول الأعشى:

أتنتهون ولا ينهي ذوي شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل

فأضاف النهي إلى الطعن. ومن ذلك قول الآخر:

يريد الرمح صدر أبي براء ويرغب عن دماء بني عقيل

وقال آخر:

إن دهرا يلف شملي بجمل لزمان يهم بالإحسان

وقال آخر:

في مهمه فلقت به هاماتها فلق الفؤس إذا أردن نصولا

أي ثبوتا في الأرض؛ من قولهم: نصل السيف إذا ثبت في الرمية؛ فشبه وقع السيوف على رؤوسهم بوقع الفؤوس في الأرض فإن الفأس يقع فيها ويثبت لا يكاد يخرج. وقال حسان بن ثابت:

لو أن اللوم ي نسب كان عبدا قبيح الوجه أعور من ثقيف

وقال عنترة:

فازور من وقع القنا بلبانه وشكا إلي بعبرة وتحمحم

وقد فسر هذا المعنى بقوله:

لو كان يدري ما المحاورة اشتكى

وهذا في هذا المعنى كثير جدا ومنه قول الناس: إن داري تنظر إلى دار فلان وفي الحديث: ( اشتكت النار إلى ربها ) وذهب قوم إلى منع المجاز في القرآن، منهم أبو إسحاق الإسفرايني وأبو بكر محمد بن داود الأصبهاني وغيرهما، فإن كلام الله عز وجل وكلام رسوله حمله على الحقيقة أولى بذي الفضل والدين؛ لأنه الحق كما أخبر الله تعالى في كتابه،

ومما احتجوا به أن قالوا: لو خاطبنا الله تعالى بالمجاز لزم وصفه بأنه متجوز أيضا، فإن العدول عن الحقيقة إلى المجاز يقتضي العجز عن الحقيقة، وهو على الله تعالى محال؛ قال الله تعالى: « يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون » [ النور: 24 ] وقال تعالى: « وتقول هل من مزيد » [ ق: 30 ] وقال تعالى: « إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا » [ الفرقان: 12 ] وقال تعالى: « تدعو من أدبر وتولى » [ المعارج: 17 ] و ( اشتكت النار إلى ربها ) ( واحتجت النار والجنة ) وما كان مثلها حقيقة، وأن خالقها الذي أنطق كل شيء أنطقها. وفي صحيح مسلم من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ( فيختم على فيه ويقال لفخذه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه ) . هذا في الآخرة.

وأما في الدنيا؛ ففي الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنسان وحتى تكلم الرجل عذبه سوطه وشراك نعله وتخبره فخذه بما أحدث أهله من بعده ) قال أبو عيسى: وفي الباب عن أبي هريرة، وهذا حديث حسن غريب.

 

قوله تعالى: « فأقامه » قيل: هدمه ثم قعد يبنيه. « قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا » فقال موسى للخضر: « قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا » لأنه فعل يستحق أجرا، وذكر أبو بكر الأنباري عن ابن عباس عن أبي بكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ « فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فهدمه ثم قعد يبنيه » قال أبو بكر: وهذا الحديث إن صح سنده فهو جار من الرسول عليه الصلاة والسلام مجرى التفسير للقرآن، وأن بعض الناقلين أدخل تفسير قرآن في موضع فسرى أن ذلك قرآن نقص من مصحف عثمان؛ على ما قاله بعض الطاعنين، وقال سعيد بن جبير: مسحه بيده وأقامه فقام، وهذا القول هو الصحيح، وهو الأشبه بأفعال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بل والأولياء، وفي بعض الأخبار: إن سمك ذلك الحائط كان ثلاثين ذراعا بذراع ذلك القرن، وطوله على وجه الأرض خمسمائة ذراع، وعرضه خمسون ذراعا، فأقامه الخضر عليه السلام أي سواه بيده فاستقام؛ قال الثعلبي في كتاب العرايس: فقال موسى للخضر « لو شئت لاتخذت عليه أجرا » أي طعاما تأكله؛ ففي هذا دليل على كرامات الأولياء، وكذلك ما وصف من أحوال الخضر عليه السلام في هذا الباب كلها أمور خارقة للعادة؛ هذا إذا تنزلنا على أنه ولي لا نبي. وقوله تعالى: « وما فعلته عن أمري » [ الكهف: 82 ] يدل علي نبوته وأنه يوحى إليه بالتكليف والأحكام، كما أوحى للأنبياء عليهم الصلاة والسلام غير أنه ليس برسول؛ والله أعلم.

واجب على الإنسان ألا يتعرض للجلوس تحث جدار مائل يخاف سقوطه، بل يسرع في المشي إذا كان مارا عليه؛ لأن في حديث النبي عليه الصلاة والسلام ( إذا مر أحدكم بطربال مائل فليسرع المشي ) . قال أبو عبيد القاسم بن سلام: كان أبو عبيدة يقول: الطربال شبيه بالمنظرة من مناظر العجم كهيئة الصومعة؛ والبناء المرتفع؛ قال جرير:

ألوى بها شذب العروق مشذب فكأنما وكنت على طربال

يقال منه: وكَنَ يكِنُ إذا جلس، وفي الصحاح: الطربال القطعة العالية من الجدار، والصخرة العظيمة المشرفة من الجبل، وطرابيل الشام صوامعها. ويقال: طربل بوله إذا مده إلى فوق.

كرامات الأولياء ثابتة، على ما دلت عليه الأخبار الثابتة، والآيات المتواترة، ولا ينكرها إلا المبتدع الجاحد، أو الفاسق الحائد؛ فالآيات ما أخبر الله تعالى في حق مريم من ظهور الفواكه الشتوية في الصيف، والصيفية في الشتاء - على ما تقدم - وما ظهر على يدها حيث أمرت النخلة وكانت يابسة فأثمرت، وهي ليست بنبية؛ على الخلاف ويدل عليها ما ظهر على يد الخضر عليه السلام من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار. قال بعض العلماء: ولا يجوز أن يقال كان نبيا؛ لأن إثبات النبوة لا يجوز بأخبار الآحاد، لا سيما وقد روي من طريق التواتر - من غير أن يحتمل تأويلا - بإجماع الأمة قوله عليه الصلاة والسلام: ( لا نبي بعدي ) وقال تعالى: « وخاتم النبيين » [ الأحزاب: 40 ] والخضر وإلياس جميعا باقيان مع هذه الكرامة، فوجب أن يكونا غير نبيين، لأنهما لو كانا نبيين لوجب أن يكون بعد نبينا عليه الصلاة والسلام نبي، إلا ما قامت الدلالة في حديث عيسى أنه ينزل بعده.

قلت: الخضر كان نبيا على ما تقدم وليس بعد نبينا عليه الصلاة والسلام نبي، أي يدعي النبوة بعده أبدا الله أعلم 0

 

اختلف الناس هل يجوز أن يعلم الولي أنه ولي أم لا؟ على قولين: [ أحدهما ] أنه لا يجوز؛ وأن ما يظهر على يديه يجب أ ن يلاحظه بعين خوف المكر، لأنه لا يأمن أن يكون مكرا واستدراجا له؛ وقد حكي عن السري أنه كان يقول: لو أن رجلا دخل بستانا فكلمه من رأس كل شجرة طير بلسان فصيح: السلام عليك يا ولي الله فلو لم يخف أن يكون ذلك مكرا لكان ممكورا به؛ ولأنه لو علم أنه ولي لزال عنه الخوف، وحصل له الأمن. ومن شرط الولي أن يستديم الخوف إلى أن تتنزل عليه الملائكة، كما قال عز وجل: « تنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا » [ فصلت: 30 ] ولأن الولي من كان مختوما له بالسعادة، والعواقب مستورة ولا يدري أحد ما يختم له به؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ( إنما الأعمال بالخواتيم ) . [ القول الثاني ] أنه يجوز للولي أن يعلم أنه ولي؛ ألا ترى أن النبي عليه الصلاة والسلام يجوز أن يعلم أنه ولي، ولا خلاف أنه يجوز لغيره أن يعلم أنه ولي الله تعالى، فجاز أن يعلم ذلك. وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام من حال العشرة من أصحابه أنهم من أهل الجنة، ثم لم يكن في ذلك زوال خوفهم، بل كانوا أكثر تعظيما لله سبحانه وتعالى، وأشد خوفا وهيبة؛ فإذا جاز للعشرة ذلك ولم يخرجهم عن الخوف فكذلك غيرهم. وكان الشبلي يقول: أنا أمان هذا الجانب؛ فلما مات ودفن عبر الديلم دجلة ذلك اليوم، واستولوا على بغداد، ويقول الناس: مصيبتان موت الشبلي وعبور الديلم. ولا يقال: إنه يحتمل أن يكون ذلك استدراجا لأنه لو جاز ذلك لجاز ألا يعرف النبي أنه نبي وولي الله، لجواز أن يكون ذلك استدراجا، فلما لم يجز ذلك لأن فيه إبطال المعجزات لم يجز هذا، لأن فيه إبطال الكرامات. وما روي من ظهور الكرامات على يدي بلعام وانسلاخه عن الدين بعدها لقوله: « فانسلخ منها... » [ الأعراف: 175 ] فليس في الآية أنه كان وليا ثم انسلخت عنه الولاية. وما نقل أنه ظهر على يديه ما يجري مجرى الكرامات هو أخبار آحاد لا توجب العلم؛ والله أعلم.

والفرق بين المعجزة والكرامة أن الكرامة من شرطها الاستتار، والمعجزة من شرطها الإظهار. وقيل: الكرامة ما تظهر من غير دعوى والمعجزة ما تظهر عند دعوى الأنبياء فيطالبون بالبرهان فيظهر أثر ذلك. وقد تقدم في مقدمة الكتاب شرائط المعجزة، والحمد لله تعالى وحده لا شريك له. وأما الأحاديث الواردة في الدلالة على ثبوت الكرامات، فمن ذلك ما خرجه البخاري من حديث أبي هريرة قال: بعث وسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة رهط سرية وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهدأة وهي بين عسفان ومكة ذكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان فنفروا إليهم قريبا من مائتي راجل كلهم رام، فاقتصوا أثارهم حتى وجدوا مأكلهم تمرا تزودوه من المدينة، فقالوا هذا تمر يثرب؛ فاقتصوا آثارهم، فلما رآهم عاصم وأصحابه لجؤوا إلى فدفد وأحاط بهم القوم، فقالوا لهم: انزلوا فأعطونا أيديكم ولكم العهد والميثاق ألا نقتل منكم أحدا؛ فقال عاصم بن ثابت أمير السرية: أما فوالله لا أنزل اليوم في ذمة الكافر، اللهم أخبر عنا نبيك، فرموا بالنبل فقتلوا عاصما في سبعة، فنزل إليهم ثلاثة رهط بالعهد والميثاق، وهم خبيب الأنصاري وابن الدثنة ورجل آخرا، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فأوثقوهم، فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر والله لا أصحبكم؛ إن لي في هؤلاء لأسوة - يريد القتلى - فجرروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه؛ فانطلقوا بخيب وابن الدثنة حتى باعوهما بمكة بعد وقعة بدر، فابتاع خبيبا بنو الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، وكان خبيب هو الذي قتل الحرث بن عامر يوم بدر، فلبث خبيب عندهم أسيرا؛ فأخبر عبيدالله بن عياض أن بنت الحرث أخبرته أنهم حين اجتمعوا استعار منها موسى يستحد بها فأعارته، فأخذ ابن لي وأنا غافلة حتى أتاه، قالت: فوجدته مجلسه على فخذه والموسى بيده، ففزعت فزعة عرفها خبيب في وجهي؛ فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك. قالت: والله ما رأيت أسيرا قط خيرا من خيب؛ والله لقد وجدته يوما يأكل قطف عنب في يده، وإنه لموثق بالحديد وما بمكة من ثمر؛ وكانت تقول: إنه لرزق رزقه الله تعالى خبيبا؛ فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحل قال لهم خبيث: دعوني أركع ركعتين؛ فتركوه فركع ركعتين ثم قال: لولا أن تظنوا أن ما بي جزع من الموت لزدت؛ ثم قال: اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تبق منهم أحدا؛ ثم قال:

ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي شق كان لله مصرعي

وذلك في ذات إلاله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع

فقتله بنو الحرث، وكان خبيب هو الذي سن الركعتين لكل امرئ مسلم قتل صبرا؛ فاستجاب الله تعالى لعاصم يوم أصيب؛ فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه خبرهم وما أصيبوا. وبعث ناس من كفار قريش إلى عاصم حين حدثوا أنه قتل ليؤتوا بشيء منه يعرفونه، وكان قد قتل رجلا من عظمائهم يوم بدر؛ فبعث الله على عاصم مثل الظلة من الدبر فحمته من رسلهم، فلم يقدروا على أن يقطعوا من لحمه شيئا. وقال ابن إسحاق في هذه القصة: وقد كانت هذيل حين قتل عاصم بن ثابت أرادوا رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد، وقد كانت نذرت حين أصاب ابنيها بأحد لئن قدرت على رأسه لتشربن في قحفه الخمر فمنعهم الدبر، فلما حالت بينه وبينهم قالوا: دعوه حتى يمسي فتذهب عنه فنأخذه، فبعث الله تعالى الوادي فاحتمل عاصما فذهب، وقد كان عاصم أعطى الله تعالى عهدا ألا يمس مشركا ولا يمسه مشرك أبدا في حياته، فمنعه الله تعالى بعد وفاته مما امتنع منه في حياته. وعن عمرو بن أمية الضمري: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه عينا وحده فقال: جئت إلى خشبة خبيب فرقيت فيها وأنا أتخوف العيون فأطلقته، فوقع في الأرض، ثم اقتحمت فانتبذت قليلا، ثم ألتفت فكأنما ابتلعته الأرض. وفي رواية أخرى زيادة: فلم نذكر لخبيب رمة حتى الساعة؛ ذكره البيهقي.

ولا ينكر أن يكون للولي مال وضيعة يصون بها ماله وعياله، وحسبك بالصحابة وأموالهم مع ولايتهم وفضلهم، وهم الحجة على غيرهم. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( بينما رجل بفلاة من أرض فسمع صوتا في سحابة اسق حديقة فلان فتنحى ذلك السحاب فافرغ ماءه في حرة فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته فقال يا عبدالله ما أسمك قال فلان الاسم الذي سمعه في السحابة فقال له يا عبدالله لم سألتني عن اسمي قال إني سمعت صوتا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول اسق حديقة فلان لاسمك فما فيها قال أما إذ قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه وآكل أنا وعيالي وأرد فيها ثلثه ) وفي رواية ( وأجعل ثلثه في المساكين والسائلين وابن السبيل ) .

قلت: وهذا الحديث لا يناقضه قوله عليه الصلاة والسلام: ( لا تتخذوا الضيعة فتركنوا إلى الدنيا ) خرجه الترمذي من حديث ابن مسعود وقال فيه حديث حسن؛ فإنه محمول على من اتخذها مستكثرا أو متنعما ومتمتعا بزهرتها، وأما من اتخذها معاشا يصون بها دينه وعياله فاتخاذها بهذه النية من أفضل الأعمال، وهي من أفضل الأموال؛ قال عليه الصلاة والسلام: ( نعم المال الصالح للرجل الصالح ) ، قد أكثر الناس في كرامات الأولياء وما ذكرناه فيه كفاية؛ والله الموفق للهداية.

قوله تعالى: « لاتخذت عليه أجرا » فيه دليل على صحة جواز الإجارة، وهى سنة الأنبياء والأولياء على ما يأتي بيانه في سورة « القصص » إن شاء الله تعالى. وقرأ الجمهور « لاتخذت » وأبو عمرو « لتخذت » وهي قراءة ابن مسعود والحسن وقتادة، وهما لغتان بمعنى واحد من الأخذ، مثل قولك: تبع واتبع، وتقى واتقى وأدغم بعض القراء الذال في التاء، ولم يدغمها بعضهم وفي حديث أبي بن كعب: ( لو شئت لأوتيت أجرا ) وهذه صدرت من موسى سؤالا على جهة العرض لا الاعتراض.

 

الآية: 78 ( قال هذا فراق بيني وبينك، سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا )

 

قوله تعالى: « قال هذا فراق بيني وبينك » فعند ذلك قال له الخضر « هذا فراق بيني وبينك » بحكم ما شرطت على نفسك. وتكريره « بيني وبينك » وعدوله عن بيننا لمعنى التأكيد. قال سيبويه: كما يقال أخزى الله الكاذب مني ومنك؛ أي منا. وقال ابن عباس: وكان قول موسى في السفينة والغلام لله، وكان قوله في الجدار لنقسه لطلب شيء من الدنيا، فكان سبب الفراق. وقال وهب بن منبه: كان ذلك الجدار جدارا طوله في السماء مائة ذراع.

 

قوله تعالى: « سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا » تأويل الشيء مآله أي قال له: إني أخبرك لم فعلت ما فعلت. وقيل في تفسير هذه الآيات التي وقعت لموسى مع الخضر: إنها حجة على موسى وعجبا له وذلك أنه لما أنكر أمر خرق السفينة نودي: يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت في التابوت مطروحا في اليم فلما أنكر أمر الغلام قيل له: أين إنكارك هذا من وكزك القبطي وقضائك عليه فلما أنكر إقامة الجدار نودي: أين هذا من رفعك حجر البئر لبنات شعيب دون أجر.

 

الآية: 79 ( أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا )

 

قوله تعالى: « أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر » استدل بهذا من قال: إن المسكين أحسن حالا من الفقير، وقد مضى هذا المعنى مستوفى من سورة « براءة » . وقد وقيل: إنهم كانوا تجارا ولكن من حيث هم مسافرون عن قلة في لجة بحر، وبحال ضعف عن مدافعة خطب عبر عنهم بمساكين؛ إذ هم في حالة يشفق عليهم بسببها، وهذا كما تقول لرجل غني وقع في وهلة أو خطب: مسكين. وقال كعب وغيره: كانت لعشرة إخوة من المساكين ورثوها من أبيهم خمسة زمنى، وخمسة يعملون في البحر. وقيل: كانوا سبعة لكل واحد منهم زمانة ليست بالآخر. وقد ذكر النقاش أسماءهم؛ فأما العمال منهم فأحدهم كان مجذوما؛ والثاني أعور، والثالث أعرج، والرابع آدر، والخامس محموما لا تنقطع عنه الحمى الدهر كله وهو أصغرهم؛ والخمسة الذين لا يطيقون العمل: أعمى وأصم وأخرس ومقعد ومجنون، وكان البحر الذي يعملون فيه ما بين فارس والروم؛ ذكره الثعلبي. وقرأت فرقة: « لمساكين » بتشديد السين، واختلف في ذلك فقيل: هم ملاحو السفينة، وذلك أن المساك هو الذي يمسك رجل السفينة، وكل الخدمة تصلح لإمساكه فسمي الجميع مساكين. وقالت فرقة: أراد بالمساكين دبغة المسوك وهي الجلود واحدها مسك والأظهر قراءة « مساكين » بالتخفيف جمع مسكين، وأن معناها: إن السفينة لقوم ضعفاء ينبغي أن يشفق عليهم والله أعلم.

 

قوله تعالى: « فأردت أن أعيبها » أي أجعلها ذات عيب، يقال: عبت الشيء فعاب إذا صار ذا عيب، فهو معيب وعائب. « وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا » قرأ ابن عباس وابن جبير ( صحيحه ) وقرأ أيضا ابن عباس وعثمان بن عفان ( صالحة ) و ( وراء ) أصلها بمعنى خلف؛ فقال بعض المفسرين: إنه كان خلفه وكان رجوعهم عليه. الأكثر على أن معنى ( وراء ) هنا أمام؛ يعضده قراءة ابن عباس وابن جبير « وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صحيحة غصبا » . قال ابن عطية: « وراءهم » هو عندي على بابه؛ وذلك أن هذه الألفاظ إنما تجيء مراعى بها الزمان وذلك أن الحدث المقدم الموجود هو الأمام، والذي يأتي بعده هو الوراء وهو ما خلف، وذلك بخلاف ما يظهر بادي الرأي، وتأمل هذه الألفاظ في مواضعها حيث وردت تجدها تطرد، فهذه الآية معناها: إن هؤلاء وعملهم وسعيهم يأتي بعده في الزمان غصب هذا الملك؛ ومن قرأ « أمامهم » أراد في المكان، أي كأنهم يسيرون إلى بلد، وقوله عليه الصلاة والسلام: ( الصلاة أمامك ) يريد في المكان، وإلا فكونهم في ذلك الوقت كان أمام الصلاة في الزمان؛ وتأمل هذه المقالة فإنها مريحة من شغب هذه الألفاظ؛ ووقع لقتادة في كتاب الطبري « وكان وراءهم ملك » قال قتادة: أمامهم ألا تراه يقول: من « ورائهم جهنم » وهي بين أيديهم؛ وهذا القول غير مستقيم، وهذه هي العجمة التي كان الحسن بن أبي الحسن يضج منها؛ قاله الزجاج.

قلت: وما اختاره هذا الإمام قد سبقه إليه في ذلك ابن عرفة؛ قال الهروي قال ابن عرفة: يقول القائل كيف قال « من ورائه » وهي أمامه؟ فزعم أبو عبيد وأبو علي قُطرُب أن هذا من الأضداد، وأن وراء في معنى قدام، وهذا غير محصل؛ لأن أمام ضد وراء، وإنما يصلح هذا في الأوقات، كقولك للرجل إذا وعد وعدا في رجب لرمضان ثم قال: ومن ورائك شعبان لجاز وإن كان أمامه، لأنه يخلفه إلى وقت وعده؛ وأشار إلى هذا القول أيضا القشيري وقال: إنما يقال هذا في الأوقات، ولا يقال للرجل أمامك إنه وراءك؛ قال الفراء: وجوزه غيره؛ والقوم ما كانوا عالمين بخبر الملك، فأخبر الله تعالى الخضر حتى عيب السفينة؛ وذكره الزجاج. وقال الماوردي: اختلف أهل العربية في استعمال وراء موضع أمام على ثلاثة أقوال: [ أحدها ] يجوز استعمالها بكل حال وفي كل مكان وهو من الأضداد قال الله تعالى: « ومن ورائهم » [ الجاثية: 10 ] أي من أمامهم: وقال الشاعر:

أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي وقومي تميم والفلاة ورائيا

يعني أمامي، [ والثاني ] أن وراء في موضع أمام في المواقيت والأزمان لأن الإنسان يجوزها فتصير وراءه ولا يجوز في غيرها الثالث: أنه يجوز في الأجسام التي لا وجه لها كحجرين متقابلين كل واحد منهما وراء الآخر ولا يجوز في غيرهما؛ وهذا قول علي بن عيسى.

واختلف في اسم هذا الملك فقيل: هدد بن بدد. وقيل: الجلندي؛ وقال السهيلي. وذكر البخاري اسم الملك الآخذ لكل سفينة غصبا فقال: هو ( هدد بن بدد والغلام المقتول ) اسمه جيسور، وهكذا قيدناه في الجامع من رواية يزيد المروزي، وفي غير هذه الرواية حيسور بالحاء وعندي في حاشية الكتاب رواية ثالثة: وهي حيسون وكان يأخذ كل سفينة جيدة غصبا فلذلك عابها الخضر وخرقها؛ ففي هذا من الفقه العمل بالمصالح إذا تحقق وجهها، وجواز إصلاح كل المال بإفساد بعضه، وقد تقدم. وفي صحيح مسلم وجه الحكمة بخرق السفينة وذلك قوله: ( فإذا جاء الذي يسخرها وجدها منخرقة فتجاوزها، فأصلحوها بخشبة... ) الحديث. وتحصل من هذا الحض على الصبر في الشدائد، فكم في ضمن ذلك المكروه من الفوائد، وهذا معنى قوله: « وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم » [ البقرة: 216 ] .

 

الآية: 80 ( وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا )

 

قوله تعالى: « وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين » جاء في صحيح الحديث: ( أنه طبع يوم طبع كافر ) وهذا يؤيد ظاهره أنه غير بالغ، ويحتمل أن يكون خبرا عنه مع كونه بالغا؛ وقد تقدم.

 

قوله تعالى: « فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا » قيل: هو من كلام الخضر عليه السلام، وهو الذي يشهد له سياق الكلام، وهو قول كثير من المفسرين؛ أي خفنا أن يرهقهما طغيانا وكفرا، وكان الله قد أباح له الاجتهاد في قتل النفوس على هذه الجهة. وقيل: هو من كلام الله تعالى وعنه عبر الخضر؛ قال الطبري: معناه فعلمنا؛ وكذا قال ابن عباس أي فعلمنا، وهذا كما كني عن العلم بالخوف في قوله « إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله » [ البقرة: 229 ] . وحكي أن أبيا قرأ « فعلم ربك » وقيل: الخشية بمعنى الكراهة؛ يقال: فرقت بينهما خشية أن يقتتلا؛ أي كراهة ذلك. قال ابن عطية: والأظهر عندي في توجيه هذا التأويل وإن كان اللفظ يدافعه أنها استعارة، أي على ظن المخلوقين والمخاطبين لو علموا حاله لوقعت منهم خشية الرهق للأبوين. وقرأ ابن مسعود « فخاف ربك » وهذا بين في الاستعارة، وهذا نظير ما وقع القرآن في جهة الله تعالى من لعل وعسى وأن جميع ما في هذا كله من ترج وتوقع وخوف وخشية إنما هو بحسبكم أيها المخاطبون. و « يرهقهما » يجشمهما ويكلفهما؛ والمعنى أن يلقيهما حبه في اتباعه فيضلا ويتدينا بدينه.

 

الآية: 81 ( فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما )

 

قوله تعالى: « فأردنا أن يبدلهما ربهما » قرأ الجمهور بفتح الباء وشد الدال، وقرأ عاصم بسكون الباء وتخفيف الدال؛ أي أن يرزقهما الله ولدا. يقال: بدل وأبدل مثل مهل وأمهل ونرل وأنزل.

 

قوله تعالى: « خيرا منه زكاة » أي دينا وصلاحا. « وأقرب رحما » قرأ ابن عباس « رحما » بالضم، قال الشاعر:

وكيف بظلم جارية ومنها اللين والرحم

الباقون بسكونها؛ ومنه قول رؤبة بن العجاج:

يا منزل الرحم على إدريسا ومنزل اللعن على إبليسا

واختلف عن أبي عمرو، و « رحما » معطوف على « زكاة » أي رحمة؛ قال: رحمه رحمة ورحما؛ وألفه للتأنيث، ومذكره رحم. وقيل: الرُّحم هنا بمعنى الرَّحِم؛ قرأها ابن عباس « وأصل رحما » أي رحما، وقرأ أيضا « أزكى منه » . وعن ابن جبير وابن جريج أنهما بُدلا جارية؛ قال الكلبي فتزوجها نبي من الأنبياء فولدت له نبيا فهدى الله تعالى على يديه أمة من الأمم. قتادة: ولدت أثنى عشر نبيا، وعن ابن جريج أيضا أن أم الغلام يوم قتل كانت حاملا بغلام مسلم وكان المقتول كافرا. وعن ابن عباس: فولدت جارية ولدت نبيا؛ وفي رواية: أبدلهما الله به جارية ولدت سبعين نبيا؛ وقاله جعفر بن محمد عن أبيه؛ قال علماؤنا: وهذا بعيد ولا تعرف كثرة الأنبياء إلا في بني إسرائيل، وهذه المرأة لم تكن فيهم؛

 

ويستفاد من هذه الآية تهوين المصائب بفقد الأولاد وإن كانوا قطعا من الأكباد، ومن سلم للقضاء أسفرت عاقبته عن اليد البيضاء. قال قتادة: لقد فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قتل، ولو بقي كان فيه هلاكهما. فالواجب على كل امرئ الرضا بقضاء الله تعالى، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه له فيما يحب.

 

الآية: 82 ( وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما، وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا )

 

قوله تعالى: « وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة » هذان الغلامان صغيران بقرينة وصفهما باليتم، واسمهما أصرم وصريم. وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( لا يتم بعد بلوغ ) هذا هو الظاهر. وقد يحتمل أن يبقى عليهما اسم اليتم بعد البلوغ إن كانا يتيمين، على معنى الشفقة عليهما. وقد تقدم أن اليتم في الناس من قبل فقد الأب، وفي غيرهم من الحيوان من قبل فقد الأم.

ودل قوله: « في المدينة » على أن القرية تسمى مدينة؛ ومنه الحديث ( أمرت بقرية تأكل القرى... ) وفي حديث الهجرة ( لمن أنت ) فقال الرجل: من أهل المدينة؛ يعني مكة.

 

قوله تعالى: « وكان تحته كنز لهما » اختلف الناس في الكنز؛ فقال عكرمة وقتادة: كان مالا جسيما وهو الظاهر من اسم الكنز إذ هو في اللغة المال المجموع؛ وقد مضى القول فيه. وقال ابن عباس: ( كان علما في صحف مدفونة ) عنه أيضا قال: ( كان لوحا من ذهب مكتوبا فيه بسم الله الرحمن الرحيم، عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، عجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب، عجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، عجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، عجبت لمن يؤمن بالدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن لها، لا إله إلا الله محمد رسول الله ) وروي نحوه عن عكرمة وعمر مولى غفرة، ورواه عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.

 

قوله تعالى: « وكان أبوهما صالحا » ظاهر اللفظ والسابق منه أنه والدهما دِنْيَةً. وقيل: هو الأب السابع؛ قاله جعفر بن محمد. وقيل: العاشر فحفظا فيه وإن لم يذكر بصلاح؛ وكان يسمى كاشحا؛ قال مقاتل اسم أمهما دنيا؛ ذكره النقاش. ففيه ما يدل على أن الله تعالى يحفظ الصالح في نفسه وفي ولده وإن بعدوا عنه وقد روي أن الله تعالى يحفظ الصالح في سبعة من ذريته؛ وعلى هذا يدل قوله تعالى: « إن ولي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين » [ الأعراف: 196 ]

 

قوله تعالى: « وما فعلته عن أمري » يقتضي أن الخضر نبي؛ وقد تقدم الخلاف في ذلك. « ذلك تأويل » أي تفسير. « ما لم تستطع عليه صبرا » قرأت فرقة « تستطيع » وقرأ الجمهور « تسطع » قال أبو حاتم: كذا نقرأ كما في خط المصحف.

وهنا خمس مسائل

الأولى: إن قال قائل لم يسمع لفتى موسى ذكر في أول الآية ولا في آخرها، قيل له: اختلف في ذلك؛ فقال عكرمة لابن عباس: - لم يسمع لفتى موسى بذكر وقد كان معه؟ فقال ( شرب الفتى من الماء فخلد، وأخذه العالم فطبق عليه سفينة ثم أرسله في البحر، وإنها لتموج به فيه إلى يوم القيامة وذلك أنه لم يكن له أن يشرب منه فشرب منه ) قال القشيري: وهذا إن ثبت فليس الفتى يوشع بن نون؛ فإن يوشع بن نون قد عمر بعد موسى وكان خليفته؛ والأظهر أن موسى صرف فتاه لما لقي الخضر. وقال شيخنا الإمام أبو العباس: يحتمل أن يكون اكتفي بذكر المتبوع عن التابع والله أعلم.

الثانية: إن قال قائل: كيف أضاف الخضر قصة استخراج كنز الغلامين لله تعالى، وقال في خرق السفينة: « فأرادت أن أعيبها » فأضاف العيب إلى نفسه؟ قيل له: إنما أسند الإرادة في الجدار إلى الله تعالى لأنها في أمر مستأنف في زمن طويل غيب من الغيوب، فحسن إفراد هذا الموضع بذكر الله تعالى، وإن كان الخضر قد أراد ذلك فالذي أعلمه الله تعالى أن يريده وقيل: لما كان ذلك خيرا كله أضافه إلى الله تعالى وأضاف عيب السفينة إلى نفسه رعاية للأدب لأنها لفظة عيب فتأدب بأن لم يسند الإرادة فيها إلا إلى نفسه، كما تأدب إبراهيم عليه السلام في قوله: « وإذا مرضت فهو يشفين » فأسند الفعل قبل وبعد إلى الله تعالى، وأسند إلى نفسه المرض، إذ هو معنى نقصى ومصيبة، فلا يضاف إليه سبحانه وتعالى من الألفاظ إلا ما يستحسن منها دون ما يستقبح، وهذا كما قال تعالى: « بيدك الخير » [ آل عمران: 26 ] واقتصر عليه فلم ينسب الشر إليه، وإن كان بيده الخير والشر والضر والنفع، إذ هو على كل شيء قدير، وهو بكل شيء خبير ولا اعتراض بما حكاه عليه السلام عن ربه عز وجل أنه يقول يوم القيامة: ( يا ابن آدم مرضت فلم تعدني واستطعمك فلم تطعمني واستسقيتك فلم تسقني ) فإن ذلك تنزُّلُ في الخطاب وتلطف في العتاب مقتضاه التعريف بفضل ذي الجلال وبمقادير ثواب هذه الأعمال وقد تقدم هذا المعنى والله تعالى أعلم. ولله تعالى أن يطلق على نفسه ما يشاء، ولا نطلق نحن إلا ما أذن لنا فيه من الأوصاف الجميلة والأفعال الشريفة جل وتعالى عن النقائص والآفات علوا كبيرا. وقال في الغلام: « فأردنا » فكأنه أضاف القتل إلى نفسه، والتبديل إلى الله تعالى والأشد كمال الخلق والعقل. وقد مضى الكلام فيه في « الأنعام » والحمد لله.

الثالثة: قال شيخنا الإمام أبو العباس: ذهب قوم من زنادقة الباطنية إلى سلوك طريق تلزم منه هذه الأحكام الشرعية، فقالوا: هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الأنبياء والعامة، وأما الأولياء وأهل الخصوص فلا يحتاجون إلى تلك النصوص، بل إنما يزاد منهم ما يقع في قلوبهم، ويحكم عليهم بما يغلب عليهم من خواطرهم. وقالوا: وذلك لصفاء قلوبهم عن الأكدار، وخلوها عن الأغيار، فتتجلى لهم العلوم الإلهية، والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات، ويعلمون أحكام الجزئيات، فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، كما اتفق للخضر؛ فإنه استغنى بما تجلى له من العلوم، عما كان عند موسى من تلك الفهوم. وقد جاء فيما ينقلون: استفت قلبك وإن أفتاك المفتون. قال شيخنا رضي الله عنه: وهذا القول زندقة وكفر يقتل قائله ولا يستتاب؛ لأنه إنكار ما علم من الشرائع؛ فإن الله تعالى قد أجرى سنته، وأنفذ حكمته، بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه وبين. خلقه، وهم المبلغون عنه رسالته وكلامه، المبينون شرائعه وأحكامه؛ اختارهم لذلك، وخصهم بما هنالك؛ كما قال تعالى: « الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصيرا » [ الحج: 75 ] وقال تعالى: « الله أعلم حيث يجعل رسالته » [ الأنعام: 241 ] وقال تعالى: « كان الناس أمه واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين » [ البقرة: 213 ] إلى غير ذلك من الآيات. وعلى الجملة فقد حصل العلم القطعي، واليقين الضروري، واجتماع السلف والخلف على أن لا طريق لمعرفة أحكام الله تعالى التي هي راجعة إلى أمره ونهيه، ولا يعرف شيء منها إلا من جهة الرسل، فمن قال: إن هناك طريقا آخر يعرف بها أمره ونهيه غير الرسل بحيث يستغنى عن الرسل فهو كافر، يقتل ولا يستتاب، ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا جواب، ثم هو قول بإثبات أنبياء بعد نبينا عليه الصلاة والسلام؛ الذي قد جعله الله خاتم أنبيائه ورسله، فلا نبي بعده ولا رسول. وبيان ذلك أن من قال يأخذ عن قلبه وأن ما يقع فيه حكم الله تعالى وأنه يعمل بمقتضاه، وأنه لا يحتاج مع ذلك إلى كتاب ولا سنة، فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة، فإن هذا نحو ما قاله عليه الصلاة والسلام: ( إن روح القدس نفث في روعي... ) الحديث.

الرابعة: ذهب الجمهور من الناس إلى أن الخضر مات صلى الله عليه وسلم. وقالت فرقة: حي لأنه شرب من عين الحياة، وأنه باق في الأرض وأنه يحج البيت. قال ابن عطية: وقد أطنب النقاش في هذا المعنى، وذكر في كتابه أشياء كثيرة عن علي بن أبي طالب وغيره، وكلها لا تقوم على ساق. ولو كان الخضر عليه السلام حيا يحج لكان له في ملة الإسلام ظهور؛ والله العليم بتفاصيل الأشياء لا رب غيره ومما يقضي بموت الخضر عليه السلام الآن قوله عليه الصلاة السلام: ( أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد ) .

قلت: إلى هذا ذهب البخاري واختاره القاضي أبو بكر بن العربي، والصحيح القول الثاني وهو أنه حي على ما نذكره. والحديث خرجه مسلم في صحيحه عن عبدالله بن عمر قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته فلما سلم قام فقال: ( أرأيتكم ليتكم هذه فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن على ظهر الأرض أحد ) قال ابن عمر: فوهل الناس في مقالة رسول الله تلك فيما يتحدثون من هذه الأحاديث عن مائة سنة؛ وإنما قال عليه الصلاة والسلام: ( لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد ) يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن. ورواه أيضا من حديث جابر بن عبدالله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يموت بشهر: ( تسألوني عن الساعة وإنما علمها عند الله وأقسم بالله ما على الأرض من نفس منفوسة تأتي عليها مائة سنة ) وفي أخرى قال سالم: تذاكرنا أنها ( هي مخلوقة يومئذ ) . وفي أخرى: ( ما من نفس منفوسة اليوم يأتي عليها مائة سنة وهي حية يومئذ ) . وفسرها عبدالرحمن صاحب السقاية قال: نقص العمر. وعن أبي سعيد الخدري نحو هذا الحديث قال علماؤنا: وحاصل ما تضمنه هذا الحديث أنه عليه الصلاة والسلام أخبر قبل موته بشهر أن من كان من بني آدم موجودا في ذلك لا يزيد عمره على مائة سنة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ( ما من نفس منفوسة ) وهذا اللفظ لا يتناول الملائكة ولا الجن إذ لم يصح عنهم أنهم كذلك، ولا الحيوان غير العاقل؛ لقوله: ( ممن هو على ظهر الأرض أحد ) وهذا إنما يقال بأصل وضعه على من يعقل، فتعين أن المراد بنو آدم. وقد بين ابن عمر هذا المعنى؛ فقال: يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن. ولا حجة لمن استدل به على بطلان قول من يقول: إن الخضر حي لعموم قوله: ( ما نفس منفوسة ) لأن العموم وإن كان مؤكد الاستغراق فليس نصا فيه، بل هو قابل للتخصيص. فكما لم يتناول عيسى عليه السلام، فإنه لم يمت ولم يقتل فهو حي بنص القرآن ومعناه، ولا يتناول الدجال مع أنه حي بدليل حديث الجساسة، فكذلك لم يتناول الخضر عليه السلام وليس مشاهد للناس، ولا ممن يخالطهم حتى يخطر ببالهم حالة مخاطبة بعضهم بعضا، فمثل هذا العموم لا يتناوله. وقد قيل: إن أصحاب الكهف أحياء ويحجون مع عيسى عليه الصلاة والسلام، كما تقدم. وكذلك فتى موسى في قول ابن عباس كما ذكرنا. وقد ذكر أبو إسحاق الثعلبي في كتاب العرائس له: والصحيح أن الخضر نبي معمر محجوب عن الأبصار؛ وروى محمد بن المتوكل عن ضمرة بن ربيعة عن عبدالله بن شوذب قال: الخضر عليه السلام من ولد فارس، وإلياس من بني إسرائيل يلتقيان كل عام في الموسم. وعن عمرو بن دينار قال: إن الخضر وإلياس لا يزالان حيين في الأرض ما دام القرآن على الأرض، فإذا رفع ماتا. وقد ذكر شيخنا الإمام أبو محمد عبدالمعطي بن محمود بن عبدالمعطي اللخمي في شرح الرسالة له للقشيري حكايات كثيرة عن جماعة من الصالحين والصالحات بأنهم رأوا الخضر عليه السلام ولقوه، يفيد مجموعها غاية الظن بحياته مع ما ذكره النقاش والثعلبي وغيرهما. وقد جاء في صحيح مسلم: ( أن الدجال ينتهي إلى بعض السباخ التي تلي المدينة فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس - أو - من خير الناس... ) الحديث؛ وفي آخره قال أبو إسحاق: يعني أن هذا الرجل هو الخضر. وذكر ابن أبي الدنيا في كتاب الهواتف: بسند يوقفه إلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ( أنه لقي الخضر وعلمه هذا الدعاء، وذكر أن فيه ثوابا عظيما ومغفرة ورحمة لمن قال في أثر كل صلاة، وهو: يا من لا يشغله سمع عن سمع، ويا من لا تغلطه المسائل، ويا من لا يتبرم من إلحاح الملحين، أذقني برد عفوك، وحلاوة مغفرتك ) وذكر أيضا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذا الدعاء بعينه نحوا مما ذكر عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في سماعه من الخضر. وذكر أيضا اجتماع إلياس مع النبي عليه الصلاة والسلام. وإذا جاز بقاء إلياس إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم جاز بقاء الخضر، وقد ذكر أنهما يجتمعان عند البيت في كل حول، وأنهما يقولان عند افتراقهما: ( ما شاء الله ما شاء الله، لا يصرف السوء إلا الله، ما شاء الله ما شاء، ما يكون من نعمة فمن الله، ما شاء الله ما شاء الله، توكلت على الله، حسبنا الله ونعم الوكيل ) وأما خبر إلياس فيأتي في « الصافات » إن شاء الله تعالى.

وذكر أبو عمر بن عبدالبر في كتاب التمهيد: عن علي رضي الله تعالى عنه قال: ( لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وسجي بثوب هتف هاتف من ناحية البيت يسمعون صوته ولا يرون شخصه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، السلام عليكم أهل البيت « كل نفس ذائقة الموت... » [ آل عمران: 185 ] - الآية - إن في الله خلفا من كل هالك، وعوضا من كل تالف، وعزاء من كل مصيبة، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب ) فكانوا يرون أنه الخضر عليه الصلاة السلام. يعني أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام. والألف واللام في قوله: ( على الأرض ) للعهد لا للجنس وهي أرض العرب، بدليل تصرفهم فيها وإليها غالبا دون أرض يأجوج ومأجوج، وأقاصي جزر الهند والسند مما لا يقرع السمع اسمه، ولا يعلم علمه. ولا جواب عن الدجال.

قال السهيلي: واختلف في اسم الخضر اختلافا متباينا؛ فعن ابن منبه أنه قال: أبليا بن ملكان بن فالغ بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح. وقيل: هو ابن عاميل بن سماقحين بن أريا بن علقما بن عيصو بن إسحاق، وأن أباه كان ملكا، وأن أمه كانت بنت فارس واسمها ألمى، وأنها ولدته في مغارة، وأنه وجد هنالك وشاة ترضعه في كل يوم من غنم رجل من القرية، فأخذه الرجل فرباه، فلما شب وطلب الملك - أبوه - كاتبا وجمع أهل المعرفة والنبالة ليكتب الصحف التي أنزلت على إبراهيم وشيث، كان ممن أقدم عليه الكتاب ابنه الخضر وهو لا يعرفه، فلما استحسن خطه ومعرفته وبحث جلية أمره عرف أنه ابنه فضمه لنفسه وولاه أمر الناس ثم إن الخضر فر من الملك لأسباب يطول ذكرها إلى أن وجد عين الحياة فشرب منها، فهو حي إلى أن يخرج الدجال، وأنه الرجل الذي يقتله الدجال ويقطعه ثم يحييه الله تعالى. وقيل: لم يدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهذا لا يصح وقال البخاري وطائفة من أهل الحديث منهم شيخنا أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: إنه مات قبل انقضاء المائة، من قوله عليه الصلاة والسلام: ( إلى رأس مائة عام لا يبقى على هذه الأرض ممن هو عليها أحد ) يعني من كان حيا حين قال هذه المقالة

قلت: قد ذكرنا هذا الحديث والكلام عليه، وبينا حياة الخضر إلى الآن، والله أعلم.

الخامسة: قيل إن الخضر لما ذهب يفارق موسى قال له موسى: أوصني؛ قال: كن بساما ولا تكن ضحاكا، ودع اللجاجة، ولا تمش في غير حاجة، ولا تعب على الخطائين خطاياهم وابك على خطيئتك يا ابن عمران.

 

الآية: 83 ( ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا )

 

قال ابن إسحاق: وكان من خبر ذي القرنين أنه أوتى ما لم يؤت غيره، فمدت له الأسباب حتى انتهى من البلاد إلى مشارق الأرض ومغاربها، لا يطأ أرضا إلا سلط على أهلها، حتى انتهى من المشرق والمغرب إلى ما ليس وراءه شيء من الخلق. قال ابن إسحاق: حدثني من يسوق الأحاديث عن الأعاجم فيما توارثوا من علم ذي القرنين أن ذا القرنين كان من أهل مصر اسمه مرزبان بن مردبة اليوناني من ولد يونان بن يافث بن نوح. قال ابن هشام: واسمه الإسكندر وهو الذي بنى الإسكندرية فنسبت إليه. قال ابن إسحاق: وقد حدثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان الكلاعي - وكان خالد رجلا قد أدرك الناس - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ذي القرنين فقال: ( ملك مسح الأرض من تحتها بالأسباب ) وقال خالد: وسمع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رجلا يقول يا ذا القرنين، فقال: ( اللهم غفرا أما رضيتم أن تسموا بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة ) قال ابن إسحاق: فالله أعلم أي ذلك كان؟ أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أم لا؟ والحق ما قال. قلت: وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه مثل قول عمر؛ سمع رجل يدعو آخر يا ذا القرنين، فقال علي: ( أما كفاكم أن تسميتم بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة ) وعنه أنه عبد ملك ( بكسر اللام ) صالح نصح الله فأيده. وقيل: هو نبي مبعوث فتح الله تعالى على يديه الأرض. وذكر الدار قطني في كتاب الأخبار أن ملكا يقال له رباقيل كان ينزل على ذي القرنين، وذلك الملك هو الذي يطوي الأرض يوم القيامة، وينقضها فتقع أقدام الخلائق كلهم بالساهرة؛ فيما ذكر بعض أهل العلم. وقال السهيلي: وهذا مشاكل بتوكيله بذي القرنين الذي قطع الأرض مشارقها ومغاربها؛ كما أن قصة خالد بن سنان في تسخير النار له مشاكلة بحال الملك الموكل بها، وهو مالك عليه السلام وعلى جميع الملائكة أجمعين. ذكر ابن أبي خيثمة في كتاب البدء له خالد بن سنان العبسي وذكر نبوته، وذكر أنه وكل به من الملائكة مالك خازن النار، وكان من أعلام نبوته أن نارا يقال لها نار الحدثان، كانت تخرج على الناس من مغارة فتأكل الناس ولا يستطيعون ردها، فردها خالد بن سنان فلم تخرج بعد. واختلف في اسم ذي القرنين وفي السبب الذي سمي به بذلك اختلافا كثيرا؛ فأما اسمه فقيل: هو الإسكندر الملك اليوناني المقدوني، وقد تشدد قافه فيقال: المقدوني. وقيل: اسمه هرمس. ويقال: اسمه هرديس. وقال ابن هشام: هو الصعب بن ذي يزين الحميري من ولد وائل بن حمير؛ وقد تقدم قول ابن إسحاق. وقال وهب بن منبه: هو رومي. وذكر الطبري حديثا عن النبي عليه الصلاة والسلام ( أن ذا القرنين شاب من الروم ) وهو حديث واهي السند؛ قال ابن عطية. قال السهيلي: والظاهر من علم الأخبار أنهما اثنان: أحدهما: كان على عهد إبراهيم عليه السلام، ويقال: إنه الذي قضى لإبراهيم عليه السلام حين تحاكموا إليه في بئر السبع بالشام. والآخر: أنه كان قريبا من عهد عيسى عليه السلام. وقيل: إنه أفريدون الذي قتل بيوراسب بن أرونداسب الملك الطاغي على عهد إبراهيم عليه السلام، أو قبله بزمان. وأما الاختلاف في السبب الذي سمي به، فقيل: إنه كان ذا ضفيرتين من شعر فسمي بهما؛ ذكره الثعلبي وغيره. والضفائر قرون الرأس؛ ومنه قول الشاعر:

فلثمت فاها آخذا بقرونها شرب النزيف ببرد ماء الحشرج

وقيل: إنه رأى في أول ملكه كأنه قابض على قرني الشمس، فقص ذلك، ففسر أنه سيغلب ما ذرت عليه الشمس، فسمي بذلك ذا القرنين. وقيل: إنما سمي بذلك، لأنه بلغ المغرب والمشرق فكأنه حاز قرني الدنيا. وقالت طائفة: إنه لما بلغ مطلع الشمس كشف بالرؤية قرونها فسمي بذلك ذا القرنين؛ أو قرني الشيطان بها. وقال وهب بن منبه: كان له قرنان تحت عمامته. وسأل ابن الكواء عليا رضي الله تعالى عنه عن ذي القرنين أنبيا كان أم ملكا؟ فقال ( لاذا ولاذا، كان عبدا صالحا دعا قومه إلى الله تعالى فشجوه على قرنه، ثم دعاهم فشجوه على قرنه الآخر، فسمي ذا القرنين ) واختلفوا أيضا في وقت زمانه، فقال قوم: كان بعد موسى. وقال قوم: كان في الفترة بعد عيسى وقيل: كان في وقت إبراهيم وإسماعيل. وكان الخضر عليه السلام صاحب لوائه الأعظم؛ وفد ذكرناه في « البقرة » . وبالجملة فإن الله تعالى مكنه وملكه ودانت له الملوك، فروي أن جميع ملوك الدنيا كلها أربعة: مؤمنان وكافران؛ فالمؤمنان سليمان بن داود وإسكندر، والكافران نمرود وبختنصر؛ وسيملكها من هذه الأمة خامس لقوله تعالى: « ليظهره على الدين كله » [ التوبة: 33 ] وهو المهدي وقد قيل: إنما سمي ذا القرنين لأنه كان كريم الطرفين من أهل بيت شريف من قبل أبيه وأمه وقيل: لأنه أنقرض في وقته قرنان من الناس وهو حي وقيل: لأنه كان إذا قاتل قاتل بيديه وركابيه جميعا. وقيل لأنه أعطي علم الظاهر والباطن. وقيل: لأنه دخل الظلمة والنور. وقيل: لأنه ملك فارس والروم.

 

 

الآية: 84 ( إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا )

 

قوله تعالى: « إنا مكنا له في الأرض » قال علي رضي الله عنه: ( سخر له السحاب، ومدت له الأسباب، وبسط له في النور، فكان الليل والنهار عليه سواء ) وفي حديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجال من أهل الكتاب سألوه عن ذي القرنين فقال: ( إن أول أمره كان غلاما من الروم فأعطي ملكا فسار حتى أتى أرض مصر فابتنى بها مدينة يقال لها الإسكندرية فلما فرغ أتاه ملك فعرج به فقال له أنظر ما تحتك قال أرى مدينتي وحدها لا أرى غيرها فقال له الملك تلك الأرض كلها وهذا السواد الذي تراه بها هو البحر وإنما أراد الله تعالى أن يريك الأرض وقد جعل لك سلطانا فيها فسر في الأرض. فعلم الجاهل وثبت العالم ) الحديث.

 

قوله تعالى: « وآتيناه من كل شيء سببا » قال ابن عباس: ( من كل شيء علما يتسبب به إلى ما يريد ) وقال الحسن: بلاغا إلى حيث أراد. وقيل: من كل شيء يحتاج إليه الخلق. وقيل: من كل شيء يستعين به الملوك من فتح المدائن وقهر الأعداء. وأصل السبب الحبل فاستعير لكل ما يتوصل به إلى شيء.

 

الآية: 85 ( فأتبع سببا )

 

قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي « فأتبع سببا » مقطوعة الألف وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو « فاتبع سببا » بوصلها؛ أي اتبع سببا من الأسباب التي أوتيها. قال الأخفش: تبعته وأتبعته بمعنى؛ مثل ردفته وأردفته، ومنه قوله تعالى: « إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب » [ الصافات: 10 ] ومنه الإتباع في الكلام مثل حسن بسن وقبيح شقيح. قال النحاس: واختار أبو عبيد قراءة أهل الكوفة قال: لأنها من السير، وحكى هو والأصمعي أنه يقال: تبعه واتبعه إذا سار ولم يلحقه، وأتبعه إذا لحقه؛ قال أبو عبيد: ومثله « فأتبعوهم مشرقين » قال النحاس: وهذا التفريق إن كان الأصمعي قد حكاه لا يقبل إلا بعلة أو دليل. وقوله عز وجل: « فأتبعوهم مشرقين » [ الشعراء: 60 ] ليس في الحديث أنهم لحقوهم، وإنما الحديث: لما خرج موسى عليه السلام وأصحابه من البحر وحصل فرعون وأصحابه انطبق عليهم البحر والحق في هذا أن تبع وأتبع وأتبع لغات بمعنى واحد، وهي بمعنى السير، فقد يجوز أن يكون معه لحاق وألا يكون.

 

الآية: 86 ( حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما، قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا )

 

قوله تعالى: « حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة » قرأ ابن عاصم وعام وحمزة والكسائي « حامية » أي حارة. الباقون « حمئة » أي كثيرة الحمأة وهي الطينة السوداء، تقول: حمأت البئر حمأ ( بالتسكين ) إذا نزعت حمأتها. وحمئت البئر حمأ ( بالتحريك ) كثرت حمأتها. ويجوز أن تكون « حامية » من الحمأة فخففت الهمزة وقلبت ياء. وقد يجمع بين القراءتين فيقال: كانت حارة وذات حمأة. وقال عبدالله بن عمرو: نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشمس حين غربت؛ فقال: ( نار الله الحامية لولا ما يزعها من أمر الله لأحرقت ما على الأرض ) . وقال ابن عباس: ( أقرأنيها أبي كما أقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم « في عين حمئة » ؛ وقال معاوية: هي « حامية » فقال عبدالله بن عمرو بن العاص: فأنا مع أمير المؤمنين؛ فجعلوا كعبا بينهم حكما وقالوا: يا كعب كيف تجد هذا في التوراة؟ فقال: أجدها تغرب في عين سوداء، فوافق ابن عباس ) وقال الشاعر وهو تبع اليماني:

قد كان ذو القرنين قبلي مسلما ملكا تدين له الملوك وتسجد

بلغ المغارب والمشارق يبتغي أسباب أمر من حكيم مرشد

فرأى مغيب الشمس عند غروبها في عين ذي خلب وثأط حرمد

الخلب: الطين: والثأط: الحماة. والحرمد. والأسود. وقال القفال قال بعض العلماء: ليس المراد أنه انتهى إلى الشمس مغربا ومشرقا وصل إلى جرمها ومسها؛ لأنها تدور مع السماء حول الأرض من غير أن تلتصق بالأرض، وهي أعظم من أن تدخل في عين من عيون الأرض، بل هي أكبر من الأرض أضعافا مضاعفة، بل المراد أنه انتهى إلى آخر العمارة من جهة المغرب ومن جهة المشرق، فوجدها في رأي العين تغرب في عين حمئة، كما أنا نشاهدها في الأرض الملساء كأنها تدخل في الأرض؛ ولهذا قال: « وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا » ولم يرد أنها تطلع عليهم بأن تماسهم وتلاصقهم، بل أراد أنهم أول من تطلع عليهم. وقال القتبي: ويجوز أن تكون هذه العين من البحر، ويجوز أن تكون الشمس تغيب وراءها أو معها أو عندها، فيقام حرف الصفة مقام صاحبه والله أعلم.

 

قوله تعالى: « ووجد عندها قوما » أي عند العين، أو عند نهاية العين، وهم أهل جابرس، ويقال لها بالسريانية: جرجيسا؛ يسكنها قوم من نسل ثمود بقيتهم الذين آمنوا بصالح؛ ذكره السهيلي. وقال وهب بن منبه: ( كان ذو القرنين رجلا من الروم ابن عجوز من عجائزهم ليس لها ولد غيره وكان اسمه الإسكندر، فلما بلغ وكان عبدا صالحا قال الله تعالى: يا ذا القرنين إني باعثك إلى أمم الأرض وهم أمم مختلفة ألسنتهم، وهم أمم جميع الأرض، وهم أصناف: أمتان بينهما طول الأرض كله، وأمتان بينهما عرض الأرض كله، وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج؛ فأما اللتان بينهما طول الأرض فأمة عند مغرب الشمس يقال لها ناسك، وأما الأخرى فعند مطلعها ويقال لها منسك. وأما اللتان بينهما عرض الأرض فأمة في قطر الأرض الأيمن يقال لها هاويل؛ وأما الأخرى التي في قطر الأرض الأيسر يقال لها تاويل. فقال ذو القرنين: إلهي قد ندبتني لأمر عظيم لا يقدر قدره إلا أنت؛ فأخبرني عن هذه الأمم بأي قوة أكاثرهم؟ وبأي صبر أقاسيهم؟ وبأي لسان أناطقهم؟ فكيف لي بأن أفقه لغتهم وليس عندي قوة؟ فقال الله تعالى: سأظفرك بما حملتك؛ أشرح لك صدرك فتسمع كل شيء، وأثبت لك فهمك فتفقه كل شيء، وألبسك الهيبة فلا يروعك شيء، وأسخر لك النور والظلمة فيكونان جندا من جنودك، يهديك النور من أمامك، وتحفظك الظلمة من ورائك؛ فلما قيل له ذلك سار بمن اتبعه، فانطلق إلى الأمة التي عند مغرب الشمس؛ لأنها كانت أقرب الأمم منه وهي ناسك، فوجد جموعا لا يحصيها إلا الله تعالى وقوة وبأسا لا يطيقه إلا الله. وألسنة مختلقة، وأهواء متشتتة فكاثرهم بالظلمة؛ فضرب حولهم ثلاث عساكر من جند الظلمة قدر ما أحاط بهم من كل مكان، حتى جمعتهم في مكان واحد، ثم دخل عليهم بالنور فدعاهم إلى الله تعالى وإلى عبادته، فمنهم من آمن به ومنهم من كفر وصد عنه، فأدخل على الذين تولوا الظلمة فغشيتهم من كل مكان، فدخلت إلى أفواههم وأنوفهم وأعينهم وبيوتهم وغشيتهم من كل مكان، فتحيروا وماجوا وأشفقوا أن يهلكوا، فعجوا إلى الله تعالى بصوت واحد: إنا آمنا؛ فكشفها عنهم، وأخذهم عنوة، ودخلوا في دعوته، فجند من أهل المغرب أمما عظيمة فجعلهم جندا واحدا، ثم انطلق بهم يقودهم، والظلمة تسوقهم وتحرسه من خلفه، والنور أمامهم يقوده ويدله، وهو يسير في ناحية الأرض اليمنى يريد الأمة التي في قطر الأرض الأيمن وهى هاويل، وسخر الله تعالى يده وقلبه وعقله ونظره فلا يخطئ إذا عمل عملا، فإذا أتوا مخاضة أو بحرا بنى سفنا من ألواح صغار مثل النعال فنظمها في ساعة، ثم جعل فيها جميع من معه من تلك الأمم، فإذا قطع البحار والأنهار فتقها ودفع إلى كل رجل لوحا فلا يكترث بحمله، فانتهى إلى هاويل وفعل بهم كفعله بناسك فآمنوا، ففرغ منهم، وأخذ جيوشهم وانطلق إلى ناحية الأرض الأخرى حتى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس، فعمل فيها وجند منها جنودا كفعله في الأولى، ثم كر مقبلا حتى أخذ ناحية الأرض اليسرى يريد تاويل، وهي الأمة التي تقابل هاويل بينهما عرض الأرض، ففعل فيها كفعله فيما قبلها، ثم عطف إلى الأمم التي في وسط الأرض من الجن الإنس ويأجوج ومأجوج، فلما كان في بعض الطريق مما يلي منقطع الترك من المشرق قالت أمة صالحة من الإنس: يا ذا القرنين إن بين هذين الجبلين خلقا من خلق الله تعالى كثيرا لهم عدد، وليس فيهم مشابهة من الإنس، وهم أشباه البهائم؛ يأكلون العشب، ويفترسون الدواب والوحش كما تفترسها السباع، ويأكلون حشرات الأرض كلها من الحيات والعقارب والوزغ وكل ذي روح مما خلق الله تعالى في الأرض، وليس لله تعالى خلق ينمو نماءهم في العام الواحد، فإن طالت المدة فسيملؤون الأرض، ويجلون أهلها فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا؟... ) وذكر الحديث؛ وسيأتي من صفة يأجوج ومأجوج والترك إذ هم نوع منهم ما فيه كفاية.

 

قوله تعالى: « قلنا يا ذا القرنين » قال القشيري أبو نصر: إن كان نبيا فهو وحي، وإن لم يكن نبيا فهو إلهام من الله تعالى. « إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا » قال إبراهيم بن السري: خيره بين هذين كما خير محمدا صلى الله عليه وسلم فقال: « فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم » [ المائدة: 42 ] ونحوه. وقال أبو إسحاق الزجاج: المعنى أن الله تعالى خيره بين هذين الحكمين؛ قال النحاس: وردّ علي بن سليمان عليه قوله؛ لأنه لم يصح أن ذا القرنين نبي فيخاطب بهذا، فكيف يقول لربه عز وجل: « ثم يرد إلى ربه » ؟ وكيف يقول: « فسوف نعذبه » فيخاطب بالنون؟ قال: التقدير؛ قلنا يا محمد قالوا يا ذا القرنين. قال أبو جعفر النحاس: هذا الذي قاله أبو الحسن لا يلزم منه شيء. أما قوله: « قلنا يا ذا القرنين » فيجوز أن يكون الله عز وجل خاطبه على لسان نبي في وقته، ويجوز أن يكون قال له هذا كما قال لنبيه: « فإما منا بعد وإما فداء » [ محمد: 4 ] ، وأما إشكال « فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه » فإن تقديره أن الله تعالى خيره بين القتل في قوله تعالى: « إما أن تعذب » وبين الاستبقاء في قوله جل وعز: « وإما أن تتخذ فيهم حسنا » . قال أحمد بن يحيى: « أن » في موضع نصب في « إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا » قال: ولو رفعت كان صوابا بمعنى فإما هو، كما قال:

فسيرا فإما حاجة تقضيانها وإما مقيل صالح وصديق

 

الآيتان: 87 - 88 ( قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا، وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا )

 

قوله تعالى: « قال أما من ظلم » أي من أقام على الكفر منكم، « فسوف نعذبه » أي بالقتل « ثم يرد إلى ربه » أي يوم القيامة: « فيعذبه عذابا نكرا » أي شديدا في جهنم. « وأما من آمن وعمل صالحا » أي تاب من الكفر « فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا » قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم « فله جزاء الحسنى » بالرفع على الابتداء أو بالاستقرار و « الحسنى » موضع خفض بالإضافة ويحذف التنوين للإضافة؛ أي له جزاء الحسنى عند الله تعالى في الآخرة وهي الجنة، فأضاف الجزاء إلى الجنة، كقوله: « حق اليقين » [ الواقعة: 95 ] ، « ولدار الآخرة » [ الأنعام: 32 ] ؛ قاله الفراء. ويحتمل أن يريد بـ « الحسنى » الأعمال الصالحة ويمكن أن يكون الجزاء من ذي القرنين؛ أي أعطيه وأتفضل عليه ويجوز أن يحذف التنوين لالتقاء الساكنين ويكون « الحسنى » في موضع رفع على البدل عند البصريين، وعلى الترجمة عند الكوفيين، وعلى هذا قراءة ابن أبي إسحاق « فله جزاء الحسنى » إلا أنك لم تحذف التنوين، وهو أجود. وقرأ سائر الكوفيين « فله جزاء الحسنى » منصوبا منونا؛ أي فله الحسنى جزاء قال الفراء: « جزاء » منصوب على التمييز وقيل: على المصدر؛ وقال الزجاج: هو مصدر في موضع الحال؛ أي مجزيا بها جزاء وقرأ ابن عباس ومسروق « فله جزاء الحسنى » منصوبا غير منون وهي عند أبي حاتم على حذف التنوين لالتقاء الساكنين مثل « فله جزاء الحسنى » في أحد الوجهين. النحاس: وهذا عند غيره خطأ لأنه ليس موضع حذف تنوين لالتقاء الساكنين ويكون تقديره: فله الثواب جزاء الحسنى.

 

الآية: 89 ( ثم أتبع سببا )

 

تقدم معناه أن أتبع واتبع بمعنى أي سلك طريقا ومنازل.

 

الآية: 90 ( حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا )

 

قوله تعالى: « حتى إذا بلغ مطلع الشمس » وقرأ مجاهد وابن محيصن بفتح الميم واللام؛ يقال: طلعت الشمس والكواكب طلوعا ومطلعا. والمطلَع والمطلِع أيضا موضع طلوعها قاله الجوهري. « وجدها تطلع على قوم » المعنى أنه انتهى إلى موضع قوم لم يكن بينهم وبين مطلع الشمس أحد من الناس. والشمس تطلع وراء ذلك بمسافة بعيدة وقد اختلف فيهم؛ فعن وهب بن منبه ما تقدم، وأنها أمة يقال لها منسك وهي مقابلة ناسك؛ وقال مقاتل وقال قتادة: يقال لهما الزنج وقال الكلبي: هم تارس وهاويل ومنسك؛ حفاة عراة عماة عن الحق، يتسافدون مثل الكلاب، ويتهارجون تهارج الحمر. وقيل: هم أهل جابلق وهم من نسل مؤمني عاد الذين آمنوا بهود، ويقال لهم بالسريانية مرقيسا والذين عند مغرب الشمس هم أهل جابرس؛ ولكل واحدة من المدينتين عشرة آلاف باب، وبين كل باب فرسخ ووراء جابلق أمم وهم تافيل وتارس وهم يجاورون يأجوج ومأجوج وأهل جابرس وجابلق آمنوا بالنبي عليه الصلاة والسلام ( مر بهم ليلة الإسراء فدعاهم فأجابوه، ودعا الأمم الآخرين فلم يجيبوه ) ؛ ذكره السهيلي وقال: اختصرت هذا كله من حديث طويل رواه مقاتل بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه الطبري مسندا إلى مقاتل يرفعه؛ والله أعلم.

 

قوله تعالى: « لم نجعل لهم من دونها سترا » أي حجابا يستترون منها عند طلوعها. قال قتادة: لم يكن بينهم وبين الشمس سترا؛ كانوا في مكان لا يستقر عليه بناء، وهم يكونون في أسراب لهم، حتى إذا زالت الشمس عنهم رجعوا إلى معايشهم وحروثهم؛ يعني لا يستترون منها بكهف جبل ولا بيت يكنهم منها. وقال أمية: وجدت رجالا بسمرقند يحدثون الناس، فقال بعضهم: خرجت حتى جاوزت الصين، فقيل لي: إن بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة، فاستأجرت رجلا يرينيهم حتى صبحتهم، فوجدت أحدهم يفترش أذنه ويلتحف بالأخرى، وكان صاحبي يحسن كلامهم، فبتنا بهم، فقالوا: فيم جئتم؟ قلنا: جئنا ننظر كيف تطلع الشمس؛ فبينا نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة، فغشي على ثم أفقت وهم يمسحونني بالدهن، فلما طلعت الشمس على الماء إذ هي على الماء كهيئة الزيت، وإذا طرف السماء كهيئة الفسطاط، فلما ارتفعت أدخلوني سربا لهم، فلما ارتفع النهار وزالت الشمس عن رؤوسهم خرجوا يصطادون السمك، فيطرحونه في الشمس فينضج. وقال ابن جريج: جاءهم جيش مرة، فقال لهم أهلها: لا تطلع الشمس وأنتم بها، فقالوا: ما نبرح حتى تطلع الشمس. ثم قالوا: ما هذه العظام؟ قالوا: هذه والله عظام جيش طلعت عليهم الشمس ههنا فماتوا قال: فولوا هاربين في الأرض. وقال الحسن: كانت أرضهم لا جبل فيها ولا شجر، وكانت لا تحمل البناء، فإذا طلعت عليهم الشمس نزلوا في الماء، فإذا ارتفعت عنهم خرجوا، فيتراعون كما تتراعى البهائم.

