الجزء السابع عشر

 

سورة الأنبياء

مقدمة السورة

 

الآيات: 1 - 3 ( اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون، ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون، لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون )

 

قوله تعالى: « اقترب للناس حسابهم » قال عبدالله بن مسعود: الكهف ومريم وطه والأنبياء من العتاق الأول، وهن تلادي يريد من قديم ما كسب وحفظ من القرآن كالمال التلاد. وروي أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبني جدارا فمر به آخر في يوم نزول هذه السورة، فقال الذي كان يبني الجدار: ماذا نزل اليوم من القرآن؟ فقال الآخر: نزل « اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون » فنفض يده من البنيان، وقال: والله لا بنيت أبدا وقد اقترب الحساب. « اقترب » أي قرب الوقت الذي يحاسبون فيه على أعمالهم. « للناس » قال ابن عباس: المراد بالناس هنا المشركون بدليل قوله تعالى: « إلا استمعوه وهم يلعبون » إلى قوله: « أفتأتون السحر وأنتم تبصرون » . وقيل: الناس عموم وإن كان المشار إليه في ذلك الوقت كفار قريش؛ يدل على ذلك ما بعد من الآيات؛ ومن علم اقتراب الساعة قصر أمله، وطابت نفسه بالتوبة، ولم يركن إلى الدنيا، فكأن ما كان لم يكن إذا ذهب، وكل آت قريب، والموت لا محالة آت؛ وموت كل إنسان قيام ساعته؛ والقيامة أيضا قريبة بالإضافة إلى ما مضى من الزمان، فما بقي من الدنيا أقل مما مضى. وقال الضحاك: معنى « اقترب للناس حسابهم » أي عذابهم يعني أهل مكة؛ من لأنهم استبطؤوا ما وعدوا به من العذاب تكذيبا، وكان قتلهم يوم بدر. النحاس ولا يجوز في الكلام اقترب حسابهم للناس؛ لئلا يتقدم مضمر على مظهر لا يجوز أن ينوي به التأخير. « وهم في غفلة معرضون » ابتداء وخبر. ويجوز النصب في غير القرآن على الحال. وفيه وجهان: أحدهما: « وهم غفلة معرضون » يعني بالدنيا عن الآخرة. الثاني: عن التأهب للحساب وعما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا الواو عند سيبويه بمعنى « إذ » وهي التي يسميها النحويون واو الحال؛ كما قال الله تبارك وتعالى: « يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم » [ آل عمران: 154 ] .

 

قوله تعالى: « ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث » محدث « نعت لـ » ذكر « . وأجاز الكسائي والفراء » محدثا « بمعنى ما يأتيهم محدثا؛ نصب على الحال. وأجاز الفراء أيضا رفع » محدث « على النعت للذكر؛ لأنك لو حذفت » من « رفعت ذكرا؛ أي ما يأتيهم ذكر من ربهم محدث؛ يريد في النزول وتلاوة جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان ينزل سورة بعد سورة، وآية بعد آية، كما كان ينزل الله تعالى عليه في وقت بعد وقت؛ لا أن القرآن مخلوق. وقيل: الذكر ما يذكرهم به النبي صلى الله عليه وسلم ويعظهم به. وقال: » من ربهم « لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق إلا بالوحي، فوعظ النبي صلى الله عليه وسلم وتحذيره ذكر، وهو محدث؛ قال الله تعالى: » فذكر إنما أنت مذكر « [ الغاشية: 21 ] . ويقال: فلان في مجلس الذكر. وقيل: الذكر الرسول نفسه؛ قال الحسين بن الفضل بدليل ما في سياق الآية » هل هذا إلا بشر مثلكم « [ الأنبياء: 3 ] ولو أراد بالذكر القرآن لقال: هل هذا إلا أساطير الأولين؛ ودليل هذا التأويل قوله تعالى: » ويقولون إنه لمجنون. وما هو إلا ذكر للعالمين « [ القلم: 51 - 52 ] يعني محمدا صلى الله عليه وسلم. وقال: » قد أنزل الله إليكم ذكرا. رسولا « [ الطلاق: 10 - 11 ] . » إلا استمعوه « يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، أو القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم أو من أمته. » وهم يلعبون « الواو واو الحال يدل عليه » لاهية قلوبهم « ومعنى » يلعبون « أي يلهون. وقيل: يشتغلون؛ فإن حمل تأويله على اللهو احتمل ما يلهون به وجهين: أحدهما: بلذاتهم. الثاني: بسماع ما يتلى عليهم. وإن حمل تأويله حلى الشغل احتمل ما يتشاغلون به وجهين: أحدهما: بالدنيا لأنها لعب؛ كما قال الله تعالى: » إنما الحياة الدنيا لعب ولهو « [ محمد: 36 ] . الثاني: يتشاغلون بالقدح فيه، والاعتراض عليه. قال الحسن: كلما جدد لهم الذكر استمروا على الجهل وقيل: يستمعون القرآن مستهزئين.»

 

قوله تعالى: « لاهية قلوبهم » أي ساهية قلوبهم، معرضة عن ذكر الله، متشاغلة عن التأمل والتفهم؛ من قول العرب: لهيت عن ذكر الشيء إذا تركته وسلوت عنه ألهى لهيا ولهيانا. و « لاهية » نعت تقدم الاسم، ومن حق النعت أن يتبع المنعوت في جميع الإعراب، فإذا تقدم النعت الاسم انتصب كقوله: « خاشعة أبصارهم » [ القلم: 43 ] و « ودانية عليهم ظلالها » [ الإنسان: 14 ] و « لاهية قلوبهم » قال الشاعر:

لعزة موحشا طلل يلوح كأنه خلل

أراد: طلل موحش. وأجاز الكسائي والفراء « لاهية قلوبهم » بالرفع بمعنى قلوبهم لاهية. وأجاز غيرهما الرفع على أن يكون خبرا بعد خبر وعلى إضمار مبتدأ. وقال الكسائي: ويجوز أن يكون المعنى؛ إلا استمعوه لاهية قلوبهم. « وأسروا النجوى الذين ظلموا » أي تناجوا فيما بينهم بالتكذيب، ثم بين من هم فقال: « الذين ظلموا » أي الذي أشركوا؛ فـ « الذين ظلموا » بدل من الواو في « أسروا » وهو عائد على الناس المتقدم ذكرهم؛ ولا يوقف على هذا القول على « النجوى » . قال المبرد وهو كقولك: إن الذين في الدار انطلقوا بنو عبدالله فبنو بدل من الواو في انطلقوا. وقيل: هو رفع على الذم، أي هم الذين ظلموا. وقيل: على حذف القول؛ التقدير: يقول الذين ظلموا وحذف القول؛ مثل « والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم » [ الرعد: 23 - 24 ] . واختار هذا القول النحاس؛ قال: والدليل على صحة هذا الجواب أن بعده « هل هذا إلا بشر مثلكم » [ الأنبياء: 3 ] . وقول رابع: يكون منصوبا بمعنى أعني الذين ظلموا. وأجاز الفراء أن يكون خفضا بمعنى اقترب للناس الذين ظلموا حسابهم؛ ولا يوقف على هذا الوجه على « النجوى » ويوقف على الوجه المتقدمة الثلاثة قبله؛ فهذه خمسة أقوال. وأجاز الأخفش الرفع على لغة من قال: أكلوني البراغيث؛ وهو حسن؛ قال الله تعالى: « ثم عموا وصموا كثير منهم » [ المائدة: 71 ] . وقال الشاعر:

بك نال النضال دون المساعي فاهتدين النبال للأغراض

وقال آخر:

ولكن ديافي أبوه وأمه بحوران يعصرن السليط أقاربه

وقال الكسائي: فيه تقديم وتأخير؛ مجازه: والذين ظلموا أسروا النجوى أبو عبيدة: « أسروا » هنا من الأضداد؛ فيحتمل أن يكونوا أخفوا كلامهم، ويحتمل أن يكونوا أظهروه وأعلنوه.

 

قوله تعالى: « هل هذا إلا بشر مثلكم » أي تناجوا بينهم وقالوا: هل هذا الذكر الذي هو الرسول، أو هل هذا الذي يدعوكم إلا بشر مثلكم، لا يتميز عنكم بشيء، يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق كما تفعلون. وما علموا أن الله عز وجل أنه لا يجوز أن يرسل إليهم إلا بشرا ليتفهموا ويعلمهم. « أفتأتون السحر » أي إن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم سحر، فكيف تجيؤون إليه وتتبعونه؟ فأطلع الله نبيه عليه السلام على ما تناجوا به. و « السحر » في اللغة كل مموه لا حقيقة له ولا صحة. « وأنتم تبصرون » أنه إنسان مثلكم مثل: « وأنتم تعقلون » لأن العقل البصر بالأشياء. وقيل: المعنى؛ أفتقبلون السحر وأنتم تعلمون أنه سحر. وقيل: المعني؛ أفتعدلون إلى الباطل وأنتم تعرفون الحق؛ ومعنى الكلام التوبيخ.

 

الآيات: 4 - 6 ( قال ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم، بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون، ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون )

 

قوله تعالى: « قال ربي يعلم القول في السماء والأرض » أي لا يخفى عليه شيء مما يقال في السماء والأرض. وفي مصاحف أهل الكوفة « قال ربي » أي قال محمد ربي يعلم القول؛ أي هو عالم بما تناجيتم به. وقيل: إن القراءة الأولى أولي لأنهم أسروا هذا القول فأظهر الله عز وجل عليه نبيه صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يقول لهم هذا؛ قال النحاس: والقراءتان صحيحتان وهما بمنزلة الآيتين، وفيهما من الفائدة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر وأنه قال كما أمر.

 

قوله تعالى: « بل قالوا أضغاث أحلام » قال الزجاج: أي قالوا الذي يأتي به أضغاث أحلام. وقال غيره: أي قالوا هو أخلاط كالأحلام المختلطة؛ أي أهاويل رآها في المنام؛ قال معناه مجاهد وقتادة؛ ومنه قول الشاعر:

كضغث حلم غرمنه حالمه

وقال القتبي: إنها الرؤيا الكاذبة؛ وفيه قول الشاعر:

أحاديث طسم أو سراب بفدفد ترقرق للساري وأضغاث حالم

وقال اليزيدي: الأضغاث ما لم يكن له تأويل. وقد مضى هذا في « يوسف » . فلما رأوا أن الأمر ليس كما قالوا انتقلوا عن ذلك فقالوا: « بل افتراه » ثم انتقلوا عن ذلك فقالوا: « بل هو شاعر » أي هم متحيرون لا يستقرون على شيء قالوا ومرة سحر، ومرة أضغاث أحلام، ومرة افتراه، ومرة شاعر. وقيل: أي قال فريق إنه ساحر، وفريق إنه أضغاث أحلام؛ وفريق إنه افتراه، وفريق إنه شاعر. والافتراء الاختلاق؛ وقد تقدم. « فليأتنا بآية كما أرسل الأولون » أي كما أرسل موسى بالعصا وغيرها من الآيات ومثل ناقة صالح. وكانوا عالمين بأن القرآن ليس بسحر ولا رؤيا ولكن قالوا: ينبغي أن يأتي بآية نقترحها؛ ولم يكن لهم الاقتراح بعدما رأوا آية واحدة. وأيضا إذا لم يؤمنوا بآية هي من جنس ما هم أعلم الناس به، ولا مجال للشبهة فيها فكيف يؤمنون بآية غيرها، ولو أبرأ الأكمه والأبرص لقالوا: هذا من باب الطب، وليس ذلك من صناعتنا، وإنما كان سؤالهم تعنتا إذ كان الله أعطاهم من الآيات ما فيه كفاية. وبين الله عز وجل أنهم لو كانوا يؤمنون لأعطاهم ما سألوه لقوله عز وجل: « ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون » [ الأنفال: 23 ] .

 

قوله تعالى: « ما آمنت قبلهم من قرية » قال ابن عباس: يريد قوم صالح وقوم فرعون. « أهلكناها » يريد كان في علمنا هلاكها. « أفهم يؤمنون » يريد يصدقون؛ أي فما آمنوا بالآيات فاستؤصلوا فلو رأى هؤلاء ما اقترحوا لما آمنوا؛ لما سبق من القضاء بأنهم لا يؤمنون أيضا؛ وإنما تأخر عقابهم لعلمنا بأن في أصلابهم من يؤمن. و « من » زائدة في قوله: « من قرية » كقوله: « فما منكم من أحد عنه حاجزين » [ الحاقة: 47 ] .

 

الآيات: 7 - 10 ( وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون، وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين، ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين، لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون )

 

قوله تعالى: « وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم » هذا رد عليهم في قولهم: « هل هذا إلا بشر مثلكم » [ الأنبياء: 3 ] وتأنيس لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ أي لم يرسل قبلك إلا رجالا. « فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون » يريد أهل التوراة والإنجيل الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، قاله سفيان. وسماهم أهل الذكر؛ لأنهم كانوا يذكرون خبر الأنبياء مما لم تعرفه العرب. وكان كفار قريش يراجعون أهل الكتاب في آمر محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن زيد: أراد بالذكر القرآن؛ أي فاسألوا المؤمنين العالمين من أهل القرآن؛ قال جابر الجعفي: لما نزلت هذه الآية قال علي رضي الله عنه نحن أهل الذكر. وقد ثبت بالتواتر أن الرسل كانوا من البشر؛ فالمعنى لا تبدؤوا بالإنكار وبقولكم ينبغي أن يكون الرسول من الملائكة، بل ناظروا المؤمنين ليبينوا لكم جواز أن يكون الرسول من البشر. والملك لا يسمى رجلا؛ لأن الرجل يقع على ماله ضد من لفظه تقول رجل وامرأة، ورجل وصبي فقوله: « إلا رجالا » من بني آدم. وقرأ حفص وحمزة والكسائي « نوحي إليهم » .

مسألة: لم يختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها، وأنهم المراد بقول الله عز وجل: « فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون » أجمعوا على أن الأعمى لا بدله من تقليد غيره ممن يثق بميزة بالقبلة إذا أشكلت عليه؛ فكذلك من لا علم له ولا بصر بمعنى ما يدين به لا بد له من تقليد عالمه، وكذلك لم يختلف العلماء أن العامة لا يجوز لها الفتيا؛ لجهلها بالمعاني التي منها يجوز التحليل والتحريم.

 

قوله تعالى: « وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام » الضمير في « جعلناهم » للأنبياء؛ أي لم نجعل الرسل قبلك خارجين عن طباع البشر لا يحتاجون إلى طعام وشراب « وما كانوا خالدين » يريد لا يموتون وهذا جواب لقولهم: « ما هذا إلا بشر مثلكم » [ المؤمنون: 33 ] وقولهم: « ما لهذا الرسول يأكل الطعام » [ الفرقان: 7 ] . و « جسدا » اسم جنس؛ ولهذا لم يقل أجسادا، وقيل: لم يقل أجسادا؛ لأنه أراد وما جعلنا كل واحد منهم جسدا. والجسد البدن؛ تقول منه تجسد كما تقول من الجسم تجسم. والجسد أيضا الزعفران أو نحوه الصبغ، وهو الدم أيضا؛ قاله النابغة:

وما أهريق على الأنصاب من جسد

وقال الكلبي: والجسد هو المتجسد الذي فيه الروح يأكل ويشرب؛ فعلى مقتضى هذا القول يكون ما لا يأكل ولا يشرب جسما وقال مجاهد: الجسد ما لا يأكل ولا يشرب؛ فعلى مقتضى هذا القول يكون ما يأكل ويشرب نفسا ذكره الماوردي. « ثم صدقناهم الوعد » يعني الأنبياء؛ أي بإنجائهم ونصرهم وإهلاك مكذبيهم. « فأنجيناهم ومن نشاء » أي الذين صدقوا الأنبياء. « وأهلكنا المسرفين » أي المشركين.

 

قوله تعالى: « لقد أنزلنا إليكم كتابا » يعني القرآن. « فيه ذكركم » رفع بالابتداء والجملة في موضع نصب لأنها نعت لكتاب؛ والمراد بالذكر هنا الشرف؛ أي فيه شرفكم، مثل « وإنه لذكر لك ولقومك » [ الزخرف: 44 ] . ثم نبههم بالاستفهام الذي معناه التوقيف فقال عز وجل: « أفلا تعقلون » وقيل: فيه ذكركم أي ذكر أم دينكم؛ وأحكام شرعكم وما تصيرون إليه من ثواب وعقاب، أفلا تعقلون هذه الأشياء التي ذكرناها؟ ! وقال مجاهد: « فيه ذكركم » أي حديثكم. وقيل: مكارم أخلاقكم، ومحاسن أعمالكم. وقال سهل بن عبدالله: العمل بما فيه حياتكم.

قلت: وهذه الأقوال بمعنى والأول يعمها؛ إذ هي شرف كلها، والكتاب شرف لنبينا عليه السلام؛ لأنه معجزته، وهو شرف لنا إن عملنا بما فيه، دليله قول عليه السلام: ( القرآن حجة لك أو عليك ) .

 

الآيات: 11 - 15 ( وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين، فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون، لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون، قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين، فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين )

 

قوله تعالى: « وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة » يريد مدائن كانت باليمن. وقال أهل التفسير والأخبار: إنه أراد أهل حضور وكان بعث إليهم نبي اسمه شعيب بن ذي مهدم، وقبر شعيب هذا باليمن بجبل يقال له ضنن كثير الثلج، وليس بشعيب صاحب مدين؛ لأن قصة حضور قبل مدة عيسى عليه السلام، وبعد مئين من السنين من مدة سليمان عليه السلام، وأنهم قتلوا نبيهم وقتل أصحاب الرسول في ذلك التاريخ نبيا لهم اسمه حنظلة بن صفوان، وكانت حضور بأرض الحجاز من ناحية الشام، فأوحى الله إلى أرميا أن أيت بختنصر فأعلمه أني قد سلطته على أرض العرب وأني منتقم بك منهم، وأوحى الله إلى أرميا أن احمل معد بن عدنان على البراق إلى أرض العراق؛ كي لا تصيبه النقمة والبلاء معهم، فإني مستخرج من صلبه نبيا في آخر الزمان اسمه محمد، فحمل معدا وهو ابن اثنتا عشرة سنة، فكان مع بني إسرائيل إلى أن كبر وتزوج امرأة اسمها معانة؛ ثم إن بختنصر نهض بالجيوش، وكمن للعرب في مكان - وهو أول من اتخذ المكامن فيما ذكروا - ثم شن الغارات على حضور فقتل وسبى وخرب العامر، ولم يترك بحضور أثرا، ثم نصرف راجعا إلى السواد. و « كم » في موضع نصب بـ « قصمنا » . والقصم الكسر؛ يقال: قصمت ظهر فلان وانقصمت سنه إذا انكسرت والمعني به ههنا الإهلاك. وأما الفصم ( بالفاء ) فهو الصدع في الشيء من غير بينونة؛ قال الشاعر:

كأنه دملج من فضه نبه في ملعب من عذاري الحي مفصوم

ومنه الحديث ( فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا ) . وقوله: « كان ظالمة » أي كافرة؛ يعني أهلها. والظلم وضع الشيء في غير موضعه، وهم وضعوا الكفر موضع الإيمان.

 

قوله تعالى: « وأنشأنا » أي أوجدنا وأحدثنا بعد إهلاكهم « فلما أحسوا » أي رأوا عذابنا؛ يقال: أحسست منه ضعفا. وقال الأخفش: « أحسوا » خافوا وتوقعوا. « إذا هم منها يركضون » أي يهربون ويفرون. والركض العدو بشدة الوطء. والركض تحريك الرجل؛ ومنه قوله تعالى: « اركض برجلك » [ ص: 42 ] وركضت الفرس برجلي استحثثته ليعدو ثم كثر حتى قيل ركض الفرس إذا عدا وليس بالأصل، والصواب ركض الفرس على ما لم يسم فاعله فهوم مركوض.

 

قوله تعالى: « لا تركضوا » أي لا تفروا. وقيل: إن الملائكة نادتهم لما انهزموا استهزاء بهم وقالت: « لا تركضوا » « وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم » أي إلى نعمكم التي كانت سبب بطركم، والمترف المتنعم؛ يقال: أترف على فلان أي وسع عليه في معاشه. وإنما أترفهم الله عز وجل كما قال: « وأترفناهم في الحياة الدنيا » [ المؤمنون: 33 ] . « لعلكم تسألون » أي لعلكم تسألون شيئا من دنياكم؛ استهزاء بهم؛ قاله قتادة. وقيل: المعنى « لعلكم تسألون » عما نزل بكم من العقوبة فتخبرون به. وقيل: المعنى « لعلكم تسألون » أي تؤمنوا كما كنتم تسألون ذلك قبل نزول البأس بكم؛ قيل لهم ذلك استهزاء وتقريعا وتوبيخا. « قالوا يا ويلنا » لما قالت لهم الملائكة: « لا تركضوا » ونادت بالثارات الأنبياء! ولم يروا شخصا يكلمهم عرفوا أن الله عز وجل هو الذي سلط عليهم عدوهم بقتلهم النبي الذي بعث فيهم، فعند ذلك قالوا « يا ويلنا إن كنا ظالمين » فاعترفوا بأنهم ظلموا حين لا ينفع الاعتراف. « فما زالت تلك دعواهم » أي لم يزالوا يقولون: « يا ويلتا إنا كنا ظالمين » . « حتى جعلناهم حصيدا » أي بالسيوف كما يحصد الزرع بالمنجل؛ قال مجاهد. وقال الحسن: أي بالعذاب. « خامدين » أي ميتين. والخمود الهمود كخمود النار إذا طفئت فشبه خمود الحياة بخمود النار كما يقال لمن مات قد طفئ تشبيها بانطفاء النار.

 

الآيات: 16 - 18 ( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين، لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين، بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون )

 

قوله تعالى: « وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين » أي عبثا وباطلا؛ بل للتنبيه على أن لها خالقا قادرا يجب امتثال أموه، وأنه يجازي المسيء والمحسن أي ما خلقنا السماء والأرض ليظلم بعض الناس بعضا ويكفر بعضهم، ويخالف بعضهم ما أمر به ثم يموتوا ولا يجازوا، ولا يؤمروا في الدنيا بحسن ولا ينهوا عن قبيح. وهذا اللعب المنفي عن الحكيم ضده الحكمة.

 

قوله تعالى: « لو أردنا أن نتخذ لهوا » لما اعتقد قوم أن له ولدا قال: « لو أردنا أن نتخذ لهوا » واللهو المرأة بلغة اليمن؛ قاله قتادة. وقال عقبة بن أبي جسرة - وجاء طاووس وعطاء ومجاهد يسألونه عن قوله تعالى: « لو أردنا أن نتخذ لهوا » - فقال: اللهو الزوجة؛ وقال الحسن. وقال ابن عباس: اللهو الولد؛ وقاله الحسن أيضا. قال الجوهري: وقد يكنى باللهو عن الجماع.

قلت: ومنه قول امرئ القيس:

ألا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت وألا يحسن اللهو أمثالي

وإنما سمي الجماع لهوا لأنه ملهى للقلب، كما قال:

وفيهن ملهى للصديق ومنظر

الجوهري: قوله تعالى: « لو أردنا أن نتخذ لهوا » قالوا امرأة، ويقال: ولدا. « لاتخذناه من لدنا » أي من عندنا لا من عندكم. قال ابن جريج: من أهل السماء لا من أهل الأرض. قيل: أراد الرد على من قال إن الأصنام بنات الله؛ أي كيف يكون منحوتكم ولدا لنا. وقال ابن قتيبة: الآية رد على النصارى. « إن كنا فاعلين » قال قتادة ومقاتل وابن. جريح والحسن: المعنى ما كنا فاعلين؛ مثل « إن أنت إلا نذير » [ فاطر: 23 ] أي ما أنت إلا نذير. و « إن » بمعنى الجحد وتم الكلام عند قوله: « لاتخذناه من لدنا » . وقيل: إنه على معنى الشرط؛ أي إن كنا فاعلين ذلك ولكن لسنا بفاعلين ذلك لاستحالة أن يكون لنا ولد؛ إذ لو كان ذلك لم نخلق جنة ولا نارا ولا موتا ولا بعثا ولا حسابا. وقيل: لو أردنا أن نتخذ ولدا على طريق التبني لاتخذناه من عندنا من الملائكة. ومال إلى هذا قوم؛ لأن الإرادة قد تتعلق بالتبني فأما اتخاذ الولد فهو محال، والإرادة لا تتعلق بالمستحيل؛ ذكره القشيري.

 

قوله تعالى: « بل نقذف بالحق على الباطل » القذف الرمي؛ أي نرمي بالحق على الباطل. « فيدمغه » أي يقهره ويهلكه. وأصل الدمغ شج الرأس حتى يبلغ الدماغ، ومنه الدامغة. والحق هنا القرآن، والباطل الشيطان في قول مجاهد؛ قال: وكل ما في القرآن من الباطل فهو الشيطان. وقيل: الباطل كذبهم ووصفهم الله عز وجل بغير صفاته من الولد وغيره. وقيل: أراد بالحق الحجة، وبالباطل شبههم. وقيل: الحق المواعظ، والباطل المعاصي؛ والمعنى متقارب. والقرآن يتضمن الحجة والموعظة. « فإذا هو زاهق » أي هالك وتالف؛ قاله قتادة. « ولكم الويل » أي العذاب في الآخرة بسبب وصفكم الله بما لا يجوز وصفه. وقال ابن عباس: الويل واد في جهنم؛ وقد تقدم. « مما تصفون » أي مما تكذبون؛ عن قتادة ومجاهد؛ نظيره « سيجزيهم وصفهم » [ الأنعام: 139 ] أي بكذبهم. وقيل: مما تصفون الله به من المحال وهو اتخاذه سبحانه الولد.

 

الآيات: 19 - 21 ( وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون )

 

قوله تعالى: « وله من في السماوات والأرض » أي ملكا وخلقا فكيف يجوز أن يشرك به ما هو عبده وخلقه. « ومن عنده » يعني الملائكة الذين ذكرتم أنهم بنات الله. « لا يستكبرون » أي لا يأنفون « عن عبادته » والتذلل له. « ولا يستحسرون » أي يعيون؛ قال قتادة. مأخوذ من الحسير وهو البعير المنقطع بالأعياء والتعب، [ يقال ] : حسر البعير يحسر حسورا أعيا وكل، واستحسر وتحسر مثله، وحسرته أنا حسرا يتعدى ولا يتعدى، وأحسرته أيضا فهو حسير. وقال ابن زيد: لا يملون. ابن عباس: لا يستنكفون. وقال أبو زيد: لا يكلون. وقيل: لا يفشلون؛ ذكره ابن الأعرابي؛ والمعنى واحد. « يسبحون الليل والنهار » أي يصلون ويذكرون الله وينزهونه دائما. « لا يفترون » أي لا يضعفون ولا يسأمون، يلهمون التسبيح والتقديس كما يلهمون النفس. قال عبدالله بن الحرث سألت كعبا فقلت: أما لهم شغل عن التسبيح؟ أما يشغلهم عنه شيء؟ فقال: من هذا؟ فقلت: من بني عبدالمطلب؛ فضمني إليه وقال: يا ابن أخي هل يشغلك شيء عن النفس؟! إن التسبيح لهم بمنزلة النفس. وقد استدل بهذه الآية من قال: إن الملائكة أفضل من بني آدم. وقد تقدم والحمد لله.

 

قوله تعالى: « أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون » قال المفضل: مقصود هذا الاستفهام الجحد، أي لم يتخذوا آلهة تقدر على الإحياء. وقيل: « أم » بمعنى « هل » أي هل اتخذ هؤلاء المشركون آلهة من الأرض يحيون الموتى. ولا تكون « أم » هنا بمعنى بل؛ لأن ذلك يوجب لهم إنشاء الموتى إلا أن تقدر « أم » مع الاستفهام فتكون « أم » المنقطعة فيصح المعنى؛ قاله المبرد. وقيل: « أم » عطف على المعنى أي أفخلقنا السماء والأرض لعبا، أو هذا الذي أضافوه إلينا من عندنا فيكون لهم موضع شبهة؟ أو هل ما اتخذوه من الآلهة في الأرض يحيي الموتى فيكون موضع شبهة؟. وقيل: « لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون » [ الأنبياء: 10 ] ثم عطف عليه بالمعاتبة، وعلى هذين التأويلين تكون « أم » متصلة. وقرأ الجمهور « ينشرون » بضم الياء وكسر الشين من أنشر الله الميت فنشر أي أحياه فحيي. وقرأ الحسن بفتح الياء؛ أي يحيون ولا يموتون.

 

الآيات: 22 - 24 ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون )

 

قوله تعالى: « لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا » أي لو كان في السموات والأرضين آلهة غير الله معبودون لفسدتا. قال الكسائي وسيبويه: « إلا » بمعنى غير فلما جعلت إلا في موضع غير أعرب الاسم الذي بعدها بإعراب كما غير، كما قال:

وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان

وحكى سيبويه: لو كان معنا رجل إلا زيد لهلكنا. وقال الفراء: « إلا » هنا في موضع سوى، والمعنى: لو كان فيهما آلهة سوى الله لفسد أهلها. وقال غيره: أي لو كان فيهما إلهان لفسد التدبير؛ لأن أحدهما إن أراد شيئا والآخر ضده كان أحدهما عاجزا. وقيل: معنى « لفسدتا » أي خربتا وهلك من فيهما بوقوع التنازع بالاختلاف الواقع بين الشركاء. « فسبحان الله رب العرش عما يصفون » نزه نفسه وأمر العباد أن ينزهوه عن أن يكون له شريك أو ولد.

 

قوله تعالى: « لا يسأل عما يفعل وهم يسألون » قاصمة للقدرية وغيرهم. قال ابن جريج: المعنى لا يسأل الخلق عن قضائه في خلقه وهو يسأل الخلق عن عملهم؛ لأنهم عبيد. بين بهذا أن من يسأل غدا عن أعماله كالمسيح والملائكة لا يصلح للألهية. وقيل: لا يؤاخذ على أفعاله وهم يؤاخذون. وروي عن علي رضي عنه أن رجلا قال له يا أمير المؤمنين: أيحب ربنا أن يعصى؟ قال: أفيعصى ربنا قهرا؟ قال: أرأيت إن منعني الهدى ومنحني الردى أأحسن إلي أم أساء؟ قال: إن منعك حقك فقد أساء، وإن منعك فضله فهو يؤتيه من يشاء. ثم تلا الآية: « لا يسأل عمال يفعل يفعل وهم يسألون » . وعن ابن عباس قال: لما بعث الله عز وجل موسى وكلمه، وأنزل عليه التوراة، قال: اللهم إنك رب عظيم، لو شئت أن تطاع لأطعت، ولو شئت ألا تعصى ما عصيت، وأنت تحب أن تطاع وأنت في ذلك تعصى فكيف هذا يا رب؟ فأوحي الله إليه: إني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون.