قلت: وهذه الأقوال تدل على أن مدينة هناك والله أعلم. وربما يكون منهم من يدخل في النهر ومنهم من يدخل في السرب فلا تناقض بين قول الحسن وقتادة.

 

الآية: 91 ( كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا )

 

الآية: 92 ( ثم أتبع سببا )

 

تقدم معناه أن أتبع واتبع بمعنى أي سلك طريقا ومنازل.

 

الآية: 93 ( حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا )

 

قوله تعالى: « حتى إذا بلغ بين السدين » وهما جبلان من قبل أرمينية وأذربيجان. روى عطاء الخراساني عن ابن عباس: « بين السدين » الجبلين أرمينية وأذربيجان « وجد من دونهما » أي من ورائهما. « قوما لا يكادون يفقهون قولا » وقرأ حمزة والكسائي « يفقهون » بضم الياء وكسر القاف من أفقه إذا أبان أي لا يفقهون غيرهم كلاما. الباقون بفتح الياء والقاف، أي يعلمون. والقراءتان صحيحتان، فلا هم يفقهون من غيرهم ولا يفقهون غيرهم.

 

الآية: 94 ( قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا )

 

قوله تعالى: « قالوا ياذا القرنين » أي قالت له أمة من الإنس صالحة. « إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض » قال الأخفش: من همز « يأجوج » فجعل الألفين من الأصل يقول: يأجوج يفعول ومأجوج مفعول كأنه من أجيج النار. قال: ومن لا يهمز ويجعل الألفين زائدتين يقول: « ياجوج » من يججت وماجوج من مججت وهما غير مصروفين؛ قال رؤبة:

لو أن يأجوج ومأجوج معا وعاد عاد واستجاشوا تبعا

ذكره الجوهري. وقيل: إنما لم ينصرفا لأنهما اسمان أعجميان، مثل طالوت وجالوت غير مشتقين؛ علتاهما في منع الصرف العجمة والتعريف والتأنيث. وقالت فرقة: هو معرب من أج وأجج علتاهما في منع الصرف التعريف والتأنيث. وقال أبو علي: يجوز أن يكونا عربيين؛ فمن همز « يأجوج » فهو على وزن يفعول مثل يربوع، من قولك أجت النار أي ضويت، ومنه الأجيج، ومنه ملح أجاج، ومن لم يهمز أمكن أن يكون خفف الهمزة فقلبها ألفا مثل رأس، وأما « مأجوج » فهو مفعول من أج، والكلمتان من أصل واحد في الاشتقاق ومن لم يهمز فيجوز أن يكون خفف الهمزة، ويجوز أن يكون فاعولا من مج، وترك الصرف فيهما للتأنيث والتعريف كأنه اسم للقبيلة. واختلف في إفسادهم؛ سعيد بن عبدالعزيز: إفسادهم أكل بني آدم. وقالت فرقة: إفسادهم إنما كان متوقعا، أي سيفسدون، فطلبوا وجه التحرز منهم. وقالت فرقة: إفسادهم هو الظلم والغشم والقتل وسائر وجوه الإفساد المعلوم من البشر، والله أعلم. وقد وردت أخبار بصفتهم وخروجهم وأنهم ولد يافث. روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ولد لنوح سام وحام ويافث فولد سام العرب وفارس والروم والخير فيهم وولد يافث يأجوج ومأجوج والترك والصقالبة ولا خير فيهم وولد حام القبط والبربر والسودان ) . وقال كعب الأحبار: احتلم آدم عليه السلام فاختلط ماؤه بالتراب فأسف فخلقوا من ذلك الماء، فهم متصلون بنا من جهة الأب لا من جهة الأم. وهذا فيه نظر؛ لأن الأنبياء صلوات الله عليهم لا يحتلمون، وإنما هم من ولد يافث، وكذلك قال مقاتل وغيره. وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا يموت رجل منهم حتى يولد لصلبه ألف رجل ) . يعني يأجوج ومأجوج. وقال أبو سعيد: ( هم خمس وعشرون قبيلة من وراء يأجوج ومأجوج لا يموت الرجل من هؤلاء ومن يأجوج ومأجوج حتى يخرج من صلبه ألف رجل ) ذكره القشيري. وقال عبدالله بن مسعود: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن يأجوج ومأجوج، فقال، عليه الصلاة والسلام: ( يأجوج ومأجوج أمتان كل أمة أربعمائة ألف أمة كل أمة لا يعلم عددها إلا الله لا يموت الرجل منهم حتى يولد له ألف ذكر من صلبه كلهم قد حمل السلاح ) قيل: يا رسول الله صفهم لنا. قال: ( هم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال الأرز - شجر بالشام طول الشجرة عشرون ومائة ذراع - وصنف عرضه وطوله سواء نحوا من الذراع وصنف يفترش أذنه ويلتحف بالأخرى لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه ويأكلون من مات منهم مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان يشربون أنهار الشرق وبحيرة طبرية فيمنعهم الله من مكة والمدينة وبيت المقدس ) . وقال علي رضي الله تعالى عنه: ( وصنف منهم في طول شبر، لهم مخالب وأنياب السباع، وتداعي الحمام، وتسافد البهائم، وعواء الذئاب، وشعور تقيهم الحر والبرد، وآذان عظام إحداها وبرة يشتون فيها، والأخرى جلدة يصيفون فيها، ويحفرون السد حتى كادوا ينقبونه فيعيده الله كما كان، فيقولون: ننقبه غدا إن شاء الله تعالى فينقبونه ويخرجون، ويتحصن الناس بالحصون، فيرمون إلى السماء فيرد السهم عليهم ملطخا بالدم، ثم يهلكم الله تعالى بالنغف في رقابهم ) . ذكره الغزنوي. وقال علي عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( يأجوج أمة لها أربعمائة أمير وكذا مأجوج لا يموت أحدهم حتى ينظر إلى ألف فارس من ولده ) .

قلت: وقد جاء مرفوعا من حديث أبي هريرة، خرجه ابن ماجه في السنن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن يأجوج ومأجوج يحفران كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا فيعيده الله أشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله تعالى أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال ارجعوا فستحفرونه غدا إن شاء الله تعالى فاستثنوا فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيحقرونه ويخرجون على الناس فينشفون الماء ويتحصن الناس منهم في حصونهم فيرمون بسهامهم إلى السماء فيرجع عليها الدم - الذي أحفظ - فيقولون قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء فيبعث الله تعالى عليهم نغفا في أقفائهم فيقتلهم بها ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده إن دواب الأرض لتسمن وتشكر شكرا من لحومهم ) قال الجوهري شكرت الناقة تشكر شكرا فهي شكرة؛ وأشكر الضرع امتلأ لبنا.

وقال وهب بن منبه: رآهم ذو القرنين، وطول الواحد منهم مثل نصف الرجل المربوع منا، لهم مخاليب في مواضع الأظفار وأضراس وأنياب كالسباع، وأحناك كأحناك الإبل، وهم هلب عليهم من الشعر ما يواريهم، ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان، يلتحف إحداهما ويفترش الأخرى، وكل واحد منهم قد عرف أجله لا يموت حتى يخرج له من صلبه ألف رجل إن كان ذكرا، ومن رحمها ألف أنثى إن كانت أنثى. وقال السدي والضحاك: الترك شرذمة من يأجوج ومأجوج خرجت تغير، فجاء ذو القرنين فضرب السد فبقيت في هذا الجانب. قال السدي: بني السد على إحدى وعشرين قبيلة، وبقيت منهم قبيلة واحدة دون السد فهم الترك قاله قتادة.

قلت: وإذا كان هذا فقد نعت النبي صلى الله عليه وسلم الترك كما نعت يأجوج ومأجوج، فقال عليه الصلاة والسلام: ( لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون الترك قوما وجوههم كالمجان المطرقة يلبسون الشعر ويمشون في الشعر ) في رواية ( ينتعلون الشعر ) خرجه مسلم وأبو داود وغيرهما. ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم عددهم وكثرتهم وحدة شوكتهم قال عليه الصلاة والسلام: ( اتركوا الترك ما تركوكم ) . وقد خرج منهم في هذا الوقت أمم لا يحصيهم إلا الله تعالى، ولا يردهم عن المسلمين إلا الله تعالى، حتى كأنهم يأجوج ومأجوج أو مقدمتهم. وروى أبو داود عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ينزل ناس من أمتي بغائط يسمونه البصرة عند نهر يقال له دجلة يكون عليه جسر يكثر أهلها وتكون من أمصار المهاجرين - قال ابن يحيى قال أبو معمر وتكون من أمصار المسلمين فإذا كان في آخر الزمان جاء بنو قنطوراء عراض الوجوه صغار الأعين حتى ينزلوا على شاطئ النهر فيتفرق أهلها ثلاث فرق فرقة يأخذون أذناب البقر والبرية وهلكوا وفرقة يأخذون لأنفسهم وكفروا وفرقة يجعلون ذراريهم خلف ظهورهم ويقاتلونهم وهم الشهداء ) الغائط المطمئن من الأرض والبصرة الحجارة الرخوة وبها سميت البصرة وبنو قنطوراء هم الترك يقال: إن قنطوراء اسم جارية كانت لإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، ولدت له أولادا جاء من نسلهم الترك.

 

قوله تعالى: « فهل نجعل لك خرجا » استفهام على جهة حسن الأدب « خرجا » أي جعلا وقرئ « خراجا » والخرج أخص من الخراج يقال: أد خرج رأسك وخراج مدينتك وقال الأزهري: الخراج يقع على الضريبة، ويقع على مال الفيء، ويقع على الجزية وعلى الغلة والخراج اسم لما يخرج من الفرائض في الأموال. والخرج: المصدر. « على أن تجعل بيننا وبينهم سدا » أي ردما؛ والردم ما جعل بعضه على بعض حتى يتصل وثوب مردم أي مرقع قال الهروي يقال: ردمت الثلمة أردمها بالكسر ردما أي سددتها والردم أيضا الاسم وهو السد وقيل: الردم أبلغ من السد إذ السد كل ما يسد به والردم وضع الشيء على الشيء من حجارة أو تراب أو نحوه حتى يقوم من ذلك حجاب منيع ومنه ردم ثوبه إذا رقعه برقاع متكاثفة بعضها فوق بعض ومنه قول عنترة:

هل غادر الشعراء من متمرد

أي من قول يركب بعضه على بعض وقرئ « سدا » بالفتح في السين، فقال الخليل وسيبويه: الضم هو الاسم والفتح المصدر. وقال الكسائي: الفتح والضم لغتان بمعنى واحد وقال عكرمة وأبو عمرو بن العلاء وأبو عبيدة: ما كان من خلقة الله لم يشاركه فيه أحد بعمل فهو بالضم، وما كان من صنع البشر فهو بالفتح. ويلزم أهل هذه المقالة أن يقرؤوا « سدا » بالفتح وقبله « بين السدين » بالضم، وهي قراءة حمزة والكسائي. وقال أبو حاتم عن ابن عباس وعكرمة عكس ما قال أبو عبيدة. وقال ابن أبي إسحاق: ما رأته عيناك فهو سد بالضم وما لا ترى فهو سد بالفتح.

في هذه الآية دليل على اتخاذ السجون، وحبس أهل الفساد فيها، ومنعهم من التصرف لما يريدونه، ولا يتركون وما هم عليه، بل يوجعون ضربا ويحبسون أو يكلفون ويطلقون كما فعل عمر رضي الله عنه.

 

الآية: 95 ( قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما )

 

فيه مسألتان

[ الأولى ] قوله تعالى: « قال ما مكني قيه ربي خير فأعينوني بقوة » المعنى قال لهم ذو القرنين ما بسطه الله تعالى لي من القدرة والملك خير من خرجكم وأموالكم ولكن أعينوني بقوة الأبدان، أي برجال وعمل منكم بالأبدان، والآلة التي أبني بها الردم وهو السد وهذا تأييد من الله تعالى لذي القرنين في هذه المحاورة فإن القوم لو جمعوا له خرجا لم يعنه أحد ولو كلوه إلى البنيان ومعونته بأنفسهم أجمل به وأسرع في انقضاء هذا العمل وربما أربى ما ذكروه له على الخرج. وقرأ ابن كثير وحده « ما مكنني » بنونين. وقرأ الباقون « ما مكني فيه ربي »

[ الثانية ] في هذه الآية دليل أن الملك فرض عليه أن يقوم بحماية الخلق في حفظ بيضتهم، وسد فرجتهم، وإصلاح ثغورهم، من أموالهم التي تفيء عليهم، وحقوقهم التي تجمعها خزانتهم تحت يده ونظره، حتى لو أكلتها الحقوق، وأنفذتها المؤن، لكان عليهم جبر ذلك من أموالهم، وعليه حسن النظر لهم؛ وذلك بثلاثة شروط: الأول: ألا يستأثر عليهم بشيء. الثاني: أن يبدأ بأهل الحاجة فيعينهم الثالث أن يسوي في العطاء بينهم على قدر منازلهم، فإذا فنيت بعد هذا وبقيت صفرا فأطلعت الحوادث أمرا بذلوا أنفسهم قبل أموالهم، فإن لم يغن ذلك فأموالهم تؤخذ منهم على تقدير، وتصريف بتدبير؛ فهذا ذو القرنين لما عرضوا عليه المال في أن يكف عنهم ما يحذرونه من عادية يأجوج ومأجوج قال: لست احتاج إليه وإنما احتاج إليكم « فأعينوني بقوة » أي اخدموا بأنفسكم معي، فان الأموال عندي والرجال عندكم، ورأى أن الأموال لا تغني عنهم، فإنه إن أخذها أجرة نقص ذلك مما يحتاج إليه، فيعود بالأجر عليهم، فكان التطوع بخدمة الأبدان أولى. وضابط الأمور لا يحل مال أحد إلا لضرورة تعرض، فيؤخذ ذلك، المال جهرا لا سرا، وينفق بالعدل لا بالاستئثار، وبرأي الجماعة لا بالاستبداد بالأمر. والله تعالى الموفق للصواب.

 

الآية: 96 ( آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا )

 

قوله تعالى: « آتوني زبر الحديد » أي أعطوني زبر الحديد وناولونيها أمرهم بنقل الآلة، وهذا كله إنما هو استدعاء العطية التي بغير معنى الهبة، وإنما هو استدعاء للمناولة، لأنه قد ارتبط من قوله: إنه لا يأخذ منهم الخرج فلم يبق إلا استدعاء المناولة، وأعمال الأبدان و « زبر الحديد » قطع الحديد. وأصل الكلمة الاجتماع، ومنه زُبرة الأسد لما اجتمع من الشعر على كاهله. وزبرت الكتاب أي كتبته وجمعت حروفه. وقرأ أبو بكر والمفضل « ردما ايتوني » من الإتيان الذي هو المجيء؛ أي جيؤوني بزبر الحديد، فلما سقط الخافض انتصب الفعل على نحو قول الشاعر:

أمرتك الخير...

حذف الجار فنصب الفعل وقرأ الجمهور « زبر » بفتح الباء وقرأ الحسن بضمها؛ وكل ذلك جمع زبرة وهي القطعة العظيمة منه.

 

قوله تعالى: « حتى إذا ساوى » يعني البناء فحذف لقوة الكلام عليه. « بين الصدفين » قال أبو عبيدة: هما جانبا الجبل، وسميا بذلك لتصادفهما أي لتلاقيهما. وقاله الزهري وابن عباس؛ ( كأنه يعرض عن الآخر ) من الصدوف؛ قال الشاعر:

كلا الصدفين ينفذه سناها توقد مثل مصباح الظلام

ويقال للبناء المرتفع صدف تشبيه بجانب الجبل. وفي الحديث: كان إذا مر بصدف مائل أسرع المشي. قال أبو عبيد: الصدف والهدف كل بناء عظيم مرتفع. ابن عطية: الصدفان الجبلان المتناوحان ولا يقال للواحد صدف، وإنما يقال صدفان للاثنين؛ لأن أحدهما يصادف الآخر. وقرأ نافع وحمزة والكسائي « الصدفين » بفتح الصاد وشدها وفتح الدال، وهي قراءة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وعمر بن عبدالعزيز، وهي اختيار أبي عبيدة لأنها أشهر اللغات. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو « الصدفين » بضم الصاد والدال وقرأ عاصم في رواية أبي بكر « الصدفين » بضم الصاد وسكون الدال، نحو الجرف والجرف فهو تخفيف. وقرأ ابن الماجشون بفتح الصاد وضم الدال. وقرأ قتادة « بين الصدفين » بفتح الصاد وسكون الدال، وكل ذلك بمعنى واحد وهما الجبلان المتناوحان.

 

قوله تعالى: « قال انفخوا حتى إذا جعله نارا » « قال انفخوا » أي على زبر الحديد بالأكيار، وذلك أنه كان يأمر بوضع طاقة من الزبر والحجارة، ثم يوقد عليها الحطب والفحم بالمنافخ حتى تحمى، والحديد إذا أوقد عليه صار كالنار، فذلك قوله تعالى: « حتى إذا جعله نارا » ثم يؤتى بالنحاس المذاب أو بالرصاص أو بالحديد بحسب الخلاف في القطر، فيفرغه على ذلك الطاقة المنضدة، فإذا التأم واشتد ولصق البعض بالبعض استأنف وضع طاقة أخرى، إلى أن استوى العمل فصار جبلا صلدا قال قتادة: هو كالبرد المحبر، طريقة سوداء، وطريقة حمراء. ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: جاءه رجل فقال: يا رسول الله إني رأيت سد يأجوج ومأجوج، قال: ( كيف رأيته ) قال: رأيته كالبرد المحبر، طريقة صفراء، وطريقة حمراء، وطريقة سوداء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( قد رأيته ) . ومعنى « حتى إذا جعل نارا » أي كالنار.

 

قوله تعالى: « قال آتوني أفرغ عليه قطرا » أي أعطوني قطرا أفرغ عليه، على التقديم والتأخير. ومن قرأ « ائتوني » فالمعنى عنده تعالوا أفرغ عليه نحاسا. والقطر عند أكثر المفسرين النحاس المذاب، وأصله من القطر؛ لأنه إذا أذيب قطر كما يقطر الماء وقالت فرقة: القطر الحديد المذاب. وقالت فرقة منهم ابن الأنباري: الرصاص المذاب. وهو مشتق من قطر يقطر قطرا. ومنه « وأسلنا له عين القطر » .

 

الآية: 97 ( فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا )

 

قوله تعالى: « فما اسطاعوا أن يظهروه » أي ما استطاع يأجوج ومأجوج أن يعلوه ويصعدوا فيه؛ لأنه أملس مستو مع الجبل والجبل عال لا يرام. وارتفاع السد مائتا ذراع وخمسون ذراعا. وروي: في طوله ما بين طرفي الجبلين مائة فرسخ، وفي عرضه خمسون فرسخ؛ قاله وهب بن منبه.

 

قوله تعالى: « وما استطاعوا له نقبا » لبعد عرضه وقوته. وروي في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه ) وعقد وهب بن منبه بيده تسعين وفي رواية - وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها... ) وذكر الحديث. وذكر يحيى بن سلام عن سعد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن يأجوج ومأجوج يخرقون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم أرجعوا فستخرقونه غدا فيعيده الله كأشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم أرجعوا فستحفرونه إن شاء الله فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيخرقونه ويخرجون على الناس... ) الحديث وقد تقدم. قوله تعالى: « فما استطاعوا » بتخفيف الطاء على قراءة الجمهور. وقيل: هي لغة بمعنى استطاعوا. وقيل: بل استطاعوا بعينه كثر في كلام العرب حتى حذف بعضهم منه التاء فقالوا: اسطاعوا. وحذف بعضهم منه الطاء فقال استاع يستيع بمعنى استطاع يستطيع، وهي لغة مشهورة. وقرأ حمزة وحده « فما استطاعوا » بتشديد الطاء كأنه أراد استطاعوا، ثم أدغم التاء في الطاء فشددها، وهي قراءة ضعيفة الوجه؛ قال أبو علي: هي غير جائزة. وقرأ الأعمش « فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا » بالتاء في الموضعين.

 

الآية: 98 ( قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا )

 

قوله تعالى: « قال هذا رحمة من ربي » القائل ذو القرنين، وأشار بهذا إلى الردم، والقوة عليه، والانتفاع به في دفع ضرر يأجوج ومأجوج. وقرأ ابن أبي عبلة « هذه رحمة من ربي » . « فإذا جاء وعد ربي » أي يوم القيامة. وقيل: وقت خروجهم. « جعله دكاء وكان وعد ربي حقا » أي مستويا بالأرض؛ ومنه قوله تعالى: « إذا دكت الأرض » [ الفجر: 21 ] قال ابن عرفة: أي جعلت مستوية لا أكمة فيها، ومنه قوله تعالى: « جعله دكاء » قال اليزيدي: أي مستويا؛ يقال: ناقة دكاء إذا ذهب سنامها. وقال القتبي: أي مدكوكا ملصقا بالأرض. وقال الكلبي: قطعا متكسرا؛ قال:

هل غير غاد دك غارا فانهدم

وقال الأزهري: يقال دككته أي دققته. ومن قرأ « دكاء » أراد جعل الجبل أرضا دكاء، وهي الرابية التي لا تبلغ أن تكون جبلا وجمعها دكاوات. قرأ حمزة وعاصم والكسائي « دكاء » بالمد على التشبيه بالناقة الدكاء، وهي التي لا سنام لها، وفي الكلام حذف تقديره: جعله مثل دكاء؛ ولا بد من تقدير هذا الحذف. لأن السد مذكر فلا يوصف بدكاء. ومن قرأ « دكا » فهو مصدر دك يدك إذا هدم ورض؛ ويحتمل أن يكون « جعل » بمعنى خلق. وينصب « دكا » على الحال. وكذلك النصب أيضا في قراءة من مد يحتمل الوجهين.

 

الآية: 99 ( وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا )

 

قوله تعالى: « وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض » الضمير في « تركنا » لله تعالى؛ أي تركنا الجن والإنس يوم القيامة يموج بعضهم في بعض. وقيل: تركنا يأجوج ومأجوج « يومئذ » أي وقت كمال السد يموج بعضهم في بعض. واستعارة الموج لهم عبارة عن الحيرة وتردد بعضهم في بعض، كالمولهين من هو وخوف؛ فشبههم بموج البحر الذي يضطرب بعضه في بعض. وقيل: تركنا يأجوج ومأجوج يوم انفتاح السد يموجون في الدنيا مختلطين لكثرتهم. قلت: فهذه ثلاثة أقوال أظهرها أوسطها، وأبعدها آخرها، وحسن الأول؛ لأنه تقدم ذكر القيامة في تأويل قوله تعالى: « فإذا جاء وعد ربي » . والله أعلم.

 

قوله تعالى: « ونفخ في الصور » والصور قرن من نور ينفخ فيه، النفخة الأولى للفناء والثانية للإنشاء. وليس جمع صورة كما زعم بعضهم؛ أي ينفخ في صور الموتى على ما نبينه. روى مسلم من حديث عبدالله بن عمرو ( .... ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا - قال - وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله - قال فيصعق ويصعق الناس ثم يرسل الله - أو قال ينزل الله - مطرا كأنه الطل فتنبت منه أجساد الناس ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ) وذكر الحديث. وكذا في التنزيل « ثم نفخ فيه أخرى » [ الزمر: 68 ] ولم يقل فيها؛ فعلم أنه ليس جمع الصورة. والأمم مجمعة على أن الذي ينفخ في الصور إسرافيل عليه السلام. قال أبو الهيثم: من أنكر أن يكون الصور قرنا فهو كمن ينكر العرش والميزان والصراط، وطلب لها تأويلات. قال ابن فارس: الصور الذي في الحديث كالقرن ينفخ فيه، والصور جمع صورة. وقال الجوهري: الصور القرن. قال الراجز:

لقد نطحناهم غداة الجمعين نطحا شديدا لا كنطح الصورين

ومنه قوله: « ويوم ينفخ في الصور » . قال الكلبي: لا أدري ما هو الصور. ويقال: هو جمع صورة مثل بسرة وبسر؛ أي ينفخ في صور الموتى والأرواح. وقرأ الحسن « يوم ينفخ في الصور » . والصور ( بكسر الصاد ) لغة في الصور جمع صورة والجمع صوار، وصيار ( بالياء لغة فيه. وقال عمرو بن عبيد: قرأ عياض « يوم ينفخ في الصور » فهذا يغني به الخلق. والله أعلم. قات: وممن قال إن المراد بالصور في هذه الآية جمع صورة أبو عبيد. وهذا وإن كان محتملا فهو مردود بما ذكرناه من الكتاب والسنة. وأيضا لا ينفخ في الصور للبعث مرتين؛ بل ينفخ فيه مرة واحدة؛ فإسرافيل عليه السلام ينفخ في الصور الذي هو القرن والله عز وجل يحيى الصور. وفي التنزيل « فنفخنا فيه من روحنا » [ التحريم: 12 ] .

 

قوله تعالى: « فجمعناهم جمعا » يعني الجن والإنس في عرصات القيامة.

 

الآية: 100 ( وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا )

 

أي أبرزناها لهم.

 

الآية: 101 ( الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا )

 

قوله تعالى: « الذين كانت أعينهم » في موضع خفض نعت « للكافرين » . « في غطاء عن ذكري » أي هم بمنزلة من عينه مغطاة فلا ينظر إلى دلائل الله تعالى. « وكانوا لا يستطيعون سمعا » أي لا يطيقون أن يسمعوا كلام الله تعالى، فهم بمنزلة من صم.

 

الآية: 102 ( أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا )

 

قوله تعالى: « أفحسب الذين كفروا » أي ظن. وقرأ علي وعكرمة ومجاهد وابن محيصن « أفحسب » بإسكان السين وضم الباء؛ أي كفاهم. « أن يتخذوا عبادي » يعني عيسى والملائكة وعزيرا. « من دوني أولياء » ولا أعاقبهم؛ ففي الكلام حذف. وقال الزجاج: المعنى؛ أفحسبوا أن ينفعهم ذلك.

 

الآيات: 103 - 105 ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا )

 

فيه دلالة على أن من الناس من يعمل العمل وهو يظن أنه محسن وقد حبط سعيه، والذي يوجب إحباط السعي إما فساد الاعتقاد أو المراءاة، والمراد هنا الكفر. روى البخاري عن مصعب قال: سألت أبي « قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا » أهم الحرورية؟ قال: لا؛ هم اليهود والنصارى. وأما اليهود فكذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم، وأما النصارى فكفروا بالجنة، فقالوا: لا طعام فيها ولا شراب؛ والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه؛ وكان سعد يسميهم الفاسقين. والآية معناها التوبيخ؛ أي قل لهؤلاء الكفرة الذين عبدوا غيري: يخيب سعيهم وآمالهم غدا؛ فهم الأخسرون أعمالا، وهم « الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا » في عبادة من سواي. قال ابن عباس: ( يريد كفار أهل مكة ) . وقال علي: ( هم الخوارج أهل حروراء. وقال مرة: هم الرهبان أصحاب الصوامع ) . وروي أن ابن الكواء سأله عن الأخسرين أعمالا فقال له: أنت وأصحابك. قال ابن عطية: ويضعف هذا كله قوله تعالى بعد ذلك: « أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم » وليس من هذه الطوائف من يكفر بالله ولقائه والبعث والنشور، وإنما هذه صفة مشركي مكة عبدة الأوثان، وعلي وسعد رضي الله عنهما ذكرا أقواما أخذوا بحظهم من هذه الآية. و « أعمالا » نصب على التمييز. و « حبطت » قراءة الجمهور بكسر الباء. وقرأ ابن عباس « حبطت » بفتحها.

 

قوله تعالى: « فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا » قراءة الجمهور « نقيم » بنون والعظمة. وقرأ مجاهد بياء الغائب؛ يريد فلا يقيم الله عز وجل، وقرأ عبيد بن عمير « فلا يقوم » ويلزمه أن يقرأ « وزن » وكذلك قرأ مجاهد « فلا يقوم لهم يوم القيامة وزن » . قال عبيد بن عمير: يؤتى يوم القيامة بالرجل العظيم الطويل الأكول الشروب فلا يزن عند الله جناح بعوضة.

قلت: هذا لا يقال مثله من جهة الرأي، وقد ثبت معناه مرفوعا صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة اقرؤوا إن شئتم ( فلا نقيم له يوم القيامة وزنا ) . والمعنى أنهم لا ثواب لهم، وأعمالهم مقابلة بالعذاب، فلا حسنة لهم توزن في موازين القيامة ومن لا حسنة له فهو في النار. وقال أبو سعيد الخدري: يؤتى بأعمال كجبال تهامة فلا تزن شيئا. وقيل: يحتمل أن يريد المجاز والاستعارة؛ كأنه قال: فلا قدر لهم عندنا يومئذ؛ والله أعلم. وفي هذا الحديث من الفقه ذم السمن لمن تكلفه، لما في ذلك من تكلف المطاعم والاشتغال بها عن المكارم، بل يدل على تحريم الأكل الزائد على قدر الكفاية المبتغى به الترفه والسمن. وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( إن أبغض الرجال إلى الله تعالى الحبر السمين ) ومن حديث عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خيركم قرني ثم الذين يلونهم - قال عمران فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة - ثم إن من بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن ) وهذا ذم. وسبب ذلك أن السمن المكتسب إنما هو من كثرة الأكل والشره، والدعة والراحة والأمن والاسترسال مع النفس على شهواتها، فهو عبد نفسه لا عبد ربه، ومن كان هذا حاله وقع لا محالة في الحرام، وكل لحم تولد عن سحت فالنار أولى به؛ وقد ذم الله تعالى الكفار بكثرة الأكل فقال: « والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم » [ محمد: 12 ] فإذا كان المؤمن يتشبه بهم، ويتنعم بتنعمهم في كل أحواله وأزمانه، فأين حقيقة الإيمان، والقيام بوظائف الإسلام؟ ! ومن كثر أكله وشربه كثر نهمه وحرصه، وزاد بالليل كسله ونومه، فكان نهاره هائما، وليله نائما. وقد مضى في « الأعراف » هذا المعنى؛ وتقدم فيها ذكر الميزان، وأن له كفتين توزن فيهما صحائف الأعمال فلا معنى للإعادة. وقال عليه الصلاة والسلام حين ضحكوا من حمش ساق ابن مسعود وهو يصعد النخلة: ( تضحكون من ساق توزن بعمل أهل الأرض ) فدل هذا على أن الأشخاص توزن؛ ذكره الغزنوي.

 

الآية: 106 ( ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا )

 

قوله تعالى: « ذلك جزاؤهم » « ذلك » إشارة إلى ترك الوزن، وهو في موضع رفع بالابتداء « جزاؤهم » خبره. « جهنم » بدل من المبتدأ الذي هو « ذلك » . « بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا » و « ما » في قوله: « بما كفروا » مصدرية، والهزء الاستخفاف والسخرية؛ وقد تقدم.

 

الآية: 107 ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا )

 

قال قتادة: الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأعلاها وأفضلها وأرفعها وقال أبو أمامة الباهلي: الفردوس سرة الجنة. وقال كعب: ليس في الجنان جنة أعلى من جنة الفردوس؛ فيها الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر. وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من آمن بالله وبرسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقا على الله أن يدخله الجنة جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها ) قالوا: يا رسول الله أفلا نبشر الناس؟ قال: ( إن في الجنة جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها ) قالوا: يا رسول الله أفلا نبشر الناس؟ قال: ( إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة - أراه قال - وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة ) وقال مجاهد: والفردوس البستان بالرومية. الفراء: هو عربي. والفردوس حديقة في الجنة. وفردوس اسم روضة دون اليمامة. والجمع فراديس، قال أمية بن أبي الصلت الثقفي:

كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة فيها الفراديس والفومان والبصل

والفراديس موضع بالشام. وكرم مفردس أي معرش.

 

الآية: 108 ( خالدين فيها لا يبغون عنها حولا )

 

قوله تعالى: « خالدين فيها » أي دائمين. « لا يبغون عنها حولا » أي لا يطلبون تحويلا عنها إلى غيرها. والحول بمعنى التحويل؛ قال أبو علي. وقال الزجاج: حال من مكانه حولا كما يقال: عظم عظما. قال: ويجوز أن يكون من الحيلة، أي لا يحتالون منزلا غيرها. قال الجوهري: التحول التنقل من موضع إلى موضع، والاسم الحول، ومنه قوله تعالى: « خالدين فيها لا يبغون عنها حولا » .

 

الآية: 109 ( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا )

 

قوله تعالى: « قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي » نفد الشيء إذا تم وفرغ؛ وقد تقدم. « ولو جئنا بمثله مددا » أي زيادة على البحر عددا أو وزنا. وفي مصحف أُبي « مدادا » وكذلك قرأها مجاهد وابن محيصن وحميد. وانتصب « مددا » على التمييز أو الحال. وقال ابن عباس: قالت اليهود لما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم « وما أوتيتم من العلم إلا قليلا » [ الإسراء: 85 ] قالوا: وكيف وقد أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا؟ فنزلت « قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر » الآية. وقيل: قالت اليهود إنك أوتيت الحكمة، ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، ثم زعمت أنك لا علم لك بالروح؟ ! فقال الله تعالى قل وإن أوتيت القرآن وأوتيتم التوراة فهي بالنسبة إلى كلمات الله تعالى قليلة، قال ابن عباس: « كلمات ربي » أي مواعظ ربي. وقيل: عنى بالكلمات الكلام القديم الذي لا غاية له ولا منتهى، وهو وإن كان واحدا فيجوز أن يعبر عنه بلفظ الجمع لما فيه من فوائد الكلمات، ولأنه ينوب منا بها، فجازت العبادة عنها بصيغة الجمع تفخيما؛ وقال الأعشى:

ووجه نقي اللون صاف يزينه مع الجيد لبات لها ومعاصم

فعبر باللبات عن اللبة. وفي التنزيل « نحن أولياؤكم » [ فصلت: 31 ] و « إنا نحن نزلنا الذكر » [ الحجر: 9 ] « وإنا لنحن نحيي ونميت » [ الحجر: 23 ] وكذلك « إن إبراهيم كان أمة » [ النحل:120 ] لأنه ناب مناب أمة. وقيل: أي ما نفدت العبارات والدلالات التي تدل على مفهومات معاني كلامه سبحانه وتعالى. وقال السدي: أي إن كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد صفات الجنة التي هي دار الثواب. وقال عكرمة: لنفد البحر قبل أن ينفه ثواب من قال لا إله إلا الله. ونظير هذه الآية: « ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله » [ لقمان: 27 ] . وقرأ حمزة والكسائي « قبل أن ينفد » بالياء لتقدم الفعل.

 

الآية: 110 ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا )

 

قوله تعالى: « قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد » أي لا أعلم إلا ما يعلمني الله تعالى، وعلم الله تعالى لا يحصى، وإنما أمرت بأن أبلغكم بأنه لا إله إلا الله. « فمن كان يرجو لقاء ربه » أي يرجو رؤيته وثوابه ويخشى عقابه « فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا » قال ابن عباس: نزلت في جندب بن زهير العامري قال: يا رسول الله إني أعمل العمل لله تعالى، وأريد وجه الله تعالى، إلا أنه إذا اطلع عليه سرني النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله طيب ولا يقبل إلا الطيب ولا يقبل ما شورك فيه ) فنزلت الآية. وقال طاووس قال رجل: يا رسول الله! إني أحب الجهاد في سبيل الله تعالى وأحب أن يرى مكاني فنزلت هذه الآية. وقال مجاهد: جاء رجل للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إني أتصدق وأصل الرحم أصنع ذلك إلا لله تعالى فيذكر ذلك مني وأحمد عليه فيسرني ذلك وأعجب به، فسكت رسو الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل شيئا، فأنزل الله تعالى « فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا » .

قلت: والكل مراد، والآية تعم ذلك كله وغيره من الأعمال. وقد تقدم في سورة « هود » حديث أبي هريرة الصحيح في الثلاثة الذين يقضى عليهم أول الناس وقد تقدم في سورة « النساء » الكلام على الرياء، وذكرنا من الأخبار هناك ما فيه كفاية. وقال الماوردي وقال جميع أهل التأويل: معنى قوله تعالى: « ولا يشرك بعبادة ربه أحدا » إنه لا يرائي بعمله أحدا. وروى الترمذي الحكيم رحمه الله تعالى في ( نوادر الأصول ) قال: حدثنا أبي رحمه الله تعالى قال: حدثنا مكي بن إبراهيم قال: حدثنا عبدالواحد بن زيد عن عبادة بن نسي قال: أتيت شداد بن أوس في مصلاه وهو يبكي، فقلت: ما الذي أبكاك يا أبا عبدالرحمن؟ قال: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، إذ رأيت بوجهه أمرا ساءني فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما الذي أرى بوجهك؟ قال: ( أمرا أتخوفه على أمتي من بعدي ) قلت: ما هو يا رسول الله؟ قال: ( الشرك والشهوة الخفية ) قلت: يا رسول الله! وتشرك أمتك من بعدك؟ قال: ( يا شداد أما إنهم لا يعبدون شمسا ولا قمرا ولا حجرا ولا وثنا ولكنهم يراؤون بأعمالهم ) قلت: والرياء شرك هو؟ قال: ( نعم ) . قلت: فما الشهوة الخفية؟ قال: ( يصبح أحدهم صائما فتعرض له شهوات الدنيا فيفطر ) قال عبدالواحد: فلقيت الحسن، فقلت: يا أبا سعيد! أخبرني عن الرياء أشرك هو؟ قال: نعم؛ أما تقرأ « فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا » . وروى إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا حمد بن أبي بكر قال حدثنا المعتمر بن سليمان عن ليث عن شهر بن حوشب قال: ( كان عبادة بن الصامت وشداد بن أوس جالسين، فقالا: إنا نتخوف على هذه الأمة من الشرك والشهوة الخفية، فأما الشهوة الخفية فمن قبل النساء ) . وقالا: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من صلى صلاة يرائي بها فقد أشرك ومن صام صياما يرائي به فقد أشرك ) ثم تلا « فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا » .

قلت: وقد جاء تفسير الشهوة الخفية بخلاف هذا، وقد ذكرناه في « النساء » . وقال سهل بن عبدالله: وسئل الحسن عن الإخلاص والرياء فقال: من الإخلاص أن تحب أن تكتم حسناتك ولا تحب أن تكتم سيئاتك، فإن أظهر الله عليك حسناتك تقول هذا من فضلك وإحسانك، وليس هذا من فعلي ولا من صنيعي، وتذكر قوله تعالى: « فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ) . ( والذين يؤتون ما آتوا » [ المؤمنون: 10 ] الآية؛ يؤتون الإخلاص، وهم يخافون ألا يقبل منهم؛ وأما الرياء فطلب حظ النفس من عملها في الدنيا؛ قيل لها: كيف يكون هذا؟ قال: من طلب بعمل بينه وبين الله تعالى سوى وجه الله تعالى والدار الآخرة فهو رياء. وقال علماؤنا رضي الله تعالى عنهم: وقد يقضي الرياء بصاحبه إلى استهزاء الناس به؛ كما يحكى أن طاهر بن الحسين قال لأبي عبدالله المروزي: منذ كم صرت إلى العراق يا أبا عبدالله؟ قال: دخلت العراق منذ عشرين سنة وأنا منذ ثلاثين سنة صائم؛ فقال يا أبا عبدالله سألناك عن مسألة فأجبتنا عن مسألتين. وحكى الأصمعي أن أعرابيا صلى فأطال وإلى جانبه قوم، فقالوا: ما أحسن صلاتك؟ ! فقال: وأنا مع ذلك صائم. أين هذا من قول الأشعث، بن قيس وقد صلى فخفف، فقيل له إنك خففت، فقال: إنه لم يخالطها رياء؛ فخلص من تنقصهم بنفي الرياء عن نفسه، والتصنع من صلاته؛ وقد تقدم في « النساء » دواء الرياء من قول لقمان؛ وأنه كتمان العمل، وروى الترمذي الحكيم حدثنا أبي رحمه الله تعالى قال: أنبأنا الحماني قال: أنبأنا جرير عن ليث عن شيخ عن معقل بن يسار قال قال أبو بكر وشهد به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرك، قال: ( هو فيكم أخفى من دبيب النمل وسأدلك على شيء إذا فعلته أذهب عنك صغار الشرك وكباره تقول اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم تقولها ثلاث مرات ) . وقال عمر بن قيس الكندي سمعت معاوية تلا هذه الآية على المنبر « فمن كان يرجو لقاء ربه » فقال: إنها لآخر آية نزلت من السماء. وقال عمر قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أوحى إلي أنه من قرأ « فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا » رفع له نور ما بين عدن إلى مكة حشوه الملائكة يصلون عليه ويستغفرون له ) . وقال معاذ بن جبل قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من قرأ أول سورة الكهف وآخرها كانت له نورا من قرنه إلى قدمه ومن قرأها كلها كانت له نورا من الأرض إلى السماء ) وعن ابن عباس أنه قال له رجل: إني أضمر أن أقوم ساعة من الليل فيغلبني النوم، فقال: ( إذا أردت أن تقوم أي ساعة شئت من الليل فاقرأ إذا أخذت مضجعك « قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي » إلى آخر السورة فإن الله تعالى يوقظك متى شئت من الليل ) ؛ ذكر هذه الفضائل الثعلبي رضي الله تعالى عنه. وفي مسند الدرامي أبي محمد أخبرنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن عبدة عن زر بن حبيش قال من قرأ آخر سورة الكهف لساعة أن يقوم من الليل قامها؛ قال عبدة فجربناه فوجدناه كذلك قال ابن العربي: كان شيخنا الطرطوشي الأكبر يقول: لا تذهب بكم الأزمان في مصاولة الأقران، ومواصلة الإخوان؛ وقد ختم سبحانه وتعالى البيان بقوله: « فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعيادة ربه أحدا » .

 

سورة مريم

 

سورة مريم مكية إلا آيتي ( 58 ) و ( 71 ) فمدنيتان وآياتها 98 نزلت بعد فاطر لما كانت وقعة بدر، وقتل الله فيها صناديد الكفار، قال كفار قريش: إن ثأركم بأرض الحبشة، فأهدوا إلى النجاشي، وابعثوا إليه رجلين من ذوي رأيكم لعله يعطيكم من عنده من قريش، فتقتلونهم بمن قتل منكم ببدر؛ فبعث كفار قريش عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعثهما، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري، وكتب معه إلى النجاشي، فقدم على النجاشي، فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين، وأرسل إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم، ثم أمر جعفر أن يقرأ عليهم القرآن، فقرأ سورة مريم « كهيعص » وقاموا تفيض أعينهم من الدمع، فهم الذين أنزل الله تعالى فيهم « ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون » [ المائدة: 82 ] . وقرأ إلى قوله: « الشاهدين » . ذكره أبو داود. وفي السيرة؛ فقال النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله شيء؟ قال جعفر: نعم؛ فقال له النجاشي: اقرأه علي. قال: فقرأ « كهيعص » فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفتهم حتى أخضلوا لحاهم حين سمعوا ما يتلى عليهم؛ فقال النجاشي: هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكما أبدا؛ وذكر تمام الخبر.

 

الآية: 1 ( كهيعص )

 

تقدم الكلام في أوائل السور. وقال ابن عباس في « كهيعص » : أن الكاف من كاف، والهاء من هاد، والياء من حكيم، والعين من عليم، والصاد من صادق، ذكره ابن عزيز القشيري عن ابن عباس؛ معناه كاف لخلقه، هاد لعباده، يده فوق أيديهم، عالم بهم، صادق في وعده؛ ذكره الثعلبي عن الكلبي السدي ومجاهد والضحاك. وقال الكلبي أيضا: الكاف من كريم وكبير وكاف، والهاء من هاد، والياء من رحيم، والعين من عليم وعظيم، والصاد من صادق؛ والمعنى واحد. وعن ابن عباس أيضا: هو اسم من أسماء الله تعالى؛ وعن علي رضي الله عنه هو اسم الله عز وجل وكان يقول: يا كهيعص اغفر لي؛ ذكره الغزنوي. السدي: هو اسم الله الأعظم الذي سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب. وقتادة: هو اسم من أسماء القرآن؛ ذكره عبدالرزاق. عن معمر عنه. وقيل: هو اسم للسورة؛ وهو اختيار القشيري في أوائل الحروف؛ وعلى هذا قيل: تمام الكلام عند قوله: « كهيعص » كأنه إعلام باسم السورة، كما تقول: كتاب كذا أو باب كذا ثم تشرع في المقصود. وقرأ ابن جعفر هذه الحروف متقطعة، ووصلها الباقون، وأمال أبو عمرو الهاء وفتح الياء، وابن عامر وحمزة بالعكس، وأمالهما جميعا الكسائي وأبو بكر وخلف. وقرأهما بين اللفظين أهل المدينة نافع وغيره. وفتحهما الباقون. وعن خارجة أن الحسن كان يضم كاف، وحكى غيره أنه كان يضم ها، وحكى إسماعيل بن إسحاق أنه كان يضم يا. قال أبو حاتم: ولا يجوز ضم الكاف والهاء والياء؛ قال النحاس: قراءة أهل المدينة من أحسن ما في هذا، والإمالة جائزة في هاويا. وأما قراءة الحسن فأشكلت على جماعة حتى قالوا: لا تجوز؛ منهم أبو حاتم. والقول فيها ما بينه هارون القارئ؛ قال: كان الحسن يشم الرفع؛ فمعنى هذا أنه كان يومئ؛ كما سيبويه أن من العرب من يقول: الصلاة والزكاة يومئ إلى الواو، ولهذا كتبها في المصحف بالواو. وأظهر الدال من هجاء « ص » نافع وابن كثير وعاصم ويعقوب، وهو اختيار أبي عبيد؛ وأدغمها الباقون.

 

الآية: 2 ( ذكر رحمة ربك عبده زكريا )

 

قوله تعالى: « ذكر رحمة ربك » في رفع « ذكر » ثلاثة أقوال؛ قال الفراء: هو مرفوع بـ « كهيعص » ؛ قال الزجاج: هذا محال؛ لأن « كهيعص » ليس هو مما أنبأنا الله عز وجل به عن زكريا، وقد خبر الله تعالى عنه وعن ما بشر به، وليس « كهيعص » من قصته. وقال الأخفش: التقدير؛ فيما يقص عليكم ذكر رحمة ربك. والقول الثالث: أن المعنى هذا الذي يتلوه عليكم ذكر رحمة ربك. وقيل: « ذكر رحمة ربك » رفع بإضمار مبتدأ؛ أي هذا ذكر رحمة ربك؛ وقرأ الحسن « ذكر رحمة ربك » أي هذا المتلو من القرآن ذكر رحمة ربك. وقرئ « ذكر » على الأمر. « ورحمة » تكتب ويوقف عليها بالهاء، وكذلك كل ما كان مثلها، لا اختلاف فيها بين النحويين واعتلوا في ذلك أن هذه الهاء لتأنيث الأسماء فرقا بينها وبين الأفعال. « عبدة » قال الأخفش: هو منصوب بـ « رحمة » . « زكريا » بدل منه، كما تقول: هذا ذكر ضرب زيد عمرا؛ فعمرا منصوب بالضرب، كما أن « عبده » منصوب بالرحمة. وقيل: هو على التقديم والتأخير؛ معناه: ذكر ربك عبده زكريا برحمة؛ فـ « عبده » منصوب بالذكر؛ ذكره الزجاج والفراء. وقرأ بعضهم « عبده زكريا » بالرفع؛ وهي قراءة أبي العالية. وقرأ يحيى بن يعمر « ذكر » بالنصب على معنى هذا القرآن ذكر رحمة عبده زكريا. وتقدمت اللغات والقراءة في « زكريا » في « آل عمران » .

 

الآية: 3 ( إذ نادى ربه نداء خفيا )

 

مثل قوله: « ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين » [ الأعراف: 55 ] وقد تقدم. والنداء الدعاء والرغبة؛ أي ناجى ربه بذلك في محرابه. دليله قوله: « فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب » [ آل عمران: 39 ] فبين أنه استجاب له في صلاته، كما نادى في الصلاة. واختلف في إخفائه هذا النداء؛ فقيل: أخفاه من قومه لئلا يلام على مسألة الولد عند كبر السن؛ ولأنه أمر دنيوي، فإن أجيب فيه نال بغيته، وإن لم يجب لم يعرف بذلك أحد. وقيل: مخلصا فيه لم يطلع عليه إلا الله تعالى. وقيل: لما كانت الأعمال الخفية أفضل وأبعد من الرياء أخفاه. وقيل: « خفيا » سرا من قومه في جوف الليل؛ والكل محتمل والأول أظهر؛ والله أعلم. وقد تقدم أن المستحب من الدعاء الإخفاء في سورة « الأعراف » وهذه الآية نص في ذلك؛ لأنه سبحانه أثنى بذلك على زكريا. وروى إسماعيل قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى بن سعيد عن أسامة بن زيد عن محمد بن عبدالرحمن وهو ابن أبي كبشة عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي ) وهذا عام. قال يونس بن عبيد: كان الحسن يرى أن يدعو الإمام في القنوت ويؤمن من خلفه من غير رفع صوت، وتلا يونس « إذ نادى ربه نداء خفيا » . قال ابن العربي: وقد أسر مالك القنوت وجهر به الشافعي، والجهر به أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو به جهرا.

 

الآية: 4 ( قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا )

 

قوله تعالى: « قال رب إني وهن العظم مني » « قال رب إني وهن » قرئ « وهن » بالحركات الثلاث أي ضعف. يقال: وهن يهن وهنا إذا ضعف فهو واهن. وقال أبو زيد يقال: وهن يهن ووهن يوهن. وإنما ذكر العظم لأنه عمود البدن، وبه قوامه، وهو أصل بنائه، فإذا وهن تداعى وتساقط سائر قوته؛ ولأنه أشد ما فيه وأصلبه؛ فإذا وهن كان ما وراءه أوهن منه. ووحده لأن الواحد هو الدال على معنى الجنسية، وقصده إلى أن هذا الجنس الذي هو العمود والقوام، وأشد ما تركب منه الجسد قد أصابه الوهن، ولو جمع لكان قصد إلى معنى آخر، وهو أنه لم يهن منه بعض عظامه ولكن كلها.

 

قوله تعالى: « واشتعل الرأس شيبا » أدغم السين في الشين أبو عمرو. وهذا من أحسن الاستعارة في كلام العرب. والاشتعال انتشار شعاع النار؛ شبه به انتشار الشيب في الرأس؛ يقول: شخت وضعفت؛ وأضاف الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس. ولم يضف الرأس اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكريا عليه السلام. « وشيبا » في نصبه وجهان: أحدهما: أنه مصدر لأن معنى اشتعل شاب؛ وهذا قول الأخفش. وقال الزجاج: وهو منصوب على التمييز. النحاس: قول الأخفش أولى لأنه مشتق من فعل فالمصدر أولى به. والشيب مخالطة الشعر الأبيض الأسود. قال العلماء: يستحب للمرء أن يذكر في دعائه نعم الله تعالى عليه وما يليق بالخضوع؛ لأن قوله تعالى: « وهن العظم مني » إظهار للخضوع. وقوله: « ولم أكن بدعائك رب شقيا » إظهار لعادات تفضله في إجابته أدعيته؛ أي لم أكن بدعائي إياك شقيا؛ أي لم تكن تخيب دعائي إذا دعوتك؛ أي إنك عودتني الإجابة فيما مضى. يقال: شقي بكذا أي تعب فيه ولم يحصل مقصوده. وعن بعضهم أن محتاجا سأله وقال: أنا الذي أحسنت إليه في وقت كذا؛ فقال: مرحبا بمن توسل بنا إلينا؛ وقضى حاجته.

 

الآية: 5 ( وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا )

 

قوله تعالى: « وإني خفت الموالي » قرأ عثمان بن عفان ومحمد بن علي وعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما ويحيى بن يعمر « خفت » بفتح الخاء وتشديد الفاء وكسر التاء وسكون الياء من « الموالي » لأنه في رفع « بخفت » ومعناه انقطعت بالموت. وقرأ الباقون « خفت » بكسر الخاء وسكون الفاء وضم التاء ونصب الياء من « الموالي » لأنه في موضع نصب بـ « خفت » و « الموالي » هنا الأقارب بنو العم والعصبة الذين يلونه في النسب. والعرب تسمي بني العم الموالي. قال الشاعر:

مهلا بني عمنا مهلا موالينا لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا

قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: خاف أن يرثوا ماله وأن ترثه الكلالة فأشفق أن يرثه غير الولد. وقالت طائفة: إنما كان مواليه مهملين للدين فخاف بموته أن يضيع الدين، فطلب وليا يقوم بالدين بعده؛ حكى هذا القول الزجاج، وعليه فلم يسل من يرث ماله؛ لأن الأنبياء لا تورث. وهذا هو الصحيح من القولين في تأويل الآية، وأنه عليه الصلاة والسلام أراد وراثة العلم والنبوة لا وراثة المال؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة ) وفي كتاب أبي داود: ( إن العلماء ورثة الأنبياء وأن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ورثوا العلم ) . وسيأتي في هذا مزيد بيان عند قوله: « يرثني » .

 

هذا الحديث يدخل في التفسير المسند؛ لقوله تعالى: « وورث سليمان داود » وعبارة عن قول زكريا: « فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب » وتخصيص للعموم في ذلك، وأن سليمان لم يرث من داود مالا خلفه داود بعده؛ وإنما ورث منه الحكمة والعلم، وكذلك ورث يحيى من آل يعقوب؛ هكذا قال أهل العلم بتأويل القرآن ما عدا الروافض، وإلا ما روي عن الحسن أنه قال: « يرثني » مالا « ويرث من آل يعقوب » النبوة والحكمة؛ وكل قول يخالف قول النبي صلى الله عليه وسلم فهو مدفوع مهجور؛ قال أبو عمر. قال ابن عطية: والأكثر من المفسرين على أن زكريا إنما أراد وراثة المال؛ ويحتمل قول النبي صلى الله عليه وسلم ( إنا معشر الأنبياء لا نورث ) ألا يريد به العموم، بل على أنه غالب أمرهم؛ فتأمله. والأظهر الأليق بزكريا عليه السلام أن يريد وراثة العلم والدين، فتكون الوراثة مستعارة. ألا ترى أنه لما طلب وليا ولم يخصص ولدا بلغه الله تعالى أمله على أكمل الوجوه. وقال أبو صالح وغيره: قوله « من آل يعقوب » يريد العلم والنبوة.

 

قوله تعالى: « من ورائي » قرأ ابن كثير بالمد والهمز وفتح الياء. وعنه أنه قرأ أيضا مقصورا مفتوح الياء مثل عصاي. الباقون بالهمز والمد وسكون الياء. والقراء على قراءة « خفت » مثل نمت إلا ما ذكرنا عن عثمان. وهي قراءة شاذة بعيدة جدا؛ حتى زعم بعض العلماء أنها لا تجوز. قال كيف يقول: خفت الموالي من بعدي أي من بعد موتي وهو حي؟ !. النحاس: والتأويل لها ألا يعني بقوله: « من ورائي » أي من بعد موتى، ولكن من ورائي في ذلك الوقت؛ وهذا أيضا بعيد يحتاج إلى دليل أنهم خفوا في ذلك الوقت وقلوا، وقد أخبر الله تعالى بما يدل على الكثرة حين قالوا « أيهم يكفل مريم » . ابن عطية: « من ورائي » من بعدي في الزمن، فهو الوراء على ما تقدم في « الكهف » .

 

قوله تعالى: « وكانت امرأتي عاقرا » امرأته هي إيشاع بنت فاقوذا بن قبيل، وهي أخت حنة بنت فاقوذا؛ قاله الطبري. وحنة هي أم مريم حسب ما تقدم في « آل عمران » بيانه. وقال القتبي: امرأة زكريا هي إيشاع بنت عمران، فعلى هذا القول يكون يحيى ابن خالة عيسى عليهما السلام على الحقيقة. وعلى القول الآخر يكون ابن خالة أمه. وفي حديث الإسراء قال عليه الصلاة والسلام: ( فلقيت ابني الخالة يحيى وعيسى ) شاهدا للقول الأول. والله أعلم. والعاقر التي لا تلد لكبر سنها؛ وقد مضى بيانه في « آل عمران » . والعاقر من النساء أيضا التي لا تلد من غير كبر. ومنه قوله تعالى: « ويجعل من يشاء عقيما » [ الشورى: 50 ] . وكذلك العاقر من الرجال؛ ومنه قول عامر بن الطفيل:

لبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا جبانا فما عذري لدى كل محضر

 

قوله تعالى: « فهب لي من لدنك وليا » سؤال ودعاء. ولم يصرح بولد لما علم من حال وبعده عنه بسبب المرأة. قال قتادة: جرى له هذا الأمر وهو ابن بضع وسبعين سنة. مقاتل: خمس وتسعين سنة؛ وهو أشبه؛ فقد كان غلب على ظنه انه لا يولد له لكبره؛ ولذلك قال: « وقد بلغت من الكبر عتيا » . وقالت طائفة: بل طلب الولد، ثم طلب أن تكون الإجابة في أن يعيش حتى يرثه، تحفظا من أن تقع الإجابة في الولد ولكن يحترم، ولا يتحصل منه الغرض.

 

قال العلماء: دعاء زكريا عليه السلام في الولد إنما كان لإظهار دينه، وإحياء نبوته، ومضاعفة لأجره لا للدنيا، وكان ربه قد عوده الإجابة، ولذلك قال: « ولم أكن بدعائك رب شقيا » ، أي بدعائي إياك. وهذه وسيلة حسنة؛ أن يتشفع إليه بنعمه، يستدر فضله بفضله؛ يروى أن حاتم الجود لقيه رجل فسأله؛ فقال له حاتم: من أنت؟ قال: أنا الذي أحسنت إليه عام أول؛ فقال: مرحبا بمن تشفع إلينا بنا. فإن قيل كيف أقدم زكريا على مسألة ما يخرق العادة دون إذن؟ فالجواب أن ذلك جائز في زمان الأنبياء وفي القرآن ما يكشف عن هذا المعنى؛ فإنه تعالى قال: « كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب » [ آل عمران: 37 ] فلما رأى خارق العادة استحكم طمعه في إجابة دعوته؛ فقال تعالى: « هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة » [ آل عمران: 38 ] الآية.

 

إن قال قائل: هذه الآية تدل على جواز الدعاء بالولد، والله سبحانه وتعالى قد حذرنا من آفات الأموال والأولاد، ونبه على المفاسد الناشئة من ذلك؛ فقال: « إنما أموالكم وأولادكم فتنة » [ التغابن: 15 ] . قال: « إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم » [ التغابن: 14 ] . فالجواب أن الدعاء بالولد معلوم من الكتاب والسنة حسب ما تقدم في « آل عمران » بيانه. ثم إن زكريا عليه السلام تحرز فقال: ( ذرية طيبة ) وقال: « واجعله رب رضيا » . والولد إذا كان بهذه الصفة نفع أبويه في الدنيا والآخرة، وخرج من حد العداوة والفتنة إلى حد المسرة والنعمة. وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لأنس خادمه فقال: ( اللهم أكثر مال وولده وبارك له فيما أعطيته ) فدعا له بالبركة تحرزا مما يؤدي إليه الإكثار من الهلكة. وهكذا فليتضرع العبد إلى مولاه في هداية ولده، ونجاته في أولاه وأخراه اقتداء بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام والفضلاء؛ وقد تقدم في « آل عمران » بيانه.

 

الآية: 6 ( يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا )

 

قوله تعالى: « يرثني » قرأ أهل الحرمين والحسن وعاصم وحمزة « يرثني ويرث » بالرفع فيهما. وقرأ يحيى بن يعمر وأبو عمرو ويحي بن وثاب والأعمش والكسائي بالجزم فيهما، وليس هما جواب « هب » على مذهب سيبويه، إنما تقديره إن تهبه يرثني ويرث؛ والأول أصوب في المعنى لأنه طلب وارثا موصوفا؛ أي هب لي من لدنك الولي الذي هذه حال وصفته؛ لأن الأولياء منهم من لا يرث؛ فقال: هب لي الذي يكون وارثي؛ قاله أبو عبيد؛ ورد قراءة الجزم؛ قال: لأن معناه إن وهبت ورث، وكيف يخبرا الله عز وجل بهذا وهو أعلم به منه؟ ! النحاس: وهذه حجة متقصاة؛ لأن جواب الأم عند النحويين فيه معنى الشرط والمجازاة؛ تقول: أطع الله يدخلك الجنة؛ أي إن تطعه يدخلك الجنة.

 

قال النحاس: فأما معنى « يرثني ويرث من آل يعقوب » فللعلماء فيه ثلاثة أجوبة؛ قيل: هي وراثة نبوة. وقيل: وراثه حكمة. وقيل: هي وراثة مال. فأما قولهم وراثة نبوة فمحال؛ لأن النبوة لا تورث، ولو كانت تورث لقال قائل: الناس ينتسبون إلى نوح عليه السلام وهو نبي مرسل. ووراثة العلم والحكمة مذهب حسن؛ وفي الحديث ( العلماء ورثة الأنبياء ) . وأما وراثة المال فلا يمتنع، وإن كان قوم قد أنكروه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا نورث ما تركنا صدقة ) فهذا لا حجة فيه؛ لأن الواحد يخبر عن نفسه بإخبار الجمع. وقد يؤول هذا بمعنى: لا نورث الذي تركناه صدقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخلف شيئا يورث عنه؛ وإنما كان الذي أباحه الله عز وجل إياه في حياته بقوله تبارك اسمه: « واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول » [ الأنفال: 41 ] لأن معنى « لله » ومن سبيل الله، ومن سبيل الله ما يكون في مصلحة الرسول صلى الله عليه وسلم ما دام حيا؛ فإن قيل: ففي بعض الروايات ( إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة ) ففيه التأويلان جميعا؛ أن يكون « ما » بمعنى الذي. والآخر لا يورث من كانت هذه حاله. وقال أبو عمر: واختلف العلماء في تأويل قوله عليه السلام: ( لا نورث ما تركنا صدقة ) على قولين: أحدهما: وهو الأكثر وعليه الجمهور أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث وما ترك صدقة. والآخر: أن نبينا عليه الصلاة والسلام لم يورث؛ لأن الله تعالى خصه بأن جعل ماله كله صدقة زيادة في فضيلته، كما خص في النكاح بأشياء أباحها له وحرمها على غيره؛ وهذا القول قال بعض أهل البصرة منهم ابن علية، وسائر علماء المسلمين على القول الأول.

 

قوله تعالى: « من آل يعقوب » قيل: هو يعقوب بن إسرائيل، وكان زكريا متزوجا بأخت مريم بنت عمران، ويرجع نسبها إلى يعقوب؛ لأنها من ولد سليمان بن داود وهو من ولد يهوذا بن يعقوب، وزكريا من ولد هارون أخي موسى، وهارون وموسى من ولد لاوى بن يعقوب، وكانت النبوة في سبط يعقوب بن إسحاق. وقيل: المعني بيعقوب ها هنا بن يعقوب بن ماثان أخو عمران بن ماثان أبي مريم أخوان من نسل سليمان بن داود عليهما السلام؛ لأن يعقوب وعمران ابنا ماثان، وبنو ماثان رؤساء بني إسرائيل؛ قاله مقاتل وغيره. وقال الكلبي: وكان آل يعقوب أخواله، وهو يعقوب بن ماثان، وكان فيهم الملك، وكان زكريا من ولد هارون بن عمران أخي موسى. وروى قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يرحم الله - تعالى - زكريا ما كان عليه من ورثته ) . ولم ينصرف يعقوب لأنه أعجمي.

 

قوله تعالى: « واجعله رب رضيا » أي مرضيا في أخلاقه وأفعاله. وقيل: راضيا بقضائك وقدرك. وقيل: رجلا صالحا ترضى عنه. وقال أبو صالح: نبيا كما جعلت أباه نبيا.

 

الآية: 7 ( يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا )

 

قوله تعالى: « يا زكريا » في الكلام حذف؛ أي فاستجاب الله دعاءه فقال: « يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى » فتضمنت هذه البشرى ثلاثة أشياء: أحدها: إجابة دعائه وهي كرامة. الثاني: إعطاؤه الولد وهو قوة. الثالث: أن يفرد بتسميته؛ وقد تقدم معنى تسميته في « آل عمران » . وقال مقاتل: سماه يحي لأنه حيي بين أب شيخ وأم عجوز؛ وهذا فيه نظر؛ لما تقدم من أن امرأته كانت عقيما لا تلد. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « لم نجعل له من قبل سميا » أي لم نسم أحدا قبل يحيى بهذا الاسم؛ قاله ابن عباس وقتادة وابن أسلم والسدي. ومن عليه تعالى بأن لم يكل تسميته إلى الأبوين. وقال مجاهد وغيره: « سميا » معناه مثلا ونظيرا، وهو مثل قوله تعالى: « هل تعلم له سميا » [ مريم: 65 ] معناه مثلا ونظيرا كأنه من المساماة والسمو؛ هذا فيه بعد؛ لأنه لا يفضل على إبراهيم؛ وموسى؛ اللهم إلا أن يفضل في خاص كالسؤدد والحصر حسب ما تقدم بيانه « في آل عمران » وقال ابن عباس أيضا: معناه لم تلد العواقر مثله ولدا. قيل: إن الله تعالى اشترط القبل، لأنه أراد أن يخلق بعده أفضل منه وهو محمد صلى الله عليه وسلم. وفي هذه الآية دليل وشاهد على أن الأسامي السنع جديرة بالأثرة، وإياها كانت العرب تنتحي في التسمية لكونها أنبه وأنزه عن النبز حتى قال قائل:

سنع الأسامي مسبلي أزر حمر تمس الأرض بالهدب

وقال رؤبة للنسابة البكري وقد سأله عن نسبه: أنا ابن العجاج؛ فقال: قصرت وعرفت.

 

الآية: 8 ( قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا )

 

قوله تعالى: « قال رب أنى يكون لي غلام » ليس على معنى الإنكار لما أخبر الله تعالى به، بل على سبيل التعجب من قدرة الله تعالى أن يخرج ولدا من امرأة عاقر وشيخ كبير. وقيل: غير هذا مما تقدم في « آل عمران » بيانه. « وقد بلغت من الكبر عتيا » يعني النهاية في الكبر واليبس والجفاف؛ ومثله العسي؛ قال الأصمعي: عسا الشيء يعسو عسوا وعساء ممدود أي يبس وصلب، وقد عسا الشيخ يعسو عسيا ولى وكبر مثل عتا؛ يقال: عتا الشيخ يعتو عتيا وعتيا كبر وولى، وعتوت يا فلان تعتو عتوا وعتيا. والأصل عتو لأنه من ذوات الواو، فأبدلوا من الواو ياء؛ لأنها أختها وهي أخف منها، والآيات على الياءات. ومن قال: « عتيا » كره الضمة مع الكسرة والياء؛ وقال الشاعر:

إنما يعذر الوليد ولا يعـ ـذر من كان في الزمان عتيا

وقرأ ابن عباس « عسيا » وهو كذلك مصحف أبي. وقرأ يحيي بن وثاب وحمزة والكسائي وحفص « عتيا » بكسر العين وكذلك « جثيا » و « صليا » حيث كن. وضم حفص « بكيا » خاصة، وكذلك الباقون في الجميع، وهما لغتان. وقيل: « عتيا » قسيا؛ يقال: ملك عات إذا كان قاسي القلب.

 

الآية: 9 ( قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا )

 

قوله تعالى: « قال كذلك قال ربك هو علي هين » أي قال له الملك « كذلك قال ربك » والكاف في موضع رفع؛ أي الأمر كذلك؛ أي كما قيل لك: « هو علي هين » . قال الفراء: خلقه علي هين. « وقد خلقتك من قبل » أي من قبل يحيى. وهذه قراءة أهل المدينة والبصرة وعاصم. وقرأ سائر الكوفيين « وقد خلقناك » بنون وألف بالجمع على التعظيم. والقراءة الأولى أشبه بالسواد. « ولم تك شيئا » أي كما خلقك الله تعالى بعد العدم ولم تك شيئا موجودا، فهو القادر على خلق يحيى وإيجاده.