 

قوله تعالى: « أم اتخذوا من دونه آلهة » أعاد التعجب في اتخاذ الآلهة من دون الله مبالغة في التوبيخ، أي صفتهم كما تقدم في الإنشاء والإحياء، فتكون « أم » بمعنى هل على ما تقدم، فليأتوا بالبرهان على ذلك. وقيل: الأول احتجاج. من حيث المعقول؛ لأنه قال: « هم ينشرون » ويحيون الموتى؛ هيهات! والثاني احتجاج بالمنقول، أي هاتوا برهانكم من هذه الجهة، ففي أي كتاب نزل هذا؟ في القران، أم في الكتب المنزلة سائر الأنبياء؟ « هذا ذكر من معي » بإخلاص التوحيد في القرآن « وذكر من قبلي » في التوراة والإنجيل، وما أنزل الله من الكتب؛ فانظروا هل في كتاب من هذه الكتب أن الله أمر باتخاذ آلهة سواه؟ فالشرائع لم تختلف فيما يتعلق بالتوحيد، وإنما اختلفت في الأوامر والنواهي. وقال قتادة: الإشارة إلى القرآن؛ المعنى: « هذا ذكر من معي » بما يلزمهم من الحلال والحرام « وذكر من قبلي » من الأمم ممن نجا بالإيمان وهلك بالشرك. وقيل: « ذكر من معي » بما لهم من الثواب على الإيمان والعقاب على الكفر « وذكر من قبلي » من الأمم السالفة فيما يفعل بهم في الدنيا، وما يفعل بهم في الآخرة. وقيل: معنى الكلام الوعيد والتهديد، أي افعلوا ما شئتم فعن قريب ينكشف الغطاء. وحكى أبو حاتم: أن يحيى بن يعمر وطلحة بن مصرف قرأ « هذا ذكر من معي وذكر من قبلي » بالتنوين وكسر الميم، وزعم أنه لا وجه لهذا. وقال أبو إسحاق الزجاج في هذه القراءة: المعنى؛ هذا ذكر مما أنزل إلي ومما هو معي وذكر من قبلي. وقيل: ذكر كائن من قبلي، أي جئت بما جاءت به الأنبياء من قبلي. « بل أكثرهم لا يعلمون الحق » وقرأ ابن محيصن والحسن « الحق » بالرفع بمعنى هو الحق وهذا هو الحق. وعلى هذا يوقف على « لا يعلمون » ولا يوقف عليه على قراءة النصب. « فهم معرضون » أي عن الحق وهو القرآن، فلا يتأملون حجة التوحيد.

 

الآية: 25 ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون )

 

قوله تعالى: « وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا يوحى إليه » وقرأ حفص وحمزة والكسائي « نوحي إليه » بالنون؛ لقوله: « أرسلنا » . « أنه لا إله إلا أنا فاعبدوني » أي قلنا للجميع لا إله إلا الله؛ فأدل العقل شاهدة أنه لا شريك له، والنقل عن جميع الأنبياء موجود، والدليل إما معقول وإما منقول. وقال قتادة: لم يرسل نبي إلا بالتوحيد، والشرائع مختلفة في التوراة والأنجيل والقرآن، وكل ذلك على الإخلاص والتوحيد.

 

الآيات: 26 - 29 ( وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون، ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين )

 

قوله تعالى: « وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه » نزلت في خزاعة حيث قالوا: الملائكة بنات الله، وكانوا يعبدونهم طمعا في شفاعتهم لهم. وروى معمر عن قتادة قال قالت اليهود - قال معمر في روايته - أو طوائف من الناس: خاتن إلى الجن والملائكة من الجن، فقال الله عز وجل: « سبحانه » تنزيها له. « بل عباد » أي بل هم عباد « مكرمون » أي ليس كما زعم هؤلاء الكفار. ويجوز النصب عند الزجاج على معنى بل اتخذ عبادا مكرمين. وأجازه الفراء على أن يرده على ولد، أي بل لم نتخذهم ولدا، بل اتخذناهم عبادا مكرمين. والولد ها هنا للجمع، وقد يكون الواحد والجمع ولدا. ويجوز أن يكون لفظ الولد للجنس، كما يقال لفلان ما « لا يسبقونه بالقول » أي لا يقولون حتى يقول، ولا يتكلمون إلا بما يأمرهم. « وهم بأمره يعملون » أي بطاعته وأوامره. « يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم » أي يعلم ما عملوا وما هم عاملون؛ قال ابن عباس. وعنه أيضا: « ما بين أيديهم » الآخرة « وما خلفهم » الدنيا؛ ذكر الأول الثعلبي، والثاني القشيري. « ولا يشفعون إلا لمن ارتضى » قال ابن عباس: هم أهل شهادة أن لا إله إلا الله وقال مجاهد: هم كل من رضي الله عنه، والملائكة يشفعون غدا في الآخرة كما في صحيح مسلم وغيره، وفي الدنيا أيضا؛ فإنهم يستغفرون للمؤمنين ولمن في الأرض، كما نص عليه التنزيل على ما يأتي. « وهم » يعني الملائكة « من خشيته » يعني من خوفه « مشفقون » أي خائفون لا يأمنون مكره.

 

قوله تعالى: « ومن يقل منهم إني إله من دونه » قال قتادة والضحاك وغيرهما: عني بهذه الآية إبليس حيث أدعى الشركة، ودعا إلى عبادة نفسه وكان من الملائكة، ولم يقل أحد من الملائكة إني إله غيره. وقيل: الإشارة إلى جميع الملائكة، أي فذلك القائل « نجزيه جهنم » وهذا دليل على أنهم وإن أكرموا بالعصمة فهم متعبدون، وليسوا مضطرين إلى العبادة كما ظنه بعض الجهال. وقد استدل ابن عباس بهذه الآية على أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل أهل السماء. وقد تقدم في « البقرة » . « كذلك نجزي الظالمين » أي كما جزينا هذا بالنار فكذلك نجزي الظالمين الواضعين الألوهية والعبادة في غير موضعهما.

 

الآيات: 30 - 33 ( أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون، وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون، وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون، وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون )

 

قوله تعالى: « أولم يرى الذين كفروا » قراءة العامة « أو لم » بالواو. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد وشبل بن عباد « ألم تر » بغير واو وكذلك هو في مصحف مكة. « أو لم ير » بمعنى يعلم. « الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا » قال الأخفش: « كانتا » لأنهما صنفان، كما تقول العرب: هما لقاحان أسودان، وكما قال الله عز وجل: « إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا » [ فاطر: 41 ] قال أبو إسحاق: « كانتا » لأنه يعبر عن السموات بلفظ الواحد بسماء؛ ولأن السموات كانت سماء واحدة، وكذلك الأرضون. وقال: « رتقا » ولم يقل رتقين؛ لأنه مصدر؛ والمعنى كانتا ذواتي رتق. وقرأ الحسن « رتقا » بفتح التاء. قال عيسى بن عمر: هو صواب وهي لغة. والرتق السد ضد الفتق، وقد رتقت الفتق أرتقه فارتتق أي التأم، ومنه الرتقاء للمنضمة الفرج. قال ابن عباس والحسن وعطاء والضحاك وقتادة: يعني أنها كانت شيط واحدا ملتزقتين ففصل الله بينهما بالهواء. وكذلك قال كعب: خلق الله السموات والأرض بعضها على ثم خلق ريحا بوسطها ففتحها بها، وجعل السموات سبعا والأرضين سبعا. وقول ثان قال مجاهد والسدي وأبو صالح: كانت السموات مؤتلفة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع سموات، وكذلك الأرضين كانت مرتتقة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبعا. وحكاه القتبي في عيون الأخبار له، عن إسماعيل بن أبي خالد في قول الله عز وجل: « أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقاهما » قال: كانت السماء مخلوقة وحدها والأرض مخلوقة وحدها، ففتق من هذه سبع سموات، ومن هذه سبع أرضين؛ خلق الأرض العليا فجعل سكانها الجن والإنس، وشق فيها الأنهار وأنبت فيها الأثمار، وجعل فيها البحار وسماها رعاء، مسيرة خمسمائة عام؛ ثم خلق الثانية مثلها في العرض والغلظ وجعل فيها أقواما، أفواههم كأفواه الكلاب وأيديهم أيدي الناس؛ وآذانهم آذان البقر وشعورهم شعور الغنم، فإذا كان عند اقتراب الساعة ألقتهم الأرض إلى يأجوج ومأجوج، واسم تلك الأرض الدكماء، ثم خلق الأرض الثالثة غلظها مسيرة خمسمائة عام، ومنها هواء إلى الأرض. الرابعة خلق فيها ظلمة وعقارب لأهل النار مثل البغال السود، ولها أذناب مثل أذناب الخيل الطوال، يأكل بعضها بعضا فتسلط على بني آدم. ثم خلق الله الخامسة [ مثلها ] في الغلظ والطول والعرض فيها سلاسل وأغلال وقيود لأهل النار. ثم خلق الله الأرض السادسة واسمها ماد، فيها حجارة سود بهم، ومنها خلقت تربة آدم عليه السلام، تبعث تلك الحجارة يوم القيامة وكل حجر منها كالطود العظيم، وهي من كبريت تعلق في أعناق الكفار فتشتعل حتى تحرق وجوههم وأيديهم، فذلك قول عز وجل: « وقودها الناس والحجارة » [ البقرة: 24 ] ثم خلق الله الأرض السابعة واسمها عربية وفيها جهنم، فيها بابان اسم الواحد سجين والآخر الغلق، فأما سجين فهو مفتوح وإليه ينتهي كتاب الكفار، وعليه يعرض أصحاب المائدة وقوم فرعون، وأما الغلق فهو مغلق لا يفتح إلى يوم القيامة. وقد مضى في « البقرة » أنها سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة عام، وسيأتي له في آخر « الطلاق » زيادة بيان إن شاء الله تعالى. وقول ثالث قال عكرمة وعطية وابن زيد وابن عباس أيضا فيما ذكر المهدوي: إن السموات كانت رتقا لا تمطر، والأرض كانت رتقا لا تنبت، ففتق السماء بالمطر، والأرض بالنبات؛ نظيره قوله عز وجل: « والسماء ذات الرجع. والأرض ذات الصدع » [ الطارق: 11 - 12 ] . واختار هذا القول الطبري؛ لأن بعده: « وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون » .

قلت: وبه يقع الاعتبار مشاهدة ومعاينة؛ ولذلك أخبر بذلك في غير ما آية؛ ليدل على مال قدرته، وعلى البعث والجزاء. وقيل:

يهون عليهم إذا يغضبو ن سخط العداة وإرغامها

ورتق الفتوق وفتق الرتو ق ونقض الأمور وإبرامها

 

قوله تعالى: « وجعلنا من الماء كل شيء حي » ثلاث تأويلات: أحدها: أنه خلق كل شيء من الماء؛ قال قتادة الثاني: حفظ حياة كل شيء بالماء. الثالث: وجعلنا من ماء الصلب كل شيء حي؛ قال قطرب. « وجعلنا » بمعنى خلقنا. وروى أبو حاتم البستي في المسند الصحيح له حديث أبي هريرة قال: قلت يا رسول الله إذا رأيتك طابت نفسي، وقرت عيني، أنبئني عن كل شيء؛ قال: ( كل شيء خلق من الماء ) الحديث؛ قال أبو حاتم قول أبي هريرة: « أنبئني عن كل شيء » أراد به عن كل شيء خلق من الماء، والدليل على صحة هذا جواب المصطفى إياه حيث قال: ( كل شيء خلق من الماء ) وإن لم يكن مخلوقا. وهذا احتجاج آخر سوى ما تقدم من كون السموات والأرض رتقا. وقيل: الكل قد يذكر بمعنى البعض كقول: « وأوتيت من كل شيء » [ النمل: 23 ] وقول: « تدمر كل شيء » [ الأحقاف: 25 ] والصحيح العموم؛ لقول عليه السلام: ( كل شي خلق من الماء ) والله أعلم. « أفلا يؤمنون » أي أفلا يصدقون بما يشاهدون، وأن ذلك لم يكن بنفسه، بل لمكون كونه، ومدبر أوجده، ولا يجوز أن يكون ذلك المكون محدثا.

 

قوله تعالى: « وجعلنا في الأرض رواسي » أي جبالا ثوابت. « أن تميد بهم » أي لئلا تميد بهم، ولا تتحرك ليتم القرار عليها؛ قاله الكوفيون. وقال البصريون: المعنى كراهية أن تميد. والميد التحرك والدوران. يقال: ماد رأسه؛ أي دار. ومضى في « النحل » مستوفى. « وجعلنا فيها فجاجا » يعني في الرواسي؛ عن ابن عباس. والفجاج ا لمسالك. والفج الطريق الواسع بين الجبلين. وقيل: وجعلنا في الأرض فجاجا أي مسالك؛ وهو اختيار الطبري؛ لقوله: « لعلهم يهتدون » أي يهتدون إلى السير في الأرض. « سبلا » تفسير الفجاج؛ لأن الفج قد يكون طريقا نافذا مسلوكا وقد لا يكون. وقيل: ليهتدوا بالاعتبار بها إلى دينهم.

 

قوله تعالى: « وجعلنا السماء سقفا محفوظا » أي محفوظا من أن يقع ويسقط على الأرض؛ دليله قوله تعالى: « ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه » [ الحج: 65 ] . وقيل: محفوظا بالنجوم من الشياطين؛ قاله الفراء. دليله قوله تعالى: « وحفظناها من كل شيطان رجيم » [ الحجر: 17 ] . وقيل: محفوظا من الهدم والنقض، وعن أن يبلغه أحد بحيلة. وقيل: محفوظا فلا يحتاج إلى عماد. وقال مجاهد: مرفوعا. وقيل: محفوظا من الشرك والمعاصي. « وهم » يعني الكفار « عن آياتها معرضون » قال مجاهد يعني الشمس والقمر. وأضاف الآيات إلى السماء لأنها مجعولة فيها، وقد أضاف الآيات إلى نفسه في مواضع، لأنه الفاعل لها. بين أن المشركين غفلوا عن النظر في السموات وآياتها، من ليلها ونهارها، وشمسها وقمرها، وأفلاكها ورياحها وسحابها، وما فيها من قدرة الله تعالى، إذ لو نظروا واعتبروا لعلموا أن لها صانعا قادرا فيستحيل أن يكون له شريك.

 

قوله تعالى: « وهو الذي خلق الليل والنهار » ذكرهم نعمة أخرى: جعل لهم الليل ليسكنوا فيه، والنهار ليتصرفوا فيه لمعايشهم « والشمس والقمر » أي وجعل الشمس آية النهار، والقمر آية الليل؛ لتعلم الشهور والسنون والحساب، كما تقدم في « سبحان » بيانه. « كل » يعني من الشمس والقمر والنجوم والكواكب والليل والنهار « في فلك يسبحون » أي يجرون ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء. قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: « والسابحات سبحا » ويقال للفرس الذي يمد يده في الجري سابح. وفيه من النحو أنه لم يقل: يسحن ولا تسبح؛ فمذهب سيبويه: أنه لما أخبر عنهن بفعل من يعقل وجعلهن في الطاعة بمنزلة من يعقل، أخبر عنهن بفعل من يعقل وجعلهن في الطاعة بمنزلة من يعقل، أخبر عنهن بالواو والنون ونحوه قال الفراء. وقد تقدم هذا المعنى في « يوسف » . وقال الكسائي: إنما قال: « يسبحون » لأنه رأس آية، كما قال الله تعالى: « نحن جميع منتصر » [ القمر: 44 ] ولم يقل منتصرون. وقيل: الجري للفلك فنسب إليها. والأصح أن السيارة تجري في الفلك، وهي سبعة أفلاك دون السموات المطبقة، التي هي مجال الملائكة وأسباب الملكوت، فالقمر في الفلك الأدنى، ثم عطارد، ثم الزهرة، ثم الشمس، ثم المريخ، ثم المشتري، ثم زحل، والثامن فالك البروج، التاسع الفلك الأعظم. والفلك واحد أفلاك النجوم. قال أبو عمرو: ويجوز أن يجمع على فعل مثل أسد وأسد وخشب وخشب. وأصل الكلمة من الدوران، ومنه فلكة المغزل؛ لاستدارتها. ومنه قيل: فلك ثدي المرأة تفليكا، وتفلك استدار. وفي حديث ابن مسعود: تركت فرسي كأنه يدور في فلك. كأنه لدورانه شبهه بفلك السماء الذي تدور عليه النجوم. قال ابن زيد: الأفلاك مجاري النجوم والشمس والقمر. قال: وهي بين السماء والأرض. وقال قتادة: الفلك استدارة في السماء تدور بالنجوم مع ثبوت السماء. وقال مجاهد: الفلك كهيئة حديد الرحى وهو قطبها. وقال الضحاك: فلكها مجراها وسرعة مسيرها. وقيل: الفلك موج مكتوف ومجرى الشمس والقمر فيه؛ والله أعلم.

 

الآيتان: 34 - 35 ( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون، كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون )

 

قوله تعالى: « وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد » أي دوام البقاء في الدنيا نزلت حين قالوا: نتربص بمحمد ريب المنون. وذلك أن المشركين كانوا يدفعون نبوته ويقولون: شاعر نتربص به ريب المنون، ولعله يموت كما مات شاعر بني فلان؛ فقال الله تعالى: قد مات الأنبياء من قبلك، وتولى الله دينه بالنصر والحياطة، فهكذا نحفظ دينك وشرعك. « أفإن مت فهم الخالدون »

أي أفهم؛ مثل قول الشاعر:

رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع فقلت وأنكرت الوجوه هم هم

أي أهم فهو استفهام إنكار. وقال الفراء: جاء بالفاء ليدل على الشرط؛ لأنه جواب قولهم سيموت. ويجوز أن يكون جيء بها؛ لأن التقدير فيها: أفهم الخالدون إن مت! قال الفراء: ويجوز حذف الفاء وإضمارها؛ لأن « هم » لا يتبين فيها الإعراب. أي إن مت فهم يموتون أيضا، فلا شماتة في الإماتة. وقرئ « مت » بكسر الميم وضمها لغتان. « كل نفس ذائقة الموت » تقدم. « ونبلوكم بالشر والخير فتنة » « فتنة » مصدر على غير اللفظ. أي نختبركم بالشدة والرخاء والحلال والحرام، فننظر كيف شكركم وصبركم. « وإلينا ترجعون » أي للجزاء بالأعمال.

 

الآية: 36 ( وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون )

 

قوله تعالى: « وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا » أي ما يتخذونك. والهزاء السخرية؛ وقد تقدم وهم المستهزئون المتقدمو الذكر في آخر سورة « الحجر » في قوله: « إنا كفيناك المستهزئين » [ الحجر: 95 ] . كانوا يعيبون من جاحد إلهية أصنامهم وهم جاحدون لإلهية الرحمن؛ وهذا غاية الجهل. « أهذا الذي » أي يقولون: أهذا الذي؟ فأضمر القول وهو جواب « إذا » وقوله: « إن يتخذونك إلا هزوا » كلام معترض بين « إذا » وجوابه. « يذكر آلهتكم » أي بالسوء والعيب. ومنه قول عنترة:

لا تذكري مهري وما أطعمته فيكون جلدك مثل جلد الأجرب

أي لا تعيبي مهري. « وهم بذكر الرحمن » أي بالقرآن. « هم كافرون » « هم » الثانية توكيد كفرهم، أي هم الكافرون مبالغة في وصفهم بالكفر.

 

الآيات: 37 - 40 ( خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون، ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين، لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون، بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون )

 

قوله تعالى: « خلق الإنسان من عجل » أي ركب على العجلة فخلق عجولا؛ كما قال الله تعالى: « الله الذي خلقكم من ضعف » [ الروم: 54 ] أي خلق الإنسان ضعيفا. ويقال: خلق الإنسان من الشر أي شريرا إذا بالغت في وصفه به. ويقال: إنما أنت ذهاب ومجيء. أي ذاهب جائي. أي طبع الإنسان العجلة، فيستعجل كثيرا من الأشياء وإن كانت مضرة. ثم قيل: المراد بالإنسان آدم عليه السلام. قال سعيد بن جبير والسدي: لما دخل الروح في عيني آدم عليه السلام نظر في ثمار الجنة، فلما دخل جوفه اشتهى الطعام، فوثب من قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة. فذلك قوله: « خلق الإنسان من عجل » . وقيل خلق آدم يوم الجمعة. في آخر النهار، فلما أحيا الله رأسه استعجل، وطلب تتميم نفخ الروح فيه قبل غروب الشمس؛ قاله الكلبي ومجاهد وغيرهما. وقال أبو عبيدة وكثير من أهل المعاني: العجل الطين بلغة حمير. وأنشدوا:

والنخل ينبت بين الماء والعجل

وقيل: المراد بالإنسان الناس كلهم. وقيل المراد: النضر بن الحرث بن علقمة بن كلدة بن عبد الدار في تفسير ابن عباس؛ أي لا ينبغي لمن خلق من الطين الحقير أن يستهزئ بآيات الله ورسله. وقيل: إنه من المقلوب؛ أي خلق العجل من الإنسان. وهو مذهب أبي عبيدة. النحاس: وهذا القول لا ينبغي أن يجاب به في كتاب الله؛ لأن القلب إنما يقع في الشعر اضطرارا كما قال:

كان الزناء فريضة الرجم

ونظيره هذه الآية: « وكان الإنسان عجولا » [ الإسراء: 11 ] وقد مضى في « سبحان » [ الإسراء: 1 ] . « سأريكم آياتي فلا تستعجلون » هذا يقوي القول الأول، وأن طبع الإنسان العجلة، وأنه خلق خلقا لا يتمالك، كما قال عليه السلام حسب ما تقدم في « الإسراء » . والمراد بالآيات ما دل على صدق محمد عليه السلام من المعجزات، وما جعله له. العاقبة المحمودة. وقيل: ما طلبوه من العذاب، فأرادوا الاستعجال وقالوا: « متى هذا الوعد » [ يونس: 48 ] ؟ وما علموا أن لكل شيء أجلا مضروبا. نزلت في النضر بن الحرث. وقول: « إن كان هذا هو الحق » [ الأنفال: 32 ] . وقال الأخفش سعيد: معنى « خلق الإنسان من عجل » أي قيل له كن فكان، فمعنى « فلا تستعجلون » على هذا القول أنه من يقول للشيء كن فيكون، لا يعجزه إظهار ما استعجلوه من الآيات. « ويقولون متى هذا الوعد » أي الموعود، كما يقال: الله رجاؤنا أي مرجونا. وقيل: معنى « الوعد » هنا الوعيد، أي الذي يعدنا من العذاب. وقيل: القيامة. « إن كنتم صادقين » يا معشر المؤمنين.

 

قوله تعالى: « لو يعلم الذين كفروا » العلم هنا بمعنى المعرفة فلا يقتضي مفعولا ثانيا مثل « لا تعلمونهم الله يعلمهم » [ الأنفال: 60 ] . وجواب « لو » محذوف، أي لو علموا الوقت الذي « لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون » وعرفوه لما استعجلوا الوعيد. وقال الزجاج: أي لعلموا صدق الوعد. وقيل: المعنى لو علموه لما أقاموا على الكفر ولآمنوا. وقال الكسائي: هو تنبيه على تحقيق وقوع الساعة، أي لو علموه علم يقين لعلموا أن الساعة آتية. ودل عليه « بل تأتيهم بغتة » أي فجأة يعني القيامة. وقيل: العقوبة. وقيل: النار فلا يتمكنون حيلة « فتبهتهم » قال الجوهري: بهته بهتا أخذه بغتة، قال الله تعالى: « بل تأتيهم بغتة فتهتهم » وقال الفراء: « فتبهتهم » أي تحيرهم، يقال: بهته يبهته إذا واجهه بشيء يحيره. وقيل: فتفجأهم. « فلا يستطيعون ردها » أي صرفها عن ظهورهم. « ولا هم ينظرون » أي لا يمهلون ويؤخرون لتوبة واعتذار.

 

الآية: 41 ( ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون )

 

قوله تعالى: « ولقد استهزئ برسل من قبلك » هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتعزية له. يقول: إن استهزأ بك هؤلاء، فقد استهزئ برسل من قبلك، فاصبر كما صبروا. ثم وعده النصر فقال: « فحاق » أي أحاط ودار « بالذين » كفروا « سخروا منهم » وهزئوا بهم « ما كانوا به يستهزئون » أي جزاء استهزائهم.

 

الآيات: 42 - 44 ( قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون، أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون، بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون )

 

قوله تعالى: « قل من يكلؤكم » أي يحرسكم ويحفظكم. والكلاءة الحراسة والحفظ؛ كلاه الله كلاء ( بالكسر ) أي حفظه وحرسه. يقال: اذهب في كلاءة الله؛ واكتلأت منهم أي احترست، قال الشاعر هو ابن هرمة:

إن سليمى والله يكلؤها ضنت بشيء ما كان يرزؤها

وقال آخر:

أنخت بعيري واكتلأت بعينه

وحكى الكسائي والفراء « قل من يكْلَوكم » بفتح اللام وإسكان الواو. وحكيا « من يكلاكم » على تخفيف الهمزة في الوجهين، والمعروف تحقيق الهمزة وهي قراءة العامة. فأما « يكلاكم » فخطأ من وجهين فيما ذكره النحاس: أحدهما: أن بدل الهمزة. يكون في الشعر. والثاني: أنهما يقولان في الماضي كليته، فينقلب المعنى؛ لأن كليته أوجعت كليته، ومن قال لرجل: كلاك الله فقد دعا عليه بأن يصيبه الله بالوجع في كليته.

ثم قيل: مخرج اللفظ مخرج الاستفهام والمراد به النفي. وتقديره: قل لا حافظ لكم « بالليل » إذا نمتم « والنهار » إذا قمتم وتصرفتم في أموركم. « من الرحمن » أي من عذابه وبأسه؛ كقوله تعالى: « فمن ينصرني من الله » [ هود: 63 ] أي من عذاب الله. والخطاب لمن اعترف منهم بالصانع؛ أي إذا أقررتم بأنه الخالق، فهو القادر على إحلال العذاب الذي تستعجلونه. « بل هم عن ذكر ربهم » أي عن القرآن. وقيل: عن مواعظ ربهم وقيل: عن معرفته. « معرضون » لاهون غافلون.

 

قوله تعالى: « أم لهم آلهة » المعنى: ألهم والميم صلة. « تمنعهم من دوننا » أي من عذابنا. « لا يستطيعون » يعني الذين زعم هؤلاء الكفار. أنهم ينصرونهم لا يستطيعون « نصر أنفسهم » فكيف ينصرون عابديهم. « ولا هم منا يصحبون » قال ابن عباس: يمنعون. وعنه: يجارون؛ وهو اختيار الطبري. تقول العرب: أنا لك جار وصاحب. من فلان؛ أي مجير منه؛ قال الشاعر:

ينادي بأعلى صوته متعوذا ليصحب منها والرماح دواني

وروى معمر عن ابن أبي نجيح عن قال: « ينصرون » أي يحفظون. قتادة: أي لا يصحبهم الله بخير، ولا يجعل رحمته صاحبا لهم.

 

قوله تعالى: « بل متعنا هؤلاء وآباءهم » قال ابن عباس: يريد أهل مكة. أي بسطنا لهم ولآبائهم في نعيمها « حتى طال عليهم العمر » في النعمة. فظنوا أنها لا تزول عنهم، فاغتروا وأعرضوا عن تدبر حجج « أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها » أي بالظهور عليها لك يا محمد أرضا بعد أرض، وفتحها بلدا بعد بلد مما حول مكة؛ قال معناه الحسن وغيره. وقيل: بالقتل والسبي؛ حكاه الكلبي. والمعنى واحد. وقد مضى في « الرعد » الكلام في هذا مستوفى. « أفهم الغالبون » يعني، كفار مكة بعد أن نقصنا من أطرافهم، بل أنت تغلبهم وتظهر عليهم.

 

الآيتان: 45 - 46 ( قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون، ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين )

 

قوله تعالى: « قل إنما أنذركم بالوحي » أي أخوفكم وأحذركم بالقرآن. « ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون » أي من أصم الله قلبه، وختم على سمعه، وجعل على بصره غشاوة، عن فهم الآيات وسماع الحق. وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي ومحمد بن السميقع « ولا يُسْمَع » بياء مضمومة وفتح الميم على ما لم يسم فاعله « الصم » رفعا أي إن الله لا يسمعهم. وقرأ ابن عامر والسلمي أيضا، وأبو حيوة ويحيى بن الحرث « ولا تسمع » بتاء مضمومة وكسر الميم « الصم » نصبا؛ أي إنك يا محمد « لا تُسمع الصم الدعاء » ؛ فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. ورد هذه القراءة بعض أهل اللغة. وقال: وكان يجب أن يقول: إذا ما تنذرهم. قال النحاس: وذلك جائز؛ لأنه قد عرف المعنى.

 

قوله تعالى: « ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك » قال ابن عباس: طرف. قال قتادة: عقوبة. ابن كيسان: قليل وأدنى شيء؛ مأخوذة من نفح المسك. قال:

وعمرة من سروات النساء تنفح بالمسك أردانها

ابن جريج: نصيب؛ كما يقال: نفح فلان لفلان من عطائه، إذا أعطاه نصيبا من المال. قال الشاعر:

لما أتيتك أرجو فضل نائلكم نفحتني نفحة طابت لها العرب

أي طابت لها النفس. والنفحة في اللغة الدفعة اليسيرة؛ فالمعنى ولئن مسهم أقل شيء من العذاب. « ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين » أي متعدين فيعترفون حين لا ينفعهم الاعتراف.