 

الآية: 10 ( قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا )

 

قوله تعالى: « قال رب اجعل لي آية » طلب آية على حملها بعد بشارة الملائكة إياه، وبعد « وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا » زيادة طمأنينة؛ أي تمم النعمة بأن تجعل لي آية، وتكون تلك الآية زيادة نعمة وكرامة. وقيل: طلب آية تدله على أن البشرى منه بيحيى لا من الشيطان؛ لأن إبليس أوهمه ذلك. قاله الضحاك وهو معنى قول السدي؛ وهذا فيه نظر لإخبار الله تعالى بأن الملائكة نادته حسب ما تقدم في « آل عمران » . « قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا » تقدم.

 

الآية: 11 ( فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا )

 

قوله تعالى: « فخرج على قومه من المحراب » أي أشرف عليهم من المصلى. والمحراب أرفع المواضع، أشرف المجالس، وكانوا يتخذون المحاريب فيما ارتفع من الأرض؛ دليله محراب داود عليه السلام على ما يأتي. واختلف الناس في اشتقاقه؛ فقالت فرقة: هو مأخوذ من الحرب كأن ملازمه يحارب الشيطان والشهوات. وقالت فرقة: هو مأخوذ من الحرب ( بفتح الراء ) كأن ملازمه يلقى منه حربا وتعبا ونصبا.

 

هذه الآية تدل على أن ارتفاع إمامهم على المأمومين كان مشروعا عندهم في صلاتهم. وقد اختلف في هذه المسألة فقهاء الأمصار، فأجاز ذلك الإمام أحمد وغيره متمسكا بقصة المنبر. ومنع مالك ذلك في الارتفاع الكثير دون اليسير، وعلل أصحابه المنع بخوف الكبر على الإمام.

قلت: وهذا فيه نظر؛ وأحسن ما فيه ما رواه أبو داود عن همام أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان، فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه، فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن هذا - أو ينهى عن ذلك! قال: بلى قد ذكرت حين مددتني وروي أيضا عن عدي بن ثابت الأنصاري قال: حدثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن، فأقميت الصلاة فتقدم عمار بن ياسر، وقام على دكان يصلي والناس أسفل منه، فتقدم حذيفة فأخذ على يديه فاتبعه عمار حتى أنزل حذيفة، فلما فرغ عمار من صلاته، قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا أم الرجل القوم فلا يقم في مكان أرفع من مقامهم ) أو نحو ذلك؛ فقال عمار: لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي.

قلت: فهؤلاء ثلاثة من الصحابة قد أخبروا بالنهي عن ذلك، ولم يحتج أحد منهم على صاحبه بحديث المنبر فدل على أنه منسوخ، ومما يدل على نسخه أن فيه عملا زائدا في الصلاة، وهو النزول والصعود، فنسخ كما نسخ الكلام والسلام. وهذا أولى مما اعتذر به أصحابنا من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معصوما من الكبر؛ لأن كثيرا من الأئمة يوجد لا كبر عندهم، ومنهم من علله بأن ارتفاع المنبر كان يسيرا؛ والله أعلم.

 

قوله تعالى: « فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا » قال الكلبي وقتادة وابن منبه: أوحى إليهم أشار. القتبي: أومأ. مجاهد: كتب على الأرض. عكرمة: كتب في كتاب. والوحي في كلام العرب الكتابة؛ ومنه قول ذي الرمة:

سوى الأربع الدهم اللواتي كأنها بقية وحي في بطون الصحائف

وقال عنترة:

كوحي صحائف من عهد كسرى فأهداها لأعجم طمطمي

و « بكرة وعشيا » ظرفان. وزعم الفراء أن العشي يؤنث ويجوز تذكيره إذا أبهمت؛ قال: وقد يكون العشي جمع عشية.

 

قد تقدم الحكم في الإشارة في « آل عمران » واختلف علماؤنا فيمن حلف ألا يكلم إنسانا فكتب إليه كتابا، أو أرسل إليه رسولا؛ فقال مالك: إنه يحنث إلا أن ينوي مشافهته، ثم رجع فقال: لا ينوي في الكتاب ويحنث إلا أن يرتجع الكتاب قبل وصوله. قال ابن القاسم: إذا قرأ كتابه حنث، وكذلك لو قرأ الحالف كتاب المحلوف عليه. وقال أشهب: لا يحنث إذا قرأه الحالف؛ وهذا بين؛ لأنه لم يكلمه ولا ابتدأه بكلام إلا أن يريد ألا يعلم معنى كلامه فإنه يحنث وعليه يخرج قول ابن القاسم. فإن حلف ليكلمنه لم يبر إلا بمشافهته؛ وقال ابن الماجشون: وإن حلف لئن علم كذا ليعلمنه أو ليخبرنه إليه أو أرسل إليه رسولا بر، ولو علماه جميعا لم يبر، حتى يعلمه لأن علمهما مختلف.

 

واتفق مالك والشافعي والكوفيون أن الأخرس إذا كتب الطلاق بيده لزمه؛ قال الكوفيون: إلا أن يكون رجل أصمت أياما فكتب لم يجز من ذلك شيء. قال الطحاوي: الخرس مخالف للصمت العارض، كما أن العجز عن الجماع العارض لمرض ونحوه يوما أو نحوه مخالف للعجز الميؤوس منه الجماع، نحو الجنون في باب خيار المرأة في الفرقة.

 

الآية: 12 ( يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا )

 

قوله تعالى: « يا يحيى خذ الكتاب بقوة » في الكلام حذف؛ المعنى فولد له ولد وقال الله تعالى للمولود: « يا يحيى خذ الكتاب بقوة » وهذا اختصار يدل الكلام عليه و « الكتاب » التوراة بلا خلاف. « بقوة » أي بجد واجتهاد؛ قاله مجاهد. وقيل العلم به، والحفظ له والعمل به، وهو الالتزام لأوامره، والكف عن نواهيه؛ قاله زيد بن أسلم؛ وقد تقدم في « البقرة » . « وآتيناه الحكم صبيا » قيل: الأحكام والمعرفة بها. وروى معمر أن الصبيان قالوا ليحيى: اذهب بنا نلعب؛ فقال: ما للعب خلقت. فأنزل الله تعالى « وآتيناه الحكم صبيا » وقال قتادة: كان ابن سنتين أو ثلاث سنين. وقال مقاتل: كان ابن ثلاث سنين. و « صبيا » نصب على الحال. وقال ابن عباس: من قرأ القرآن قبل أن يحتلم فهو ممن أوتي الحكم صبيا. وروي في تفسير هذه الآية من طريق عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكريا ) . وقال قتادة: إن يحيى عليه السلام لم يعص الله قط بصغيرة ولا كبيرة ولاهم بامرأة. وقال مجاهد: وكان طعام يحيى عليه السلام العشب، كان للدمع في خديه مجار ثابتة. وقد مضى الكلام في معنى قوله: « وسديدا وحصورا » [ آل عمران: 39 ] في « آل عمران »

 

الآية: 13 ( وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا )

 

قوله تعالى: « وحنانا من لدنا » « حنانا » عطف على « الحكم » . وروي عن ابن عباس أنه قال: والله ما أدري ما « الحنان » . وقال جمهور المفسرين: الحنان الشفقة والرحمة والمحبة؛ وهو فعل من أفعال النفس. النحاس: وفي معنى الحنان عن ابن عباس قولان: أحدهما: قال: تعطف الله عز وجل عليه بالرحمة والقول الآخر ما أعطيه من رحمة الناس حتى يخلصهم من الكفر والشرك. وأصله من حنين الناقة على ولدها. ويقال: حنانك وحنانيك؛ قيل: هما لغتان بمعنى واحد. وقيل: حنانيك تثنية الحنان. وقال أبو عبيدة: والعرب تقول: حنانك يا رب وحنانيك يا رب بمعنى واحد؛ تريد رحمتك. وقال امرؤ القيس:

ويمنحها بنو شمجى بن جرم معيزهم حنانك ذا الحنان

وقال طرفة:

أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض

وقال الزمخشري: « حنانا » رحمة لأبويه وغيرهما وتعطفا وشفقة؛ وأنشد سيبويه:

فقالت حنان ما أتى بك ههنا أذو نسب أم أنت بالحي عارف

قال بن الأعرابي: الحنان من صفة الله تعالى مشددا الرحيم والحنان مخفف: العطف والرحمة. والحنان: الرزق والبكرة. ابن عطية: والحنان في كلام العرب أيضا ما عظم من الأمور في ذات الله تعالى؛ ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل في حديث بلال: والله لئن قتلتم هذا العبد لأتخذن قبره حنانا؛ وذكر هذا الخبر الهروي؛ فقال: وفي حديث بلال ومر عليه ورقة بن نوفل وهو يعذب فقال الله لئن قتلتموه لأتخذنه حنانا؛ أي لأتمسحن به. وقال الأزهري: معناه لأتعطفن عليه ولأترحمن عليه لأنه من أهل الجنة.

قلت: فالحنان العطف، وكذا قال مجاهد. و « حنانا » أي تعطفا منا عليه أو منه على الخلق؛ قال الحطيئة:

تحنن علي هداك المليك فإن لكل مقام مقالا

عكرمة: محبة. وحنة الرجل امرأته لتوادهما؛ قال الشاعر:

فقالت حنان ما أتى بك ههنا أذو نسب أم أنت بالحي عارف

 

قوله تعالى: « وزكاة » « الزكاة » التطهير والبركة والتنمية في وجوه الخير والبر؛ أي جعلناه مباركا للناس يهديهم. وقيل: المعنى زكيناه بحسن الثناء عليه كما تزكي الشهود إنسانا. وقيل: « زكاة » صدقة به على أبويه؛ قاله ابن قتيبة. « وكان تقيا » أي مطيعا لله تعالى، ولهذا لم يعمل خطيئة ولم يلم بها.

 

الآية: 14 ( وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا )

 

قوله تعالى: « وبرا بوالديه » البر بمعنى البار وهو الكثير البر. « جبارا » متكبرا. وهذا وصف ليحيى عليه السلام بلين الجانب وخفض الجناح.

 

الآية: 15 ( وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا )

 

قوله تعالى: « وسلام عليه يوم ولد » قال الطبري وغيره: معناه أمان. ابن عطية: والأظهر عندي أنها التحية المتعارفة فهي أشرف وأنبه من الأمان؛ لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان عنه وهي أقل درجاته، وإنما الشرف في أن سلم الله عليه، وحياه في المواطن التي الإنسان فيها في غاية الضعف والحاجة وقلة الحيلة والفقر إلى الله تعالى عظيم الحول.

قلت: وهذا قول حسن، وقد ذكرناه معناه عن سفيان بن عيينة في سورة « سبحان » [ الإسراء: 1 ] عند قتل يحي. وذكر الطبري عن الحسن أن عيسى ويحيي التقيا - وهما ابنا الخالة - فقال يحيى لعيسى: ادع الله لي فأنت خير مني؛ فقال له عيسى: بل أنت ادع الله لي فأنت خير مني؛ سلم الله عليك وأنا سلمت على نفسي؛ فانتزع بعض العلماء من هذه الآية في التسليم فضل عيسى؛ بأن قال: إدلاله التسليم على نفسه ومكانته من الله تعالى التي اقتضت ذلك حين قرر وحكى في محكم التنزيل أعظم في المنزلة من أن يسلم عليه. قال ابن عطية: ولكل وجه.

 

الآية: 16 ( واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا )

 

قوله تعالى: « واذكر في الكتاب مريم » القصة إلى آخرها هذا ابتداء قصة ليست من الأولى. والخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم؛ أي عرفهم قصتها ليعرفوا كمال قدرتنا. « إذ انتبذت » أي تنحت وتباعدت. والنبذ الطرح والرمي؛ قال الله تعالى: « فنبذوه وراء ظهورهم » . [ آل عمران: 187 ] . « من أهلها » أي ممن كان معها. و « إذ » بدل من « مريم » بدل اشتمال؛ لأن الأحيان مشتملة على ما فيها. والانتباذ الاعتزال والانفراد. واختلف الناس لم انتبذت؛ فقال السدي: انتبذت لتطهر من حيض أو نفاس. وقال غيره: لتعبد الله؛ وهذا حسن. وذلك أن مريم عليها السلام كانت وقفا على سدانة المعبد وخدمته والعبادة فيه، من الناس لذلك، ودخلت المسجد إلى جانب المحراب في شرقيه لتخلو للعبادة، فدخل عيها جبريل عليه السلام. فقوله: « مكانا شرقيا » أي مكانا من جانب الشرق. والشرق بسكون الراء المكان الذي تشرق فيه الشمس. والشرق بفتح الراء الشمس. وإنما خص المكان بالشرق لأنهم كانوا يعظمون جهة المشرق ومن حيث تطلع الأنوار، وكانت الجهات الشرقية من كل شيء أفضل من سواها؛ حكاه الطبري. وحكى عن ابن عباس أنه قال: إني لأعلم الناس لم اتخذ النصارى المشرق قبلة لقول الله عز وجل: « إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا » فاتخذوا ميلاد عيسى عليه السلام قبلة؛ وقالوا: لو كان شيء من الأرض خيرا من المشرق لوضعت مريم عيسى عليه السلام فيه. واختلف الناس في نبوة مريم؛ فقيل: كانت نبية بهذا الإرسال والمحاورة للملك. وقيل: لم تكن نبية وإنما كلمها مثال بشر، ورؤيتها للملك كما رئي جبريل في صفة دحية حين سؤاله عن الإيمان والإسلام. والأول أظهر. وقد مضى الكلام في هذا المعنى مستوفى في « آل عمران » والحمد لله.

 

الآيات: 17 - 21 ( فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا، قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا، قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا، قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا، قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا )

 

قوله تعالى: « فأرسلنا إليها روحنا » قيل: هو روح عيسى عليه السلام؛ لأن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد، فركب الروح في جسد عيسى عليه السلام الذي خلقه في بطنها. وقيل: هو جبريل وأضيف الروح إلى الله تعالى تخصيصا وكرامة. والظاهر أنه جبريل عليه السلام؛ لقوله: « فتمثل لها » أي تمثل الملك لها. « بشرا » تفسير أو حال. « سويا » أي مستوي الخلقة؛ لأنها لم تكن لتطيق أو تنظر جبريل في صورته. ولما رأت رجلا حسن الصورة في صورة البشر قد خرق عليها الحجاب ظنت أنه يريدها بسوء. فـ « قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا » أي ممن يتقي الله. البكالي: فنكص جبريل عليه السلام فزعا من ذكر الرحمن تبارك وتعالى. الثعلبي كان رجلا صالحا فتعوذت به تعجبا. وقيل: تقي فعيل بمعنى مفعول أي كنت ممن يتقى منه. في البخاري قال أبو وائل: علمت مريم أن التقي ذو نهية حين قالت: « إن كنت تقيا » . وقيل: تقي اسم فاجر معروف في ذلك الوقت قاله وهب بن منبه؛ حكاه مكي وغيره ابن عطية وهو ضعيف ذاهب مع التخرص. فقال لها جبريل عليه السلام: « إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا » جعل الهبة من قبله لما كان الإعلام بها من قبله. وقرأ ورش عن نافع « ليهب لك » على معنى أرسلني الله ليهب لك. وقيل: معنى « لأهب » بالهمز محمول على المعنى؛ أي قال: أرسلته لأهب لك. ويحتمل « ليهب » بلا همز أن يكون بمعنى المهموز ثم خففت الهمزة. فلما سمعت مريم ذلك من قوله استفهمت عن طريقه فـ « قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر » أي بنكاح. « ولم أكن بغيا » أي زانية. وذكرت هذا تأكيدا؛ لأن قولها لم يمسسني بشر يشمل الحلال والحرام. وقيل: ما استبعدت من قدرة الله تعالى شيئا ولكن أرادت كيف يكون هذا الولد؟ من قبل الزوج في المستقبل أم يخلقه الله ابتداء؟ وروي أن جبريل عليه السلام حين قال لها هذه المقالة نفخ في جيب درعها وكمها؛ قال ابن جريج. ابن عباس: أخذ جبريل عليه السلام ردن قميصها بإصبعه فنفخ فيه فحملت من ساعتها بعيسى. قال الطبري: وزعمت النصارى أن مريم حملت بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة، وأن عيسى عاش إلى أن رفع اثنتين وثلاثين سنة وأياما، وأن مريم بقيت بعد رفعه ست سنين، فكان جميع عمرها نيفا وخمسين سنة. وقوله: « ولنجعله » متعلق بمحذوف؛ أي ونخلقه لنجعله: « آية » دلالة على قدرتنا عجيبة « ورحمة منا » لمن أمن به. « وكان أمرا مقضيا » مقدرا في اللوح مسطورا.

 

الآيتان: 22 - 23 ( فحملته فانتبذت به مكانا قصيا، فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا )

 

قوله تعالى: « فانتبذت به مكانا قصيا » أي تنحت بالحمل إلى مكان بعيد؛ قال ابن عباس: إلى أقصى الوادي، وهو وادي بيت لحم بينه وبين إيلياء أربعة أميال؛ وإنما بعدت فرارا من تعيير قومها إياها بالولادة من غير زوج. قال ابن عباس: ما هو إلا أن حملت فوضعت في الحال وهذا هو الظاهر؛ لأن الله تعالى ذكر الانتباذ الحمل. وقيل: غير ذلك على ما يأتي:

 

قوله تعالى: « فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة » « أجاءها » اضطرها؛ وهو تعدية جاء بالهمز. يقال: جاء به وأجاءه إلى موضع كذا، كما يقال: ذهب به وأذهبه. وقرأ شبيل ورويت عن عاصم « فاجأها » من المفاجأة. وفي مصحف أبي « فلما أجاءها المخاض » . وقال زهير:

وجار سار معتمدا إلينا أجاءته المخافة والرجاء

وقرأ الجمهور « المخاض » بفتح الميم. ابن كثير فيما روي عنه بكسرها وهو الطلق وشدة الولادة وأوجاعها. مخضت المرأة تمخض مخاضا ومخاضا. وناقة ماخض أي دنا ولادها. « إلى جذع النخلة » كأنها طلبت شيئا تستند إليه وتتعلق به، كما تتعلق الحامل لشدة وجع الطلق. والجذع ساق النخلة اليابسة في الصحراء الذي لا سعف عليه ولا غصن؛ ولهذا لم يقل إلى النخلة. « قالت يا ليتني مت قبل هذا » تمنت مريم عليها السلام الموت من جهة الدين لوجهين: أحدهما: أنها خافت أن يظن بها الشر في دينها وتعير فيفتنها ذلك. الثاني: لئلا يقع قوم بسببها في البهتان والنسبة إلى الزنى وذلك مهلك. وعلى هذا الحد يكون تمني الموت جائزا، وقد مضى هذا المعنى مبينا في سورة « يوسف » عليه السلام والحمد لله.

قلت: وقد سمعت أن مريم عليها السلام سمعت نداء من يقول: اخرج يا من يعبد من دون الله فحزنت لذلك، و « قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا » النسي في كلام العرب الشيء الحقير الذي شأنه أن ينسى ولا يتألم لفقده كالوتد والحبل للمسافر ونحوه. وحكي عن العرب أنهم إذا أرادوا الرحيل عن منزل قالوا: احفظوا أنساءكم؛ الأنساء جمع نسي وهو الشيء الحقير يغفل فينسى. ومنه قول الكميت رضي الله تعالى عنه:

أتجعلنا جسرا لكلب قضاعة ولست بنسي في مَعَد ولا دخل

وقال الفراء: النسي ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها؛ فقول مريم: « نسيا منسيا » أي حيضة ملقاة. وقرئ « نسيا » بفتح النون وهما لغتان مثل الحجر والحجر والوتر والوتر. وقرأ محمد بن كعب القرظي بالهمز « نسئا » بكسر النون. وقرأ نوف البكالي « نسئا » بفتح النون من نسأ الله تعالى في أجله أي أخره. وحكاها أبو الفتح والداني عن محمد بن كعب. وقرأ بكر بن حبيب « نسا » بتشديد السين وفتح النون دون همز. وقد حكى الطبري في قصصها أنها لما حملت بعيسى عليه السلام حملت أيضا أختها بيحيى، فجاءتها أختها زائرة فقالت: يا مريم أشعرت أنت أني حملت؟ فقالت لها: وإني أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك؛ فذلك أنه روي أنها أحست بجنينها يحر برأسه إلى ناحية بطن مريم؛ قال السدي فذلك قوله: « مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين » [ آل عمران: 39 ] وذكر أيضا من قصصها أنها خرجت فارة رجل من بني إسرائيل يقال له يوسف النجار، كان يخدم معها في المسجد وطول في ذلك. قال الكلبي: قيل ليوسف - وكانت سميت له أنها حملت من الزنى - فالآن يقتلها الملك، فهرب بها، فهم في الطريق بقتلها، فأتاه جبريل عليه السلام وقال له: إنه من روح القدس؛ قال ابن عطية: وهذا كله ضعيف. وهذه القصة تقتضي أنها حملت، واستمرت حاملا على عرف النساء، وتظاهرت الروايات بأنها ولدته لثمانية أشهر قال عكرمة؛ ولذلك قيل: لا يعيش ابن ثمانية أشهر لخاصة عيسى. وقيل: ولدته لتسعة. وقيل: لستة. وما ذكرناه عن ابن عباس أصح وأظهر. والله أعلم.

 

الآية: 24 ( فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا )

 

قوله تعالى: « فناداها من تحتها » قرئ بفتح الميم وكسرها. قال ابن عباس: المراد بـ « من » جبريل، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها؛ وقال علقمة والضحاك وقتادة؛ ففي هذا لها آية وأمارة أن هذا من الأمور الخارقة للعادة التي لله فيها مراد عظيم. وقوله: « ألا تحزني » تفسير النداء، « وأن » مفسرة بمعنى أي، المعنى: فلا تحزني بولادتك. « قد جعل ربك تحتك سريا » يعني عيسى. والسري من الرجال العظيم الخصال السيد. قال الحسن: كان والله سريا من الرجال. ويقال: سري فلان على فلان أي تكرم. وفلان سري من قوم سراه. وقال الجمهور: أشار لها إلى الجدول الذي كان قريب جذع النخلة. قال ابن عباس: كان ذلك نهرا قد انقطع ماؤه فأجراه الله تعالى لمريم. والنهر يسمى سريا لأن الماء يسري فيه؛ قال الشاعر:

سلم ترى الدالي منه أزورا إذا يعب في السري هرهرا

وقال لبيد:

فتوسطا عرض السري وصدعا مسجورة متجاورا قلامها

وقيل: ناداها عيسى، وكان ذلك معجزة وآية وتسكينا لقلبها؛ والأول أظهر. وقرأ ابن عباس ( فناداها ملك من تحتها ) قالوا: وكان جبريل عليه السلام في بقعة من الأرض أخفض من البقعة التي كانت هي عليها.

الآية [ 25 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيتان: 25 - 26 ( وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا، فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا )

 

قوله تعالى: « وهزي » أمرها بهز الجذع اليابس لترى آية أخرى في إحياء موات الجذع. والباء في قوله: « بجذع » زائدة مؤكدة كما يقال: خذ بالزمام، وأعط بيدك قال الله تعالى: « فليمدد بسبب إلى السماء » أي فليمدد سببا. وقيل: المعنى وهزي إليك رطبا على جذع النخلة. « وتساقط » أي تتساقط فأدغم التاء في السين. وقرأ حمزة « تساقط » مخففا فحذف التي أدغمها غيره. وقرأ عاصم في رواية حفص « تساقط » بضم التاء مخففا وكسر القاف. وقرئ « تتساقط » بإظهار التاءين و « يساقط » بالياء وإدغام التاء « وتسقط » و « يسقط » و « تسقط » و « يسقط » بالتاء للنخلة وبالياء للجذع؛ فهذه تسع قراءات ذكرها الزمخشري رحمة الله تعالى عليه. « رطبا » نصب بالهز؛ أي إذا هزت الجذع هززت بهزه « رطبا جنيا » وعلى الجملة فـ « رطبا » يختلف نصبه بحسب معاني القراءات؛ فمرة يستند الفعل إلى الجذع، ومرة إلى الهز، ومرة إلى النخلة. « وجنيا » معناه قد طابت وصلحت للاجتناء، وهي من جنيت الثمرة. ويروى عن ابن مسعود - ولا يصح - أنه قرأ « تساقط عليك رطبا جنيا برنيا » . وقال مجاهد: « رطبا جنيا » قال: كانت عجوة. وقال عباس بن الفضل: سألت أبا عمرو بن العلاء عن قوله: « رطبا جنيا » فقال: لم يذو. قال وتفسيره: لم يجف ولم ييبس ولم يبعد عن يدي مجتنيه؛ وهذا هو الصحيح. قال الفراء: الجني والمجني واحد يذهب إلى أنهما بمنزلة القتيل والمقتول والجريح والمجروح. وقال غير الفراء: الجني المقطوع من نخلة واحدة، والمأخوذ من مكان نشأته؛ وأنشدوا:

وطيب ثمار في رياض أريضة وأغصان أشجار جناها على قرب

يريد بالجنى ما يجنى منها أي يقطع ويؤخذ. قال ابن عباس: كان جذعا نخرا فلما هزت نظرت إلى أعلى الجذع فإذا السعف قد طلع، ثم نظرت إلى الطلع قد خرج من بين السعف، ثم أخضر فصار بلحا ثم احمر فصار زهوا، ثم رطبا؛ كل ذلك في طرفة عين، فجعل الرطب يقع بين يديها لا ينشدخ منه شيء.

 

استدل بعض الناس من هذه الآية على أن الرزق وإن كان محتوما؛ فإن الله تعالى قد وكل ابن آدم إلى سعي ما فيه؛ لأنه أمر مريم بهز النخلة لترى آية، وكانت الآية تكون بألا تهز.

الأمر بتكليف الكسب الرزق سنة الله تعالى في عباده، وأن ذلك لا يقدح في التوكل، خلافا لما تقوله جهال المتزهدة؛ وقد تقدم هذا المعنى والخلاف فيه. وقد كانت قبل ذلك يأيتها، رزقها من غير تكسب كما قال: « كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا » الآية [ آل عمران: 37 ] . فلما ولدت أمرت بهز الجذع. قال علماؤنا: لما كان قلبها فارغا فرغ الله جارحتها عن النصب، فلما ولدت عيسى وتعلق قلبها بحبه، واشتغل سرها بحديثه وأمره، وكلها إلى كسبها، وردها إلى العادة بالتعلق بالأسباب في عباده. وحكى الطبري عن ابن زيد أن عيسى عليه السلام قال لها: لا تحزني؛ فقالت له وكيف حزن وأنت معي؟ ! لا ذات زوج ولا مملوكة! أي شيء عذري عند الناس؟ ! ! « يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا » فقال لها عيسى: أنا أكفيك الكلام.

 

قال الربيع بن خيثم: ما للنفساء عندي خير من الرطب لهذه الآية، ولو علم الله شيئا هو أفضل من الرطب للنفساء لأطعمه مريم ولذلك قالوا: التمر عادة للنفساء من ذلك الوقت وكذلك التحنيك. وقيل: إذا عسر ولادها لم يكن لها خير من الرطب ولا للمريض خير من العسل؛ ذكره الزمخشري. قال ابن وهب قال مالك قال الله تعالى: « رطبا جنيا » الجني من التمر ما طاب من غير نقش ولا إفساد. والنقش أن ينقش من أسفل البسرة حتى ترطب؛ فهذا مكروه؛ يعني مالك أن هذا تعجيل للشيء قبل وقته، فلا ينبغي لأحد أن يفعله، وإن فعله فاعل ما كان ذلك مجوزا لبيعه؛ ولا حكما بطيبه. وقد مضى هذا القول في الأنعام. والحمد لله. عن طلحة بن سليمان « جنيا » بكسر الجيم للإتباع؛ أي جعلنا لك في السري والرطب فائدتين: إحداهما الأكل والشرب، الثانية سلوة الصدر لكونهما معجزتين. وهو معنى قوله تعالى: « فكلي واشربي وقري عينا » أي فكلي من الجني، وأشربي من السري، وقري عينا برؤية الولد النبي. وقرئ بفتح القاف وهي قراءة الجمهور. وحكى الطبري قراءة « وقري » بكسر القاف وهي لغة نجد. يقال: قر عينا يقر ويقر بضم القاف وكسرها وأقر الله عينه فقرت. وهو مأخوذ من القر والقرة وهما البرد. ودمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة. وضعف فرقة هذا وقالت: الدمع كله حار، فمعنى أقر الله عينه أي سكن الله عينه بالنظر إلى من يحبه حتى تقر وتسكن؛ وفلان قرة عيني؛ أي نفسي تسكن بقربه. وقال الشيباني: « وقري عينا » معناه نامي حضها على الأكل والشرب والنوم. قال أبو عمرو: أقر الله عينه أي أنام عينه، وأذهب سهره. و « عينا » نصب على التمييز؛ كقولك: طب نفسا. والفعل في الحقيقة إنما هو للعين فنقل ذلك إلى ذي العين؛ وينصب الذي كان فاعلا في الحقيقة على التفسير. ومثله طبت نفسا، وتفقأت شحما، وتصببت عرقا، ومثله كثير.

 

قوله تعالى: « فإما ترين » الأصل في ترين ترأيين فحذفت الهمزة كما حذفت من ترى ونقلت فتحتها إلى الراء فصار « تريين » ثم قلبت الياء الأولى ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فاجتمع ساكنان الألف المنقلبة عن الياء وياء التأنيث، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، فصار ترين، ثم حذفت النون علامة للجزم لأن إن حرف شرط وما صلة فبقي تري، ثم دخله نون التوكيد وهي مثقلة، فكسر ياء التأنيث لالتقاء الساكنين؛ لأن النون المثقلة بمنزلة نونين الأولى ساكنة فصار ترين وعلى هذا النحو قول ابن دريد:

إما تري رأسي حاكى لونه

وقول الأفوه:

إما تري رأسي أزرى به

وإنما دخلت النون هنا بتوطئة « ما » كما يوطئ لدخولها أيضا لام القسم. وقرأ طلحة وأبو جعفر وشيبة « ترين » بسكون الياء وفتح النون خفيفة؛ قال أبو الفتح: وهى شاذة.

 

قوله تعالى: « فقولي إني نذرت » هذا جواب الشرط وفيه إضمار؛ أي فسألك عن ولدك « فقولي إني نذرت للرحمن صوما » أي صمتا؛ قاله ابن عباس وأنس بن مالك. وفي قراءة أبي بن كعب « إني نذرت للرحمن صوما صمتا » وروي عن أنس. وعنه أيضا « وصمتا » بواو، واختلاف اللفظين يدل على أن الحرف ذكر تفسيرا لا قرآنا؛ فإذا أتت معه واو فممكن أن يكون غير الصوم. والذي تتابعت به الأخبار عن أهل الحديث ورواة اللغة أن الصوم هو الصمت؛ لأن الصوم إمساك والصمت إمساك عن الكلام. وقيل: هو الصوم والمعروف، وكان يلزمهم الصمت يوم الصوم إلا بالإشارة. وعلى هذا تخرج قراءة أنس « وصمتا » بواو، وأن الصمت كان عندهم في الصوم ملتزما بالنذر، كما أن من نذر منا المشي إلى البيت اقتضى ذلك الإحرام بالحج أو العمرة. ومعنى هذه الآية أن الله تعالى أمرها على لسان جبريل عليه السلام - أو ابنها على الخلاف المتقدم - بأن تمسك عن مخاطبة البشر، وتحيل على ابنها في ذلك ليرتفع عنها خجلها، وتتبين الآية فيقوم عذرها. وظاهر الآية أنها أبيح لها أن تقول هذه الألفاظ التي في الآية، وهو قول الجمهور. وقالت فرقة: معنى « قولي » بالإشارة لا بالكلام. الزمخشري: وفيه أن السكوت عن السفيه واجب، ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافها.

من التزم بالنذر ألا يكلم أحدا من الآدميين فيحتمل أن يقال إنه قربة فيلزم بالنذر، ويحتمل أن يقال: ذلك لا يجوز في شرعنا لما فيه من التضييق وتعذيب النفس؛ كنذر القيام في الشمس ونحوه. وعلى هذا كان نذر الصمت في تلك الشريعة لا في شريعتنا؛ وقد تقدم. وقد أمر ابن مسعود من فعل ذلك بالنطق بالكلام. وهذا هو الصحيح لحديث أبي إسرائيل، خرجه البخاري عن ابن عباس. وقال ابن زيد والسدي: كانت سنة الصيام عندهم الإمساك عن الأكل والكلام.

قلت: ومن سنتنا نحن في الصيام الإمساك عن الكلام القبيح؛ قال عليه الصلاة والسلام: ( إذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم ) . وقال عليه الصلاة والسلام: ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) .

 

الآيتان: 27 - 28 ( فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا، يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا )

 

قوله تعالى: « فأتت به قومها تحمله » روى أن مريم لما اطمأنت بما رأت من الآيات، وعلمت أن الله تعالى سيبين عذرها، أتت به تحمله من المكان القصي الذي كانت انتبذت فيه. قال ابن عباس: خرجت من عندهم حين أشرقت الشمس، فجاءتهم عند الظهر ومعها صبي تحمله، فكان الحمل والولادة في ثلاث ساعات من النهار. وقال الكلبي: ولدت حيث لم يشعر بها قومها، ومكثت أربعين يوما للنفاس، ثم أتت قومها تحمله، فلما رأوها ومعها الصبي حزنوا وكانوا أهل بيت صالحين؛ فقالوا منكرين: « قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا » أي جئت بأمر عظيم كالآتي بالشيء يفتريه. قال مجاهد: « فريا » عظيما. وقال سعيد بن مسعدة: أي مختلقا مفتعلا؛ يقال: فريت وأفريت بمعنى واحد. والولد من الزنى كالشيء المفترى. قال الله تعالى: « ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن » [ الممتحنة: 12 ] أي بولد بقصد إلحاقه بالزوج وليس منه. يقال: فلان يفري الفري أي يعمل العمل البالغ، وقال أبو عبيدة: الفري العجيب النادر، وقاله الأخفش قال: فريا عجيبا. والفري القطع كأنه مما يخرق العادة، أو يقطع القول بكونه عجيبا نادرا. وقال قطرب: الفري الجديد من الأسقية؛ أي جئت بأمر جديد بديع لم تسبقي إليه. وقرأ أبو حيوة: « شيئا فريا » بسكون الراء. وقال السدي ووهب بن منبه: لما أتت به قومها تحمله تسامع بذلك بنو إسرائيل، فاجتمع رجالهم ونساؤهم، فمدت امرأة يدها إليها لتضربها فأجف الله شطرها فحملت كذلك. وقال آخر: ما أراها إلا زنت فأخرسه الله تعالى؛ فتحامى الناس من أن يضربوها، أو يقولوا لها كلمة تؤذيها، وجعلوا يخفضون إليها القول ويلينون؛ فقالوا: « يا مريم لقد جئت شيئا فريا » أي عظيما قال الراجز:

أطعمتني دقلا حوليا مسوسا مدودا حجريا

قد كنت تفرين به الفريا

أي [ تعظمينه ] .

 

قوله تعالى: « يا أخت هارون » اختلف الناس في معنى هذه الأخوة ومن هارون؟ فقيل: هو هارون أخو موسى؛ والمراد من كنا نظنها مثل هارون في العبادة تأتي بمثل هذا. وقيل: على هذا كانت مريم من ولد هارون أخي موسى فنسبت إليه بالأخوة لأنها من ولده؛ كما يقال للتميمي: يا أخا تميم وللعربي يا أخا العرب وقيل كان لها أخ من أبيها اسمه هارون؛ لأن هذا الاسم كان كثيرا في بني إسرائيل تبركا باسم هارون أخي موسى، وكان أمثل رجل في بني إسرائيل؛ قاله الكلبي. وقيل: هارون هذا رجل صالح في ذلك الزمان تبع جنازته يوم مات أربعون ألفا كلهم اسمه هارون. وقال قتادة: كان في ذلك الزمان في بني إسرائيل عابد منقطع إلى الله عز وجل يسمى هارون فنسبوها إلى أخوته من حيث كانت على طريقته قبل؛ إذ كانت موقوفة على خدمة البيع؛ أي يا هذه المرأة الصالحة ما كنت أهلا لذلك. وقال كعب الأحبار بحضرة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: إن مريم ليست بأخت هارون أخي موسى؛ فقالت له عائشة: كذبت. فقال لها: يا أم المؤمنين إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فهو أصدق وأخبر، وإلا فإني أجد بينهما من المدة ستمائة سنة. قال: فسكتت. وفي صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة قال: لما قدمت نجران سألوني فقال إنكم تقرؤون « يا أخت هارون » وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك، فقال: ( إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم ) . وقد جاء في بعض طرقه في غير الصحيح أن النصارى قالوا له: إن صاحبك يزعم أن مريم هي أخت هارون وبينهما في المدة ستمائة سنة؟ ! قال المغيرة: فلم أدر ما أقول؛ وذكر الحديث. والمعنى أنه اسم وافق اسما. ويستفاد من هذا جواز التسمية بأسماء الأنبياء؛ والله أعلم.

قلت: فقد دل الحديث الصحيح أنه كان بين موسى وعيسى وهارون زمان مديد. الزمخشري: كان بينهما وبينه ألف سنة أو أكثر فلا يتخيل أن مريم كانت أخت موسى وهارون؛ وإن صح فكما قال السدي لأنها كانت من نسله؛ وهذا كما تقول للرجل من قبيلة: يا أخا فلان. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: ( إن أخا صداء قد أذن فمن أذن فهو يقيم ) وهذا هو القول الأول. ابن عطية: وقالت فرقة بل كان في ذلك الزمان رجل فاجر اسمه هارون فنسبوها إليه على جهة التعيير والتوبيخ؛ ذكره الطبري ولم يسم قائله.

قلت: ذكره الغزنوي عن سعيد بن جبير أنه كان فاسقا مثلا في الفجور فنسبت إليه. والمعنى: ما كان أبوك ولا أمك أهلا لهذه الفعلة فكيف جئت أنت بها؟ ! وهذا من التعريض الذي يقوم مقام التصريح. وذلك يوجب عندنا الحد وسيأتي في سورة « النور » القول فيه إن شاء الله تعالى. وهذا القول الأخير يرده الحديث الصحيح، وهو نص صريح فلا كلام لأحد معه، ولا غبار عليه. والحمد لله. وقرأ عمر بن لجأ التيمي ( ما كان أباك امرؤ سوء ) .

 

الآيات: 29 - 33 ( فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا، قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا، وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا، وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا، والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا )

 

قوله تعالى: « فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا » التزمت مريم عليها السلام ما أمرت به من ترك الكلام، ولم يرد في هذه الآية أنها نطقت بـ « إني نذرت للرحمن صوما » وإنما ورد بأنها أشارت، فيقوى بهذا قول من قال: إن أمرها بـ « قولي » إنما أريد به الإشارة. ويروى أنهم لما أشارت إلى الطفل قالوا: استخفافها بنا أشد علينا من زناها، ثم قالوا لها على جهة التقرير « كيف نكلم من كان في المهد صبيا » و « كان » هنا ليس يراد بها الماضي؛ لأن كل واحد قد كان في المهد صبيا، وإنما هي في معنى هو ( الآن ) . وقال أبو عبيدة: ( كان ) هنا لغو؛ كما قال:

وجيران لنا كانوا كرام

وقيل: هي بمعنى الوجود والحدوث كقوله: « وإن كان ذو عسرة » وقد تقدم. وقال ابن الأنباري: لا يجوز أن يقال زائدة وقد نصبت « صبيا » ولا أن يقال « كان » بمعنى حدث، لأنه لو كانت بمعنى الحدوث والوقوع لاستغنى فيه عن الخبر، تقول: كان الحر وتكتفي به. والصحيح أن « من » في معنى الجزاء و « كان » بمعنى يكن؛ التقدير: من يكن في المهد صبيا فكيف نكلمه؟ ! كما تقول: كيف أعطي من كان لا يقبل عطية؛ أي من يكن لا يقبل. والماضي قد يذكر بمعنى المستقبل في الجزاء؛ كقوله تعالى « تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار » أي إن يشأ يجعل. وتقول: من كان إلي منه إحسان كان إليه مني مثله، أي من يكن منه إلي إحسان يكن إليه مني مثله. « والمهد » قيل: كان سريرا كالمهد وقيل « المهد » ههنا حجر الأم. وقيل: المعنى كيف نكلم من كان سبيله أن ينوم في المهد لصغره، فلما سمع عيسى عليه السلام كلامهم قال لهم من مرقده « إني عبد الله » فقيل: كان عيسى عليه السلام يرضع فلما سمع كلامهم ترك الرضاعة وأقبل عليهم بوجهه، واتكأ على يساره، وأشار إليهم بسبابته اليمنى، و « قال إني عبدالله » فكان أول ما نطق به الاعتراف بعبوديته لله تعالى وربوبيته، ردا على من غلا من بعده في شأنه. والكتاب الإنجيل؛ قيل: آتاه في تلك الحالة الكتاب، وفهمه وعلمه، وآتاه النبوة كما علم آدم الأسماء كلها، وكان يصوم ويصلي. وهذا في غاية الضعف على ما نبينه في المسألة بعد هذا. وقيل: أي حكم لي بإيتاء الكتاب والنبوة في الأزل، وإن لم يكن الكتاب منزلا في الحال؛ وهذا أصح. « وجعلني مباركا أين ما كنت » أي ذا بركات ومنافع في الدين والدعاء إليه ومعلما له. التستري: وجعلني آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأرشد الضال، وأنصر المظلوم، وأغيث الملهوف. « وأوصاني بالصلاة والزكاة » أي لأؤديهما إذا أدركني التكليف، وأمكنني أداؤهما، على القول الأخير الصحيح. « ما دمت حيا » في موضع نصب على الظرف أي دوام حياتي. « وبرا بوالدتي » قال ابن عباس: لما قال « وبرا بوالدتي » ولم يقل بوالدي علم أنه شيء من جهة الله تعالى. « ولم يجعلني جبارا » أي متعظما متكبرا يقتل ويضرب على الغضب. وقيل: الجبار الذي لا يرى لأحد عليه حقا قط « شقيا » أي خائبا من الخير. ابن عباس: عاقا. وقيل: عاصيا لربه. وقيل: لم يجعلني تاركا لأمره فأشقى كما شقي إبليس لما ترك أمره.

 

قال مالك بن أنس رحمه الله تعالى في هذه الآية: ما أشدها على أهل القدر! أخبر عيسى عليه السلام بما قضي من أمره، وبما هو كائن إلى أن يموت. وقد روي في قصص هذه الآية عن ابن زيد وغيره أنهم لما سمعوا كلام عيسى أذعنوا وقالوا: إن هذا لأمر عظيم. وروي أن عيسى عليه السلام إنما تكلم في طفولته بهذه الآية، ثم عاد إلى حالة الأطفال، حتى مشى على عادة البشر إلى أن بلغ مبلغ الصبيان فكان نطقه إظهار براءة أمه لا أنه كان ممن يعقل في تلك الحالة، وهو كما ينطق الله تعالى الجوارح يوم القيامة. ولم ينقل أنه دام نطقه، ولا أنه كان يصلي وهو ابن يوم أو شهر، ولو كان يدوم نطقه وتسبيحه ووعظه وصلاته في صغره بن وقت الولادة لكان مثله مما لا ينكتم، وهذا كله مما يدل على فساد القول الأول، ويصرح بجهالة قائله. ويدل أيضا على أنه تكلم في المهد خلافا لليهود والنصارى. والدليل على ذلك إجماع الفرق على أنها لم تحد. وإنما صح براءتها من الزنى بكلامه في المهد. ودلت هذه الآية على أن الصلاة والزكاة وبر الوالدين كان واجبا على الأمم السالفة، والقرون الخالية الماضية، فهو مما يثبت حكمه ولم ينسخ في شريعة أمره. وكان عيسى عليه السلام في غاية التواضع؛ يأكل الشجر، ويلبس الشعر، ويجلس على التراب، ويأوي حيث جنه الليل، لا مسكن له، صلى الله عليه وسلم.

الإشارة بمنزلة الكلام، وتفهم ما يفهم القول. كيف لا وقد أخبر الله تعالى عن مريم فقال: « فأشارت إليه » وفهم منها القوم مقصودها وغرضها فقالوا: ( كيف نكلم ) وقد مضى هذا في « آل عمران » مستوفى.

 

قال الكوفيون: لا يصح قذف الأخرس ولا لعانه. وروي مثله عن الشعبي، وبه قال الأوزاعي وأحمد وإسحاق، وإنما يصح القذف عندهم بصريح الزنى دون معناه، وهذا لا يصح من الأخرس ضرورة، فلم يكن قاذفا؛ بالإشارة بالزنى من الوطء الحلال والشبهة. قالوا: واللعان عندنا شهادات، وشهادة الأخرس لا تقبل بالإجماع. قال ابن القصار: قولهم إن القذف لا يصح إلا بالتصريح فهو باطل بسائر الألسنة ما عدا العربية، فكذلك إشارة الأخرس. وما ذكروه من الإجماع في شهادة الأخرس فغلط. وقد نص مالك أن شهادته مقبولة إذا فهمت إشارته، وأنها تقوم مقام اللفظ بالشهادة، وأما مع القدرة باللفظ فلا تقع منه إلا باللفظ. قال ابن المنذر: والمخالفون يلزمون الأخرس الطلاق والبيوع وسائر الأحكام، فينبغي أن يكون القذف مثل ذلك. قال المهلب: وقد تكون الإشارة في كثير من أبواب الفقه أقوى من الكلام مثل قوله عليه الصلاة والسلام: ( بعثت أنا والساعة كهاتين ) نعرف قرب ما بينهما بمقدار زيادة الوسطى على السبابة. وفي إجماع العقول على أن العيان أقوى من الخبر دليل على أن الإشارة قد تكون في بعض المواضع أقوى من الكلام. « والسلام علي » أي السلامة علي من الله تعالى. قال الزجاج: ذكر السلام قبل هذا بغير ألف ولام فحسن في الثانية ذكر الألف واللام. وقوله: « يوم ولدت » يعني في الدنيا. وقيل: من همز الشيطان كما تقدم في « آل عمران » . « ويوم أموت » يعني في القبر « ويوم أبعث حيا » يعني في الآخرة. لأن له أحواله ثلاثة في الدنيا حيا، وفي القبر ميتا، وفي الآخرة مبعوثا؛ فسلم في أحواله كلها وهو قول الكلبي. ثم انقطع كلامه في المهد حتى بلغ مبلغ الغلمان. وقال قتادة: ذكر لنا أن عيسى عليه السلام رأته امرأة يحيى الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص في سائر آياته فقالت: طوبى للبطن الذي حملك، والثدي الذي أرضعك؛ فقال لها عيسى عليه السلام: طوبى لمن تلا كتاب الله تعالى واتبع ما فيه وعمل به.

الآية [ 34 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات: 34 - 40 ( ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون، ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون، وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم، فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم، أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين، وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون، إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون )

 

قوله تعالى: « ذلك عيسى ابن مريم » أي ذلك الذي ذكرناه عيسى بن مريم فكذلك اعتقدوه، لا كما تقول اليهود إنه لغير رشدة وأنه ابن يوسف النجار، ولا كما قالت النصارى: إنه الإله أو ابن الإله. « قول الحق » قال الكسائي: « قول الحق » نعت لعيسى أي ذلك عيسى ابن مريم « قول الحق » وسمي قول الحق كما سمي كلمة الله؛ والحق هو الله عز وجل. وقال أبو حاتم: المعنى هو قول الحق. وقيل: التقدير هذا الكلام قول الحق. قال ابن عباس: ( يريد هذا كلام عيسى صلى الله عليه وسلم قول الحق ليس بباطل؛ وأضيف القول إلى الحق كما قال: ( وعد الصدق الذي كانوا يوعدون ) [ الأحقاف: 16 ] أي الوعد والصدق. وقال: « وللدار الآخرة خير » [ الأنعام:32 ] أي ولا الدار الآخرة. وقرأ عاصم وعبدالله بن عامر « قول الحق » بالنصب على الحال؛ أي أقول قولا حقا. والعامل معنى الإشارة في ( ذلك ) . الزجاج: هو مصدر أي أقول قول الحق لأن ما قبله يدل عليه. وقيل: مدح. وقيل: إغراء. وقرأ عبدالله « قال الحق » وقرأ الحسن « قول الحق » بضم القاف، وكذلك في « الأنعام » « قول الحق » والقول والقال والقول بمعنى واحد، كالرهب والرهب والرهب. « الذي » من نعت عيسى. « فيه يمترون » أي يشكون؛ أي ذلك عيسى بن مريم الذي فيه يمترون القول الحق. وقيل: « يمترون » يختلفون. ذكر عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى ( ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ) قال: اجتمع بنو إسرائيل فأخرجوا منهم أربعة نفر، أخرج كل قوم عالمهم فامتروا في عيسى حين رفع؛ فقال أحدهم: هو الله هبط إلى الأرض فأحيا من أحيا وأمات من أمات، ثم صعد إلى السماء وهم اليعقوبية. فقالت الثلاثة: كذبت. ثم قال اثنان منهم للثالث: قل فيه، قال: هو ابن الله وهم النسطورية، فقال الاثنان كذبت، ثم قال أحد الاثنين للآخر قل فيه، فقال: هو ثالث ثلاثة، الله إله وهو إله، وأمه إله، وهم الإسرائيلية ملوك النصارى. قال الرابع: كذبت بل هو عبدالله ورسول وروحه وكلمته وهم المسلمون، فكان لكل رجل منهم أتباع - على ما قال - فاقتتلوا فظهر على المسلمين، فذلك قول الله تعالى: ( ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس ) [ آل عمران:21 ] . وقال قتادة: وهم الذين قال الله تعالى فيهم: ( فاختلف الأحزاب من بينهم ) اختلفوا فيه فصاروا أحزابا فهذا معنى قول ( الذي فيه تمترون ) بالتاء المعجمة من فوق وهي قراءة أبي عبدالرحمن السلمي وغيره قال ابن عباس فمر بمريم ابن عمها ومعها ابنها إلى مصر فكانوا فيها اثنتي عشرة سنة حتى مات الملك الذي كانوا يخافونه؛ ذكره الماوردي.

قلت ووقع في تاريخ مصر فيما رأيت وجاء في الإنجيل الظاهر أن السيد المسيح لما ولد في بيت لحم كان هيرودس في ذلك الوقت ملكا وأن الله تعالى أوعى إلى يوسف النجار في الحلم وقال له قم فخذ الصبي وأمه واذهب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك، فإن هيرودس مزمع أن يطلب عيسى ليهلكه فقام من نومه وامتثل أمر ربه وأخذ السيد المسيح ومريم أمه وجاء إلى مصر، وفي حال مجيئه إلى مصر نزل ببئر البلسان التي بظاهر القاهرة وغسلت ثيابه على ذلك البئر فالبلسان لا يطلع ولا ينبت إلا في تلك الأرض ومنه يخرج الدهن الذي يخالط الزيت الذي تعمد به النصارى ولذلك كانت قارورة واحدة في أيام المصريين لها مقدار عظيم، وتقع في نفوس ملوك النصارى مثل ملك القسطنطينية وملك صقلية وملك الحبشة وملك النوبة وملك الفرنجة وغيرهم من الملوك عندما يهاديهم به ملوك مصر موقعا جليلا جدا وتكون أحب إليهم من كل هدية لها قدر وفي تلك السفرة وصل السيد المسيح إلى مدينة الأشمونين وقسقام المعروفة الآن بالمحرقة فلذلك يعظمها النصارى إلى الآن، ويحضروا إليها في عيد الفصح من كل مكان؛ لأنها نهاية ما وصل إليها من أرض مصر، ومنها عاد إلى الشام. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « ما كان لله » أي ما ينبغي له ولا يجوز « أن يتخذ من ولد » « من » صلة للكلام؛ أي أن يتخذ ولدا. و « أن » في موضع رفع اسم « كان » أي ما كان لله أن يتخذ ولدا؛ أي ما كان من صفته اتخاذ الولد، ثم نزه نفسه تعالى عن مقالتهم فقال: « سبحانه » أن يكون له « إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون » تقدم. « وإن الله ربي وربكم » قرأ أهل المدينة وابن كثير وأبو عمرو بفتح « أن » وأهل الكوفة « وإن » بكسر الهمزة على أنه مستأنف. تدل عليه قراءة أبي « كن فيكون. إن الله » بغير واو على العطف على « قال إني عبدالله » وفي الفتح أقوال: فمذهب الخليل وسيبويه أن المعنى؛ ولأن الله ربي وربكم، وكذا « وأن المساجد لله » فـ « أن » في موضع نصب عندهما. وأجاز الفراء أن يكون في موضع خفض على حذف اللام، وأجاز أن يكون أيضا في موضع خفض بمعنى وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبأن الله ربي وربكم؛ وأجاز الكسائي أن يكون في موضع رفع بمعنى؛ والأمر أن الله ربي وربكم. وفيها قول خامس حكى أبو عبيد أن أبا عمرو بن العلاء قاله، وهو أن يكون المعنى: وقضى أن الله ربي وربكم؛ فهي معطوفة على قوله: « أمرا » من قوله: « إذا قضى أمرا » والمعنى إذا قضى أمرا وقضى أن الله. ولا يبتدأ بـ « أن » على هذا التقدير، ولا على التقدير الثالث. ويجوز الابتداء بها على الأوجه الباقية. « هذا صراط مستقيم » أي دين قويم لا اعوجاج فيه.

 

قوله تعالى: « فاختلف الأحزاب من بينهم » « من » زائدة أي اختلف الأحزاب بينهم. وقال قتادة: أي ما بينهم فاختلفت الفرق أهل الكتاب في أمر عيسى عليه السلام فاليهود بالقدح والسحر. والنصارى قالت النسطورية منهم: هو ابن الله. والملكانية ثالث ثلاثة. وقالت اليعقوبية: هو الله؛ فأفرطت النصار وغلت، وفرطت اليهود وقصرت. وقد تقدم هذا في « النساء » وقال ابن عباس: المراد من الأحزاب الذين تحزبوا على النبي صلى الله عليه وسلم وكذبوه من المشركين. « فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم » أي من شهود يوم القيامة، والمشهد بمعنى المصدر، والشهود الحضور ويجوز أن يكون الحضور لهم، ويضاف إلى الظرف لوقوعه فيه، كما يقال: ويل لفلان من قتال يوم كذا؛ أي من حضوره ذلك اليوم. وقيل: المشهد بمعنى الموضع الذي يشهده الخلائق، كالمحشر للموضع الذي يحشر إليه الخلق. وقيل: فويل للذين كفروا من حضورهم المشهد العظيم الذي اجتمعوا فيه للتشاور، فأجمعوا على الكفر بالله، وقولهم: إن الله ثالث ثلاثة.

 

قوله تعالى: « أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا » قال أبو العباس: العرب تقول هذا في موضع التعجب؛ فتقول أسمع بزيد وأبصر بزيد أي ما أسمعه وأبصره. قال: فمعناه أنه عجب نبيه منهم. قال الكلبي: لا أحد أسمع يوم القيامة ولا أبصر، حين يقول الله تبارك وتعالى لعيسى: ( أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ) [ المائدة: 116 ] . وقيل: « أسمع » بمعنى الطاعة؛ أي ما أطوعهم لله في ذلك اليوم « لكن الظالمون اليوم » يعني في الدنيا « في ضلال مبين » وأي ضلال أبين من أن يعتقد المرء في شخص مثله حملته الأرحام، وأكل وشرب، وأحدث واحتاج أنه إله؟ ! ومن هذا وصفه أصم أعمى ولكنه سيبصر ويسمع في الآخرة إذا رأى العذب، ولكنه لا ينفعه ذلك؛ قال معناه قتادة وغيره.

 

قوله تعالى: « وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر » روي عن عبدالله بن مسعود أنه قال: ما من أحد يدخل النار إلا وله بيت في الجنة فيتحسر عليه. وقيل: تقع الحسرة إذا أعطي كتابه بشماله. « إذ قضي الأمر » أي فرغ من الحساب، وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار فيقال يأهل الجنة هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون ويقولون نعم هذا الموت - قال - ثم يقال يأهل النار هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون ويقولون نعم هذا الموت - قال - فيؤمر به فيذبح ثم يقال يأهل الجنة خلود فلا موت ويأهل النار خلود فلا موت - ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم - « وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون » خرجه البخاري بمعناه عن ابن عمر، وابن ماجة من حديث أبي هريرة والترمذي عن أبي سعيد يرفعه وقال فيه حديث حسن صحيح. وقد ذكرنا ذلك في كتاب « التذكرة » وبينا هناك أن الكفار مخلدون بهذه الأحاديث والآي ردا على من قال: إن صفة الغضب تنقطع، وإن إبليس ومن تبعه من الكفرة كفرعون وهامان وقارون وأشباههم يدخلون الجنة.

 

قوله تعالى: « إنا نحن نرث الأرض ومن عليها » أي نميت سكانها فنرثها. « وإلينا يرجعون »

يوم القيامة فنجازي كلا بعمله، وقد تقدم هذا في « الحجر » وغيرها.

 

الآيات: 41 - 46 ( واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا، إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا، يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا، يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا، يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا، قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا )

 

قوله تعالى: « واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا » المعنى: واذكر في الكتاب الذي أنزل عليك وهو القرآن قصة إبراهيم وخبره. وقد تقدم معنى الصديق في « النساء » واشتقاق الصدق في « البقرة » فلا معنى للإعادة ومعنى الآية: اقرأ عليهم يا محمد في القرآن أمر إبراهيم فقد عرفوا أنهم من ولده، فإنه كان حنيفا مسلما وما كان يتخذ الأنداد، فهؤلاء لم يتخذون الأنداد؟ ! وهو كما قال « ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه » [ البقرة: 130 ]

 

قوله تعالى: « إذ قال لأبيه » وهو آزر. « يا أبت » تقدم في ( يوسف ) . « لم تعبد » أي لأي شي تعبد: « ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا. يريد الأصنام: » يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك « أي من اليقين والمعرفة بالله وما يكون بعد الموت، وأن من عبد غير الله عذب » فاتبعني « إلى ما أدعوك إليه. » أهدك صراطا سويا « أي أرشدك إلى دين مستقيم فيه النجاة. » يا أبت لا تعبد الشيطان « أي لا تطعه فيما يأمرك به من الكفر، ومن أطاع شيئا في معصية فقد عبده. » إن الشيطان كان للرحمن عصيا « كان » صلة زائدة وقيل بمعنى صار. وقيل بمعنى الحال أي هو للرحمن. وعصيا وعاص بمعنى واحد قال الكسائي: « يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن » أي إن مت على ما أنت عليه. ويكون « أخاف » بمعنى أعلم. ويجوز أن يكون « أخاف » على بابها فيكون المعنى: إني أخاف أن تموت على كفرك فيمسك العذاب. « فتكون للشيطان وليا » أي قرينا في النار. « قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم » أي أترغب عنها إلى غيرها. « لئن لم تنته لأرجمنك » قال الحسن: يعني بالحجارة. الضحاك: بالقول؛ أي لأشتمنك. ابن عباس: لأضربنك. وقيل: لأظهرن أمرك. « واهجرني مليا » قال ابن عباس: أي اعتزلني سالم العرض لا يصيبك منى معرة؛ واختاره الطبري، فقوله: « مليا » على هذا حال من إبراهيم. وقال الحسن ومجاهد: « مليا » دهرا طويلا؛ ومنه قول المهلهل:

فتصدعت صم الجبال لموته وبكت عليه المرملات مليا

قال الكسائي: يقال هجرته مليا وملوة وملوة وملاوة وملاوة، فهو على هذا القول ظرف، وهو بمعنى الملاوة من الزمان، وهو الطويل منه.

 

الآيات: 47 - 50 ( قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا، وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا، فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا، ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا )

 

قوله تعالى: « قال سلام عليك » لم يعارضه إبراهيم عليه السلام بسوء الرد؛ لأنه لم يؤمر بقتاله على كفره. والجمهور على أن المراد بسلامه المسالمة التي هي المتاركة لا التحية؛ قال الطبري: معناه أمنة مني لك. وعلى هذا لا يبدأ الكافر بالسلام. وقال النقاش: حليم خاطب سفيها؛ كما قال: « وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما » [ الفرقان: 63 ] . وقال بعضهم في معنى تسليمه: هو تحية مفارق؛ وجوز تحية الكافر وأن يبدأ بها. قيل لابن عيينة: هل يجوز السلام على الكافر؟ قال: نعم؛ قال الله تعالى: « لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم أن الله يحب المقسطين » [ الممتحنة: 8 ] . وقال « قد كانت » لكم أسوة حسنة في إبراهيم « [ الممتحنة:4 ] الآية؛ وقال إبراهيم لأبيه » سلام عليك « .»

قلت: الأظهر من الآية ما قاله سفيان بن عيينة؛ وفي الباب حديثنا صحيحان: روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروه إلى أضيقه ) خرجه البخار ومسلم. وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب حمارا عليه إكاف تحته قطيفة فدكيه، وأردف وراءه أسامة بن زيد؛ وهو يعود سعد بن عبادة في بني الحرث بن الخزرج، وذلك قبل وقعة بدر، حتى مر في مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفيهم عبدالله بن أبي بن سلول، وفي المجلس عبدالله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة، خمر عبدالله بن أبي أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبروا علينا، فسلم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ الحديث. فالأول يفيد ترك السلام عليهم ابتداء لأن ذلك إكرام، والكافر ليس أهله. والحديث الثاني يجوز ذلك. قال الطبري: ولا يعارض ما رواه أسامة بحديث أبي هريرة فإنه ليس في أحدهما خلاف للأخر وذلك أن حديث أبي هريرة مخرجه العموم، وخبر أسامة يبين أن معناه الخصوص. وقال النخعي: إذا كانت لك حاجة عند يهودي أو نصراني فابدأه بالسلام فبان بهذا أن حديث أبى هريرة ( لا تبدؤوهم بالسلام ) إذا كان لغير سبب يدعوكم إلى أن تبدؤوهم بالسلام، من قضاء ذمام أو حاجة تعرض لكم قبلهم، أو حق صحبة أو جوار أو سفر. قال الطبري: وقد روي عن السلف أنهم كانوا يسلمون على أهل الكتاب. وفعله ابن مسعود بدهقان صحبه في طريقه؛ قال علقمة: فقلت له يا أبا عبدالرحمن أليس يكره أن يبدؤوا بالسلام؟ ! قال نعم، ولكن حق الصحبة. وكان أبو أسامة إذا انصرف إلى بيته لا يمر بمسلم ولا نصراني ولا صغير ولا كبير إلا سلم عليه؛ قيل له في ذلك فقال: أمرنا أن نفشي السلام. وسئل الأوزاعي عن مسلم مر بكافر فسلم عليه، فقال: إن سلمت فقد سلم الصالحون قبلك، وإن تركت فقد ترك الصالحون قبلك. وروي عن الحسن البصري أنه قال: إذا مررت بمجلس فيه مسلمون وكفار فسلم عليهم.

قلت: وقد احتج أهل المقالة الأولى بأن السلام الذي معناه التحية إنما خص به هذه الأمة؛ لحديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله تعالى أعطى أمتي ثلاثا لم تعط أحدا قبلهم السلام وهي تحية أهل الجنة ) الحديث؛ ذكره الترمذي الحكيم؛ وقد مضى في الفاتحة بسنده. وقد مضى الكلام في معنى قوله: « سأستغفر لك ربي » وارتفع السلام بالابتداء؛ وجاز ذلك مع نكرته لأنه نكرة مخصصة فقرنت المعرفة. « إنه كان بي حفيا » الحفي المبالغ في البر والإلطاف؛ يقال: حفي به وتحفى إذا بره. وقال الكسائي يقال: حفي بي حفاوة وحفوة. وقال الفراء: « إنه كان بي حفيا » أي عالما لطيفا يجيبني إذا دعوته.

 

قوله تعالى: « وأعتزلكم » العزلة المفارقة وقد تقدم في « الكهف » بيانها. وقوله: « عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا » قيل: أراد بهذا الدعاء أن يهب الله تعالى له أهلا وولدا يتقوى بهم حتى لا يستوحش بالاعتزال عن قومه. ولهذا قال: « فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب » أي آنسنا وحشته بولد؛ عن ابن عباس وغيره. وقيل: « عيسى » يدل على أن العبد لا يقطع بأنه يبقى على المعرفة أم لا في المستقبل وقيل دعا لأبيه بالهداية. فـ « عسى » شك لأنه كان لا يدري هل يستجاب له فيه أم لا؟ والأول أظهر. وقوله: « وجعلنا لهم لسان صدق عليا » أي أثنينا عليهم ثناء حسنا؛ لأن جميع الملل تحسن الثناء عليهم. واللسان يذكر ويؤنث؛ وقد تقدم.

الآية [ 51 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات: 51 - 53 ( واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا، وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا، ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا )

 

قوله تعالى: « واذكر في الكتاب موسى » أي واقرأ عليهم من القرآن قصة موسى. « إنه كان مخلصا » في عبادته غير مرائي. وقرأ أهل الكوفة بفتح اللام؛ أي أخلصناه فجعلناه مختارا. « وناديناه » أي كلمناه ليلة الجمعة. « من جانب الطور الأيمن » أي يمين موسى، وكانت الشجرة في جانب الجبل عن يمين موسى حين أقبل من مدين إلى مصر؛ قاله الطبري وغيره فإن الجبال لا يمين لها ولا شمال. « وقربناه نجيا » نصب على الحال؛ أي كلمناه من غير وحي. وقيل: أدنيناه لتقريب المنزلة حتى كلمناه. وذكر وكيع وقبيصة عن سفيان عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قول الله عز وجل: « وقربناه نجيا » أي أدني حتى سمع صرير الأقلام. « ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا » وذلك حين سأل فقال: « واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي » [ طه: 29 ] .

 

الآيتان: 54 - 55 ( واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا، وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا )

 

قوله تعالى: « واذكر في الكتاب إسماعيل » اختلف فيه؛ فقيل: هو إسماعيل بن حزقيل، بعثه الله إلى قومه فسلخوا جلدة رأسه، فخيره الله تعالى فيما شاء من عذابهم، فاستعفاه ورضي بثوابه، وفوض أمرهم إليه في عفوه وعقوبته. والجمهور أنه إسماعيل الذبيح أبو العرب بن إبراهيم. وقد قيل: إن الذبيح إسحاق؛ والأول أظهر على ما تقدم ويأتي في « الصافات » إن شاء الله تعالى. وخصه الله تعالى بصدق الوعد وإن كان موجودا في غيره من الأنبياء تشريفا له إكراما، كالتقليب بنحو الحليم والأواه والصديق؛ ولأنه المشهور المتواصف من خصاله.

 

صدق الوعد محمود وهو من خلق النبيين والمرسلين، وضده وهو الخلف مذموم، وذلك من أخلاق الفاسقين والمنافقين ما تقدم بيانه في « براءة » . وقد أثنى الله تعالى على نبيه إسماعيل فوصفه بصدق الوعد. واختلف في ذلك؛ فقيل: إنه وعد من نفسه بالصبر على الذبح فصبر حتى فدى. هذا في قول من يرى أنه الذبيح. وقيل: وعد رجلا أن يلقاه في موضع فجاء إسماعيل وانتظر الرجل يومه وليلته، فلما كان في اليوم الآخر جاء؛ فقال له: ما زلت ها هنا في انتظارك منذ أمس. وقيل: انتظره ثلاثة أيام. وقيل فعل مثله نبينا صلى الله عليه وسلم قبل بعثه؛ ذكره النقاش وخرجه الترمذي وغيره عن عبدالله بن أبى الحسماء قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ببيع قبل أن يبعث وبقيت له بقية فوعدته أن آتيه بها في مكانه فنسيت، ثم ذكرت بعد ثلاثة أيام، فجئت فإذا هو في مكانه؛ فقال: ( يا فتى لقد شققت علي أنا ها هنا منذ ثلاث أنتظرك ) لفظ أبي داود. وقال يزيد الرقاشي: انتظره إسماعيل اثنين وعشرين يوما؛ ذكره الماوردي. وفي كتاب ابن سلام أنه انتظره سنة. وذكره الزمخشري عن ابن عباس أنه وعد صاحبا له أن ينتظره في مكان فانتظره سنة. وذكره القشيري قال: فلم يبرح من مكانه سنة حتى أتاه جبريل عليه السلام فقال إن التاجر الذي سألك أن تقعد له حتى يعود هو إبليس فلا تقعد ولا كرامة له. وهذا بعيد ولا يصح. وقد قيل: إن إسماعيل لم يعد شيئا إلا وفى به، وهذا قول صحيح، وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية؛ والله أعلم.