 

الآية: 47 ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين )

 

قوله تعالى: « ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا » الموازين جمع ميزان. فقيل: إنه يدل بظاهره على أن لكل مكلف ميزانا توزن به أعماله، فتوضع الحسنات في وكفة، والسيئات في كفة. وقيل: يجوز أن يكون هناك موازين للعامل الواحد، يوزن بكل ميزان منها صنف من أعماله؛ كما قال:

ملك تقوم الحادثات لعدله فلكل حادثة لها ميزان

ويمكن أن يكون ميزانا واحدا عبر عنه بلفظ الجمع. وخرج اللالكائي الحافظ أبو القاسم في سننه عن أنس يرفعه: ( إن ملكا موكلا بالميزان فيؤتي بابن آدم فيوقف بين كفتي الميزان فإن رجح نادي الملك بصوت يسمع الخلائق سعد فلان سعادة لا يشقي بعدها أبدا وإن خف نادي الملك شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدا ) . وخرج عن حذيفة رضي الله عنه قال: ( صاحب الميزان يوم القيامة جبريل عليه السلام ) وقيل: للميزان كفتان وخيوط ولسان والشاهين؛ فالجمع يرجع إليها. وقال مجاهد وقتادة والضحاك: ذكر الميزان مثل وليس ثم ميزان وإنما هو العدل. والذي وردت به الأخبار وعليه السواد الأعظم القول الأول. وقد مضى في « الأعراف » بيان هذا، وفي « الكهف » أيضا. وقد ذكرناه في كتاب « التذكرة » مستوفى والحمد لله. و « القسط » العدل أي ليس فيها بخس ولا ظلم كما يكون في وزن الدنيا. و « القسط » صفة الموازين ووحد لأنه مصدر؛ يقال: ميزان قسط، وميزانان قسط، وموازين قسط. مثل رجال عدل ورضا. وقرأت فرقة « القصط » بالصاد. « ليوم القيامة » أي لأهل يوم القيامة. وقيل: المعنى في يوم القيامة. « فلا تظلم نفس شيئا » أي لا ينقص من إحسان محسن ولا يزاد في إساءة مسيء. « وإن كان مثقال حبة من خردل » قرأ نافع وشيبة وأبو جعفر « مثقال حبة » بالرفع هنا؛ وفي « لقمان » على معنى إن وقع أو حضر؛ فتكون كان تامة ولا تحتاج إلى خبر الباقون « مثقال » بالنصب على معنى وإن كان العمل أو ذلك الشيء مثقال. ومثقال الشيء ميزانه من مثله. « أتينا بها » مقصورة الألف قراءة الجمهور أي أحضرناها وجئنا بها للمجازاة عليها ولها. يجاء بها أي بالحجة ولو قال به أي بالمثقال لجاز. وقيل: مثقال الحبة ليس شيئا غير الحبة فلهذا قال: « أتينا بها » . وقرأ مجاهد وعكرمة « آتينا » بالمد على معنى جازينا بها. يقال آتى يؤاتي مؤاتاة. « وكفى بنا حاسبين » أي محاسبين على ما قدموه من خير وشر. وقيل: « حاسبين » إذ لا أحد أسرع حسابا منا. والحساب العد. روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها: أن رجلا قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأشتمهم وأضربهم فكيف أنا منهم؟ قال: ( يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافا لك ولا عليك وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلا لك وإن كان عقابك فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل ) قال: فتنحى الرجل فجعل يبكي ويهتف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أما تقرأ كتاب الله تعالى: « ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا » ) فقال الرجل: والله يا رسول الله ما أجد لي ولهؤلاء شيئا خيرا من مفارقتهم، أشهدك أنهم أحرار كلهم. قال حديث غريب.

 

الآيات: 48 - 50 ( ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين، الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون، وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون )

 

قوله تعالى: « ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء » وحكي عن ابن عباس وعكرمة « الفرقان ضياء » بغير واو على الحال. وزعم الفراء أن حذف الواو والمجيء بها واحد، كما قال عز وجل: « إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا » [ الصافات: 6 - 7 ] أي حفظا. ورد عليه هذا القول الزجاج. قال: لأن الواو تجيء لمعنى فلا تزاد قال: وتفسير « الفرقان » التوراة؛ لأن فيها الفرق بين الحرام والحلال. قال: « وضياء » مثل « فيه هدى ونور » وقال ابن زيد: « الفرقان » هنا هو النصر على الأعداء؛ دليله قوله تعالى: « وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان » [ الأنفال: 41 ] يعني يوم بدر. قال الثعلبي: وهذا القول أشبه بظاهر الآية؛ لدخول الواو في الضياء؛ فيكون معنى الآية: ولقد أتينا موسى وهارون النصر والتوراة التي هي الضياء والذكر. « الذين يخشون ربهم بالغيب » أي غائبين؛ لأنهم لم يروا الله تعالى، بل عرفوا بالنظر. والاستدلال أن لهم ربا قادرا، يجازي على الأعمال فهم يخشونه في سرائرهم، وخلواتهم التي يغيبون فيها عن الناس.

« وهم من الساعة » أي من قيامها قبل التوبة. « مشفقون » أي خائفون وجلون

 

قوله تعالى: « وهذا ذكر مبارك أنزلناه » يعني القرآن « أفأنتم له » يا معشر العرب « منكرون » وهو معجز لا تقدرون على الإتيان بمثله. وأجاز الفراء « وهذا ذكر مباركا أنزلناه » بمعنى أنزلناه مباركا.

 

الآية: 51 ( ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين )

 

قوله تعالى: « ولقد آتينا إبراهيم رشده » قال الفراء: أي أعطياه هداه. « من قبل » أي من قبل النبوة؛ أي وفقناه للنظر والاستدلال، لما جن عليه الليل فرأى النجم والشمس والقمر. وقيل: « من قبل » أي من قبل موسى وهارون. والرشد على هذا النبوة. وعلى الأول أكثر أهل التفسير؛ كما قال ليحيى: « وآتيناه الحكم صبيا » [ مريم: 12 ] . وقال القرظي: رشده صلاحه. « وكنا به عالمين » أي إنه أهل لإيتاء الرشد وصالح للنبوة.

 

الآيات: 52 - 56 ( إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون، قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين، قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين، قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين، قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين )

 

قوله تعالى: « إذ قال لأبيه وقومه » قيل: المعنى أي اذكر حين قال لأبيه؛ فيكون الكلام قد تم عند قوله: « وكنا به عالمين » . وقيل: المعنى؛ « وكنا به عالمين إذ قال » فيكون الكلام متصلا ولا يوقف على قوله: « عالمين » . « لأبيه » وهو آزر « وقومه » نمرود ومن اتبعه. « ما هذه التماثيل » أي الأصنام. والتمثال اسم موضوع للشيء المصنوع مشبها بخلق من بخلق الله تعالى. يقال: مثلت الشيء بالشيء أي شبهته به. واسم ذلك الممثل تمثال. « التي أنتم لها عاكفون » أي مقيمون على عبادتها. « قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين » أي نعبدها تقليدا لأسلافنا. « قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين » أي في خسران بعبادتها؛ إذ هي جمادات لا تنفع ولا تضر ولا تعلم. « قالوا أجئتنا بالحق » أي أجاء أنت بحق فيما تقول؟ « أم أنت من اللاعبين » أي لاعب مازح. « قال بل ربكم رب السماوات والأرض » أي لست بلاعب، بل ربكم والقائم بتدبيركم خالق السموات والأرض. « الذي فطرهن » أي خلقهن وأبدعهن. « وأنا على ذلكم من الشاهدين » أي على أنه رب السموات والأرض. والشاهد يبين الحكم، ومنه « شهد الله » [ آل عمران: 18 ] بين الله؛ فالمعنى: وأنا أبين بالدليل ما أقول.

الآية [ 57 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيتان: 57 - 58 ( وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين، فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون )

 

قوله تعالى: « وتالله لأكيدن أصنامكم » أخبر أنه لم يكتف بالمحاجة باللسان بل كسر أصنامهم فعل واثق بالله تعالى، موطن نفسه على مقاساة المكروه في الذب عن الدين. والتاء في « تالله » تختص في القسم باسم الله وحده، والواو تختص بكل مظهر، والباء بكل مضمر ومظهر. قال الشاعر:

تالله يبقي على الأيام ذو حيد بمشمخر به الظيان والآس

وقال ابن عباس: أي وحرمة الله لأكيدن أصنامكم، أي لأمكرن بها. والكيد المكر. كاده يكيده كيدا ومكيدة، وكذلك المكايدة؛ وربما سمي الحرب كيدا؛ يقال: غزا فلان فلم يلق كيدا، وكل شيء تعالجه فأنت تكيده. « بعد أن تولوا مدبرين » أي منطلقين ذاهبين. وكان لهم في كل سنة عيد يجتمعون فيه، فقالوا لإبراهيم: لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا - روي ذلك عن ابن مسعود على ما يأتي بيانه في « والصافات » - فقال إبراهيم في نفسه: « وتالله لأكيدهم أصنامكم » . قال مجاهد وقتادة: إنما قال ذلك إبراهيم في سر من قومه، ولم يسمعه إلا رجل. واحد وهو الذي أفشاه عليه والواحد يخبر عنه بخبر الجمع إذا كان ما أخبر به مما يرضى به غيره ومثله « يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأزل » [ المنافقون: 8 ] . وقيل: إنما قاله بعد خروج القوم، ولم يبق منهم إلا الضعفاء فهم الدين سمعوه. وكان إبراهيم احتال في التخلف عنهم بقوله: « إني سقيم » [ الصافات: 89 ] أي ضعيف عن الحركة.

 

قوله تعالى: « فجعلهم جذاذا » أي فتاتا. والجذ الكسر والقطع؛ جذذت الشيء كسرته وقطعته. والجذاذ والجذاذ ما كسر منه، والضم أفصح من كسره. قاله الجوهري. الكسائي: ويقال لحجارة الذهب جذاذ؛ لأنها تكسر. وقرأ الكسائي والأعمش وابن محيصن « جذاذا » بكسر الجيم؛ أي كسرا وقطعا جمع جذيذ وهو الهشيم، مثل خفيف وخفاف وظريف وظراف. قال الشاعر:

جذذ الأصنام في محرابها ذاك في الله العلي المقتدر

الباقون بالضم؛ واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. [ مثل ] الحطام والرفات الواحدة جذاذة. وهذا هو الكيد الذي أقسم به ليفعلنه بها. وقال: « فجعلهم » ؛ لأن القوم اعتقدوا في أصنامهم الإلهية. وقرأ ابن عباس وأبو نهيك وأبو السمال « جذاذا » بفتح الجيم؛ والفتح والكسر لغتان كالحصاد والحصاد. أبو حاتم: الفتح والكسر والضم بمعنى؛ حكاه قطرب. « إلا كبيرا لهم » أي عظيم الآلهة في الخلق فإنه لم يكسره. وقال السدي ومجاهد: ترك الصنم الأكبر وعلق الفأس الذي كسر به الأصنام في عنقه؛ ليحتج به عليهم. « لعلهم إليه يرجعون » أي إلى إبراهيم دينه « يرجعون » إذا قامت الحجة عليهم. وقيل: « لعلهم إليه » أي إلى الصنم الأكبر « يرجعون » في تكسيرها.

 

الآيات: 59 - 61 ( قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين، قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم، قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون )

 

قوله تعالى: « قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين » المعنى لما رجعوا من عيدهم ورأوا ما أحدث بآلهتهم، قالوا على جهة البحث والإنكار: « من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين » . وقيل: « من » ليس استفهاما، بل هو ابتداء وخبره « لمن الظالمين » أي فاعل هذا ظالم. والأول أصح لقوله: « سمعنا فتى يذكرهم » وهذا هو جواب « من فعل هذا » . والضمير في « قالوا » للقوم الضعفاء الذين سمعوا إبراهيم، أو الواحد على ما تقدم. ومعنى « يذكرهم » يعيبهم ويسبهم فلعله الذي صنع هذا. واختلف الناس في وجه رفع إبراهيم؛ فقال الزجاج يرتفع على معنى يقال له هو إبراهيم؛ فيكون [ خبر مبتدأ ] محذوف، والجملة محكية. قال: ويجوز أن يكون رفعا على النداء وضمه بناء، وقام له مقام ما لم يسم فاعله. وقيل: رفعه على أنه مفعول ما لم يسم فاعله؛ على أن يجعل إبراهيم غير دال على الشخص، بل يجعل النطق به دالا على بناء هذه اللفظة أي يقال له هذا القول وهذا اللفظ، كما تقول زيد وزن، فعل، أو زيد ثلاثة أحرف، فلم تدل بوجه الشخص، بل دللت بنطقك على نفس اللفظة. وعلى هذه الطريقة تقول: قلت إبراهيم، ويكون مفعولا صحيحا نزلته منزلة قول وكلام؛ فلا يتعذر بعد ذلك أن يبني الفعل فيه للمفعول. هذا اختيار ابن عطية في رفعه. وقال الأستاذ أبو الحجاج الأشبيلي الأعلم: هو رفع على الإهمال. قال ابن عطية: لما رأى وجوه الرفع كأنها لا توضح المعنى الذي قصدوه، ذهب إلى رفعه بغير شيء، كما قد يرفع التجرد والعرو عن العوامل الابتداء. والفتى الشاب والفتاة الشابة. وقال ابن عباس: ما أرسل الله نبيا إلا شابا. ثم قرأ: « سمعنا فتى يذكرهم » .

 

قوله تعالى: « قالوا فأتوا به على أعين الناس » فيه مسألة واحدة، وهي أنه لما بلغ الخبر نمرود وأشراف قومه، كرهوا أن يأخذوه بغير بينة، فقالوا: ائتوا به ظاهرا بمرأى من الناس حتى يروه « لعلهم يشهدون » عليه بما قال؛ ليكون ذلك حجة عليه. وقيل: « لعلهم يشهدون » عقابه فلا يقدم أحد على مثل ما أقدم عليه. أو لعل قوما « يشهدون » بأنهم رأوه يكسر الأصنام، أو « لعلهم يشهدون » طعنه على آلهتهم؛ ليعلموا أنه يستحق العقاب.

قلت: وفي هذا دليل على أنه كان لا يؤاخذ أحد بدعوى أحد فيما تقدم؛ لقوله تعالى: « فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون » وهكذا الأمر في شرعنا ولا خلاف فيه.

 

الآيتان: 62 - 63 ( قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم، قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون )

 

قوله تعالى: « قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم » لما لم يكن السماع عاما ولا ثبتت الشهادة استفهموه هل فعل أم لا؟ وفي الكلام حذف فجاء إبراهيم حين أتى به فقالوا أأنت فعلت هذا بالآلهة؟ فقال لهم إبراهيم على جهة الاحتجاج عليهم: « بل فعله كبيرهم هذا » . فقال لهم إبراهيم على جهة الاحتجاج عليهم: « بل فعله كبيرهم هذا » . أي إنه غار وغضب من أن يعبد هو ويعبد الصغار معه ففعل هذا بها لذلك، إن كانوا ينطقون فاسألوهم. فعلق فعل الكبير بنطق الآخرين؛ تنبيها لهم على فساد اعتقادهم. كأنه قال: بل هو الفاعل إن نطق هؤلاء. وفي الكلام تقديم على هذا التأويل في قوله: « فاسألوهم إن كانوا ينطقون » . وقيل: أراد بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون. بين أن من لا يتكلم ولا يعلم ولا يستحق أن يعبد. وكان قول من المعاريض، وفي المعاريض مندوحة عن الكذب. أي سلوهم إن نطقوا فإنهم يصدقون، وإن لم يكونوا ينطقون فليس هو الفاعل. وفي ضمن هذا الكلام اعتراف بأنه هو الفاعل وهذا هو الصحيح لأنه عدده على نفسه، فدل أنه خرج مخرج التعريض. وذلك أنهم كانوا يعبدونهم ويتخذونهم آلهة من دون الله، كما قال إبراهيم لأبيه: « يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر » [ مريم: 42 ] - الآية - فقال إبراهيم: « بل فعله كبيرهم هذا » ليقولوا إنهم لا ينطقون ولا ينفعون ولا يضرون؛ فيقول لهم فلم تعبدونهم؟ فتقوم عليهم الحجة منهم، ولهذا يجوز عند الأمة فرض الباطل مع الخصم حتى يرجع إلى الحق من ذات نفسه؛ فإنه أقرب في الحجة وأقطع للشبهة، كما قال لقومه: « هذا ربي » وهذه أختي و « إني سقيم » وبل فعله كبيرهم هذا « وقرأ ابن السميقع » بل فعله « بتشديد اللام بمعنى فلعل الفاعل كبيرهم. وقال الكسائي: الوقف عند قوله: » بل فعله « أي فعله من فعله؛ ثم يبتدئ » كبيرهم هذا « . وقيل: أي لم ينكرون أن يكون فعله كبيرهم؟ فهذا إلزام بلفظ الخبر. أي من اعتقد عبادتها يلزمه أن يثبت لها فعلا؛ والمعنى: بل فعله كبيرهم فيما يلزمكم. »

روى البخاري ومسلم والترمذي أبى عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لم يكذب إبراهيم النبي في شيء قط إلا في ثلاث: « إني سقيم » [ الصافات: 89 ] وقوله لسارة أختي وقوله « بل فعله كبيرهم » ) لفظ الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. ووقع في الإسراء في صحيح مسلم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة إبراهيم قال: وذكر قوله في الكوكب « هذا ربي » . فعلى هذا تكون الكذبات أربعا إلا أن الرسول قد نفى تلك بقوله: ( لم يكذب إبراهيم النبي قط إلا في ثلاث كذبات ثنتين في ذات الله قوله: « إني سقيم » [ الصافات: 89 ] وقوله: « بل فعله كبيرهم » وواحدة في شأن سارة ) الحديث لفظ مسلم وإنما يعد عليه قوله في الكوكب: « هذا ربي » [ الأنعام: 78 ] كذبة وهي داخلة في الكذب؛ لأنه - والله أعلم - كان حين قال ذلك في حال الطفولة، وليست حالة تكليف. أو قال لقومه مستفهما لهم على جهة التوبيخ الإنكار، وحذفت همزة الاستفهام. أو على طريق الاحتجاج على قومه: تنبيها على أن ما لا يصلح للربوبية. وقد تقدمت هذه الوجوه كلها في « الأنعام » مبينة والحمد لله.

 

قال القاضي أبو بكر بن العربي: في هذا الحديث نكتة عظمى تقصم الظهر، وهي أنه عليه السلام قال: ( لم يكذب إبراهيم إلا في ثلاث كذبات ثنتين ما حل بهما عن دين الله وهما قول « إني سقيم » [ الصافات: 89 ] وقوله « بل فعله كبيرهم » ولم يعد [ قوله ] هذه أختي في ذات الله تعالى وإن كان دفع بها مكروها، ولكنه لما كان لإبراهيم عليه السلام فيها حظ من صيانة فراشه وحماية أهله، لم يجعلها في ذات الله؛ وذلك لأنه لا يجعل في جنب الله وذاته إلا العمل الخالص من شوائب الدنيا، والمعاريض التي ترجع إلى النفس إذا خلصت للدين كانت لله سبحانه، كما قال: « ألا لله الدين الخالص » [ الزمر: 3 ] . وهذا لو صدر منا لكان لله، لكن منزلة إبراهيم اقتضت هذا. والله أعلم.

 

قال علماؤنا: الكذب هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه. والأظهر أن قول إبراهيم فيما أخبر عنه عليه السلام كان من المعاريض، وإن كانت معاريض وحسنات وحججا في الخلق ودلالات، لكنها أثرت في الرتبة، وخفضت عن محمد المنزلة، واستحيا منها قائلها، على ما ورد في حديث الشفاعة؛ فإن الأنبياء مما لا يشفق منه غيرهم إجلالا لله؛ فإن الذي كان يليق بمرتبته في النبوة والخلة، أن يصدع بالحق ويصرح بالحق لأمر كيفما كان، ولكنه رخص له فقبل الرخصة فكان ما كان من القصة؛ والقصة جاء في حديث الشفاعة ( إنما اتخذت خليلا من وراء وراء ) بنصب وراء فيهما على البناء كخمسة عشر، وكما قالوا جاري بيت بيت. ووقع في بعض نسخ مسلم ( من وراء من وراء ) بإعادة من، وحينئذ لا يجوز البناء على الفتح، وإنما يبني كل واحد منهما على الضم؛ لأنه قطع عن الإضافة ونوى المضاف كقبل وبعد، وإن لم ينو المضاف أعرب ونون غير أن وراء لا ينصرف؛ لأن ألفه للتأنيث؛ لأنهم قالوا في تصغيرها ورية؛ قال الجوهري: وهي شاذة. فعلى هذا الفتح فيهما مع وجود « من » فيهما. والمعنى إني كنت خليلا متأخرا عن غيري. ويستفاد من هذا أن الخلة لم تصح بكمالها إلا لمن صح له في ذلك اليوم المقام المحمود كما تقدم. وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

 

الآيات: 64 - 67 ( فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون، ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون، قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم، أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون )

 

قوله تعالى: « فرجعوا إلى أنفسهم » أي رجع بعضهم إلى بعض رجوع المنقطع عن حجته، المتفطن لصحة حجه خصمه « فقالوا إنكم أنتم الظالمون » أي بعبادة من لا ينطق بلفظة، ولا يملك لنفسه لحظة، وكيف ينفع عابديه ويدفع عنهم البأس، من لا يرد عن رأسه الفأس. « ثم نكسوا على رؤوسهم » أي عادوا إلى جهلهم وعبادتهم فقالوا « لقد علمت ما هؤلاء ينطقون » فـ « قال » قاطعا لما به يهذون، ومفحما لهم فيما يتقولون « أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم. أف لكم » أي النتن لكم « ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون » . وقيل: « نكسوا على رؤوسهم » أي طأطأوا رؤوسهم خجلا من إبراهيم، وفيه نظر؛ لأنه لم يقل نكسوا رؤوسهم، بفتح الكاف بل قال: « نكسوا على رؤوسهم » أي ردوا على ما كانوا عليه في أول الأمر وكذا قال ابن عباس، قال: أدركهم الشقاء فعادوا إلى كفرهم.

 

الآيتان: 68 - 69 ( قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين، قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم )

 

قوله تعالى: « قالوا حرقوه » لما انقطعوا بالحجة أخذتهم عزة بإثم وانصرفوا إلى طريق الغشم والغلبة وقالوا حرقوه. روي أن قائل هذه المقالة هو رجل من الأكراد من أعراب فارس؛ أي من باديتها؛ قال ابن عمرو ومجاهد وابن جريج. ويقال: اسمه هيزر فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. وقيل: بل قال ملكهم نمرود. « وانصروا آلهتكم » بتحريق إبراهيم لأنه يسبها ويعيبها. وجاء في الخبر: أن نمرود بنى صرحا طوله ثمانون ذراعا وعرضه أربعون ذراعا. قال ابن إسحاق: وجمعوا الحطب شهرا ثم أوقدوها، واشتعلت واشتدت، حتى أن كان الطائر ليمر بجنباتها فيحترق من شدة وهجها. ثم قيدوا إبراهيم ووضعوه في المنجنيق مغلولا. ويقال: إن إبليس صنع لهم المنجنيق يومئذ. فضجت السموات والأرض ومن فيهن من الملائكة وجميع الخلق، إلا الثقلين ضجة واحدة: ربنا! إبراهيم ليس في الأرض أحد يعبدك غيره يحرق فيك فأذن لنا في نصرته. فقال الله تعالى: « إن استغاث بشيء منكم أو دعاه فلينصره فقد أذنت له في ذلك وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه » فلما أرادوا إلقاءه في النار، أتاه خزان الماء - وهو في الهواء - فقالوا: يا إبراهيم إن أردت أخمدنا النار بالماء. فقال: لا حاجة لي إليكم. وأتاه ملك الريح فقال: لو شئت طيرت النار. فقال: لا. ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: « اللهم أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض ليس أحد يعبدك غيري حسبي الله ونعم الوكيل » . وروى أبي بن كعب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إن إبراهيم حين قيدوه ليلقوه في النار قال لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين لك الحمد ولك الملك لا شريك لك ) قال: ثم رموا به في المنجنيق من مضرب شاسع، فاستقبله جبريل؛ فقال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال: « أما إليك فلا » . فقال جبريل: فاسأل ربك. فقال: « حسبي من سؤالي علمه بحالي » . فقال الله تعالى وهو أصدق القائلين: « يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم » قال بعض العلماء: جعل الله فيها بردا يرفع حرها، وحرا يرفع بردها، فصارت سلاما عليه. قال أبو العالية: ولو لم يقل « بردا وسلاما » لكان بردها أشد عليه من حرها، ولو لم يقل « على إبراهيم » لكان بردها باقيا على الأبد. وذكر بعض العلماء: أن الله تعالى أنزل زربية من الجنة فبسطها في الجحيم، وأنزل الله ملائكة: جبريل وميكائيل وملك البرد وملك السلام. وقال علي وابن عباس: لو لم يتبع بردها سلاما لمات إبراهيم من بردها، ولم تبق يومئذ نار إلا طفئت ظنت أنها تعني. قال السدي: وأمر الله كل عود من شجرة أن يرجع إلى شجره ويطرح ثمرته. وقال كعب وقتادة: لم تحرق النار من إبراهيم إلا وثاقه. فأقام في النار سبعة أيام لم يقدر أحد أن يقرب من النار، ثم جاؤوا فإذا هو قائم يصلي. وقال المنهال بن عمرو قال إبراهيم: « ما كنت أياما قط أنعم مني في الأيام التي كنت فيها في النار » . وقال كعب وقتادة والزهري: ولم تبق يومئذ دابة إلا أطفأت عنه النار إلا الوزغ فإنها كانت تنفخ عليه؛ فلذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلها وسماها فويسقة. وقال شعيب الحماني: ألقي إبراهيم في النار وهو ابن ست عشرة سنة. وقال ابن جريج: ألقي إبراهيم في النار وهو ابن ست وعشرين سنة. ذكر الأول الثعلبي، والثاني الماوردي؛ فالله أعلم. وقال الكلبي: بردت نيران الأرض جميعا فما أنضجت كراعا، فرآه نمرود من الصراح وهو جالس على السرير يؤنسه ملك الظل. فقال: نعم الرب ربك! لأقربن له أربعة آلاف بقرة وكف عنه.

الآية [ 70 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات: 70 - 73 ( وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين، ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين، ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين، وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين )

 

قوله تعالى: « وأرادوا به كيدا » أي أراد نمرود وأصحابه أن يمكروا به « فجعلناهم الأخسرين » في أعمالهم، ورددنا مكرهم عليهم بتسليط أضعف خلقنا. قال ابن عباس: سلط الله عليهم أضعف خلقه البعوض، فما برح نمرود حتى رأى عظام أصحابه وخيله تلوح، أكلت لحومهم وشربت دماءهم، ووقعت واحدة في منخره فلم تزل تأكل إلى أن وصلت دماغه، وكان أكوم الناس عليه الذي يضرب رأسه بمرزبة من حديد. فأقام بهذا نحوا من أربعمائة سنة.

 

قوله تعالى: « ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين » يريد نجينا إبراهيم ولوطا إلى أرض الشام وكانا بالعراق. وكان « إبراهيم » عليه السلام عمه؛ قال ابن عباس. وقيل: لها مباركة لكثرة خصبها وثمارها وأنهارها؛ ولأنها معادن الأنبياء. والبركة ثبوت الخير، ومنه برك البعير إذا لزم مكانه فلم يبرح. وقال ابن عباس: الأرض المباركة مكة. وقيل: بيت المقدس؛ لأن منها بعث الله أكثر الأنبياء، وهي أيضا كثيرة الخصب والنمو، عذبة الماء، ومنها يتفرق في الأرض. قال أبو العالية: ليس ماء عذب إلا يهبط من السماء إلى الصخرة التي ببيت المقدس، ثم يتفرق في الأرض. ونحوه عن كعب الأحبار. وقيل: الأرض المباركة مصر.

 

قوله تعالى: « ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة » أي زيادة؛ لأنه دعا في إسحاق وزيد في يعقوب من غير دعاء فكان ذلك نافلة؛ أي زيادة على ما سأل؛ إذ قال: « رب هب لي من الصالحين » [ الصافات: 100 ] . ويقال لولد الولد نافلة؛ لأنه زيادة على الولد. « وكلا جعلنا صالحين » أي وكلا من إبراهيم وإسحاق ويعقوب جعلناه صالحا عاملا بطاعة الله. وجعلهم صالحين إنما يتحقق بخلق الصلاح والطاعة لهم، وبخلق القدرة على الطاعة، ثم ما يكتسبه العبد فهو مخلوق لله تعالى.

 

قوله تعالى: « وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا » أي رؤساء يقتدى بهم في الخيرات وأعمال الطاعات. ومعنى « بأمرنا » أي بما أنزلنا عليهم من الوحي والأمر والنهي؛ فكأنه قال يهدون بكتابنا وقيل: المعنى يهدون الناس إلى ديننا بأمرنا إياهم بإرشاد الخلق، ودعائهم إلى التوحيد. « وأوحينا إليهم فعل الخيرات » أي أن يفعلوا الطاعات. « وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين » أي مطيعين.

 

الآيتان: 74 - 75 ( ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين، وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين )

 

قوله تعالى: « ولوطا آتيناه حكما وعلما » « لوطا » منصوب بفعل مضمر دل عليه الثاني؛ أي وآتينا لوطا آتيناه. وقيل: أي واذكر لوطا. والحكم النبوة، والعلم المعرفة بأمر الدين وما يقع به الحكم بين الخصوم. وقيل: « علما » فهما؛ والمعنى واحد. « ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث » يريد سدوم. ابن عباس: كانت سبع قرى، قلب جبريل عليه السلام ستة وأبقي واحدة للوط وعياله، وهي زغر التي فيها الثمر من كورة فلسطين إلى حد السراة؛ ولها قرى كثيرة إلى حد بحر الحجاز وفي الخبائث التي كانوا يعملونها قولان: أحدهما: اللواط على ما تقدم. والثاني: الضراط؛ أي كانوا يتضارطون في ناديهم ومجالسهم. وقيل: الضراط وحذف الحصي وسيأتي. « إنهم كانوا قوم سوء فاسقين » أي خارجين عن طاعة الله، والفسوق الخروج وقد تقدم. « وأدخلناه في رحمتنا » في النبوة. وقيل: في الإسلام. وقيل: الجنة. وقيل: عنى بالرحمة إنجاءه من قومه « إنه من الصالحين » .

 

الآيتان: 76 - 77 ( ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم، ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين )

 

قوله تعالى: « ونوحا إذ نادى من قبل » أي واذكر نوحا إذ نادى؛ أي دعا. « من قبل » أي من قبل إبراهيم ولوط على قومه، وهو قوله: « رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا » [ نوح: 26 ] وقال لما كذبوه: « أني مغلوب فانتصر » [ القمر: 10 ] . « فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم » أي من الغرق. والكرب الغم الشديد « وأهله » أي المؤمنين منهم. « ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا » قال أبو عبدة: « من » بمعنى على. وقيل: المعنى فانتقمنا له « من القوم الذين كذبوا بآياتنا » . « فأغرقناهم أجمعين » أي الصغير منهم والكبير.

 

الآيتان: 78 - 79 ( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين، ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين )

 

قوله تعالى: « وداود وسليمان إذ يحكمان » أي واذكرهما إذ يحكمان، ولم يرد بقوله « إذ يحكمان » الاجتماع في الحكم وإن جمعهما في القول؛ فإن حكمين على حكم واحد لا يجوز. وإنما حكم كل واحد منهما انفراده؛ وكان سليمان الفاهم لها بتفهيم الله تعالى إياه. « في الحرث » اختلف فيه على قولين: فقيل: كان زرعا؛ قال قتادة. وقيل: كرما نبت عنا قيده؛ قال ابن مسعود وشريح. و « الحرث » يقال فيهما، وهو في الزرع أبعد من الاستعارة. « إذ نفشت فيه غنم القوم » أي رعت فيه ليلا؛ والنفش الرعي بالليل. يقال: نفشت بالليل، وهملت بالنهار، إذا رعت بلا راع. وأنفشها صاحبها. وإبل نفاش. وفي حديث عبدالله بن عمرو: الحبة في الجنة مثل كرش البعير يبيت نافشا؛ أي راعيا؛ حكاه الهروي. وقال ابن سيده: لا يقال الهمل في الغنم وإنما هو في الإبل. « وكنا لحكمهم شاهدين » دليل على أن أقل الجمع اثنان. وقيل: المراد الحاكمان والمحكوم عليه؛ فلذلك قال « لحكمهم » .

 

قوله تعالى: « ففهمناها سليمان » أي فهمناه القضية والحكومة، فكنى عنها إذ سبق ما يدل عليها. وفضل حكم سليمان حكم أبيه في أنه أنه أحرز أن يبقي كل واحد منهما على متاعه، وتبقي نفسه طيبة بذلك؛ وذلك أن داود عليه السلام رأى أن يدفع الغنم إلى صاحب الحرث. وقالت فرقة: بل دفع الغنم إلى صاحب الحرث، والحرث إلى صاحب الغنم. قال ابن عطية: فيشبه على القول الواحد أنه رأى الغنم تقاوم الغلة التي أفسدت. وعلى القول الثاني رآها تقاوم الحرث والغلة؛ فلما خرج الخصمان على سليمان وكان يجلس على الباب الذي يخرج منه الخصوم، وكانوا يدخلون إلى داود من باب أخر فقال: بم قضى بينكما نبي الله داود؟ فقالا: قضى بالغنم لصاحب الحرث. فقال لعل الحكم غير هذا انصرفا معي. فأتى أباه فقال: يا نبي الله أنك حكمت بكذا وكذا وإني رأيت ما هو أرفق بالجميع. قال: وما هو؟ قال: ينبغي أن تدفع الغنم إلى صاحب الحرث فينتفع بألبانها وسمونها وأصوافها، وتدفع الحرث إلى صاحب الغنم ليقوم عليه، فإذا عاد الزرع إلى حال التي أصابته الغنم في السنة المقبلة، رد كل واحد منهما مال إلى صاحبه. فقال داود: وفقت يا بني لا يقطع الله فهمك. وقضى بما قضى به سليمان؛ قال معناه ابن مسعود ومجاهد وغيرهما. قال الكلبي: قوم داود الغنم والكرم الذي أفسدته الغنم فكانت القيمتان سواء، فدفع الغنم إلى صاحب الكرم. وهكذا قال النحاس؛ قال: إنما قضى بالغنم لصاحب الحرث؛ لأن ثمنها كان قريبا منه. وأما في حكم سليمان فقد قيل: كانت قيمة ما نال من الغنم وقيمة ما أفسدت الغنم سواء أيضا.

 

قوله تعالى: « وكلا آتينا حكما وعلما » تأول قوم أن داود عليه السلام لم يخطئ في هذه النازلة، بل فيها أوتي الحكم والعلم. وحملوا قوله: « ففهمناها سليمان » على أنه فضيلة له على داود وفضيلته راجعة إلى داود، والوالد تسره زيادة ولده عليه. وقالت فرقة: بل لأنه لم يصب العين المطلوبة في هذه النازلة، وإنما مدحه الله بأن له حكما وعلما يرجع إليه في غير هذه النازلة. وأما في هذه فأصاب سليمان وأخطأ داود عليهما الصلاة والسلام، ولا يمتنع وجود الغلط والخطأ من الأنبياء كوجوده من غيرهم، لكن لا يقرون عليه، وإن أقر عليه غيرهم. ولما هدم الوليد كنيسة دمشق كتب إليه ملك الروم: إنك هدمت الكنيسة التي رأى أبوك تركها، فإن كنت مصيبا فقد أخطأ أبوك، وإن كان أبوك مصيبا فقد أخطأت أنت؛ فأجابه الوليد « وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نقشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين. ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما » . وقال قوم: كان داود وسليمان - عليهما السلام - نبيين يقضيان بما يوحى إليهما، فحكم داود بوحي، وحكم سليمان بوحي نسخ الله به حكم داود، وعلى هذا « ففهمناها سليمان » أي بطريق الوحي الناسخ لما أوحى إلى داود، وأمر سليمان أن يبلغ ذلك داود؛ ولهذا قال: « وكلا آتينا حكما وعلما » . هذا قول جماعة من العلماء ومنها ابن فورك. وقال الجمهور: إن حكمهما كان باجتهاد وهي:

 

واختلف العلماء في جواز الاجتهاد على الأنبياء فمنعه قوم، وجوزه المحققون؛ لأنه ليس فيه استحالة عقلية؛ لأنه دليل شرعي فلا إحالة أن يستدل به الأنبياء، كما لو قال له الله سبحانه وتعالى: إذا غلب على ظنك كذا فاقطع بأن ما غلب على ظنك هو حكمي فبلغه الأمة؛ فهذا غير مستحيل في العقل. فإن قيل: إنما يكون دليلا إذا عدم النص وهم لا يعدمونه. قلنا: إذا لم ينزل الملك فقد عدم النص عندهم، وصاروا في البحث كغيرهم من المجتهدين عن معاني النصوص التي عندهم. والفرق بينهم وبين غيرهم من المجتهدين أنهم معصومون عن الخطأ، وعن الغلط، وعن التقصير في اجتهادهم، وغيرهم ليس كذلك. كما ذهب الجمهور في أن جميع الأنبياء صلوات الله عليهم معصومون عن الخطأ والغلط في اجتهادهم. وذهب أبو علي بن أبي هريرة من أصحاب الشافعي إلى أن نبينا صلى الله عليه وسلم مخصوص منهم في جواز الخطأ عليهم، وفرق بينه وبين غيره من الأنبياء أنه لم يكن بعده يستدرك غلطه، ولذلك عصمه الله تعالى منه، وقد بعث بعد غيره من الأنبياء من يستدرك غلطة. وقد قيل: إنه على العموم في جميع الأنبياء، وأن نبينا وغيره من الأنبياء صلوات الله عليهم في تجويز الخطأ على سواء إلا أنهم لا يقرون على إمضائه، فلم يعتبر فيه استدراك من بعدهم من الأنبياء. هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سألته امرأة عن العدة فقال لها: ( اعتدي حيث شئت ) ثم قال لها: ( امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله ) . وقال له رجل: أرأيت إن قتلت صبرا محتسبا أيحجزني الجنة شيء؟ فقال: ( لا ) ثم دعاه فقال: ( إلا الدين كذا أخبرني جبريل عليه السلام ) .

 

قال الحسن: لولا هذه الآية لرأيت القضاة هلكوا، ولكنه تعالى أثنى على سليمان بصوابه، وعذر داود باجتهاده. وقد اختلف الناس في المجتهدين في الفروع إذ اختلفوا؛ فقالت فرقة: الحق في طرف واحد عند الله، قد نصب على ذلك أدلة، وحمل المجتهدين على البحث عنها، والنظر فيها، فمن صادف العين المطلوبة في المسألة فهو المصيب على الإطلاق، وله أجران في الاجتهاد وأجر في الإصابة، ومن لم يصادفها فهو مصيب في اجتهاده مخطئ في أنه لم يصب العين فله أجر وهو غير معذور. هذا سليمان قد صادف العين المطلوبة، وهي التي فهم. ورأت فرقة أن العالم المخطئ لا إثم في خطئه وإن كان غير معذور. وقالت فرقة: الحق في طرف واحد ولم ينصب الله تعالى عليه دلائل [ بل ] وكل الأمر إلى نظر المجتهدين فمن أصابه أصاب ومن أخطأ فهو معذور مأجور متعبد بإصابته العين بل تعبدنا بالاجتهاد فقط. وقال جمهور أهل السنة وهو المحفوظ عن مالك وأصحابه رضي الله عنهم: إن الحق في مسائل الفروع في الطرفين، وكل مجتهد مصيب، والمطلوب إنما هو الأفضل في ظنه، وكل مجتهد قد أداه نظره إلى الأفضل في ظنه؛ والدليل على هذه المقالة أن الصحابة فمن بعدهم قرر بعضهم خلاف بعض، ولم ير أحد منهم أن يقع الانحمال على قوله دون قول مخالفه. ومنه رد مالك رحمه الله للمنصور أبي جعفر عن حمل الناس « الموطأ » ؛ فإذا قال عالم في أم حلال فذلك هو الحق فيما يختص بذلك العالم عند الله تعالى وبكل من أخذ بقوله، وكذا في العكس. قالوا: وإن كان سليمان عليه السلام فهم القضية المثلى والتي أرجح فالأولى ليست بخطأ، وعلى هذا يحملون قول عليه السلام: ( إذا اجتهد العالم فأخطأ ) أي فأخطأ الأفضل.

 

روى مسلم وغيره عن عمروه بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر ) هكذا لفظ الحديث في كتاب مسلم ( إذا حكم فاجتهد ) فبدأ بالحكم قبل الاجتهاد، والأمر بالعكس؛ فإن الاجتهاد مقدم لي الحكم، فلا يجوز الحكم قبل الاجتهاد بالإجماع. وإنما معنى هذا الحديث: إذا أراد أن يحكم، كما قال: « فإذا قرأت القرآن فاستعذ » [ النحل: 98 ] فعند ذلك أراد أن يجتهد في النازلة. ويفيد هذا صحة ما قال الأصوليون: إن المجتهد يجب عليه أن يجدد نظرا عند وقوع النازلة، ولا يعتمد على اجتهاده المتقدم لإمكان أن يظهر له ثانيا خلاف ما ظهر له أولا، اللهم إن يكون ذاكرا لأركان اجتهاده، مائلا إليه، فلا يحتاج إلى استئناف نظر في أمارة أخرى.

إنما يكون يكون الأجر للحاكم المخطئ إذا كان عالما بالاجتهاد والسنن والقياس، وقضاء من مضي؛ لأن اجتهاده عبادة ولا يؤجر على الخطأ بل يوضع عنه الإثم فقط، فأما من لم يكن محلا للاجتهاد فهو متكلف لا يعذر بالخطأ في الحكم، بل يخاف عليه أعظم الوزر. يدل على ذلك حديثه الآخر؛ رواه أبو داود: ( القضاة ثلاثة ) الحديث. قال ابن المنذر: إنما يؤجر على اجتهاده في طلب الصواب لا على الخطأ، ومما يؤيد هذا قوله تعالى: « ففهمناها سليمان » الآية. قال الحسن: أثنى على سليمان ولم يذم داود.

 

ذكر أبو التمام المالكي أن مذهب مالك أن الحق في واحد من أقاويل المجتهدين، وليس ذلك في أقاويل المختلفين، وبه قال أكثر الفقهاء. قال: وحكى ابن القاسم أنه سأل مالكا عن اختلاف الصحابة، فقال: مخطئ ومصيب، وليس الحق في جميع أقاويلهم. وهذا القول قيل: هو المشهور عن مالك وإليه ذهب محمد بن الحسين. واحتج من قال هذا بحديث عبدالله بن عمرو؛ قالوا: وهو نص على أن في المجتهدين وفي الحاكمين مخطئا ومصيبا؛ قالوا: والقول بأن كل مجتهد مصيب يؤدي إلى كون الشيء حلالا حراما، وواجبا ندبا. واحتج أهل المقالة الأولى بحديث ابن عمر. قال: نادى فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم انصرف من الأحزاب ( ألا لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة ) فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا دون بني قريظة، وقال الآخرون: لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن فاتنا الوقت، قال: فما عنف واحدا من الفريقين؛ قالوا: فلو كان أحد الفريقين مخطئا لعينه النبي صلى الله عليه وسلم. ويمكن أن يقال: لعله إنما سكت عن تعيين المخطئين لأنه غير آثم بل مأجور، فاستغنى عن تعيينه. والله أعلم. ومسألة الاجتهاد طويلة متشعبة؛ وهذه النبذة التي ذكرناها كافية في معنى الآية، والله الموفق للهداية.

 

ويتعلق بالآية فصل آخر: وهو رجوع الحاكم بعد قضائه من اجتهاده إلى اجتهاد آخر أرجح من الأول؛ فإن داود عليه السلام فعل ذلك. وقد اختلف في ذلك علماؤنا رحمهم الله تعالى؛ فقال عبدالملك ومطرف في « الواضحة » : ذلك له ما دام في ولايته؛ فأما إن كانت ولاية أخرى فليس له ذلك، وهو بمنزلة غيره من القضاة. وهذا هو ظاهر قول مالك رحمة الله في « المدونة » . وقال سحنون في رجوعه من اجتهاد فيه قول إلى غيره مما رآه أصوب ليس له ذلك؛ وقال ابن عبدالحكم. قالا: ويستأنف الحكم بما قوي عنده. قال سحنون: إلا أن يكون نسي الأقوى عنده في ذلك الوقت، أو وهم فحكم بغيره فله نقضه؛ وأما وإن حكم بحكم هو الأقوى عنده في ذلك الوقت ثم قوى عنده غيره بعد ذلك فلا سبيل إلى نقض الأول؛ قاله سحنون في كتاب ابنه. وقال أشهب في كتاب ابن المواز: إن كان رجوعه إلى الأصوب في مال فله نقض الأول، وإن كان في طلاق أو نكاح أو عتق فليس له نقضه.

قلت: رجوع القاضي عما حكم القاضي إذا يتبين له أن الحق في غيره ما دام في ولايته أولى. وهكذا في رسالة عمر إلى أبي موسى. الله عنهما؛ رواها الدارقطني، وقد ذكرناها في « الأعراف » ولم يفصل؛ وهي الحجة لظاهر قول مالك. ولم يختلف العلماء أن القاضي إذا قضى تجوزا وبخلاف أهل العلم فهوم دود، إن كان على وجه الاجتهاد؛ فأما أن يتعقب قاض حكم قاض آخر فلا يجوز ذلك له لأن فيه مضرة عظمى من جهة نقض الأحكام، وتبديل الحلال بالحرام، وعدم ضبط قوانين الإسلام، ويتعرض أحد من العلماء لنقض ما رواه الآخر، وإنما كان يحكم بما ظهر له.

قال بعض الناس: إن داود عليه السلام لم يكن أنفذ الحكم وظهر له ما قال غير. وقال آخرون لم يكن حكما وإنما كانت فتيا.

قلت: وهكذا تؤول فيما رواه أبو هريرة عنه عليه السلام أنه قال: بينما امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت هذه لصاحبتها: إنما ذهب بابنك أنت. وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك؛ فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى؛ فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام فأخبرتاه؛ فقال: ائتوني بالسكين أشفه بينكما؛ فقالت الصغرى: لا - يرحمك الله - هو ابنها؛ فقضى به للصغرى؛ قال أبو هريرة: إن سمعت بالسكين قط إلا يومئذ، ما كنا نقول إلا المدية؛ أخرجه مسلم. فأما القول بأن ذلك من داود فتيا فهو ضعيف؛ لأنه كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وفتياه حكم. وأما القول الآخر فيبعد؛ لأنه تعالى قال: « إذ يحكمان في الحرث » فبين أن كل واحد منهما كان قد حكم. وكذا قول في الحديث: فقضى به للكبرى؛ يدل على إنفاذ القضاء وإنجازه. ولقد أبعد من قال: إنه كان من شرع داود أن يحكم به للكبرى من حيث هي كبرى؛ لأن الكبر والصغر طرد محض عند الدعاوى كالطول والقصر والسواد والبياض وذلك لا يوجب ترجيح أحد المتداعيين حتى يحكم له أو عليه لأجل ذلك. وهو مما يقطع به من فهم ما جاءت به الشرائع. والذي ينبغي أن يقال: إن داود عليه السلام إنما قضى به للكبرى لسبب اقتضى عنده ترجيح قولها. ولم يذكر في الحديث تعيينه إذ لم تدع حاجة إليه، فيمكن أن الولد كان بيدها، وعلم عجز الأخرى عن إقامة البينة، فقضى به لها إبقاء لما كان على ما كان. وهذا التأويل أحسن ما قيل في هذا الحديث. وهو الذي تشهد له قاعدة الدعاوي الشرعية التي يبعد اختلاف الشرائع فيها. لا يقال: فإن كان داود قضى بسبب شرعي فكيف ساغ لسليمان نقض حكمه؛ فالجواب: أن سليمان عليه السلام لم يتعرض لحكم أبيه بالنقض، وإنما احتال حيلة لطيفة ظهر له بسببها صدق الصغرى؛ وهي أنه لما قال: هات السكين أشقه بينكما، قالت الصغرى: لا؛ فظهر له من قرينه الشفقة في الصغرى، وعدم ذلك في الكبرى، مع ما عساه انضاف إلى ذلك من القرائن ما حصل له العلم بصدقها فحكم لها. ولعله كان ممن سوغ له أن يحكم بعلمه. وقد ترجم النسائي على هذا الحديث « حكم الحاكم بعلمه » . وترجم له أيضا « السعة للحاكم أن يقول للشيء الذي لا يفعله أفعل ليستبين الحق » . وترجم له أيضا « نقض الحاكم لا يحكم به غيره ممن هو مثله أو أجل منه » . ولعل الكبرى اعترفت بأن الولد للصغرى عندما رأت من سليمان الحزم والجد في ذلك، فقضى بالولد للصغرى؛ ويكون هذا كما إذا حكم الحاكم باليمين، فلما مضى ليحلف حضر من استخرج من المنكر ما أوجب إقراره، فإنه يحكم عليه بذلك الإقرار قبل اليمين وبعدها، ولا يكون ذلك من باب نقض الحكم الأول، لكن من باب تبدل الأحكام بحسب تبدل الأسباب. والله أعلم. وفي هذا الحديث من الفقه أن الأنبياء سوغ لهم الحكم بالاجتهاد؛ وقد ذكرناه. وفيه من الفقه استعمال الحكام الحيل التي تستخرج بها الحقوق، وذلك يكون عن قوة الذكاء والفطنة، وممارسة أحوال الخلق؛ وقد يكون في أهل التقوى فراسة دينية، وتوسمات نورية، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وفيه الحجة لمن يقول: إن الأم تستلحق؛ وليس مشهور مذهب مالك، وليس هذا موضع ذكره. وعلى الجملة فقضاء سليمان في هذه القصة تضمنها مدحه تعالى له بقوله: « ففهمناها سليمان » .

 

قد تقدم القول في الحرث والحكم في هذه الواقعة في شرعنا: أن على أصحاب الحوائط حفظ حيطانهم وزروعهم بالنهار، ثم الضمان في المثل بالمثليات، وبالقيمة في ذوات القيم. والأصل في هذه المسألة في شرعنا ما حكم به نبينا صلى الله عليه وسلم في ناقة البراء بن عازب. رواه مالك عن ابن شهاب عن حرام بن سعد بن محيصة: أن ناقة للبراء دخلت حائط رجل فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها بالليل، وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها. هكذا رواه جميع الرواة مرسلا. وكذلك رواه أصحاب ابن شهاب عن ابن شهاب، إلا ابن عيينة فإنه رواه عن الزهري عن سعيد وحرام بن سعد بن محيصة: أن ناقة؛ فذكر مثله بمعناه. ورواه ابن أبي ذئب عن ابن شهاب أنه بلغه أن ناقة البراء دخلت حائط قوم؛ مثل حديث مالك سواء، إلا أنه لم يذكر حرام بن سعد بن محيصة ولا غيره. قال أبو عمر: لم يصنع ابن أبي ذئب شيئا؛ إلا أنه أفسد إسناده. ورواه عبدالرزاق عن معمر عن الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتابع عبدالرزاق على ذلك وأنكروا عليه قوله عن أبيه. ورواه ابن جريج عن ابن شهاب قال: حدثني أبو أمامة بن سهل بن حنيف أن ناقة دخلت في حائط قوم فأفسدت؛ فجعل الحديث لابن شهاب عن أبي أمامة، ولم يذكر أن الناقة كانت للبراء. وجائز أن يكون الحديث عن ابن شهاب عن ابن محيصة، وعن سعيد بن المسيب، وعن أبي أمامة - والله أعلم - فحدث به عمن شاء منهم على ما حضره وكلهم ثقات. قال أبو عمر: وهذا الحديث وإن كان مرسلا فهو حديث مشهور أرسله الأئمة، وحدث به الثقات، واستعمله فقهاء الحجاز وتلقوه بالقبول، وجرى في المدينة العمل به، وحسبك باستعمال أهل المدينة وسائر أهل الحجاز لهذا الحديث.

 

ذهب مالك وجمهور الأئمة إلى القول بحديث البراء، وذهب أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من الكوفيين إلى أن هذا الحكم منسوخ، وأن البهائم إذا أفسدت زرعا في ليل أو نهار أنه لا يلزم صاحبها شيء، وأدخل فسادها في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: ( جرح العجماء جبار ) فقاس جميع أعمالها على جرحها. ويقال: أنه ما تقدم أبا حنيفة أحد بهذا القول، ولا حجة له ولا لمن اتبعه في حديث العجماء، وكونه ناسخا لحديث البراء ومعارضا له؛ فإن النسخ شروطه معدومة، والتعاوض إنما يصح إذا لم يمكن استعماله أحدهما إلا بنفي الآخر، وحديث ( العجماء جرحها جبار ) عموم متفق عليه، ثم خص منه الزرع والحوائط بحديث البراء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو جاء عنه في حديث واحد: العجماء جرحها جبار نهارا لا ليلا وفي الزرع والحوائط والحرث، لم يكن هذا مستحيلا من القول؛ فكيف يجوز أن يقال في هذا متعارض؟ ! وإنما هذا من باب العموم والخصوص على ما هو مذكور في الأصول.

 

إن قيل: ما الحكمة في تفريق الشارع بين الليل والنهار، وقد قال الليث بن سعد: يضمن أرباب المواشي بالليل والنهار كل ما أفسدت، ولا يضمن أكثر من قيمة الماشية؟ قلنا: الفرق بينهما واضح وذلك أن أهل المواشي لهم ضرورة إلى إرسال مواشيهم ترعى بالنهار، والأغلب عندهم أن من عنده زرع يتعاهده بالنهار ويحفظه عمن أراده، فجعل حفظ ذلك بالنهار على أهل الزروع؛ لأنه وقت التصرف في المعاش، كما قال الله سبحانه وتعالى: « وجعلنا النهار معاشا » [ النبأ: 11 ] فإذا جاء الليل فقد جاء الوقت الذي يرجع كل شيء إلى موضعه وسكنه؛ كما قال الله تعالى: « من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه » [ القصص: 72 ] وقال: « وجعل الليل سكنا » [ الأنعام: 96 ] ويرد أهل المواشي مواشيهم إلى مواضعهم ليحفظوها، فإذا فرط صاحب الماشية في ردها إلى منزله، وفرط في ضبطها وحبسها عن الانتشار بالليل حتى أتلفت شيئا فعليه ضمان ذلك، فجرى الحكم الأوفق الأسمح، وكان ذلك أرفق بالفريقين، وأسهل على الطائفتين، وأحفظ للمالين، وقد وضح الصبح لذي عينين، ولكن لسليم الحاستين؛ وأما قول الليث: لا يضمن أكثر من قيمة المال فقد قال أبو عمر: لا أعلم من أين قال هذا الليث بن سعد، إلا أن يجعله قياسا على العبد الجاني لا يفتك بأكثر من قيمته ولا يلزم سيده في جنايته أكثر من قيمته، وهذا ضعيف الوجه؛ كما قال في « التمهيد » وفي « الاستذكار » فخالف الحديث في ( العجماء جرحها جبار ) وخالف ناقة البراء، وقد تقدمه إلى ذلك طائفة من العلماء منهم عطاء. قال ابن جريج قلت لعطاء: الحرث الماشية ليلا أو نهارا؟ قال: يضمن صاحبها ويغرم. قلت: كان عليه حظرا أو لم يكن؟ قال نعم! يغرم. قلت: ما يغرم؟ قال: قيمة ما أكل حماره ودابته وماشيته. وقال معمر عن ابن شبرمة: يقوم الزرع على حاله التي أصيب عليها دراهم. وروي عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبدالعزيز رضي الله عنهما: يضمن رب الماشية ليلا أو نهارا، من طرق لا تصح.

 

قال مالك: ويقوم الزرع الذي أفسدت المواشي بالليل على الرجاء والخوف. قال: والحوائط التي تحرس والتي لا تحرس، والمحظر عليها وغير المحظر سواء، يغرم أهلها ما أصابت بالليل بالغا ما بلغ، وإن كان أكثر من قيمتها. قال: وإن انفلتت دابة بالليل فوطئت على رجل نائم لم يغرم صاحبها شيئا، وإنما هذا في الحائط والزرع والحرث؛ ذكره عنه ابن عبدالحكم. وقال ابن القاسم: ما أفسدت الماشية بالليل فهو في مال ربها، وإن كان أضعاف ثمنها؛ لأن الجناية من قبله إذ لم يربطها، وليست الماشية كالعبيد؛ حكاه سحنون وأصبغ وأبو زيد عن ابن القاسم.

ولا يستأني بالزرع أن ينبت أولا ينبت كما يفعل في سن الصغير. وقال عيسى عن ابن القاسم: قيمته لو حل بيعه. وقال أشهب وابن نافع في المجموعة عنه: وإن لم يبد صلاحه. ابن العربي: والأول أقوى لأنها صفته فتقوم كما يقوم كل متلف على صفته.

لو لم يقض للمفسد له بشيء حتى نبت وانجبر فإن كان فيه قبل ذلك منفعة رعي أو شيء ضمن تلك المنفعة، وإن لم تكن فيه منفعة فلا ضمان. وقال أصبغ: يضمن؛ لأن التلف قد تحقق والجبر ليس من جهته فلا يعتد له به.

وقع في كتاب ابن سحنون أن الحديث إنما جاء في أمثال المدينة التي هي حيطان محدقة، وأما البلاد التي هي زروع متصلة غير محظرة، وبساتين كذلك، فيضمن أرباب النعم ما أفسدت من ليل أو نهار؛ كأنه ذهب إلى أن ترك تثقيف الحيوان في مثل هذه البلاد تعد؛ لأنها ولا بد تفسد. وهذا جنوب إلى قول الليث.

 

قال أصبغ في المدينة: ليس لأهل المواشي أن يخرجوا مواشيهم إلى قرى الزرع بغير ذواد؛ فركب العلماء على هذا أن البقعة لا تخلو أن تكون بقعة زرع، أو بقعة سرح، فإن كانت بقعة زرع فلا تدخلها ماشية إلا ماشية تجتاح، وعلى أربابها حفظها، وما أفسدت فصاحبها ضامن ليلا أو نهارا؛ وإن كانت بقعة سرح فعلى صاحب الذي حرثه فيها حفظه، ولا شيء على أرباب المواشي.

المواشي على قسمين: ضواري وحريسة وعليهما قسمها مالك. فالضواري هي المعتادة للزرع والثمار، فقال مالك: تغرب وتباع في بلد لا زرع فيه؛ رواه ابن القاسم في الكتاب وغيره. قال ابن حبيب: وإن كره ذلك ربها، وكذلك قال مالك في الدابة التي ضريت في إفساد الزرع: تغرب وتباع. وأما ما يستطاع الاحتراس منه فلا يؤمر صاحبه بإخراجه.

قال أصبغ: النحل والحمام والإوز والدجاج كالماشية، لا يمنع صاحبها من اتخاذها وإن [ ضريت ] ، وعلى أهل القرية حفظ زروعهم. قال ابن العربي: وهذه رواية ضعيفة لا يلتفت إليها من أراد أن يجد ما ينتفع به مما لا يضر بغيره مكن منه، وأما انتفاعه بما يتخذه بإضراره بأحد فلا سبيل إليه. قال عليه السلام: ( لا ضرر ولا ضرار ) وهذه الضواري عن ابن القاسم في المدينة لا ضمان على أربابها إلا بعد التقدم ابن العربي: وأرى الضمان عليهم قبل التقدم إذا كانت ضواري.

ذكر عبدالرزاق عن معمر عن قتادة عن الشعبي أن شاة وقعت في غزل حائك فاختصموا إلى شريح، فقال الشعبي: انظروه فإنه سيسألهم ليلا وقعت فيه أو نهارا؛ ففعل. ثم قال: إن كان بالليل ضمن، وإن كان بالنهار لم يضمن، ثم قرأ شريح « إذ نقشت فيه غنم القوم » قال: والنفش بالليل والهمل بالنهار.