 

من هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم ( العدة دين ) . وفي الأثر ( وأي المؤمن واجب ) أي في أخلاق المؤمنين. وإنما قلنا أن ذلك ليس بواجب فرضا لإجماع العلماء على ما حكاه أبو عمر أن من وعد بمال ما كان ليضرب به مع الغرماء؛ فلذلك قلنا إيجاب الوفاء به حسن مع المروءة، ولا يقضى به والعرب تمتدح بالوفاء، وتذم بالخلف والغدر، وكذلك سائر الأمم، ولقد أحسن القائل:

متى ما يقل حر لصاحب حاجة نعم يقضها والحر للوأي ضامن

ولا خلاف أن الوفاء يستحق صاحبه الحمد والشكر، وعلى الخلف الذم. وقد أثنى الله تبارك وتعالى على من صدق وعده، ووفى بنذره؛ وكفى بهذا مدحا وثناء، وبما خالفه ذما. قال مالك: إذا سأل الرجل الرجل أن يهب له الهبة فيقول له نعم، ثم يبدو له ألا يفعل فما أرى يلزمه.

 

قال مالك: ولو كان ذلك في قضاء دين فسأله أن يقضيه عنه فقال نعم، وثم رجال يشهدون عليه فما أحراه أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان. وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي وسائر الفقهاء: إن العدة لا يلزم منها شيء لأنها منافع لم يقبضها في العارية لأنها طارئة، وفي غير العارية هي أشخاص وأعيان موهوبة لم تقبض فلصاحبها الرجوع فيها. وفي البخاري « واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد » ؛ وقضى ابن أشوع بالوعد وذكر ذلك عن سمرة بن جندب. قال البخاري: ورأيت إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع. « وكان رسولا نبيا »

قيل: أرسل إسماعيل إلى جرهم. وكل الأنبياء كانوا إذا وعدوا صدقوا، وخص إسماعيل بالذكر تشريفا له. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « وكان يأمر أهله » قال الحسن: يعني أمته. وفي حرف ابن مسعود « وكان يأمر أهله جرهم وولده بالصلاة والزكاة » . « وكان عند ربه مرضيا » أي رضيا زاكيا صالحا. قال الكسائي والفراء: من قال مرضي بناه على رضيت قالا: وأهل الحجاز يقولون: مرضو. وقال الكسائي والفراء: من العرب من يقول رضوان ورضيان فرضوان على مرضو، ورضيان على مرضي ولا يجيز البصريون أن يقولوا إلا رضوان وربوان. قال أبو جعفر النحاس: سمعت أبا إسحاق الزجاج يقول: يخطئون في الخط فيكتبون ربا بالياء ثم يخطئون فيما هو أشد من هذا فيقولون ربيان ولا يجوز إلا ربوان ورضوان قال الله تعالى: « وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس » .

 

الآيتان: 56 - 57 ( واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا، ورفعناه مكانا عليا )

 

قوله تعالى: « واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا » إدريس عليه السلام أول من خط بالقلم وأول من خاط الثياب ولبس المخيط، وأول من نظر في علم النجوم والحساب وسيرها. وسمي إدريس لكثرة درسه لكتاب الله تعالى. وأنزل الله تعالى عليه ثلاثين صحيفة كما في حديث أبي ذر. الزمخشري: وقيل سمي إدريس إدريس لكثرة درسه كتاب الله تعالى؛ وكان اسمه أخنوخ وهو غير صحيح؛ لأنه لو كان إفعيلا من الدرس لم يكن فيه إلا سبب واحد وهو العلمية وكان منصرفا، فامتناعه من الصرف دليل لعجمة؛ وكذلك إبليس أعجمي وليس من الإبلاس كما يزعمون؛ ولا يعقوب من العقب، ولا إسرائيل بإسرال كما زعم ابن السكيت؛ ومن لم يحقق ولم يتدرب بالصناعة كثرت منه أمثال هذه الهنات؛ يجوز أن يكون معنى إدريس عليه السلام في تلك اللغة قريبا من ذلك فحسبه الراوي من الدرس. قال الثعلبي والغزنوي وغيرهما: وهو جد نوح وهو خطأ؛ وقد تقدم في « الأعراف: بيانه وكذا وقع في السيرة أن نوحا عليه السلام بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس النبي فيما يزعمون؛ والله تعالى أعلم. وكان أول من أعطى النبوة من بن آدم، وخط بالقلم. ابن يرد بن مهلائيل بن قينان بن يانش بن شيث بن آدم صلى الله عليه وسلم.»

 

قوله تعالى: « ورفعناه مكانا عليا » قال أنس بن مالك وأبو سعيد الخدري وغيرهما: يعني السماء الرابعة. وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وقال كعب الأحبار. وقال ابن عباس والضحاك: يعني السماء السادسة؛ ذكره المهدوي.

قلت: ووقع في البخاري عن شريك بن عبدالله بن أبي نمر قال سمعت أنس بن مالك يقول: ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من الكعبة، الحديث وفيه: كل سماء فيها أنبياء - قد سماهم - منهم إدريس في الثانية. وهو وهم، والصحيح أنه في السماء الرابعة؛ كذلك رواه ثابت البناني عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ذكره مسلم في الصحيح. وروى مالك بن صعصعة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لما عرج بي إلى السماء أتيت على إدريس في السماء الرابعة ) . خرجه مسلم أيضا. وكان سبب رفعه على ما قال ابن عباس وكعب وغيرهما: أنه سار ذات يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس، فقال: ( يا رب أنا مشيت يوما فكيف بمن يحملها خمسمائة عام في يوم واحد! اللهم خفف عنه من ثقلها. يعني الملك الموكل بفلك الشمس ) ؛ يقول إدريس: اللهم خفف عنه من ثقلها واحمل عنه من حرها. فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس والظل مالا يعرف فقال: يا رب خلقتني لحمل الشمس فما الذي فيه؟ فقال الله تعالى: « أما إن عبدي إدريس سألني أن أخفف عنك حملها وحرها فأجبته » فقال: يا رب اجمع بيني وبينه، واجعل بيني وبينه خلة. فأذن الله له حتى أتى إدريس، وكان إدريس عليه السلام يسأله. فقال أخبرت أنك أكرم الملائكة وأمكنهم عند ملك الموت، فاشفع لي إليه ليؤخر أجلي، فأزداد شكرا وعبادة. فقال الملك: لا يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها فقال للملك: قد علمت ذلك ولكنه أطيب لنفسي. قال نعم. ثم حمله على جناحه فرفعه إلى السماء ووضعه عند مطلع الشمس، ثم قال لملك الموت: لي صديق من بني آدم تشفع بي إليك لتؤخر أجله. فقال: ليس ذلك إلي ولكن إن أحببت علمه أعلمته متى يموت. قال « : » نعم « ثم نظر في ديوانه، فقال: إنك تسألني عن إنسان ما أراه يموت أبدا. قال » وكيف « ؟ قال: لا أجده يموت إلا عند مطلع الشمس. قال: فإني أتيتك وتركته هناك؛ قال: انطلق فما أراك تجده إلا وقد مات فوالله ما بقي من أجل إدريس شيء. فرجع الملك فوجده ميتا. وقال السدي: إنه نام ذات يوم، واشتد عليه حر الشمس، فقام وهو منها في كرب؛ فقال: اللهم خفف عن ملك الشمس حرها، وأعنه على ثقلها، فإنه يمارس نارا حامية. فأصبح ملك الشمس وقد نصب له كرسي من نور عنده سبعون ألف ملك عن يمينه، ومثلها عن يساره يخدمونه، ويتولون أمره وعمله من تحت حكمه؛ فقال ملك الشمس: يا رب من أين لي هذا؟. قال » دعا لك رجل من بني آدم يقال له إدريس « ثم ذكر نحو حديث كعب قال فقال له ملك الشمس: أتريد حاجة؟ قال: نعم وددت أني لو رأيت الجنة. قال: فرفعه على جناحه، ثم طار به، فبينما هو في السماء الرابعة التقى بملك الموت ينظر في السماء، ينظر يمينا وشمالا، فسلم عليه ملك الشمس، وقال: يا إدريس هذا ملك الموت فسلم عليه فقال ملك الموت: سبحان الله ! ولأي معنى رفعته هنا؟ قال: رفعته لأريه الجنة. قال: فإن الله تعالى أمرني أن أقبض روح إدريس في السماء الرابعة. قلت: يا رب وأين إدريس من السماء الرابعة، فنزلت فإذا هو معك؛ فقبض روحه فرفعها إلى الجنة، ودفنت الملائكة جثته في السماء الرابعة، فذلك قوله تعالى: » ورفعناه مكانا عليا « .»

قال وهب بن منبه: كان يرفع لإدريس كل يوم من العبادة مثل ما يرفع لأهل الأرض في زمانه، فعجب منه الملائكة واشتاق إليه ملك الموت، فاستأذن ربه في زيارته فأذن له، فأتاه في صورة آدمي، وكان إدريس عليه السلام يصوم النهار؛ فلما كان وقت إفطاره دعاه إلى طعامه فأبى أن يأكل. ففعل به ذلك ثلاث ليال فأنكره إدريس؛ وقال له: من أنت! قال أنا ملك الموت؛ استأذنت ربي أن أصحبك فأذن لي؛ فقال: إن لي إليك حاجة. قال: وما هي؟ قال: أن تقبض روحي. فأوحى الله تعالى إليه أن اقبض روحه؛ فقبضه ورده إليه بعد ساعة، وقال له ملك الموت: ما الفائدة في قبض روحك؟ قال: لأذوق كرب الموت فأكون له أشد استعدادا. ثم قال له إدريس بعد ساعة: إن لي إليك حاجة أخرى. قال: وما هي؟ قال أن ترفعني إلى السماء فأنظر إلى الجنة والنار؛ فأذن الله تعالى له في رفعه إلى السموات، فرأى النار فصعق، فلما أفاق قال أرني الجنة؛ فأدخله الجنة، ثم قال له ملك الموت: أخرج لتعود إلى مقرك. فتعلق بشجرة وقال: لا أخرج منها. فبعث الله تعالى بينهما ملكا حكما، فقال مالك لا تخرج؟ قال: لأن الله تعالى قال « كل نفس ذائقة الموت » [ آل عمران:185 ] وأنا ذقته، وقال: « وإن منكم إلا واردها » [ مريم:71 ] وقد وردتها؛ وقال: « وما هم منها بمخرجين » [ الحجر: 48 ] فكيف أخرج؟ قال الله تبارك وتعالى لملك الموت: « بإذني دخل الجنة وبأمري يخرج » فهو حي هنالك فذلك قوله « ورفعناه مكانا عليا » قال النحاس: قول إدريس « وما هم منها بمخرجين » يجوز أن يكون الله أعلم هذا إدريس، ثم نزل القرآن به. قال وهب بن منبه: فإدريس تارة يرتع في الجنة، وتارة بعبد الله تعالى مع الملائكة في السماء.

 

الآية: 58 ( أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا )

 

قوله تعالى: « أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم » يريد إدريس وحده. « وممن حملنا مع نوح » يريد إبراهيم وحده « ومن ذرية إبراهيم » يريد إسماعيل وإسحاق ويعقوب. « و » من ذرية « إسرائيل » موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى. فكان لإدريس ونوح شرف القرب من آدم، ولإبراهيم شرف القرب من نوج ولإسماعيل وإسحاق ويعقوب شرف القرب من إبراهيم. « وممن هدينا » أي إلى الإسلام: « واجتبينا » بالإيمان. « إذا تتلى عليهم آيات الرحمن » وقرأ شبل بن عباد المكي « يتلى » بالتذكير لأن التأنيث غير حقيقي مع وجود الفاصل. « خروا سجدا وبكيا »

وصفهم بالخشوع لله والبكاء. وقد مضى في « سبحان » [ الإسراء: 1 ] . يقال بكى يبكي بكاء وبكى بكيا، إلا أن الخليل قال: إذا قصرت البكاء فهو مثل الحزن؛ أي ليس معه صوت كما قال الشاعر:

بكت عيني وحق لها بكاها وما يغني البكاء ولا العويل

« وسجدا » نصب على الحال « وبكيا » عطف عليه.

 

في هذه الآية دلالة على أن لآيات الرحمن تأثيرا في القلوب. قال الحسن ( إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا ) الصلاة. وقال الأصم: المراد بآيات الرحمن الكتب المتضمنة لتوحيده وحججه، وأنهم كانوا يسجدون عند تلاوتها، ويبكون عند ذكرها. والمروى عن ابن عباس أن المراد به القرآن خاصة، وأنهم كانوا يسجدون ويبكون عند تلاوته؛ قال الكيا: وفي هذا دلالة من قوله على أن القرآن هو الذي كان يتلى على جميع الأنبياء، ولو كان كذلك لما كان الرسول عليه الصلاة والسلام مختصا بإنزاله إليه.

احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على وجوب سجود القرآن على المستمع والقارئ. قال الكيا: وهذا بعيد فإن هذا الوصف شامل لكل آيات الله تعالى. وضم السجود إلى البكاء، وأبان به عن طريقة الأنبياء الصلاة والسلام في تعظيمهم لله تعالى وآياته، وليس فيه دلالة على وجوب ذلك عند آية مخصوصة. قال العلماء: ينبغي لمن قرأ سجدة أن يدعو فيها بما يليق بآياتها، فإن قرأ سورة السجدة « الم تنزيل » قال: اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك، المسبحين بحمدك، وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك. وإن قرأ سجدة « سبحان » قال: اللهم اجعلني من الباكين إليك، الخاشعين لك. وإن قرأ هذه قال: اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم، المهديين الساجدين لك، الباكين عند تلاوة آياتك.

 

الآيات: 59 - 63 ( فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا، إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا، جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا، لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا، تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا )

 

قوله تعالى: « فخلف من بعدهم خلف » أي أولاد سوء. قال أبو عبيدة: حدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد قال: ذلك عند قيام الساعة، وذهاب صالحي هذه الأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم ينزو بعضهم على بعض في الأزقة زنى. وقد تقدم القول في « خلف » في « الأعراف » فلا معنى للإعادة. « أضاعوا الصلاة » وقرأ عبدالله والحسن « أضاعوا الصلوات » على الجمع. وهو ذم ونص في أن إضاعة الصلاة من الكبائر التي يوبق بها صاحبها ولا خلاف في ذلك، وقد قال عمر: ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع. واختلفوا فيمن المراد بهذه الآية؛ فقال مجاهد: النصارى خلفوا بعد اليهود. وقال محمد بن كعب القرظي ومجاهد أيضا وعطاء: هم قوم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان؛ أي يكون في هذه الأمة من هذه صفته لا أنهم المراد بهذه الآية. واختلفوا أيضا في معنى إضاعتها؛ فقال القرظي: هي إضاعة كفر وجحد بها. وقال القاسم بن مخيمرة، وعبدالله بن مسعود: هي إضاعة أوقاتها، وعدم القيام بحقوقها وهو الصحيح، وأنها إذا صليت مخلى بها لا تصح ولا تجزئ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي صلى وجاء فسلم عليه ( ارجع فصل فإنك لم تصل ) ثلاث مرات خرجه مسلم، وقال حذيفة لرجل يصلي فطفف: منذ كم تصلي هذه الصلاة؟ قال منذ أربعين عاما. قال: ما صليت، ولومت وأنت تصلي هذه الصلاة لمت على غير فطرة محمد صلى الله عليه وسلم. ثم قال: إن الرجل ليخفف الصلاة ويتم ويحسن. خرجه البخاري واللفظ للنسائي، وفي الترمذي عن أبي مسعود الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تجزئ صلاة لا يقيم فيها الرجل ) يعني صلبه في الركوع والسجود؛ قال: حديث حسن صحيح؛ والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم؛ يرون أن يقيم الرجل صلبه في الركوع والسجود؛ قال الشافعي وأحمد وإسحاق: من لم يقم صلبه في الركوع والسجود فصلاته فاسدة؛ قال صلى الله عليه وسلم ( تلك الصلاة صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا ) . وهذا ذم لمن يفعل ذلك. وقال فروة بن خالد بن سنان: استبطأ أصحاب الضحاك مرة أميرا في صلاة العصر حتى كادت الشمس تغرب؛ فقرأ الضحاك هذه الآية، ثم قال: والله لأن أدعها أحب إلي من أن أضيعها. وجملة القول هذا الباب أن من لم يحافظ على كمال وضوئها وركوعها وسجودها فليس بمحافظ عليها، ومن لم يحافظ عليها فقد ضيعها، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، كما أن من حافظ عليها حفظ الله عليه دينه، ولا دين لمن لا صلاة له. وقال الحسن: عطلوا المساجد، واشتغلوا بالصنائع والأسباب. « واتبعوا الشهوات » أي اللذات والمعاصي.

 

روى الترمذي وأبو داود عن أنس بن حكيم الضبي أنه أتى المدينة فلقي أبا هريرة فقال له: يا فتى ألا أحدثك حديثا لعل الله تعالى أن ينفعك به؛ قلت: بلى. قال: ( إن أول ما يحاسب به الناس يوم القيامة من أعمالهم الصلاة فيقول الله تبارك وتعالى لملائكته وهو أعلم انظروا في صلاة عبدي أتمها أو نقصها فإن كانت تامة كتبت له تامة وإن كان انتقص منها شيئا قال انظروا هل لعبدي من تطوع فإن كان تطوع قال أكملوا لعبدي فريضته من تطوعه ومن تؤخذ الأعمال على ذلك ) . قال يونس: وأحسبه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لفظ أبي داود. وقال: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا داود بن أبي هند عن زوارة بن أوفى عن تميم الداري عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى. قال: ( ثم الزكاة مثل ذلك ) ( ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك ) . وأخرجه النسائي عن همام عن الحسن عن حريث بن قبيصة عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة بصلاته فإن صلحت فقد أفلح وأنجح وإن فسدت فقد خاب وخسر قال همام: لا أدري هذا من كلام قتادة أومن الرواية فإن انتقص من فريضته شيء قال انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل به نقص من الفريضة ثم يكون سائر عمله على نحو ذلك ) خالفه أبو العوام فرواه عن قتادة عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته فإن وجدت تامة كتبت تامة وإن كان انتقص منها شيء قال انظروا هل تجدون له من تطوع يكمل ما ضيع من فريضته من تطوعه ثم سائر الأعمال تجري على حسب ذلك ) قال النسائي أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال حدثنا النضر بن شميل قال أنبأنا حماد بن سلمة عن الأزرق بن قيس يحي بن يعمر عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته فإن كان أكملها وإلا قال الله عز وجل انظروا لعبدي من تطوع فإن وجدل تطوع قال أ كملوا به الفريضة ) قال أبو عمر بن عبدالبر في كتاب « التمهيد » أما إكمال الفريضة من التطوع فإنما يكون والله أعلم فيمن سها عن فريضة فلم يأت بها، أولم يحسن ركوعها وسجودها ولم يدر قدر ذلك وأما من تركها، أونسي ثم ذكرها فلم يأت بها عامدا واشتغل بالتطوع عن أداء فرضها وهو ذاكر له فلا تكمل له فريضة من تطوعه والله أعلم وقد روى من حديث الشاميين في هذا الباب حديث منكر يرويه محمد بن حمير عن عمرو بن قيس السكوني عن عبدالله بن قرط عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من صلى صلاة لم يكمل فيها ركوعه وسجوده زيد فيها من تسبيحاته حتى تتم ) قال أبو عمر وهذا لا يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه وليس بالقوي وإن كان صح كان معناه أنه خرج من صلاة كان قد أتمها عند نفسه وليست في الحكم بتامة

قلت: فينبغي للإنسان أن يحسن فرضه ونفله حتى يكون له نفل يجده زائدا على فرضه يقربه من ربه كما قال سبحانه وتعالى ( وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه « الحديث فأما إذا كان نفل يكمل به الفرض فحكمه في المعنى حكم الفرض ومن لا يحسن أن يصلي الفرض فأحرى وأولى ألا يحسن التنفل لا جرم تنفل الناس في أشد ما يكون من النقصان والخلل لخفته عندهم وتهاونهم به حتى كأنه غير معتد به ولعمر الله لقد يشاهد في الوجود من يشار إليه ويظن به العلم تنفله كذلك بل فرضه إذ ينقره نقر الديك لعدم معرفته بالحديث فكيف بالجهال الذين لا يعلمون وقد قال العلماء ولا يجزئ ركوع ولا سجود ولا وقوف بعه الركوع ولا جلوس بين السجدتين حتى يعتدل راكعا وواقفا وساجدا وجالسا وهذا هو الصحيح في الأثر وعليه جمهور العلماء وأهل النظر وهذه رواية ابن وهب وأبي مصعب عن مالك وقد مضى هذا المعنى في » البقرة « وإذا كان هذا فكيف يكمل بذلك التنفل ما نقص من هذا الفرض على سبيل الجهل والسهو؟! بل كل ذلك غير صحيح ولا مقبول لأنه وقع على غير المطلوب والله أعلم.»

 

قوله تعالى: « واتبعوا الشهوات » وعن علي رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: ( واتبعوا الشهوات ) هو من بنى [ المشيد ] وركب المنظور ولبس المشهور.

قلت الشهوات عبارة عما يوافق الإنسان ويشتهيه ويلائمه ولا يتقيه وفي الصحيح ( حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ) وما ذكر عن علي رضي الله عنه جزء من هذا

« فسوف يلقون غيا » قال ابن زيد: شرا أو ضلالا أو خيبة، قال:

فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما

وقال عبدالله بن مسعود: هو واد في جهنم. والتقدير عند أهل الله فسوف يلقون هذا الغي كما قال جل ذكره: « ومن يفعل ذلك يلق أثاما » [ الفرقان: 68 ] والأظهر أن الغي اسم للوادي سمي به لأن الغاوين يصيرون إليه قال كعب ( يظهر في آخر الزمان قوم بأيديهم سياط كأذناب البقر ثم قرأ « فسوف يلقون غيا » أي هلاكا وضلالا في جهنم وعنه غي واد في جهنم أبعدها قعرا وأشدها حرا فيه بئر يسمى البهيم كلما خبت جهنم فتح الله تعالى تلك البر فتسعر بها جهنم وقال ابن عباس غي واد في جهنم وأن أودية جهنم لتستعيذ من حره أعد الله تعالى ذلك الوادي للزاني المصر على الزنى، ولشارب الخمر المدمن عليه ولآكل الربا الذي لا ينزع عنه ولأهل العقوق ولشاهد الزور ولامرأة أدخلت على زوجها ولدا ليس منه.

 

قوله تعالى: « إلا من تاب » أي من تضييع الصلاة واتباع الشهوات فرجع إلى طاعة ربه « وآمن »

به « وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة » قرأ أبو جعفر وشيبة وابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو ويعقوب وأبو بكر ( يدخلون ) بفتح الخاء وفتح الياء الباقون « ولا يظلمون شيئا » أي لا ينقص من أعمالهم الصالحة شيء إلا أنهم يكتب لهم بكل حسنة عشر إلى سبعمائة. « جنات عدن » بدلا من الجنة فانتصبت قال أبو إسحاق الزجاج ويجوز « جنات عدن » على الابتداء قال أبو حاتم ولولا الخط لكان « جنة عدن » لأن قبله « يدخلون الجنة » « التي وعد الرحمن عباده بالغيب » أي من عبده وحفظ عهده بالغيب وقيل آمنوا بالجنة ولم يروها « إنه كان وعده مأتيا » « مأتيا » مفعول من الإتيان. وكل ما وصل إليك فقد وصلت إليه تقول أتت علي ستون سنة وأتيت على ستين سنة. ووصل إلي من فلان خير ووصلت منه إلى خير وقال القتبي « مأتيا » بمعنى آت فهو مفعول بمعنى فاعل و « مأتيا » مهموز لأنه من يأتي ومن خفف الهمزة جعلها ألفا وقال الطبري الوعد ههنا الموعود وهو الجنة أي يأتيها أولياؤه. « لا يسمعون فيها لغوا » أي في الجنة واللغو معناه الباطل من الكلام والفحش منه والفضول ومالا ينتفع به ومنه الحديث ( إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقه لغوت ) ويروى « لغيت » وهي لغة أبي هريرة كما قال الشاعر

ورب أسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلم

قال ابن عباس: اللغو كل ما لم فيه ذكر الله تعالى أي كلامهم في الجنة حمد الله وتسبيحه « إلا سلاما » أي لكن يسمعون سلاما فهو من الاستثناء المنقطع يعني سلام بعضهم على بعض وسلام الملك عليهم قاله مقاتل وغيره والسلام اسم جامع للخير والمعنى أنهم لا يسمعون فيها إلا ما يحبون قوله تعالى: « ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا » أي لهم ما يشتهون من المطاعم والمشارب بكرة وعشيا أي قدر هذين الوقتين إذ لا بكرة ثم ولا عشيا كقوله تعالى « غدوها شهر ورواحها شهر » أي قدر شهر؛ قال معناه ابن عباس وابن جريج وغيرهما وقيل عرفهم اعتدال أحوال أهل الجنة وكان أهنأ النعمة عند العرب التمكين من المطعم والمشرب بكرة وعشيا قال بن أبي كثير وقتادة كانت العرب في زمانها من وجد غداء وعشاء معا فذلك هو الناعم فنزلت وقيل أي رزقهم فيها غير منقطع كما قال ( لا مقطوعة ولا ممنوعة ) كما تقول أنا أصبح وأمسي في ذكرك أي ذكري لك دائم. ويحتمل أن تكون البكرة قبل تشاغلهم بلذاتهم والعشي بعد فراغهم من لذاتهم لأنه يتخللها فترات انتقال من حال إلى حال وهذا يرجع إلى القول الأول وروى الزبير بن بكار عن إسماعيل بن أبي أويس قال قال مالك بن أنس طعام المؤمنين في اليوم مرتان وتلا قول الله عز وجل « ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا » ثم قال: وعوض الله عز وجل المؤمنين في الصيام السحور بدلا من الغداء ليقووا به على عبادة ربهم وقيل: إنما ذكر ذلك لأن صفة الغداء وهيئته [ تخلف ] عن صفة العشاء وهيئته؛ وهذا لا يعرفه إلا الملوك وكذلك يكون في الجنة رزق الغداء غير رزق العشاء تتلون عليهم النعم ليزدادوا تنعما وغبطة. وخرج الترمذي الحكيم في ( نوادر الأصول ) من حديث أبان عن الحسن وأبي قلابة قالا قال رجل يا رسول الله هل في الجنة من ليل؟ قال ( وما هيجك على هذا ) قال سمعت الله تعالى يذكر في الكتاب: « ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا » فقلت: الليل بين البكرة والعشي وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ليس هناك ليل إنما هو ضوء ونور يرد الغدو على الرواح والرواح الغدو وتأتيهم طرف الهدايا من الله تعالى لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها في الدنيا وتسلم عليهم الملائكة ) وهذا في غاية البيان لمعنى الآية وقد ذكرناه في كتاب ( التذكرة ) وقال العلماء ليس في الجنة ليل ولا نهار وإنما هم في نور أبدا إنما يعرفون مقدار الليل من النهار بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب ذكره أبو الفرج الجوزي والمهدوي وغيرهما.

 

قوله تعالى: « تلك الجنة التي » أي هذه الجنة التي وصفنا أحوال أهلها « نورث » بالتخفيف. وقرأ يعقوب « نورث » بفتح الواو وتشديد الراء. والاختيار التخفيف؛ لقوله تعالى: « ثم أورثنا الكتاب » . [ فاطر: 32 ] . « من عبادنا من كان تقيا » قال ابن عباس: ( أي من اتقاني وعمل بطاعتي ) وقيل هو على التقديم والتأخير تقديره نورث من كان تقيا من عبادنا.

الآية [ 64 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيتان: 64 - 65 ( وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا، رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا )

 

روى الترمذي عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل ( ما منعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا ) قال: فنزلت هذه الآية: « وما نتنزل إلا بأمر ربك » إلى آخر الآية. قال هذا حديث حسن غريب ورواه البخاري حدثنا خلال بن يحيى حدثنا عمر بن ذر قال سمعت أبي يحدث عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل ( ما يمنعك أن مزورنا أكثر مما تزرونا فنزلت « وما نتنزل إلا بأمر ربك » الآية؛ قال كان هذا الجواب لمحمد صلى وقال مجاهد أبطأ الملك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه فقال: ( ما الذي أبطأك ) قال: كيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم ولا تأخذون من شواربكم، ولا تنقون رواجبكم، ولا تستاكون؛ قال مجاهد: فنزلت الآية في هذا وقال مجاهد أيضا وقتادة وعكرمة والضحاك ومقاتل والكلبي أحتبس جبريل عن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأل قومه عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح ولم يدر ما يجيبهم ورجا أن يأتيه جبريل بجواب ما سألوه عنه قال عكرمة فأبطأ عليه أربعين يوم وقال مجاهد اثنتي عشرة ليلة وقيل خمسة عشر يوما وقيل ثلاثة عشر وقيل ثلاثة أيام فقال النبي صلي ( أبطأت علي حتى ساء ظني واشتقت إليك ) فقال جبريل عليه السلام إني كنت أشوق ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست فنزلت الآية ( وما نتنزل إلا بأمر ربك ) وأنزل ( والضحى والليل إذا سجى وما ودعك ربك وما قلى ) ذكره الثعلبي والواحدي والقشيري وغيرهم وقيل هو إخبار من أهل الجنة أنهم يقولون عند دخولها وما نتنزل هذه الجنان إلا بأمر ربك وعلى هذا تكون الآية متصلة به قبل وعلى ما ذكرنا من الأقوال قبل: تكون غير متصلة بما قبلها والقرآن سور ثم السور تشتمل على جمل، وقد تنفصل جملة عن جملة « وما نتنزل » أي قال الله تعالى قل يا جبريل « وما نتنزل إلا بأمر ربك » وهذا يحتمل وجهين: أحدهما: إنا إذا أمرنا نزلنا عليك الثاني إذا أمرك ربك نزلنا عليك فيكون الأمر على الأول متوجها إلى النزول وعلى الوجه الثاني متوجها إلى التنزيل.

 

قوله تعالى: « له » أي لله « ما بين أيدينا » أي علم ما بين أيدينا « وما خلفنا وما بين ذلك » قال ابن عباس وابن جريج: ما مضى أمامنا من أمر الدنيا، وما يكون بعدنا من أمرها وأمر الآخرة « وما بين ذلك » من البرزخ. وقال قتادة ومقاتل: « له ما بين أيدينا » من أمر الآخرة « وما خلفنا » ما مضى من الدنيا « وما بين ذلك » ما بين النفختين وبينهما أربعون سنة. الأخفش: « ما بين أيدينا » ما كان قبل أن نخلق « وما خلفنا » ما يكون بعد أن نموت « وما بين ذلك » ما يكون منذ خلقنا إلى أن نموت. وقيل: « ما بين أيدينا » من الثواب والعقاب وأمور الآخرة « وما خلفنا » ما مضى من أعمالنا في الدنيا ( وما بين ذلك ) أي ما يكون من هذا الوقت إلى يوم القيامة ويحتمل خامسا « ما بين أيدينا » السماء « وما خلفنا » الأرض « و بين ذلك » أي ما بين السماء والأرض وقال ابن عباس في رواية « و ما بين أيدينا » يريد الدنيا إلى الأرض « وما خلفنا » يريد السموات وهذا على عكس ما قبله « ما بين ذلك » يريد الهواء ذكر الأول الماوردي والثاني القشيري الزمخشري: وقيل ما مضى من أعمارنا وما عبر منها والحال التي نحن فيها ولم يقل ما بين ذينك لأن المراد ما بين ما ذكرنا كما قال « لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك » أي بين ما ذكرنا « وما كان ربك نسيا » أي ناسيا إذا شاء أن يرسل إليك أرسل وقيل المعنى لم ينسك وإن تأخر عنك الوحي وقيل المعنى أنه عالم بجميع الأشياء متقدمها ومتأخرها ولا ينسى شيئا منها.

 

قوله تعالى: « رب السماوات والأرض وما بينهما » أي ربهما وخالقهما وخالق ما بينهما ومالكهما ومالك ما بينهما؛ فكما إليه تدبير الأزمان كذلك إليه تدبير الأعيان. « فاعبده »

أي وحده لذلك وفي هذا دلالة على أن اكتسابات الخلق مفعولة لله تعالى كما يقول أهل الحق وهو القول الحق لأن الرب في هذا الموضوع لا يمكن حمله على معنى من معانيه إلا على المالك وإذا ثبت أنه مالك ما بين السماء والأرض دخل في ذلك اكتساب الخلق ووجبت عبادته لما ثبت أنه المالك على الإطلاق وحقيقة العبادة الطاعة بغاية الخضوع ولا يستحقها أحد سوى المالك المعبود « واصطبر لعبادته » أي لطاعته ولا تحزن لتأخير الوحي عنك بل اشتغل بما أمرت به وأصل اصطبر اصتبر فثقل الجمع بين التاء والصاد لاختلافهما فأبدل من التاء طاء كما تقول من الصوم صطام « هل تعلم له سميا » قال ابن عباس يريد هل تعلم له ولدا أي نظيرا أو مثلا أو شبيها يستحق مثل اسمه الذي هو الرحمن وقال مجاهد مأخوذ من المساماة وروى إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال ( هل تعلم له ولدا أي نظيرا أو مثلا أو شبيها يستحق مثل اسمه الذي هو الرحمن ) وروى إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: ( هل تعلم له أحدا سمي الرحمن ) . قال النحاس وهذا أجل إسناد علمته روي في هذا الحرف وهو قول صحيح ولا يقال الرحمن إلا لله

قلت وقد مضى هذا مبينا في البسملة والحمد لله روى ابن أبي نجيح عن مجاهد ( هل تعلم له سميا ) قال مثلا ابن المسيب عدلا قتادة والكلبي هل تعلم أحدا يسمى الله تعالى غير الله أو يقال له الله إلا الله وهل لا أي لا تعلم والله تعالى أعلم.

 

الآيتان: 66 - 67 ( ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا، أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا )

 

قوله تعالى: « ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا » الإنسان هنا أبي بن خلف وجد عظاما بالية ففتتها بيده وقال: زعم محمد أنا نبعث بعد الموت قال الكلبي ذكره الواحدي والثعلبي والقشيري وقال المهدوي نزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه وهو قول ابن عباس واللام في « لسوف أخرج حيا » للتأكيد كأنه قيل له إذا ما مت لسوف تبعث حيا فقال « أئذا ما مت لسوف أخرج حيا » ! قال ذلك منكرا فجاءت اللام في الجواب هما كانت في القول الأول ولو كان مبتدئا لم تدخل اللام لأنها للتأكيد والإيجاب وهو منكر للبعث وقرا ابن ذكوان « إذا ما مت » على الخبر والباقون بالاستفهام على أصولهم بالهمز وقرأ الحسن وأبو حيوة « لسوف اخرج حيا » قال استهزاء لأنهم لا يصدقون بالبعث والإنسان ههنا الكافر

 

قوله تعالى: « أولا يذكر الإنسان » أي أو لا يذكر هذا القائل « أنا خلقناه من قبل » أي من قبل سؤاله وقوله هذا القول « ولم يك شيئا » فالإعادة مثل الابتداء فلم يناقض وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما وأهل مكة وأبو عمر وأبو جعفر « أولا يذكر » وقرأ شيبه ونافع وعاصم « أو لا يذكر » بالتخفيف. والاختيار التشديد وأصله يتذكر لقوله تعالى « إنما يتذكر أولو الألباب » وأخواتها وفي حرف أبي « أولا يتذكر » وهذه القراءة على التفسير لأنها مخالفة لخط المصحف: ومعنى « يتذكر » يتفكر ومعنى « يذكر » يتنبه ويعلم قال النحاس

 

الآيات: 68 - 70 ( فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا، ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا، ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا )

 

قوله تعالى: « فوربك لنحشرنهم » أقسم بنفسه بعد إقامة الحجة بأنه يحشرهم من قبورهم إلى المعاد كما يحشر المؤمنين. « والشياطين » أي ولنحشرن الشياطين قرناء لهم قيل يحشر كل كافر مع شيطان في سلسلة كما قال « احشروا الذين ظلموا وأزواجهم » [ الصافات: 22 ] الزمخشري والواو في « والشياطين » يجوز أن تكون للعطف وبمعنى مع وهي بمعنى مع أوقع والمعنى أنهم يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذي أغووهم؛ يقرنون كل كافر مع شيطان في سلسلة. فإن قلت هذا إذا أريد بالإنسان الكفرة خاصة فإن أريد الأناسي على العموم فكيف يستقيم حشرهم مع الشياطين؟ قلت إذا حشر جميع الناس حشرا واحدا وفيهم الكفرة مقرونين بالشياطين فقد حشروا مع الشياطين كما حشروا مع الكفرة فإن قلت هلا عزل السعداء عن الأشقياء في الحشر كما عزلوا عنهم في الجزاء؟ قلت لم يفرق بينهم في المحشر وأحضروا حيث تجاثوا حول جهنم وأوردوا معهم النار ليشاهد السعداء الأحوال التي نجاهم الله منها وخلصهم، فيزدادوا لذلك غبطة وسرورا إلى سرور ويشمتوا بأعداء الله تعالى وأعدائهم فتزداد مساءتهم وحسرتهم وما يغيظهم من سعادة أولياء الله وشماتتهم بهم فإن قلت ما معنى إحضارهم جثيا؟ قلت أما إذا فسر الإنسان بالخصوص فالمعنى أنهم يعتلون من المحشر إلى شاطئ جهنم علا على حالهم التي كانوا عليها في الموقف جثاة على ركبهم غير مشاة على أقدامهم وذلك أن أهل الموقف وصفوا بالجثو قال الله تعالى « وترى كل أمة جاثية » على الحالة المعهودة في مواقف المقاولات والمناقلات من تجاثي أهلها على الركب لما في ذلك من الاستيفاز والقلق وإطلاق الحبا خلاف الطمأنينة أولما يدهمهم من شدة الأمر التي لا يطيقون معها القيام على أرجلهم فيجسون على ركبهم جثوا وإن فسر بالعموم فالمعنى أنهم يتجاثون عند موافاة شاطئ جهنم أن « جثيا » حال مقدرة كما كانوا في الموقف متجاثين لأنه من توابع التواقف للحساب، قبل التواصل إلى الثواب والعقاب ويقال: إن معنى « ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا » أي جثيا على ركبهم عن مجاهد وقتادة أي أنهم لشدة ما هم فيه لا يقدرون على القيام « وحول جهنم » يجوز أن يكون داخلها كما تقول: جلس القوم حول البيت أي داخله مطيفين به فقوله ( حول جهنم ) على هذا يجوز أن يكون بعد الدخول ويجوز أن يكون قبل الدخول و « جثيا » جمع جاث. يقال جثا على ركبتيه يجثو ويجثي جثوا وجثيا على فعول فيهما وأجثاه غيره وقوم جثي أيضا مثل جلس جلوسا وقوم جلوس وجثي أيضا بكسر الجيم لما بعدها من الكسر وقال ابن عباس: « جثيا » جماعات وقال مقاتل: جمعا جمعا وهو على هذا التأويل جمع وجثوة ثلاث لغات وهي الحجارة المجموعة والتراب المجموع فأهل الخمر على حدة وأهل الزنى على حدة وهكذا قال طرفة:

ترى جثوتين من تراب عليها صفائح صم من صفيح منضد

وقال الحسن والضحاك جاثية الركب وهو على هذا التأويل جمع جاث على ما تقدم وذلك لضيق المكان أي لا يمكنهم أن يجلسوا جلوسا تاما وقيل جثيا على ركبهم للتخاصم كقوله تعالى « ثم إنكم يوم لقيامة عند ربكم تختصمون » وقال الكميت:

هم تركوا سراتهم جثيا وهم دون السراة مقرنينا

 

قوله تعالى: « ثم لننزعن من كل شيعة » أي لنستخرجن من كل أمة وأهل دين. « أيهم أشد على الرحمن عتيا » النحاس: وهذه آية مشكلة في الإعراب لأن القراء كلهم يقرؤون « أيهم » بالرفع إلا هارون القارئ الأعور فإن سيبويه حكى عنه « ثم لننزعن من كل شيعة أيهم » بالنصب أوقع على أيهم لننزعن. قال أبو إسحاق في رفع « أيهم » ثلاثة أقوال؛ قال الخليل بن أحمد حكاه عنه سيبويه: إنه مرفوع على الحكاية والمعنى ثم لننزعن من كل شيعة الذي يقال من أجل عتوه أيهم أشد على الرحمن عتيا وأنشد الخليل فقال:

ولقد أبيت من الفتاة بمنزل فأبيت لا حرج ولا محروم

أي فأبيت بمنزلة الذي يقال له لا هو حرج ولا محروم. وقال أبو جعفر النحاس: ورأيت أبا إسحاق يختار هذا القول ويستحسنه قال لأنه معنى قول أهل التفسير وزعم أن معنى « ثم لننزعن من كل شيعة » ثم لننزعن من كل فرقة الأعتى فالأعتى. كأنه يبتدأ بالتعذيب بأشدهم عتيا ثم الذي يليه وهذا نص كلام أبي إسحاق في معنى الآية. وقال يونس: « لننزعن » بمنزلة الأفعال التي تلغى ورفع « أيهم » على الابتداء المهدوي والفعل هو « لننزعن » عند يونس معلق قال أبو علي: معنى ذلك أنه يعمل في موضع « أيهم أشد » لا أنه ملغى. ولا يلعق عند الخليل وسيبويه مثل « لننزعن » إنما يعلق بأفعال الشك وشبهها ما لم يتحقق وقوعه وقال سيبويه: « أيهم » مبني على الضم لأنها خالفت أخواتها في الحذف؛ لأنك لو قلت: رأيت الذي أفضل ومن أفضل كان قبيحا، حتى تقول من هو أفضل، والحذف في « أيهم » جائز. قال أبو جعفر: وما علمت أحدا من النحويين إلا وقد خطأ سيبويه في هذا وسمعت أبا إسحاق يقول: ما يبين لي أن سيبويه غلط في كتابه إلا في موضعين هذا أحدهما؛ قال وقد علمنا أن سيبويه أعرب أيا وهى مفردة لأنها تضاف، فكيف يبنيها وهي مضافة؟ ! ولم يذكر أبو إسحاق فيما علمت إلا هذه الثلاثة الأقوال أبو علي إنما وجب البناء على مذهب سيبويه لأنه حذف منه ما يتعرف به وهو الضمير مع افتقار إليه كما حذف في « من قبل ومن بعد » ما يتعرفان به مع افتقار المضاف إلى المضاف إليه لأن الصلة تبين الموصول وتوضحه كما أن المضاف إليه يبين المضاف ويخصصه قال أبو جعفر وفيه أربعة أقوال سوى هذه الثلاثة التي ذكرها أبو إسحاق قال الكسائي « لننزعن » واقعة على المعنى كما تقول لبست من الثياب وأكلت من الطعام، ولم يقع « لننزعن » على « أيهم » فينصبها. زاد المهدوي: وإنما الفعل عنده واقع على موضع « من كل شيعة » وقوله: « أيهم أشد » جملة مستأنفة مرتفعة بالابتداء ولا يرى سيبويه زيادة « من » في الواجب وقال الفراء المعنى ثم لننزعن بالنداء ومعنى « لننزعن » لننادين المهدى ونادى فمل يعلق إذا كان بعده جملة كظننت فتعمل في المعنى ولا تعمل في اللفظ قال أبو جعفر وحكى أبو بكر بن شقير أن بعض الكوفيين يقول في « أيهم » معنى الشرط والمجازاة فلذلك لم يعمل فيها ما قبلها والمعنى ثم لننزعن من كل فرقة إن تشايعوا أو لم يتشايعوا كما تقول ضربت القوم أيهم غضب والمعنى إن غضبوا أو لم يغضبوا قال أبو جعفر فهذه ستة أقوال وسمعت علي بن سليمان يحكي عن محمد بن يزيد قال « أيهم » متعلق « بشيعة » فهو مرفوع بالابتداء والمعنى ثم لننزعن من الذين تشايعوا أيهم أي من الذين تعاونوا فنظروا أيهم أشد على الرحمن عتيا وهذا قول حسن وقد حكى الكسائي أن التشايع التعاون و « عتيا » نصب على البيان

 

قوله تعالى: « ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا » أي أحق بدخول النار يقال صلى يصلى صليا ونحو مضى الشيء يمضي مضيا إذا ذهب وهوى يهوي هويا وقال الجوهري ويقال صليت الرجل نارا إذا أدخلته النار وجح لحته يصلاها فإن ألقيته فيها إلقاء كأنك تريد الإحراق قلت: أصليته بالألف وصليته تصلية وقرئ « ويصلى سعيرا » ومن خفف فهو من قولهم: صلي فلان بالنار ( بالكسر ) يصلى صليا أحترق قال الله تعالى « هم أولى بها صليا » قال العجاج

والله لولا النار أن نصلاها

ويقال أيضا صلي بالأمر إذا قاسى حره وشدته قال الطهوي

ولا تبلى بسالتهم وإن هم صلوا بالحرب حينا بعد حين

واصطليت بالنار وتصليت بها قال أبو ربيد:

وقد تصليت حر حربهم كما تصلى المقرور من قرس

وفلان لا يصطلى بناره إذا كان شجاعا لا يطاق.

 

الآيتان: 71 - 72 ( وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا، ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا )

 

قوله تعالى « وإن منكم » هذا قسم والواو ينضمنه ويفسره حديث النبي صلى الله عليه وسلم ( لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم ) قال الزهري: كأنه يريد هذه الآية ( وإن منكم إلا واردها ) ذكره داود الطيالسي فقوله « إلا تحلة القسم » يخرج في التفسير المسند لأن القسم المذكور هذا الحديث معناه عند أهل العلم قوله تعالى « وإن منكم إلا واردها » وقد قيل إن المراد بالقسم قوله تعالى « والذاريات ذروا » إلى قوله « إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع والأول أشهر؛ والمعنى متقارب »

واختلف الناس في الورود فقيل الورد الدخول روي عن جابر بن عبدالله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم « ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا » أسنده أبو عمر في كتاب « التمهيد » وهو قول ابن عباس وخالد بن معدان وابن جريج وغيرهم وروي عن يونس أنه كان يقرأ « وإن منكم إلا واردها » الورود الدخول على التفسير للورود فغلط فيه بعض الرواة فألحقه بالقرآن وفي الدرامي عن عبدالله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يرد الناس النار ثم يصدرون منها بأعمالهم فمنهم كلمح البصر ثم كالريح ثم كحضر الفرس ثم كالراكب المجد في رحله ثم كشد الرجل في مشيته ) وروي عن ابن عباس أنه قال في هذه المسألة لنافع بن الأزرق الخارجي ( أما أنا وأنت فلا بد أن نردها أما أنا فينجيني الله منها وأما أنت فما أظنه ينجيك لتكذيبك ) وقد أشفق كثير من العلماء من تحقق الورود والجهل بالصدر وقد بيناه في « التذكرة » وقالت فرقة الورود الممر على الصراط وروي عن ابن عباس وابن مسعود وكعب الأحبار والسدي ورواه السدي ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وقاله الحسن أيضا قال ( ليس الورود الدخول إنما تقول وردت البصرة ولم أدخلها قال فالورود أن يمروا على الصراط ) قال أبو بكر الأنباري وقد بنى على مذهب الحسن قوم من أهل اللغة واحتجوا بقول الله تعالى: « إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون » قالوا: فلا يدخل النار من ضمن الله أن يبعده منها وكان هؤلاء يقرؤون « ثم » بفتح الثاء « ننجي الذين اتقوا » واحتج عليهم الآخرون أهل المقالة الأولى بأن معنى قوله: « أولئك عنها مبعدون » عن العذاب فيها والإحراق بها قالوا فمن دخلها وهو لا يشعر بها ولا يحس منها وجعا ولا ألما فهو مبعد عنها في الحقيقة ويستدلون بقوله تعالى « ثم ننجي الذين اتقوا » بضم الثاء فـ « ثم » تدل على نجاء بعد الدخول.

قلت وفي صحيح مسلم ( ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة فيقولون اللهم سلم سلم ) قيل: يا رسول الله وما الجسر؟ قال: ( دحض مزلة فيه خطاطيف وكلاليب وحسك تكون بنجد فيها شويكة يقال لها السعدان فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكدوس في نار جهنم ) الحديث وبه احتج من قال إن الجواز على الصراط هو الورود الذي تضمنه هذه الآية لا الدخول فيها وقالت فرقة بل هو ورود إشراف واطلاع وقرب وذلك أنه يحضرون موضع الحساب وهو بقرب جهنم فيرونها وينظرون إليها في حالة الحساب ثم ينجي الله الذين اتقوا مما نظروا إليه ويصار بهم إلى الجنة « ونذر الظالمين » أي يؤمر بهم إلى النار قال الله تعالى « ولما ورد ماء مدين ) أي أشرف عليه لا أنه دخله وقال زهير: »

فلما وردن الماء زرقا جمامه وضعن عصي الحاضر المتخيم

وروت حفصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( لا يدخل النار أحد من أهل بدر والحديبية ) قالت فقلت يا رسول الله وأين قول الله تعالى « وإن منكم إلا واردها » فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فَمَهْ « ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا » ) أخرجه مسلم من حديث أم مبشر قالت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم عند حفصة الحديث ورجح الزجاج هذا القول بقوله تعالى « إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون » وقال مجاهد: ورود المؤمنين النار هو الحمى التي تصيب المؤمن في دار الدنيا، وهي حظ المؤمن من النار فلا يردها. روى أبو هريرة أن رسول الله صلى عليه وسلم عاد مريضا من وعك به فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ( أبشر فإن الله تبارك وتعالى يقول « هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار » ) أسنده أبو عمر قال: حدثنا عبدالوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل الصائغ قال حدثنا أبو أسامة قال حدثنا عبدالرحمن بن يزيد بن جابر عن إسماعيل بن عبيدالله ( عن أبي صالح ) الأشعري عن أبي هريرة عن النبي عاد مريضا وفي كره وفي الحديث ( الحمى حظ المؤمن من النار ) وقالت فرقة الورود النظر إليها في القبر فينجي منها الفائز ويصلاها من قدر عليه دخولها، ثم يخرج منها بالشفاعة أو بغيرها من رحمة الله تعالى واحتجوا بحديث ابن عمر: ( إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي ) الحديث وروى وكيع عن شعبة عن عبدالله بن السائب عن رجل عن ابن عباس أنه قال في قول الله تعالى: ( وإن منكم إلا واردها ) قال: هذا خطاب للكفار. وروي عنه أنه كان يقرأ « وإن منهم » ردا على الآيات التي قبلها في الكفار: قوله « فوربك لنحضرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا وإن منهم ) ( مريم: 68 ] وكذلك قرأ عكرمة وجماعة وعليها فلا شعب في هذه القراءة وقالت فرقة المراد بـ ( منكم ) الكفرة والمعنى قل لهم يا محمد وهذا التأويل أيضا سهل التناول والكاف في ( منكم ) راجحة إلى الهاء في ( لنحشرنهم والشياطين. ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ) فلا ينكر رجوع الكاف إلى الهاء؛ فقد عرف ذلك في قوله عز وجل » وسقاهم ربهم شرابا طهورا. إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا « [ الإنسان:21 - 22 ] معناه كان لهم فرجعت الكاف إلى الهاء. وقال الأكثر: المخاطب العالم كله بد من ورود الجميع وعليه نشأ الخلاف في الورود وقد بينا أقوال العلماء فيه وظاهر الورود الدخول لقول عليه الصلاة والسلام ( فتمسه النار ) لأن المسيس حقيقته في اللغة المماسة إلا أنها تكون بردا وسلاما على المؤمنين وينجون منها سالمين قال خالد بن معدان: إذا دخل أهل الجنة الجنة قالوا ألم يقل ربنا إنا نرد النار؟ فيقال لقد وردتموها فألقيتموها رمادا.»

قلت: وهذا القول يجمع شتات لأقوال فإن من وودها ولم تؤذه بلهبها وحرها فقد أبعد عنها ونجي منها نجانا الله تعالى منها وكرمه وجعلنا ممن وردها فدخلها سالما وخرج منها غانما. فان قيل: فهل يدخل الأنبياء النار؟ قلنا لانطلق هذا ولكن نقول: إن الخلق جميعا يردونها كما دل عليه حديث جابر أول الباب فالعصاة يدخلونها بجرائمهم، والأولياء والسعداء لشفاعتهم فبين الدخولين بون وقال ابن الأنباري محتجا لمصحف عثمان وقراءة العامة جائز في اللغة أن يرجع من خطاب الغيبة إلى لفظ المواجهة بالخطاب كما قال ( وسقاهم ربهم شرابا طهورا. إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا ) فأبدل الكاف من الهاء. وقد تقدم هذا المعنى في ( يونس ) .

 

الاستثناء في قوله عليه السلام ( إلا تحلة القسم ) يحتمل أن يكون استثناء منقطعا لكن تحلة القسم وهذا معروف في كلام العرب والمعنى ألا تمسه النار أصلا وتم الكلام هنا ثم ابتدأ ( إلا تحلة القسم ) أي لكن تحله القسم لابد منها في قوله تعالى « وإن منكم إلا واردها » وهو الجواز على الصراط أو الرؤية أو الدخول دخول سلامة، فلا يكون في ذلك شيء من مسيس لقوله عليه الصلاة والسلام ( لا يموت لأحدكم ثلاثة من الولد فيحتسبهم إلا كانوا له جنة من النار ) والجنة الوقاية والستر ومن وقي النار سترعنها فلن تمسه أصلا ولو مسته لما كان موقى

 

هذا الحديث يفسر الأول لأن فيه ذكر الحسبة؛ ولذلك جعله مالك بأثره مفسرا له ويقيد هذا الحديث الثاني أيضا ماروا البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ( من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث كان له حجابا من النار أو دخل الجنة ) فقوله عليه السلام ( لم يبلغوا الحنث ) ومعناه عند أهل العلم لم يبلغوا الحلم ولم يبلغوا أن يلزمهم حنث دليل على أن أطفال المسلمين في الجنة والله أعلم لأن الرحمة إذا نزلت بآبائهم استحال أن يرحموا من أجل ( من ) ليس بمرحوم. وهذا إجماع من العلماء في أن أطفال المسلمين في الجنة ولم يخالف في ذلك إلا فرقة شذت من الجبرية فجعلتهم المشيئة وهو قول مهجور مردود بإجماع الحجة الذين لا تجوز مخالفتهم، ولا يجوز على مثلهم إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار الآحاد الثقات العدول؛ وأن قوله عليه الصلاة والسلام ( الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه وأن الملك ينزل فيكتب أجله وعمله ورزقه ) الحديث مخصوص، وأن من مات من أطفال المسلمين قبل الاكتساب فهو ممن سعد في بطن أمه ولم يثق بدليل الأحاديث والإجماع وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله تعالى عنها: ( يا عائشة إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم وخلق النار وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم ) ساقط ضعيف مردود بالإجماع والآثار وطلحة بن يحيى الذي يرويه ضعيف لا يحتج به وهذا الحديث مما انفرد به فلا يعرج عليه. وقد روى شعبة عن معاوية بن قرة بن إياس المزني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا من الأنصار مات له ابن صغير فوجد عليه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أما يسرك ألا تأتى بابا من أبواب الجنة إلا وجدته يستفتح لك ) فقالوا يا رسول الله أله خاصة أم للمسلمين عامة؟ قال ( بل للمسلمين عامة ) قال أبو عمر هذا حديث ثابت صحيح يعني ما ذكرناه مع إجماع الجمهور؛ وهو يعارض حديث يحيى ويدفعه قال أبو عمر: الوجه عندي في هذا الحديث وما أشبهه من الآثار أنها لمن حافظ على أداء فرائضه واجتنب الكبائر، وصبر واحتسب في مصيبته؛ فإن الخطاب لم يتوجه في ذلك العصر إلا إلى قوم الأغلب من أمرهم ما وصفنا وهم الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين وذكر النقاش عن بعضهم أنه قال: نسخ قوله تعالى « وإن منكم إلا واردها » قوله « إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون » [ الأنبياء:101 ] وهذا ضعيف، وهذا ليس موضع نسخ. وقد بينا أنه إذا لم تمسه النار فقد أبعد عنها وفي الخبر: ( تقول النار للمؤمن يوم القيامة جزيا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي ) .

 

قوله تعالى: « كان على ربك حتما مقضيا » الحتم إيجاب القضاء أي كان ذلك حتما. « مقضيا » أي قضاه الله تعالى عليكم وقال ابن مسعود أي قسما واجبا « ثم ننجي الذين اتقوا » أي نخلصهم « ونذر الظالمين فيها جثيا » وهذا مما يدل على أن الورود الدخول لأنه لم يقل وندخل الظالمين وقد مضى هذا المعنى مستوفى. والمذهب أن صاحب الكبيرة وإن دخلها فإنه يعاقب بقدر ذنبه ثم ينجو وقالت المرجئة لا يدخل. وقالت الوعيدية: يخلد وقد مضى بيان هذا في غير موضع وقرأ عاصم الجحدري ومعاوية بن قرة « ثم ننجي » مخففة من أنجى وهي قراءة حميد ويعقوب والكسائي وثقل الباقون وقرأ ابن أبي ليلى « ثمه » بفتح الثاء أي هناك و « ثم » ظرف إلا أنه مبني لأنه غير محصل فبني كما بني ذا؛ والهاء يجوز أن تكون لبيان الحركة فتحذف في الوصل ويجوز أن تكون لتأنيث البقعة فشبت في الوصل تاء.

 

الآيتان: 73 - 74 ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا، وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا )

 

قوله تعالى: « وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات » أي على الكفار الذين سبق ذكرهم في قوله تعالى « أئذا ما مت لسوف أخرج حيا » [ مريم: 66 ] وقال فيهم « ونذر الظالمين فيها جثيا » أي هؤلاء إذا قرئ عليهم القرآن تعززوا بالدنيا، وقالوا: فما بالنا إن كنا على باطل أكثر أموالا وأعز نقرا وغرضهم إدخال الشبهة المستضعفين وإيهامهم أن من كثر ماله دل ذلك على أنه المحق في دينه وكأنهم لم يروا فيهم فقيرا ولا في المسلمين غنيا ولم يعلموا أن الله تعالى نحى أولياءه عن الاغترار بالدنيا وفرط الميل إليها. و « بينات » معناه مرتلات الألفاظ ملخصة المعاني، مبينات المقاصد؛ إما محاكمات، أو متشابهات قد تبعها البيان بالمحكمات، أو تبيين الرسول صلى قولا أو فعلا أو ظاهرات الإعجاز تحدى بها فلم يقدر على معارضتها. أو حججا وبراهين. والوجه أن تكون حالا مؤكدة كقوله تعالى « وهو الحق مصدقا » لأن آيات الله تعالى لا تكون إلا واضحة. « قال الذين كفروا » يريد مشركي قريش النضر بن الحرث وأصحابه. « للذين آمنوا » يعني فقراء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكانت فيهم قشافة، وفي عيشهم خشونة وفي ثيابهم رثاثة وكان المشركون يرجلون شعورهم ويدهنون رؤوسهم ويلبسون خير ثيابهم، فقالوا للمؤمنين « أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا » قرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد وشبل بن عباد « مقاما » بضم الميم وهو موضع الإقامة. ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى الإقامة الباقون « مقاما » بالفتح؛ أي منزلا ومسكنا. وقيل: المقام الموضع الذي يقام فيه بالأمور الجليلة؛ أي أي الفريقين أكثر جاها وأنصارا. « وأحسن نديا » أي مجلسا؛ عن ابن عباس وعنه أيضا المنظر وهو المجلس في اللغة وهو النادي ومنه دار الندوة لأن المشركين كانوا يتشاورون فيها في أمورهم وناداه جالسه في النادي قال

أنادي به آل الوليد وجعفرا

والندي على فعيل مجلس القوم ومتحدثهم، وكذلك الندوة والنادي [ والمنتدى ] والمتندى، فإن تفرق القوم فليس بندي قاله الجوهري.

 

قوله تعالى: « وكم أهلكنا قبلهم من قرن » أي من أمة وجماعة. « هم أحسن أثاثا ورئيا »

أي متاعا كثيرا؛ قال:

وفرع يزين المتن أسود فاحم أثيث كقنو النخلة المتعثكل

والأثاث متاع البيت. وقيل: هو ماجد الجراثي والخرثي ما لبس منها وأنشد الحسن بن علي الطوسي فقال:

تقادم العهد من أم الوليد بنا دهرا وصار أثاث البيت خرثيا

وقال ابن عباس: هيئة مقاتل ثيابا « ورئيا » أي منظرا حسنا. وفيه خمس قراءات قرأ أهل المدينة « وريا » بغير همز. وقرأ أهل الكوفة « ورئيا » بالهمز. وحكى يعقوب أن طلحة قرأ « وريا » بياء واحدة مخففة. وروى سفيان عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس « هم أحسن أثاثا وزيا » بالزاي؛ فهذه أربع قراءات قال أبو إسحاق ويجوز « هم أحسن أثاثا وريئا » بياء بعدها همزة. النحاس: وقراءة أهل المدينة في هذا حسنة وفيها تقريران: أحدهما: أن تكون من رأيت ثم خففت الهمزة فأبدل منها ياء وأدغمت الياء في الياء. وكان هذا حسنا لتتفق رؤوس الآيات لأنها غير مهموزات. وعلى هذا قال ابن عباس: ( الرئي المنظر ) فالمعنى: هم أحسن أثاثا ولباسا. والوجه الثاني: أن جلودهم مرتوية من النعمة؛ فلا يجوز الهمز على هذا. وفي رواية ورش عن نافع وابن ذكوان عن ابن عامر « ورئيا » بالهمز تكون على الوجه الأول. وهي قراءة أهل الكوفة وأبي عمرو من رأيت على الأصل. وقراءة طلحة بن مصرف ( وريا ) بياء واحدة مخففة أحسبها غلطا. وقد زعم بعض النحويين أنه كان أصلها الهمز فقلبت الهمزة ياء، ثم حذفت إحدى اليائين. المهدوي: ويجوز أن يكون « ريئا » فقلبت ياء فصارت رييا ثم نقلت حركة الهمزة على الياء وحذفت. وقد قرأ بعضهم « وريا » على القلب وهي القراءة الخامسة. وحكى سيبويه راء بمعنى رأى. الجوهري: من همزه جعله من المنظر من رأيت، وهو ما رأته العين من حال حسنة وكسوة ظاهرة وأنشد أبو عبيدة لمحمد بن نمير الثقفي فقال:

أشاقتك الظعائن يوم بانوا بذي الرئي الجميل من الأثاث

ومن لم يهمز إما أن يكون على تخفيف الهمزة أو يكون من رويت ألوانهم وجلودهم ريا؛ أي امتلأت وحسنت. وأما قراءة ابن عباس وأبي بن كعب وسعيد بن جبير والأعسم المكي ويزيد البربري « وزيا » بالزاي فهو الهيئة والحسن. ويجوز أن يكون من زويت أي جمعت؛ فيكون أصلها زيا فقلبت الواو ياء. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم ( زويت لي الأرض ) أي جمعت؛ أي فلم يغن ذلك عنهم شيئا من عذاب الله تعالى؛ فليعش هؤلاء ما شاؤوا فمصيرهم إلى الموت والعذاب وإن عمروا؛ أو العذاب العاجل يأخذهم الله تعالى به.

 

الآية: 75 ( قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا )

 

قوله تعالى: « قل من كان في الضلالة » أي في الكفر « فليمدد له الرحمن مدا » أي فليدعه في طغيان جهله وكفره فلفظه لفظ الأم ومعناه الخبر أي من كان الضلالة مده الرحمن مدا حتى يطول اغتراره فيكون ذلك اشد لعقابه نظيره « إنما نملي لهم ليزدادوا إثما » [ آل عمران:178 ] وقوله: « ونذرهم في طغيانهم يعمهون » [ الأنعام: 110 ] ومثله كثير؛ أي فليعش ما شاء، وليوسع لنفسه في العمر؛ فمصيره إلى الموت والعقاب. وهذا غاية في التهديد والوعيد. وقيل: هذا دعاء أم به النبي صلى الله عليه وسلم؛ تقول: من سرق مالي فليقطع الله تعالى يده؛ فهو دعاء على السارق. وهو جواب الشرط وعلى هذا فليي ؟؟ قوله « فليمدد » خبرا. « حتى إذا رأوا ما يوعدون » قال « رأوا » لأن لفظ « من » يصلح للواحد والجمع. و « إذا » مع الماضي بمعنى المستقبل؛ أي حتى يروا ما يوعدون والعذاب هنا إما أن يكون بنصر المؤمنين عليهم فيعذبونهم بالسيف والأسر؛ وإما أن تقوم الساعة فيصيرون إلى النار. « فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا »

أي تنكشف حينئذ الحقائق وهذا رد لقولهم: ( أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ) .

 

الآية: 76 ( ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا )

 

قوله تعالى: « ويزيد الله الذين اهتدوا هدى » أي ويثبت الله المؤمنين على الهدى ويزيدهم في النصرة وينزل من الآيات ما يكون سبب زيادة اليقين مجازاة لهم وقيل يزيدهم هدى بتصديقهم بالناسخ والمنسوخ الذي كفر به غيرهم قال معناه الكلبي ومقاتل ويحتمل ثالثا أي « ويزيد الله الذين اهتدوا » إلى الطاعة « هدى » إلى الجنة والمعنى متقارب وقد تقدم القول في معنى زيادة الأعمال وزيادة الإيمان الهدي في « آل عمران » وغيرها « والباقيات الصالحات » تقدم. « خير عند ربك ثوابا » أي جزاء « وخير مردا » أي في الآخرة مما افتخر به الكفار في الدنيا. و ( المرد ) مصدر كالرد؛ أي وخير ردا على عاملها بالثواب؛ يقال هذا أرد عليك أي أنقع لك. وقيل « خير مردا » أي مرجعا فكل أحد يرد إلى عمله الذي عمله.