قلت: ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم ( العجماء جرحها جبار ) الحديث. وقال ابن شهاب: والجبار الهدر، والعجماء البهيمة، قال علماؤنا: ظاهر قوله: ( العجماء جرحها جبار ) أن ما انفردت البهيمة بإتلافه لم يكن فيه شيء، وهذا مجمع عليه. فلو كان معها قائد أو سائق أو راكب فحملها أحدهم على شيء فأتلفته لزمه حكم المتلف؛ فإن كانت جناية مضمونة بالقصاص وكان الحمل عمدا كان فيه القصاص ولا يختلف فيه؛ لأن الدابة كالآلة. وإن كان عن غير قصد كانت فيه الدية على العاقلة. وفي الأموال الغرامة في مال الجاني.

واختلفوا فيمن أصابته برجلها أو ذنبها، فلم يضمن مالك والليث والأوزاعي صاحبها، وضمنه الشافعي وابن أبي ليلى وابن شبرمة. واختلفوا في الضارية فجمهورهم أنها كغيرها، ومالك وبعض أصحابه يضمنونه.

 

روى سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الرجل جبار ) قال الدارقطني: لم يروه غير سفيان بن حسين ولم يتابع عليه، وخالفه الحفاظ عن الزهري منهم مالك وابن عيينة ويونس ومعمر وابن جريج والزبيدي وعقيل وليث بن سعد، وغيرهم كلهم رووه عن الزهري فقالوا: ( العجماء جبار والبئر جبار والمعدن جبار ) ولم يذكروا الرجل وهو الصواب. وكذلك روى أبو صالح السمان، وعبدالرحمن الأعرج، ومحمد بن سيرين، ومحمد بن زياد وغيرهم عن أبي هريرة، ولم يذكروا فيه ( والرجل جبار ) وهو المحفوظ عن أبي هريرة.

قوله: ( والبئر جبار ) قد روى موضعه ( والنار ) قال الدارقطني: حدثنا حمزة بن القاسم الهاشمي حدثنا حنبل بن إسحاق قال سمعت أبا عبدالله أحمد بن حنبل يقول في حديث عبدالرزاق: حديث أبي هريرة ( والنار جبار ) ليس بشيء لم يكن في الكتاب باطل ليس هو بصحيح. حدثنا محمد بن مخلد حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن هانئ قال سمعت أحمد بن حنبل يقول: أهل اليمن يكتبون النار النير ويكتبون البير؛ يعني مثل ذلك. وإنما لقن عبدالرزاق ( النار جبار ) . وقال الرمادي: قال عبدالرزاق قال معمر لا أراه إلا وهما. قال أبو عمر: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( النار جبار ) وقال يحيي بن معين: أصله البئر ولكن معمرا صحفه قال أبو عمر: لم يأت ابن معين على قوله هذا بدليل، وليس هكذا ترد أحاديث الثقات. ذكر وكيع عن عبدالعزيز بن حصين عن يحي بن يحي الغساني قال: أحرق رجل سافي قراح له فخرجت شررة من نار حتى أحرقت شيئا لجاره. قال: فكتب فيه إلى عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه ابن حصين فكتب إلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( العجماء جبار ) وأرى أن النار جبار. وقد روي ( والسائمة جبار ) بدل العجماء فهذا ما ورد في ألفاظ هذا الحديث ولكل معنى لفظ صحيح مذكور في شرح الحديث وكتب الفقه.

 

قوله تعالى: « وسخرنا مع داود الجبال يسبحن » قال وهب: كان داود يمر بالجبال مسبحا والجبال تجاوبه بالتسبيح، وكذلك الطير. وقيل كان داود إذا وجد فترة أمر الجبال فسبحت حتى يشتاق؛ ولهذا قال: « وسخرنا » أي جعلناها بحيث تطيعه إذا أمرها بالتسبيح. وقيل: إن سيرها معه تسبيحها، والتسبيح مأخوذ من السباحة؛ دليله قوله تعالى: « يا جبال أوبي معه » [ سبأ: 10 ] . وقال قتادة: « يسبحن » يصلين معه إذا صلى، والتسبيح الصلاة. وكل محتمل. وذلك فعل الله تعالى بها؛ ذلك لأن الجبال لا تعقل فتسبيحها دلالة على تنزيه الله تعالى عن صفات العاجزين والمحدثين.

 

الآية: 80 ( وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون )

 

قوله تعالى: « وعلمناه صنعة لبوس لكم » يعني اتخاذ الدروع بإلانة الحديد له، واللبوس عند العرب السلاح كله؛ درعا كان أو جوشنا أو سيفا أو رمحا. قال الهذلي يصف رمحا:

ومعي لبوس للبئيس كأنه روق بجبهة ذي نعاج مجفل

واللبوس كل ما يلبس، وأنشد ابن السكيت:

ألبس كل حالة لبوسها إما نعيمها وإما ما بوسها

وأراد الله تعالى هنا الدرع، وهو بمعنى الملبوس نحو الركوب والحلوب. قال قتادة: أول من صنع الدروع داود. وإنما كانت صفائح، فهو أول من سردها وحلقها.

 

قوله تعالى: « ليحصنكم » ليحرزكم. « من بأسكم » أي من حربكم. وقيل: من السيف والسهم والرمح، أي من آلة بأسكم فحذف المضاف. ابن عباس: « من بأسكم » من سلاحكم. الضحاك: من حرب أعدائكم. والمعنى واحد. وقرأ الحسن وأبو جعفر وابن عامر وحفص وروح « لتحصنكم » بالتاء ردا على الصفة. وقيل: على اللبوس والمنعة التي هي الدروع. وقرأ شيبة وأبو بكر والمفضل ورويس وابن أبي إسحاق « لنحصنكم » بالنون لقوله: « وعلمناه » . وقرأ الباقون بالياء جعلوا الفعل للبوس، أو يكون المعنى ليحصنكم الله. « فهل أنتم شاكرون » أي على تيسير نعمة الدروع لكم. وقيل: « فهل أنتم شاكرون » بأن تطيعوا رسولي.

 

هذه الآية أصل في اتخاذ الصنائع والأسباب، وهو قول أهل العقول والألباب، لا قول الجهلة الأغبياء القائلين بأن ذلك إنما شرع للضعفاء، فالسبب سنة الله في خلقه فمن طعن في ذلك فقد طعن في الكتاب والسنة، ونسب من ذكرنا إلى الضعف وعدم المنة. وقد أخبر الله تعالى عن نبيه داود عليه السلام أنه كان يصنع الدروع، وكان أيضا يصنع الخوص، وكان يأكل من عمل يده، وكان آدم حراثا، ونوح نجارا، ولقمان خياطا، وطالوت دباغا. وقيل: سقاء؛ فالصنعة يكف بها الإنسان نفسه عن الناس، ويدفع. بها عن نفسه الضرر والباس. وفي الحديث: « إن الله يحب المؤمن المحترف الضعيف المتعفف ويبغض السائل الملحف » . وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة « الفرقان » وقد تقدم في غير ما آية، وفيه كفاية والحمد لله.

الآية [ 81 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيتان: 81 - 82 ( ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين، ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين )

 

قوله تعالى: « ولسليمان الريح عاصفة » أي وسخرنا لسليمان الريح عاصفة، أي شديدة الهبوب. يقال منه: عصفت الريح أي اشتدت فهي ريح عاصف وعصوف. وفي لغة بني أسد: أعصفت الريح فهي معصفة ومعصفة. والعصف التبن فسمي به شدة الريح؛ لأنها تعصفه بشدة تطيرها. وقرأ عبدالرحمن الأعرج وأبو بكر « ولسليمان الريح » برفع الحاء على القطع مما قبله؛ والمعنى ولسليمان تسخير الريح؛ ابتداء وخبر. « تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها » يعني الشام يروي أنها كانت تجري به وبأصحابه إلى حيث أراد، ثم ترده إلى الشام. وقال وهب: كان سليمان بن داود إذا خرج إلى مجلسه عكفت عليه الطير، وقام له الجن والإنس حتى يجلس على سريره. وكان امرأ غزاء لا يعقد عن الغزو؛ فإذا أراد أن يغزو أمر بخشب فمدت ورفع عليها الناس والدواب وآلة الحرب، أمر العاصف فأقلت ذلك، ثم أمر الرخاء فمرت به شهرا في رواحه وشهرا في غدوه، وهو معنى قوله تعالى: « تجري بأمره رخاء حيث أصاب » [ ص: 36 ] . والرخاء اللينة. « وكنا بكل شيء عالمين » أي بكل شيء عملنا عالمين بتدبيره.

 

قوله تعالى: « ومن الشياطين من يغوصون له » أي وسخرنا له من يغوصون؛ يريد تحت الماء. أي يستخرجون له الجواهر من البحر. والغوص النزول تحت الماء، وقد غاص في الماء، والهاجم على الشيء غائص. والغواص الذي يغوص في البحر على اللؤلؤ، وفعله الغياصة. « ويعملون عملا دون ذلك » أي سوي ذلك من الغوص؛ قاله الفراء. وقيل: يراد بذلك المحاريب والتماثيل وغير ذلك يسخرهم فيه. « وكنا لهم حافظين » أي لأعمالهم. وقال الفراء: حافظين لهم من أن يفسدوا أعمالهم، أو يهيجوا أحدا من بني آدم في زمان سليمان. وقيل: « حافظين » من أن يهربوا أو يمتنعوا. أو حفظناهم من أن يخرجوا عن أمره. وقد قيل: إن الحمام والنورة والطواحين والقوارير والصابون من استخراج الشياطين.

 

الآيتان: 83 - 84 ( وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين، فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين )

 

قوله تعالى: « وأيوب إذ نادى ربه » أي واذكر أيوب إذ نادى ربه. « أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين » أي نالني في بدني ضر وفي مالي وأهلي. قال ابن عباس: سمي أيوب لأنه آب إلى الله تعالى في كل حال. وروي أن أيوب عليه السلام كان رجلا من الروم ذا مال عظيم، وكان برا تقيا رحيما بالمساكين، يكفل الأيتام والأرامل، ويكرم الضيف، ويبلغ ابن السبيل، شاكرا لأنعم الله تعالى، وأنه دخل مع قومه على جبار عظيم فخاطبوه في أمر، فجعل أيوب يلين له في القول من أجل زرع كان له فامتحنه الله بذهاب مال وأهله، وبالضر في جسمه حتى تناثر لحمه وتدود جسمه، حتى أخرجه أهل قريته إلى خارج القرية، وكانت امرأته تخدمه. قال الحسن: مكث بذلك تسع سنين وستة أشهر. فلما أراد الله أن يفرج عنه قال الله تعالى له: « اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب » [ ص: 42 ] فيه شفاؤك، وقد وهبت لك أهلك ومالك وولدك ومثلهم معهم. وسيأتي في « ص » ما للمفسرين في قصة أيوب من تسليط الشيطان عليه، والرد عليهم إن شاء الله تعالى. واختلف في قول أيوب: « مسني الضر » على خمسة عشر قولا:

الأول: أنه وثب ليصلي فلم يقدر على النهوض فقال: « مسني الضر » إخبارا عن حاله، لا شكوى لبلائه؛ رواه أنس مرفوعا. الثاني: أنه إقرار بالعجز فلم يكن منافيا للصبر. الثالث: أنه سبحانه أجراه على لسانه ليكون حجة لأهل البلاء بعده في الإفصاح بما ينزل بهم. الرابع: أنه أجراه على لسانه إلزاما له في صفة الآدمي في الضعف عن تحمل البلاء. الخامس: أنه انقطع الوحي عنه أربعين يوما فخاف هجران ربه فقال: « مسني الضر » . وهذا قول جعفر بن محمد. السادس: أن تلامذته الذين كانوا يكتبون عنه لما أفضت حال إلى ما انتهت إليه محوا ما كتبوا عنه، وقالوا: ما لهذا عند الله قدر؛ فاشتكى الضر في ذهاب الوحي والدين من أيدي الناس. وهذا مما لم يصح سنده. والله أعلم؛ قال ابن العربي. السابع: أن دودة سقطت من لحمه فأخذها وردها في موضعها فعقرته فصاح « مسني الضر » فقيل: أعلينا تتصبر. قال ابن العربي: وهذا بعيد جدا مع أنه يفتقر إلى نقل صحيح، ولا سبيل إلى وجوده. الثامن: أن الدود كان يتناول بدنه فصبر حتى تناولت دودة قلبه وأخرى لسانه، فقال: « مسني الضر » لاشتغاله عن ذكر الله، قال ابن العربي: وما أحسن هذا لو كان له سند ولم تكن دعوى عريضة. التاسع: أنه أبهم عليه جهة أخذ البلاء له هل هو تأديب، أو تعذيب، أو تخصيص، أو تمحيص، أو ذخر أو طهر، فقال: « مسني الضر » أي ضر الإشكال في جهة أخذ البلاء. قال ابن العربي: وهذا غلو لا يحتاج إليه. العاشر: أنه قيل له سل الله العافية فقال: أقمت في النعيم سبعين سنة وأقيم في البلاء سبع سنين وحينئذ أسأله فقال: « مسني الضر » . قال ابن العربي: وهذا ممكن ولكنه لم يصح في إقامته مدة خبر ولا في هذه القصة. الحادي عشر: أن ضره قول إبليس لزوجه اسجدي لي فخاف ذهاب الإيمان عنها فتهلك ويبقي بغير كافل. الثاني عشر: لما ظهر به البلاء قال قومه: قد أضر بنا كونه معنا وقذره فليخرج عنا، فأخرجته امرأته إلى ظاهر البلد؛ فكانوا إذا خرجوا رأوه وتطيروا به وتشاءموا برؤيته، فقالوا: ليبعد بحيث لا نراه. فخرج إلى بعد من القرية، فكانت امرأته تقوم عليه وتحمل قوته إليه. فقالوا: إنها تتناوله وتخالطنا فيعود بسببه ضره إلينا. فأرادوا قطعها عنه؛ فقال: « مسني الضر » . الثالث عشر: قال عبدالله بن عبيد بن عمير: كان لأيوب أخوان فأتياه فقاما. بعيد لا يقدران أن يدنوا منه من نتن ريحه، فقال أحدهما: لو علم الله في أيوب خيرا ما ابتلاه به البلاء؛ فلم يسمع شيئا أشد عليه من هذه الكلمة؛ فعند ذلك قال: « مسني الضر » ثم قال: « اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت شبعان قط وأنا أعلم مكان جائع فصدقني » فنادى مناد من السماء « أن صدق عبدي » وهما يسمعان فخرا ساجدين. الرابع عشر: أن معنى « مسني الضر » من شماتة الأعداء؛ ولهذا قيل له: ما كان أشد عليك في بلائك؟ قال شماتة الأعداء. قال ابن العربي: وهذا ممكن فإن الكليم قد سأله أخوه العافية من ذلك فقال: « إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء » [ الأعراف: 150 ] . الخامس عشر: أن امرأته كانت ذات ذوائب فعرفت حين منعت أن تتصرف لأحد بسببه ما تعود به عليه، فقطعت ذوائبها واشترت بها ممن قوتا وجاءت به إليه، وكان يستعين بذوائبها في تصرفه وتنقله، فلما عدمها وأراد الحركة في تنقله لم يقدر قال: « مسني الضر » . وقيل: إنها لما اشترت القوت بذوائبها جاءه إبليس في صفة رجل وقال له: إن أهلك بغت فأخذت وحلق شعرها. فحلف أيوب أن يجلدها؛ فكانت المحنة على قلب المرأة أشد من المحنة على قلب أيوب.

قلت: وقول سادس عشر: ذكر ابن المبارك: أخبرنا يونس بن يزيد عن عقيل عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوما النبي صلى الله عليه وسلم وما أصابه من البلاء؛ الحديث. وفيه أن بعض إخوانه ممن صابره ولازمه قال: يا نبي الله لقد أعجبني أمرك وذكرته إلى أخيك وصاحبك، أنه قد ابتلاك بذهاب الأهل والمال وفي جسدك منذ ثمان عشرة سنة حتى بلغت ما ترى ألا يرحمك فيكشف عنك ! لقد أذنبت ذنبا ما أظن أحدا بلغه! فقال أيوب عليه السلام: « ما أدري ما يقولان غير أن ربي عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتزاعمان وكل يحلف بالله - أو على النفر يتزاعمون - فأنقلب إلى أهلي فأكفر عن أيمانهم إرادة ألا يأثم أحد ذكره ولا يذكره أحد إلا بالحق » فنادى ربه « أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين » إنما كان دعاؤه عرضا عرضه على الله تبارك وتعالى يخبره بالذي بلغه، صابرا لما يكون من الله تبارك وتعالى فيه. وذكر الحديث. وقول سابع عشر: سمعته ولم أقف عليه أن دودة سقطت من جسده فطلبها ليردها إلى موضعها فلم يجدها فقال: « مسني الضر » لما فقد من أجر ألم تلك الدودة، وكان أراد أن يبقي له الأجر موفرا إلى وقت العافية، وهذا حسن إلا أنه يحتاج إلى سند. قال العلماء: ولم يكن قوله « مسني الضر » جزعا؛ لأن الله تعالى قال: « إنا وجدناه صابرا » [ ص: 44 ] بل كان ذلك دعاء منه، والجزع في الشكوى إلى الخلق لا إلى الله تعالى، والدعاء لا ينافي الرضا. قال الثعلبي سمعت أستاذنا أبا القاسم بن حبيب يقول: حضرت مجلسا غاصا بالفقهاء والأدباء في دار السلطان، فسألت عن هذه الآية بعد إجماعهم على أن قول أيوب كان شكاية قد قال الله تعالى: « إنا وجدناه صابرا » [ ص: 44 ] فقلت: ليس هذا شكاية وإنما كان دعاء؛ بيانه « فاستجبنا له » والإجابة تتعقب الدعاء لا الاشتكاء. فاستحسنوه وارتضوه. وسئل الجند عن هذه الآية فقال: عرفه فاقة السؤال ليمن عليه بكوم النوال.

 

قوله تعالى: « فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم » قال مجاهد وعكرمة قيل لأيوب صلى الله عليه وسلم: قد آتيناك أهلك في الجنة فإن شئت تركناهم لك في الجنة وإن شئت آتيناكهم في الدنيا. قال مجاهد: فتركهم الله عز وجل له في الجنة وأعطاه مثلهم في الدنيا. قال النحاس: والإسناد عنهما بذلك صحيح.

قلت: وحكاه المهدوي عن ابن عباس. وقال الضحاك: قال عبدالله بن مسعود كان أهل أيوب قد ماتوا إلا امرأته فأحياهم الله عز وجل في أقل من طرف البصر، وآتاه مثلهم معهم. وعن ابن عباس أيضا: كان بنوه قد ماتوا فأحيوا له وولد له مثلهم معهم. وقال قتادة وكعب الأحبار والكلبي وغيرهم. قال ابن مسعود: مات أولاده وهم سبعة من الذكور وسبعة من الإناث فلما عوفي نشروا له، وولدت امرأته سبعة بنين وسبع بنات. الثعلبي: وهذا القول أشبه بظاهر الآية.

قلت: لأنهم ماتوا ابتلاء قبل آجالهم حسب ما تقدم بيانه في سورة « البقرة » في قصة « الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت » [ البقرة: 243 ] . وفي قصة السبعين الذين أخذتهم الصعقة فماتوا ثم أحيوا؛ وذلك أنهم ماتوا قبل آجالهم، وكذلك هنا والله أعلم. وعلى قول مجاهد وعكرمة يكون المعنى: « وأتيناه أهله » في الآخرة « ومثلهم معهم » في الدنيا. وفي الخبر: إن الله بعث إليه جبريل عليه السلام حين ركض برجله على الأرض ركضة فظهرت عين ماء حار، وأخذ بيده ونفضه نفضة فتناثرت عنه الديدان، وغاص في الماء غوصة فنبت لحمه وعاد إلى منزله، ورد الله عليه أهله ومثلهم معهم، ونشأت سحابة على قدر قواعد داره فأمطرت ثلاثة أيام بلياليها جرادا من ذهب. فقال له جبريل: أشبعت؟ فقال: ومن يشبع من الله! فضل. فأوحى الله إليه: قد أثنيت عليك بالصبر قبل وقوعك في البلاء وبعده، ولولا أني وضعت تحت كل شعرة منك صبرا ما صبرت. « رحمة من عندنا » أي فعلنا ذلك به رحمة من عندنا. وقيل: ابتليناه ليعظم ثوابه غدا. « وذكرى للعابدين » أي وتذكيرا للعباد؛ لأنهم إذا ذكروا بلاء أيوب وصبره عليه ومحنته له وهو أفضل أهل زمانه وطنوا أنفسهم على الصبر على شدائد الدنيا نحو ما فعل أيوب، فيكون هذا تنبيها لهم على إدامة العبادة، واحتمال الضرر. واختلف في مدة إقامته في البلاء؛ فقال ابن عباس: كانت مدة البلاء سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ليال. وهب: ثلاثين سنة. الحسن سبع سنين وستة أشهر. قلت: وأصح من هذا والله أعلم ثماني عشرة سنة؛ رواه ابن شهاب عن النبي صلى؛ ذكره ابن المبارك وقد تقدم.

 

الآيتان: 85 - 86 ( وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين، وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين )

 

قوله تعالى: « وإسماعيل وإدريس » وهو أخنوخ وقد تقدم. « وذا الكفل » أي واذكرهم. وخرج الترمذي الحكيم في « نوادر الأصول » وغيره من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كان في بني إسرائيل رجل يقال له ذو الكفل لا يتورع من ذنب عمله فاتبع امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت وبكت فقال ما يبكيك قالت من هذا العمل والله ما عملته قط قال أأكرهتك قالت لا ولكن حملني عليه الحاجة قال اذهبي فهو لك والله لا أعصى الله بعدها أبدا ثم مات من ليلته فوجدوا مكتوبا على باب داره إن الله قد غفر لذي الكفل ) وخرجه أبو عيسى الترمذي أيضا ولفظه. ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يحدث حديثا لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين - حتى عد سبع موات - [ لم أحدث به ] ولكني سمعته أكثر من ذلك؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( كان ذو الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت وبكت فقال ما يبكيك أأكرهتك قالت لا ولكنه عمل ما عملته قط وما حملني عليه إلا الحاجة فقال تفعلين أنت هذا وما فعلته اذهبي فهي لك وقال والله لا أعصي الله بعدها أبدا فمات من ليلته فأصبح مكتوبا على بابه إن الله قد غفر لذي الكفل ) قال: حديث حسن. وقيل إن اليسع لما كبر قال: لو استخلفت رجلا على الناس أنظر كيف يعمل. فقال: من يتكفل لي بثلاث: بصيام النهار وقيام الليل وإلا يغضب وهو يقضي؟ فقال رجل من ذرية العيص: أنا؛ فرده ثم قال مثلها من الغد؛ فقال الرجل: أنا؛ فاستخلفه فوفي فأثنى الله عليه فسمي ذا الكفل؛ لأنه تكفل بأمر؛ قال أبو موسى ومجاهد وقتادة. وقال عمرو بن عبدالرحمن بن الحارث وقال أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن ذا الكفل لم يكن نبيا، ولكنه كان عبدا صالحا فتكفل بعمل رجل صالح عند موته، وكان يصلي، لله كل يوم مائة صلاة فأحسن الله الثناء عليه قال كعب: كان في بني إسرائيل ملك كافر فمر ببلاده رجل صالح فقال: والله إن خرجت من هذه البلاد حتى أعرض على هذا الملك الإسلام. فعرض عليه فقال: ما جزائي؟ قال: الجنة - ووصفها له - قال: من يتكفل لي بذلك؟ قال: أنا؛ فأسلم الملك وتخلى عن المملكة وأقبل على طاعة ربه حتى مات، فدفن فأصبحوا فوجدوا يده خارجة من القبر وفيها رقعة خضراء مكتوب فيها بنور أبيض: إن الله قد غفر لي وأدخلني الجنة ووفى عن كفالة فلان؛ فأسرع الناس إلى ذلك الرجل بأن يأخذ عليهم الإيمان، ويتكفل لهم بما تكفل به للملك، ففعل ذلك فأمنوا كلهم فسمي ذا الكفل. وقيل: كان رجلا عفيفا يتكفل بشأن كل إنسان وقع في بلاء أو تهمة أو مطالبة فينجيه الله على يديه. وقيل: سمي ذا الكفل لأن الله تعالى تكفل له في سعيه وعمله بضعف عمل غيره من الأنبياء الذين كانوا في زمانه. والجمهور على أنه ليس بنبي. وقال الحسن: هو نبي قبل إلياس. وقيل: هو زكريا بكفالة مريم. « كل من الصابرين » أي على أمر الله والقيام بطاعته واجتناب معاصيه. « وأدخلناهم في رحمتنا » أي في الجنة.

 

الآيتان: 87 - 88 ( وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين )

 

قوله تعالى: « وذا النون » أي واذكر « ذا النون » وهو لقب ليونس بن متى لابتلاع النون إياه. والنون الحوت. وفي حديث عثمان رضي الله عنه أنه رأى صبيا مليحا فقال: دسموا نونته كي لا تصيبه العين. روى ثعلب عن ابن الأعرابي: النونة النقبة التي تكون في ذقن الصبي الصغير، ومعنى دسموا سودوا.

 

قوله تعالى: « إذ ذهب مغاضبا » قال الحسن والشعبي وسعيد بن جبير: مغاضبا لربه عز وجل. واختاره الطبري والقتبي واستحسنه المهدوي، وروي عن ابن مسعود. وقال النحاس: وربما أنكره هذا من لا يعرف اللغة وهو قول صحيح. والمعنى: مغاضبا من أجل ربه، كما تقول: غضبت لك أي من أجلك. والمؤمن يغضب لله عز وجل إذا عصي. وأكثر أهل اللغة يذهب إلى أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: ( اشترطي لهم الولاء ) من هذا. وبالغ القتبي في نصرة هذا القول. وفي الخبر في وصف يونس: إنه كان ضيق الصدر فلما حمل أعباء النبوة تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل الثقيل، فمضى على وجهه مضي الآبق الناد. وهذه المغاضبة كانت صغيرة. ولم يغضب على الله ولكن غضب لله إذ رفع العذاب عنهم. وقال ابن مسعود: أبق من ربه أي من أمر ربه حتى أمره بالعودة إليهم بعد رفع العذاب عنهم. فإنه كان يتوعد قومه بنزول العذاب في وقت معلوم، وخرج من عندهم في ذلك الوقت، فأظلهم العذاب فتضرعوا فرفع عنهم ولم يعلم يونس بتوبتهم؛ فلذلك ذهب مغاضبا وكان من حقه ألا يذهب إلا بإذن محدد. وقال الحسن: أمره الله تعالى بالمسيرة إلى قومه فسأل أن ينظر ليتأهب، فأعجله الله حتى سأل أن يأخذ نعلا ليلبسها فلم ينظر، وقيل له: الأمر أعجل من ذلك - وكان في خلقه ضيق - فخرج مغاضبا لربه، فهذا قول وقول النحاس أحسن ما قيل في تأويله. أي خرج مغاضبا من أجل ربه، أي غضب على قومه من أجل كفرهم بربه وقيل: إنه غاضب قومه حين طال عليه أمرهم وتعنتهم فذهب فارا بنفسه، ولم يصبر على أذاهم وقد كان الله أمره بملازمتهم والدعاء، فكان ذنبه خروجه من بينهم من غير إذن من الله. روي عن ابن عباس والضحاك، وأن يونس كان شابا ولم يحمل أثقال النبوة؛ ولهذا قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: « ولا تكن كصاحب الحوت » [ القلم: 48 ] . وعن الضحاك أيضا خرج مغاضبا لقومه؛ لأن قومه لما لم يقبلوا منه وهو رسول من الله عز وجل كفروا بهذا فوجب أن يغاضبهم، وعلى كل أحد أن يغاضب من عصى الله عز وجل. وقالت فرقة منهم الأخفش: إنما خرج مغاضبا للملك الذين كان على قومه. قال ابن عباس: أراد شعيا النبي والملك الذي كان في وقته اسمه حزقيا أن يبعثوا يونس إلى ملك نينوى، وكان غزا بني إسرائيل وسبى الكثير منهم ليكلمه حتى يرسل معه بني إسرائيل، وكان الأنبياء في ذلك الزمان يوحى إليهم، والأمر والسياسة إلى ملك قد اختاروه فيعمل على وحي ذلك النبي، وكان أوحى الله لشعيا: أن قل لحزقيا الملك أن يختار نبيا قويا أمينا من بني إسرائيل فيبعثه إلى أهل نينوى فيأمرهم بالتخلية عن بني إسرائيل فإني ملق في قلوب ملوكهم وجبابرتهم التخلية عنهم. فقال يونس لشعيا: هل أمرك الله بإخراجي؟ قال: لا. قال: فهل سماني لك؟ قال: لا. قال فها هنا أنبياء أمناء أقوياء. فألحوا عليه فخرج مغاضبا للنبي الملك وقومه، فأتى بحر الروم وكان من قصته ما كان؛ فابتلي ببطن الحوت لتركه أمر شعيا؛ ولهذا قال الله تعالى: « فالتقمه الحوت وهو مليم » [ الصافات: 142 ] والمليم من فعل ما يلام عليه. وكان ما فعله إما صغيرة أو ترك الأولى. وقيل: خرج ولم يكن نبيا في ذلك الوقت ولكن أمره ملك من ملوك بني إسرائيل أن يأتي نينوى؛ ليدعو أهلها بأمر شعيا فأنف أن يكون ذهابه إليهم بأمر أحد غير الله، فخرج مغاضبا للملك؛ فلما نجا من بطن الحوت بعثه الله إلى قومه فدعاهم وآمنوا به. وقال القشيري: والأظهر أن هذه المغاضبة كانت بعد إرسال الله تعالى إياه، وبعد رفع العذاب عن القوم بعد ما أظلهم؛ فإنه كره رفع العذاب عنهم.

قلت: هذا أحسن ما قيل فيه على ما يأتي بيانه في « والصافات » إن شاء الله تعالى. وقيل: إنه كان من أخلاق قومه قتل من جربوا عليه الكذب فخشي أن يقتل فغضب، وخرج فارا على وجهه حتى ركب في سفينة فسكنت ولم تجر. فقال أهلها: أفيكم آبق؟ فقال: أنا هو. وكان من قصته ما كان، وابتلي ببطن الحوت تمحيصا من الصغيرة كما قال في أهل أحد: « حتى إذا فشلتم » [ آل عمران: 152 ] إلى قوله: « وليمحص الله الذين آمنوا » [ آل عمران: 141 ] فمعاصي الأنبياء مغفورة، ولكن قد يجري تمحيص ويتضمن ذلك زجرا عن المعاودة. وقول رابع: إنه لم يغاضب ربه، ولا قومه، ولا الملك، وأنه من قولهم غضب إذا أنف. وفاعل قد يكون من واحد؛ فالمعنى أنه لما وعد قومه بالعذاب وخرج عنهم تابوا وكشف عنهم العذاب، فلما رجع وعلم أنهم لم يهلكوا أنف من ذلك فخرج أبقا. وينشد هذا البيت:

وأغضب أن تهجي تميم بداوم

أي آنف. وهذا فيه نظر؛ فإنه يغال لصاحب هذا القول: إن تلك المغاضبة وإن كانت من الأنفة، فالأنفة لا بد أن يخالطها الغضب وإن ذلك دق على من كان؟! وأنت تقول لم يغضب على ربه ولا على قومه.