 

الآيات: 77 - 80 ( أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا، أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا، كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا، ونرثه ما يقول ويأتينا فردا )

 

قوله تعالى: « أفرأيت الذي كفر بآياتنا » روى الأئمة واللفظ لمسلم عن خباب قال كان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال لي لن أقضيك حتى تكفر بمحمد قال: قلت له لن أكفر به حتى تموت ثم تبعث قال وإني لمبعوث من بعد الموت؟ ! فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال وولد. قال وكيع: كذا قال الأعمش؛ فنزلت هذه الآية: « أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا إلى قوله » ويأتينا فردا « في رواية قال كنت قينا في الجاهلية فعملت للعاص بن وائل عملا، فأتيته أتقاضاه خرجه البخاري أيضا وقال الكلبي ومقاتل: كان خباب قينا فصاغ للعاص حليا ثم تقاضاه أجرته فقال العاص ما عندي اليوم ما أقضيك فقال خباب لست بمفارقك حتى تقضيني فقال العاص يا خباب ما لك؟ ! ما كنت هكذا، وأن كنت لحسن الطلب. فقال خباب: إني كنت على دينك فأنا اليوم على دين الإسلام مفارق لدينك، قال أو لستم تزعمون أن في الجنة ذهبا وفضة وحريرا؟ قال خباب: بلى قال فأخرني حتى أقضيك في الجنة - استهزاء فوالله لئن كان ما تقول حقا إني لأقضيك فيها، فو الله لا تكون أنت يا خباب وأصحابك أولى بها مني، فأنزل الله تعالى « أفرأيت الذي كفر بآياتنا » يعني العاص بن وائل الآيات » أطلع الغيب « قال ابن عباس: ( أنظر في اللوح المحفوظ ) ؟ ! وقال مجاهد: أعلم الغيب حتى يعلم أفي الجنة هو أم لا؟ ! » أم اتخذ عند الرحمن عهدا « قال قتادة والثوري أي عملا صالحا وقيل هو التوحيد وقيل هو من الوعد وقال الكلبي عاهد الله تعالى أن يدخله الجنة » كلا « رد عليه أي لم يكن ذلك لم يطلع الغيب ولم يتخذ عند الرحمن عهدا وتم الكلام عند قول » كلا « وقال الحسن إن الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة والأول أصح لأنه مدون في الصحاح وقرأ حمزة والكسائي » وولدا « بضم الواو، والباقون بفتحها. واختلف في الضم والفتح على وجهين: أحدهما: أنهما لغتان معناهما واحد يقال ولد وولد كما يقال عدم وعدم وقال الحرث بن حلزة: »

ولقد رأيت معاشرا قد ثمروا مالا وولدا

وقال آخر:

فليت فلانا كان في بطن أمه وليت فلانا كان ولد حمار

والثاني: أن قيسا تجعل الولد بالضم جمعا والولد بالفتح واحدا قال الماوردي وفي قوله تعالى « لأوتين مالا وولدا » وجهان أحدهما أنه أراد في الجنة استهزاء بما وعد الله تعالى على طاعته وعبادته؛ قاله الكلبي. الثاني: أنه أراد في الدنيا وهو قول الجمهور وفيه وجهان محتملان أحدهما إن أقمت على دين آبائي وعبادة آلهتي لأوتين مالا وولدا الثاني: ولو كنت على باطل لما أوتيت مالا وولدا.

قلت: قول الكلبي أشبه بظاهر الأحاديث بل نصها يدل على ذلك قال مسروق سمعت خباب بن الأرت يقول جئت العاصي بن وائل السهمي أتقاضاه حقا عنده فقال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد فقلت لا حتى تموت ثم تبعث قال وإني لميت ثم مبعوث ؟! فقلت نعم فقال إن لي هناك مالا وولدا فأقضيك فنزلت هذه الآية قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح

 

قوله تعالى: « أطلع الغيب » ألفه ألف استفهام لمجيء « أم » بعدها ومعناه التوبيخ وأصله أأطلع فحذفت الألف الثانية لأنها ألف وصل فإن قيل فهلا أتوا بمدة بعد الألف فقالوا آطلع كما قالوا « الله خير » « آلذكرين حرم » قيل له كان الأصل في هذا « أألله » « أألذكرين » فأبدلوا من الألف الثانية مدة ليفرقوا بين الاستفهام والخبر وذلك أنهم لو قالوا الله خير بلا مد لالتبس الاستفهام بالخبر ولم يحتاجوا إلى هذه المدة في قوله « أطلع » لأن ألف الاستفهام مفتوحة وألف الخبر مكسورة وذلك أنك تقول في الاستفهام أطلع؟ أفترى؟ أصطفى؟ أستغفرت؟ بفتح الألف، وتقول في الخبر: إطلع، إفترى، إصطفى، إستغفرت لهم بالكسر، فجعلوا الفرق بالفتح والكسر ولم يحتاجوا إلى فرق آخر

 

قوله تعالى: « كلا » ليس في النصف الأول ذكر « كلا » وإنما جاء ذكره في النصف الثاني وهو يكون بمعنيين أحدهما بمعنى حقل والثاني بمعنى لا فإذا كانت بمعنى حقا جاز الوقف على ما قبله ثم تبتدئ « كلا » أي حقا وإذا كانت بمعنى لا كان الوقف على « كلا » جائز كما في هذه الآية لأن المعنى لا ليس الأم كذا ويجوز أن تقف عليه على قوله « عهدا » وتبتدئ « كلا » أي حقا « سنكتب ما يقول » وكذا قوله تعالى « لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا » [ المؤمنون: 100 ] يجوز الوقف على « كلا » وعلى « تركت » . وقوله « ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون قال كلا » الوقف على « كلا » لأن المعنى لا وليس الأمر كما تظن « فاذهبا » فليس للحق في هذا المعنى موضع وقال الفراء « كلا » بمنزلة سوف لأنها صلة وهي حرف رد فكأنها « نعم » و « لا » في الاكتفاء قال وإن جعلتها صلة لما بعدها لم تقف عليها كقولك: كلا ورب الكعبة؛ لا تقف على كلا لأنه بمنزلة إي ورب الكعبة قال الله تعالى « كلا والقمر » [ المدثر: 32 ] فالوقف على « كلا » قبيح لأنه صلة لليمين وكان أبو جعفر محمد بن سعدان يقول في « كلا » مثل قول الفراء وقال الأخفش معنى كلا الردع والزجر وقال أبو بكر بن الأنباري وسمعت أبا العباس يقول لا يوقف على « كلا » جميع القرآن لأنها جواب والفائدة تقع فيما بعدها والقول الأول هو قول أهل التفسير. « سنكتب ما يقول » أي سنحفظ عليه قوله فنجازيه به في الآخرة « ونمد له من العذاب مدا » أي سنزيده عذابا فوق عذاب « ونرثه ما يقول » أي نسلبه ما أعطيناه في الدنيا من مال وولد وقال ابن عباس وغيره ( نرثه المال والولد بعد إهلاكنا إياه ) وقيل نحرمه ما تمناه في الآخرة من مال وولد ونجعله لغيره من المسلمين « ويأتينا فردا » أي منفردا لا مال له ولا ولد ولا عشيرة تنصره

 

الآيتان: 81 - 82 ( واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا، كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا )

 

قوله تعالى: « واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا » يعني مشركي قريش و « عزا » معناه أعوانا ومنعة يعني أولادا والعز المطر الجود أيضا قاله الهروي وظاهر الكلام أن « عزا » راجع إلى الآلهة التي عبدوها من دون الله ووحد لأنه بمعنى المصدر أي لينالوا بها العز ويمتنعون بها من عذاب الله فقال الله تعالى ( كلا ) أي ليس الأمر كما ظنوا وتوهموا بل يكفرون بعبادتهم أي ينكرون أنهم عبدوا الأصنام أو تجحد الآلهة عبادة المشركين لها كما قال: « تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون » [ القصص:63 ] وذلك أن الأصنام جمادات لا تعلم العبادة « ويكونون عليهم ضدا » أي أعوانا في خصومتهم وتكذيبهم عن مجاهد والضحاك يكونون لهم أعداء ابن زيد يكون عليهم بلاء فتحشر آلهتهم وتركب لهم عقول فتنطق وتقول: يا رب عذب هؤلاء الذين عبدونا من دونك و « كلا » هنا يحتمل أن تكون بمعنى لا ويحتمل أن تكون بمعنى حقا أي حقا « سيكفرون بعبادتهم » وقرأ أبو نهيك « كلا سيكفرون » بالتنوين. وروي عنه مع ذلك ضم الكاف وفتحها. قال المهدوي « كلا » ردع وزجر وتنبيه ورد لكلام متقدم، وقد تقع لتحقيق ما بعدها التنبيه عليه « كلا إن الإنسان ليطغى » [ العلق: 6 ] فلا يوقف عليها على هذا ويوقف في المعنى الأول فان صلح فيها المعنيان جميعا جاز الوقف عليها والابتداء بها. فمن نون ( كلا ) من قوله: « كلا سيكفرون بعبادتهم » مع فتح الكاف فهو مصدر كل ونصبه بفعل مضمر والمعنى كل هذا الرأي والاعتقاد كلا يعني اتخاذهم الآلهة « ليكونوا لهم عزا » فيوقف على هذا على « عزا » وعلى « كلا » وكذلك في قراءة الجماعة لأنها تصلح للرد لما قبلها والتحقيق لما بعدها ومن روى ضم الكاف مع التنوين فهو منصوب أيضا بفعل مضمر كأنه قال: سيكفرون « كلا سيكفرون بعبادتهم » يعني الآلهة.

قلت: فتحصل في « كلا » أربعة معان: التحقيق وهو أن تكون بمعنى حقا والنفي والتنبيه وصلة للقسم ولا يوقف منها إلا على الأول وقال الكسائي « لا » تنفي فحسب و « كلا » تنفي شيئا وتثبت شيئا فإذا قيل أكلت تمرا قلت كلا إني أكلت عسلا لا تمرا ففي هذه الكلمة نفي ما قبلها، وتحقق ما بعدها والضد يكون واحدا ويكون جمعا كالعدو والرسول وقيل وقع الضد موقع المصدر أي ويكونون عليهم عونا فلهذا لم يجمع وهذا في مقابلة قوله. « ليكونوا لهم عزا » والعز مصدر فكذلك ما وقع في مقابلته ثم قيل الآية في عبدة الأصنام فأجري الأصنام مجرى من يعقل جريا على توهم الكفرة وقيل فيمن عبد المسيح أو الملائكة أو الجن أو الشياطين فالله تعالى أعلم.

 

الآيات: 83 - 87 ( ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا، فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا، يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا، ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا، لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا )

 

قوله تعالى: « ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين » أي سلطانهم عليهم بالإغواء وذلك حين قال لإبليس « واستفزز من استطعت منهم بصوتك » [ الإسراء: 64 ] . وقيل « أرسلنا » أي خلينا يقال أرسلت البعير أي خليته، أي خلينا الشياطين وإياهم ولم نعصمهم من القبول منهم. الزجاج: قيضنا « تؤزهم أزا » قال ابن عباس: تزعجهم إزعاجا من الطاعة إلى المعصية وعنه تغريهم إغراء بالشر أمض أمض في هذا الأمر حتى توقعهم في النار حكى الأول الثعلبي والثاني الماوردي والمعنى واحد الضحاك تغويهم إغواء مجاهد تشليهم إشلاء وأصله الحركة والغليان، ومنه الخبر المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ( قام إلى الصلاة ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء ) وائتزت القدر ائتزازا اشتد غليانها والأز التهييج والأغراء قال الله تعالى « ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا » أي تغريهم على المعاصي والأز الاختلاط. وقد أززت الشيء أؤزه أزا أي ضممت بعضه إلى بعض قاله الجوهري. « فلا تعجل عليهم » أي تطلب العذاب لهم. « إنما نعد لهم عدا » قال الكلبي: آجالهم يعني الأيام والليالي والشهور والسنين إلى انتهاء أجل العذاب وقال الضحاك الأنفاس ابن عباس: ( أين نعد أنفاسهم في الدنيا كما نعد سنيهم ) وقيل الخطوات وقيل اللذات وقيل اللحظات وقيل الساعات وقال قطرب: نعد أعمالهم عدا وقيل لا تعجل عليهم فإنما نؤخرهم ليزدادوا إثما روي أن المأمون قرأ هذه السورة فمر بهذه الآية وعنده جماعة من الفقهاء فأشار برأسه إلى ابن السماك أن يعظه فقال إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد وقيل في هذا المعنى:

حياتك أنفاس تعد فكلما مضى نفس منك انتقصت به جزءا

يميتك ما يحيك في ليلة ويحدوك حاد ما يريد به الهزءا

ويقال: إن أنفاس ابن آدم بين اليوم والليلة أربعة وعشرون ألف نفس اثنا عشر ألف نفس في اليوم واثنا عشر ألفا في الليلة والله أعلم فهي تعد وتحصى إحصاء ولها عدد معلوم وليس لها مدد فما أسرع ما تنفد.

 

قوله تعالى: « يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا » في الكلام حذف أي إلى جنة الرحمن، ودار كرامته. كقوله « إني ذاهب إلى ربي سيهدين » [ الصافات: 99 ] وكما في الخبر ( من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ) والوفد اسم للوافدين كما يقال صوم وفطر وزور فهو جمع الوافد مثل ركب وراكب وصحب وصاحب وهو من وفد يفد وفدا ووفودا ووفادة إذا خرج إلى ملك أو أمر خطير. الجوهري: يقال وفد فلان على الأمير أي ورد رسولا فهو وافد، والجمع وفد مثل صاحب وصحب وجمع الوفد وفاد ووفود والاسم الوفادة وأوفدته أنا إلى الأمير أي أرسلته وفي التفسير « وفدا » أي ركبانا على نجائب طاعتهم وهذا لأن الوافد في الغالب يكون راكبا والوفد الركبان ووحد لأنه مصدر ابن جريج وفدا على النجائب وقال عمرو بن قيس الملائي إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله عمله في أحسن صورة وأطيب ريح فيقول هل تعرفني؟ فيقول لا إلا إن الله قد طيب ريحك وحسن صورتك فيقول كذلك كنت في الدنيا أنا عملك الصالح طالما ركبتك في الدنيا اركبني اليوم وتلا « يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا » وإن الكافر يستقبله عمله في أقبح صورة وأنتن ريح فيقول هل تعرفني فيقول لا إلا إن الله قد قبح صورتك وأنتن ريحك فيقول: كذلك كنت في الدنيا أنا عملك السيء طالما ركبتني في الدنيا وأنا اليوم أركبك وتلا « وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم » [ الأنعام: 31 ] ولا يصح من قبل إسناده قاله ابن العربي في « سراج المريدين » وذكر هذا الخبر في تفسيره أبو نصر عبدالرحيم بن عبدالكريم القشيري عن ابن عباس بلفظه ومعنا وقال أيضا عن ابن عباس من كان يحب الخيل وفد إلى الله تعالى على خيل لا تروث ولا تبول لجمها من الياقوت الأحمر ومن الزبرجد الأخضر ومن الدر الأبيض وسروجها من السندس والإستبرق ومن كان يحب ركوب الإبل فعلى نجائب لا تبعر ولا تبول أزمتها من الياقوت والزبرجد ومن كان يحب ركوب السفن فعلى سفن من ياقوت قد أمنوا الغرق وأمنوا الأهوال وقال أيضا عن علي رضي الله عنه ولما نزلت الآية قال علي رضي الله عنه يا رسول الله! إني قد رأيت الملوك ووفودهم فلم أر وفدا إلا ركبانا فما وفد الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أما إنهم يحشرون على أقدامهم ولا يساقون سوقا ولكنهم يؤتون بنوق من نوق الجنة لم ينظر الخلائق إلى مثلها رحالها الذهب وزمامها الزبرجد فيركبون حتى يقرعوا باب الجنة ) ولفظ الثعلبي في هذا الخبر عن علي أبين وقال علي لما نزلت هذه الآية قلت: يا رسول الله! إني رأيت الملوك ووفودهم فلم أر وفدا إلا ركبانا قال ( يا علي إذا كان المنصرف من ببن يدي الله تعالى تلقت الملائكة المؤمنين بنوق بيض رحالها وأزمتها الذهب على كل مركب حلة لا تساويها الدنيا فيلبس كل مؤمن حلة ثم تسير بهم مراكبهم فتهوي بهم النوق حتى تنتهي بهم إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة « سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين » [ الزمر: 73 ]

قلت: وهذا الخبر ينص على أنهم لا يركبون ولا يلبسون إلا من الموقف وأما إذا خرجوا من القبور فمشاة حفاة عراة غرلا إلى الموقف بدليل حديث ابن عباس قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال ( يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله تعالى حفاة عراة غرلا ) الحديث خرجه البخاري ومسلم وسيأتي بكماله في سورة « المؤمنين » إن شاء الله تعالى وتقدم في « آل عمران » من حديث عبدالله بن أنيس بمعناه والحمد لله تعالى ولا يبعد أن تحصل الحالتان للسعداء فيكون حديث ابن عباس مخصوصا والله أعلم وقال أبو هريرة « وفدا » على الإبل ابن عباس ( ركبانا يؤتون بنوق من الجنة عليها رحائل من الذهب وسروجها وأزمتها من الزبرجد فيحشرون عليها ) وقال علي ( ما يحشرون والله على أرجلهم ولكن على نوق رحالها من ذهب ونجب سروجها يواقيت إن هموا بها سارت وإن حركوها طارت ) وقيل يفدون على ما يحبون من إبل أو خيل أو سفن على ما تقدم عن ابن عباس والله أعلم وقيل إنما قال « وفدا » لأن من شأن الوفود عند العرب أن يقدموا بالبشارات وينتظرون الجوائز فالمتقون ينتظرون العطاء والثواب. « ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا » السوق الحث على السير، و « وردا » عطاشا قال ابن عباس وأبو هريرة رضي الله عنهما والحسن والأخفش والفراء وابن الأعرابي: حفاة مشاة وقيل: أفواجا وقال الأزهري أي مشاة عطاشا كالإبل ترد الماء فيقال جاء ورد بني فلان القشيري وقوله ( وردا ) يدل على العطش لأن الماء إنما يورد في الغالب للعطش وفي « التفسير » مشاة عطاشا تتقطع أعناقهم من العطش وإذا كان سوق المجرمين إلى النار فحشر المتقين إلى الجنة. وقيل « وردا » أي الورود كقولك جئتك إكراما لك أي لإكرامك أي نسوقهم لورود النار.

قلت ولا تناقض بين هذه الأقوال فيساقون عطاشا حفاة مشاة أفواجا قال ابن عرفة الورد القوم يردون الماء، فسمي العطاش وردا لطلبهم ورود الماء كما تقول قوم صوم أي صيام وقوم زور أي زوار فهو اسم على لفظ المصدر واحدهم وارد والورد أيضا الجماعة التي ترد الماء من طير وإبل والورد الماء الذي يورد وهذا من باب الإيماء بالشيء إلى الشيء الورد الجزء [ من القرآن ] يقال قرأت وردي والورد يوم الحمى إذا أخذت صاحبها لوقت فظاهرة لفظ مشترك وقال الشاعر يصف قليبا

يطمو إذا الورد عليه التكا

أي الوراد الذين يريدون الماء

 

قوله تعالى: « لا يملكون الشفاعة » أي هؤلاء الكفار لا يملكون الشفاعة لأحد « إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا » وهم المسلمون فيملكون الشفاعة فهو استثناء الشيء من غير جنسه أي لكن « من اتخذ عند الرحمن عهدا » يشفع فـ « من » في موضع نصب على هذا وقيل هو في موضع رفع على البدل من الواو في « يملكون » أي لا يملك أحد عند الله الشفاعة « إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا » فإنه يملك وعلى هذا يكون الاستثناء متصلا. و « المجرمين » في قول « ونسوق الجرمين إلى جهنم وردا » الكفرة والعصاة ثم أخبر أنهم لا يملكون الشفاعة إلا العصاة المؤمنون فانهم يملكونها بأن يشفع فيهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا أزال أشفع حتى أقول يا رب شفعني فيمن قال لا إله إلا الله محمد رسول الله فيقول يا محمد إنها ليست لك ولكنها لي ) خرجه مسلم بمعناه. وقد تقدم وتظاهرت الأخبار بأن أهل الفضل والعلم والصلاح يشفعون فيشفعون؛ وعلى القول الأول يكون الكلام متصلا بقوله. « واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا » فلا تقبل غدا شفاعة عبدة الأصنام لأحد، ولا شفاعة الأصنام لأحد، ولا يملكون شفاعة أحد لهم أي لا تنفعهم شفاعة كما قال فما تنفعهم شفاعة الشافعين « وقيل: أي نحشر المتقين والمجرمين لا يملك أحدا شفاعة « إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا » أي إذا أذن له الله في الشفاعة. كما قال: » من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه « [ البقرة:255 ] وهذا العهد هو الذي قال » أم اتخذ عند الرحمن عهدا « وهو لفظ جامع للإيمان وجميع الصالحات التي يصل بها صاحبها إلى حيز من يشفع وقال ابن عباس العهد لا إله إلا الله وقال مقاتل وابن عباس أيضا لا يشفع إلا من شهد أن لا إله إلا الله وتبرأ من الحول والقوة [ إلا ] لله ولا يرجو إلا الله تعالى. وقال ابن مسعود سمعت رسول الله يقول لأصحابه ( أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهدا ) قيل يا رسول الله وما ذاك؟ قال ( يقول عند كل صباح ومساء اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أعهد إليك في هذه الحياة بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدا عبدك ورسولك ( فلا تكلني إلى نفسي ) فإنك إن تكلني إلى نفسي تباعدني من الخير وتقربني من الشر وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهدا توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد فإذا قال ذلك طبع الله عليها طابعا ووضعها تحت العرش فإذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الذين عند الله عهد فيقوم فيدخل الجنة ) .»

 

الآيات: 88 - 95 ( وقالوا اتخذ الرحمن ولدا، لقد جئتم شيئا إدا، تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا، أن دعوا للرحمن ولدا، وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا، إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا، لقد أحصاهم وعدهم عدا، وكلهم آتيه يوم القيامة فردا )

 

قوله تعالى: « وقالوا اتخذ الرحمن ولدا » يعني اليهود والنصارى، ومن زعم أن الملائكة بنات الله. وقرأ يحيى وحمزة والكسائي وعاصم وخلف: « ولدا » بضم الواو وإسكان اللام، في أربعة مواضع: من هذه السورة قوله تعالى: لأتين مالا وولدا « [ مريم: 77 ] وقد تقدم قوله وقوله: » أن دعوا للرحمن ولدا. وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا « . وفي سورة نوح » ماله وولده « [ نوح: 21 ] ووافقهم في » نوح « خاصة ابن كثير ومجاهد وحميد وأبو عمرو ويعقوب. والباقون في الكل بالفتح في الواو واللام وهما لغتان مثل والعرب والعرب والعجم والعجم قال: »

ولقد رأيت معاشرا قد ثمروا مالا وولدا

وقال آخر

وليت فلانا كان في بطن أمه وليت فلانا كان ولد حمار

وقال في معنى ذلك النابغة:

مهلا فداء لك الأقوام كلهم وما أثمر من مال ومن ولد

ففتح. وقيس يجعلون الولد بالضم جمعا والولد بالفتح واحد قال الجوهري الولد قد يكون واحدا وجمعا وكذلك الولد بالضم ومن أمثال بني أسد ولدك من دمى عقبيك وقد يكون الولد جمع الولد مثل أسد وأسد والولد بالكسر لغة في الولد النحاس وفرق أبو عبيدة بينهما فزعم أن الولد يكون للأهل والولد جميعا قال أبو جعفر وهذا قول مردود لا يعرفه أحد من أهل اللغة ولا يكون الولد والولد إلا ولد الرجل، وولد ولده، إلا أن ولدا أكثر في كلام العرب؛ كما قال:

مهلا فداء لك الأقوام كلهم وما أثمر ما من مال ومن ولد

قال أبو جعفر وسمعت محمد بن الوليد يقول: يجوز أن يكون ولد جمع ولد كما يقال وثن ووثن وأسد وأسد، ويجوز أن يكون ولد وولد بمعنى واحد كما يقال عجم وعجم وعرب وعرب كما تقدم.

 

قوله تعالى: « لقد جئتم شيئا إدا » أي منكرا عظيما؛ عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. قال الجوهري: الإد والإدة الداهية والأمر الفظيع ومنه قوله تعالى « لقد جئتم شيئا إدا » وكذلك الآد مثل فاعل. وجمع الإدة إدد. وأدت فلانا داهية تؤده أدا ( بالفتح ) . والإد أيضا الشدة. [ والأد الغلبة والقوة ] قال الراجز:

نضون عني شدة وأدا من بعد ما كنت صملا جلدا

انتهى كلامه. وقرأ أبو عبدالله وأبو عبدالرحمن السلمي « أدا » بفتح الهمزة النحاس يقال أد يؤد أدا فهو آد والاسم الإد؛ إذا جاء بشيء عظيم منكر وقال الراجز

قد لقي الأقران مني نكرا داهية دهياء إدا إمرا

عن غير النحاس الثعلبي وفيه ثلاث لغات « إدا » بالكسر وهي قراءة العامة « وأدا » بالفتح وهى قراءة السلمي و « آد » مثل ماد وهي لغة لبعض العرب رويت عن ابن عباس وأبي العالية؛ وكأنها مأخوذة من الثقل [ يقال ] : آده الحمل يؤوده أودا أثقله.

 

قوله تعالى: « تكاد السماوات » قراءة العامة هنا وفي « الشورى » بالتاء. وقراءة نافع ويحي والكسائي « يكاد » بالياء لتقدم الفعل. « يتفطرن منه » أي يتشققن وقرأ نافع وابن كثير وحفص وغيرهم بتاء بعد الياء وشد الطاء من هنا وفي « الشورى » ووافقهم حمزة وابن عامر في « الشورى » وقرأ هنا « ينفطرن » من الانفطار وكذلك قرأها أبو عمرو وأبو بكر والمفضل في السورتين. وهي اختيار أبي عبيد تعالى « إذا السماء انفطرت » [ الإنفطار:1 ] وقوله: « السماء منفطر به » [ المزمل:18 ] وقوله: « وتنشق الأرض » أي تتصدع « وتخر الجبال هدا » قال ابن عباس: ( هدما أي تسقط بصوت شديد ) وفي الحديث ( اللهم إني أعوذ بك من الهد والهدة ) قال شمر قال أحسد بن غياث المروزي الهد الهدم والهدة الخسوف. وقال الليث هو الهدم الشديد كحائط يهد بمرة يقال هدني الأمر وهد ركني أي كسرني وبلغ مني قاله الهوري الجوهري وهد البناء يهده هدا كسره وضعفه وهدته المصيبة أي أو هنت ركنه وانهد الجبل انكسر. الأصمعي: والهد الرجل الضعيف يقول الرجل للرجل إذا أوعده إني لغير هد أي غير ضعيف وقال ابن الأعرابي: الهد من الرجال الجواد الكريم وأما الجبان الضعيف فهو الهد بالكسر وأنشد:

ليسوا بهدين في الحروب إذا تعقد فوق الحراقف النطق

والهدة صوت وقع الحائط ونحوه تقول هديه ( بالكسر ) هديدا والهاد صوت يسمعه أهل الساحل يأتيهم من قبل البحر له دوي الأرض وربما كانت منه الزلزلة ودويه هديه النحاس « هدا » مصدر لأن معنى « تخر » تهد وقال غيره حال أي مهدودة: « أن دعوا للرحمن ولدا » « أن » في موضع نصب عند الفراء لأن دعوا ومن أن دعوا فموضع « أن » نصب بسقوط الخافض وزعم الفراء أن الكسائي قال هي في موضع خفض بتقدير الخافض وذكر ابن المبارك: حدثنا عن واصل عن عون بن عبدالله قال قال عبدالله بن مسعود: إن الجبل ليقول للجبل يا فلان هل مر بك اليوم ذاكر لله؟ فإن قال نعم سربه ثم قرأ عبدالله « وقالوا اتخذ الرحمن ولدا » الآية قال أفتراهن يسمعن الزور ولا يسمعن الخير؟! قال وحدثني عوف عن غالب بن عجرد قال حدثني رجل من أهل الشام في مسجد منى قال إن الله تعالى لما خلق الأرض وخلق ما فيها من الشجر لم تك في الأرض شجرة يأتيها بنو آدم إلا أصابوا منها منفعة وكان لهم منها منفعة، فلم تزل الأرض والشجر كذلك حتى تكلم فجرة بني آدم تلك الكلمة العظيمة قولهم « اتخذ الرحمن ولدا » فلما قالوها اقشعر الأرض وشاك الشجر وقال ابن عباس اقشعرت الجبال وما فيها من الأشجار والبحار وما فيها من الحيتان فصار من ذلك الشوك في الحيتان وفي الأشجار الشوك وقال ابن عباس أيضا وكعب فزعت السموات والأرض والجبال وجميع المخلوقات إلا الثقلين وكادت أن تزول وغضبت الملائكة فاستعرت جهنم وشاك الشجر واكفهرت الأرض وجدبت حين قالوا « اتخذ الله ولدا » وقال محمد بن كعب لقد كاد أعداء الله أن يقيموا علينا الساعة لقوله تعالى « تكاد لسموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا » قال ابن العربي وصدق فإنه قول عظيم سبق به القضاء والقدر ولولا الباري تبارك وتعالى لا يضعه كفر الكافر ولا يرفعه إيمان المؤمن ولا يزيد هذا في ملكه كما لا ينقص ذلك من ملكه لما جرى شيء من هذا على الألسنة ولكنه القدوس الحكيم الحليم فلم يبال بعد ذلك بما يقول المبطلون

 

قوله تعالى: « وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا » نفى عن نفسه سبحانه وتعالى الولد لأن الولد يقتضي الجنسية والحدوث على ما بيناه في « البقرة » أي لا يليق به ذلك ولا يوصف به ولا يجوز في حقه لأنه لا يكون ولد إلا من والد يكون له والد وأصل والله سبحانه يتعالى عن ذلك ويتقدس قال

في رأس خلقاء من عنقاء مشرفة ما ينبغي دونها سهل ولا جبل

« إن كل من في السماوات والأرض » « إن » نافية بمعنى ما أي ما كل من في السموات والأرض إلا وهو يأتي يوم القيامة مقرا له بالعبودية خاضعا ذليلا كما قال « و كل أتوه داخرين » [ النمل: 87 ] أي صاغرين أذلاء أي الخلق كلهم عبيده فكيف يكون واحد منهم ولدا له عز وجل تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا و « آتي » بالياء في الخط والأصل التنوين فحذف استخفافا وأضيف.

 

وفي هذه الآية دليل على أنه لا يجوز أن يكون الولد مملوكا للوالد خلافا لمن قال إنه يشتريه فيملكه ولا يعتق عليه إلا إذا أعتقه وقد أبان الله تعالى المنافاة بين الأولاد والملك فإذا ملك الوالد ولده بنوع من التصرفات عتق عليه ووجه الدليل عليه من هذه الآية أن الله تعالى جعل الولدية والعبدية في طرفي تقابل فنفى أحدهما وأثبت الآخر ولو اجتمعا لما كان لهذا القول فائدة يقع الاحتجاج بها وفي الحديث الصحيح ( لا يجزي ولد والدا إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه ) أخرجه مسلم فإذا لم يملك الأب ابنه مع مرتبته عليه فالابن بعدم ملك الأب أولى لقصوره عنه.

 

ذهب إسحاق بن راهويه في تأويل قول عليه الصلاة والسلام ( من أعتق شركا له في عبد ) أن المراد به ذكور العبيد دون إناثهم فلا يكمل على من أعتق شركا في أنثى وهو على خلاف ما ذهب إليه الجمهور من السلف ومن بعدهم فإنهم لم يفرقوا بين الذكر والأنثى لأن لفظ العبد يراد به الجنس كما قال تعالى « إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا » فإنه قد يتناول الذكر والأنثى من العبد قطعا، وتمسك إسحاق بأنه حكى عبدة في المؤنث

 

روى البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يقول الله تبارك وتعالى كذبني بن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فقول ليس يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته وأما شتمه إياي فقول اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن لي كفوا أحد ) وقد تقدم في « البقرة » وغيرها وإعادته في مثل هذا الموضع حسن جدا.

 

قوله تعالى: « لقد أحصاهم » أي علم عددهم « وعدهم عدا » تأكيد أي فلا يخفى عليه أحد منهم.

قلت ووقع لنا في أسمائه سبحانه المحصي أعني في السنة من حديث أبي هريرة خرجه الترمذي. واشتقاق هذا الفعل يدل عليه وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني ومنها المحصي ويختص بأنه لا تشغله الكثرة عن العلم مثل ضوء النور واشتداد الريح وتساقط الأوراق فيعلم عند ذلك أجزاء الحركات في رقة وكيف لا يعلم وهو الذي يخلق وقد قال « ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير » ووقع في تفسير ابن عباس أن معنى « لقد أحصاهم وعدهم عدا » يريد أقروا له بالعبودية وشهدوا له بالربوبية.

 

قوله تعالى: « وكلهم آتيه يوم القيامة فردا » أي واحدا لانا صر له ولا مال معه ينفعه كما قال تعالى « يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم » فلا ينفعه إلا ما قدم من عمل وقال « وكلهم آتيه » على لفظ وعلى المعنى آتوه وقال القشيري وفيه إشارة إلى أنكم لا ترضون لأنفسكم باستعباد أولادكم والكل عبيده فكيف رضيتم له مالا ترضون لأنفسكم وقد رد عليهم في مثل هذا في أنهم لا يرضون لأنفسهم بالبنات ويقولون الملائكة بنات الله تعالى الله عن ذلك وقولهم الأصنام الله وقال « فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم » [ الأنعام: 136 ] .

 

الآيات: 96 - 98 ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا، فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا، وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا )

 

قوله تعالى « إن الذين آمنوا » أي صدقوا « وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا » أي حبا في قلوب عباده كما رواه الترمذي من حديث سعد وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إذا أحب الله عبدا نادى جبريل إني قد أحببت فلانا فأحبه قال فينادي في السماء ثم تنزل له المحبة في أهل الأرض فذلك قوله تعالى « سيجعل لهم الرحمن ودا » وإذا أبغض الله عبدا نادى جبريل إني أبغضت فلانا فينادي في السماء ثم تنزل له البغضاء في الأرض ) قال هذا حديث حسن صحيح وخرجه البخاري ومسلم بمعناه ومالك في الموطأ وفي نوادر الأصول وحدثنا أبو بكر بن سابق الأموي قال حدثنا أبو مالك الجنبي عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله أعطى المؤمن الألفة والملاحة والمحبة في صدور الصالحين والملائكة المقربين ثم تلا « إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا »

واختلف فيمن نزلت فقيل في علي رضي الله تعالى عنه روى البراء بن عازب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: ( قل يا علي اللهم اجعل لي عندك عهدا واجعل لي في قلوب المؤمنين مودة ) فنزلت الآية ذكره الثعلبي وقال ابن عباس نزلت في عبدالرحمن بن عوف جعل الله تعالى له في قلوب العباد مودة لا يلقاه مؤمن إلا وقره لا مشرك ولا منافق إلا عظمه وكان هرم بن حيان يقول ما أقبل أحد بقلبه على الله تعالى إلا أقبل الله تعالى بقلوب أهل الإيمان إليه، حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم. وقيل يجعل الله تعالى لهم مودة في قلوب المؤمنين والملائكة يوم القيامة

قلت: إذا كان محبوبا في الدنيا فهو كذلك في الآخرة فإن الله تعالى لا يحب إلا مؤمنا تقيا ولا يرضى إلا خالصا نقيا جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه. روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله تعالى إذا أحب عبدا دعا جبريل عليه السلام فقال إني أحب فلانا فأحبه فيحب جبريل ثم ينادي في السماء فيقول إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء قال ثم يوضع له القبول في الأرض وإذا أبغض عبدا دعا جبريل عليه السلام وقال إني أبغض فلانا فأبغضه فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلانا فأبغضوه قال فيبغضونه ثم توضع له البغضاء في الأرض )

 

قوله تعالى: « فإنما يسرناه بلسانك » أي القرآن يعني بيناه بلسانك العربي وجعلناه سهلا على من تدبره وتأمله وقيل أنزلناه عليك بلسان العرب ليسهل عليهم فهمه. « لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا » اللد جمع الألد وهو الشديد الخصومة ومنه قوله تعالى « ألد الخصام » وقال الشاعر

أبيت نجيا للهموم كأنني أخاصم أقواما ذوي جدل لدا

وقال أبو عبيدة الألد الذي لا يقبل الحق ويدعي الباطل الحسن اللد الصم عن الحق قال الربيع: صم أذان القلوب. مجاهد: فجارا. الضحاك: مجادلين في الباطل. ابن عباس: شديدا في الخصومة. وقيل: الظالم الذي لا يستقيم والمعنى واحد وخصوا بإنذار لأن الذي لا عناد عنده يسهل انقياده

 

قوله تعالى: « وكم أهلكنا قبلهم من قرن » أي من أمة وجماعة من الناس يخوف أهل مكة. « هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا » في موضع نصب أي هل ترى منهم أحد وتجد « أو تسمع لهم ركزا » أي صوتا عن ابن عباس وغيره أي قد ماتوا وحصلوا أعمالهم وقيل حسا قال ابن زيد وقيل الركز ما لا يفهم من صوت أو حركة قال اليزيدي وأبو عبيدة كركز الكتيبة وأنشد أبو عبيدة بيت لبيد:

وتوجست ركز الأنيس فراعها عن ظهر غيب والأنيس سقامها

وقيل الصوت الخفي ومنه ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض وقال طرفة

وصادقتا سمع التوجس للسري خفي أو لصوت مندد

وقال ذو الرمة يصف ثورا تسمع إلى صوت صائد وكلاب:

إذا توجس ركزا مقفر ندس بنبأة الصوت ما في سمعه كذب

أي ما في استماعه كذب أي هو صادق الاستماع والندس الحاذق يقال ندس وندس كما يقال حذر وحذر ويقظ ويقظ، والنبأة الصوت الخفي وكذلك الركز والركاز المال المدفون. والله تعالى أعلم بالصواب.

 

سورة طه

مقدمة السورة

 

سورة طه مكية في قول الجميع نزلت قبل إسلام عمر رضي الله عنه روى الدارقطني في سننه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال خرج عمر متقلدا بسيف فقيل له إن ختنك قد صبوا فأتاهما عمر وعندهما رجل من المهاجرين يقال له خباب وكانوا يقرؤون « طه » فقال: أعطوني الكتاب الذي عندكم فأقرأه وكان عمر رضي الله عنه يقرأ الكتب فقالت له أخته إنك رجس ولا يمسه إلا المطهرون فقم فاغتسل أو توضأ فقام عمر رضي الله عنه وتوضأ وأخذ الكتاب فقرأ « طه » وذكره ابن إسحاق مطولا فإن عمر خرج متوشحا سيفه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتله فلقيه نعيم بن عبدالله فقال أين تريد يا عمر؟ فقال أريد محمدا هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها وعاب دينها وسب آلهتها فاقتله فقال له نعيم والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا؟ !أفلا ترجع إلى أهلك فتقيم أمرهم؟ فقال وأي أهل ببتي؟ قال ختنك وابن عمك سعيد بن زيد وأختك فاطمة بنت الخطاب فقد والله أسلما وتابعا محمدا على دينه فعليك بهما قال فرجع عمر عامدا إلى أخته وختنه وعندهما خباب بن الأرت معه صحيفة فيها « طه » يقرئهما إياها فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب في مخدع لهم أوفي بعض لبيت وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب عليهما فلما دخل قال ما هذه الهينمة التي سمعت؟ قالا له ما سمعت شيئا فال بلى والله لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا إلى دينه وبطش بختنه سعيد بن زيد فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها فضربها فشجها فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه نعم قد أسلمنا وأمنا بالله ورسول فاصنع ما بدا لك ولما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع فارعوى وقال لأخته أعطني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرؤونها آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد وكان كاتبا فلما قال ذلك قالت له أخته إنا نخشاك عليها قال لها لا تخافي وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها فلما قال ذلك طمعت في إسلامه فقالت له يا أخي إنك نجس على شركك وأنه لا يمسها إلا الطاهر فقام عمر وأغتسل فأعطته الصحيفة وفيها « طه » فلما قرأ منها صدرا قال ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع ذلك خباب خرج إليه فقال له يا عمر والله إني لأرجو أن يكون الله خصك بدعوة نبيه فإني سمعته أمس وهو يقول ( اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو الخطاب ) فالله الله يا عمر فقال له عند ذلك فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم وذكر الحديث.

مسألة أسند الدارمي أبو محمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم ( إن الله تبارك وتعالى قرأ « طه » و « يس » قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام فلما سمعت الملائكة القرآن قالت طوبى لأمة ينزل هذا عليها وطوبى لأجواف تحمل هذا وطوبى لألسنة تتكلم بهذا ) قال ابن فورك قوله ( إن الله تبارك وتعالى قرأ « طه » و « يس » ) أي أظهر وأسمع وأفهم كلامه من أراد من خلقه الملائكة في ذلك الوقت والعرب تقول قرأت الشيء إذا تتبعته وتقول ما قرأت هذه الناقة في رحمها سلا قط أي ما ظهر فيها ولد فعلى هذا يكون الكلام سائغا وقرأته أسماعه وأفهامه قرأته يخلقها وكتابة يحدثها وهي معنى قولنا قرأنا كلام الله ومعنى قوله « فاقرؤوا ما تيسر من القرآن » « فاقرؤوا ما تيسر منه » ومن أصحابنا من قال معنى قوله قرأ ) أي تكلم به وذلك مجاز كقولهم ذقت هذا القول ذواقا بمعنى اختبرته ومنه قوله: « فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما يصنعون » أي ابتلاهم الله تعالى به فسمي ذلك ذوقا والخوف لا يذاق على الحقيقة لأن الذوق في الحقيقة بالفم دون غيره من الجوارح قال ابن فورك وما قلناه أولا أصح في تأويل هذا الخير لأن كلام الله تعالى أزلي قديم سابق لجملة الحوادث وإنما أسمع وأفهم من أراد من خلقه على ما أراد في الأوقات والأزمنة لا أن عين كلامه يتعلق وجوده بمدة وزمان.

 

الآيات: 1 - 4 ( طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى، إلا تذكرة لمن يخشى، تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى )

 

قوله تعالى: « طه » اختلف العلماء في معناه فقال الصديق رضي الله تعالى عنه هو من الأسرار ذكره الغزنوي ابن عباس معناه يا رجل ذكره البيهقي وقيل إنها لغة معروفة في عكل. وقيل في عك قال الكلبي: لو قلت في عك لرجل يا رجل لم يجب حتى تقول طه وأنشد الطبري في ذلك فقال:

دعوت بطه في القتال فلم يجب فخفت عليه أن يكون موائلا

ويروى مزايلا وقال عبدالله بن عمر يا حبيبي بلغة عك ذكره الغزنوي وقال قطرب هو بلغة طيء وأنشد ليزيد بن المهلهل:

إن السفاهة طه من شمائلكم لا بارك الله في القوم الملاعين

وكذلك قال الحسن معنى « طه » يا رجل وقال عكرمة وقال هو بالسريانية كذلك ذكره المهدوي وحكاه الماوردي عن ابن عباس أيضا ومجاهد وحكى الطبري أنه بالنبطية يا رجل وهذا قول السدي وسعيد بن جبير وابن عباس أيضا قال:

إن السفاهة طه من خلائقكم لا قدس الله أرواح الملاعين

وقال عكرمة أيضا هو كقولك يا رجل بلسان الحبشة ذكره الثعلبي والصحيح أنها وإن وجدت في لغة أخرى فإنها من لغة العرب كما ذكرنا وأنها لغة يمينية في عك وطيء وعكل أيضا وقيل: هو اسم من أسماء الله تعالى وقسم أقسم به وهذا أيضا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقيل: هو اسم للنبي صلى الله عليه وسلم سماه الله تعالى به كما سماه محمدا وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( لي عند ربي عشرة أسماء ) فذكر أن فيها « طه » و « يس » وقيل هو اسم للسورة ومفتاح لها وقيل إنه اختصار من كلام الله خص الله تعالى رسول بعلمه وقيل إنها حروف مقطعة يدل كل حرف منها على معي واختلف في ذلك فقيل الطاء شجرة طوبى والهاء النار الهاوية والعرب تعبر عن الشيء كله ببعضه كأنه أقسم بالجنة والنار وقال سعيد بن جبير الطاء افتتاح اسمه طاهر وطيب والهاء افتتاح اسمه هادي وقيل « طاء » يا طامع الشفاعة للأمة « هاء » يا هادي الخلق إلى الله وقيل الطاء من الطهارة والهاء من الهداية كأنه يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام يا طاهرا من الذنوب يا هادي الخلق إلى علام الغيوب وقيل الطاء طبول الغزاة والهاء هيبتهم في قلوب الكافرين بيانه قوله تعالى « سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب » وقوله « وقذف في قلوبهم الرعب » وقيل الطاء طرب أهل الجنة في الجنة والهاء هوان أهل النار في النار وقول سادس إن معنى « طه » طوبى لمن اهتدى قال مجاهد ومحمد بن الحنفية وقول سابع إن معنى « طه » طأ الأرض وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحمل مشقة الصلاة حتى كادت قدماه تتورم ويحتاج إلى الترويح بين قدميه فقيل له طأ الأرض أي لا تتعب حتى تحتاج إلى الترويح حكاه ابن الأنباري وذكر القاضي عياض في « الشفاء » أن الربيع بن أنس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى فأنزل الله تعالى « طه » يعني طأ الأرض يا محمد الزمخشري وعن الحسن « طه » وفسر بأنه أمر بالوطء وأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه فأمر أن يطأ الأرض بقدميه معا وأن الأصل طأ فقلبت همزته هاء كما قلبت [ ألفا ] في ( يطأ ) فيمن قال:

... لا هناك المرتع

ثم بنى عليه هذا الأمر والهاء للسكت وقال مجاهد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يربطون الحبال في صدورهم في الصلاة بالليل من طول القيام ثم نسخ ذلك بالفرض فنزلت هذه الآية وقال الكلبي: لما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بمكة اجتهد في العبادة واشتدت عبادته، فجعل يصلي الليل كله زمانا حتى نزلت هذه الآية فأمره الله تعالى أن يخفف عن نفسه فيصلي وينام، فنسخت هذه الآية قيام الليل فكان بعد هذه الآية يصلي وينام وقال مقاتل والضحاك فلما نزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم قام وأصحابه فصلوا فقال كفار قريش ما أنزل الله هذا القرآن على محمد إلا ليشقى فأنزل الله تعالى « طه » يقول: رجل « ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى » أي لتتعب؛ على ما يأتي وعلى هذا القول إن « طه » ( طاها ) أي طأ الأرض فتكون الهاء والألف ضمير الأرض أي طأ الأرض برجليك في صلواتك وخففت الهمزة فصارت ألفا ساكنة وقرأت طائفة « طه » وأصله طأ بمعنى طأ الأرض فحذفت الهمزة أدخلت هاء السكت وقال زر بن حبيش قرأ رجل على عبدالله بن مسعود « طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى » فقال له عبدالله « طه » فقال: يا أبا عبدالرحمن أليس قد أمر أن يطأ الأرض برجله أو بقدميه فقال « طه » كذلك أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأمال أبو عمرو وأبو إسحاق الهاء وفتحا الطاء وأمالهما جميعا أبو بكر وحمزة والكسائي والأعمش وقرأهما أبو جعفر وشيبة ونافع بين اللفظين واختاره أبو عبيد الباقون بالتفخيم قال الثعلبي وهي كلها لغات صحيحة النحاس لا وجه للإمالة عند أكثر أهل العربية لعلتين إحداهما أنه ليس ههنا ياء ولا كسرة فتكون الإمالة والعلة الأخرى أن الطاء من الحروف الموانع للإمالة فهاتان علتان بينتان.

 

قوله تعالى « ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى » وقرئ « ما نُزِّل عليك القرآن لتشقى » قال النحاس بعض النحويين يقول هذه لام النفي وبعضهم يقول لام الجحود وقال أبو جعفر وسمعت أبا الحسن بن كيسان يقول إنها لام الخفض والمعنى ما أنزلنا عليك القرآن للشقاء والشقاء يمد ويقصر وهو من ذوات الواو وأصل الشقاء في اللغة العناء والتعب أي ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب قال الشاعر:

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم

فمعنى لتشقى « لتتعب » بفرط تأسفك وعلى كفرهم وتحسرك على أن يؤمنوا كقوله تعالى « فلعلك باخع نفسك على آثارهم » [ الكهف: 6 ] أي ما عليك إلا أن تبلغ وتذكر ولم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة بعد أن لم تفرط في أداء الرسالة والموعظة الحسنة وروى أن أبا جهل لعنه الله تعالى والنضر بن الحرث قالا للنبي صلى الله عليه وسلم إنك شقي لأنك تركت دين آبائك فأريد رد ذلك بان دين الإسلام وهذا القرآن هو السلم إلى نيل كل فوز والسبب في درك كل سعادة وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها وعلى الأقوال المتقدمة أنه عليه الصلاة والسلام صلى الله عليه وسلم بالليل حتى تورمت قدماه فقال له جبريل أبق على نفسك فإن لها عليك حقا أي ما أنزلنا عليك القرآن لتنهك نفسك في العبادة وتذيقها المشقة الفادحة وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة

 

قوله تعالى: « إلا تذكرة لمن يخشى » قال أبو إسحاق الزجاج هو بدل من « تشقى » أي ما أنزلناه إلا تذكرة النحاس وهذا وجه بعيد وأنكره أبو علي من أجل أن التذكرة ليست بشقاء وإنما هو منصوب على المصدر أي أنزلنا لتذكر به تذكرة أو على المفعول من أجله أي ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى به ما أنزلناه إلا للتذكرة وقال الحسن بن الفضل فيه تقديم وتأخير مجازه ما أنزلنا عليك القرآن إلا تذكرة لمن يخشى ولئلا تشقى. « تنزيلا » مصدر أي نزلناه تنزيلا وقيل بدل من قوله « تذكرة » وقرأ أبو حيوة الشامي « تنزيل » بالرفع على معنى هذا تنزيل. « ممن خلق الأرض والسماوات العلا » أي العالية الرفيعة وهى جمع العليا كقول كبرى وصغرى وكبر وصغر أخبر عن عظمته وجبروته وجلاله.

 

الآيات: 5 - 8 ( الرحمن على العرش استوى، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى )

 

قوله تعالى: « الرحمن على العرش استوى » ويجوز النصب على المدح قال أبو إسحاق الخفض على البدل وقال سعيد بن مسعدة: الرفع بمعنى هو الرحمن النحاس: يجوز الرفع بالابتداء والخبر « له ما في السماوات وما في الأرض » فلا يوقف على « استوى » وعلى البدل من المضمر في « خلق » فجوز الوقف على « استوى » وكذلك إذا خبر ابتداء محذوف ولا يوقف على « العلا » وقد تقدم القول في معنى الاستواء في « الأعراف » والذي ذهب إليه الشيخ أبو الحسن وغيره أنه مستو على عرشه بغير حد ولا كيف كما كون استواء المخلوقين وقال ابن عباس: يريد خلق ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة وبعد القيامة.

 

قوله تعالى: « له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى » يريد ما تحت الصخرة التي لا يعلم ما تحتها إلا الله تعالى وقال محمد بن كعب يعني الأرض السابعة ابن عباس الأرض على نون والنون على البحر وأن طرفي النون رأسه وذنبه يلتقيان تحت العرش والبحر على صخرة خضراء خضرة السماء منها وهي التي قال الله تعالى فيها « فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض » [ لقمان: 16 ] ؛ والصخرة على قرن ثور والثور على الثرى وما تحت الثرى إلا الله تعالى وقال وهب بن منبه على وجه الأرض سبعة أبحر والأرضون سبع بين كل أرضين بحر فالبحر الأسفل مطبق على شفير جهنم ولولا عظمه وكثرة مائه وبرد لأحرقت جهنم كل من عليها قال وجهنم على متن الريح ومتن الريح على حجاب من الظلمة لا يعلم عظمه إلا الله تعالى وذلك الحجاب على الثرى وإلى الثرى انتهى علم الخلائق.

 

قوله تعالى: « وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى » قال ابن عباس السر ما حدث به الإنسان غيره في خفاء وأخفى منه ما أضمر في نفسه مما لم يحدث به غيره وعنه أيضا السر حديث نفسك وأخفى من السر ما ستحدث به نفسك مما لم يكن وهو كائن أنت تعلم ما تسر به نفسك اليوم ولا تعلم ما تسربه غدا والله يعلم ما أسررت اليوم وما تسره غدا والمعنى الله يعلم السر وأخفى من السر وقال ابن عباس أيضا « السر » ما أسر ابن آدم في نفسه « وأخفى » ما خفي على ابن آدم مما هو فاعله وهو لا يعلمه فالله تعالى يعلم ذلك كله وعلمه فيما مضى من ذلك وما علم واحد وجميع الخلائق في علمه كنفس واحدة وقال قتادة وغيره « السر » ما أضمره في نفسه « وأخفى » منه ما لم يكن ولا أضمره أحد وقال ابن زيد « السر » من الخلائق « وأخفى » منه سره عز وجل وأنكر ذلك الطبري وقال إن الذي « أخفى » ما ليس في سرا لإنسان في نفسه كما قال ابن عباس. « الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى » « الله » رفع بالابتداء أو على إضمار مبتدأ أو على البدل من الضمير في « يعلم » وحد نفسه سبحانه وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا المشركين إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له فكبر ذلك عليهم فلما سمعه أبو جهل يذكر الرحمن قال للوليد بن المغيرة محمد ينهانا أن ندعو مع الله إلها آخر وهو يدعو الله والرحمن فأنزل الله تعالى « قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى » وهو واحد وأسماؤه كثيرة ثم قال « الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى » وقد تقدم.

 

الآيتان: 9 - 10 ( وهل أتاك حديث موسى، إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى )

 

قوله تعالى: « وهل أتاك حديث موسى » قال أهل المعاني هو استفهام وإثبات وإيجاب معناه؛ أليس قد أتاك؟ وقيل: معناه وقد أتاك؛ قاله ابن عباس. وقال الكلبي: لم يكن أتاه حديثه بعد ثم أخبره. « إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى » قال ابن عباس وغيره: هذا حين قضي الأجل وسار بأهله وهو مقبل من مدين يريد مصر، وكان قد أخطأ الطريق، وكان موسى عليه السلام رجلا غيورا، يصحب الناس بالليل ويفارقهم بالنهار غيرة منه، لئلا يروا امرأته فأخطأ الرفقة - لما سبق في علم الله تعالى - وكانت ليلة مظلمة. وقال مقاتل: وكان ليلة الجمعة في الشتاء. وهب بن منبه: استأذن موسى شعيبا في الرجوع إلى والدته فأذن له فخرج بأهله بغنمه، وولد له في الطريق في ليلة شاتية باردة مثلجة، وقد حاد عن الطريق وتفرقت ماشيته، فقدح موسى النار فلم تور المقدحة شيئا، إذ بصر بنار من بعيد على يسار الطريق « فقال لأهله امكثوا » أي أقيموا بمكانكم « إني آنست نارا » أي أبصرت. قال ابن عباس فلما توجه نحو النار فإذا النار في شجرة عناب، فوقف متعجبا من حسن ذلك الضوء؛ وشدة خضرة تلك الشجرة، فلا شدة حر النار تغير حسن خضرة الشجرة، ولا كثرة ماء الشجرة ولا نعمة الخضرة تغيران حسن ضوء النار. وذكر المهدوي: فرأى النار - فيما روي - وهي في شجرة من العليق، فقصدها فتأخرت عنه، فرجع وأوجس في نفسه خيفة، ثم دنت منه وكلمه الله عز وجل من الشجرة. الماوردي: كانت عند موسى نارا، وكانت عند الله تعالى نورا. وقرأ حمزة « لأهله امكثوا » بضم الهاء، وكذا في « القصص » . قال النحاس هذا على لغة من قال: مررت به يا رجل؛ فجاء به على الأصل، وهو جائز إلا أن حمزة خالف أصله في هذين الموضعين خاصة. وقال: « امكثوا » ولم يقل أقيموا، لأن الإقامة تقتضي الدوام، والمكث ليس كذلك « وآنست » أبصرت، قاله ابن العربي. ومنه قوله « فإن آنستم منهم رشدا » [ النساء: 6 ] أي علمتم. وآنست الصوت سمعته، والقبس شعلة من نار، وكذلك المقياس. يقال قبست منه نارا أقبس قبسا فأقبسني أي أعطاني منه قبسا، وكذلك اقتبست منه نارا واقتبست منه علما أيضا أي استفدته، قال اليزيدي: أقبست الرجل علما وقبسته نارا؛ فإن كنت طلبتها له قلت أقبسته. وقال الكسائي: أقبسته نارا أو علما سواء. وقال: وقبسته أيضا فيهما. « هدى » أي هاديا.

 

الآيتان: 11 - 12 ( فلما أتاها نودي يا موسى، إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى )

 

قوله تعالى: « فلما أتاها » يعني النار « نودي يا موسى » أي من الشجرة كما في سورة « القصص » أي من جهتها وناحيتها على ما يأتي « يا موسى إني أنا ربك » .

 

قوله تعالى « فاخلع نعليك » روى الترمذي عن عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كان على موسى يوم كلمه ربه كساء صوف وجبة صوف وكمة صوف وسراويل صوف وكانت نعلاه من جلد حمار ميت ) قال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حميد الأعرج [ حميد - هو ابن علي الكوفي - ] منكر الحديث، وحميد بن قيس الأعرج المكي صاحب مجاهد ثقة؛ والكمة القلنسوة الصغيرة. وقرأ العامة « إني » بالكسر؛ أي نودي فقيل له يا موسى إني، واختاره أبو عبيد. وقرأ أبو عمرو وابن كثير وابن محيصن وحميد « أني » بفتح الألف بإعمال النداء. واختلف العلماء في السبب الذي من أجله أمر بخلع النعلين. والخلع النزع. والنعل ما جعلته وقاية لقدميك من الأرض. فقيل: أمر بطرح النعلين؛ لأنها نجسة إذ هي من جلد غير مذكى؛ قاله كعب وعكرمة وقتادة. وقيل: أم بذلك لينال بركة الوادي المقدس، وتمس قدماه تربة الوادي؛ قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن وابن جريج. وقيل أمر بخلع النعلين للخشوع والتواضع عند مناجاة الله تعالى. وكذلك فعل السلف حين طافوا بالبيت. وقيل: إعظاما لذلك الموضع كما أن الحرم لا يدخل بنعلين إعظاما له. قال سعيد بن جبير: قيل له طأ الأرض حافيا كما تدخل الكعبة حافيا. والعرف عند الملوك أن تخلع النعال ويبلغ الإنسان إلى غاية التواضع، فكأن موسى عليه السلام أمر بذلك على هذا الوجه، ولا تبالي كانت نعلاه من ميتة أو غيرها. وقد كان مالك لا يرى لنفسه ركوب دابة بالمدينة برا بتربتها المحتوية على الأعظم الشريفة، والجثة الكريمة. ومن هذا المعنى قول عليه الصلاة والسلام لبشير بن الخصاصية وهو يمشي بين القبور بنعليه: ( إذا كنت في مثل هذا المكان فاخلع نعليك ) قال: فخلعتهما. وقول خامسك إن ذلك عبارة عن تفريغ قلبه من أمر الأهل والولد. وقد يعبر عن الأهل بالنعل. وكذلك هو في التعبير: من رأى أنه لابس نعلين فإنه يتزوج. وقيل: لأن الله تعالى بسط له بساط النور والهدى، ولا ينبغي أن يطأ بساط رب العالمين بنعله. وقد يحتمل أن يكون موسى أمر بخلع نعليه، وكان ذلك أول فرض عليه؛ كما كان أول ما قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم ( قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ) [ المدثر: 2 - 3 - 4 - 5 ] والله أعلم بالمراد من ذلك.

 

في الخبر أن موسى عليه السلام خلع نعليه وألقاهما من وراء الوادي. وقال أبو الأحوص: زار عبدالله أبا موسى في داره، فأقيمت الصلاة فأقام أبو موسى؛ فقال أبو موسى لعبدالله: تقدم. فقال عبدالله: تقدم أنت دارك. فتقدم وخلع نعليه؛ فقال عبدالله: أبا الوادي المقدس أنت؟ ! وفي صحيح مسلم عن سعيد بن يزيد قال: قلت لأنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في نعلين؟ قال نعم. ورواه النسائي عن عبدالله بن السائب: أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فوضع نعليه عن يساره. وروى أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه، إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ما حملكم على إلقائكم نعالكم ) قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلمك ( إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا ) وقال: ( إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى فليمسحه وليصل فيهما ) . صححه أبو محمد عبدالحق. وهو بجمع بين الحديثين قبله، ويرفع بينهما التعارض. ولم يختلف العلماء في جواز الصلاة في النعل إذا كانت طاهرة من ذكي، حتى لقد قال بعض العلماء: إن الصلاة فيهما أفضل، وهو معنى قوله تعالى: « خذوا زينتكم عند كل مسجد » [ الأعراف: 31 ] على ما تقدم. وقال إبراهيم النخعي في الذين يخلعون نعالهم: لوددت أن محتاجا جاء فأخذها.

فإن خلعتهما فاخلعهما بين رجليك؛ فإن أبا هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا صلى أحدكم فليخلع نعليه بين رجليه ) قال أبو هريرة للمقبري: أخلعهما بين رجليك ولا تؤذيهما مسلما. وما رواه عبدالله بن السائب رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام خلعهما عن يساره فإنه كان إماما، فإن كنت إماما أو وحدك فافعل ذلك إن أحببت، وإن كنت مأموما في الصف فلا تؤذ بهما من على يسارك، ولا تضعهما بين قدميك فتشغلاك، ولكن قدام قدميك. وروي عن جبير بن مطعم أنه قال: وضع الرجل نعليه بين قدميه بدعة.

فإن تحقق فيهما نجاسة مجمع على تنجيسها كالدم والعذرة من بول بني آدم لم يطهرها إلا الغسل بالماء، عند مالك والشافعي وأكثر العلماء، وإن كانت النجاسة مختلفا فيها كبول الدواب وأرواثها الرطبة فهل يطهرها المسح بالتراب من النعل والخف أو لا؟ قولان عندنا. وأطلق الإجزاء بمسح ذلك بالتراب من غير تفصيل الأوزاعي وأبو ثور. وقال أبو حنيفة: يزيله إذا يبس الحك والفرك، ولا يزيل رطبه إلا الغسل ما عدا البول، فلا يجزئ فيه عنده إلا الغسل. وقال الشافعي: لا يطهر شيئا من ذلك إلا الماء. والصحيح قول من قال: إن المسح يطهره من الخف والنعل؛ لحديث أبي سعيد. فأما لو كانت النعل والخف من جلد ميتة فان كان غير مدبوغ فهو نجس باتفاق، ما عدا ما ذهب إليه الزهري والليث، على ما تقدم بيانه في سورة « النحل » ومضى في سورة « براءة » القول في إزالة النجاسة والحمد لله.

 

قوله تعالى: « إنك بالوادي المقدس طوى » المقدس: المطهر. والقدس: الطهارة، والأرض المقدسة أي المطهرة؛ سميت بذلك لأن الله تعالى أخرج منها الكافرين وعمرها بالمؤمنين. وقد جعل الله تعالى لبعض الأماكن زيادة فضل على بعض؛ كما قد جعل لبعض الأزمان زيادة فضل على بعض، ولبعض الحيوان كذلك. ولله أن يفضل ما شاء. وعلى هذا فلا اعتبار بكونه مقدسا بإخراج الكافرين وإسكان المؤمنين؛ فقد شاركه في ذلك غيره. و ( طوي ) اسم الوادي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وقال الضحاك هو واد عميق مستدير مثل الطوي. وقرأ عكرمة « طوى » . الباقون « طوى » . قال الجوهري: « طوى » اسم موضع بالشام، تكسر طاؤه وتضم، ويصرف ولا يصرف، فمن صرفه جعله اسم واد ومكان وجعله نكرة، ومن لم يصرفه جعله بلدة وبقعة وجعله معرفة. وقال بعضهم: « طوى » مثل « طوى » وهو الشيء المثني، وقالوا في قوله « المقدس طوى » : طوي مرتين أي قدس. وقال الحسن: ثنيت فيه البركة والتقديس مرتين. وذكر المهدوي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قيل له « طوى » لأن موسى طواه بالليل إذ مر به فارتفع إلى أعلى الوادي؛ فهو مصدر عمل فيه ما ليس من لفظه، فكأنه قال: ( إنك بالواد المقدس ) الذي طويته طوى؛ أي تجاوزته فطويته بسيرك. الحسن: معناه أنه قدس مرتين؛ فهو مصدر من طويته طوى أيضا.

 

الآيتان: 13 - 14 ( وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى، إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري )

 

قوله تعالى: « وأنا اخترتك » أي اصطفيتك للرسالة. وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو وعاصم والكسائي « وأنا اخترتك » . وقرأ حمزة « وأنَّا اخترناك » . والمعنى واحد إلا أن « وأنا اخترتك » ها هنا أولى من جهتين: إحداهما أنها أشبه بالخط، والثانية أنها أولى بنسق الكلام؛ لقوله عز وجل: « يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك » وعلى هذا النسق جرت المخاطبة؛ قاله النحاس.

 

قوله تعالى: « فاستمع لما يوحى » فيه مسألة واحدة: قال ابن عطية: وحدثني أبي - رحمه الله - قال سمعت أبا الفضل الجوهري رحمه الله تعالى يقول: لما قيل لموسى صلوات الله وسلامه عليه: « استمع لما يوحى » وقف على حجر، واستند إلى حجر، ووضع يمينه على شمال، وألقى ذقنه على صدره، ووقف يستمع، وكان كل لباسه صوفا.

قلت: حسن الاستماع كما يجب قد مدح الله عليه فقال: « الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله » [ الزمر: 18 ] وذم على خلاف هذا الوصف فقال: « نحن أعلم بما يستمعون به » الآية. فمدح المنصت لاستماع كلامه مع حضور العقل، وأمر عباده بذلك أدبا لهم، فقال: « وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون » [ الأعراف: 204 ] وقال ها هنا: « فاستمع لما يوحى » لأن بذلك ينال الفهم عن الله تعالى. روي عن وهب بن منبه أنه قال: من أدب الاستماع سكون الجوارح وغض البصر، والإصغاء بالسمع، وحضور العقل، والعزم على العمل، وذلك هو الاستماع كما يحب الله تعالى؛ وهو أن يكف العبد جوارحه، ولا يشغلها. فيشتغل قلبه عما يسمع، ويغض طرفه فلا يلهو قلبه بما يرى، ويحصر عقله فلا يحدث نفسه بشيء سوى ما يستمع

اختلف في تأويل قوله: « لذكري » فقيل: يحتمل أن يريد لتذكرني فيها، أو يريد لأذكرك بالمدح في عليين بها، فالمصدر على هذا يحتمل الإضافة إلى الفاعل وإلى المفعول. وقيل: المعنى؛ أي حافظ بعد التوحيد على الصلاة. وهذا تنبيه على عظم قدر الصلاة إذ هي تضرع إلى الله تعالى، وقيام بين يديه؛ وعلى هذا فالصلاة هي الذكر. وقد سمي الله تعالى الصلاة ذكرا في قوله: « فاسعوا إلى ذكر الله » [ الجمعة: 9 ] . وقيل: المراد إذا نسيت فتذكرت فصل كما في الخبر ( فليصلها إذا ذكرها ) . أي لا تسقط الصلاة بالنسيان.

 

روى مالك وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن الله عز وجل يقول ( أقم الصلاة لذكري ) ) . وروى أبو محمد عبدالغني بن سعيد من حديث حجاج بن حجاج - وهو حجاج الأول الذي روى عنه يزيد بن زريع - قال حدثنا قتادة عن أنس بن مالك قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يرقد عن الصلاة ويغفل عنها قال: ( كفارتها أن يصليها إذا ذكرها ) تابعه إبراهيم بن طهمان عن حجاج، وكذا يروي همام بن يحيى عن قتادة وروى الدارقطني عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من نسي صلاة فوقتها إذا ذكرها ) فقوله: ( فليصلها إذا ذكرها ) دليل على وجوب القضاء على النائم والغافل، كثرت الصلاة أو قلت، وهو مذهب عامة العلماء وقد حكى خلاف شاذ لا يعتد به، لأنه مخالف لنص الحديث عن بعض الناس فيما زاد على خمس صلوات أنه لا يلزمه قضاء.

قلت: أمر الله تعالى بإقامة الصلاة، ونص على أوقات معينة، فقال « أقم الصلاة لدلوك الشمس » الآية وغيرها من الآي. أقام بالليل ما أمر بإقامته بالنهار، أو بالعكس لم يكن فعله مطابقا لما أمر به، ولا ثواب له على فعله وهو عاص؛ وعلى هذا الحد كان لا يجب عليه قضاء ما فات وقته. ولولا قول عليه الصلاة والسلام: ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ) لم ينتفع أحد بصلاة وقعت في غير وقتها، وبهذا الاعتبار كان قضاء لا أداء؛ لأن القضاء بأمر متجدد وليس بالأمر الأول.

 

فأما من ترك الصلاة متعمدا، فالجمهور أيضا على وجوب القضاء عليه، وإن كان عاصيا إلا داود. ووافقه أبو عبدالرحمن الأشعري الشافعي، حكاه عنه ابن القصار. والفرق بين المتعمد والناسي والنائم، حط المأثم؛ فالمتعمد مأثوم وجميعهم قاضون. والحجة للجمهور قوله تعالى: « أقيموا الصلاة » [ الأنعام: 72 ] ولم يفرق بين أن يكون في وقتها أو بعدها. وهو أمر يقتضي الوجوب. وأيضا قوله فقد ثبت الأمر بقضاء النائم والناسي، مع أنهما غير مأثومين، فالعامد أولى. وأيضا قوله: ( من نام عن صلاة أو نسيها ) والنسيان الترك؛ قال الله تعالى: « نسوا الله فنسيهم » [ التوبة: 67 ] و « نسوا الله فأنساهم أنفسهم » [ الحشر: 19 ] سواء كان مع ذهول أو لم يكن؛ لأن الله تعالى لا ينسى وإنما معناه تركهم و « ما ننسخ من آية أو ننسها » [ البقرة: 106 ] أي نتركها وكذلك الذكر يكون بعد نسيان وبعد غيره. قال الله تعالى: « من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي » وهو تعالى لا ينسى وإنما معناه علمت. فكذلك يكون معنى قوله: ( إذا ذكرها ) أي علمها وأيضا فإن الديون التي للآدمين إذا كانت متعلقة بوقت، ثم جاء الوقت لم يسقط قضاؤها بعد وجوبها، وهي مما يسقطها الإبراء كان في ديون الله تعالى ألا يصح فيها الإبراء أولى ألا يسقط قضاؤها إلا بإذن منه. وأيضا فقد اتفقنا أنه لو ترك يوما من رمضان متعمدا بغير عذر لوجب قضاؤه فكذلك الصلاة. فان قيل فقد روي عن مالك: من ترك الصلاة متعمدا لا يقضي أبدا. فالإشارة إلى أن ما مضى لا يعود، أو يكون كلاما خرج على التغليظ؛ كما روي عن ابن مسعود وعلي: أن من أفطر في رمضان عامدا لم يكفره صيام الدهر وإن صامه. ومع هذا فلا بد من توفية التكليف حقه بإقامة القضاء مقام الأداء، أو إتباعه بالتوبة، ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء. وقد روى أبو المطوس عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من أفطر يوما من رمضان متعمدا لم يجزه صيام الدهر وإن صامه ) وهذا يحتمل أن لو صح كان معناه التغليظ؛ وهو حديث ضعيف خرجه أبو داود. وقد جاءت الكفارة بأحاديث صحاح، وفي بعضها قضاء اليوم؛ والحمد لله تعالى.

 

قوله عليه الصلاة والسلام ( من نام عن صلاة أو نسيها ) الحديث يخصص عموم قوله عليه الصلاة والسلام: ( رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ ) والمراد بالرفع هنا رفع المأثم لا رفع الفرض عنه، وليس هذا من باب قوله: ( وعن الصبي حتى يحتلم ) وإن كان ذلك جاء في أثر واحد؛ فقف على هذا الأصل.

اختلف العلماء في هذا المعنى فيمن ذكر صلاة فائتة وهو في آخر وقت صلاة، أو ذكر صلاة وهو في صلاة، فجملة مذهب مالك: أن من ذكر صلاة وقد حضر وقت صلاة أخرى، بدأ بالتي نسي إذا كان خمس صلوات فأدنى، وإن فات وقت هذه. وإن كان أكثر من ذلك بدأ بالتي حضر وقتها، وعلى نحو هذا مذهب أبي حنيفة والثوري والليث؛ إلا أن أبا حنيفة وأصحابه قالوا: الترتيب عندنا واجب في اليوم والليلة إذا كان الوقت سعة للفائتة ولصلاة الوقت. فإن خشي فوات الوقت بدأ بها، فإن زاد على صلاة يوم وليلة لم يجب الترتيب عندهم. وقد روي عن الثوري وجوب الترتيب، ولم يفرق بين القليل والكثير. وهو تحصيل مذهب الشافعي. قال الشافعي: الاختيار أن يبدأ بالفائتة ما لم يخف فوات هذه، فإن لم يفعل وبدأ بصلاة الوقت أجزأه. وذكر الأثرم أن الترتيب عند أحمد واجب في صلاة ستين سنة فأكثر. وقال: لا ينبغي لأحد أن يصلي صلاة وهو ذاكر لما قبلها لأنها تفسد عليه. وروى الدارقطني عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال قال عليه الصلاة والسلام: ( إذا ذكر أحدكم صلاة في صلاة مكتوبة فليبدأ بالتي هو فيها فإذا فرغ منها صلى التي نسي ) وعمر بن أبي عمر مجهول.

قلت وهذا لو صح كانت حجة للشافعي في البداءة بصلاة الوقت. والصحيح ما رواه أهل الصحيح عن جابر بن عبدالله أن عمر يوم الخندق جعل يسب كفار قريش، وقال: يا رسول الله والله ما كدت أن أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فوالله إن صليتها ) فنزلنا البطحان فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتوضأنا فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر بعد ما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب. وهذا نص في البداءة بالفائتة قبل الحاضرة، ولا سيما والمغرب وقتها واحد مضيق غير ممتد في الأشهر عندنا، وعند الشافعي كما تقدم. وروى الترمذي عن أبي عبيدة بن عبدالله بن مسعود أبيه: أن المشركين شغلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق، حتى ذهب من الليل ما شاء الله تعالى، فأمر بالأذان بلالا فقام فأذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء، وبهذا استدل العلماء على أن من فاتته صلاة، قضاها مرتبة كما فاتته إذا ذكرها في وقت واحد. واختلفوا إذا ذكر فائتة في مضيق وقت حاضرة على ثلاثة أقوال يبدأ بالفائتة وإن خرج وقت الحاضرة، وبه قال مالك والليث والزهري وغيرهم كما قدمناه. الثاني: يبدأ بالحاضرة وبه قال الحسن والشافعي وفقهاء أصحاب الحديث والمحاسبي وابن وهب من أصحابنا. الثالث: يتخير فيقدم أيتهما شاء، وبه قال أشهب.

وجه الأول: كثرة الصلوات ولا خلاف أنه يبدأ بالحاضرة مع الكثرة؛ قاله القاضي عياض. واختلفوا في مقدار اليسير؛ فعن مالك: الخمس فدون، وقد قيل: الأربع فدون لحديث جابر؛ ولم يختلف المذهب أن الست كثير.

 

وأما من ذكر صلاة وهو في صلاة؛ فإن كان وراء الإمام فكل من قال بوجوب الترتيب ومن لم يقل به، يتمادى مع الإمام حتى يكمل صلاته. والأصل في هذا ما رواه مالك والدارقطني عن ابن عمر قال: ( إذا نسي أحدكم صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام فليصل مع الإمام فإذا فرغ من صلاته فليصل الصلاة التي نسي ثم ليعد صلاته التي صلى مع الإمام ) لفظ الدارقطني؛ وقال موسى بن هارون: وحدثناه أبو إبراهيم الترجماني، قال: حدثنا سعيد [ به ] ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ووهم في رفعه، فإن كان قد رجع عن رفعه فقد وفق للصواب. ثم اختلفوا؛ فقال أبو حنيفة وأحمد بن حنبل: يصلي التي ذكر، ثم يصلي التي صلى مع الإمام إلا أن يكون بينهما أكثر من خمس صلوات؛ على ما قدمنا ذكره عن الكوفيين. وهو مذهب جماعة من أصحاب مالك المدنيين. وذكر الخرقي عن أحمد بن حنبل أنه قال: من ذكر صلاة وهو في أخرى فإنه يتمها ويقضي المذكورة، وأعاد التي كان فيها إذا كان الوقت واسعا فإن خشي خروج الوقت وهو فيها أعتقد ألا يعيدها، وقد أجزأته ويقضي التي عليه. وقال مالك: من ذكر صلاة وهو في صلاة قد صلى منها ركعتين سلم من ركعتيه، فإن كان إماما انهدمت عليه وعلى من خلفه وبطلت. هذا هو الظاهر من مذهب مالك، وليس عند أهل النظر من أصحابه كذلك؛ لأن قوله فيمن ذكر صلاة في صلاة قد صلى منها ركعة أنه يضيف إليها أخرى ويسلم. ولو ذكرها في صلاة قد صلى منها ثلاث ركعات أضاف إليها رابعة وسلم، وصارت نافلة غير فاسدة ولو انهدمت عليه كما ذكر وبطلت لم يؤمر أن يضيف إليها أخرى، كما لو أحدث بعد ركعة لم يضف إليها أخرى.

 

روى مسلم عن أبي قتادة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر حديث الميضأة بطوله، وقال فيه ثم قال: ( أمالكم في أسوة ) ثم قال: ( أما إنه ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها ) وأخرجه الدارقطني هكذا بلفظ مسلم سواء، فظاهره يقتضي إعادة المقضية مرتين عند ذكرها وحضور مثلها من الوقت الآتي؛ ويعضد هذا الظاهر ما خرجه أبو داود من حديث عمران بن حصين، وذكر القصة وقال في آخرها: ( فمن أدرك منكم صلاة الغداة من غد صالحا فليقض معها مثلها ) .

قلت وهذا ليس على ظاهره، ولا تعاد غير مرة واحدة؛ لما رواه الدارقطني عن عمران بن حصين فال: سرينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة - أو قال في سرية فلما كان وقت السحر عرسنا، فما استيقظنا حتى أيقظنا حر الشمس، فجعل الرجل منا يثب فزعا دهشا، فلما استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا فارتحلنا، ثم سرنا حتى ارتفعت الشمس، فقضى القوم حوائجهم، ثم أمر بلالا فأذن فصلينا ركعتين، ثم أمره فأقام فصلينا الغداة؛ فقلنا: يا نبي الله ألا نقضيها لوقتها من الغد؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أينهاكم الله عن الربا ويقبله منكم ) . وقال الخطابي: لا أعلم أحدا قال بهذا وجوبا، ويشبه أن يكون الأمر به استحبابا ليحرز فضيلة الوقت في القضاء. والصحيح ترك العمل لقول عليه السلام: ( أينهاكم الله عن الربا ويقبله منكم ) ولأن الطرق الصحاح من حديث عمران بن حصين ليس فيها من تلك الزيادة شيء، إلا ما ذكر من حديث أبي قتادة وهو محتمل كما بيناه.

قلت: ذكر الكيا الطبري في « أحكام القرآن » له أن من السلف من خالف قوله عليه الصلاة والسلام: ( من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك ) فقال: يصبر إلى مثل وقته فليصل؛ فإذا فات الصبح فليصل من الغد. وهذا قول بعيد شاذ.

 

الآيتان: 15 - 16 ( إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى، فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى )

 

قوله تعالى: « إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى » آية مشكلة؛ فروي عن سعيد بن جبير أنه قرأ « أكاد أخفيها » بفتح الهمزة؛ قال: أظهرها. « لتجزى » أي الإظهار للجزاء؛ رواه أبو عبيد عن الكسائي عن محمد بن سهل عن وقاء بن إياس عن سعيد بن جبير وقال النحاس: وليس لهذه الرواية طريق غير هذا. قلت: وكذا رواه أبو بكر الأنباري في كتاب الرد؛ حدثني أبي حدثنا محمد بن الجهم حدثنا الفراء حدثنا الكسائي؛ ح - وحدثنا عبدالله بن ناجية، حدثنا يوسف حدثنا يحيى الحماني حدثنا محمد بن سهل. قال النحاس؛ وأجود من هذا الإسناد ما رواه يحيى القطان عن الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير: أنه قرأ « أكاد أخفيها » بضم الهمزة.

قلت: وأما قراءة ابن جبير « أخفيها » بفتح الهمزة بالإسناد المذكور فقال أبو بكر الأنباري قال الفراء معناه أظهرها من خفيت الشيء أخفيه إذا أظهرته. وأنشد الفراء لامرئ القيس:

فإن تدفنوا الداء لا نخفه وإن تبعثوا الحرب لا نقعد

أراد لا نظهره؟ وقد قال بعض اللغويين: يجوز أن يكون « أخفيها » بضم الهمزة معناه أظهرها لأنه يقال: خفيت الشيء وأخفيته إذا أظهرته؛ فأخفيته من حروف الأضداد يقع على الستر والإظهار. وقال أبو عبيدة: خفيت وأخفيت بمعنى واحد النحاس: وهذا حسن؛ وقد حكاه عن أبي الخطاب وهو رئيس من رؤساء اللغة لا يشك في صدقه؛ وقد روى عنه سيبويه وأنشد:

وإن تكتموا الداء لا نخفه وإن تبعثوا الحرب لا نقعد

كذا رواه أبو عبيدة عن أبي الخطاب بضم النون. وقال امرؤ القيس أيضا:

خفاهن من أنفاقهن كأنما خفاهن ودق من عشي مجلب

أي أظهرهن. وروى: « من سحاب مركب » بدل « من عشي مجلب » . وقال أبو بكر الأنباري وتفسير للآية آخر: « إن الساعة آتية أكاد » انقطع الكلام على « أكاد » وبعده مضمر أكاد آتي بها، والابتداء « أخفيها لتجزى كل نفس » قال ضابئ البرجمي:

هممت ولم أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكي حلائله

أراد وكدت أفعل، فأضمر مع كدت فعلا كالفعل المضمر معه في القرآن.

قلت: هذا الذي أختاره النحاس؛ وزيف القول الذي قبله فقال يقال: خفي الشيء يخفيه إذا أظهره، وقد حكى أنه يقال: أخفاه أيضا إذا أظهره، وليس بالمعروف؛ قال: وقد رأيت علي ابن سليمان لما أشكل عليه معنى « أخفيها » عدل إلى هذا القول، وقال معناه كمعنى « أخفيها » . قال النحاس: ليس المعنى على أظهر ولا سيما و « أخفيها » قراءة شاذة، فكيف ترد القراءة الصحيحة الشائعة إلى الشاذة، والمضمر أولى؛ ويكون التقدير: إن الساعة آتية أكاد آتي بها؛ ودل « آتية » على أتي بها؛ ثم قال: « أخفيها » على الابتداء. وهذا معنى صحيح؛ لأن الله عز وجل قد أخفى الساعة التي هي القيامة، والساعة التي يموت فيها الإنسان ليكون الإنسان يعمل، والأمر عنده مبهم فلا يؤخر التوبة.

قلت: وعلى هذا القول تكون اللام في « لتجزى » متعلقة بـ « أخفيها » . وقال أبو عليك هذا من باب السلب وليس من باب الأضداد، ومعنى « أخفيها » أزيل عنها خفاءها، وهو سترها كخفاء الأخفية [ وهي الأكسية ] والواحد خفاء بكسر الخاء [ ما تلف به ] القربة، وإذا زال عنها سترها ظهرت. ومن هذا قولهم: أشكيته، أي أزلت شكواه، وأعديته أي قبلت استعداء ولم أحوجه إلى إعادته. وحكى أبو حاتم عن الأخفش: أن « كاد » زائدة موكدة. قال: ومثله « إذا أخرج يده لم يكد يراها » [ النور: 40 ] لأن الظلمات التي ذكرها الله تعالى بعضها يحول بين الناظر والمنظور إليه. وروى معناه عن ابن جبير، والتقدير: إن الساعة آتية أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى. وقال الشاعر:

سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه فما إن يكاد قرنه يتنفس

أراد فما يتنفس. وقال آخر:

وألا ألوم النفس فيما أصابني وألا أكاد بالذي نلت أنجح

معناه: وألا أنجح بالذي نلت؛ فأكاد توكيد للكلام. وقيل: المعنى « أكاد أخفيها » أي أقارب ذلك؛ لأنك إذا قلت كاد زيد يقوم، جاز أن يكون قام، وأن يكون لم يقم. ودل على أنه قد أخفاها بدلالة غير هذه على هذا الجواب. قال اللغويون: كدت أفعل معناه عند العرب: قاربت الفعل ولم أفعل، وما كدت أفعل معناه: فعلت بعد إبطاء. وشاهده قول الله عزت عظمته « فذبحوها وما كادوا يفعلون » [ البقرة: 71 ] معناه: وفعلوا بعد إبطاء لتعذر وجدان البقرة عليهم. وقد يكون ما كدت أفعل بمعنى ما فعلت ولا قاربت إذا أكد الكلام بـ « أكاد » . وقيل: معنى « أكاد أخفيها » أريد أخفيها. قال الأنباري: وشاهد هذا قول الفصيح من الشعر:

كادت وكدت وتلك خير إرادة لو عاد من لهو الصبابة ما مضى

معناه: أرادت وأردت. وقال ابن عباس وأكثر المفسرين فيما ذكر الثعلبي إن المعنى أكاد أخفيها من نفسي؛ وكذلك هو في مصحف أبي. وفي مصحف ابن مسعود: أكاد أخفيها من نفسي فكيف يعلمها مخلوق. وفي بعض القراءات: فكيف أظهرها لكم. وهو محمول على أنه جاء على ما جرت به عادة العرب في كلامها، من أن أحدهم إذا بالغ في كتمان الشيء قال: كدت أخفيه من نفسي. والله تعالى لا يخفي عليه شيء؛ قال معناه قطرب وغيره. وقال الشاعر:

أيام تصحبني هند وأخبرها ما أكتم النفس من حاجي وأسراري

فكيف يخبرها بما تكتم نفسه. ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: ( ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ) الزمخشري وقيل معناه: أكاد أخفيها من نفسي، ولا دليل في الكلام على هذا المحذوف؛ ومحذوف لا دليل عليه مطرح، والذي غرهم منه أن في مصحف أبي: أكاد أخفيها من نفسي؛ وفي بعض المصاحف أكاد أخفيها من نفسي فكيف أظهركم عليها.

قلت: وقيل إن معنى قول من قال أكاد أخفيها من نفسي؛ أي إن إخفاءها كان من قبلي ومن عندي لا من قبل غيري. وروي عن ابن عباس أيضا: أكاد أخفيها من نفسي؛ ورواه طلحة بن عمر وعن عطاء. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لا أظهر عليها أحدا. وروى عن سعيد بن جبير قال: قد أخفاها. وهذا على أن كاد زائدة. أي إن الساعة آتية أخفيها، والفائدة في إخفائها التخويف والتهويل. وقيل: تعلق « لتجزى » بقوله تعالى: ( وأقم الصلاة ) فيكون في الكلام تقديم وتأخير؛ أي أقم الصلاة لتذكرني ( لتجزي كل نقس بما تسعى ) أي بسعيها ( إن الساعة آتية أكاد أخفيها ) . والله أعلم. وقيل: هي متعلقة بقوله: ( آتية ) أي إن الساعة آتية لتجزي. « فلا يصدنك عنها » أي لا يصرفنك عن الإيمان بها والتصديق لها « من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى » أي فتهلك. وهو في موضع نصب بجواب النهي.

 

الآيتان: 17 - 18 ( وما تلك بيمينك يا موسى، قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى )

 

قوله تعالى: « وما تلك بيمينك » قيل: كان هذا الخطاب من الله تعالى لموسى وحيا؛ لأنه قال: ( فاستمع لما يوحى ) ولابد للنبي في نفسه من معجزة يعلم بها صحة نبوة نفسه، فأراه في العصا وفي نفسه ما أراه لذلك. ويجوز أن يكون ما أراه في الشجرة آية كافية له في نفسه، ثم تكون اليد والعصا زيادة توكيد، وبرهانا يلقى به قومه. واختلف في « ما » في قوله ( وما تلك ) فقال الزجاج والفراء: هي اسم ناقص وصلت بـ « ـيمينك » أي ما التي بيمينك؟ وقال أيضا: « تلك » بمعنى هذه؛ ولو قال: ما ذلك لجاز؛ أي ما ذلك الشيء: ومقصود السؤال تقرير الأمر حتى يقول موسى: هي عصاي؛ ليثبت الحجة عليه بعد ما اعترف، وإلا فقد علم الله ما هي في الأزل. وقال ابن الجوهري وفي بعض الآثار أن الله تعالى عتب على موسى إضافة العصا إلى نفسه في ذلك الموطن، فقيل له: ألقها لترى منها العجب فتعلم أنه لا ملك عليها ولا تنضاف إليك. وقرأ ابن أبي إسحاق « عصي » على لغة هذيل؛ ومثله « يا بشرى » و « محيي » وقد تقدم. وقرأ الحسن « عصاي » بكسر الياء لالتقاء الساكنين. ومثل هذا قراءة حمزة « وما أنتم بمصرخي » [ إبراهيم: 22 ] . وعن ابن أبي إسحاق سكون الياء.

 

في هذه الآية دليل على جواب السؤال بأكثر مما سئل؛ لأنه لما قال « وما تلك بيمينك يا موسى » ذكر معاني أربعة وهي إضافة العصا إليه، وكان حقه أن يقول عصا؛ والتوكؤ؛ والهش، والمآرب المطلقة. فذكر موسى من منافع عصاه عظمها وجمهورها وأجمل سائر ذلك. وفي الحديث سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر فقال ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته ) . وسألته امرأة عن الصغير حين رفعته إليه فقالت: ألهذا حج؟ قال ( نعم ولك أجر ) . ومثله في الحديث كثير.

 

قوله تعالى: « أتوكأ عليها » أي أتحامل عليها في المشي والوقوف؛ ومنه الاتكاء « وأهش بها » « وأهش » أيضا؛ ذكره النحاس. وهي قراءة النخعي، أي أخبط بها الورق، أي أضرب أغصان الشجر ليسقط ورقها، فيسهل على غنمي تناوله فتأكله. قال الراجز:

أهش بالعصا على أغنامي من ناعم الأراك والبشام

يقال: هش على غنمه يهش الهاء في المستقبل. وهش إلى الرجل يهش بالفتح وكذلك هش للمعروف يهش وهششت أنا: وفي حديث عمر: هششت يوما فقبلت وأنا صائم. قال شمر: أي فرحت واشتهيت. قال: ويجوز هاش بمعنى هش. قال الراعي

فكبر للرؤيا وهاش فؤاده وبشر نفسا كان قبل يلومها

أي طرب. والأصل في الكلمة الرخاوة. يقال رجل هش وزوج هش. وقرأ عكرمة « وأهس » بالسين غير معجمة؛ قيل: هما لغتان بمعنى واحد. وقيل: معناهما مختلف؛ فالهش بالإعجام خبط الشجر؛ والهس بغير إعجام زجر الغنم؛ ذكره الماوردي؛ وكذلك ذكر الزمخشري. وعن عكرمة: « وأهس » بالسين أي أنحي عليها زاجرا لها والهس زجر الغنم.

 

قوله تعالى: « ولي فيها مآرب أخرى » أي حوائج. واحدها مأربة ومأربة ومأربة. وقال: « أخرى » على صيغة الواحد؛ لأن مآرب في معنى الجماعة، لكن المهيع في توابع جمع ما لا يعقل الإفراد والكناية عنه بذلك؛ فإن ذلك يجري مجرى الواحدة المؤنثة؛ كقوله تعالى « ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها » [ الأعراف: 180 ] وكقولك « يا جبال أوبي معه » [ سبأ: 10 ] وقد تقدم هذا في « الأعراف » .

 

تعرض قوم لتعديد منافع العصا منهم ابن عباس، قال: إذا انتهيت إلى رأس بئر فقصر الرشا وصلته بالعصا، وإذا أصابني حر الشمس غرزتها في الأرض وألقيت عليها ما يظلني، وإذا خفت شيئا من هوام الأرض قتلته بها، وإذا مشيت ألقيتها على عاتقي وعلقت عليها القوس والكنانة والمخلاة، وأقاتل بها السباع عن الغنم.

وروى عنه ميمون بن مهران قال: إمساك العصا سنة للأنبياء، وعلامة للمؤمن. وقال الحسن البصري: فيها ست خصال؛ سنة للأنبياء، وزينة الصلحاء، وسلاح على الأعداء، وعون للضعفاء، وغم المنافقين، وزيادة في الطاعات. ويقال: إذا كان مع المؤمن العصا يهرب منه الشيطان، ويخشع منه المنافق والفاجر، وتكون قبلته إذا صلى، وقوة إذا أعيا. ولقي الحجاج أعرابيا فقال: من أين أقبلت يا أعرابي؟ قال: من البادية. قال: وما في يدك؟ قال: عصاي أركزها لصلاتي، وأعدها لعداتي، وأسوق بها دابتي، وأقوى بها على سفري، وأعتمد بها في مشيتي لتتسع خطوتي، وأثب بها النهر، وتؤمنني من العثر، وألقي عليها كسائي فيقيني الحر، ويدفئني من القر، وتدني إلي ما بعد مني، وهي محمل سفرتي، وعلاقة إداوتي، أعصي بها عند الضراب، وأقرع بها الأبواب، وأتقي بها عقور الكلاب؛ وتنوب عن الرمح في الطعان؛ وعن السيف عند منازلة الأقران؛ ورثتها عن أبي، وأورثها بعدي ابني، وأهش بها على غنمي، ولي فيها مآرب أخرى، كثيرة لا تحصى.

قلت: منافع العصا كثيرة، ولها مدخل في مواضع من الشريعة: منها أنها تتخذ قبلة في الصحراء؛ وقد كان للنبي عليه الصلاة والسلام عنزة تركز له فيصلي إليها، وكان إذا خرج يوم العيد أم بالحربة فتوضع بين يديه فيصلي إليها؛ وذلك ثابت في الصحيح. والحربة والعنزة والنيزك والآلة اسم لمسمى واحد. وكان له محجن وهو عصا معوجة الطرف يشير به إلى الحجر إذا لم يستطع أن يقبله؛ ثابت في الصحيح أيضا. وفي الموطأ عن السائب بن يزيد أنه قال: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، وكان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في بزوغ الفجر. وفي الصحيحين: أنه عليه الصلاة والسلام كان له مخصرة. والإجماع منعقد على أن الخطيب يخطب متوكئا على سيف أو عصا، فالعصا مأخوذة من أصل كريم، ومعدن شريف، ولا ينكرها إلا جاهل. وقد جمع الله لموسى في عصاه من البراهين العظام، والآيات الجسام، ما آمن به السحرة المعاندون. واتخذها سليمان لخطبته وموعظته وطول صلاته. وكان ابن مسعود صاحب عصا النبي صلى الله عليه وسلم وعنزته؛ وكان يخطب بالقضيب - وكفى بذلك فضلا على شرف حال العصا - وعلى ذلك الخلفاء وكبراء الخطاء، وعادة العرب العرباء، الفصحاء اللسن البلغاء أخذ المخصرة والعصا والاعتماد عليها عند الكلام، وفي المحافل والخطب. وأنكرت الشعوبية على خطباء العرب أخذ المخصرة والإشارة بها إلى المعاني. والشعوبية تبغض العرب وتفضل العجم. قال مالك: كان عطاء بن السائب يمسك المخصرة يستعين بها. قال مالك: والرجل إذا كبر لم يكن مثل الشباب يقوى بها عند قيامه.

قلت: وفي مشيته كما قال بعضهم:

قد كنت أمشي على رجلين معتمدا فصرت أمشي على أخرى من الخشب

قال مالك رحمه الله ورضي عنه: وقد كان الناس إذا جاءهم المطر خرجوا بالعصي يتوكؤون عليها، حتى لقد كان الشباب يحبسون عصيهم، وربما أخذ ربيعة العصا من بعض من يجلس إليه حتى يقوم. ومن منافع العصا ضرب الرجل نساءه بها فيما يصلحهم، ويصلح حاله وحالهم معه. ومنه قوله عليه السلام ( وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه ) في إحدى الروايات. وقد روي عنه عليه السلام أنه قال لرجل أوصاه: ( لا ترفع عصاك عن أهلك أخفهم في الله ) رواه عبادة بن الصامت؛ خرجه النسائي. ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: ( علق سوطك حيث يراه أهلك ) وقد تقدم هذا في « النساء » . ومن فوائدها التنبيه على الانتقال من هذه الدار؛ كما قيل لبعض الزهاد: مالك تمشي على عصا ولست بكبير ولا مريض؟ قال إني أعلم أني مسافر، وأنها دار قلعة، وأن العصا من آلة السفر؛ فأخذه بعض الشعراء فقال:

حملت العصا لا الضعف أوجب حملها علي ولا أني تحنيت من كبر

ولكنني ألزمت نفسي حملها لأعلمها أن المقيم على سفر

 

الآيات: 19 - 23 ( قال ألقها يا موسى، فألقاها فإذا هي حية تسعى، قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى، واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى، لنريك من آياتنا الكبرى )

 

قوله تعالى: « قال ألقها يا موسى » لما أراد الله تعالى أن يدربه في تلقي النبوة وتكاليفها أمره بإلقاء العصا « فألقاها » موسى فقلب الله أوصافها وأعراضها. وكانت عصا ذات شعبتين فصارت الشعبتان لها فما وصارت حية تسعى أي تنتقل، وتمشي وتلتقم الحجارة فلما رآها موسى عليه السلام رأى عبرة فـ « ولى مدبرا ولم يعقب » [ النمل: 10 ] . فقال الله له: « خذها ولا تخف » سنعيدها سيرتها الأولى « وذلك أنه » أوجس في نفسه خيفة « [ طه: 67 ] أي لحقه ما يلحق البشر. وروي أن موسى تناولها بكمي جبته فنهي عن ذلك، فأخذها بيده فصارت عصا كما كانت أول مرة وهى سيرتها الأولى، وإنما أظهر له هذه الآية لئلا يفزع منها إذا ألقاها عند فرعون. ويقال: إن العصا بعد ذلك كانت تماشيه وتحادثه ويعلق عليها أحماله، وتضيء له الشعبتان بالليل كالشمع؛ وإذا أراد الاستقاء انقلبت الشعبتان كالدلو وإذا اشتهى ثمرة ركزها في الأرض فأثمرت تلك الثمرة. وقيل: إنها كانت من آس الجنة. وقيل: أتاه جبريل بها. وقيل: ملك. وقيل قال له شعيب: خذ عصا من ذلك البيت فوقعت بيده تلك العصا، وكانت عصا آدم عليه السلام هبط بها من الجنة. والله أعلم.»

 

قوله تعالى: « فإذا هي حية تسعى » النحاس: ويجوز « حية » يقال: خرجت فإذا زيد جالس وجالسا. والوقف « حيه » بالهاء. والسعي المشي بسرعة وخفة. وعن ابن عباس: انقلبت ثعبانا ذكرا يبتلع الصخر والشجر، فلما رآه يبتلع كل شيء خافه ونفر منه. وعن بعضهم: إنما خاف منه لأنه عرف ما لقي آدم منها. وقيل لما قال له ربه « لا تخف » بلغ من ذهاب خوفه وطمأنينة نفسه أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحييها. « سنعيدها سيرتها الأولى » سمعت علي بن سليمان يقول: التقدير إلى سيرتها، مثل « واختار موسى قومه » [ الأعراف: 155 ] قال: ويجوز أن يكون مصدرا لأن معنى سنعيدها سنسيرها.

 

قوله تعالى: « واضمم يدك إلى جناحك » يجوز في غير القرآن ضم بفتح الميم وكسرها لالتقاء الساكنين، والفتح أجود لخفته، والكسر على الأصل ويجوز الضم على الإتباع ويد أصلها يدي على فعل؛ يدل على ذلك أيد وتصغيرها يدية. والجناح العضد؛ قاله مجاهد. وقال: « إلى » بمعنى تحت. قطرب: « إلى جناحك » إلى جيبك؛ ومنه قول الراجز:

أضمه للصدر والجناح

وقيل: إلى جنبك فعبر عن الجنب بالجناح لأنه مائل في محل الجناح. وقيل إلى عندك. وقال مقاتل « إلى » بمعنى مع أي مع جناحك. « تخرج بيضاء من غير سوء » من غير برص نورا ساطعا، يضيء بالليل والنهار كضوء الشمس والقمر وأشد ضوءا. عن ابن عباس وغيره: فخرجت نورا مخالفة للونه. و « بيضاء » نصب على الحال، ولا ينصرف لأن فيها ألفي التأنيث لا يزايلانها فكأن لزومهما علة ثانية، فلم ينصرف في النكرة، وخالفتا الهاء لأن الهاء تفارق الاسم. و « من غير سوء » « من » صلة « بيضاء » كما تقول: ابيضت من غير سوء. « آية أخرى » سوى العصا. فأخرج يده من مدرعة له مصرية لها شعاع مثل شعاع الشمس يعشي البصر. و « آية » منصوبة على البدل من بيضاء؛ قاله الأخفش. النحاس: وهو قول حسن. وقال الزجاج: المعنى آتيناك آية أخرى أو نؤتيك؛ لأنه لما قال: « تخرج بيضاء من غير سوء » دل على أنه قد آتاه آية أخرى. « لنريك من آياتنا الكبرى » يريد العظمى. وكان حقه أن يقول الكبيرة وإنما قال « الكبرى » لوفاق رؤوس الآي. وقيل: فيه إضمار؛ معناه لنريك من آياتنا الآية الكبرى دليله قول ابن عباس يد موسى أكبر آياته.

 

الآيات: 24 - 35 ( اذهب إلى فرعون إنه طغى، قال رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي، واجعل لي وزيرا من أهلي، هارون أخي، اشدد به أزري، وأشركه في أمري، كي نسبحك كثيرا، ونذكرك كثيرا، إنك كنت بنا بصيرا )

 

قوله تعالى: « اذهب إلى فرعون إنه طغى » لما آنسه بالعصا واليد، وأراه ما يدل على أنه رسول، أمره بالذهاب إلى فرعون، وأن يدعوه. و « طغى » معناه عصى وتكبر وكفر وتجبر وجاوز الحد. « قال رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي، واجعل لي وزيرا من أهلي، هارون أخي » طلب الإعانة لتبليغ الرسالة. ويقال إن الله أعلمه بأنه ربط على قلب فرعون وأنه لا يؤمن؛ فقال موسى: يا رب فكيف تأمرني أن آتيه وقد ربطت على قلبه؛ فأتاه ملك من خزان الريح فقال يا موسى انطلق إلى ما أمرك الله به. فقال موسى عند ذلك: « رب اشرح لي صدري » أي وسعه ونوره بالإيمان والنبوة. « ويسر لي أمري » أي سهل علي ما أمرتني به من تبليغ الرسالة إلى فرعون. « واحلل عقدة من لساني » يعني العجمة التي كانت فيه من جمرة النار التي أطفأها في فيه وهو طفل. قال ابن عباس: كانت في لسانه رتة. وذلك أنه كان في حجر فرعون ذات يوم وهو طفل فلطمه لطمة، وأخذ بلحيته فنتفها فقال فرعون لآسية: هذا عدوي فهات الذباحين. فقالت آسية: على رسلك فإنه صبي لا يفرق بين الأشياء. ثم أتت بطستين فجعلت في أحدهما جمرا وفي الآخر جوهرا فأخذ جبريل بيد موسى فوضعها على النار حتى رفع جمرة ووضعها في فيه على لسانه، فكانت الرتة وروي أن يده احترقت وأن فرعون اجتهد في علاجها فلم تبرأ. ولما دعاه قال إي رب تدعوني؟ قال: إلى الذي أبرأ يدي وقد عجزت عنها. وعن بعضهم: إنما لم تبرأ يده لئلا يدخلها مع فرعون في قصعة واحدة فتنعقد بينهما حرمة المؤاكلة. ثم اختلف هل زالت تلك الرتة؛ فقيل: زالت بدليل قوله « قد أوتيت سؤلك يا موسى » [ طه: 36 ] وقيل: لم تزل كلها؛ بدليل قوله حكاية عن فرعون: « ولا يكاد يبين » [ الزخرف: 52 ] . ولأنه لم يقل: احلل كل لساني، فدل على أنه بقي في لسانه شيء من الاستمساك. وقيل: زالت بالكلية بدليل قوله « أوتيت سؤلك » [ طه: 36 ] وإنما قال فرعون: « ولا يكاد يبين » [ الزخرف: 52 ] لأنه عرف منه تلك العقدة في التربية، وما ثبت عنده أن الآفة زالت.

قلت: وهذا فيه نظر؛ لأنه لو كان ذلك لما قال فرعون: « ولا يكاد يبين » حين كلمه موسى بلسان ذلق فصيح. والله أعلم. وقيل: إن تلك العقدة حدثت بلسانه عند مناجاة ربه، حتى لا يكلم غيره إلا بإذنه. « يفقهوا قولي » أي يعملون ما أقوله لهم ويفهموه. والفقه في كلام العرب الفهم. قال أعرابي لعيسى بن عمر: شهدت عليك بالفقه. تقول منه: فقه الرجل بالكسر. وفلان لا يفقه ولا ينقه. وأفقهتك الشيء ثم خص به الشريعة، والعالم به فقيه. وقد فقه بالضم فقاهة وفقهه الله وتفقه إذا تعاطى ذلك. وفاقهته إذا باحثته في العلم؛ قاله الجوهري. والوزير المؤازر كالأكيل للمؤاكل؛ لأنه يحمل عن السلطان وزره أي ثقله. في كتاب النسائي عن القاسم بن محمد: سمعت عمتي تقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من ولي منكم عملا فأراد الله به خيرا جعل له وزيرا صالحا إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه ) . ومن هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام: ( ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه فالمعصوم من عصمه الله ) رواه البخاري. فسأل موسى الله تعالى أن يجعل له وزيرا، إلا أنه لم يرد أن يكون مقصورا على الوزارة حتى لا يكون شريكا له في النبوة، ولولا ذلك لجاز أن يستوزره من غير مسألة. وعين فقال « هارون » وانتصب على البدل من قوله « وزيرا » . ويكون منصوبا بـ « اجعل » على التقديم والتأخير، والتقدير: واجعل لي هارون أخي وزيرا. وكان هارون أكبر من موسى بسنة، وقيل: بثلاث. « اشدد به أزري » أي ظهري والأزر الظهر من موضع الحقوين، ومعناه تقوى به نفسي؛ والأزر القوة وأزره قواه. ومنه قوله تعالى « فآزره فاستغلظ » [ الفتح: 29 ] وقال أبو طالب:

أليس أبونا هاشم شد أزره وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب

وقيل: الأزر العون، أي يكون عونا يستقيم به أمري. قال الشاعر:

شددت به أزري وأيقنت أنه أخو الفقر من ضاقت عليه مذاهبه

وكان هارون أكثر لحما من موسى، وأتم طولا، وأبيض جسما، وأفصح لسانا. ومات قبل موسى بثلاث سنين وكان في جبهة هارون شامة، وعلى أرنبة أنف موسى شامة، وعلى طرف لسانه شامة، ولم تكن على أحد قبله ولا تكون على أحد بعده، وقيل: إنها كانت سبب العقدة التي في لسانه. والله أعلم. « وأشركه في أمري » أي في النبوة وتبليغ الرسالة. قال المفسرون كان هارون يومئذ بمصر، فأمر الله موسى أن يأتي هو هارون، وأوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى، فتلقاه إلى مرحلة وأخبره بما أوحى إليه؛ فقال له موسى: إن الله أمرني أن آتي فرعون فسألت ربي أن يجعلك معي رسولا. وقرأ العامة « أخي اشدد » بوصل الألف « وأشركه » بفتح الهمزة على الدعاء، أي أشدد يا رب أزري وأشركه معي في أمري. وقرأ ابن عامر ويحيى بن الحرث وأبو حيوة والحسن وعبدالله بن أبي إسحاق « أشد » بقطع الألف « وأشركه » أي أنا يا رب « في أمري » . قال النحاس: جعلوا الفعلين في موضع جزم جوابا لقوله: « أجعل لي وزيرا » وهذه القراءة شاذة بعيدة؛ لأن جواب مثل هذا إنما يتخرج بمعنى الشرط والمجازاة؛ فيكون المعنى: إن تجعل لي وزيرا من أهلي أشدد به أزري، وأشركه في أمري. وأمره النبوة والرسالة، وليس هذا إليه صلى الله عليه وسلم فيخبر به، إنما سأل الله عز وجل أن يشركه معه في النبوة. وفتح الياء من « أخي » ابن كثير وأبو عمر. « كي نسبحك كثيرا » قيل: معنى « نسبحك » نصلي لك. ويحتمل أن يكون التسبيح باللسان. أي ننزهك عما لا يليق بجلالك. « وكثيرا » نعت لمصدر محذوف. ويجوز أن يكون نعتا لوقت. والإدغام حسن. وكذا « ونذكرك كثيرا » . « إنك كنت بنا بصيرا » قال الخطابي: البصير المبصر، والبصير العالم بخفيات الأمور، فالمعنى؛ أي عالما بنا، ومدركا لنا في صغرنا فأحسنت إلينا، فأحسن إلينا كذلك يا رب.

الآية [ 36 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات: 36 - 39 ( قال قد أوتيت سؤلك يا موسى، ولقد مننا عليك مرة أخرى، إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى، أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني )

 

قوله تعالى: « قال قد أوتيت سؤلك يا موسى » لما سأله شرح الصدر، وتيسير الأمر إلى ما ذكر، أجاب سؤله، وأتاه طلبته ومرغوبه. والسؤل الطلبة؛ فعل بمعنى مفعول، كقولك خبز بمعنى مخبوز وأكل بمعنى مأكول. وقوله تعالى: « ولقد مننا عليك مرة أخرى » أي قبل هذه، وهي حفظه سبحانه له من شر الأعداء في الابتداء؛ وذلك حين الذبح. والله أعلم. والمن الإحسان والإفضال. وقوله: « ذ أوحينا إلى أمك ما يوحى » قيل: « أوحينا » ألهمنا وقيل: أوحى إليها في النوم. وقال ابن عباس: أوحى إليها كما أوحى إلى النبيين. « أن اقذفيه في التابوت » قال مقاتل: مؤمن آل فرعون هو الذي صنع التابوت ونجره وكان اسمه حزقيل. وكان التابوت من جميز. « فاقذفيه في اليم » أي اطرحيه في البحر: نهر النيل. « فاقذفيه » قال الفراء: « فاقذفيه في اليم » أمر وفيه معنى المجازاة. أي اقذفيه يلقه اليم. وكذا قوله: « اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم » [ العنكبوت: 12 ] . « يأخذه عدو لي وعدو له » يعني فرعون؛ فاتخذت تابوتا، وجعلت فيه نطعا ووضعت فيه موسى، وقيرت رأسه وخصاصه يعني شقوقه ثم ألقته في النيل، وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون، فساقه الله في ذلك النهر إلى دار فرعون. وروي أنها جعلت في التابوت قطنا محلوجا، فوضعته فيه وقيرته وجصصته، ثم ألقته في اليم. وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير، فبينا هو جالس على رأس بركة مع آسية، إذا بالتابوت، فأمر به فأخرج، ففتح فإذا صبي أصبح الناس، فأحبه عدو الله حبا شديدا لا يتمالك أن يصبر عنه. وظاهر القرآن يدل على أن البحر ألقاه بساحله وهو شاطئه، فرأى فرعون التابوت بالساحل فأمر بأخذه. ويحتمل أن يكون إلقاء اليم بموضع من الساحل، فيه فوهة نهر فرعون، ثم أداه النهر إلى حيث البركة. والله أعلم. وقيل: وجدته ابنة فرعون وكان بها برص، فلما فتحت التابوت شفيت. وروي أنهم حين التقطوا التابوت عالجوا فتحه فلم يقدروا عليه، وعالجوا كسره فأعياهم، فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نورا فعالجته ففتحته، فإذا صبي نوره بين عينيه، وهو يمص إبهامه لبنا فأحبوه. وكانت لفرعون بنت برصاء، وقال له الأطباء: لا تبرأ إلا من قبل البحر يوجد فيه شبه إنسان دواؤها ريقه؛ فلطخت البرصاء برصها بريقه فبرئت. وقيل: لما نظرت إلى وجهه برئت. والله أعلم. وقيل: وجدته جوار لامرأة فرعون، فلما نظر إليه فرعون فرأى صبيا من أصبح الناس وجها، فأحبه فرعون. فذلك قوله تعالى: « وألقيت عليك محبة مني » قال ابن عباس: أحبه الله وحببه إلى خلقه. وقال ابن عطية: جعل عليه مسحة من جمال لا يكاد يصبر عنه من رآه. وقال قتادة: كانت في عيني موسى ملاحة ما رآه أحد إلا أحبه وعشقه. وقال عكرمة: المعنى جعلت في حسنا وملاحة فلا يراك أحد إلا أحبك. وقال الطبري: المعنى ألقيت عليك رحمتي. وقال ابن زيد: جعلت من رآك أحبك حتى أحبك فرعون فسلمت من شره، وأحبتك آسية بنت مزاحم فتبنتك. « ولتصنع على عيني » قال ابن عباس: يريد أن ذلك بعيني حيث جعلت في التابوت، وحيث ألقي التابوت في البحر، وحيث التقطك جواري امرأة فرعون؛ فأردن أن يفتحن التابوت لينظرن ما فيه، فقالت منهن واحدة: لا تفتحنه حتى تأتين به سيدتكن فهو أحظى لكن عندها، وأجدر بألا تتهمكن بأنكن وجدتن فيه شيئا فأخذتموه لأنفسكن. وكانت امرأة فرعون لا تشرب من الماء إلا ما استقينه أولئك الجواري فذهبن بالتابوت إليها مغلقا، فلما فتحته رأت صبيا لم ير مثله قط؛ وألقي عليها محبته فأخذته فدخلت به على فرعون، فقالت له: [ القصص: 9 ] « قرة عين لي ولك » قال لها فرعون: أما لك فنعم، وأما لي فلا. فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لو أن فرعون قال نعم هو قرة عين لي ولك لآمن وصدق ) فقالت: هبه لي ولا تقتله؛ فوهبه لها. وقيل: « ولتصنع على عيني » أي تربى وتغذى على مرأى مني؛ قاله قتادة. قال النحاس: وذلك معروف في اللغة؛ يقال: صنعت الفرس وأصنعت إذا أحسنت القيام عليه. والمعنى « ولتصنع على عيني » فعلت ذلك. وقيل: اللام متعلقة بما بعدها من قوله: « إذ تمشي أختك » على التقديم والتأخير فـ « إذ » ظرف « لتصنع » . وقيل: الواو في « ولتصنع » زائدة. وقرأ ابن القعقاع « ولتصنع » بإسكان اللام على الأمر، وظاهره للمخاطب والمأمور غائب. وقرأ أبو نهيك « ولتصنع » بفتح التاء. والمعنى ولتكون حركتك وتصرفك بمشيئي وعلى عين مني. ذكره المهدوي.

 

الآيتان: 40 - 41 ( إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى، واصطنعتك لنفسي )

 

قوله تعالى: « إذ تمشي أختك » العامل في « إذ تمشي » « ألقيت » أو « تصنع » . ويجوز أن يكون بدلا من « إذ أوحينا » وأخته اسمها مريم « فتقول هل أدلكم على من يكفله » وذلك أنها خرجت متعرفة خبره، وكان موسى لما وهبه فرعون من امرأته طلبت له المراضع، كان لا يأخذ من أحد حتى أقبلت أخته، فأخذته ووضعته في حجرها وناولته ثديها فمصه وفرح به. فقالوا لها: تقيمين عندنا؛ فقالت: إنه لا لبن لي ولكن أدلكم على من يكفله وهم له ناصحون. قالوا: ومن هي؟. قالت: أمي. فقالوا: لها لبن؟ قالت: لبن أخي هارون. وكان هارون أكبر من موسى بسنة. وقيل بثلاث. وقيل بأربع. وذلك أن فرعون رحم بني إسرائيل فرفع عنهم القتل أربع سنين، فولد هارون فيها؛ قال ابن عباس: فجاءت الأم فقبل ثديها. فذلك قوله تعالى: « فرجعناك إلى أمك » وفي مصحف أبي « فرددناك » « كي تقر عينها ولا تحزن » وروى عبدالحميد عن ابن عامر « كي تَقِر عينها » بكسر القاف. قال الجوهري: وقررت به عينا وقررت به قرة وقرورا فيهما. رجل قرير العين؛ وقد قرت عينه تقر وتقر نقيض سخنت. وأقر الله عينه أي أعطاه حتى تقر فلا تطمح إلى من هو فوقه، ويقال: حتى تبرد ولا تسخن. وللسرور دمعة باردة، وللحزن دمعة حارة. وقد تقدم هذا المعنى في « مريم » . « ولا تحزن » أي على فقدك. « وقتلت نفسا » قال ابن عباس: قتل قبطيا كافرا. قال كعب: وكان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة. في صحيح مسلم: وكان قتله خطأ؛ على ما يأتي. « فنجيناك من الغم » أي آمناك من الخوف والقتل والحبس. « وفتناك فتونا » أي اختبرناك اختبارا حتى صلحت للرسالة، وقال قتادة: بلوناك بلاء. مجاهد: أخلصنا إخلاصا. وقال ابن عباس: اختبرناك بأشياء قبل الرسالة، أولها حملته أمه في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأطفال، ثم إلقاؤه في اليم، ثم منعه من الرضاع إلا من ثدي أمه، ثم جره بلحية فرعون، ثم تناوله الجمرة بدل الدرة، فدرأ ذلك عنه قتل فرعون، ثم قتله القبطي وخروجه خائفا يترقب، ثم رعايته الغنم ليتدرب بها على رعاية الخلق. فيقال: إنه ند له من الغنم جدي فاتبعه أكثر النهار، وأتعبه، ثم أخذه فقبله وضمه إلى صدره، وقال له أتعبتني وأتعبت نفسك؛ ولم يغضب عليه. قال وهب بن منبه: ولهذا اتخذه الله كليما. وقد مضى في « النساء » .

 

قوله تعالى: « فلبثت سنين في أهل مدين » يريد عشر سنين أتم الأجلين. وقال وهب: لبث عند شعيب ثماني وعشرين سنة، منها عشرة مهر امرأته صفورا ابنة شعيب، وثماني عشرة أقامها عنده حتى ولد له عنده. وقوله: « ثم جئت على قدر يا موسى » قال ابن عباس وقتادة وعبدالرحمن بن كيسان: يريد موافقا للنبوة والرسالة؛ لأن الأنبياء لا يبعثون إلا أبناء أربعين سنة. وقال مجاهد ومقاتل: « على قدر » على وعد. وقال محمد بن كعب: ثم جئت على القدر الذي قدرت لك أنك تجيء فيه. والمعنى واحد. أي جئت الوقت الذي أردنا إرسالك فيه. وقال الشاعر:

نال الخلافة أو كانت له قدرا كما أتى ربه موسى على قدر

قوله تعالى: « واصطنعتك لنفسي » قال ابن عباس: أي اصطفيتك لوحي ورسالتي. وقيل: « اصطنعتك » خلقتك؛ مأخوذ من الصنعة. وقيل قويتك وعلمتك لتبلغ عبادي أمري ونهي.

 

الآيات: 42 - 44 ( اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري، اذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى )

 

قوله تعالى: « اذهب أنت وأخوك بآياتي » قال ابن عباس يريد التسع الآيات التي أنزلت عليه. « ولا تنيا في ذكري » قال ابن عباس: تضعفا أي في أمر الرسالة؛ وقاله قتادة. وقيل: تفترا. قال الشاعر:

فما ونى محمد مذ أن غفر له الإله ما مضى وما غبر

والونى الضعف والفتور، والكلال والإعياء. وقال امرؤ القيس:

مسح إذا ما السابحات على الونى أثرن غبارا بالكديد المركل

ويقال: ونيت في الأمر أني ونى ونيا أي ضعفت فأنا وان وناقة وانية وأونيتها أنا أضعفتها وأتعبتها: وفلان لا يني كذا، أي لا يزال، وبه فسر أبان معنى الآية واستشهد بقول طرفة:

كأن القدور الراسيات أمامهم قباب بنوها لا تني أبدا تغلي

وعن ابن عباس أيضا: لا تبطئا. وفي قراءة ابن مسعود « ولا تهنا في ذكري » وتحميدي وتمجيدي وتبليغ رسالتي.

 

قوله تعالى: « اذهبا » قال في أول الآية: « اذهب أنت وأخوك بآياتي » وقال هناك « اذهبا » فقيل أمر الله تعالى موسى وهارون في هذه الآية بالنفوذ إلى دعوة فرعون، وخاطب أولا موسى وحده تشريفا له؛ ثم كرر للتأكيد. وقيل بين بهذا أنه لا يكفي ذهاب أحدهما. وقيل: الأول أمر بالذهاب إلى كل الناس، والثاني بالذهاب إلى فرعون.

 

قوله تعالى: « فقولا له قولا لينا » دليل على جواز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن ذلك يكون باللين من القول لمن معه القوة، وضمنت له العصمة، ألا تراه قال: « فقولا له قولا لينا » وقال: « لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى » [ طه: 46 ] فكيف بنا فنحن أولى بذلك. وحينئذ يحصل الآمر والناهي على مرغوبه، ويظفر بمطلوبه؛ وهذا واضح.

واختلف الناس في معنى قوله ( لينا ) فقالت فرقة منهم الكلبي وعكرمة: معناه كنياه؛ وقاله ابن عباس ومجاهد والسدي. ثم قيل: وكنيته أبو العباس. وقيل: أبو الوليد. وقيل: أبو مرة؛ فعلى هذا القول تكنية الكافر جائزة إذا كان وجيها ذا شرف وطمع بإسلامه. وقد يجوز ذلك وإن لم يطمع بإسلامه، لأن الطمع ليس بحقيقة توجب عملا. وقد قال صلى الله عليه وسلم ( إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه ) ولم يقل وإن طمعتم في إسلامه، ومن الإكرام دعاؤه بالكنية. وقد قال صلى الله عليه وسلم لصفوان بن أمية: ( أنزل أبا وهب ) فكناه. وقال لسعد: ( ألم تسمع ما يقول أبو حباب ) يعني عبدالله بن أبي. وروي في الإسرائيليات أن موسى عليه السلام قام على باب فرعون سنة، لا يجد رسولا يبلغ كلاما حتى خرج. فجرى له ما قضى الله من ذلك، وكان ذلك تسلية لمن جاء بعده من المؤمنين في سيرتهم مع الظالمين، وربك أعلم بالمهتدين. وقيل قال له موسى تؤمن بما جئت به، وتعبد رب العالمين؛ على أن لك شبابا لا يهرم إلى الموت، وملكا لا ينزع منك إلى الموت، وينسأ في أجلك أربعمائة سنة، فإذا مت دخلت الجنة. فهذا القول اللين. وقال ابن مسعود: القول اللين قوله تعالى « فقل هل لك إلى أن تزكى. وأهديك إلى ربك فتخشى » [ النازعات: 18 - 19 ] . وقد قيل أن القول اللين قول موسى: يا فرعون إنا رسولا ربك رب العالمين. فسماه بهذا الاسم لأنه أحب إليه مما سواه مما قيل له، كما يسمى عندنا الملك ونحوه.

قلت: القول اللين هو القول الذي لا خشونة فيه؛ يقال: لان الشيء يلين لينا؛ وشيء لين ولين مخفف منه؛ والجمع أليناء. فإذا كان موسى أمر بأن يقول لفرعون قولا لينا، فمن دونه أحرى بأن يقتدى بذلك في خطابه، وأمره بالمعروف في كلامه. وقد قال تعالى « وقولوا للناس حسنا » [ البقرة: 83 ] . على ما تقدم في « البقرة » بيانه والحمد لله.

 

قوله تعالى: « لعله يتذكر أو يخشى » معناه: على رجائكما وطمعكما؛ فالتوقع فيها إنما هو راجع إلى جهة البشر؛ قال كبراء النحويين: سيبويه وغيره. وقد تقدم. قال الزجاج: « لعل » لفظة طمع وترج فخاطبهم بما يعقلون. وقيل « لعل » ها هنا بمعنى الاستفهام، والمعنى فانظر هل يتذكر. وقيل: هل يتذكر. وقيل: هو إخبار من الله تعالى عن قول هارون لموسى لعله يتذكر أو يخشى؛ قاله الحسن. وقيل: إن لعل وعسى في جميع القرآن لما قد وقع. وقد تذكر فرعون حين أدركه الغرق وخشي فقال: « آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين » [ يونس: 90 ] ولكن لم ينفعه ذلك؛ قاله أبو بكر الوراق وغيره وقال يحيي بن معاذ في هذه الآية: هذا رفقك بمن يقول أنا الإله فكيف رفقك بمن يقول أنت الإله؟ !. وقد قيل: إن فرعون ركن إلى قول موسى لما دعاه، وشاور امرأته فآمنت وأشارت عليه بالإيمان، فشاور هامان فقال: لا تفعل؛ بعد أن كنت مالكا تصير مملوكا، وبعد أن كنت ربا تصير مربوبا. وقال له: أنا أردك شابا فخضب لحيته بالسواد فهو أول من خضب.

 

الآية: 45 ( قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى )

 

قوله تعالى: « قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى » قال الضحاك: « يفرط » يعجل. قال: و « يطغى » يعتدي. النحاس: التقدير نخاف أن يفرط علينا منه أمر، قال الفراء: فرط منه أمر أي بدر؛ قال: وأفرط أسرف. قال: وفرط وقراءة الجمهور « يفرط » بفتح الياء وضم الراء، ومعناه يعجل ويبادر بعقوبتنا. يقال: فرط أمر أي بدر؛ ومنه الفارط في الماء الذي يتقدم القوم إلى الماء. أي يعذبنا عذاب الفارط في الذنب وهو المتقدم فيه؛ قاله المبرد. وقرأت فرقة منهم ابن محيصن « يفرط » بفتح الياء والراء؛ قال المهدوي: ولعلها لغة. وعنه أيضا بضم الياء وفتح الراء ومعناها أن يحمله حامل التسرع إلينا. وقرأت طائفة « يفرط » بضم الياء وكسر الراء؛ وبها قرأ ابن عباس ومجاهد عكرمة وابن محيصن أيضا. ومعناه يشطط في أذيننا؛ قال الراجز:

قد أفرط العلج علينا وعجل

 

الآية: 46 ( قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى )

 

قال العلماء: لما لحقهما ما يلحق البشر من الخوف على أنفسهما عرفهما الله سبحانه أن فرعون لا يصل إليهما ولا قومه. وهذه الآية ترد على من قال: إنه لا يخاف؛ والخوف من الأعداء سنة الله في أنبيائه وأوليائه مع معرفتهم به وثقتهم. ولقد أحسن البصري رحمه الله حين قال للمخبر عن عامر بن عبدالله - أنه نزل مع أصحابه في طريق الشام على ماء، فحال الأسد بينهم وبين الماء، فجاء عامر إلى الماء فأخذ منه حاجته، فقيل له: فقد خاطرت بنفسك. فقال: لأن تختلف الأسنة في جوفي أحب إلي من أن يعلم الله أني أخاف شيئا سواه - قد خاف من كان خيرا من عامر؛ موسى صلى الله عليه وسلم حين قال له: « إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفا يرتقب قال رب نجني من القوم الظالمين » [ القصص: 20 - 21 ] وقال: « فأصبح في المدينة خائفا يترقب » [ القصص: 18 ] وقال حين ألقى السحرة حبالهم وعصيهم: « فأوجس في نفسه خيفة موسى. قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى » [ طه: 67 - 68 ] .

قلت ومنه حفر النبي صلى الله عليه وسلم الخندق حول المدينة تحصينا للمسلمين وأموالهم، مع كونه من التوكل والثقة بربه بمحل لم يبلغه أحدا؛ ثم كان من أصحابه ما لا يجهله أحد من تحولهم عن منازلهم، مرة إلى الحبشة، ومرة إلى المدينة؛ تخوفا على أنفسهم من مشركي مكة؛ وهربا بدينهم أن يفتنوهم عنه بتعذيبهم. وقد قالت أسماء بنت عميس لعمر لما قال لها سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم كذبت يا عمر، كلا والله كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم، وكنا في دار - أو أرض - البعداء البغضاء في الحبشة؛ وذلك في الله ورسوله؛ وأيم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن كنا نؤذي ونخاف. الحديث بطوله خرجه مسلم. قال العلماء: فالمخبر عن نفسه بخلاف ما طبع الله نفوس بني آدم [ عليه ] كاذب؛ وقد طبعهم على الهرب مما يضرها ويؤلمها أو يتلفها. قالوا: ولا ضار أضر من سبع عاد في فلاة من الأرض على من لا آلة معه يدفعه بها عن نفسه، من سيف أو رمح أو نبل أو قوس وما أشبه ذلك.

 

قوله تعالى: « إنني معكما » يريد بالنصر والمعونة والقدرة على فرعون. وهذا كما تقول: الأمير مع فلان إذا أردت أنه يحميه. وقول: « أسمع وأرى » عبارة عن الإدراك الذي لا تخفى معه خافية، تبارك الله رب العالمين.

 

الآيتان: 47 - 48 ( فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى، إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى )

 

قوله تعالى: « فأتياه فقولا إنا رسولا ربك » في الكلام حذف، والمعنى: فأتياه فقالا له ذلك. « فأرسل معنا بني إسرائيل » أي خل عنهم. « ولا تعذبهم » أي بالسخرة والتعب في العمل، وكانت بنو إسرائيل عند فرعون في عذاب شديد؛ يذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، ويكلفهم من العمل في الطين واللبن وبناء المدائن مالا يطيقونه. « قد جئناك بآية من ربك » قال ابن عباس: يريد العصا واليد. وقيل: إن فرعون قال له: وما هي؟ فأدخل يده في جيب قميصه، ثم أخرجها بيضاء لها شعاع مثل شعاع الشمس، غلب نورها على نور الشمس فعجب منها ولم يره العصا إلا يوم الزينة. « والسلام على من اتبع الهدى » قال الزجاج: أي من اتبع الهدى سلم من سخط الله عز وجل وعذابه. قال: وليس بتحية، والدليل على ذلك أنه ليس بابتداء لقاء ولا خطاب. الفراء: السلام على من اتبع الهدى ولمن اتبع الهدى سواء. « إنا قد أوحي إلينا أن العذاب » يعني الهلاك والدمار في الدنيا والخلود في جهنم في الآخرة. « على من كذب » أنبياء الله « وتولى » أعرض عن الإيمان. وقال ابن عباس: هذه أرجى آية للموحدين لأنهم لم يكذبوا ولم يتولوا.

 

الآيتان: 49 - 50 ( قال فمن ربكما يا موسى، قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى )

 

قوله تعالى: « قال فمن ربكما يا موسى » ذكر فرعون موسى دون هارون لرؤوس الآي. وقيل: خصصه بالذكر لأنه صاحب الرسالة والكلام والآية. وقيل إنهما جميعا بلغا الرسالة وإن كان ساكتا؛ لأنه في وقت الكلام إنما يتكلم واحد، فإذا انقطع وازره الآخر وأيده. فصار لنا في هذا البناء فائدة علم؛ أن الاثنين إذا قلدا أمرا فقام به أحدهما، والآخر شخصه هناك موجود مستغنى عنه في وقت دون وقت أنهما أديا الأمر الذي قلدا وقاما به واستوجبا الثواب؛ لأن الله تعالى قال: « أذهبا إلى فرعون » وقال: « اذهب أنت وأخوك » وقال: « فقولا له » فأمرهما جميعا بالذهاب وبالقول، ثم أعلمنا في وقت الخطاب بقوله: « فمن ربكما » أنه كان حاضرا مع موسى. « قال » موسى: « ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه » أي أنه يعرف بصفاته، وليس له اسم علم حتى يقال فلان بل هو خالق العالم، والذي خص كل مخلوق بهيئة وصورة، ولو كان الخطاب معهما لقالا: قالا ربنا « وخلقه » أول مفعولي أعطى، أي أعطى خليقته كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به، أو ثانيهما أي أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به؛ على قول الضحاك على ما يأتي. « ثم هدى » قال ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي: أعطى كل شيء زوجه من جنسه، ثم هداه إلى منكحه ومطعمه ومشربه ومسكنه، وعن ابن عباس ثم هداه إلى الألفة والاجتماع والمناكحة. وقال الحسن وقتادة: أعطى كل شيء صلاحه، وهداه لما يصلحه. وقال مجاهد: أعطى كل شيء صورة؛ ويجعل خلق الإنسان في خلق البهائم، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان، ولكن خلق كل شيء فقدره تقديرا. وقال الشاعر:

وله في كل شيء خلقه وكذاك الله ما شاء فعل

يعني بالخلقة الصورة؛ وهو قول عطية ومقتل. وقال الضحاك أعطى كل شيء خلقه من المنفعة النوطة به المطابقة له. يعني اليد للبطش، والرجل للمشي، واللسان للنطق، والعين للنظر، والأذن للسمع. وقيل: أعطى كل شيء ما ألهمه من علم أو صناعة. وقال الفراء: خلق الرجل للمرأة ولكل ذكر ما يوافقه من الإناث ثم هدى الذكر للأنثى. فالتقدير على هذا أعطى كل شيء مثل خلقه.

قلت وهذا معنى قول ابن عباس. الآية بعمومها تتناول جميع الأقوال. وروى زائدة عن الأعمش أنه قرأ « الذي أعطى كل شيء خلقه » بفتح اللام؛ وهي قراءة ابن إسحاق. ورواها نصير عن الكسائي وغيره؛ أي أعطى بني آدم كل شيء خلقه مما يحتاجون إليه. فالقراءتان متفقتان في المعنى.

الآية [ 51 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيتان: 51 - 52 ( قال فما بال القرون الأولى، قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى )

 

قوله تعالى: « قال فما بال » البال الحال؛ أي وما حالها وما شأنها، فأعلمه أن علمها عند الله تعالى، أي إن هذا من علم الغيب الذي سألت عنه، وهو مما استأثر الله تعالى به لا يعلمه إلا هو، وما أنا إلا عبد مثلك لا أعلم إلا ما أخبرني به علام الغيوب، وعلم أحوال القرون مكتوبة عند الله في اللوح المحفوظ. وقيل: المعنى فما بال القرون الأولى لم يقروا بذلك. أي فما بالهم ذهبوا وقد عبدوا غير ربك. وقيل: إنما سأل عن أعمال القرون الأولى فأعلمه أنها محصاة عند الله تعالى، ومحفوظة عنده في كتاب. أي هي مكتوبة فسيجازيهم غدا بها وعليها. وعنى بالكتاب اللوح المحفوظ. وقيل: هو كتاب مع بعض الملائكة.

 

هذه الآية ونظائرها مما تقدم ويأتي تدل على تدوين العلوم وكتبها لئلا تنسى. فإن الحفظ قد تعتريه الآفات من الغلط والنسيان. وقد لا يحفظ الإنسان ما يسمع فيقيده لئلا يذهب عنه. وروينا بالإسناد المتصل عن قتادة أنه قيل له: أنكتب ما نسمع منك؟ قال: وما يمنعك أن تكتب وقد أخبرك اللطيف الخبير أنه يكتب؛ فقال: « علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى » . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لما قضى الله الخلق كتب في كتابه على نفسه فهو موضوع عنده إن رحمتي تغلب غضبي ) . وأسند الخطيب أبو بكر عن أبي هريرة قال: ( كان رجل من الأنصار يجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستمع منه الحديث ويعجبه ولا يحفظه، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أسمع منك الحديث يعجبني ولا أحفظه؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ( استعن بيمينك ) وأومأ إلى الخط وهذا نص. وعلى جواز كتب العلم وتدوينه جمهور الصحابة والتابعين؛ وقد أمر صلى الله عليه وسلم بكتب الخطبة التي خطب بها في الحج لأبي شاه - رجل من اليمن - لما سأله كتبها. أخرجه مسلم. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( قيدوا العلم بالكتابة ) . وقال معاوية بن قرة: من لم يكتب العلم لم يعد علمه علما. وقد ذهب قوم إلى المنع من الكتب؛ فروى أبو نصرة قال قيل لأبي سعيد: أنكتب حديثكم هذا؟ قال: لم تجعلونه قرآنا؟ ولكن احفظوا كما حفظنا. وممن كان لا يكتب الشعبي ويونس بن عبيد وخالد الحذاء - قال خالد ما كتبت شيئا قط إلا حديثا واحدا، فلما حفظته محوته - وابن عون والزهري. وقد كان بعضهم يكتب فإذا حفظ محاه؛ منهم محمد بن سيرين وعاصم بن ضمرة. وقال هشام بن حسان: ما كتبت حديثا قط إلا حديث الأعماق فلما حفظته محوته.