 

قوله تعالى: « فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات » قيل: معناه استنزله إبليس ووقع في ظنه إمكان ألا يقدر الله عليه بمعاقبته. وهذا قول مردود مرغوب عنه؛ لأنه كفر. روي عن سعيد بن جبير حكاه عنه المهدوي، والثعلبي عن الحسن وذكر الثعلبي وقال عطاء وسعيد بن جبير وكثير من العلماء معناه: فظن أن لن نضيق عليه. الحسن: هو من قوله تعالى: « الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر » [ الرعد: 26 ] أي يضيق. وقوله « ومن قدر عليه رزقه » [ الطلاق: 7 ] .

قلت: وهذا الأشبه بقول سعيد والحسن وقدر وقدر وقتر وقتر بمعنى، أي ضيق وهو قول ابن عباس فيما ذكره الماوردي والمهدوي. وقيل: هو من القدر الذي هو القضاء والحكم؛ أي فظن أن لن نقضي عليه بالعقوبة؛ قال قتادة ومجاهد والفراء. مأخوذ من القدر وهو الحكم دون القدرة والاستطاعة. وروي عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب، أنه قال في قول الله عز وجل: « فظن أن لن نقدر عليه » هو من التقدير ليس من القدرة، يقال منه: قدر الله لك الخير يقدره قدرا، بمعنى قدر الله لك الخير. وأنشد ثعلب:

فليست عشيات اللوى برواجع لنا أبدا ما أورق السلم النضر

ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر

يعني ما تقدره وتقضي به يقع. وعلى هذين التأويلين العلماء. وقرأ عمر بن عبدالعزيز والزهري: « فظن أن لن نُقدِّر عليه » بضم النون وتشديد الدال من التقدير. وحكى هذه القراءة الماوردي عن ابن عباس. وقرأ عبيد بن عمير وقتادة والأعرج: « أن لن يقدر عليه » بضم الياء مشددا على، الفعل المجهول. وقرأ يعقوب وعبدالله بن أبي إسحاق والحسن وابن عباس أيضا « يُقْدَر عليه » بياء مضمومة وفتح الدال مخففا على الفعل المجهول. وعن الحسن أيضا « فظن أن لن يقدر عليه » . الباقون « نقدر » بفتح النون وكسر الدال وكله بمعنى التقدير.

قلت: وهذان التأويلان تأولهما العلماء في قول الرجل الذي لم يعمل خيرا قط لأهله إذا مات فحرقوه ( فوالله لئن قدر الله على ) الحديث فعلى التأويل الأول يكون تقديره: والله لئن ضيق الله علي وبالغ في محاسبتي وجزائي على ذنوبي ليكونن ذلك، ثم أمر أن يحرق بإفراط خوفه. وعلى التأويل الثاني: أي لن كان سبق في قدر الله وقضائه أن يعذب كل ذي جرم على جرمه ليعذبني الله على إجرامي وذنوبي عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين غيري. وحديثه خرجه الأئمة في الموطأ وغيره. والرجل كان مؤمنا موحدا. وقد جاء في بعض طرقه ( لم يعمل خيرا إلا التوحيد ) وقد قال حين قال الله تعالى: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب. والخشية لا تكون إلا لمؤمن مصدق؛ قال الله تعالى: « إنما يخشى الله من عباده العلماء » . [ فاطر: 28 ] . وقد قيل: إن معنى « فظن أن لن نقدر عليه » الاستفهام وتقديره: أفظن، فحذف ألف الاستفهام إيجازا؛ وهو قول سليمان « أبو » المعتمر. وحكى القاضي منذر بن سعيد: أن بعضهم قرأ « أفظن » بالألف.

 

قوله تعالى: « فنادى في الظلمات » اختلف العلماء في جمع الظلمات ما المراد به، فقالت فرقة منهم ابن عباس وقتادة: ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة الحوت. وذكر ابن أبي الدنيا حدثنا يوسف بن موسى حدثنا عبيدالله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال حدثنا عبدالله بن مسعود في بيت المال قال: لما ابتلع الحوت يونس عليه السلام أهوى به إلى قرار الأرض، فسمع يونس تسبيح الحصى فنادى في الظلمات ظلمات ثلاث: ظلمة بطن الحوت، وظلمة الليل، وظلمة البحر « أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين » « فنبذناه بالعراء وهو سقيم » [ الصافات: 145 ] كهيئة الفرخ الممعوط الذي ليس عليه ريش. وقالت فرقة منهم سالم بن أبي الجعد: ظلمة البحر، وظلمة حوت التقم الحوت الأول. ويصح أن يعبر بالظلمات عن جوف الحوت الأول فقط؛ كما قال: « في غيابة الجب » [ يوسف: 10 ] وفي كل جهاته ظلمة فجمعها سائغ. وذكر الماوردي: أنه يحتمل أن يعبر بالظلمات عن ظلمة الخطيئة، وظلمة الشدة، وظلمة الوحدة. وروي: أن الله تعالى أوحى إلى الحوت: « لا تؤذ منه شعرة فإني جعلت بطنك سجنه ولم أجعله طعامك » وروي: أن يونس عليه السلام سجد في جوف الحوت حين سمع تسبيح الحيتان في قعر البحر. وذكر ابن أبي الدنيا حدثنا العباس بن يزيد العبدي حدثنا إسحاق بن إدريس حدثنا جعفر بن سليمان عن عوف عن سعيد بن أبي الحسن قال: لما التقم الحوت يونس عليه السلام ظن أنه قد مات فطول رجليه فإذا هو لم يمت فقام إلى عادته يصلي فقال في دعائه: « واتخذت لك مسجدا حيث لم يتخذه أحد » . وقال أبو المعالي: قوله صلى الله عليه وسلم ( لا تفضلوني على يونس بن متى ) المعنى فإني لم أكن وأنا في سدرة المنتهى بأقرب إلى الله منه، وهو في قعر البحر في بطن الحوت. وهذا يدل على أن الباري سبحانه وتعالى ليس في جهة. وقد تقدم هذا المعنى في « البقرة » و « الأعراف » . « أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين » يريد فيما خالف فيه من ترك مداومة قومه والصبر عليهم وقيل: في الخروج من غير أن يؤذن له. ولم يكن ذلك من الله عقوبة؛ لأن الأنبياء لا يجوز أن يعاقبوا، وإنما كان ذلك تمحيصا. وقد يؤدب من لا يستحق العقاب كالصبيان؛ ذكره الماوردي. وقيل: من الظالمين في دعائي على قومي بالعذاب. وقد دعا نوح على قومه فلم يؤاخذ. وقال الواسطي في معناه: نزه ربه عن الظلم وأضاف الظلم إلى نفسه اعترافا واستحقاقا. ومثل هذا قول آدم وحواء: « ربنا ظلمنا أنفسنا » [ الأعراف: 23 ] إذ كانا السبب في وضعهما أنفسهما في غير الموضع الذي أنزلا فيه.

 

روى أبو داود عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( دعاء ذي النون في بطن الحوت « لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين » لم يدع به رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له ) وقد قيل: إنه اسم الله الأعظم ورواه سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الخبر: في هذه الآية شرط الله لمن دعاه أن يجيبه كما أجابه كما به وينجيه كما أنجاه، وهو قوله: « وكذلك ننجي المؤمنين » وليس ههنا صريح دعاء وهو وإنما هو مضمون قوله: « إني كنت من الظالمين » فاعترف بالظلم فكان تلويحا.

 

قوله تعالى: « وكذلك ننجي المؤمنين » أي نخلصهم من همهم بما سبق من عملهم. وذلك قوله: « فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون » [ الصافات: 143 - 144 ] وهذا حفظ من الله عز وجل لعبده يونس رعى له حق تعبده، وحفظ زمام ما سلف له من الطاعة. وقال الأستاذ أبو إسحاق: صحب ذو النون الحوت أياما قلائل فإلي يوم القيامة يقال له ذو النون، فما ظنك بعيد عبده سبعين سنة يبطل هذا عنده! لا يظن به ذلك. « من الغم » أي من بطن الحوت. قوله تعالى: « وكذلك ننجي المؤمنين » قراءة العامة بنونين من أنجي ينجي. وقرأ ابن عامر « نجي » بنون واحدة وجيم مشددة وتسكين الياء على الفعل الماضي وإضمار المصدر أي وكذلك نجي النجاء المؤمنين؛ كما تقول: ضرب زيدا بمعنى ضرب الضرب زيدا وأنشد:

ولو ولدت قفيرة جرو كلب لسب بذلك الجرو الكلابا

أراد لسب السب بذلك الجرو. وسكنت ياؤه على لغة من يقول بقي ورضي فلا يحرك الياء. وقرأ الحسن « وذروا ما بقي من الربا » [ البقرة: 278 ] استثقالا لتحريك ياء قبلها كسرة. وأنشد:

خمر الشيب لمتي تخميرا وحدا بي إلى القبور البعيرا

ليت شعري إذا القيامة قامت ودعي بالحساب أين المصيرا

سكن الياء في دعي استثقالا لتحريكها وقبلها كسرة وفاعل حدا المشيب؛ أي وحدا المشيب البعير؛ ليت شعري المصير أين هو. هذا تأويل الفراء وأبي عبيد وثعلب في تصويب هذه القراءة. وخطأها أبو حاتم والزجاج وقالوا: هو لحن؛ لأنه نصب اسم ما لم يسم فاعله؛ وإنما يقال: نجي المؤمنون. كما يقال: كرم الصالحون. ولا يجوز ضرب زيدا بمعنى ضرب الضرب زيدا؛ لأنه لا فائدة [ فيه ] إذ كان ضرب يدل على الضرب. ولا يجوز أن يحتج بمثل ذلك البيت على كتاب الله تعالى. ولأبي عبيد قول آخر - وقال القتبي - وهو أنه أدغم النون في الجيم. النحاس: وهذا القول لا يجوز عند أحد من النحويين؛ لبعد مخرج النون من مخرج الجيم فلا تدغم فيها، ولا يجوز في « من جاء بالحسنة » « مجاء بالحسنة » قال النحاس: ولم أسمع في هذا أحسن من شيء سمعته من علي بن سليمان. قال: الأصل ننجي فحذف إحدى النونين؛ لاجتماعهما كما تحذف إحدى التاءين؛ لاجتماعهما نحو قوله عز وجل: « ولا تفرقوا » [ آل عمران: 103 ] والأصل تتفرقوا. وقرأ محمد بن السميقع وأبو العالية « وكذلك نجى المؤمنين » أي نجى الله المؤمنين؛ وهي حسنة.

 

الآيتان: 89 - 90 ( وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين، فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين )

 

قوله تعالى: « وزكريا إذ نادى ربه » أي واذكر زكريا. وقد تقدم في « آل عمران » ذكره. « رب لا تذرني فردا » أي منفردا لا ولد لي وقد تقدم. « وأنت خير الوارثين » أي خير من يبقي بعد كل من يموت؛ وإنما قال « وأنت خير الوارثين » لما تقدم من قوله: « يرثني » [ مريم: 6 ] أي أعلم أنك، لا تضيع دينك ولكن لا تقطع هذه الفضيلة التي هي القيام بأمر الذين عن عقبي. كما تقدم في « مريم » بيانه.

 

قوله تعالى: « فاستجبنا له » أي أجبنا دعاءه: « ووهبنا له يحيى » . تقدم. « وأصلحنا له زوجه » قال قتادة وسعيد بن جبير وأكثر المفسرين: إنها كانت عاقرا فجعلت ولودا. وقال ابن عباس وعطاء: كانت سيئة الخلق، طويلة اللسان، فأصلحها الله فجعلها حسنة الخلق.

قلت: ويحتمل أن تكون جمعت المعنيين فجعلت حسنة الخلق ولودا. « إنهم » يعني الأنبياء المسلمين في هذه السورة « إنهم كانوا يسارعون في الخيرات » وقيل: الكناية راجعة إلى زكريا وامرأته ويحيى.

 

قوله تعالى: « ويدعوننا رغبا ورهبا » أي يفزعون إلينا فيدعوننا في حال الرخاء وحال الشدة. وقيل: المعنى يدعون وقت تعبدهم وهم بحال رغبة ورجاء ورهبة وخوف، لأن الرغبة والرهبة متلازمان. وقيل: الرغب رفع بطون الأكف إلى السماء، والرهب رفع ظهورها؛ قاله خصيف؛ وقال ابن عطية: وتلخيص. أن عادة كل داع من البشر أن يستعين بيديه فالرغب من حيث هو طلب يحسن منه أن يوجه باطن الراح نحو المطلوب منه، إذ هو موضع إعطاء أو بها يتملك، والرهب من حيث هو دفع يحسن معه طرح ذلك، والإشارة إلى ذهابه وتوقيه بنفض اليد ونحوه.

 

روى الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يسمح بهما وجهه وقد مضى في « الأعراف » الاختلاف في رفع الأيدي، وذكرنا هذا الحديث وغيره هناك. وعلى القول بالرفع فقد اختلف الناس في صفته وإلى أين؟ فكان بعضهم يختار أن يبسط كفيه رافعهما حذو صدره وبطونهما إلى وجهه؛ روي عن ابن عمر وابن عباس. وكان علي يد بباطن كفيه؛ وعن أنس مثله، وهو ظاهر حديث الترمذي. وقوله صلى الله عليه وسلم: ( إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها وامسحوا بها وجوهكم ) . وروي عن ابن عمر وابن الزبير برفعهما إلى وجهه، واحتجوا بحديث أبي سعيد الخدري؛ قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة فجعل يدعو وجعل ظهر كفيه مما يلي وجهه، ورفعهما فوق ثدييه وأسفل من منكبيه وقيل حتى يحاذي بهما وجهه وظهورهما مما يلي وجهه. قال أبو جعفر الطبري والصواب أن يقال: إن كل هذه الآثار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم متفقة غير مختلفة المعاني، وجائز أن يكون ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم لاختلاف أحوال الدعاء كما قال ابن عباس: إذا أشار أحدكم بإصبع واحد فهو الإخلاص وإذا رفع يديه حذو صدره فهو الدعاء، وإذا رفعهما حتى يجاوز بهما رأسه وظاهرهما مما يلي وجهه فهو الابتهال. قال الطبري وقد روى قتادة عن أنس قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بظهر كفيه وباطنهما. و « رغبا ورهبا » منصوبان على المصدر؛ أي يرغبون رغبا ويرهبون رهبا. أو على المفعول من أجله؛ أي للرغب والرهب. أو على الحال. وقرأ طلحة بن مصرف « ويدعونا » بنون واحدة. وقرأ الأعمش بضم الراء وإسكان الغين والهاء مثل السقم والبخل، والعدم والضرب لغتان وابن وثاب والأعمش أيضا « رغبا ورهبا » بالفتح في الراء والتخفيف في الغين والهاء، وهما لغتان. مثل نهر ونهر وصخر وصخر. ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو. « وكانوا لنا خاشعين » أي متواضعين خاضعين.

 

الآيات: 101 - 103 ( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون، لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون، لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون )

 

قوله تعالى: « إن الذين سبقت لهم منا الحسنى » أي الجنة « أولئك عنها » أي عن النار. « مبعدون » فمعنى الكلام الاستثناء؛ ولهذا قال بعض أهل العلم: « إن » ههنا بمعنى « إلا » وليس في القرآن غيره. وقال محمد بن حاطب: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقرأ هذه الآية على المنبر « إن الذين سبقت لهم منا الحسنى » فقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن عثمان منهم ) .

 

قوله تعالى: « لا يسمعون حسيسها » أي حس النار وحركة لهبها. والحسيس والحس الحركة. وروى ابن جريج عن عطاء قال قال أبو راشد الحروري لابن عباس: « لا يسمعون حسيسها » فقال ابن عباس: أمجنون أنت؟ فأين قوله تعالى: « وإن منكم إلا واردها » وقوله تعالى: « فأوردهم النار » [ هود: 98 ] وقوله: « إلى جهنم وردا » [ مريم: 86 ] . ولقد كان من دعاء من مضى: اللهم أخرجني من النار سالما، وأدخلني الجنة فائزا. وقال أبو عثمان النهدي: على الصراط حيات تلسع أهل النار فيقولون: حس حس. وقيل: إذا دخل أهل الجنة لم يسمعوا حس أهل النار وقبل ذلك يسمعون؛ فالله أعلم. « وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون » أي دائمون وهم فيما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. وقال « ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون » [ فصلت: 31 ] .

 

قوله تعالى: « لا يحزنهم الفزع الأكبر » وقرأ أبو جعفر وابن محيصن « لا يحزنهم » بضم الياء وكسر الزاي. الباقون بفتح الياء وضم الزاي. قال اليزيدي: حزنه لغة قريش، وأحزنه لغة تميم، وقد قرئ بهما. والفزع الأكبر أهوال يوم القيامة والبعث؛ عن ابن عباس. وقال الحسن: هو وقت يؤمر بالعباد إلى النار. وقال ابن جريح وسعيد بن جبير والضحاك: هو إذا أطبقت النار على أهلها، وذبح الموت بين الجنة والنار وقال ذو النون المصري: هو القطيعة والفراق. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: ( ثلاثة يوم القيامة في كثيب من المسك الأذفر ولا يحزنهم الفزع الأكبر رجل أم قوما محتسبا وهم له رضوان ورجل أذن لقوم محتسبا ورجل ابتلى برق الدنيا فلم يشغله عن طاعة ربه ) . وقال أبو سلمة بن عبدالرحمن: مررت برجل يضرب غلاما له، فأشار إليّ الغلام، فكلمت مولاه حتى عفا عنه؛ فلقيت أبا سعيد الخدري فأخبرته، فقال: يا ابن أخي من أغاث مكروبا أعتقه الله من النار يوم الفزع الأكبر ) سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم. « وتتلقاهم الملائكة » أي تستقبلهم الملائكة على أبواب الجنة يهنئونهم ويقولون لهم: « هذا يومكم الذي كنتم توعدون » وقيل: تستقبلهم ملائكة الرحمة عند خروجهم من القبور عن ابن عباس « هذا يومكم » أي ويقولون لهم؛ فحذف. « الذي كنتم توعدون » فيه الكرامة.

 

الآية: 104 ( يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين )

 

قوله تعالى: « يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب » قرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح والأعرج والزهري « تُطوى » بتاء مضمومة « السماء » رفعا على ما لم يسم فاعله. مجاهد « يطوي » على معنى يطوي الله السماء. الباقون « نطوي » بنون العظمة. وانتصاب « يوم » على البدل من الهاء المحذوفة في الصلة؛ التقدير: الذي كنتم توعدونه يوم نطوي السماء. أو يكون منصوبا بـ « نعيد » من قول « كما بدأنا أول خلق نعيده » . أو بقول: « لا يحزنهم » أي لا يحزنهم الفزع الأكبر في اليوم الذي نطوي فيه السماء. أو على إضمار واذكر، وأراد بالسماء الجنس؛ دليله: « والسموات مطويات بيمنه » [ الزمر: 67 ] . « كطي السجل للكتاب » قال ابن عباس ومجاهد: أي كطي الصحيفة على ما فيها؛ فاللام بمعنى « على » . وعن ابن عباس أيضا اسم كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بالقوي؛ لأن كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معروفون ليس هذا منهم، ولا في أصحابه من اسمه السجل. وقال ابن عباس أيضا وابن عمر والسدي: « السجل » ملك، وهو الذي يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه. ويقال: إنه في السماء الثالثة، ترفع إليه أعمال العباد، يرفعها إليه الحفظة الموكلون بالخلق في كل خميس واثنين، وكان من أعوانه فيما ذكروا هاروت وماروت. والسجل الصك، وهو اسم مشتق من السجالة وهي الكتابة؛ وأصلها من السجل وهو الدلو؛ تقول: ساجلت الرجل إذا نزعت دلوا ونزع دلوا، ثم استعيرت فسميت المكاتبة والمراجعة مساجلة. وقد سجل الحاكم تسجيلا. وقال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب:

من يساجلني يساجل ماجدا يملأ الدلو إلى عقد الكرب

ثم بني هذا الاسم على فعل مثل حمر وطمر وبلي. وقرأ أبو زرعة بن عمرو بن جرير « كطي السجل » بضم السين والجيم وتشديد اللام. وقرأ الأعمش وطلحة « كطي السجل » بفتح السين وإسكان الجيم وتخفيف اللام. قال النحاس: والمعنى واحد إن شاء الله تعالى. والتمام عند قوله: « للكتاب » . والطي في هذه الآية يحتمل معنيين: أحدهما: الدرج الذي هو ضد النشر، قال الله تعالى: « والسموات مطويات بيمينه » [ الزمر: 67 ] . والثاني: الإخفاء والتعمية والمحو؛ لأن الله تعالى يمحو ويطمس رسومها ويكدر نجومها. قال الله تعالى: « إذا الشمس كورت. وإذا النجوم انكدرت » [ التكوير: 1 - 2 ] « وإذا السماء كشطت » [ التكوير: 11 ] . « للكتاب » وتم الكلام. وقراءة الأعمش وحفص وحمزة والكسائي ويحي وخلف: « للكتب » جمعا ثم استأنف الكلام فقال: « كما بدأنا أول خلق نعيده » أي نحشرهم حفاة عراة غرلا كما بدؤوا في البطون. وروى النسائي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يحشر الناس يوم القيامة عراة غرلا أول الخلق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام - ثم قرأ - « كما بدأنا أول خلق نعيده » أخرجه مسلم أيضا عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: ( يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا « كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين » ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام ) وذكر الحديث. وقد ذكرنا هذا الباب في كتاب « التذكرة » مستوفى. وذكر سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء عن عبدالله بن مسعود قال: يرسل الله عز وجل ماء من تحت العرش كمني الرجال فتنبت منه لحمانهم وجسمانهم كما تنبت الأرض بالثرى. وقرأ « كما بدأنا أول خلق نعيده » . وقال ابن عباس: المعنى. نهلك كل شيء ونفنيه كما كان أول مرة؛ وعلى هذا فالكلام متصل بقوله: « يوم نطوي السماء » أي نطويها فنعيدها إلى الهلاك والفناء فلا تكون شيئا. وقيل: نفني السماء ثم نعيدها مرة أخرى بعد طيها وزوالها؛ كقول: « يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات » [ إبراهيم: 48 ] والقول الأول أصح وهو نظير قوله: « ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة » [ الأنعام: 94 ] وقوله عز وجل: « وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة » « وعدا » نصب على المصدر؛ أي وعدنا وعدا « علينا » إنجازه والوفاء به أي من البعث والإعادة ففي الكلام حذف. ثم أكد ذلك بقول جل ثناؤه: « إنا كنا فاعلين » قال الزجاج: معنى « إنا كنا فاعلين » إنا كنا قادرين على ما نشاء. وقيل « إنا كنا فاعلين » أي ما وعدناكم وهو كما قال: « كان وعده مفعولا » [ المزمل: 18 ] . وقيل: « كان » للإخبار بما سبق من قضائه. وقيل: صلة.

 

الآيتان: 105 - 106 ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين )

 

قوله تعالى: « ولقد كتبنا في الزبور » الزبور والكتاب واحد؛ ولذلك جاز أن يقال للتوراة والإنجيل زبور. زبرت أي كتبت وجمعة زبر. وقال سعيد بن جبير: « الزبور » التوراة والإنجيل والقرآن. « من بعد الذكر » الذي في السماء « أن الأرض » أرض الجنة « يرثها عبادي الصالحون » رواه سفيان عن الأعمش عن سعيد بن جبير. الشعبي: « الزبور » زبور داود، و « الذكر » توراة موسى عليه السلام. مجاهد وابن زيد « الزبور » كتب الأنبياء عليهم السلام، و « الذكر » أم الكتاب الذي عند الله في السماء. وقال ابن عباس: « الزبور » الكتب التي أنزلها الله من بعد موسى على أنبيائه، و « الذكر » التوراة المنزلة على موسى. وقرأ حمزة « في الزبور » بضم الزاي جمع زبر « أن الأرض يرثها عبادي الصالحون » أحسن ما قيل فيه أنه يراد بها أرض الجنة كما قال سعيد بن جبير؛ لأن الأرض في الدنيا قال قد يرثها الصالحون وغيرهم. وهو قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وقال مجاهد وأبو العالية: ودليل هذا التأويل قوله تعالى: « وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض » [ الزمر: 74 ] وعن ابن عباس أنها الأرض المقدسة. وعنه أيضا: أنها أرض الأمم الكافرة ترثها أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالفتوح. وقيل: إن المراد بذلك بنو إسرائيل؛ بدليل قوله تعالى: « وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها » [ الأعراف: 137 ] وأكثر المفسرين على أن المراد بالعباد الصالحين أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقرأ حمزة « عبادي الصالحون » بتسكين الياء. « إن في هذا » أي فيما جرى ذكره في هذه السورة من الوعظ والتنبيه. وقيل: إن في القرآن « لبلاغا لقوم عابدين » قال أبو هريرة وسفيان الثوري: هم أهل الصلوات الخمس. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: « عابدين » مطيعين. والعابد المتذلل الخاضع. قال القشيري: ولا يبعد أن يدخل فيه كل عاقل؛ لأنه من حيث الفطرة متذلل للخالق، وهو بحيث لو تأمل القرآن واستعمله لأوصله ذلك إلى الجنة. وقال ابن عباس أيضا: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يصلون الصلوات الخمس ويصومون شهر رمضان. وهذا هو القول الأول بعينه.

 

الآيات: 107 - 109 ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين، قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون، فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون )

 

قوله تعالى: « وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين » قال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان محمد صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع الناس فمن آمن به وصدق به سعد، ومن لم يؤمن به سلم مما لحق الأمم من الخسف والغرق. وقال ابن زيد: أراد بالعالمين المؤمنين خاصة.

 

قوله تعالى: « قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد » فلا يجوز الإشراك به. « فهل أنتم مسلمون » أي منقادون لتوحيد الله تعالى؛ أي فأسلموا؛ كقوله تعالى: « فهل أنتم منتهون » [ المائدة: 91 ] أي انتهوا.

 

قوله تعالى: « فإن تولوا » أي إن أعرضوا عن الإسلام « فقل آذنتكم على سواء » أي أعلمتكم على بيان أنا وإياكم حرب لا صلح بيننا؛ كقوله تعالى: « وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء » [ الأنفال: 58 ] أي أعلمهم أنك نقضت العهد نقضا، أي استويت أنت وهم فليس لفريق عهد ملتزم في حق الفريق الآخر. وقال الزجاج: المعنى أعلمتكم بما يوحى إلي على استواء في العلم به، ولم أظهر لأحد شيئا كتمته عن غيره. « وإن أدري » « إن » نافيه بمعنى « ما » أي وما أدري. « أقريب أم بعيد ما توعدون » يعني أجل يوم القيامة لا يدريه أحد لا نبي مرسل ولا ملك مقرب؛ قاله ابن عباس. وقيل: آذنتكم بالحرب ولكني لا أدري متى يؤذن لي في محاربتكم.

 

الآيات: 110 - 112 ( إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون، وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين، قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون )

 

قوله تعالى: « إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون » أي من الشرك وهو المجازي عليه. « وإن أدري لعله » أي لعل الإمهال « فتنة لكم » أي اختبار ليرى كيف صنيعكم وهو أعلم. « ومتاع إلى حين » قيل: إلى انقضاء المدة. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بني أمية في منامه يلون الناس، فخرج الحكم من عنده فأخبر بني أمية بذلك؛ فقالوا له: ارجع فسله متى يكون دلك. فأنزل الله تعالى « وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون » « وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين » يقول لنبيه عليه السلام قل لهم ذلك.

 

قوله تعالى: « قال رب احكم بالحق » ختم السورة بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتفويض الأمر إليه وتوقع الفرج من عنده، أي احكم بيني وبين هؤلاء المكذبين وانصرني عليهم. روى سعيد عن قتادة قال: كانت الأنبياء تقول: « ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق » [ الأعراف: 89 ] فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: « رب احكم بالحق » فكان إذا لقي العدو يقول وهو يعلم أنه على الحق وعدوه على الباطل « رب احكم بالحق » أي اقض به. وقال أبو عبيدة: الصفة ههنا أقيمت مقام الموصوف والتقدير: رب احكم بحكمك الحق. و « رب » في موضع نصب، لأنه نداء مضاف. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وابن محيصن « قل ربُّ احكم بالحق » بضم الباء. قال النحاس: وهذا لحن عند النحويين؛ لا يجوز عندهم رجل أقبل، حتى تقول يا رجل أقبل أو ما أشبهه. وقرأ الضحاك وطلحة ويعقوب « قال ربي أَحكَم بالحق » بقطع الألف مفتوحة الكاف والميم مضمومة. أي قال محمد ربي أحكم بالحق من كل حاكم. وقرأ الجحدري « قل ربي أحكم » على معنى أحكم الأمور بالحق. « وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون » أي تصفونه من الكفر والتكذيب. وقرأ المفضل والسلمي « على ما يصفون » بالياء على الخبر. الباقون بالتاء على الخطاب.

 

الآيات: 101 - 103 ( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون، لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون، لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون )

 

قوله تعالى: « إن الذين سبقت لهم منا الحسنى » أي الجنة « أولئك عنها » أي عن النار. « مبعدون » فمعنى الكلام الاستثناء؛ ولهذا قال بعض أهل العلم: « إن » ههنا بمعنى « إلا » وليس في القرآن غيره. وقال محمد بن حاطب: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقرأ هذه الآية على المنبر « إن الذين سبقت لهم منا الحسنى » فقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن عثمان منهم ) .