قلت: وقد ذكرنا عن خالد الحذاء مثل هذا. وحديث الأعماق خرجه مسلم في آخر الكتاب: ( لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق - أو - بدابق ) الحديث ذكره في كتاب الفتن. وكان بعضهم يحفظ ثم يكتب ما يحفظ منهم الأعمش وعبدالله بن أدريس وهشيم وغيرهم. وهذا احتياط على الحفظ. والكتب أولى على الجملة، وبه وردت الآي والأحاديث؛ وهو مروي عن عمر وعلي وجابر وأنس رضي الله عنهم، ومن يليهم من كبراء التابعين كالحسن وعطاء وطاوس وعروة بن الزبير، ومن بعدهم من أهل العلم؛ قال الله تعالى « وكتبنا له في الألواح من كل شيء » [ الأعراف: 145 ] . وقال تعالى: « ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون » [ الأنبياء: 105 ] . وقال تعالى: « واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة » [ الأعراف: 156 ] الآية. وقال تعالى: « وكل شيء فعلوه في الزبر. وكل صغير وكبير مستطر » [ القمر: 52 - 53 ] . « قال علمها عند ربي في كتاب » إلى غير هذا من الآي. وأيضا فإن العلم لا يضبط إلا بالكتاب، ثم بالمقابلة والمدارسة والتعهد والتحفظ والمذاكرة والسؤال والفحص عن الناقلين والثقة بما نقلوا، وإنما كره الكتب من كره من الصدر الأول لقرب العهد، وتقارب الإسناد لئلا يعتمده الكاتب فيهمله، أو يرغب عن حفظه والعمل به؛ فأما والوقت متباعد، والإسناد غير متقارب، والطرق مختلفة، والنقلة متشابهون، وآفة النسيان معترضة، والوهم غير مأمون؛ فإن تقييد العلم بالكتاب أولى وأشفى، والدليل على وجوبه أقوى؛ فإن احتج محتج بحديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا تكتبوا عني ومن كتب غير القرآن فليمحه ) خرجه مسلم؛ فالجواب أن ذلك كان متقدما؛ فهو منسوخ بأمره بالكتاب، وإباحتها لأبي شاه وغيره. وأيضا كان ذلك لئلا يخلط بالقرآن ما ليس منه. وكذا ما روي عن أبي سعيد أيضا - حرصنا أن يأذن لنا النبي صلى الله عليه وسلم في الكتابة فأبى - إن كان محفوظا فهو قبل الهجرة، وحين كان لا يؤمن الاشتغال به عن القرآن.

 

قال أبو بكر الخطيب: ينبغي أن يكتب الحديث بالسواد؛ ثم الحبر خاصة دون المداد لأن السواد أصبغ الألوان، والحبر أبقاها على مر الدهور. وهو آلة ذوي العلم، وعدة أهل المعرفة. ذكر عبدالله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي قال: رآني الشافعي وأنا في مجلسه وعلى قميصي حبر وأنا أخفيه؛ فقال لم تخفيه وتستره؟ إن الحبر على الثوب من المروءة لأن صورته في الأبصار سواد، وفي البصائر بياض. وقال خالد بن زيد: الحبر في ثوب صاحب الحديث مثل الخلوق في ثوب العروس. وأخذ هذا أبو عبدالله البلوى فقال:

مداد المحابر طيب الرجال وطيب النساء من الزعفران

فهذا يليق بأثواب ذا وهذا يليق بثوب الحصانوذكر الماوردي أن عبدالله بن سليمان حكى؛ رأى على بعض ثيابه أثر صفرة؛ فأخذ من مداد الدواة وطلاه به، ثم قال: المداد بنا أحسن من الزعفران؛ وأنشد:

إنما الزعفران عطر العذارى ومداد الدوي عطر الرجال

 

قوله تعالى: « لا يضل ربي ولا ينسى » اختلف في معناه على أقوال خمسة: الأول: إنه ابتداء كلام، تنزيه لله تعالى عن هاتين الصفتين وقد كان الكلام تم في قوله: « في كتاب » . وكذا قال الزجاج، وأن معنى « لا يضل » لا يهلك من قوله: « أئذا ضللنا في الأرض » [ السجدة: 10 ] . « ولا ينسى » شيئا؛ نزهه عن الهلاك والنسيان. القول الثاني « لا يضل » لا يخطئ؛ قاله ابن عباس؛ أي لا يخطئ في التدبير، فمن أنظره فلحكمة أنظره، ومن عاجله فلحكمة عاجله. القول الثالث « لا يضل » لا يغيب. قال ابن الأعرابي: أصل الضلال الغيبوبة؛ يقال: ضل الناسي إذا غاب عنه حفظ الشيء. قال: ومعنى « لا يضل ربي ولا ينسى » أي لا يغيب عنه شيء ولا يغيب عن شيء. القول الرابع: قاله الزجاج أيضا وقال النحاس أشبهها بالمعنى - أخبر الله عز وجل أنه لا يحتاج إلى كتاب؛ والمعنى لا يضل عنه علم شيء من الأشياء ولا معرفتها، ولا ينسى ما علمه منها.

قلت: وهذا القول راجع إلى معنى قول ابن الأعرابي. وقول خامس: إن « لا يضل ربي ولا ينس » في موضع الصفة لـ « كتاب » أي الكتاب غير ضال عن الله عز وجل؛ أي غير ذاهب عنه.

« ولا ينسى » أي غير ناس له فهما نعتان لـ « كتاب » . وعلى هذا يكون الكلام متصلا، ولا يوقف على « كتاب » . تقول العرب. ضلني الشيء إذا لم أجده، وأضللته أنا إذا تركته في موضع فلم تجده فيه. وقرأ الحسن وقتادة وعيسى بن عمر وابن محيصن وعاصم الجحدري وابن كثير فيما روى شبل عنه « لا يضل » بضم الياء على معنى لا يضيعه ربي ولا ينساه. قال ابن عرفة: الضلالة عند العرب سلوك سبيل غير القصد؛ يقال: ضل عن الطريق، وأضل الشيء إذا أضاعه. ومنه قرأ من قرأ « لا يضل ربي » أي لا يضيع؛ هذا مذهب العرب.

 

الآيات: 53 - 55 ( الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى، كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى، منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى )

 

قوله تعالى: « الذي جعل لكم الأرض مهادا » « الذي » في موضع نعت « لربي » أي لا يضل ربي الذي جعل ويجوز أن يكون خبر ابتداء مضمر أي هو « الذي » . ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار أعني. وقرأ الكوفيون « مهدا » هنا وفي « الزخرف » بفتح الميم وإسكان الهاء. الباقون « مهادا » واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لاتفاقهم على قراءة « ألم نجعل الأرض مهادا » [ النبأ: 6 ] . النحاس: والجمع أولى لأن « مهدا » مصدر وليس هذا موضع مصدر إلا على حذف؛ أي ذات مهد. المهدوي: ومن قرأ « مهدا » جاز أن يكون مصدرا كالفرش أي مهد لكم الأرض مهدا، وجاز أن يكون على تقدير حذف المضاف؛ أي ذات مهد. ومن قرأ « مهادا » جاز أن يكون مفردا كالفراش. وجاز أن يكون جمع « مهد » استعمل استعمال الأسماء فكسر. ومعنى « مهادا » أي فراشا وقرارا تستقرون عليها. « وسلك لكم فيها سبلا » أي طرقا. نظيره « والله جعل لكم الأرض بساطا. لتسلكوا منها سبلا فجاجا » [ نوح: 19 - 20 ] . وقال تعالى: « الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون » [ الزخرف: 10 ] « وأنزل من السماء ماء » وهذا آخر كلام موسى، ثم قال الله تعالى: « فأخرجنا به » وقيل: كله من كلام موسى. والمعنى « فأخرجنا به » أي بالحرث والمعالجة؛ لأن الماء المنزل سبب خروج النبات. ومعنى « أزواجا » ضروبا وأشباها، أي أصنافا من النبات المختلفة الأزواج والألوان. وقال الأخفش التقدير أزواجا شتى من نبات. قال: وقد يكون النبات شتى؛ فـ « شتى » يجوز أن يكون نعتا لأزواج، ويجوز أن يكون نعتا للنبات. و « شتى » مأخوذ من شت الشيء أي تفرق. يقال: أم شت أي متفرق. وشت الأمر شتا وشتاتا تفرق؛ واستشت مثله. وكذلك التشتت. وشتته تشتيتا فرقه. وأشت بي قومي أي فرقوا أمري. والشتيت المتفرق. قال رؤبة يصف إبلا:

جاءت معا واطرقت شتيتا وهي تثير الساطع السختيتا

وثغر شتيت أي مفلج. وقوم شتى، وأشياء شتى، وتقول: جاؤوا أشتاتا؛ أي متفرقين؛ واحدهم شت؛ قاله الجوهري.

 

قوله تعالى: « كلوا وارعوا أنعامكم » أمر إباحة. « وارعوا » من رعت الماشية الكلأ، ورعاها صاحبها رعاية؛ أي أسامها وسحرها؛ لازم ومتعد. « إن في ذلك لآيات لأولي النهى » أي العقول. الواحدة نهية. قال لهم ذلك؛ لأنهم الذين ينتهى إلى رأيهم. وقيل: لأنهم ينهون النفس عن القبائح. وهذا كله من موسى احتجاج على فرعون في إثبات الصانع جوابا لقوله « فمن ربكما يا موسى » . وبين أنه إنما يستدل على الصانع اليوم بأفعاله.

 

قوله تعالى: « منها خلقناكم » يعني آدم عليه السلام لأنه خلق من الأرض؛ قاله أبو إسحاق الزجاج وغيره. وقيل: كل نطفة مخلوقة من التراب؛ على هذا يدل ظاهر القرآن. وروى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما من مولود وقد ذر عليه من تراب حفرته ) أخرجه أبو نعيم الحافظ في باب ابن سيرين، وقال: هذا حديث غريب من حديث عون لم نكتبه إلا من حديث أبي عاصم النبيل، وهو أحد الثقات الأعلام من البصرة. وقد مضى. عن ابن مسعود. وقال عطاء الخراساني: إذا وقعت النطفة الرحم انطلق الملك الموكل بالرحم فأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه على النطفة فيخلق الله النسمة من النطفة ومن التراب؛ فذلك قوله تعالى « منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى » . وفي حديث البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إن العبد المؤمن إذا خرجت روحه صعدت به الملائكة فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الطيبة فيقولون فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا فيستفتحون لها فيستفتحون فيفتح فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة فيقول الله عز وجل « اكتبوا لعبدي كتابا في عليين وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى » فتعاد روحه في جسده ) وذكر الحديث. وقد ذكرناه بتمامه في كتاب « التذكرة » وري من حديث علي رضي الله عنه؛ ذكره الثعلبي. ومعنى « وفيها نعيدكم » أي بعد الموت « ومنها نخرجكم » أي للبعث والحساب. « تارة أخرى » يرجع هذا إلى قوله: « منها خلقناكم » لا إلى « نعيدكم » . وهو كقولك اشتريت ناقة ودارا وناقة أخرى ؛ فالمعنى: من الأرض أخرجناكم ونخرجكم بعد الموت من الأرض تارة أخرى.

 

الآيات: 56 - 58 ( ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى، قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى، فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى )

 

قوله تعالى: « ولقد أريناه آياتنا كلها » أي المعجزات الدالة على نبوة موسى وقيل حجج الله الدالة على توحيده « فكذب وأبى » أي لم يؤمن وهذا يدل على أنه كفر عنادا لأنه رأى الآيات عيانا لا خبرا نظيره « وجحدوا واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا » [ النمل: 14 ] .

« قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى » لما رأى الآيات التي أتاه بها موسى قال: إنها سحر؛ والمعنى: جئت لتوهم الناس أنك جئت بآية توجب اتباعك والإيمان بك، حتى تغلب على أرضنا وعلينا. « فلنأتينك بسحر مثله » أي لنعارضنك بمثل ما جئت به ليتبين للناس أن ما أتيت به ليس من عند الله. « فاجعل بيننا وبينك موعدا » هو مصدر؛ أي وعدا. وقيل: الموعد اسم لمكان الوعد؛ كما قال تعالى: « وإن جهنم لموعدهم أجمعين » [ الحجر: 43 ] فالموعد ها هنا مكان. وقيل: الموعد اسم لزمان الوعد؛ كقوله تعالى: « إن موعدهم الصبح » [ هود: 81 ] فالمعنى: اجعل لنا يوما معلوما، أو مكانا معروفا. قال القشيري: والأظهر أنه مصدر ولهذا قال: « لا نخلفه نحن ولا أنت » أي لا نخلف ذلك الوعد، والإخلاف أن يعد شيئا ولا ينجزه. وقال الجوهري والميعاد المواعدة والوقت والموضع وكذلك الموعد. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة والأعرج « لا نخلفه » بالجزم جوابا لقوله « اجعل » ومن رفع فهو نعت لـ « موعد » والتقدير. موعدا غير مخلف. « مكانا سوى » قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة « سوى » بضم السين. الباقون بكسرها؛ وهما لغتان مثل عدا وعدا وطوى وطوى. واختار أبو عبيد وأبو حاتم كسر السين لأنها اللغة العالية الفصيحة. وقال النحاس والكسر أعرف وأشهر. وكلهم نونوا الواو، وقد روي عن الحسن، واختلف عنه ضم السين بغير تنوين. واختلف في معناه فقيل: سوى هذا المكان؛ قال الكلبي. وقيل مكانا مستويا يتبين للناس ما بينا فيه؛ قال ابن زيد. ابن عباس: نصفا. مجاهد: منصفا؛ وعنه أيضا وقتادة عدلا بيننا بينك. قال النحاس: وأهل التفسير على أن معنى « سوى » نصف وعدل وهو قول حسن؛ قال سيبويه يقال: سوى وسوى أي عدل؛ يعني مكانا عدل؛ بين المكانين فيه النصفة؛ وأصله من قولك: جلس في سواء الدار بالمد أي في وسطها؛ ووسط كل شيء أعدله؛ وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: « وكذلك جعلناكم أمة وسطا » [ البقرة: 143 ] أي عدلا، وقال زهير:

أرونا خطة لا ضيم فيها يسوي بيننا فيها السواء

وقال أبو عبيدة والقتبي: وسطا بين الفريقين؛ وأنشد أبو عبيدة لموسى بن جابر الحنفي

وإن أبانا كان حل ببلدة سوى بين قيس قيس عيلان والفزر

والفزر: سعد بن زيد مناة بن تميم. وقال الأخفش: « سوى » إذا كان بمعنى غير أو بمعنى العدل يكون فيه ثلاث لغات: إن ضممت السين أو كسرت قصرت فيهما جميعا. وإن فتحت مددت، تقول: مكان سوى وسوى وسواء؛ أي عدل ووسط فيما بين الفريقين. قال موسى بن جابر:

وجدنا أبانا كان حل ببلدة

البيت. وقيل: « مكانا سوى » أي قصدا؛ وأنشد صاحب هذا القول:

لو تمنت حبيبتي ما عدتني أو تمنيت ما عدوت سواها

وتقول: مررت برجل سواك وسواك وسوائك أي غيرك. وهما في هذا الأمر سواء وإن شئت سواءان. وهم سواء للجمع وهم أسواء؛ وهم سواسية مثل ثمانية على غير قياس. وانتصب « مكانا » على المفعول الثاني لـ « جعل » . ولا يحسن انتصابه بالموعد على أنه مفعول أو ظرف له؛ لأن الموعد قد وصف، والأسماء التي تعمل عمل الأفعال إذا وصفت أو صغرت لم يسغ أن تعمل لخروجها عن شبه الفعل، ولم يحسن حمله على أنه ظرف وقع موقع المفعول الثاني؛ لأن الموعد إذا وقع بعده ظرف لم تجره العرب مجرى المصادر مع الظروف، لكنهم يتسعون فيه كقوله تعالى: « إن موعدهم الصبح » [ هود: 81 ]

 

الآيات: 59 - 61 ( قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى، فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى، قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى )

 

قوله تعالى: « قال موعدكم يوم الزينة » واختلف في يوم الزينة، فقيل هو يوم عيد كان لهم يتزينون ويجتمعون فيه؛ قاله قتادة والسدي وغيرهما. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: كان يوم عاشوراء. وقال سعيد بن المسيب: يوم سوق كان لهم يتزينون فيها؛ وقاله قتادة أيضا. وقال الضحاك: يوم السبت. وقيل: يوم النيروز؛ ذكره الثعلبي. وقيل: يوم يكسر فيه الخليج؛ وذلك أنهم كانوا يخرجون فيه يتفرجون ويتنزهون؛ وعند ذلك تأمن الديار المصرية من قبل النيل. وقرأ الحسن والأعمش وعيسى الثقفي والسلمي وهبيرة عن حفص « يوم الزينة » بالنصب. ورويت عن أبي عمرو؛ أي في يوم الزينة إنجاز موعدنا. الباقون بالرفع على أنه خبر الابتداء. « وأن يحشر الناس ضحى » أي وجمع الناس؛ فـ « أن » في موضع رفع على قراءة « يوم » بالرفع. وعطف « وأن يحشر » يقوي قراءة الرفع؛ لأن « أن » لا تكون ظرفا، وإن كان المصدر الصريح يكون ظرفا كمقدم الحاج؛ لأن من قال أتيك مقدم الحاج لم يقل آتيك أن يقدم الحاج. النحاس: وأولى هذا أن يكون في موضع خفض عطفا على الزينة. والضحا مؤنثة تصغرها العرب بغير هاء لئلا يشبه تصغيرها ضحوة؛ قاله النحاس. وقال الجوهري: ضحوة النهار بعد طلوع الشمس، ثم بعده الضحا وهي حين تشرق الشمس؛ مقصورة تؤنث وتذكر؛ فمن أنث ذهب إلى أنها جمع ضحوة؛ ومن ذكر ذهب إلى أنه اسم على فعل مثل صرد ونغر؛ وهو ظرف غير متمكن مثل سحر؛ تقول: لقيته ضحا؛ وضحا إذ أردت به ضحا يومك لم تنونه، ثم بعده الضحاء ممدود مذكر، وهو عند ارتفاع النهار الأعلى. وخص الضحا لأنه أول النهار، فلو امتد الأمر فيما بينهم كان في النهار متسع. وروي عن ابن مسعود والجحدري وغيرهما « وأن يحشر الناس ضحا » على معنى وأن يحشر الله الناس ونحوه. وعن بعض القراء « وأن تحشر الناس » والمعنى وأن تحشر أنت يا فرعون الناس وعن الجحدري أيضا « وأن نحشر » بالنون وإنما واعدهم ذلك اليوم؛ ليكون علو كلمة الله، وظهور دينه، وكبت الكافر، وزهوق الباطل على رؤوس الأشهاد، وفي المجمع الغاص لتقوى رغبة من رغب في الحق، ويكل حد المبطلين وأشياعهم، يكثر المحدث بذلك الأمر العلم في كل بدو وحضر، ويشيع في جمع أهل الوبر والمدر.

 

قوله تعالى: « فتولى فرعون فجمع كيده » أي حيله وسحره؛ والمراد جمع السحرة. قال ابن عباس: كانوا اثنين وسبعين ساحرا، مع كل ساحر منهم حبال وعصي. وقيل: كانوا أربعمائة. وقيل: كانوا اثني عشر ألفا. وقيل: أربعة عشرا ألفا. وقال ابن المنكدر: كانوا ثمانين ألفا. وقيل: كانوا مجمعين على رئيس يقال له شمعون. وقيل: كان اسمه يوحنا معه اثنا عشر نقيبا، مع كل نقيب عشرون عريفا، مع كل عريف ألف ساحر. وقيل كانوا ثلثمائة ألف ساحر من الفيوم، وثلثمائة ألف ساحر من الصعيد، وثلثمائة ألف ساحر من الريف، فصاروا تسعمائة ألف وكان رئيسهم أعمى. « ثم أتى » أي أتى الميعاد. « قال لهم موسى » أي قال لفرعون والسحرة « ويلكم » دعاء عليهم بالويل. وهو بمعنى المصدر. وقال أبو إسحاق الزجاج: هو منصوب بمعنى الزمهم الله ويلا. قال: ويجوز أن يكون نداء كقوله تعالى « يا ويلنا من بعثنا » [ يس: 52 ] « لا تفتروا على الله كذبا » أي لا تختلقوا عليه الكذب، ولا تشركوا به، ولا تقولوا للمعجزات إنها سحر. « فيسحتكم بعذاب » من عنده أي يستأصلكم بالإهلاك يقال فيه: سحت وأسحت بمعنى. وأصله من استقصاء الشعر. وقرأ الكوفيون « فيسحتكم » من أسحت، الباقون « فيسحتكم » من سحت وهذه لغة أهل الحجاز و [ الأولى لغة ] بن تميم. وانتصب على جواب النهي. وقال الفرزدق.

وعض زمان يا ابن مروان لم يدع من المال إلا مسحتا أو مجلف

الزمخشري: وهذا بيت لا تزال الركب تصطك في تسوية إعرابه. « وقد خاب من افترى » أي خسر وهلك، وخاب من الرحمة والثواب من ادعى على الله ما لم يأذن به.

 

الآيات: 62 - 64 ( فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى، قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى، فأجمعوا كيدكم ثم أتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى )

 

قوله تعالى: « فتنازعوا أمرهم بينهم » أي تشاوروا؛ يريد السحرة. « وأسروا النجوى » قال قتادة « قالوا » إن كان ما جاء به سحرا فسنغلبه، وإن كان من عند الله فسيكون له أمر؛ وهذا الذي أسروه. وقيل الذي أسروا قولهم « إن هذان لساحران » الآية قاله السدي ومقاتل. وقيل الذي أسروا قولهم: إن غلبنا اتبعناه؛ قال الكلبي؛ دليله من ظهر من عاقبة أمرهم. وقيل: كان سرهم أن قالوا حين قال لهم موسى « ويلكم لا تفتروا على الله كذبا » [ طه: 61 ] : ما هذا بقول ساحر. و « النجوى » المنجاة يكون اسما ومصدرا؛ وقد تقدم.

 

قوله تعالى: « إن هذان لساحران » قرأ أبو عمرو « إن هذين لساحران » . ورويت عن عثمان وعائشة رضي الله عنهما وغيرهما من الصحابة؛ وكذلك قرأ الحسن وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وغيرهم من التابعين؛ ومن القراء عيسى بن عمر وعاصم الجحدري؛ فيما ذكر النحاس. وهذه القراءة موافقة للإعراب مخالفة للمصحف. وقرأ الزهري والخليل بن أحمد والمفضل وأبان وابن محيصن وابن كثير وعاصم في رواية حفص عنه « إن هذان » بتخفيف « إن » « لساحران » وابن كثير يشدد نون « هذان » . وهذه القراءة سلمت من مخالفة المصحف ومن فساد الإعراب، ويكون معناها ما هذان إلا ساحران. وقرأ المدنيون والكوفيون « إن هذان » بتشديد « إن » « لساحران » فوافقوا المصحف وخالفوا الإعراب. قال النحاس فهذه ثلاث قراءات قد رواها الجماعة عن الأئمة، وروي عن عبدالله بن مسعود أنه قرأ « إن هذان إلا ساحران » وقال الكسائي في قراءة عبدالله: « إن هذان ساحران » بغير لام؛ وقال الفراء في حرف أبي « إن هذان إلا ساحران » فهذه ثلاث قراءات أخرى تحمل على التفسير لا أنها جائز أن يقرأ بها لمخالفتها المصحف.

قلت: وللعلماء في قراءة أهل المدينة والكوفة ستة أقوال ذكرها ابن الأنباري في آخر كتاب الرد له، والنحاس في إعرابه، والمهدوي في تفسيره، وغيرهم أدخل كلام بعضهم في بعض. وقد خطأها قوم حتى قال أبو عمرو: إني لأستحي من الله أن اقرأ « إنَّ هذان » وروى عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن قوله تعالى « لكن الراسخون في العلم » ثم قال: « والمقيمين » وفي « المائدة » « إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون » [ المائدة: 69 ] و « إن هذان لساحران » فقالت: يا ابن أختي! هذا خطأ من الكاتب. وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: في المصحف لحن وستقيمه العرب بألسنتهم. وقال أبان بن عثمان: قرأت هذه الآية عند أبي عثمان بن عفان، فقال لحن وخطأ؛ فقال له قائل: ألا تغيروه؟ فقال: دعوه فإنه لا يحرم حلالا ولا يحلل حرما. القول الأول من الأقوال الستة أنها لغة بني الحرث بن كعب وزبيد وخثعم وكنانة بن زيد يجعلون رفع الاثنين ونصبه وخفضه بالألف؛ يقولون: جاء الزيدان ورأيت الزيدان ومررت بالزيدان، ومنه قوله تعالى: « ولا أدراكم به » [ يونس: 16 ] على ما تقدم. وأنشد الفراء لرجل من بني أسد - قال: وما رأيت أفصح منه:

فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى مساغا لناباه الشجاع لصما

ويقولونك كسرت يداه وركبت علاه؛ يديه وعليه؛ قال شاعرهم:

تزود منا بين أذناه ضربة دعته إلى هابي التراب عقيم

وقال آخر:

طاروا علاهن فطر علاها

أي عليهن وعليها.

وقال آخر:

إن أباها وأبا أباها قد بلغا في المجد غايتاها

أي إن أبا أبيها وغايتها. قال أبو جعفر النحاس: وهذا القول من أحسن ما خملت عليه الآية؛ إذ كانت هذه اللغة معروفة، وقد حكاها من يرتضي علمه وأمانته؛ منهم أبو زيد الأنصاري وهو الذي يقول: إذا قال سيبويه حدثني من أثق به فإنما يعنيني؛ وأبو الخطاب الأخفش وهو رئيس من رؤساء اللغة، والكسائي والفراء كلهم قالوا هذا على لغة بني الحرث بن كعب. وحكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب أن هذه لغة بني كنانة. المهدوي: وحكى غيره أنها لغة لخثعم. قال النحاس ومن أبين ما في هذا قول سيبويه: وأعلم أنك إذا ثنيت الواحد زدت عليه زائدتين، الأولى منهما حرف مد ولين وهو حرف الإعراب؛ قال أبو جعفر فقول سيبويه: وهو حرف الإعراب، يوجب أن الأصل ألا يتغير، فيكون « إن هذان » جاء على أصله ليعلم ذلك، وقد قال تعالى « استحوذ عليهم الشيطان » [ المجادلة: 19 ] ولم يقل استحاذ؛ فجاء هذا ليدل على الأصل، وكذلك « إن هذان » ولا يفكر في إنكار من أنكر هذه اللغة إذا كان الأئمة قد رووها. القول الثاني أن يكون « إن » بمعنى نعم؛ كما حكى الكسائي عن عاصم قال: العرب تأتي بـ « إن » بمعنى نعم، وحكى سيبويه أن « إن » تأتي بمعنى أجل، وإلى هذا القول كان محمد بن يزيد وإسماعيل بن إسحاق القاضي يذهبان؛ قال النحاس: ورأيت أبا إسحاق الزجاج وعلي بن سليمان يذهبان إليه. الزمخشري: وقد أعجب به أبو إسحاق. النحاس: وحدثنا علي بن سليمان، قال حدثنا عبدالله بن أحمد بن عبدالسلام النيسابوري، ثم لقيت عبدالله بن أحمد [ هذا ] فحدثني، قال حدثني عمير بن المتوكل، قال حدثنا محمد بن موسى النوفلي من ولد حرث بن عبدالمطلب، قال حدثنا عمر بن جميع الكوفي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي - وهو ابن الحسين - عن أبيه عن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم أجمعين، قال: لا أحصي كم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على منبره: « إن الحمد لله نحمده ونستعينه » ثم يقول: « أنا أفصح قريش كلها وأفصحها بعدي أبان بن سعيد بن العاص » قال أبو محمد الخفاف قال عمير: إعرابه عند أهل العربية والنحو « إن الحمد لله » بالنصب إلا أن العرب تجعل « إن » في معنى نعم كأنه أراد صلى الله عليه وسلم؛ نعم الحمد لله؛ وذلك أن خطباء الجاهلية كانت تفتتح خطبها بنعم. وقال الشاعر في معنى نعم:

قالوا غدرت فقلت إن وربما نال العلا وشفى الغليل الغادر

وقال عبدالله بن قيس الرقيات

بكر العواذل في الصبا ح يلمنني وألومنه

ويقلن شيب قد علا ك وقد كبرت فقلت إنه

فعلى هذا جائز أن يكون قول الله عز وجل: « إن هذان ساحران » بمعنى نعم ولا تنصب. قال النحاس: أنشدني داود بن الهيثم، قال أنشدني ثعلبك

ليت شعري هل للمحب شفاء من جوى حبهن إن اللقاء

قال النحاس: وهذا قول حسن إلا أن فيه شيئا لأنه إنما يقال: نعم زيد خارج، ولا تكاد تقع اللام ها هنا، وإن كان النحويون قد تكلموا في ذلك فقالوا اللام ينوي بها التقديم؛ كما قال:

خالي لأنت ومن جرير خاله ينل العلاء ويكرم الأخوالا

آخر:

أم الحليس لعجوز شهربه ترضى من الشاة بعظم الرقبه

أي لخالي ولأم الحليس؛ وقال الزجاج: والمعنى في الآية إن هذان لهما ساحران ثم حذف المبتدأ. المهدوي: وأنكره أبو علي وأبو الفتح بن جني. قال أبو الفتح: « هما » المحذوف لم يحذف إلا بعد أن عرف، وإذا كان معروفا فقد استغنى بمعرفته عن تأكيده باللام، ويقبح أن تحذف المؤكد وتترك المؤكد. القول الثالث قال الفراء أيضا: وجدت الألف دعامة ليست بلام الفعل فزدت عليها نونا ولم أغيرها كما قلت: « الذي » ثم زدت عليه نونا فقلت: جاءني الذين عندك، ورأيت الذين عندك، ومررت بالذين عندك القول الرابع قاله بعض الكوفيين قال الألف في « هذان » مشبهة بالألف في يفعلان فلم تغير. القول الخامس: قال أبو إسحاق النحويون القدماء يقولون الهاء ها هنا مضمرة، والمعنى إنه هذان لساحران؛ قال ابن الأنباري: فأضمرت الهاء التي هي منصوب « إن » و « هذان » خبر « إن » و « ساحران » يرفعها « هما » المضمر [ والتقدير ] إنه هذان لهما ساحران. والأشبه عند أصحاب أهل هذا الجواب أن الهاء اسم « إن » و « هذان » رفع بالابتداء وما بعده خبر الابتداء. القول السادس قال أبو جعفر النحاس وسألت أبا الحسن بن كيسان عن هذه الآية، فقال: إن شئت أجبتك بجواب النحويين، وإن شئت أجبتك بقولي؛ فقلت بقولك؛ فقال: سألني إسماعيل بن إسحاق عنها فقلت: القول عندي أنه لما كان يقال « هذا » في موضع الرفع والنصب والخفض على حال واحدة، وكانت التثنية يجب ألا يغير لها الواحد أجريت التثنية مجرى الواحدة؛ فقال ما أحسن هذا لو تقدمك أحد بالقول به حتى يؤنس به؛ قال ابن كيسان: فقلت له: فيقول القاضي به حتى يؤنس به؛ فتبسم.

 

قوله تعالى: « يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى » هذا من قول فرعون للسحرة؛ أي غرضهما إفساد دينكم الذي أنتم عليه؛ كما قال فرعون « إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد » [ غافر: 26 ] . ويقال فلان حسن الطريقة أي حسن المذهب. وقيل: طريقة القوم أفضل القول؛ وهذا الذي ينبغي أن يسلكوا طريقته ويقتدوا به؛ فالمعنى: ويذهبا بسادتكم ورؤسائكم؛ استمالة لهم. أو يذهبا ببني إسرائيل وهم الأماثل وإن كانوا خولا لكم لما يرجعون إليه من الانتساب إلى الأنبياء. أيذهبا بأهل طريقتكم فحذف المضاف. و « المثلى » تأنيث الأمثل؛ كما يقال الأفضل والفضلى. وأنث الطريقة على اللفظ، وإن كان يراد بها الرجال. ويجوز أن يكون التأنيث على الجماعة. وقال الكسائي: « بطريقتكم » بسنتكم وسمتكم. و « المثلى » نعت كقولك امرأة كبرى. تقول العرب: فلان على الطريقة المثلى يعنون على الهدى المستقيم.

 

قوله تعالى: « فأجمعوا كيدكم » الإجماع الإحكام والعزم على الشيء. تقول: أجمعت الخروج وعلى الخروج أي عزمت. وقراءة كل الأمصار « فأجمعوا » إلا أبا عمرو فإنه قرأ « فاجمعوا » بالوصل وفتح الميم. واحتج بقوله: « فجمع كيده ثم أتى » . قال النحاس وفيما حكي لي عن محمد بن يزيد أنه قال: يجب على أبي عمرو أن يقرأ بخلاف قراءته هذه، وهي القراءة التي عليها أكثر الناس. قال: لأنه احتج بـ « جمع » وقوله عز وجل: « فجمع كيده » قد ثبت هذا فيبعد أن يكون بعده « فاجمعوا » ويقرب أن يكون بعده « فأجمعوا » أي اعزموا وجدوا؛ ولما تقدم ذلك وجب أن يكون هذا بخلاف معناه يقال: أمر مجمع ومجمع عليه. قال النحاس: ويصحح قراءة أبي عمرو « فاجمعوا » أي اجمعوا كل كيد لكم وكل حيلة فضموه مع أخيه. وقاله أبو إسحاق. الثعلبي: القراءة بقطع الألف وكسر الميم لها وجهان: أحدهما: بمعنى الجمع، تقول: أجمعت الشيء جمعته بمعنى واحد، وفي الصحاح: وأجمعت الشيء جعلته جميعا؛ قال أبو ذؤيب يصف حمرا:

فكأنها بالجزع بين نبايع وأولات ذي العرجاء نهب مجمع

أي مجموع. والثاني: أنه بمعنى العزم والإحكام؛ قال الشاعر:

يا ليت شعري والمنى لا تنفع هل أغدون يوما وأمري مجمع

أي محكم. « ثم ائتوا صفا » قال مقاتل والكلبي: جميعا. وقيل: صفوفا ليكون أشد لهيبتكم وهو منصوب بوقوع الفعل عليه على قول أبي عبيدة؛ قال يقال: أتيت الصف يعني المصلى؛ فالمعنى عنده ائتوا الموضع الذي تجتمعون فيه يوم العيد. وحكي عن بعض فصحاء العرب: ما قدرت أن آتي الصف؛ يعني المصلى. وقال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى ثم ائتوا والناس مصطفون؛ فيكون على هذا مصدرا في موضع الحال. ولذلك لم يجمع. وقرئ « ثم ايتوا » بكسر الميم وياء. ومن ترك الهمزة أبدل من الهمزة ألفا. « وقد أفلح اليوم من استعلى » أي من غلب. وهذا كله من قول السحرة بعضهم لبعض. وقيل: من قول فرعون لهم.

 

الآيتان: 65 - 66 ( قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى، قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى )

 

قوله تعالى: « قالوا يا موسى » يريد السحرة. « إما أن تلقي » عصاك من يدك « وإما أن نكون أول من ألقى » تأدبوا مع موسى فكان ذلك سبب إيمانهم. « قال بل ألقوا فإذا حبالهم » في الكلام حذف، أي فألقوا؛ دل عليه المعنى. وقرأ الحسن « وعصيهم » بضم العين. قال هارون القارئ: لغة بني تميم « وعصيتم » وبها يأخذ الحسن. الباقون بالكسر اتباعا لكسرة الصاد. ونحوه دلي وقسي وقسي. « يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى » وقرأ ابن عباس وأبو حيوة وابن ذكوان وروح عن يعقوب « تخيل » بالتاء؛ وردوه إلى العصي والحبال إذ هي مؤنثة. وذلك أنهم لطخوا العصي بالزئبق، فلما أصابها حر الشمس ارتهشت واهتزت. قال الكلبي: خيل إلى موسى أن الأرض حيات وأنها تسعى على بطنها. وقرئ « تخيل » بمعنى تتخيل وطريقه طريق « تخيل » ومن قرأ « يخيل » بالياء رده إلى الكيد. وقرئ « نخيل » بالنون على أن الله هو المخيل للمحنة والابتلاء. وقيل: الفاعل « أنها تسعى » فـ « أن » في موضع رفع؛ أي يخيل إليه سعيها؛ قال الزجاج. وزعم الفراء أن موضعها موضع نصب؛ أي بأنها ثم حذف الباء. والمعنى في الوجه الأول: تشبه إليه من سحرهم وكيدهم حتى ظن أنها تسعى. وقال الزجاج ومن قرأ بالتاء جعل « أن » في موضع نصب أي تخيل إليه ذات سعي، قال: ويجوز أن تكون في موضع رفع بدلا من الضمير في « تخيل » وهو عائد على الحبال والعصي، والبدل فيه بدل اشتمال. و « تسعى » معناه تمشي.

 

الآيتان: 67 - 68 ( فأوجس في نفسه خيفة موسى، قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى )

 

قوله تعالى: « فأوجس في نفسه خيفة موسى » أي أضمر. وقيل: وجد. وقيل: أحس. أي من الحيات وذلك على ما يعرض من طباع البشر على ما تقدم. وقيل: خاف أن يفتتن الناس قبل أن يلقي عصاه. وقيل: خاف حين أبطأ عليه الوحي بإلقاء العصا أن يفترق الناس قبل ذلك فيفتتنوا. وقال بعض أهل الحقائق: إن كان السبب أن موسى عليه السلام لما التقى بالسحرة وقال لهم: « ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب » التفت فإذا جبريل على يمينه فقال له يا موسى ترفق بأولياء الله. فقال موسى: يا جبريل هؤلاء سحرة جاؤوا بسحر عظيم ليبطلوا المعجزة، وينصروا دين فرعون، ويردوا دين الله، تقول: ترفق بأولياء الله! فقال جبريل: هم من الساعة إلى صلاة العصر عندك، وبعد صلاة العصر في الجنة. فلما قال له ذلك، أوجس موسى وخطر أن ما يدريني ما علم الله في، فلعلي أكون الآن في حالة، وعلم الله في على خلافها كما كان هؤلاء. فلما علم الله ما في قلبه أوحى الله إليه « لا تخف إنك أنت الأعلى » أي الغالب في الدنيا، وفي الدرجات العلا في الجنة؛ للنبوة والاصطفاء الذي آتاك الله به. وأصل « خيفة » خوفة الواو ياء لانكسار الخاء.

 

الآية: 69 ( وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى )

 

قوله تعالى: « وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا » ولم يقل وألق عصاك، فجائز أن يكون تصغيرا لها؛ أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم، وألق العويد الفرد الصغير الجرم الذي في يمينك، فإنه بقدرة الله يتلقفها على وحدته وكثرتها، وصغره وعظمها. وجائز أن يكون تعظيما لها أي لا تحفل بهذه الأجرام الكثيرة الكبيرة فإن في يمينك شيئا أعظم منها كلها، وهذه على كثرتها أقل شيء وأنزره عندها؛ فألقه يتلقفها بإذن الله ويمحقها. و « تلقف » بالجزم جواب الأمر؛ كأنه قال: إن تلقه تتلقف؛ أي تأخذ وتبتلع. وقرأ السلمي وحفص « تلقف » ساكنة اللام من لقف يلقف لقفا. وقرأ ابن ذكوان وأبو حيوة الشامي ويحيى بن الحرث « تلقف » بحذف التاء ورفع الفاء، على معنى فإنها تتلقف. والخطاب لموسى. وقيل: للعصا. واللقف الأخذ بسرعة، يقال: لقفت الشيء « بالكسر » ألقفه لقفا، وتلقفته أيضا أي تناولته بسرعة. عن يعقوب: يقال رجل لقف ثقف أي خفيف حاذف. واللقف « بالتحريك » سقوط الحائط. ولقد لقف الحوض لقفا أي تهور من أسفله وأتسع. وتلقف وتلقم وتلهم بمعنى. لقمت اللقمة « بالكسر » لقما، وتلقمتها إذا ابتلعتها في مهلة وكذلك لهمه « بالكسر » إذا ابتلعه. « ما صنعوا » أي الذي صنعوه. وكذا « إنما صنعوا » أي إن الذي صنعوه « كيد سحر » بالرفع « سِحْر » بكسر السين وإسكان الحاء؛ وهى قراءة الكوفيين إلا عاصما. وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون الكيد مضافا إلى السحر على الأتباع من غير تقدير حذف. والثاني: أن يكون في الكلام حذف أي كيد ذي سحر. وقرأ الباقون « كيد » بالنصب بوقوع الصنع عليه و « ما » كافة ولا تضمر هاء « ساحر » بالإضافة. والكيد في الحقيقة على هذه القراءة مضاف للساحر لا للسحر. ويجوز فتح « أن » على معنى لأن ما صنعوا كيد ساحر. « ولا يفلح الساحر حيث أتى » أي لا يفوز ولا ينجو حيث أتى من الأرض. وقيل: حيث احتال. وقد تقدم.

 

الآيتان: 70 - 71 ( فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى، قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى )

 

قوله تعالى: « فألقي السحرة سجدا » لما رأوا من عظيم الأمر وخرق العادة في العصا؛ فإنها ابتلعت جميع ما احتالوا به من الحبال والعصي؛ وكانت حمل ثلثمائة بعير ثم عادت عصا لا يعلم أحد أين ذهبت الحبال والعصي إلا الله تعالى. « قالوا آمنا برب هارون وموسى » أي به؛ يقال: آمن له وآمن به؛ ومنه « فآمن له لوط » [ العنكبوت: 26 ] وفي الأعراف. « قال آمنتم له قبل أن آذن لكم » إنكار منه عليهم؛ أي تعديتم وفعلتم ما لم آمركم به. « إنه لكبيركم الذي علمكم السحر » أي رئيسكم في التعليم، وإنما غلبكم لأنه أحذق به منكم. وإنما أراد فرعون بقول هذا ليشبه على الناس حتى لا يتبعوهم فيؤمنوا كإيمانهم، وإلا فقد علم فرعون أنهم لم يتعلموا من موسى، بل قد علموا السحر قبل قدوم موسى وولادته. « فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل » أي على جذوع النخل. قال سويد بن أبي كاهل:

هم صلبوا العبدي في جذع نخلة فلا عطست شيبان إلا بأجدعا

فقطع وصلب حتى ماتوا رحمهم الله تعالى. وقرأ ابن محيصن هنا وفي الأعراف « فلأقطعن » « ولأصلبنكم » بفتح الألف والتخفيف من قطع وصلب. « ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى » يعني أنا أم رب موسى.

 

الآيتان: 72 - 73 ( قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا، إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى )

 

قوله تعالى: « قالوا » يعني السحرة « لن نؤثرك » أي لن نختارك « على ما جاءنا من البينات » قال ابن عباس: يريد من اليقين والعلم. وقال عكرمة وغيره: لما سجدوا أراهم الله في سجودهم منازلهم في الجنة؛ فلهذا قالوا « لن نؤثرك » . وكانت امرأة فرعون تسأل من غلب، فقيل لها: غلب موسى وهارون؛ فقالت: آمنت برب موسى وهارون. فأرسل إليها فرعون فقال: انظروا أعظم صخرة فإن مضت على فولها فألقوها عليها؛ فلما أتوها رفعت بصرها إلى السماء فأبصرت منزلها في الجنة، فمضت على قولها فانتزع روحها، وألقيت الصخرة على جسدها وليس في جسدها روح. وقيل: قال مقدم السحرة لمن يثق به لما رأى من عصا موسى ما رأى: انظر إلى هذه الحية هل تخوفت فتكون جنيا أو لم تتخوف فهي من صنعة الصانع الذي لا يعزب عليه مصنوع؛ فقال: ما تخوفت؛ فقال: آمنت برب هارون وموسى. « والذي فطرنا » قيل: هو معطوف على « ما جاءنا من البينات » أي لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات ولا على الذي فطرنا أي خلقنا. وقيل: هو قسم أي والله لن نؤثرك. « فاقض ما أنت قاض » التقدير ما أنت قاضيه. وليست « ما » ها هنا التي تكون مع الفعل بمنزلة المصدر؛ لأن تلك توصل بالأفعال، وهذه موصولة بابتداء وخبر. قال ابن عباس: فاصنع ما أنت صانع. وقيل: فاحكم ما أنت حاكم؛ أي من القطع والصلب. وحذفت الياء من قاض الوصل لسكونها وسكون التنوين. واختار سيبويه إثباتها في الوقف لأنه قد زالت علة الساكنين. « إنما تقضي هذه الحياة الدنيا » أي إنما ينفذ أمرك فيها. وهي منصوبة على الظرف، والمعنى: إنما تقضي في متاع هذه الحياة الدنيا. أو وقت هذه الحياة الدنيا، فتقدر حذف المفعول. ويجوز أن يكون التقدير: إنما تقضي أمور هذه الحياة الدنيا، فتنتصب انتصاب المفعول و « ما » كافة لإن. وأجاز الفراء الرفع على أن تجعل « ما » بمعنى الذي وتحذف الهاء من تقضي ورفعت « هذه الحياة الدنيا » . « إنا آمنا بربنا » أي صدقنا بالله وحده لا شريك له وما جاءنا به موسى. « ليغفر لنا خطايانا » يريدون الشرك الذي كانوا عليه. « وما أكرهتنا عليه من السحر » « ما » في موضع نصب معطوفة على الخطايا. وقيل: لا موضع لها وهى نافية؛ أي ليغفر لنا خطايانا من السحر وما أكرهتنا عليه. النحاس: والأول أولى. المهدوي: وفيه بعد؛ لقولهم: « إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين » وليس هذا بقول مكرهين؛ ولأن الإكراه ليس بذنب، وإن كان يجوز أن يكونوا أكرهوا على تعليمه صغارا. قال الحسن: كانوا يعلمون السحر أطفالا ثم عملوه مختارين بعد. ويجوز أن يكون « ما » في موضع رفع بالابتداء ويضمر الخبر، والتقدير: وما أكرهتنا عليه من السحر موضوع عنا. و « من السحر » على هذا القول والقول الأول يتعلق بـ « أكرهتنا » . وعلى أن « ما » نافية يتعلق بـ « خطايانا » . « والله خير وأبقى » أي ثوابه خير وأبقى فحذف المضاف؛ قاله ابن عباس. وقيل: الله خير لنا منك وأبقى عذابا لنا من عذابك لنا. وهو جواب قوله « ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى » وقيل: الله خير لنا إن أطعناه، وأبقى عذابا منك إن عصيناه.

 

الآيات: 74 - 76 ( إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى، ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى، جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى )

 

قوله تعالى: « إنه من يأت ربه مجرما » قيل هو من قول السحرة لما آمنوا. وقيل ابتداء كلام من الله عز وجل. والكناية في « إنه » ترجع إلى الأمر والشأن. ويجوز إن من يأت، ومنه قول الشاعر:

إن من يدخل الكنيسة يوما يلق فيها جآذرا وظباء

أراد إنه من يدخل؛ أي أن الأمر هذا؛ أن المجرم يدخل النار، والمؤمن يدخل الجنة. والمجرم الكافر. وقيل: الذي يقترف المعاصي ويكتسبها. والأول أشبه؛ لقوله: « فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا » وهذه صفة الكافر المكذب الجاحد - على ما تقدم بيانه في سورة « النساء » وغيرها - فلا ينتفع بحياته ولا يستريح بموته. قال الشاعر:

ألا من لنفس لا تموت فينقضي شقاها ولا تحيا حياة لها طعم

وقيل: نفس الكافر معلقة في حنجرته أخبر الله تعالى عنه فلا يموت بفراقها، ولا يحيا باستقرارها. ومعنى « من يأت ربه مجرما » من يأت موعد ربه. ومعنى « ومن يأته مؤمنا » أي يمت عليه ويوافيه مصدقا به. « قد عمل » أي وقد عمل « الصالحات » أي الطاعات وما أمر به ونهى عنه. « فأولئك لهم الدرجات العلا » أي الرفيعة التي قصرت دونها الصفات. ودل قوله: « ومن يأته مؤمنا » على أن المراد بالمجرم المشرك.

 

قوله تعالى: « جنات عدن » بيان للدرجات وبدل منها، والعدن الإقامة. « تجري من تحتها » أي من تحت غرفها وسررها « الأنهار » من الخمر والعسل واللبن والماء. « خالدين فيها » أي ماكثين دائمين. « وذلك جزاء من تزكى » أي من تطهر من الكفر والمعاصي. ومن قال هذا من قول السحرة قال: لعل السحرة سمعوه من موسى أو من بني إسرائيل إذ كان فيهم بمصر أقوام، وكان فيهم أيضا المؤمن من آل فرعون.

قلت: ويحتمل أن يكون ذلك إلهاما من الله لهم أنطقهم بذلك لما آمنوا؛ والله أعلم.

 

الآيات: 77 - 79 ( ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى، فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم، وأضل فرعون قومه وما هدى )

 

قوله تعالى: « ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي » تقدم. « فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا »

أي يابسا لا طين فيه ولا ماء. « لا تخاف دركا ولا تخشى » أي لحاقا من فرعون وجنوده. « ولا تخشى » قال ابن جريج قال أصحاب موسى: هذا فرعون قد أدركنا، وهذا البحر قد غشينا، فأنزل الله تعالى « لا تخاف دركا ولا تخشى » أي لا تخاف دركا من فرعون ولا تخشى غرقا من البحر أن يمسك إن غشيك. وقرأ حمزة « لا تخف » على أنه جواب الأمر. التقدير إن تضرب لهم طريقا في البحر لا تخف. و « لا تخشى » مستأنف على تقدير: ولا أنت تخشى. أو يكون مجزوما والألف مشبعة من فتحة؛ كقوله: « فأضلونا السبيلا » [ الأحزاب: 67 ] أو يكون على حد قول الشاعر:

كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا

على تقدير حذف الحركة كما تحذف حركة الصحيح. وهذا مذهب الفراء. وقال آخر:

هجوت زبان ثم جئت معتذرا من هجو زبان لم تهجو ولم تدع

وقال آخر

ألم يأتيك والأنباء تنمي بما لاقت لبون بني زياد

قال النحاس: وهذا من أقبح الغلط أن يحمل كتاب الله عز وجل على الشذوذ من الشعر؛ وأيضا فإن الذي جاء به من الشعر لا يشبه من الآية شيئا؛ لأن الياء والواو مخالفتان للألف؛ لأنهما تتحركان والألف لا تتحرك، وللشاعر إذا اضطر أن يقدرهما متحركتين ثم تحذف الحركة للجزم، وهذا محال في الألف؛ والقراءة الأولى أبين لأن بعده « ولا تخشى » مجمع عليه بلا جزم؛ وفيها ثلاث تقديرات: الأول أن يكون « لا تخاف » في موضع الحال من المخاطب، التقدير فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا غير خائف ولا خاش. الثاني: أن يكون في موضع النعت للطريق؛ لأنه معطوف على يبس الذي هو صفة، ويكون التقدير لا تخاف فيه؛ فحذف الراجع من الصفة. والثالث: أن يكون منقطعا خبر ابتداء محذوف تقديره وأنت لا تخاف

 

قوله تعالى: « فأتبعهم فرعون بجنوده » أي اتبعهم ومعه جنوده، وقرئ « فاتَّبعهم » بالتشديد فتكون الباء في « بجنوده » عدت الفعل إلى المفعول الثاني؛ لأن اتبع يتعدى إلى مفعول واحد. أي تبعهم ليلحقهم بجنوده أي مع جنوده كما يقال: ركب الأمير بسيفه أي مع سيفه. ومن قطع « فأتبع » يتعدى إلى مفعولين: فيجوز أن تكون الباء زائدة، ويجوز أن يكون اقتصر على مفعول واحد. يقال: تبعه وأتبعه ولحقه وألحقه بمعنى واحد. وقوله: « بجنوده » في موضع الحال؛ كأنه قال: فأتبعهم سائقا جنوده. « فغشيهم من اليم ما غشيهم » أي أصابهم من البحر ما غرقهم، وكرر على معنى التعظيم والمعرفة بالأمر. « وأضل فرعون قومه وما هدى » أي أضلهم عن الرشد وما هداهم إلى خير ولا نجاة؛ لأنه قدر أن موسى عليه السلام ومن معه لا يفوتونه؛ لأن بين أيديهم البحر. فلما ضرب موسى البحر بعصاه أنفلق منه اثنا عشر طريقا وبين الطرق الماء قائما كالجبال. وفي سورة الشعراء « فكان كل فرق كالطود العظيم » أي الجبل الكبير؛ فأخذ كل سبط طريقا. وأوحى الله إلى أطواد الماء أن تشكبي فصارت شبكات برى بعضهم بعضا ويسمع بعضهم كلام بعض، وكان هذا من أعظم المعجزات، وأكبر الآيات، فلما أقبل فرعون ورأى الطرق في البحر والماء قائما أوهمهم أن البحر فعل هذا لهيبته، فدخل هو وأصحابه فانطبق البحر عليهم. وقيل إن قوله: « وما هدى » تأكيد لإضلاله إياهم. وقيل هو جواب قول فرعون « ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد » [ غافر: 29 ] فكذبه الله تعالى. وقال ابن عباس « وما هدى » أي ما هدى نفسه بل أهلك نفسه وقومه.

 

الآيات: 80 - 82 ( يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى، كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى، وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى )

 

قوله تعالى: « يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم » لما أنجاهم من فرعون قال لهم هذا ليشكروا. « وواعدناكم جانب الطور الأيمن » « جانب » نصب على المفعول الثاني « لواعدنا » ولا يحسن أن ينتصب على الظرف؛ لأنه ظرف مكان غير مبهم. وإنما تتعدى الأفعال والمصادر إلى ظروف المكان بغير حرف جر إذا كانت مبهمة. قال مكي هذا أصل لا خلاف فيه؛ وتقدير الآية. وواعدناكم إتيان جانب الطور؛ ثم حذف المضاف. قال النحاس: أي أمرنا موسى أن يأمركم بالخروج معه ليكلمه بحضرتكم فتسمعوا الكلام. وقيل: وعد موسى بعد إغراق فرعون أن يأتي جانب الطور الأيمن فيؤتيه التوراة، فالوعد كان لموسى ولكن خوطبوا به لأن الوعد كان لأجلهم. وقرأ أبو عمرو « ووعدناكم » بغير ألف واختاره أبو عبيد؛ لأن الوعد إنما هو من الله تعالى لموسى خاصة، والمواعدة لا تكون إلا من اثنين. و « الأيمن » نصب؛ لأنه نعت للجانب وليس للجبل يمين ولا شمال، فإذا قيل: خذ عن يمين الجبل فمعناه خذ علي يمينك من الجبل. وكان الجبل على يمين موسى إذ أتاه. « ونزلنا عليكم المن والسلوى » أي في التيه وقد تقدم القول فيه. « كلوا من طيبات ما رزقناكم » أي من لذيذ الرزق. وقيل: إذ لا صنع فيه لآدمي فتدخله شبهة. « ولا تطغوا فيه » أي لا تحملنكم السعة والعافية أن تعصوا؛ لأن الطغيان التجاوز إلى ما لا يجوز. وقيل: المعنى؛ أي لا تكفروا النعمة ولا تنسوا شكر المنعم بها عليكم. وقيل: أي ولا تستبدلوا بها شيئا أخر كما قال: « أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير » [ البقرة: 61 ] وقيل: لا تدخروا منه لأكثر من يوم وليله؛ قال ابن عباس: فيتدود عليه ما ادخروه؛ ولولا ذلك ما تدود طعام أبدا. « فيحل عليكم غضبي » أي يجب وينزل، وهو منصوب بالفاء في جواب النهي من قوله: « ولا تطغوا » . فيحل عليكم غضبى قرأ الأعمش ويحيى بن وثاب والكسائي « فيحُل » بضم الحاء. « ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى » قرأ الأعمش ويحيى بن وثاب والكسائي « ومن يحلل » بضم اللام الأولى. والباقون بالكسر وهما لغتان. وحكى أبو عبيده وغيره: أنه يقال حل يحل إذا وجب وحل يحل إذا نزل. وكذا قال الفراء: الضم من الحلول بمعنى الوقوع والكسر من الوجوب. والمعنيان متقاربان إلا أن الكسر أولى؛ لأنهم قد أجمعوا على قوله: « ويحل عليه عذاب مقيم » [ هود: 39 ] . وغضب الله عقابه ونقمته وعذابه. « فقد هوى » قال الزجاج: فقد هلك؛ أي صار إلى الهاوية وهي قعر النار، من هوى يهوي هويا أي سقط من علو إلى سفل، وهوى فلان أي مات. وذكر ابن المبارك: أخبرنا إسماعيل بن عياش قال حدثنا ثعلبة بن مسلم عن أيوب بن بشير عن شفي الأصبحي قال: إن في جهنم جبلا يدعى صعودا يطلع فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يرقاه؛ قال الله تعالى: « سأرهقه صعودا » [ المدثر: 17 ] وإن في جهنم قصرا يقال له هوى يرمى الكافر من أعلاه فيهوي أربعين خريفا قبل أن يبلغ أصله قال الله تعالى « ومن يحلل عليه فقد هوى » وذكر الحديث؛ وقد ذكرناه في كتاب « التذكرة » .

 

قوله تعالى: « وإني لغفار لمن تاب » أي من الشرك. « وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى » أي أقام علي إيمانه حتى مات عليه؛ قال سفيان الثوري وقتادة وغيرهما. وقال ابن عباس: أي لم يشك في إيمانه؛ ذكره الماوردي والمهدوي. وقال سهل بن عبدالله التستري وابن عباس أيضا: أقام على السنة والجماعة؛ ذكره الثعلبي. وقال أنس: أخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ذكر المهدوي، وحكاه الماوردي عن الربيع بن أنس. وقول خامس: أصاب العمل؛ قال ابن زيد؛ وعنه أيضا تعلم العلم ليهتدي كيف يفعل؛ ذكر الأول المهدوي، والثاني الثعلبي. وقال الشعبي ومقاتل والكلبي: علم أن ثوابا وعليه عقابا؛ وقاله الفراء: وقول ثامن: « ثم اهتدى » في ولاية أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ قاله ثابت البناني. والقول الأول أحسن هذه الأقوال - إن شاء الله - وإليه يرجع سائرها. قال وكيع عن سفيان: كنا نسمع في قوله عز وجل: « وإني لغفار لمن تاب » أي من الشرك « وآمن » أي بعد الشرك « وعمل صالحا » صلى وصام « ثم اهتدى » مات على ذلك.

 

الآيتان: 83 - 84 ( وما أعجلك عن قومك يا موسى، قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى )

 

قوله تعالى: « وما أعجلك عن قومك يا موسى » أي ما حملك على أن تسبقهم. قيل: عنى بالقوم جميع بني إسرائيل؛ فعلى هذا قيل: استخلف هارون على بني إسرائيل، وخرج معه بسبعين رجلا للميقات فقوله: « قال هم أولاء على أثري » ليس يريد أنهم يسيرون خلفه متوجهين إليه، بل أراد أنهم بالقرب مني ينتظرون عودي إليهم. وقيل: لا بل كان أمر هارون بأن يتبع في بني إسرائيل أثره ويلتحقوا به. وقال قوم: أراد بالقوم السبعين الذين اختارهم، وكان موسى لما قرب من الطور سبقهم شوقا إلى سماع كلام الله. وقيل: لما وفد إلى طور سينا بالوعد اشتاق إلى ربه وطالت عليه المسافة من شدة الشوق إلى الله تعالى، فضاق به الأمر شق قميصه، ثم لم يصبر حتى خلفهم ومضى وحده؛ فلما وقف في مقامه قال الله تبارك وتعالى: « ما أعجلك عن قومك يا موسى » فبقي صلى الله عليه وسلم متحيرا عن الجواب وكنى عنه بقوله: « هم أولاء على أثري » وإنما سأله السبب الذي أعجله يقوله « ما » فأخبر عن مجيئهم بالأثر. « وعجلت إليك رب لترضى » فكنى عن ذكر الشوق وصدقه إلى ابتغاء الرضا. ذكر عبدالرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: « وعجلت إليك رب لترضى » قال: شوقا. وكانت عائشة رضي الله عنها إذا آوت إلى فراشها تقول: هاتوا المجيد. فتؤتى بالمصحف فتأخذه في صدرها وتنام معه تتسلى بذلك؛ رواه سفيان عن معسر عائشة رضي الله عنها. وكان عليه الصلاة والسلام إذا أمطرت السماء خلع ثيابه وتجرد حتى يصيبه المطر ويقول: « إنه حديث عهد بربي » فهذا من الرسول صلى الله عليه وسلم وممن بعده من قبيل الشوق؛ ولذلك قال الله تبارك اسمه فيما يروى عنه: « طال شوق الأبرار إلى لقائي وأنا إلى لقائهم أشوق » . قال ابن عباس: كان الله عالما ولكن قال « وما أعجلك عن قومك » رحمة لموسى، وإكراما له بهذا القول، وتسكينا لقلبه، ورقة عليه؛ فقال مجيبا لربه: « هم أولاء على أثري » . قال أبو حاتم قال عيسى: بنو تميم يقولون: « هم أولى » مقصورة مرسلة، وأهل الحجاز يقولون « أولاء » ممدودة. وحكى الفراء « هم أولاء على أثري » وزعم أبو إسحاق الزجاج: أن هذا لا وجه له. قال النحاس وهو كما قال: لأن هذا ليس مما يضاف فيكون مثل هداي. ولا يخلو من إحدى جهتين: إما أن يكون اسما مبهما فإضافته محال؛ وإما أن يكون بمعنى الذين فلا يضاف أيضا؛ لأن ما بعده من تمامه وهو معرفة. وقرأ ابن أبي إسحاق ونصر ورويس عن يعقوب « على إثري » بكسر الهمزة وإسكان الثاء وهو بمعنى أثر، لغتان. « وعجلت إليك رب لترضى » أ عجلت إلى الموضع الذي أمرتني بالمصير إليه لترضى عني. يقال: رجل عجل وعجل وعجول وعجلان بين العجلة؛ والعجلة خلاف البطء.

 

الآية: 85 ( قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري )

 

قوله تعالى: « قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك » أي اختبرناهم وامتحناهم بأن يستدلوا على الله عز وجل. « وأضلهم السامري » أي دعاهم إلى الضلالة أو هو سببها. وقيل: فتناهم ألقيناهم في الفتنة: أي زينا لهم عبادة العجل؛ ولهذا قال موسى: « إن هي إلا فتنتك » [ الأعراف: 155 ] . قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان السامري من قوم يعبدون البقر، فوقع بأرض مصر فدخل في دين بني إسرائيل بظاهره، وفي قلبه ما فيه من عبادة البقر. وقيل: كان رجلا من القبط، وكان جارا لموسى أمن به وخرج معه. وقيل: كان عظيما من عظماء بني إسرائيل، من قبيلة تعرف بالسامرة وهم معروفون بالشام. قال سعيد بن جبير: كان من أهل كرمان.

الآية [ 86 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات: 86 - 89 ( فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي، قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري، فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي، أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا )

 

قوله تعالى: « فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا » حال وقد مضى في « الأعراف » . « قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا » وعدهم عز وجل الجنة إذا أقاموا على طاعته، ووعدهم أنه يسمعهم كلامه، في التوراة على لسان موسى؛ ليعملوا بما فيها فيستحقوا ثواب عملهم. وقيل: وعدهم النصر والظفر. وقيل: وعده قوله: « وإني لغفار لمن تاب وآمن » الآية. « أفطال عليكم العهد » أي أفنسيتم؛ كما قيل؛ والشيء قد ينسى لطول العهد. « أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم » « يحل » أي يجب وينزل. والغضب العقوبة والنقمة. والمعنى أم أردتم أن تفعلوا فعلا يكون سبب حلول غضب الله بكم؛ لأن أحدا لا يطلب غضب الله، بل قد يرتكب ما يكون سببا للغضب. « فأخلفتم موعدي » لأنهم وعدوه أن يقيموا على طاعة الله عز وجل إلى أن يرجع إليهم من الطور. وقيل: وعدهم على أثره للميقات فتوقفوا. « قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا » بفتح الميم، وهي قراءة نافع وعاصم وعيسى بن عمر. قال مجاهد والسدي: ومعناه بطاقتنا. ابن زيد: لم نملك أنفسنا أي كنا مضطرين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر « بملكنا » بكسر الميم. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لأنها اللغة العالية. وهو مصدر ملكت الشيء أملكه ملكا. والمصدر مضاف إلى الفاعل والمفعول محذوف؛ كأنه قال: بملكنا الصواب بل أخطأنا فهو اعتراف منهم بالخطأ. وقرأ حمزة والكسائي « بملكنا » بضم الميم والمعنى بسلطاننا. أي لم يكن لنا ملك فنخلف موعدك. ثم قيل قوله: « قالوا » عام يراد به الخاص، أي قال الذين ثبتوا على طاعة الله إلى أن يرجع إليهم من الطور: « ما أخلفنا موعدك بملكنا » وكانوا اثني عشر ألفا وكان جميع بني إسرائيل ستمائة ألف.

 

قوله تعالى: « ولكنا حملنا » بضم الحاء وتشديد الميم مكسورة؛ قرأه نافع وابن كثير وابن عامر وحفص ورويس. الباقون بفتح الحرفين خفيفة. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لأنهم حملوا حلي القوم معهم وما حملوه كرها. « أوزارا » أي أثقالا « من زينة القوم » أي من حليهم؛ وكانوا استعاره حين حين أرادوا الخروج مع موسى عليه السلام، وأوهموهم أنهم يجتمعون في عيد لهم أو وليمة. وقيل: هو ما أخذوه من آل فرعون، لما قذفهم البحر إلى الساحل. وسميت أوزارا بسبب أنها كانت آثاما. أي لم يحل لهم أخذها ولم تحل لهم الغنائم، وأيضا فالأوزار هي الأثقال في اللغة. « فقذفناها فكذلك ألقى السامري » أي ثقل علينا حمل ما كان معنا من الحلي فقذفناه في النار ليذوب، أي طرحناه فيها. وقيل: طرحناه إلى السامري لترجع فترى فيها رأيك. « فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار » قال قتادة: إن السامري قال لهم حين استبطأ القوم موسى: إنما احتبس عليكم من أجل ما عندكم من الحلي؛ فجمعوه ودفعوه إلى السامري فرمى به في النار وصاغ لهم منه عجلا، ثم ألقى عليه قبضة من أثر فرس الرسول وهو جبريل عليه السلام. وقال معمر: الفرس الذي كان عليه جبريل هو الحياة، فلما ألقى عليه القبضة صار عجلا جسدا له خوار. والخوار صوت البقر. وقال ابن عباس: لما انسكبت الحلي في النار، جاء السامري وقال لهارون: يا نبي الله أؤلقي ما في يدي - وهو يظن أنه كبعض ما جاء به غيره من الحلي - فقذف التراب فيه، وقال: كن عجلا جسدا له خوار؛ فكان كما قال للبلاء والفتنة؛ فخار خورة واحدة لم يتبعها مثلها. وقيل: خواره وصوته كان بالريح؛ لأنه كان عمل فيه خروقا فإذا دخلت الريح في جوفه خار ولم تكن فيه حياة. وهذا قول مجاهد. وعلى القول الأول كان عجلا من لحم ودم، وهو قول الحسن وقتادة والسدي. وروى حماد عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: مر هارون بالسامري وهو يصنع العجل فقال: ما هذا؟ فقال: ينفع ولا يضر؛ فقال: اللهم أعطه ما سألك على ما في نفسه؛ فقال: اللهم إني أسألك أن يخور. وكان إذا خار سجدوا، وكان الخوار من دعوة هارون. قال ابن عباس: خار كما يخور الحي من العجول. وروى أن موسى قال: يا رب هذا السامري أخرج لهم عجلا جسدا له خوار من حليهم، فمن جعل الجسد والخوار؟ قال الله تبارك وتعالى: أنا. قال موسى صلى الله عليه وسلم: وعزتك وجلالك وارتفاعك وعلوك وسلطانك ما أضلهم غيرك. قال: صدقت يا حكيم الحكماء. وقد تقدم. « فقالوا هذا إلهكم وإله موسى » أي قال السامري ومن تبعه وكانوا ميالين إلى الشبيه؛ إذا قالوا « اجعل لنا إلها كما لهم إله » . « الأعراف 138 » « فنسي » أي فضل موسى [ وذهب ] بطلبه فلم يعلم مكانه، وأخطأ الطريق إلى ربه. وقيل معناه: فتركه موسى هنا وخرج يطلبه. أي ترك موسى إلهه هنا. وروى إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: أي فنسي موسى أن يذكر لكم أنه إلهه. وقيل: الخطاب خبر عن السامري. أي ترك السامري ما أمره به موسى من الإيمان فضل؛ قاله ابن العربي. « أفلا يرون » فقال الله تعالى محتجا عليهم: « أفلا يرون » أي يعتبرون ويتفكرون في « أنـ » ـه « لا يرجع إليهم قولا » أي لا يكلمهم. وقيل: لا يعود إلى الخوار والصوت. « ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا » فكيف يكون إلها؟ والذي يعبده موسى صلى الله عليه وسلم وينفع ويثيب ويعطي ويمنع. « أن لا يرجع » تقديره أنه لا يرجع فلذلك ارتفع الفعل فخففت « أن » وحذف الضمير. وهو الاختيار في الرؤية والعلم والظن. قال

في فتية من سيوف الهند قد علموا أن هالك كل من يحفى وينتعل

وقد يحذف مع التشديد؛ قال

فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي ولكن زنجي عظيم المشافر

أي ولكنك.