 

قوله تعالى: « لا يسمعون حسيسها » أي حس النار وحركة لهبها. والحسيس والحس الحركة. وروى ابن جريج عن عطاء قال قال أبو راشد الحروري لابن عباس: « لا يسمعون حسيسها » فقال ابن عباس: أمجنون أنت؟ فأين قوله تعالى: « وإن منكم إلا واردها » وقوله تعالى: « فأوردهم النار » [ هود: 98 ] وقوله: « إلى جهنم وردا » [ مريم: 86 ] . ولقد كان من دعاء من مضى: اللهم أخرجني من النار سالما، وأدخلني الجنة فائزا. وقال أبو عثمان النهدي: على الصراط حيات تلسع أهل النار فيقولون: حس حس. وقيل: إذا دخل أهل الجنة لم يسمعوا حس أهل النار وقبل ذلك يسمعون؛ فالله أعلم. « وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون » أي دائمون وهم فيما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. وقال « ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون » [ فصلت: 31 ] .

 

قوله تعالى: « لا يحزنهم الفزع الأكبر » وقرأ أبو جعفر وابن محيصن « لا يحزنهم » بضم الياء وكسر الزاي. الباقون بفتح الياء وضم الزاي. قال اليزيدي: حزنه لغة قريش، وأحزنه لغة تميم، وقد قرئ بهما. والفزع الأكبر أهوال يوم القيامة والبعث؛ عن ابن عباس. وقال الحسن: هو وقت يؤمر بالعباد إلى النار. وقال ابن جريح وسعيد بن جبير والضحاك: هو إذا أطبقت النار على أهلها، وذبح الموت بين الجنة والنار وقال ذو النون المصري: هو القطيعة والفراق. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: ( ثلاثة يوم القيامة في كثيب من المسك الأذفر ولا يحزنهم الفزع الأكبر رجل أم قوما محتسبا وهم له رضوان ورجل أذن لقوم محتسبا ورجل ابتلى برق الدنيا فلم يشغله عن طاعة ربه ) . وقال أبو سلمة بن عبدالرحمن: مررت برجل يضرب غلاما له، فأشار إليّ الغلام، فكلمت مولاه حتى عفا عنه؛ فلقيت أبا سعيد الخدري فأخبرته، فقال: يا ابن أخي من أغاث مكروبا أعتقه الله من النار يوم الفزع الأكبر ) سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم. « وتتلقاهم الملائكة » أي تستقبلهم الملائكة على أبواب الجنة يهنئونهم ويقولون لهم: « هذا يومكم الذي كنتم توعدون » وقيل: تستقبلهم ملائكة الرحمة عند خروجهم من القبور عن ابن عباس « هذا يومكم » أي ويقولون لهم؛ فحذف. « الذي كنتم توعدون » فيه الكرامة.

 

الآية: 104 ( يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين )

 

قوله تعالى: « يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب » قرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح والأعرج والزهري « تُطوى » بتاء مضمومة « السماء » رفعا على ما لم يسم فاعله. مجاهد « يطوي » على معنى يطوي الله السماء. الباقون « نطوي » بنون العظمة. وانتصاب « يوم » على البدل من الهاء المحذوفة في الصلة؛ التقدير: الذي كنتم توعدونه يوم نطوي السماء. أو يكون منصوبا بـ « نعيد » من قول « كما بدأنا أول خلق نعيده » . أو بقول: « لا يحزنهم » أي لا يحزنهم الفزع الأكبر في اليوم الذي نطوي فيه السماء. أو على إضمار واذكر، وأراد بالسماء الجنس؛ دليله: « والسموات مطويات بيمنه » [ الزمر: 67 ] . « كطي السجل للكتاب » قال ابن عباس ومجاهد: أي كطي الصحيفة على ما فيها؛ فاللام بمعنى « على » . وعن ابن عباس أيضا اسم كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بالقوي؛ لأن كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معروفون ليس هذا منهم، ولا في أصحابه من اسمه السجل. وقال ابن عباس أيضا وابن عمر والسدي: « السجل » ملك، وهو الذي يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه. ويقال: إنه في السماء الثالثة، ترفع إليه أعمال العباد، يرفعها إليه الحفظة الموكلون بالخلق في كل خميس واثنين، وكان من أعوانه فيما ذكروا هاروت وماروت. والسجل الصك، وهو اسم مشتق من السجالة وهي الكتابة؛ وأصلها من السجل وهو الدلو؛ تقول: ساجلت الرجل إذا نزعت دلوا ونزع دلوا، ثم استعيرت فسميت المكاتبة والمراجعة مساجلة. وقد سجل الحاكم تسجيلا. وقال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب:

من يساجلني يساجل ماجدا يملأ الدلو إلى عقد الكرب

ثم بني هذا الاسم على فعل مثل حمر وطمر وبلي. وقرأ أبو زرعة بن عمرو بن جرير « كطي السجل » بضم السين والجيم وتشديد اللام. وقرأ الأعمش وطلحة « كطي السجل » بفتح السين وإسكان الجيم وتخفيف اللام. قال النحاس: والمعنى واحد إن شاء الله تعالى. والتمام عند قوله: « للكتاب » . والطي في هذه الآية يحتمل معنيين: أحدهما: الدرج الذي هو ضد النشر، قال الله تعالى: « والسموات مطويات بيمينه » [ الزمر: 67 ] . والثاني: الإخفاء والتعمية والمحو؛ لأن الله تعالى يمحو ويطمس رسومها ويكدر نجومها. قال الله تعالى: « إذا الشمس كورت. وإذا النجوم انكدرت » [ التكوير: 1 - 2 ] « وإذا السماء كشطت » [ التكوير: 11 ] . « للكتاب » وتم الكلام. وقراءة الأعمش وحفص وحمزة والكسائي ويحي وخلف: « للكتب » جمعا ثم استأنف الكلام فقال: « كما بدأنا أول خلق نعيده » أي نحشرهم حفاة عراة غرلا كما بدؤوا في البطون. وروى النسائي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يحشر الناس يوم القيامة عراة غرلا أول الخلق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام - ثم قرأ - « كما بدأنا أول خلق نعيده » أخرجه مسلم أيضا عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: ( يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا « كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين » ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام ) وذكر الحديث. وقد ذكرنا هذا الباب في كتاب « التذكرة » مستوفى. وذكر سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء عن عبدالله بن مسعود قال: يرسل الله عز وجل ماء من تحت العرش كمني الرجال فتنبت منه لحمانهم وجسمانهم كما تنبت الأرض بالثرى. وقرأ « كما بدأنا أول خلق نعيده » . وقال ابن عباس: المعنى. نهلك كل شيء ونفنيه كما كان أول مرة؛ وعلى هذا فالكلام متصل بقوله: « يوم نطوي السماء » أي نطويها فنعيدها إلى الهلاك والفناء فلا تكون شيئا. وقيل: نفني السماء ثم نعيدها مرة أخرى بعد طيها وزوالها؛ كقول: « يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات » [ إبراهيم: 48 ] والقول الأول أصح وهو نظير قوله: « ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة » [ الأنعام: 94 ] وقوله عز وجل: « وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة » « وعدا » نصب على المصدر؛ أي وعدنا وعدا « علينا » إنجازه والوفاء به أي من البعث والإعادة ففي الكلام حذف. ثم أكد ذلك بقول جل ثناؤه: « إنا كنا فاعلين » قال الزجاج: معنى « إنا كنا فاعلين » إنا كنا قادرين على ما نشاء. وقيل « إنا كنا فاعلين » أي ما وعدناكم وهو كما قال: « كان وعده مفعولا » [ المزمل: 18 ] . وقيل: « كان » للإخبار بما سبق من قضائه. وقيل: صلة.

 

الآيتان: 105 - 106 ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين )

 

قوله تعالى: « ولقد كتبنا في الزبور » الزبور والكتاب واحد؛ ولذلك جاز أن يقال للتوراة والإنجيل زبور. زبرت أي كتبت وجمعة زبر. وقال سعيد بن جبير: « الزبور » التوراة والإنجيل والقرآن. « من بعد الذكر » الذي في السماء « أن الأرض » أرض الجنة « يرثها عبادي الصالحون » رواه سفيان عن الأعمش عن سعيد بن جبير. الشعبي: « الزبور » زبور داود، و « الذكر » توراة موسى عليه السلام. مجاهد وابن زيد « الزبور » كتب الأنبياء عليهم السلام، و « الذكر » أم الكتاب الذي عند الله في السماء. وقال ابن عباس: « الزبور » الكتب التي أنزلها الله من بعد موسى على أنبيائه، و « الذكر » التوراة المنزلة على موسى. وقرأ حمزة « في الزبور » بضم الزاي جمع زبر « أن الأرض يرثها عبادي الصالحون » أحسن ما قيل فيه أنه يراد بها أرض الجنة كما قال سعيد بن جبير؛ لأن الأرض في الدنيا قال قد يرثها الصالحون وغيرهم. وهو قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وقال مجاهد وأبو العالية: ودليل هذا التأويل قوله تعالى: « وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض » [ الزمر: 74 ] وعن ابن عباس أنها الأرض المقدسة. وعنه أيضا: أنها أرض الأمم الكافرة ترثها أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالفتوح. وقيل: إن المراد بذلك بنو إسرائيل؛ بدليل قوله تعالى: « وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها » [ الأعراف: 137 ] وأكثر المفسرين على أن المراد بالعباد الصالحين أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقرأ حمزة « عبادي الصالحون » بتسكين الياء. « إن في هذا » أي فيما جرى ذكره في هذه السورة من الوعظ والتنبيه. وقيل: إن في القرآن « لبلاغا لقوم عابدين » قال أبو هريرة وسفيان الثوري: هم أهل الصلوات الخمس. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: « عابدين » مطيعين. والعابد المتذلل الخاضع. قال القشيري: ولا يبعد أن يدخل فيه كل عاقل؛ لأنه من حيث الفطرة متذلل للخالق، وهو بحيث لو تأمل القرآن واستعمله لأوصله ذلك إلى الجنة. وقال ابن عباس أيضا: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يصلون الصلوات الخمس ويصومون شهر رمضان. وهذا هو القول الأول بعينه.

 

الآيات: 107 - 109 ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين، قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون، فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون )

 

قوله تعالى: « وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين » قال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان محمد صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع الناس فمن آمن به وصدق به سعد، ومن لم يؤمن به سلم مما لحق الأمم من الخسف والغرق. وقال ابن زيد: أراد بالعالمين المؤمنين خاصة.

 

قوله تعالى: « قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد » فلا يجوز الإشراك به. « فهل أنتم مسلمون » أي منقادون لتوحيد الله تعالى؛ أي فأسلموا؛ كقوله تعالى: « فهل أنتم منتهون » [ المائدة: 91 ] أي انتهوا.

 

قوله تعالى: « فإن تولوا » أي إن أعرضوا عن الإسلام « فقل آذنتكم على سواء » أي أعلمتكم على بيان أنا وإياكم حرب لا صلح بيننا؛ كقوله تعالى: « وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء » [ الأنفال: 58 ] أي أعلمهم أنك نقضت العهد نقضا، أي استويت أنت وهم فليس لفريق عهد ملتزم في حق الفريق الآخر. وقال الزجاج: المعنى أعلمتكم بما يوحى إلي على استواء في العلم به، ولم أظهر لأحد شيئا كتمته عن غيره. « وإن أدري » « إن » نافيه بمعنى « ما » أي وما أدري. « أقريب أم بعيد ما توعدون » يعني أجل يوم القيامة لا يدريه أحد لا نبي مرسل ولا ملك مقرب؛ قاله ابن عباس. وقيل: آذنتكم بالحرب ولكني لا أدري متى يؤذن لي في محاربتكم.

 

الآيات: 110 - 112 ( إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون، وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين، قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون )

 

قوله تعالى: « إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون » أي من الشرك وهو المجازي عليه. « وإن أدري لعله » أي لعل الإمهال « فتنة لكم » أي اختبار ليرى كيف صنيعكم وهو أعلم. « ومتاع إلى حين » قيل: إلى انقضاء المدة. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بني أمية في منامه يلون الناس، فخرج الحكم من عنده فأخبر بني أمية بذلك؛ فقالوا له: ارجع فسله متى يكون دلك. فأنزل الله تعالى « وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون » « وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين » يقول لنبيه عليه السلام قل لهم ذلك.

 

قوله تعالى: « قال رب احكم بالحق » ختم السورة بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتفويض الأمر إليه وتوقع الفرج من عنده، أي احكم بيني وبين هؤلاء المكذبين وانصرني عليهم. روى سعيد عن قتادة قال: كانت الأنبياء تقول: « ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق » [ الأعراف: 89 ] فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: « رب احكم بالحق » فكان إذا لقي العدو يقول وهو يعلم أنه على الحق وعدوه على الباطل « رب احكم بالحق » أي اقض به. وقال أبو عبيدة: الصفة ههنا أقيمت مقام الموصوف والتقدير: رب احكم بحكمك الحق. و « رب » في موضع نصب، لأنه نداء مضاف. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وابن محيصن « قل ربُّ احكم بالحق » بضم الباء. قال النحاس: وهذا لحن عند النحويين؛ لا يجوز عندهم رجل أقبل، حتى تقول يا رجل أقبل أو ما أشبهه. وقرأ الضحاك وطلحة ويعقوب « قال ربي أَحكَم بالحق » بقطع الألف مفتوحة الكاف والميم مضمومة. أي قال محمد ربي أحكم بالحق من كل حاكم. وقرأ الجحدري « قل ربي أحكم » على معنى أحكم الأمور بالحق. « وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون » أي تصفونه من الكفر والتكذيب. وقرأ المفضل والسلمي « على ما يصفون » بالياء على الخبر. الباقون بالتاء على الخطاب.

 

سورة الحج

مقدمة السورة

 

وهي مكية، سوى ثلاث آيات: قوله تعالى: « هذان خصمان » [ الحج: 19 ] إلى تمام ثلاث آيات، قاله ابن عباس ومجاهد. وعن ابن عباس أيضا ( أنهن أربع آيات ) ، قوله « عذاب الحريق » [ الحج: 22 ] وقال الضحاك وابن عباس أيضا: ( هي مدنية ) - وقاله قتادة - إلا أربع آيات: « وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي » [ الحج: 52 ] إلى « عذاب يوم عقيم » [ الحج: 55 ] فهن مكيات. وعد النقاش ما نزل بالمدينة عشر آيات. وقال الجمهور: السورة مختلطة، منها مكي ومنها مدني. وهذا هو الأصح؛ لأن الآيات تقتضي ذلك، لأن « يا أيها الناس » مكي، و « يا أيها الذين آمنوا » مدني. الغزنوي: وهي من أعاجيب السور، نزلت ليلا ونهارا، سفرا وحضرا، مكيا ومدنيا، سلميا وحربيا، ناسخا ومنسوخا، محكما ومتشابها؛ مختلف العدد.

قلت: وجاء في فضلها ما رواه الترمذي وأبو داود والدارقطني عن عقبة بن عامر قال قلت: يا رسول الله، فضلت سورة الحج بأن فيها سجدتين؟ قال: ( نعم، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما ) . لفظ الترمذي. وقال: هذا حديث حسن ليس إسناده بالقوي.

واختلف أهل العلم في هذا؛ فروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وابن عمر أنهما قالا: « فضلت سورة الحج بأن فيها سجدتين » . وبه يقول ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق. ورأى بعضهم أن فيها سجدة واحدة؛ وهو قول سفيان الثوري. روى الدارقطني عن عبدالله بن ثعلبة قال: رأيت عمر بن الخطاب سجد في الحج سجدتين؛ قلت في الصبح؟ قال في الصبح.

 

الآية: 1 ( يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم )

 

روى الترمذي عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت « يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم - إلى قوله - ولكن عذاب الله شديد » قال: أنزلت عليه هذا الآية وهو في سفر فقال: ( أتدرون أي يوم ذلك؟ فقالوا: الله ورسول أعلم؛ قال: ذاك يوم يقول الله لآدم ابعث بعث النار قال يا رب وما بعث النار قال تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة ) . فأنشأ المسلمون يبكون؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قاربوا وسددوا فإنه لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية - قال - فيؤخذ العدد من الجاهلية فإن تمت وإلا كملت من المنافقين وما مثلكم والأمم إلا كمثل الرقمة في ذراع الدابة أو كالشامة في جنب البعير - ثم قال - إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة - فكبروا؛ ثم قال - إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة - فكبروا؛ ثم قال - إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة ) فكبروا. قال: لا أدري قال الثلثين أم لا. قال: هذا حديث حسن صحيح، قد روي من غير وجه الحسن عن عمران بن حصين. وفيه: فيئس القوم حتى ما أبدوا بضاحكة، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( اعملوا وأبشروا فوالذي نفسي بيده إنكم لمع خليقتين ما كانتا مع شيء إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج ومن مات من بني آدم وبني إبليس قال: فسري عن القوم بعض الذي يجدون؛ فقال: ( اعملوا وأبشروا فوالذي نفس محمد بيده ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في ذراع الدابة ) قال: هذا حديث حسن صحيح. وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يقول الله تعالى يا آدم فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك - قال - يقول أخرج بعث النار قال وما بعث النار قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين قال فذاك حين يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل، حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد. قال: فاشتد ذلك عليهم؛ قالوا: يا رسول الله، أينا ذلك الرجل؟ فقال: أبشروا فإن من يأجوج ومأجوج ألفا ومنكم رجل ) . وذكر الحديث بنحو ما تقدم في حديث عمران بن حصين. وذكر أبو جعفر النحاس قال: حدثنا أحمد بن محمد بن نافع قال حدثنا سلمة قال حدثنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال « يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم - إلى - ولكن عذاب الله شديد » قال: نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسير له، فرفع بها صوته حتى ثاب إليه أصحابه فقال: ( أتدرون أي يوم هذا هذا يوم يقول الله عز وجل لآدم صلى الله عليه وسلم يا آدم قم فابعث بعث أهل النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة. فكبر ذلك على المسلمين؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سدوا وقاربوا وأبشروا فوالذي نفسي بيده ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في ذراع الحمار وإن معكم خليقتين ما كانتا مع شيء إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج ومن هلك من كفرة الجن والأنس ) .

 

قوله تعالى: « يا أيها الناس اتقوا ربكم » المراد بهذا النداء المكلفون؛ أي اخشوه في أوامره أن تتركوها، ونواهيه أن تقدموا عليها. والاتقاء: الاحتراس من المكروه؛ وقد تقدم في أول « البقرة » القول فيه مستوفى، فلا معنى لإعادته. والمعنى: احترسوا بطاعته عن عقوبته.

 

قوله تعالى: « إن زلزلة الساعة شيء عظيم » الزلزلة شدة الحركة؛ ومنه « وزلزلوا حتى يقول الرسول » [ البقرة: 214 ] . وأصل الكلمة من زل عن الموضع؛ أي زال عنه وتحرك. وزلزل الله قدمه؛ أي حركها. وهذه اللفظة تستعمل في تهويل الشيء. وقيل: هي الزلزلة المعروفة التي هي إحدى شرائط الساعة، التي تكون في الدنيا قبل يوم القيامة؛ هذا قول الجمهور. وقد قيل: إن هذه الزلزلة تكون في النصف من شهر رمضان، ومن بعدها طلوع الشمس من مغربها، فالله أعلم.

 

الآية: 2 ( يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد )

 

قوله تعالى: « يوم ترونها » الهاء في « ترونها » عائدة عند الجمهور على الزلزلة؛ ويقوي هذا قوله عز وجل: « تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها » والرضاع والحمل إنما هو في الدنيا. وقالت فرقة: الزلزلة في يوم القيامة؛ واحتجوا بحديث عمران بن حصين الذي ذكرناه، وفيه: ( أتدرون أي يوم ذلك... ) الحديث. وهو الذي يقتضيه سياق مسلم في حديث أبي سعيد الخدري.

 

قوله: « تذهل » أي تشتغل؛ قاله قطرب. وأنشد:

ضربا يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله

وقيل تنسى. وقيل تلهو؛ وقيل تسلو؛ والمعنى متقارب. « عما أرضعت » قال المبرد: « ما » بمعنى المصدر؛ أي تذهل عن الإرضاع. قال: وهذا يدل على أن هذه الزلزلة في الدنيا؛ إذ ليس بعد البعث حمل وإرضاع. إلا أن يقال: ما ماتت حاملا تبعث حاملا فتضع حملها للهول. ومن ماتت مرضعة بعثت كذلك. ويقال: هذا كما قال الله عز وجل: « يوما يجعل الولدان شيبا » [ المزمل: 17 ] . وقيل: تكون مع النفخة الأولى. وقيل: تكون مع قيام الساعة، حتى يتحرك الناس من قبورهم في النفخة الثانية. ويحتمل أن تكون الزلزلة في الآية عبارة عن أهوال يوم القيامة؛ كما قال تعالى: « مستهم البأساء والضراء وزلزلوا » [ البقرة: 214 ] . وكما قال عليه السلام: ( اللهم اهزمهم وزلزلهم ) . وفائدة ذكر هول ذلك اليوم التحريض على التأهب له والاستعداد بالعمل الصالح. وتسمية الزلزلة بـ « شيء » إما لأنها حاصلة متيقن وقوعها، فيستسهل لذلك أن تسمى شيئا وهي معدومة؛ إذ اليقين يشبه الموجدات. وإما على المآل؛ أي هي إذا وقعت شيء عظيم. وكأنه لم يطلق الاسم الآن، بل المعنى أنها إذا كانت فهي إذا شيء عظيم، ولذلك تذهل المراضع وتسكر الناس؛ كما قال:

 

قوله تعالى: « وترى الناس سكارى » أي من هولها ومما يدركهم من الخوف والفزع. « وما هم بسكارى » من الخمر. وقال أهل المعاني: وترى الناس كأنهم سكارى. يدل عليه قراءة أبي زرعة هرم بن عمرو بن جرير بن عبدالله « وترى الناس » بضم التاء؛ أي تظن ويخيل إليك. وقرأ حمزة والكسائي « سكرى » بغير ألف. الباقون « سكارى » وهما لغتان لجمع سكران؛ مثل كسلى وكسالى. والزلزلة: التحريك العنيف. والذهول. الغفلة عن الشيء بطروء ما يشغل عنه من هم أو وجع أو غيره. قال ابن زيد: المعنى تترك ولدها للكرب الذي نزل بها.

 

الآية: 3 ( ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد )

 

قوله تعالى: « ومن الناس من يجادل في الله بغير علم » قيل: المراد النضر بن الحارث، قال: إن الله عز وجل غير قادر على إحياء من قد بلي وعاد ترابا. « ويتبع » أي في قوله ذلك. « كل شيطان مريد » متمرد.

 

الآية: 4 ( كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير )

 

قال قتادة ومجاهد: أي من تولى الشيطان. « فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير » .

 

الآية: 5 ( يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج )

 

قوله تعالى: « إن كنتم في ريب » متضمنة التوقيف. وقرأ الحسن بن أبي الحسن « البعث » بفتح العين؛ وهي لغة في « البعث » عند البصريين. وهي عند الكوفيين بتخفيف « بعث » . والمعنى: يا أيها الناس إن كنتم في شك من الإعادة. « فإنا خلقناكم » أي خلقنا أباكم الذي هو أصل البشر، يعني آدم عليه السلام « من تراب » . « ثم » خلقنا ذريته. « من نطفة » وهو المني؛ سمي نطفة لقلته، وهو القليل من الماء، وقد يقع على الكثير منه؛ ومنه الحديث ( حتى يسير الراكب بين النطفتين لا يخشى جورا ) . أراد بحر المشرق وبحر المغرب. والنطف: القطر. نطف ينطف وينطف. وليلة نطوفة دائمة القطر. « ثم من علقة » وهو الدم الجامد. والعلق الدم العبيط؛ أي الطري. وقيل: الشديد الحمرة. « ثم من مضغة » وهي لحمة قليلة قدر ما يمضغ؛ ومنه الحديث ( ألا وإن في الجسد مضغة ) . وهذه الأطوار أربعة أشهر. قال ابن عباس: ( وفي العشر بعد الأشهر الأربعة ينفخ فيه الروح ) ، فذلك عدة المتوفى عنها زوجها؛ أربعة أشهر وعشر.

 

روى يحيى بن زكريا بن أبي زائدة حدثنا داود عن عامر عن علقمة عن ابن مسعود وعن ابن عمر أن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه فقال: « يا رب، ذكر أم أنثى، شقي أم سعيد، ما الأجل والأثر، بأي أرض تموت؟ فيقال له انطلق إلى أم الكتاب فإنك تجد فيها قصة هذه النطفة، فينطلق فيجد قصتها في أم الكتاب، فتخلق فتأكل رزقها وتطأ أثرها فإذا جاء أجلها قبضت فدفنت في المكان الذي قدر لها؛ ثم قرأ عامر » يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب « . وفي الصحيح عن أنس بن مالك - ورفع الحديث - قال: ( إن الله قد وكل بالرحم ملكا فيقول أي رب نطفة. أي رب علقة. أي رب مضغة. فإذا أراد الله أن يقضي خلقا قال قال الملك أي رب ذكر أو أنثى شقي أو سعيد. فما الرزق فما الأجل. فيكتب كذلك في بطن أمه ) . وفي الصحيح أيضا عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم يقول أي رب أذكر أم أنثى... ) وذكر الحديث. وفي الصحيح عن عبدالله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق ( إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد... ) الحديث. فهذا الحديث مفسر للأحاديث الأول؛ فإنه فيه: ( يجمع أحدكم في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم أربعين يوما علقة ثم أربعين يوما مضغة ثم يبعث الملك فينفخ فيه الروح ) فهذه أربعة أشهر وفي العشر ينفخ الملك الروح، وهذه عدة المتوفى عنها زوجها كما قال ابن عباس. وقوله: ( إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه ) قد فسره ابن مسعود، سئل الأعمش: ما يجمع في بطن أمه؟ فقال: حدثنا خيثمة قال قال عبدالله: إذا وقعت النطفة في الرحم فأراد أن يخلق منها بشرا طارت في بشرة المرأة تحت كل ظفر وشعر ثم تمكث أربعين يوما ثم تصير دما في الرحم؛ فذلك جمعها، وهذا وقت كونها علقة. »

 

نسبة الخلق والتصوير للملك نسبة مجازية لا حقيقية، وأن ما صدر عنه فعل ما في المضغة كان عند التصوير والتشكيل بقدرة الله وخلقه واختراعه؛ ألا تراه سبحانه قد أضاف إليه الخلقة الحقيقية، وقطع عنها نسب جميع الخليقة فقال: « ولقد خلقناكم ثم صورناكم » [ الأعراف: 11 ] . وقال: « ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. ثم جعلناه نطفة في قرار مكين » [ المؤمنون: 12 - 13 ] . وقال: « يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة » . وقال تعالى: « هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن » [ التغابن: 2 ] . ثم قال: « وصوركم فأحسن صوركم » [ غافر: 64 ] . وقال: « لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم » [ التين: 4 ] . وقال: « خلق الإنسان من علق » [ العلق: 2 ] . إلى غير ذلك من الآيات، مع ما دلت عليه قاطعات البراهين أن لا خالق لشيء من المخلوقات إلا رب العالمين. وهكذا القول في قوله: « ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح » أي أن النفخ سبب خلق الله فيها الروح والحياة. وكذلك القول في سائر الأسباب المعتادة؛ فإنه بإحداث الله تعالى لا بغيره. فتأمل هذا الأصل وتمسك به، ففيه النجاة من مذاهب أهل الضلال الطبعيين وغيرهم.

 

لم يختلف العلماء أن نفخ الروح فيه يكون بعد مائة وعشرين يوما، وذلك تمام أربعة أشهر ودخوله في الخامس؛ كما بيناه بالأحاديث. وعليه يعول فيما يحتاج إليه من الأحكام في الاستلحاق عند التنازع، وفي وجوب النفقات على حمل المطلقات؛ وذلك لتيقنه بحركة الجنين في الجوف. وقد قيل: إنه الحكمة في عدة المرأة من الوفاة بأربعة أشهر وعشر، وهذا الدخول في الخامس يحقق براءة الرحم ببلوغ هذه المدة إذا لم يظهر حمل.

 

النطفة ليست بشيء يقينا، ولا يتعلق بها حكم إذا ألقتها المرأة إذا لم تجتمع في الرحم، فهي كما لو كانت في صلب الرجل؛ فإذا طرحته علقة فقد تحققنا أن النطفة قد استقرت واجتمعت واستحالت إلى أول أحوال يتحقق به أنه ولد. وعلى هذا فيكون وضع العلقة فما فوقها من المضغة وضع حمل، تبرأ به الرحم، وتنقضي به العدة، ويثبت به لها حكم أم الولد. وهذا مذهب مالك رضي الله عنه وأصحابه. وقال الشافعي رضي الله عنه: لا اعتبار بإسقاط العلقة، وإنما الاعتبار بظهور الصورة والتخطيط؛ فإن خفي التخطيط وكان لحما فقولان بالنقل والتخريج، والمنصوص أنه تنقضي به العدة ولا تكون أم ولد. قالوا: لأن العدة تنقضي بالدم الجاري، فبغيره أولى.

قوله تعالى: « مخلقة وغير مخلقة » قال الفراء: « مخلقة » تامة الخلق، « وغير مخلقة » السقط. وقال ابن الأعرابي: « مخلقة » قد بدأ خلقها، « وغير مخلقة » لم تصور بعد. ابن زيد: المخلقة التي خلق الله فيها الرأس واليدين والرجلين، وغير مخلقة التي لم يخلق فيها شيء. قال ابن العربي: إذا رجعنا إلى أصل الاشتقاق فإن النطفة والعلقة والمضغة مخلقة؛ لأن الكل خلق الله تعالى، وإن رجعنا إلى التصوير الذي هو منتهى الخلقة كما قال الله تعالى: « ثم أنشأناه خلقا آخر » [ المؤمنون: 14 ] فذلك ما قال ابن زيد. قلت: التخليق من الخلق، وفيه معنى الكثرة، فما تتابع عليه الأطوار فقد خلق خلقا بعد خلق، وإذا كان نطفة فهو مخلوق؛ ولهذا قال الله تعالى: « ثم أنشأناه خلقا آخر » [ المؤمنون: 14 ] والله أعلم. وقد قيل: إن قوله: « مخلقة وغير مخلقة » يرجع إلى الولد بعينه لا إلى السقط؛ أي منهم من يتم الرب سبحانه مضغته فيخلق له الأعضاء أجمع، ومنهم من يكون خديجا ناقصا غير تمام. وقيل: ( المخلقة أن تلد المرأة لتمام الوقت ) . ابن عباس: المخلقة ما كان حيا، وغير المخلقة السقط. قال.