 

الآيات: 90 - 93 ( ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري، قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى، قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا، ألا تتبعن أفعصيت أمري )

 

قوله تعالى: « ولقد قال لهم هارون من قبل » أي من قبل أن يأتي موسى ويرجع إليهم « يا قوم إنما فتنتم به » أي ابتليتم وأضللتم به؛ أي بالعجل. « وإن ربكم الرحمن » لا العجل. « فاتبعوني » في عبادته. « وأطيعوا أمري » لا أمر السامري. أو فاتبعوني في مسيري إلى موسى ودعوا العجل. فعصوه و « قالوا لن نبرح عليه عاكفين » أي لن نزال مقيمين على عبادة العجل. « حتى يرجع إلينا موسى » فينظر هل يعبده كما عبدناه؛ فتوهموا أن موسى يعبد العجل، فاعتزلهم هارون في اثني عشر ألفا من الذين لم يعبدوا العجل، فلما رجع موسى وسمع الصياح والجلبة وكانوا يرقصون حول العجل قال لسبعين معه هذا صوت الفتنة؛ فلما رأى هارون أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله غضبا و « قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا » أي أخطؤوا الطريق وكفروا. « ألا تتبعن » « لا » زائدة أي أن تتبع أمري ووصيتي. وقيل: ما منعك عن اتباعي في الإنكار عليهم. وقيل: معناه هلا قاتلتهم إذ قد علمت أني لو كنت بينهم لقاتلتهم على كفرهم. وقيل: ما منعك من اللحوق بي لما فتنوا. « أفعصيت أمري » يريد أن مقامك بينهم وقد عبدوا غير الله تعالى عصيان منك لي؛ قال ابن عباس. وقيل: معناه هلا فارقتهم فتكون مفارقتك إياهم تقريعا لهم وزجرا. ومعنى: « أفعصيت أمري » قيل: إن أمره ما حكاه الله تعالى عنه « وقال موسى لأخيه هارون أخلفني في قومي وأصلح ولا متبع سبيل المفسدين » [ الأعراف 142 ] ، فلما أقام معهم ولم يبالغ في منعهم والإنكار عليهم نسبه إلى عصيانه ومخالفة أمره.

مسألة: وهذا كله أصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتغييره ومفارقة أهله، وأن المقيم بينهم لا سيما إذا كان راضيا حكمه كحكمهم. وقد تقدم. وسئل الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله: ما يقول سيدنا الفقيه في مذهب الصوفية؟ وأعلم - حرس الله مدته - أنه اجتمع جماعة من رجال، فيكثرون من ذكر الله تعالى، وذكر محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إنهم يوقعون بالقضيب على شيء من الأديم، ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشيا عليه، ويحضرون شيئا يأكلونه. هل الحضور معهم جائز أم لا؟ أفتونا مأجورين، وهذا القول الذي يذكرونه:

يا شيخ كف عن الذنوب قبل التفرق والزلل

واعمل لنفسك صالحا ما دام ينفعك العمل

أما الشباب فقد مضى ومشيب رأسك قد نزل

وفي مثل هذا نحوه. الجواب - يرحمك الله - مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسول، وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري، لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون؛ فهو دين الكفار وعباد العجل؛ وأما القضيب فأول من اتخذه الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله تعالى؛ وإنما كان يجلس النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه كأنما على رؤوسهم الطير من الوقار؛ فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعهم عن الحضور في المساجد وغيرها؛ ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم، ولا يعينهم على باطلهم؛ هذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة المسلمين وبالله التوفيق.

 

الآيات: 94 - 96 ( قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي، قال فما خطبك يا سامري، قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي )

 

قوله تعالى: « قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي » ابن عباس: أخذ شعره بيمينه ولحيته بيساره؛ لأن الغيرة في الله ملكته؛ أي لا تفعل هذا فيتوهموا أنه منك استخفاف أو عقوبة. وقد وقيل: إن موسى عليه السلام إنما فعل هذا على غيرا ولا عقوبة كما يأخذ الإنسان بلحية نفسه. وقد مضى هذا في « الأعراف » مستوفى. « إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل » أي خشيت أن أخرج وأتركهم وقد أمرتني أن أخرج معهم فلو خرجت لا تبعني قوم ويتخلف مع العجل قوم؛ وربما أدى الأمر إلى سفك الدماء؛ وخشيت إن زجرتهم أن يقع قتال فتلومني على ذلك. وهذا جواب هارون لموسى السلام عن قوله « أفعصيت أمري » وفي الأعراف « إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء » [ الأعراف: 150 ] لأنك أمرتني أن أكون معهم. وقد تقدم. ومعنى « ولم ترقب قولي » لم تعمل بوصيتي في حفظه؛ قاله مقاتل. وقال أبو عبيدة: لم تنظر عهدي وقدومي. فتركه موسى ثم أقبل على السامري فـ « قال فما خطبك يا سامري » أي، ما أمرك وشأنك، وما الذي حملك على ما صنعت؟ قال قتادة: كان السامري عظيما في بني إسرائيل من قبيلة يقال لها سامرة ولكن عدو الله نافق بعد ما قطع البحر مع موسى، فلما مرت بنو إسرائيل بالعمالقة وهم يعكفون على أصنام لهم « قالوا يا موسى أجعل لنا إلها كما لهم آلهة » [ الأعراف: 138 ] فاغتنمها السامري وعلم أنهم يميلون إلى عبادة العجل فاتخذ العجل. فـ « قال بصرت بما لم يبصروا به » « قال » السامري مجيبا لموسى « قال بصرت بما لم يبصروا به » بعني: رأيت ما لم يروا؛ رأيت جبريل عليه السلام على فرس الحياة، فألقى في نفسي أن أقبض من أثره قبضة، فما ألقيته على شيء إلا صار له روح ولحم؛ ودم فلما سألوك أن تجحل لهم إلها زينت لي نفسي ذلك. وقال علي رضي الله عنه: لما نزل جبريل ليصعد بموسى عليه السلام، إلى السماء، وأبصره السامري من بين الناس فقبض قبضة من أثر الفرس. وقيل قال السامري رأيت جبريل على الفرس وهى تلقي خطوها مد البصر فألقي في نفسي أن أقبض من أثرها فما ألقيته على شيء إلا صار له روح ودم. وقيل: رأى جبريل يوم نزل على رمكة وديق، فتقدم خيل فرعون في ورود البحر. ويقال: إن أم السامري جعلته حين وضعته في غار خوفا من أن يقتله فرعون؛ فجاءه جبريل عليه السلام، فجعل كف السامري في فم السامري، فرضع العسل واللبن فاختلف إليه فعرفه من حينئذ. وقد تقدم هذا المعنى في « الأعراف » . ويقال: إن السامري سمع كلام موسى عليه السلام، حيث عمل تمثالين من شمع أحدهما ثور والآخر فرس فألقاهما في النيل طلب قبر يوسف عليه السلام وكان في تابوت من حجر في النيل فأتى به الثور على قرنه، فتكلم السامري بذلك الكلام الذي سمعه من موسى، وألقى القبضة في جوف العجل فخار. وقرأ حمزة والكسائي والأعمش وخلف « بما لم تبصروا » بالتاء على الخطاب. الباقون بالياء على الخبر.

 

قوله تعالى: « فقبضت قبضة من أثر الرسول » وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود والحسن وقتادة « فقبصت قبصة » بصاد غير معجمة. وروي عن الحسن ضم القاف من « قبصة » والصاد غير معجمة. الباقون: بالضاد المعجمة. والفرق بينهما أن القبض بجميع الكف، والقبص بأطراف الأصابع، ونحوهما الخضم والقضم، والقبضة بضم القاف القدر المقبوض؛ ذكره المهدوي. ولم يذكر الجوهري « قبصة » بضم القاف والصاد غير معجمة، وإنما ذكر « القبضة » بضم القاف والضاد المعجمة وهو ما قبضت عليه من شيء؛ يقال: أعطاه قبضة من سويق أو تمر أي كفا منه، وربما جاء بالفتح. قال: والقبض بكسر القاف والصاد غير المعجمة العدد الكثير من الناس؛ قال الكميت

لكم مسجدا الله المزوران والحصى لكم قبصه من بين أثرى وأقترى

« فنبذتها » أي طرحتها في العجل. « وكذلك سولت لي نفسي » أي زينته؛ قاله الأخفش. وقال ابن زيد: حدثتني نفسي. والمعنى متقارب.

 

الآيتان: 97 - 98 ( قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا، إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما )

 

قوله تعالى: « قال فاذهب » أي قال له موسى فاذهب أي من بيننا « فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس » أي لا أمس ولا أمس طول الحياة. فنفاه موسى عن قومه وأمر بني إسرائيل ألا يخالطوه ولا يقربوه ولا يكلموه عقوبة له. قال الشاعر:

تميم كرهط السامري وقوله ألا لا يريد السامري مساسا

قال الحسن جعل الله عقوبة السامري ألا يماس الناس ولا يماسوه عقوبة له ولمن كان منه إلى يوم القيامة؛ وكأن الله عز وجل شدد عليه المحنة، بأن جعله لا يماس أحدا ولا يمكن من أن يمسه أحد، وجعل ذلك عقوبة له في الدنيا. ويقال: ابتلى بالوسواس وأصل الوسواس من ذلك الوقت. وقال قتادة: بقاياهم إلى اليوم يقولون ذلك - لا مساس - وإن مس واحد من غيرهم أحدا منهم حم كلاهما في الوقت. ويقال: إن موسى هم بقتل السامري، فقال الله تعالى له: لا تقتله فإنه سخي. ويقال لما قال له موسى: « فاذهب فإن في الحياة أن تقول لا مساس » خاف فهرب فجعل يهيم في البرية مع السباع والوحشي، لا يجد أحدا من الناس يمسه حتى صار كالقائل لا مساس؛ لبعده عن الناس وبعد الناس عنه؛ كما قال الشاعر:

حمال رايات بها قناعسا حتى تقول الأزد لا مسابسا

مسألة: هذه الآية أصل في نفي أهل البدع والمعاصي وهجرانهم وألا يخالطوا، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بكعب بن مالك والثلاثة الذين خلفوا. ومن التجأ إلى الحرم وعليه قتل لا يقتل عند بعض الفقهاء، ولكن لا يعامل ولا يبايع ولا يشارى، وهو إرهاق إلى الخروج. ومن هذا القبيل التغريب في حد الزنى، وقد تقدم جميع هذا كله في موضعه، فلا معنى لإعادته. والحمد لله وحده. وقال هارون القارئ: ولغة العرب لا مساس بكسر السين وفتح الميم، وقد تكلم النحويون فيه؛ فقال سيبويه: هو مبني على الكسر كما يقال اضرب الرجل. وقال أبو إسحاق: لا مساس نفي وكسرت السين لأن الكسرة من علامة التأنيث؛ تقول فعلت يا امرأة. قال النحاس وسمعت علي بن سليمان يقول سمعت محمد بن يزيد يقول: إذا اعتل الشيء من ثلاث جهات وجب أن يبني، وإذا اعتل من جهتين وجب ألا ينصرف؛ لأنه ليس بعد ترك الصرف إلا البناء؛ فمساس ودراك اعتل من ثلاث جهات: منها أنه معدول، ومنها أنه مؤنث، وأنه معرفة؛ فلما وجب البناء فيه وكانت الألف قبل السين ساكنة كسرت السين لالتقاء الساكنين؛ كما تقول اضرب الرجل. ورأيت أبا إسحاق يذهب إلى أن هذا القول خطأ، وألزم أبا العباس إذا سمى امرأة بفرعون يبنيه، وهذا لا يقول أحد. وقال الجوهري في الصحاح: وأما قول العرب لا مساس مثال قطام فإنما بني على الكسر لأنه معدول عن المصدر وهو المس. وقرأ أبو حيوة « لا مساس » . « وإن لك موعدا لن تخلفه » يعني يوم القيامة. والموعد مصدر؛ أي إن لك وعدا لعذابك. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو « تخلفه » بكسر اللام وله معنيان: أحدهما: ستأتيه ولن تجده مخلفا؛ كما تقول: أحمدته أي وجدته محمودا. والثاني: على التهديد أي لا بد لك من أن تصير إليه. والباقون بفتح اللام؛ بمعنى: إن الله لن يخلفك إياه.

 

قوله تعالى: « وانظر إلى إلهك الذي ظللت عليه عاكفا » أي دمت وأقمت عليه. « عاكفا » أي ملازما؛ وأصله ظللت؛ قال:

خلا أن العتاق من المطايا أحسن به فهن أليه شوس

أي أحسن. وكذلك قرأ الأعمش بلامين على الأصل. وفي قراءة ابن مسعود « ظلت » بكسر الظاء. يقال: ظللت أفعل كذا إذا فعلته نهارا وظلت وظلت؛ فمن قال: ظلت حذف اللام الأولى تخفيفا؛ ومن قال: ظلت ألقى حركة اللام على الظاء. « لنحرقنه » قراءة العامة بضم النون وشد الراء من حرق يحرق. وقرأ الحسن وغيره بضم النون وسكون الحاء وتخفيف الراء من أحرقه يحرقه. وقرأ علي وابن عباس وأبو جعفر وابن محيصن وأشهب العقيلي « لنحرقنه » بفتح النون وضم الراء خفيفة، من حرقت الشيء أحرقه حرقا بردته وحككت بعضه ببعض، ومنه قولهم: حرق نابه يحرقه ويحرقه أي سحقه حتى سمع له صريف؛ فمعنى هذه القراءة لنبردنه بالمبارد، ويقال للمبرد المحرق. والقراءتان الأوليان معناهما الحرق بالنار. وقد يمكن جمع ذلك فيه؛ قال السدي: ذبح العجل فسال منه كما يسيل من العجل إذا ذبح، ثم برد عظامه بالمبر حرقه وفي حرقه ابن مسعود « لنذبحنه ثم لنحرقنه » واللحم والدم إذا أحرقا صارا رمادا تذريته في اليم فأما الذهب فلا يصير رمادا وقيل عرف موسى ما صير به الذهب رمادا، وكان ذلك من آياته. ومعنى « لننسفنه » لنطيرنه. وقر أبو رجاء « لننسفنه » بضم السين لغتان، والنسف نفض الشيء ليذهب به الريح وهو التذرية، والمنسف ما ينسف به الطعام؛ وهو شيء متصوب الصدر أعلاه مرتفع، والنسافة ما يسقط منه؛ يقال: اعزل النسافة وكل من الخالص. ويقال: أتانا فلان كأن لحيته منسف؛ حكاه أبو نصر أحمد بن حاتم. والمنسفة آلة يقلع بها البناء، ونسفت البناء نسفا قلعته، ونسفت البعير الكلأ ينسفه بالكسر إذا اقتلعه بأصله، وانتسفت الشيء اقتلعته؛ عن أبي زيد. « إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما » لا العجل؛ أي وسع كل شيء علمه؛ يفعل الفعل عن العلم؛ ونصب على التفسير. وقرأ مجاهد وقتادة « وسع كل شيء علما » .

 

الآيات: 99 - 101 ( كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا، من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا، خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا )

 

قوله تعالى: « كذلك » الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف. أي كما قصصنا عليك خبر موسى « كذلك نقص عليك » قصصا كذلك من أخبار ما قد سبق؛ ليكون تسلية لك، وليدل على صدقك. « وقد آتيناك من لدنا ذكرا » يعني القرآن. وسمي القرآن ذكرا؛ لما فيه من الذكر كما سمي الرسول ذكرا؛ الذكر كان ينزل عليه. وقيل: « أتيناك من لدنا ذكرا » أي شرفا، كما قال تعالى « وإنه لذكر لك » [ الزخرف: 44 ] أي شرف وتنويه باسمك. « من أعرض عنه » أي القرآن فلم يؤمن به، ولم يعمل بما فيه « فإنه يحمل يوم القيامة وزرا » أي إثما عظيما وحملا ثقيلا. « خالدين فيه » يريد مقيمين فيه؛ أي في جزائه وجزاؤه جهنم. « وساء لهم يوم القيامة حملا » يريد بئس الحمل حملوه يوم القيامة. وقرأ داود بن رفيع « فإنه يحمل » .

 

الآيات: 102 - 104 ( يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا، يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا، نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما )

 

قوله تعالى: « يوم ينفخ في الصور » قراءة العامة « ينفخ » بضم الياء على الفعل المجهول. وقرأ أبو عمرو وابن إسحاق بنون مسمى الفاعل. واستدل أبو عمرو بقوله تعالى: « ونحشر المجرمين » بنون.

وعن ابن هرمز « ينفخ » بفتح الياء أي ينفخ إسرافيل. أبو عياض: « في الصُّوَرِ » . الباقون « في الصُّورِ » وقد تقدم. وقرأ طلحة بن مصرف « ويحشر » بضم الياء المجرمون رفعا بخلاف المصحف. والباقون « ونحشر المجرمين » أي المشركين. « يومئذ زرقا » حال من المجرمين، والزرق خلاف الكحل. والعرب تتشاءم بزرق العيون وتذمه؛ أي تشوه خلقتهم بزرقة عيونهم وسواد وجوههم. وقال الكلبي والفراء: « زرقا » أي عميا. وقال الأزهري: عطاشا قد ازرقت أعينهم من شدة العطش؛ وقاله الزجاج؛ قال: لأن سواد العين يتغير ويزرق من العطش. وقيل: إنه الطمع الكاذب إذا تعقبته الخيبة، يقال: ابيضت عيني لطول انتظاري لكذا. وقول خامس: إن المراد بالزرقة شخوص البصر من شدة الخوف؛ قال الشاعر:

لقد زرقت عيناك يا ابن مكعبر كما كل ضبي من اللؤم أزرق

يقال: رجل أزرق العين، والمرأة زرقاء بينة الزرق. والاسم الزرقة. وقد زرقت عينه بالكسر وازرقت عينه ازرقاقا، وازرقت عينه ازريقاقا. وقال سعيد بن جبير: قيل لابن عباس في قوله: « ونحشر المجرمين يومئذ زرقا » وقال في موضع آخر: « ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما » [ الإسراء: 97 ] فقال: إن ليوم القيامة حالات؛ فحالة يكونون فيه زرقا، وحالة عميا. « يتخافتون بينهم » أصل الخفت في اللغة السكون، ثم قيل لمن خفض صوته خفته. يتسارون؛ قاله مجاهد؛ أي يقولون بعضهم لبعض في الموقف سرا. « إن لبثتم » أي ما لبثتم يعني في الدنيا، وقيل في القبور « إلا عشرا » يريد عشر ليال. وقيل: أراد ما بين النفختين وهو أربعون سنة؛ يرفع العذاب في تلك المدة عن الكفار - في قول ابن عباس - فيستقصرون تلك المدة. أو مدة مقامهم في الدنيا لشدة ما يرون من أهوال يوم القيامة؛ ويخيل إلى أمثلهم أي أعدلهم قولا وأعقلهم وأعلمهم عند نفسه أنهم ما لبثوا إلا يوما واحدا يعني لبثهم في الدنيا؛ عن قتادة؛ فالتقدير: إلا مثل يوم. وقيل: إنهم من شدة هول المطلع نسوا ما كانوا فيه من نعيم الدنيا رأوه كيوم. وقيل: أراد بيوم لبثهم ما بين النفختين، أو لبثهم في القبور على ما تقدم. « وعشرا » و « يوما » منصوبان بـ « لبثتم » .

 

الآيات: 105 - 107 ( ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا، فيذرها قاعا صفصفا، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا )

 

قوله تعالى: « ويسألونك عن الجبال » أي عن حال الجبال يوم القيامة. « فقل » جاء هذا بفاء وكل سؤال في القرآن « قل » بغير فاء إلا هذا، لأن المعنى إن سألوك عن الجبال فقل، فتضمن الكلام معنى الشرط وقد علم الله أنهم يسألونه عنها، فأجابهم قبل السؤال، وتلك أسئلة تقدمت سألوا عنها النبي صلى الله عليه وسلم فجاء الجواب عقب السؤال؛ فلذلك كان بغير فاء، وهذا سؤال لم يسألوه عنه بعد؛ فتفهمه. « ينسفها ربي نسفا » يطيرها. « نسفا » قال ابن الأعرابي وغيره: يقلعها قلعا من أصولها ثم يصيرها رملا يسيل سيلا، ثم يصيرها كالصوف المنفوش تطيرها الرياح هكذا وهكذا قال: ولا يكون العهن من الصوف إلا المصبوغ، ثم كالهباء المنثور. « فيذرها » أي يذر مواضعها « قاعا صفصفا » القاع الأرض الملساء بلا نبات ولا بناء؛ قاله ابن الأعرابي. وقال الجوهري: والقاع المستوي من الأرض والجمع أقوع وأقواع وقيعان صارت الواو ياء لكسر ما قبلها. وقال الفراء: القاع مستنقع الماء والصفصف القرعاء. الكلبي: هو الذي لا نبات فيه. وقيل: المستوي من الأرض كأنه على صف واحد في استوائه؛ قاله مجاهد. والمعنى واحد في القاع والصفصف؛ فالقاع الموضع المنكشف، والصفصف المستوي الأملس. وأنشد سيبويه

وكم دون بينك من صفصف ودكداك رمل وأعقادها

و « قاعا » نصب على الحال والصفصف. و « لا ترى » في موضع الصفة. « فيها عوجا » قال ابن الأعرابي: العوج التعوج في الفجاج. والأمت النبك. وقال أبو عمرو: الأمت النباك وهي التلال الصغار واحدها نبك؛ أي هي أرض مستوية انخفاض فيها ولا ارتفاع. تقول: امتلأ فما به أمت، وملأت القربة ملئا لا أمت فيه؛ أي لا استرخاء فيه. والأمت في اللغة المكان المرتفع. وقال ابن عباس: « عوجا » ميلا. قال: والأمت الأثر مثل الشراك. عنه أيضا « عوجا » « ولا أمتا » رابية. وعنه أيضا: العوج [ الانخفاض ] والأمت الارتفاع. وقال قتادة: « عوجا » صدعا. « ولا أمتا » أي أكمة. وقال يمانك الأمت الشقوق في الأرض. وقيل: الأمت أن يغلظ مكان في الفضاء أو الجبل ويدق في مكان؛ حكاه الصولي.

قلت: وهذه الآية تدخل في باب الرقي؛ ترقى بها الثآليل وهي التي تسمى عندنا « بالبراريق » واحدها « بروقة » ؛ تطلع في الجسد وخاصة في اليد: تأخذ ثلاثة أعواد من تبن الشعير، يكون في طرف كل عود عقدة، تمر كل عقدة على الثآليل وتقرأ الآية مرة، ثم تدفن الأعواد في مكان ندي؛ تعفن وتعفن الثآليل فلا يبقى لها أثر؛ جربت ذلك نفسي وفي غيري فوجدته نافعا إن شاء الله تعالى.

 

الآيات: 108 - 110 ( يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا، يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما )

 

قوله تعالى: « يومئذ يتبعون الداعي » يريد إسرافيل عليه السلام إذا نفخ في الصور « لا عوج له » أي لا معدل لهم عنه؛ أي عن دعائه لا يزيغون ولا ينحرفون بل يسرعون إليه ولا يحيدون عنه. وعلى هذا أكثر العلماء. وقيل: « لا عوج له » أي لدعائه. وقيل: يتبعون الداعي اتباعا لا عوج له؛ فالمصدر مضمر؛ والمعنى: يتبعون صوت الداعي للمحشر؛ نظيره: « واستمع يوم يناد المنادي من مكان قريب » [ ق: 41 ] الآية. وسيأتي. « وخشعت الأصوات » أي ذلت وسكنت؛ عن ابن عباس قال: لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع، فكل لسان ساكت هناك للهيبة. « للرحمن » أي من أجله. « فلا تسمع إلا همسا » الهمس الصوت الخفي؛ قاله مجاهد. عن ابن عباس: الحس الخفي. الحسن وابن جريج: هو صوت وقع الأقدام بعضها على بعض إلى المحشر؛ ومنه قول الراجز:

وهن يمشين بنا هميسا

يعني صوت أخفاف الإبل في سيرها. ويقال للأسد الهموس؛ لأنه يهمس في الظلمة؛ أي يطأ وطأ خفيا. قال رؤية يصف نفسه بالشدة:

ليث يدق الأسد الهموسا والأقهبين الفيل والجاموسا

وهمس الطعام؛ أي مضغه وفوه منضم؛ قال الراجز:

لقد رأيت عجبا مذ أمسا عجائزا مثل السعالي خمسا

يأكلن ما أصنع همسا همسا

وقيل: الهمس تحريك الشفة واللسان. وقرأ أبي بن كعب « فلا ينطقون إلا همسا » . والمعنى متقارب؛ أي لا يسمع لهم نطق ولا كلام ولا صوت أقدام. وبناء « هـ م س » أصله الخفاء كيفما تصرف؛ ومنه الحروف المهموسة، وهي عشرة يجمعها قولك: « حثه شخص فسكت » وإنما سمي الحرف مهموسا لأنه ضعف الاعتماد من موضعه حتى جرى معه النفس.

 

قوله تعالى: « يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن » « من » في موضع نصب على الاستثناء الخارج من الأول؛ أي لا تنفع الشفاعة أحدا إلا شفاعة من أذن له الرحمن. « ورضي له قولا » أي رضي قوله في الشفاعة. وقيل: المعنى، أي إنما تنفع الشفاعة لمن أذن له الرحمن في أن يشفع له، وكان له قول يرضي. قال ابن عباس: هو قول لا إله إلا الله.

 

قوله تعالى: « يعلم ما بين أيديهم » أي من أمر الساعة. « وما خلفهم » من أمر الدنيا قاله قتادة. وقيل: يعلم ما يصيرون إليه من ثواب أو عقاب « وما خلفهم » ما خلفوه وراءهم في الدنيا. ثم قيل: الآية عامة في جميع الخلق. وقيل: المراد الذين يتبعون الداعي. والحمد لله. « ولا يحيطون به علما » الهاء في « به » لله تعالى؛ أي أحد لا يحيط به علما؛ إذ الإحاطة مشعرة بالحد ويتعالى الله عن التحديد. وقيل: تعود على العلم؛ أي أحد لا يحيط علما بما يعلمه الله. وقال الطبري الضمير في « أيديهم » و « خلقهم » و « يحيطون » يعود على الملائكة؛ أعلم الله من يعبدها أنها لا تعلم ما بين أيديها وما خلفها.

 

الآيتان: 111 - 112 ( وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما، ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما )

 

قوله تعالى: « وعنت الوجوه » أي ذلت وخضعت؛ قاله ابن الأعرابي وغيره. ومنه قيل للأسير عان. قال أمية بن أبي الصلت:

مليك على عرش السماء مهيمن لعزته تعنو الوجوه وتسجد

وقال أيضا:

وعنا له وجهي وخلقي كله في الساجدين لوجهه مشكورا

قال الجوهري عنا يعنو خضع وذل وأعناه غيره؛ ومنه قوله تعالى: « وعنت الوجوه للحي القيوم » . ويقال أيضا: عنا فهم فلان أسيرا؛ أي قام فيهم على إساره واحتبس. وعناه غيره تعنية حبسه. والعاني الأسير. وقوم عناة ونسوة عوان. وعنت أمور نزلت. وقال ابن عباس: « عنت » ذلت. وقال مجاهد: خشعت. الماوردي: والفرق بين الذل والخشوع - وإن تقارب معناهما - أن الذل أن يكون ذليل النفس، والخشوع أن يتذلل لذي طاعة. وقال الكلبي « عنت » أي علمت. عطية العوفي: استسلمت. وقال طلق بن حبيب: إنه وضع الجبهة والأنف على الأرض في السجود. النحاس: « وعنت الوجوه » في معناه قولان: أحدهما: أن هذا في الآخرة. وروى عكرمة عن ابن عباس « وعنت الوجوه للحي القيوم » قال: الركوع والسجود؛ ومعنى « عنت » اللغة القهر والغلبة؛ ومنه فتحت البلاد عنوة أي غلبة؛ قال الشاعر:

فما أخذوها عنوة عن مودة ولكن ضرب المشرفي استقالها

وقيل: هو من العناء بمعنى التعب؛ وكنى عن الناس بالوجوه؛ لأن أثار الذل إنما تتبين في الوجه. « للحي القيوم » وفي القيوم ثلاث تأويلات؛ أحدهما: أنه القائم بتدبير الخلق. الثاني: أنه القائم على كل نفس بما كسبت. الثالث: أنه الدائم الذي لا يزول ولا يبيد. وقد مضى في « البقرة » . « وقد خاب من حمل ظلما » أي خسر من حمل شركا.

 

قوله تعالى: « ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن » لأن العمل لا يقبل من غير إيمان.

و « من » في قوله « من الصالحات » للتبعيض؛ أي شيئا من الصالحات. وقيل للجنس. « فلا يخاف » قرأ ابن كثير ومجاهد وابن محيص « يخف » بالجزم جوابا لقوله: « ومن يعمل » . الباقون « يخاف » رفعا على الخبر؛ أي فهو لا يخاف؛ أو فإنه لا يخاف. « ظلما » أي نقصا لثواب طاعته، ولا زيادة عليه في سيئاته. « ولا هضما » بالانتقاص من حقه. والهضم النقص والكسر؛ يقال: هضمت ذلك من حقي أي حططته وتركته. وهذ يهضم الطعام أي ينقص ثقله. وامرأة هضيم الكشح ضامرة البطن. الماوردي: والفرق بين الظلم والهضم أن الظلم المنع من الحق كله، والهضم المنع من بعضه، والهضم ظلم وإن افترقا من وجه؛ قال المتوكل الليثي:

إن الأذلة واللئام لمعشر مولاهم المتهضم المظلوم

قال الجوهري ورجل هضيم ومهتضم أي مظلوم. وتهضمه أي ظلمه واهتضمه إذا ظلمه وكسر عليه حقه.

الآية [ 113 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيتان: 113 - 114 ( وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا، فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما )

 

قوله تعالى: « وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا » أي كما بينا لك في هذه السورة من البيان فكذلك جعلناه « قرآنا عربيا » أي بلغة العرب. « وصرفنا فيه من الوعيد » أي بينا ما فيه من التخويف والتهديد والثواب والعقاب. « لعلهم يتقون » أي يخافون الله فيجتنبون معاصيه، ويحذرون عقابه. « أو يحدث لهم ذكرا » أي موعظة. وقال قتادة: حذرا وورعا. وقيل: شرفا؛ فالذكر ها هنا بمعنى الشرف؛ كقول: « وإنه لذكر لك ولقومك » [ الزخرف 44 ] . وقيل: أي ليتذكروا العذاب الذي توعدوا به. وقرأ الحسن « أو نحدث » بالنون؛ وروي عنه رفع الثاء وجزمها.

 

قوله تعالى: « فتعالى الله الملك الحق » لما عرف العباد عظيم نعمه، وإنزال القرآن نزه نفسه عن الأولاد والأنداد فقال: « فتعالى الله » أي جل الله الملك الحق؛ أي ذو الحق. « ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه » علم نبيه كيف يتلقى القرآن. قال ابن عباس كان عليه السلام يبادر جبريل فيقرأ قبل أن يفرغ جبريل من الوحي حرصا على الحفظ، وشفقة على القرآن مخافة النسيان، فنهاه الله عن ذلك وأنزل « ولا تعجل بالقرآن » وهذا كقوله: « لا تحرك به لسانك لتعجل به » [ القيامة: 16 ] على ما يأتي. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: لا تتله قبل أن تتبينه. وقيل: « ولا تعجل » أي لا تسل إنزاله « من قبل أن يقضى » أي يأتيك « وحيه » . وقيل: المعنى لا تلقه إلى الناس قبل أن يأتيك بيان تأويله. « وقل رب زدني علما » قال الحسن: نزلت في رجل لطم وجه امرأته؛ فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تطلب القصاص، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم لها القصاص فنزل « الرجال قوامون على النساء » [ النساء 34 ] ولهذا قال: « وقل رب زدني علما » أي فهما؛ لأنه عليه السلام حكم بالقصاص وأبى الله ذلك. وقرأ ابن مسعود وغيره « من قبل أن نقضي » بالنون وكسر الضاد « وحيَه » بالنصب.

 

الآية: 115 ( ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما )

 

قوله تعالى: « ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي » قرأ الأعمش باختلاف عنه « فنسي » بإسكان الياء وله معنيان أحدهما: ترك؛ أي ترك الأمر والعهد؛ وهذا قول مجاهد وأكثر المفسرين ومنه « نسوا الله فنسيهم » . [ التوبة 67 ] . و [ وثانيهما ] قال ابن عباس « نسي » هنا من السهو والنسيان، وإنما أخذ الإنسان منه لأنه عهد إليه فنسي. قال ابن زيد: نسى ما عهد الله إليه في ذلك، ولو كان له عزم ما أطاع عدوه إبليس. وعلى هذا القول يحتمل أن يكون آدم عليه السلام في ذلك الوقت مأخوذا بالنسيان، وأن كان النسيان عنا اليوم مرفوعا. ومعنى « من قبل » أي من قبل أن يأكل من الشجرة؛ لأنه نهى عنها. والمراد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي طاعة بني آدم الشيطان أمر قديم؛ أي إن نقض هؤلاء العهد فان آدم أيضا عهدنا إليه فنسي؛ حكاه القشيري وكذلك الطبري. أي وإن يعرض يا محمد هؤلاء الكفرة عن آياتي، ويخالفوا رسلي، ويطيعوا إبليس فقدما فعل ذلك أبوهم آدم. قال ابن عطية: وهذا التأويل ضعيف، وذلك كون آدم مثالا للكفار الجاحدين بالله ليس بشيء وآدم إنما عصى بتأويل، ففي هذا غضاضة عليه صلى الله عليه وسلم؛ وإنما الظاهر في الآية إما أن يكون ابتداء قصص لا تعلق له بما قبله، وإما أن يجعل تعلقه أنه لما عهد إلى محمد صلى الله عليه وسلم ألا يعجل بالقرآن، مثل له بنبي قبله عهد إليه فنسي فعوقب؛ ليكون أشد في التحذير، وأبلغ في العهد إلى محمد صلى الله عليه وسلم؛ والعهد ها هنا معنى الوصية؛ « ونسي » معناه ترك؛ ونسيان الذهول لا يمكن هنا؛ لأنه لا يتعلق بالناسي عقاب. والعزم المضي على المعتقد في أي شيء كان؛ وآدم عليه السلام قد كان يعتقد ألا يأكل من الشجرة لكن لما وسوس إليه إبليس لم يعزم على معتقده. والشيء الذي عهد إلى آدم هو ألا يأكل من الشجرة، وأعلم مع ذلك أن إبليس عدو له. واختلف في معنى قوله: « ولم نجد له عزما » فقال ابن عباس وقتادة: لم نجد له صبرا عن أكل الشجرة، ومواظبة على التزام الأمر. قال النحاس وكذلك هو في اللغة؛ يقال: لفلان عزم أي صبر وثبات على التحفظ من المعاصي حتى يسلم منها، ومنه « فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل » [ الأحقاف: 35 ] . وعن ابن عباس أيضا وعطية العوفي: حفظا لما أمر به؛ أي لم يتحفظ مما نهيته حتى نسي وذهب عن علم ذلك بترك الاستدلال؛ وذلك أن إبليس قال له: أي إن أكلتها خلدت في الجنة يعني عين تلك الشجرة، فلم يطعه فدعاه إلى نظير تلك الشجرة مما دخل في عموم النهي وكان يجب أن يستدل عليه فلم يفعل، وظن أنها لم تدخل في النهي فأكلها تأويلا، ولا يكون ناسيا للشيء من يعلم أنه معصية. وقال ابن زيد: « عزما » محافظة على أمر الله. وقال الضحاك: عزيمة أمر. ابن كيسان: إصرارا ولا إضمارا للعود إلى الذنب. قال القشيري: والأول أقرب إلى تأويل الكلام؛ ولهذا قال قومك آدم لم يكن من أولي العزم من الرسل؛ لأن الله تعالى قال: « ولم نجد له عزما » . وقال المعظم: كان الرسل أولو العزم، وفي الخبر « ما من نبي إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئة ما خلا يحيى بن زكريا » فلو خرج آدم بسبب خطيئته من جملة أولي العزم لخرج جميع الأنبياء سوى يحيى. وقد قال أبو أمامة: أن أحلام بني آدم جمعت منذ خلق الله الخلق إلى يوم القيامة، ووضعت في كفة ميزان، ووضع حلم آدم في كفة أخرى لرجحهم؛ وقد قال الله تبارك وتعالى: « ولم نجد له عزما »

 

الآيات: 116 - 119 ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى، فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى، إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى )

 

قوله تعالى: « وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى » تقدم. « فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما » نهي؛ ومجازه: لا تقبلا منه فيكون ذلك سببا لخروجكما « من الجنة » « فتشقى » يعني أنت وزوجك لأنهما في استواء العلة واحد؛ وليقل: فتشقيا لأن المعنى معروف، وآدم عليه السلام هو المخاطب، وهو المقصود. وأيضا لما كان الكاد عليها والكاسب لها كان بالشقاء أخص. وقيل: الإخراج واقع عليهما والشقاوة على آدم وحده، وهو شقاوة البدن؛ ألا ترى أنه عقبه بقوله « إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى » أي في الجنة « وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى » فأعلمه أن له في الجنة هذا كله: الكسوة والطعام والشراب والمسكن؛ وأنك إن ضيعت الوصية، وأطعت العدو أخرجكما من الجنة فشقيت تعبا ونصبا، أي جعت وعريت وظمئت وأصابتك الشمس؛ لأنك ترد إلى الأرض إذا أخرجت من الجنة. وإنما خصه بذكر الشقاء ولم يقل فتشقيان: يعلمنا أن نفقة الزوجة على الزوج؛ فمن يومئذ جرت نفقة النساء على الأزواج، فلما كانت نفقة حواء على آدم كذلك نفقات بناتها على بني آدم بحق الزوجية. وأعلمنا في هذه الآية أن النفقة التي تجب للمرأة على زوجها هذه الأربعة: الطعام والشراب والكسوة والمسكن؛ فإذا أعطاها هذه الأربعة فقد خرج إليها من نفقتها؛ فإن تفضل بعد ذلك فهو مأجور، فأما هذه الأربعة فلا بد لها منها؛ لأن بها إقامة المهجة. قال الحسن المراد بقول: « فتشقى » شقاء الدنيا، لا يرى ابن آدم إلا ناصبا. وقال الفراء هو أن يأكل من كد يديه. وقال سعيد بن جبير: أهبط إلى آدم ثور أحمر فكان يحرث عليه، ويمسح العرق عن جبينه، فهو شقاؤه الذي قال الله تبارك وتعالى. وقيل: لما أهبط من الجنة كان من أول شقائه أن جبريل أنزل عليه حبات من الجنة؛ فقال يا آدم ازرع هذا، فحرث وزرع، ثم حصد ثم درس ثم نقى ثم طحن ثم عجن ثم خبز، ثم جلس ليأكل بعد التعب؛ فتدحرج رغيفه من يده حتى صار أسفل الجبل، وجرى وراءه آدم حتى تعب وقد عرق جبينه، قال: يا آدم فكذلك رزقك بالتعب والشقاء، ورزق ولدك من بعدك ما كنت في الدنيا.

 

قوله تعالى: « إن لك ألا تجوع فيها » أي في الجنة « ولا تعرى » . « وأنك لا تظمأ فيها » أي لا تعطش. والظمأ العطش. « ولا تضحى » أي تبرز للشمس فتجد حرها. إذ ليس في الجنة شمس، إنما هو ظل ممدود، كما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. قال أبو العالية: نهار الجنة هكذا: وأشار إلى ساعة المصلين صلاة الفجر. قال أبو زيد: ضحا الطريق يضحو ضحوا إذا بدا لك وظهر. وضحيت وضحيت « بالكسر » ضحا عرقت. وضحيت أيضا للشمس ضحاء ممدود برزت وضحيت « بالفتح » مثله، والمستقبل أضحى في اللغتين جميعا؛ قال عمر بن أبي ربيعة

رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فيخصر

في الحديث أن ابن عمر رأى رجلا محرما قد استظل، فقال: أضح لمن أحرمت له. هكذا يرويه المحدثون بفتح الألف وكسر الحاء من أضحيت. وقال الأصمعي: إنما هو أضح لمن أحرمت له؛ بكسر الألف وفتح الحاء من ضحيت أضحى؛ لأنه أمره بالبروز للشمس؛ ومنه قوله تعالى: « وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى » وأنشد:

ضحيت له كي أستظل بظله إذا الظل أضحى في القيامة قالصا

وقرأ أبو عمرو والكوفيون إلا عاصما في رواية أبو بكر عنه « وأنك » بفتح الهمزة عطفا على « ألا تجوع » . ويجوز أن يكون في موضع رفع عطفا على الموضع، والمعنى: ولك أنك لا تظمأ فيها. الباقون بالكسر على الاستئناف، أو على العطف على « إن لك » .

 

الآيات: 120 - 122 ( فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى، فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى، ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى )

 

قوله تعالى: « فوسوس إليه الشيطان » تقدم. « قال » يعني الشيطان « يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى » وهذا يدل على المشافهة، وأنه دخل الجنة في جوف الحية على ما تقدم في « البقرة » . « فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة » تقدم.

وقال الفراء: « وطفقا » في العربية أقبلا؛ قال وقيل: جعل يلصقان عليهما ورق التين.

 

قوله تعالى: « وعصى » تقدم في « البقرة » في ذنوب الأنبياء. وقال بعض المتأخرين من علمائنا والذي ينبغي أن يقال: إن الله تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم، ونسبها إليهم، وعاتبهم عليها، وأخبروا بذلك عن نفوسهم وتنصلوا منها، واستغفروا منها وتابوا، وكل ذلك ورد في مواضع كثيرة لا يقبل التأويل جملتها، وإن قبل ذلك آحادها، وكل ذلك مما لا يزرى بمناصبهم، وإنما تلك الأمور التي وقعت منهم جهة الندور، وعلى جهة الخطأ والنسيان، أو تأويل دعا إلى ذلك، فهي بالنسبة إلى غيرهم حسنات، وفي حقهم سيئات بالنسبة إلى مناصبهم، وعلو أقدارهم؛ إذ قد يؤاخذ الوزير بما يثاب عليه السائس؛ فأشفقوا من ذلك في موقف القيامة، مع علمهم بالأمن والأمان والسلامة. قال: وهذا هو الحق ولقد أحسن الجنيد حيث قال: حسنات الأبرار سيئات المقربين؛ فهم صلوات الله وسلامه عليهم - وإن كانوا قد شهدت النصوص بوقوع ذنوب منهم، فلم يخل ذلك بمناصبهم، ولا قدح في رتبتهم، بل قد تلافاهم، واجتباهم وهداهم، ومدحهم وزكاهم واختارهم واصطفاهم؛ صلوات الله عليه وسلامه.

 

قال القاضي أبو بكر بن العربي: لا يجوز لأحد منها اليوم أن يخبر بذلك عن آدم إلا إذا ذكرناه في أثناء قوله تعالى عنه، أو قول نبيه، فأما أن يبتدئ ذلك من قبل نفسه فليس بجائز لنا في آبائنا الأدنين إلينا، المماثلين لنا، فكيف في أبينا الأقدم الأعظم الأكرم النبي المقدم، الذي عذره الله سبحانه وتعالى وتاب عليه وغفر له.

قلت: وإذا كان هذا في المخلوق لا يجوز، فالإخبار عن صفات الله عز وجل كاليد والرجل والإصبع والجنب والنزول إلى غير ذلك أولى بالمنع، وأنه لا يجوز الابتداء بشيء من ذلك إلا في أثناء قراءة كتابه أو سنة رسوله، ولهذا قال الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه من وصف شيئا من ذات الله عز وجل مثل قوله: « وقالت اليهود يد الله مغلولة » [ المائدة 64 ] فأشار بيده إلى عنقه قطعت يده، وكذلك في السمع والبصر يقطع ذلك منه؛ لأنه شبه الله تعالى بنفسه.

 

روى الأئمة واللفظ [ المسلم ] عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال « احتج آدم وموسى فقال موسى يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة فقال آدم يا موسى أصطفاك الله عز وجل بكلامه وخط لك بيده يا موسى: أتلومني على أمر قدّره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة فحج آدم موسى ثلاثا » قال المهلب قوله: « فحج آدم موسى » أي غلبه بالحجة. قال الليث بن سعد إنما صحت الحجة في هذه القصة لآدم على موسى عليهما السلام من أجل أن الله تعالى قد غفر لآدم خطيئته وتاب عليه، فلم يكن لموسى أن يعيره بخطيئة قد غفرها الله تعالى له، ولذلك قال آدم: أنت موسى الذي أتاك الله التوراة، وفيها علم كل شيء، فوجدت فيها أن الله قد قدر علي المعصية، وقدر علي التوبة منها، وأسقط بذلك اللوم عني أفتلومني أنت والله لا يلومني وبمثل هذا احتج ابن عمر على الذي قال له: إن عثمان فر يوم أحد؛ فقال ابن عمر: ما على عثمان ذنب لأن الله تعالى قد عفا عنه بقوله: « ولقد عفا الله عنهم » [ آل عمران 155 ] وقد قيل: إن آدم عليه السلام أب وليس تعييره من بره أن لو كان مما يعير به غيره؛ فإن الله تبارك وتعالى يقول في الأبوين الكافرين: « وصاحبهما في الدنيا معروفا » [ لقمان 5 1 ] ولهذا إن إبراهيم عليه السلام لما قال ل أبوه وهو كافر: « لئن لم تنته لأرجمنك اهجرني مليا. قال سلام عليك » [ مريم: 46 ] فكيف بأب هو نبي قد اجتباه ربه وتاب عليه وهدى.

وأما من عمل الخطايا ولم تأته المغفرة؛ فإن العلماء مجمعون على أنه لا يجوز له أن يحتجا بمثل حجة آدم، فيقول تلومني على أن قتلت أو زنيت أو سرقت وقد قدر الله علي ذلك؛ والأمة مجمعة حلى جواز حمد المحسن على إحسانه، ولوم المسيء على إساءته، وتعديد ذنوبه عليه.

 

قوله تعالى: « فغوى » أي ففسد عليه عيشه، حكاه النقاش واختاره القشيري. وسمعت شيخنا الأستاذ المقرئ أبا جعفر القرطبي يقولك « فغوى » ففسد عيشه بنزول إلى الدنيا، والغي الفساد؛ وهو تأويل حسن وهو أولى من تأويل من يقول: « فغوى » معناه ضل؛ من الغي الذي هو ضد الرشد. وقيل معناه جهل موضع رشده؛ أي جهل أن تلك الشجرة هي التي نهي عنها؛ والغي الجهل. وعن بعضهم « فغوى » فبشم من كثرة الأكل؛ الزمخشري وهذا وإن صح على لغة من يقلب الياء المكسورة ما قبلها ألفا؛ فيقول في فني وبقي وهم بنو طي تفسير خبيث.

قال القشيري أبو نصر قال قوم يقال: عصى آدم وغوى ولا يقال له عاص ولا غاو، كما أن من خاط مرة يقال له: خاط ولا يقال له خياط ما لم يتكرر منه الخياطة. وقيل: يجوز للسيد أن يطلق في عبده عند معصيته ما لا يجوز لغيره أن يطلقه، وهذا تكلف؛ وما أضيف من هذا إلى الأنبياء فإما أن تكون صغائر، أو الأولى، أو قبل النبوة.

قلت: هذا حسن. قال الإمام أبو بكر بن فورك رحمه الله تعالى: كان هذا من آدم قبل النبوة، « ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى » فذكر أن الاجتباء والهداية كانا بعد العصيان، وإذا كان هذا قبل النبوة فجائز عليهم الذنوب وجها واحدا؛ لأن قبل النبوة لا شرع علينا تصديقهم، فإذا بعثهم الله تعالى إلى خلقه وكانوا مأمونين في الأداء معصومين لم يضر ما قد سلف منهم من الذنوب. وهذا نفيس والله أعلم.

الآية [ 123 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات: 123 - 127 ( قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى، قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى، وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى )

 

قوله تعالى: « قال اهبطا منها جميعا » خطاب آدم وإبليس. « منها » أي من الجنة. وقد قال لإبليس: « أخرج منها مذؤوما مدحورا » [ الأعراف 18 ] فلعله أخرج من الجنة إلى موضع من السماء، ثم أهبط إلى الأرض. « بعضكم لبعض عدو » أي أنت عدو للحية ولإبليس وهما عدوان لك. وهذا يدل على أن قول « اهبطا » ليس خطابا لآدم وحواء؛ لأنهما ما كانا متعاديين؛ وتضمن هبوط آدم هبوط حواء. « فإما يأتينكم مني هدى » أي رشدا وقولا حقا. « فمن اتبع هداي » يعني الرسل والكتب. « فلا يضل ولا يشقى » قال ابن عباس: ضمن الله تعالى لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، وتلا الآية. من قرأ واتبع ما فيه هداه الله من الضلالة، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب، ثم تلا الآية. « ومن أعرض عن ذكري » أي ديني، وتلاوة كتابي، والعمل بما فيه. وقيل: عما أنزلت من الدلائل. ويحتمل أن يحمل الذكر على الرسول؛ لأنه كان منه الذكر. « فإن له معيشة ضنكا » أي عيشا ضيقا؛ يقال منزل ضنك وعيش ضنك يستوي فيه الواحد والاثنان والمؤنث والجمع؛ قال عنترة:

إن يلحقوا أكرر وإن يستحلوا أشدد وإن يلفوا بضنك أنزل

وقال أيضا:

إن المنية لو مثل مثلت مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل

وقرئ « ضنكى » على وزن فعلى: ومعنى ذلك أن الله عز وجل جعل مع الدين التسليم والقناعة والتوكل عليه وعلى قسمته، فصاحبه ينفق مما رزقه الله - عز وجل - بسماح وسهولة ويعيش عيشا رافغا؛ كما قال الله تعالى: « فلنحيينه حياة طيبة » [ النحل 97 ] . والمعرض عن الدين مستول عليه الحرص الذي لا يزال يطمح به إلى الازدياد من الدنيا، مسلط عليه الشح، الذي يقبض يده عن الإنفاق، فعيشه ضنك، وحاله مظلمة، كما قال بعضهم: لا يعرض أحد عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته وتشوش عليه رزقه، وكان في عيشة ضنك. وقال عكرمة: « ضنكا » كسبا حراما. الحسن: طعام الضريع والزقوم. وقول رابع وهو الصحيح أنه عذاب القبر؛ قاله أبو سعيد الخدري وعبدالله بن مسعود، ورواه أبو هريرة مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكرناه في كتاب « التذكرة » ؛ قال أبو هريرة: يضيق على الكافر قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، وهو المعيشة الضنك. « ونحشره يوم القيامة أعمى » قيل: أعمى في حال وبصيرا في حال؛ وقد تقدم في آخر « سبحان » [ الإسراء 1 ] وقيل: أعمى عن الحجة؛ قاله مجاهد. وقيل: أعمى عن جهات الخير، لا يهتدي لشيء منها. وقيل: عن الحيلة في دفع العذاب عن نفسه، كالأعمى الذي لا حيلة له فيما لا يراه. « قال رب لم حشرتني أعمى » أي بأي ذنب عاقبتني بالعمى. « وقد كنت بصيرا » أي في الدنيا، وكأنه يظن أنه لا ذنب له. وقال ابن عباس ومجاهد: أي « لم حشرتني أعمى » عن حجتي « وقد كنت بصيرا » أي عالما بحجتي؛ القشيري: وهو بعيد إذ ما كان للكافر حجة في الدنيا. « قال كذلك أتتك آياتنا » أي قال الله تعالى له « كذلك أتتك آياتنا » أي دلالاتنا على وحدانيتنا وقدرتنا. « فنسيتها » أي تركتها ولم تنظر فيها، وأعرضت عنها. « وكذلك اليوم تنسى » أي تترك في العذاب؛ يريد جهنم. « وكذلك نجزي من أسرف » أي وكما جزينا من أعرض عن القرآن، وعن النظر في المصنوعات، والتفكير فيها، وجاوز الحد في المعصية. « ولم يؤمن بآيات ربه » أي لم يصدق بها. « ولعذاب الآخرة أشد » أي أفظع من المعيشة الضنك، وعذاب القبر. « وأبقى » أي أدوم وأثبت؛ لأنه لا ينقطع ولا ينقضي.

 

الآيات: 128 - 130 ( أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى، ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى، فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى )

 

قوله تعالى: « أفلم يهد لهم » يريد أهل مكة؛ أي أفلم يتبين لهم خبر من أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إذا سافروا وخرجوا في التجارة طلب المعيشة، فيرون بلاد الأمم الماضية، والقرون الخالية خاويه؛ أي أفلا يخافون أن يحل بهم مثل ما حل بالكفار قبلهم. وقرأ ابن عباس والسلمي وغيرهما « نهد لهم » بالنون وهي أبين. و « يهد » بالياء مشكل لأجل الفاعل؛ فقال الكوفيون « كم » الفاعل؛ النحاس: وهذا خطأ لأن « كم » استفهام فلا يعمل فيها ما قبلها. وقال الزجاج المعنى أو لم يهد لهم الأم بإهلاكنا من أهلكنا. وحقيقة « يهد » على الهدى؛ فالفاعل هو الهدى تقديره أفلم يهد الهدى لهم. قال الزجاج: « كم » في موضع نصب « أهلكنا » .

 

قوله تعالى: « ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما » فيه تقديم وتأخير؛ أي ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما؛ قاله قتادة. واللزام الملازمة؛ أي لكان العذاب لازما لهم. وأضمر اسم كان. « وأجل مسمى » قال الزجاج: عطف على « كلمة » . قتادة: والمراد القيامة؛ وقاله القتبي. وقيل تأخيرهم إلى يوم بدر.

 

قوله تعالى: « فاصبر على ما يقولون » أمره تعالى بالصبر على أقوالهم: إنه ساحر؛ إنه كاهن؛ إنه كذاب؛ إلى غير ذلك. والمعنى لا تحفل بهم؛ فان لعذابهم وقتا مضروبا لا يتقدم ولا يتأخر. ثم قيل: هذا منسوخ بآية القتال. وقيل: ليس منسوخا؛ إذ لم يستأصل الكفار بعد آية القتال بل بقي المعظم منهم. « وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس » قال أكثر المتأولين: هذا إشارة إلى الصلوات الخمس « قبل طلوع الشمس » صلاة الصبح « وقبل غروبها » صلاة العصر « ومن آناء الليل فسبح » العتمة « وأطراف النهار » المغرب والظهر؛ لأن الظهر في آخر طرف النهار الأول، وأول طرف النهار الآخر؛ فهي في طرفين منه؛ والطرف الثالث غروب الشمس وهو وقت المغرب. وقيل: النهار ينقسم قسمين فصلهما الزوال، ولكل قسم طرفان؛ فعند الزوال طرفان؛ الآخر من القسم الأول والأول من القسم الآخر؛ فقال عن الطرفين أطرافا على نحو « فقد صغت قلوبكما » [ التحريم: 4 ] وأشار إلى هذا النظر ابن فورك في المشكل. وقيل: النهار للجنس فلكل يوم طرف، وهو إلى جمع لأنه يعود في كل نهار. و « آناء الليل » ساعاته وواحد الآناء إني وإنى وأنى. وقالت فرقة: المراد بالآية صلاة التطوع؛ قاله الحسن. « لعلك ترضى » بفتح التاء؛ أي لعلك تثاب على هذه الأعمال بما ترضى به. وقرأ الكسائي وأبو بكر عن عاصم « تُرضى » بضم التاء؛ أي لعلك تعطى ما يرضيك.

 

الآيتان: 131 - 132 ( ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى، وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى )

 

قوله تعالى: « ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به » وقد تقدم. « أزواجا » مفعول بـ « متعنا » . و « زهرة » نصب على الحال. وقال الزجاج: « زهرة » منصوبة بمعنى « متعنا » لأن معناه جعلنا لهم الحياة الدنيا زهرة؛ أو بفعل مضمر وهو « جعلنا » أي جعلنا لهم زهرة الحياة الدنيا؛ عن الزجاج أيضا. وقيل: هي بدل من الهاء في « به » على الموضع كما تقول: مررت به أخاك. وأشار الفراء إلى نصبه على الحال؛ والعامل فيه « متعنا » قال: كما تقول مررت به المسكين؛ وقدره: متعناهم به زهرة الحياة في الدنيا وزينة فيها. ويجوز أن على المصدر مثل « صنع الله » و « وعد الله » وفيه نظر. والأحسن أن ينتصب على الحال ويحذف التنوين لسكونه وسكون اللام من الحياة؛ كما قرئ « ولا الليل سابق النهار » بنصب النهار بسابق على تقدير حذف التنوين لسكونه وسكون اللام، وتكون « الحياة » مخفوضة على البدل من « ما » في قوله: « إلى ما متعنا به » فيكون التقدير: ولا تمدن عينيك إلى الحياة الدنيا زهرة أي في حال زهرتها. ولا يحسن أن يكون « زهرة » بدلا من « ما » على الموضع في قوله: « إلى ما متعنا » لأن « لنفتنهم » متعلق و « متعنا » و « زهرة الحياة الدنيا » يعني زينتها بالنبات. والزهرة، بالفتح في الزاي والهاء نور النبات. والزهرة بضم الزاي وفتح الهاء النجم. وبنو زهرة بسكون الهاء؛ قاله ابن عزيز. وقرأ عيسى بن عمر « زهرة » بفتح الهاء مثل نهر ونهر. ويقال: سراج زاهر أي له بريق. وزهر الأشجار ما يروق من ألوانها. وفي الحديث: كان النبي صلى الله عليه وسلم أزهر اللون أي نير اللون؛ يقال لكل شيء مستنيرك زاهر، وهو أحسن الألوان. « لنفتنهم فيه » أي لنبتليهم. وقيل: لنجعل ذلك فتنة لهم وضلالا، ومعنى الآية: لا تجعل يا محمد لزهرة الدنيا وزنا، فإنه لا بقاء لها. « ولا تمدن » أبلغ من لا تنظرن، لأن الذي يمد بصره، إنما يحمله على ذلك حرص مقترن، والذي ينظر قد لا يكون ذلك معه.

مسألة: قال بعض الناس سبب نزول هذه الآية ما رواه أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال نزل ضيف برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلني عليه السلام إلى رجل من اليهود، وقال قل له يقول لك محمد: نزل بنا ضيف ولم يلق عندنا بعض الذي يصلحه؛ فبعني كذا وكذا من الدقيق، أو أسلفني إلى هلال رجب فقال: لا، إلا برهن. قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: « والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض ولو أسلفني أو باعني لأديت إليه اذهب بدرعي إليه » ونزلت الآية تعزية له عن الدنيا. قال ابن عطية وهذا معترض أن يكون سببا؛ لأن السورة مكية والقصة المذكورة مدنية في آخر عمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مات ودرعه مرهونة عند يهودي بهذه القصة التي ذكرت؛ وإنما الظاهر أن الآية متناسقة مع ما قبلها، وذلك أن الله تعالى وبخهم على ترك الاعتبار بالأمم السالفة ثم توعدهم بالعذاب المؤجل، ثم أمر نبيه بالاحتقار لشأنهم، والصبر على أقوالهم، والإعراض عن أموالهم وما في أيديهم من الدنيا؛ إذ ذلك منصرم عنهم صائر إلى خزي.

قلت: وكذلك ما روي عنه عليه السلام أنه مر بابل بني المصطلق وقد عبست في أبوالها [ وأبعارها ] من السمن فتقنع بثوبه ثم مضى، لقوله عز وجل: « ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم » الآية. ثم سلاه فقال: « ورزق ربك خير وأبقى » أي ثواب الله على الصبر وقلة المبالاة بالدنيا أولى؛ لأنه يبقى والدنيا تفنى. وقيل: يعني بهذا الرزق ما يفتح الله على المؤمنين من البلاد والغنائم.

 

قوله تعالى: « وأمر أهلك بالصلاة » أمره تعالى بأن يأمر أهله بالصلاة ويمتثلها معهم، ويصطبر عليها ويلازمها. وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ويدخل في عمومه جميع أمته؛ وأهل بيته على التخصيص. وكان عليه السلام بعد نزول هذه الآية يذهب كل صباح إلى بيت فاطمة وعلي رضوان الله عليهما فيقول « الصلاة » . ويروى أن عروة بن الزبير رضي الله عنه كان إذا رأى شيئا من أخبار السلاطين وأحوالهم بادر إلى منزل فدخله، وهو يقرأ « ولا تمدن عينك » الآية إلى قوله: « وأبقى » ثم ينادي بالصلاة الصلاة يرحمكم الله؛ ويصلي. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوقظ أهل داره لصلاة الليل ويصلي وهو يتمثل بالآية.

 

قوله تعالى: « لا نسألك رزقا » أي لا نسألك أن ترزق نفسك وإياهم، وتشتغل عن الصلاة بسبب الرزق، بل نحن نتكفل برزقك وإياهم، فكان عليه السلام إذا نزل بأهله ضيق أمرهم بالصلاة. وقد قال الله تعالى « وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون. ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون. إن الله هو الرزاق » [ الذاريات 56 ] . « والعاقبة للتقوى » أي الجنة لأهل التقوى؛ يعني العاقبة المحمودة. وقد تكون لغير التقوى عاقبة ولكنها مذمومة فهي كالمعدومة.

 

الآيات: 133 - 135 ( وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى، ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى، قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى )

 

قوله تعالى: « وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه » يريد كفار مكة؛ أي لولا يأتينا محمد بآية توجب العلم الضروري. أو بآية ظاهرة كالناقة والعصا. أو هلا يأتينا بالآيات التي نقترحها نحن كما أتى الأنبياء من قبله. « أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى » يريد التوراة والإنجيل والكتب المتقدمة، وذلك أعظم آية إذ أخبر بما فيها. وقرئ « الصحف » بالتخفيف. وقيل أو لم تأتيهم الآية الدالة على نبوته بما وجدوه في الكتب المتقدمة من البشارة. وقل: أو لم يأتهم إهلاكنا الأمم الذين كفروا واقترحوا الآيات، فما يؤمنهم إن أتتهم الآيات أن يكون حالهم حال أولئك وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وأبو عمرو ويعقوب وابن أبي إسحاق وحفص « أو لم تأتيهم » بالتاء لتأنيث البينة. الباقون بالياء لتقدم الفعل ولأن البينة هي البيان والبرهان فردوه إلى المعنى، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. وحكى الكسائي « أو لم تأتيهم بينة ما في الصحف الأولى » قال: ويجوز على هذا « بينة ما في الصحف الأولى » . قال النحاس إذا نونت « بينة » ورفعت جعلت « ما » بدلا منها وإذا نصبتها فعلى الحال؛ والمعنى أو لم يأتهم ما في الصحف الأولى مبينا.

 

قوله تعالى: « ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله » أي من قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن « لقالوا » أي يوم القيامة « ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا » أي هلا أرسلت إلينا رسولا « فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى » وقرئ « نذل ونخزى » على ما لم يسم فاعله. وروى أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهالك في الفترة والمعتوه والمولود قال: ( يقول الهالك في الفترة لم يأتني كتاب ولا رسول ثم تلا « ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا » الآية ويقول المعتوه رب لم تجعل لي عقلا أعقل به خيرا ولا شرا ويقول المولود رب لم أدرك العمل فترفع لهم نار فيقول لهم ردوها وادخلوها قال فيردها أو يدخلها من كان علم الله سعيدا لو أدرك العمل ويمسك عنها من كان في علم الله شقيا لو أدرك العمل فيقول الله تبارك وتعالى إياك عصيتم فكيف رسلي لو أتتكم ) . ويروى موقوفا عن أبي سعيد قوله فيه نظر وقد بيناه في كتاب « التذكرة » وبه احتج من قال: إن الأطفال وغيرهم يمتحنون في الآخرة. « فنتبع » نصب بجواب التخصيص. « آياتك » يريد ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم « من قبل أن نذل » أي في العذاب « ونخزي » في جهنم؛ قاله ابن عباس. وقيل: « من قبل أن نذل » في الدنيا بالعذاب « ونخزى » في الآخرة بعذابها.

 

قوله تعالى: « قل كل متربص » أي قل لهم يا محمد كل متربص؛ أي كل المؤمنين الكافرين منتظرين دوائر الزمان ولمن يكون النصر. « فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى » يريد الدين المستقيم والهدى والمعنى فستعلمون بالنصر من اهتدى إلى دين الحق. وقيل: فستعلمون يوم القيامة من اهتدى إلى طريق الجنة. وفي هذا ضرب من الوعيد والتخويف والتهديد ختم به السورة. وقرئ « فسوف تعلمون » . قال أبو رافع: حفظته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ذكره الزمخشري. و « من » في موضع رفع عند الزجاج. وقال الفراء يجوز أن يكون في موضع نصب مثل « والله يعلم المفسد من المصلح » . قال أبو إسحاق: هذا خطأ، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، و « من » ها هنا استفهام في موضع رفع بالابتداء؛ والمعنى: فستعلمون أصحاب الصراط السوي نحن أم أنتم؟. قال النحاس والفراء يذهب إلى أن معنى « من أصحاب الصراط السوي » من لم يضل وإلى أن معنى « ومن اهتدى » من ضل ثم اهتدى. وقرأ يحيى بن يعمر وعاصم الجحدري « فسيعلمون من أصحاب الصراط السوي » بتشديد الواو بعدها ألف التأنيث على فعلى بغير همزة؛ وتأنيث الصراط شاذ قليل، قال الله وتعالى: « اهدنا الصراط المستقيم » [ الفاتحة: 6 ] فجاء مذكرا في هذا وفي غيره، وقد رد هذا أبو حاتم قال: إن كان من السوء وجب أن يقال السوءى وإن كان من السواء وجب أن يقال: السيا بكسر السين والأصل السويا. قال الزمخشري: وقرئ « السواء » بمعنى الوسط والعدل؛ أو المستوي. النحاس وجواز قراءة يحيى بن يعمر والجحدري أن يكون الأصل « السوءى » والساكن ليس بحاجز حصين، فكأنه قلب الهمزة ضمة فأبدل منها واوا كما يبدل منها ألف إذا انفتح ما قبلها. تمت والحمد لله وحده.