أفي غير المخلقة البكاء فأين الحزم ويحك والحياء

 

أجمع العلماء على أن الأمة تكون أم ولد بما تسقطه من ولد تام الخلق. وعند مالك والأوزاعي وغيرهما بالمضغة كانت مخلقة أو غير مخلقة. قال مالك: إذا علم أنها مضغة. وقال الشافعي وأبو حنيفة: إن كان قد تبين له شيء من خلق بني آدم أصبع أو عين أو غير ذلك فهي له أم ولد. وأجمعوا على أن المولود إذا استهل صارخا يصلى عليه؛ فإن لم يستهل صارخا لم يصل عليه عند مالك وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم. وروي عن ابن عمر أنه يصلى عليه؛ وقال ابن المسيب وابن سيرين وغيرهما. وروي عن المغيرة بن شعبة أنه ( كان يأمر بالصلاة على السقط، ويقول سموهم واغسلوهم وكفنوهم وحنطوهم؛ فإن الله أكرم بالإسلام كبيركم وصغيركم، ويتلو هذه الآية « فإنا خلقناكم من تراب - إلى - وغير مخلقة » . ) قال ابن العربي: لعل المغيرة بن شعبة أراد بالسقط ما تبين خلقه فهو الذي يسمى، وما لم يتبين خلقه فلا وجود له. وقال بعض السلف: يصلى عليه متى نفخ فيه الروح وتمت له أربعة أشهر. وروى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا استهل المولود ورث ) . الاستهلال: رفع الصوت؛ فكل مولود كان ذلك منه أو حركة أو عطاس أو تنفس فإنه يورث لوجود ما فيه من دلالة الحياة. وإلى هذا ذهب سفيان الثوري والأوزاعي والشافعي. قال الخطابي: وأحسنه قول أصحاب الرأي. وقال مالك: لا ميراث له وإن تحرك أو عطس ما لم يستهل. وروي عن محمد بن سيرين والشعبي والزهري وقتادة.

 

قال مالك رضي الله عنه: ما طرحته المرأة من مضغة أو علقة أو ما يعلم أنه ولد إذا ضرب بطنها ففيه الغرة. وقال الشافعي: لا شيء فيه حتى يتبين من خلقه. قال مالك: إذا سقط الجنين فلم يستهل صارخا ففيه الغرة. وسواء تحرك أو عطس فيه الغرة أبدا، حتى يستهل صارخا ففيه الدية كاملة. وقال الشافعي رضي الله عنه وسائر فقهاء الأمصار: إذا علمت حياته بحركة أو بعطاس أو باستهلاك أو بغير ذلك مما تستيقن به حياته ففيه الدية.

 

ذكر القاضي إسماعيل أن عدة المرأة تنقضي بالسقط الموضوع، واحتج عليه بأنه حمل، وقال قال الله تعالى: « وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن » . قال القاضي إسماعيل: والدليل على ذلك أنه يرث أباه، فدل على وجوده خلقا وكونه ولدا وحملا. قال ابن العربي: ولا يرتبط به شيء من هذه الأحكام إلا أن يكون مخلقا.

قلت: ما ذكرناه من الاشتقاق وقول عليه الصلاة والسلام: ( إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه ) يدل على صحة ما قلناه، ولأن مسقطة العلقة والمضغة يصدق على المرأة إذا ألقته أنها كانت حاملا وضعت ما استقر في رحمها، فيشملها قوله تعالى: « وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن » [ الطلاق: 4 ] ولأنها وضعت مبدأ الولد عن نطفة متجسدا كالمخطط، وهذا بين.

 

روى ابن ماجه حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا خالد بن مخلد حدثنا يزيد عن عبدالملك النوفلي عن يزيد بن رومان عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لسقط أقدمه بين يدي أحب إلي من فارس أخلفه [ خلفي ] ) . وأخرجه الحاكم في معرفة علوم الحديث له عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة فقال: ( أحب إلي من ألف فارس أخلفه ورائي ) .

 

« لنبين لكم » يريد: كمال قدرتنا بتصريفنا أطوار خلقكم. « ونقر في الأرحام » قرئ بنصب « نقر » و « نخرج » ، رواه أبو حاتم عن أبي زيد عن المفضل عن عاصم قال قال أبو حاتم: النصب على العطف. وقال الزجاج: « نقر » بالرفع لا غير؛ لأنه ليس المعنى: فعلنا ذلك لنقر في الأرحام ما نشاء، وإنما خلقهم عز وجل ليدلهم على الرشد والصلاح. وقيل: المعنى لنبين لهم أمر البعث؛ فهو اعتراض بين الكلامين. وقرأت هذه الفرقة بالرفع « ونقر » ؛ المعنى: ونحن نقر. وهي قراءة الجمهور. وقرئ: « ويقر » و « يخرجكم » بالياء، والرفع على هذا سائغ. وقرأ. ابن وثاب « ما نشاء » بكسر النون. والأجل المسمى يختلف بحسب جنين جنين؛ فثم من يسقط وثم من يكمل أمره ويخرج حيا. وقال « ما نشاء » ولم يقل من نشاء لأنه يرجع إلى الحمل؛ أي يقر في الأرحام ما نشاء من الحمل ومن المضغة وهي جماد فكنى عنها بلفظ ما.

 

قوله تعالى: « ثم نخرجكم طفلا » أي أطفالا؛ فهو اسم جنس. وأيضا فإن العرب قد تسمي الجمع باسم الواحد؛ قال الشاعر:

يلحينني في حبها ويلمنني إن العواذل ليس لي بأمير

ولم يقل أمراء. وقال المبرد: وهو اسم يستعمل مصدرا كالرضا والعدل، فيقع على الواحد والجمع؛ قال الله تعالى: « أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء » [ النور: 31 ] . وقال الطبري: وهو نصب على التمييز، كقوله تعالى: « فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا » [ النساء: 4 ] . وقيل: المعنى ثم نخرج كل واحد منكم طفلا. والطفل يطلق من وقت انفصال الولد إلى البلوغ. وولد كل وحشية أيضا طفل. ويقال: جارية طفل، وجاريتان طفل وجوار طفل، وغلام طفل، وغلمان طفل. ويقال أيضا: طفل وطفلة وطفلان وطفلتان وأطفال. ولا يقال: طفلات. وأطفلت المرأة صارت ذات طفل. والمطفلة: الظبية معها طفلها، وهي قريبة عهد بالنتاج. وكذلك الناقة، [ والجمع ] مطافل ومطافيل. والطفل ( بالفتح في الطاء ) الناعم؛ يقال: جارية طفلة أي ناعمة، وبنان طفل. وقد طفل الليل إذا أقبل ظلامه. والطفل ( بالتحريك ) : بعد العصر إذا طفلت الشمس للغروب. والطفل ( أيضا ) : مطر؛ قال:

لوهد جاده طفل الثريا

 

قوله تعالى: « ثم لتبلغوا أشدكم » قيل: إن « ثم » زائدة كالواو في قوله « حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها » [ الزمر: 73 ] ؛ لأن ثم من حروف النسق كالواو. « أشدكم » كمال عقولكم ونهاية قواكم. وقد مضى في « الأنعام » بيانه. « ومنكم من يرد إلى أرذل العمر » أي أخسه وأدونه، وهو الهرم والخرف حتى لا يعقل؛ ولهذا قال: « لكيلا يعلم من بعد علم شيئا » كما قال في سورة يس: « ومن نعمره ننكسه في الخلق » [ يس: 68 ] . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول: ( اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر ) . أخرجه النسائي عن سعد، وقال: وكان يعلمهن بنيه كما يعلم المكتب الغلمان. وقد مضى في النحل هذا المعنى.

 

قوله تعالى: « وترى الأرض هامدة » ذكر دلالة أقوى على البعث فقال في الأول: « فإنا خلقناكم من تراب » فخاطب جمعا. وقال في الثاني: « وترى الأرض » فخاطب واحدا، فانفصل اللفظ عن اللفظ، ولكن المعنى متصل من حيث الاحتجاج على منكري البعث. « هامدة » يابسة لا تنبت شيئا؛ قال ابن جريج. وقيل: دارسة. والهمود الدروس. قال الأعشى:

قالت قتيلة ما لجسمك شاحبا وأرى ثيابك باليات همدا

الهروي: « هامدة » أي جافة ذات تراب. وقال شمر: يقال: همد شجر الأرض إذا بلي وذهب. وهمدت أصواتهم إذا سكنت. وهمود الأرض ألا يكون فيها حياة ولا نبت ولا عود ولم يصبها مطر. وفي الحديث: ( حتى كاد يهمد من الجوع ) أي يهلك. يقال: همد الثوب يهمد إذا بلي. وهمدت النار تهمد.

 

قوله تعالى: « فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت » أي تحركت. والاهتزاز: شدة الحركة؛ يقال: هززت الشيء فاهتز؛ أي حركته فتحرك. وهز الحادي الإبل هزيزا فاهتزت هي إذا تحركت في سيرها بحدائه. واهتز الكوكب في انقضاضه. وكوكب هاز. فالأرض تهتز بالنبات؛ لأن النبات لا يخرج منها حتى يزيل بعضها من بعض إزالة خفية؛ فسماه اهتزازا مجازا. وقيل: اهتز نباتها، فحذف المضاف؛ قال المبرد، واهتزازه شدة حركته، كما قال الشاعر:

تثنى إذا قامت وتهتز إن مشت كما اهتز غصن البان في ورق خضر

والاهتزاز في النبات أظهر منه في الأرض. « وربت » أي ارتفعت وزادت. وقيل: انتفخت؛ والمعنى واحد، وأصله الزيادة. ربا الشيء يربو ربوا أي زاد؛ ومنه الربا والربوة. وقرأ يزيد بن القعقاع وخالد بن إلياس « وربأت » أي ارتفعت حتى صارت بمنزلة الربيئة، وهو الذي يحفظ القوم على شيء مشرف؛ فهو رابئ وربيئة على المبالغة. قال امرؤ القيس:

بعثنا ربيئا قبل ذاك مخملا كذئب الغضا يمشي الضراء ويتقي

« وأنبتت » أي أخرجت. « من كل زوج » أي لون. « بهيج » أي حسن؛ عن قتادة. أي يبهج من يراه. والبهجة الحسن؛ يقال: رجل ذو بهجة. وقد بهج ( بالضم ) بهاجة وبهجة فهو بهيج. وأبهجني أعجبني بحسنه. ولما وصف الأرض بالإنبات دل على أن قوله: « اهتزت وربت » يرجع إلى الأرض لا إلى النبات. والله أعلم.

 

الآيتان: 6 - 7 ( ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور )

 

قوله تعالى: « ذلك بأن الله هو الحق » لما ذكر افتقار الموجودات إليه وتسخيرها على وفق اقتداره واختياره في قوله: « يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث - إلى قوله - بهيج » . قال بعد ذلك: « ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير. وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور » . فنبه سبحانه وتعالى بهذا على أن كل ما سواه وإن كان موجودا حقا فإنه لا حقيقة له من نفسه؛ لأنه مسخر مصرف. والحق الحقيقي: هو الموجود المطلق الغني المطلق؛ وأن وجود كل ذي وجود عن وجوب وجوده؛ ولهذا قال في آخر السورة: « وأن ما يدعون من دونه هو الباطل » [ الحج: 62 ] . والحق الموجود الثابت الذي لا يتغير ولا يزول، وهو الله تعالى. وقيل: ذو الحق على عباده. وقيل: الحق بمعنى في أفعاله. وقال الزجاج: « ذلك » في موضع رفع؛ أي الأمر ما وصف لكم وبين. « بأن الله هو الحق » أي لأن الله هو الحق. وقال: ويجوز أن يكون « ذلك » نصبا؛ أي فعل الله ذلك بأنه هو الحق. « وأنه يحيي الموتى » أي بأنه « وأنه على كل شيء قدير » أي وبأنه قادر على ما أراد. « وأن الساعة آتية » عطف على قوله: « ذلك بأن الله هو الحق » من حيث اللفظ، وليس عطفا في المعنى؛ إذ لا يقال فعل الله ما ذكر بأن الساعة آتية، بل لابد من إضمار فعل يتضمنه؛ أي وليعلموا أن الساعة آتية « لا ريب فيها » أي لا شك. « وأن الله يبعث من في القبور » يريد للثواب والعقاب.

 

الآيات: 8 - 10 ( ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق، ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد )

 

قوله تعالى: « ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير » أي نير بين الحجة. نزلت في النضر بن الحارث. وقيل: في أبي جهل بن هشام؛ قال ابن عباس. ( والمعظم على أنها نزلت في النضر بن الحارث كالآية الأولى، فهما في فريق واحد، والتكرير للمبالغة في الذم؛ كما تقول للرجل تذمه وتوبخه: أنت فعلت هذا! أنت فعلت هذا! ويجوز أن يكون التكرير لأنه وصفه في كل آية بزيادة؛ فكأنه قال: إن النضر بن الحارث يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد، والنضر بن الحارث يجادل في الله من غير علم ومن غير هدى وكتاب منير؛ ليضل عن سبيل الله ) . وهو كقولك: زيد يشتمني وزيد يضربني؛ وهو تكرار مفيد؛ قال القشيري. وقد قيل: نزلت فيه بضع عشرة آية. فالمراد بالآية الأولى إنكاره البعث، وبالثانية إنكاره النبوة، وأن القرآن منزل من جهة الله. وقد قيل: كان من قول النضر بن الحارث أن الملائكة بنات الله، وهذا جدال في الله تعالى: « من » في موضع رفع بالابتداء. والخبر في قوله: « ومن الناس » . « ثاني عطفه » نصب على الحال. ويتأول على معنيين: أحدهما: روي عن ابن عباس أنه قال: ( هو النضر بن الحارث، لوى عنقه مرحا وتعظما ) . والمعنى الآخر: وهو قول الفراء: أن التقدير: ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ثاني عطفه، أي معرضا عن الذكر؛ ذكره النحاس. وقال مجاهد وقتادة: لاويا عنقه كفرا. ابن عباس: معرضا عما يدعى إليه كفرا. والمعنى واحد. وروى الأوزاعي عن مخلد بن حسين عن هشام بن حسان عن ابن عباس في قوله عز وجل: ( « ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله » قال: هو صاحب البدعة. المبرد ) : العطف ما انثنى من العنق. وقال المفضل: والعطف الجانب؛ ومنه قولهم: فلان ينظر في أعطافه، أي في جوانبه. وعطفا الرجل من لدن رأسه إلى وركه. وكذلك عطفا كل شيء جانباه. ويقال: ثنى فلان عني عطفه إذا أعرض عنك. فالمعنى: أي هو معرض عن الحق في جداله ومول عن النظر في كلامه؛ وهو كقوله تعالى: « ولى مستكبرا كأن لم يسمعها » [ لقمان: 7 ] . وقوله تعالى: « لووا رؤوسهم » [ المنافقون: 5 ] . وقوله: « أعرض ونأى بجانبه » [ الإسراء: 83 ] . وقوله: « ذهب إلى أهله يتمطى » [ القيامة: 33 ] . « ليضل عن سبيل الله » أي عن طاعة الله تعالى. وقرئ « ليضل » بفتح الياء. واللام لام العاقبة؛ أي يجادل فيضل؛ كقوله تعالى: « ليكون لهم عدوا وحزنا » [ القصص: 8 ] . أي فكان لهم كذلك. ونظيره « إذا فريق منكم بربهم يشركون. ليكفروا » [ النحل: 54 - 55 ] . « له في الدنيا خزي » أي هوان وذل بما يجري له من الذكر القبيح على ألسنة المؤمنين إلى يوم القيامة؛ كما قال: « ولا تطع كل حلاف مهين » [ القلم: 10 ] الآية. وقوله تعالى: « تبت يدا أبي لهب وتب » [ المسد: 1 ] . وقيل: الخزي ههنا القتل؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قتل النضر بن الحارث يوم بدر صبرا؛ كما تقدم في آخر الأنفال. « ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق » أي نار جهنم. « ذلك بما قدمت يداك » أي يقال له في الآخرة إذا دخل النار: ذلك العذاب بما قدمت يداك من المعاصي والكفر. وعبر باليد عن الجملة؛ لأن اليد التي تفعل وتبطش للجملة. و « ذلك » بمعنى هذا، كما تقدم في أول البقرة.

 

الآية: 11 ( ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين )

 

قوله تعالى: « ومن الناس من يعبد الله على حرف » « من » في موضع رفع بالابتداء، والتمام « انقلب على وجهه » على قراءة الجمهور « خسر » . وهذه الآية خبر عن المنافقين. قال ابن عباس: يريد شيبة بن ربيعة كان قد أسلم قبل أن يظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما أوحى إليه ارتد شيبة بن ربيعة. وقال أبو سعيد الخدري: أسلم رجل من اليهود فذهب بصره وماله؛ فتشاءم بالإسلام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أقلني! فقال: ( إن الإسلام لا يقال ) فقال: إني لم أصب في ديني هذا خيرا! ذهب بصري ومالي وولدي! فقال: ( يا يهودي إن الإسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والفضة والذهب ) ؛ فأنزل الله تعالى: « ومن الناس من يعبد الله على حرف » . وروى إسرائيل عن أبي حصين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ( « ومن الناس من يعبد الله على حرف » قال: كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال هذا دين صالح؛ فإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال هذا دين سوء ) . وقال المفسرون: نزلت في أعراب كانوا يقدمون على النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون؛ فإن نالوا رخاء أقاموا، وإن نالتهم شدة ارتدوا. وقيل نزلت في النضر بن الحارث. وقال ابن زيد وغيره: نزلت في المنافقين. ومعنى « على حرف » على شك؛ قاله مجاهد وغيره. وحقيقته أنه على ضعف في عبادته، كضعف القائم على حرف مضطرب فيه. وحرف كل شيء طرفه وشفيره وحده؛ ومنه حرف الجبل، وهو أعلاه المحدد. وقيل: « على حرف » أي على وجه واحد، وهو أن يعبده على السراء دون الضراء؛ ولو عبدوا الله على الشكر في السراء والصبر على الضراء لما عبدوا الله على حرف. وقيل: « على حرف » على شرط؛ وذلك أن شيبة بن ربيعة قال للنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يظهر أمره: ادع لي ربك أن يرزقني مالا وإبلا وخيلا وولدا حتى أومن بك وأعدل إلى دينك؛ فدعا له فرزقه الله عز وجل ما تمنى؛ ثم أراد الله عز وجل فتنته واختباره وهو أعلم به فأخذ منه ما كان رزقه بعد أن أسلم فارتد عن الإسلام فأنزل الله تبارك وتعالى فيه: « ومن الناس من يعبد الله على حرف » يريد شرط. وقال الحسن: هو المنافق يعبد الله بلسانه دون قلبه. وبالجملة فهذا الذي يعبد الله على حرف ليس داخلا بكليته؛ وبين هذا بقوله: « فإن أصابه خير » صحة جسم ورخاء معيشة رضي وأقام على دينه. « وإن أصابته فتنة » أي خلاف ذلك مما يختبر به. « انقلب على وجهه » أي ارتد فرجع إلى وجهه الذي كان عليه من الكفر. « خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين » قرأ مجاهد وحميد بن قيس والأعرج والزهري وابن أبي إسحاق - وروي عن يعقوب - « خاسر الدنيا » بألف، نصبا على الحال، وعليه فلا يوقف على « وجهه » . وخسرانه الدنيا بأن لاحظ في غنيمة ولا ثناء، والآخرة بأن لا ثواب له فيها.

 

الآية: 12 ( يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد )

 

قوله تعالى: « يدعو من دون الله » أي هذا الذي يرجع إلى الكفر يعبد الصنم الذي ولا ينفع ولا يضر. « ذلك هو الضلال البعيد » قال الفراء: الطويل.

 

الآية: 13 ( يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير )

 

قوله تعالى: « يدعو لمن ضره أقرب من نفعه » أي هذا الذي انقلب على وجهه يدعو من ضره أدنى من نفعه؛ أي في الآخرة لأنه بعبادته دخل النار، ولم ير منه نفعا أصلا، ولكنه قال: ضره أقرب من نفعه ترفيعا للكلام؛ كقوله تعالى: « وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين » [ سبأ: 24 ] . وقيل: يعبدونهم توهم أنهم يشفعون لهم غدا كما؛ قال الله تعالى: « ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله » [ يونس: 18 ] . وقال تعالى: « ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى » [ الزمر: 3 ] . وقال الفراء والكسائي والزجاج: معنى الكلام القسم والتأخير؛ أي يدعو والله لمن ضره أقرب من نفعه. فاللام مقدمه في غير موضعها. و « من » في موضع نصب بـ « يدعو » واللام جواب القسم. و « ضره » مبتدأ. و « أقرب » خبره. وضعف النحاس تأخير الكلام وقال: وليس للام من التصرف ما يوجب أن يكون فيها تقديم ولا تأخير. قلت: حق اللام التقديم وقد تؤخر؛ قال الشاعر:

خالي لأنت ومن جرير خال ينل العلاء ويكرم الأخوالا

أي لخالي أنت؛ وقد تقدم. النحاس: وحكى لنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد قال: في الكلام حذف؛ والمعنى يدعو لمن ضره أقرب من نفعه إلها. قال النحاس: وأحسب هذا القول غلطا على محمد بن يزيد؛ لأنه لا معنى له، لأن ما بعد اللام مبتدأ فلا يجوز نصب إله، وما أحسب مذهب محمد بن يزيد إلا قول الأخفش، وهو أحسن ما قيل في الآية عندي، والله أعلم، قال: « يدعو » بمعنى يقول. و « من » مبتدأ وخبره محذوف، والمعنى يقول لمن ضره أقرب من نفعه إلهه.

قلت: وذكر هذا القول القشيري رحمه الله عن الزجاج والمهدوي عن الأخفش، وكمل إعرابه فقال: « يدعو » بمعنى يقول، و « من » مبتدأ، و « ضره » مبتدأ ثان، و « أقرب » خبره، والجملة صلة « من » ، وخبر « من » محذوف، والتقدير يقول لمن ضره أقرب من نفعه إلهه؛ ومثله قول عنترة:

يدعون عنتر والرماح كأنها أشطان بئر في لبان الأدهم

قال القشيري: والكافر الذي يقول الصنم معبودي لا يقول ضره أقرب من نفعه؛ ولكن المعنى يقول الكافر لمن ضره أقرب من نفعه في قول المسلمين معبودي وإلهي. وهو كقوله تعالى: « يا أيها الساحر ادع لنا ربك » [ الزخرف: 49 ] ؛ أي يا أيها الساحر عند أولئك الذين يدعونك ساحرا. وقال الزجاج: يجوز أن يكون « يدعو » في موضع الحال، وفيه هاء محذوفة؛ أي ذلك هو الضلال البعيد يدعوه، أي في حال دعائه إياه؛ ففي « يدعو » هاء مضمرة، ويوقف على هذا على « يدعو » . وقوله: « لمن ضره أقرب من نفعه » كلام مستأنف مرفوع بالابتداء، وخبره « لبئس المولى » وهذا لأن اللام لليمين والتوكيد فجعلها أول الكلام. قال الزجاج: ويجوز أن يكون « ذلك » بمعنى الذي، ويكون في محل النصب بوقوع « يدعو » عليه؛ أي الذي هو الضلال البعيد يدعو؛ كما قال: « وما تلك بيمنك يا موسى » أي ما الذي. ثم قوله « لمن ضره » كلام مبتدأ، و « لبئس المولى » خبر المبتدأ؛ وتقدير الآية على هذا: يدعو الذي هو الضلال البعيد؛ قدم المفعول وهو الذي؛ كما تقول: زيدا يضرب؛ واستحسنه أبو علي. وزعم الزجاج أن النحويين أغفلوا هذا القول؛ وأنشد:

عدس ما لعباد عليك إمارة نجوت وهذا تحملين طليق

أي والذي. وقال الزجاج أيضا والفراء: يجوز أن يكون « يدعو » مكررة على ما قبلها، على جهة تكثير هذا الفعل الذي هو الدعاء، ولا تعديه إذ قد عديته أولا؛ أي يدعو من دون الله ما لا ينفعه ولا يضره يدعو؛ مثل ضربت زيدا ضربت، ثم حذفت يدعو الآخرة اكتفاء بالأولى. قال الفراء: ويجوز « لمن ضره » بكسر اللام؛ أي يدعو إلى من ضره أقرب من نفعه، قال الله عز وجل: « بأن ربك أوحى لها » أي إليها. وقال الفراء أيضا والقفال: اللام صلة؛ أي يدعو من ضره أقرب من نفعه؛ أي يعبده. وكذلك هو في قراءة عبدالله بن مسعود. « لبئس المولى » أي في التناصر « ولبئس العشير » أي المعاشر والصاحب والخليل. مجاهد: يعني الوثن.

 

الآية: 14 ( إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار إن الله يفعل ما يريد )

 

قوله تعالى: « إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار » لما ذكر حال المشركين وحال المنافقين والشياطين ذكر حال المؤمنين في الآخرة أيضا. « إن الله يفعل ما يريد » أي يثيب من يشاء ويعذب من يشاء؛ فللمؤمنين الجنة بحكم وعده الصدق وبفضله، وللكافرين النار بما سبق من عدله؛ لا أن فعل الرب معلل بفعل العبيد.

 

الآية: 15 ( من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ )

 

قوله تعالى: « من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء » قال أبو جعفر النحاس: من أحسن ما قيل فيها أن المعنى من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأنه يتهيأ له أن يقطع النصر الذي أوتيه. « فليمدد بسبب إلى السماء » أي فليطلب حيلة يصل بها إلى السماء. « ثم ليقطع » أي ثم ليقطع النصر إن تهيأ له « فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ » وحيلته ما يغيظه من نصر النبي صلى الله عليه وسلم. والفائدة في الكلام أنه إذا لم يتهيأ له الكيد والحيلة بأن يفعل مثل هذا لم يصل إلى قطع النصر. وكذا قال ابن عباس: ( إن الكناية في « ينصره الله » ترجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهو وإن لم يجر ذكره فجميع الكلام دال عليه؛ لأن الإيمان هو الإيمان بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم، والانقلاب عن الدين انقلاب عن الدين الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم؛ أي من كان يظن ممن يعادي محمدا صلى الله عليه وسلم ومن يعبد الله على حرف أنا لا ننصر محمدا فليفعل كذا وكذا ) . وعن ابن عباس أيضا ( أن الهاء تعود على « من » والمعنى: من كان يظن أن الله لا يرزقه فليختنق، فليقتل نفسه؛ إذ لا خير في حياة تخلو من عون الله ) . والنصر على هذا القول الرزق؛ تقول العرب: من ينصرني نصره الله؛ أي من أعطاني أعطاه الله. ومن ذلك قول العرب: أرض منصورة؛ أي ممطورة. قال الفقعسي:

وإنك لا تعطي امرأ فوق حقه ولا تملك الشق الذي الغيث ناصره

وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: « من كان يظن أن لن ينصره الله » أي لن يرزقه. وهو قول أبي عبيدة. وقيل: إن الهاء تعود على الدين؛ والمعنى: من كان يظن أن لن ينصر الله دينه. « فليمدد بسبب » أي بحبل. والسبب ما يتوصل به إلى الشيء. « إلى السماء » إلى سقف البيت. ابن زيد: هي السماء المعروفة. وقرأ الكوفيون « ثم ليقطع » بإسكان اللام. قال النحاس: وهذا بعيد في العربية؛ لأن « ثم » ليست مثل الواو والفاء، لأنها يوقف، عليها وتنفرد. وفي قراءة عبدالله « فليقطعه ثم لينظر هل يذهبن كيده ما يغيظه » . قيل: « ما » بمعنى الذي؛ أي هل يذهبن كيده الذي يغيظه، فحذف الهاء ليكون أخف. وقيل: « ما » بمعنى المصدر؛ أي هل يذهبن كيده غيظه.

 

الآية: 16 ( وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد )

 

قوله تعالى: « وكذلك أنزلناه آيات بينات » يعني القرآن. « وأن الله » أي وكذلك أن الله « يهدي من يريد » علق وجود الهداية بإرادته؛ فهو الهادي لا هادي سواه.

 

الآية: 17 ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد )

 

قوله تعالى: « إن الذين آمنوا » أي بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم. « والذين هادوا » اليهود، وهم المنتسبون إلى ملة موسى عليه السلام. « والصابئين » هم قوم يعبدون النجوم. « والنصارى » هم المنتسبون إلى ملة عيسى. « والمجوس » هم عبدة النيران القائلين أن للعالم أصلين: نور وظلمة. قال قتادة: الأديان خمسة، أربعة للشيطان وواحد للرحمن. وقيل: المجوس في الأصل النجوس لتدينهم باستعمال النجاسات؛ والميم والنون يتعاقبان كالغيم والغين، والأيم والأين. وقد مضى في البقرة هذا كله مستوفى. « والذين أشركوا » هم العرب عبدة الأوثان. « إن الله يفصل بينهم يوم القيامة » أي يقضي ويحكم؛ فللكافرين النار، وللمؤمنين الجنة. وقيل: هذا الفصل بأن يعرفهم المحق من المبطل بمعرفة ضرورية، واليوم يتميز المحق عن المبطل بالنظر والاستدلال. « إن الله على كل شيء شهيد » أي من أعمال خلقه وحركاتهم وأقوالهم، فلا يعزب عنه شيء منها، سبحانه! وقوله « إن الله يفصل بينهم » خبر « إن » في قوله « إن الذين آمنوا » كما تقول: إن زيدا إن الخير عنده. وقال الفراء: ولا يجوز في الكلام إن زيدا إن أخاه منطلق؛ وزعم أنه إنما جاز في الآية لأن في الكلام معنى المجازاة؛ أي من آمن ومن تهود أو تنصر أو صبأ يفصل بينهم، وحسابهم على الله عز وجل. ورد أبو إسحاق على الفراء هذا القول، واستقبح قوله: لا يجوز إن زيدا إن أخاه منطلق؛ قال: لأنه لا فرق بين زيد وبين الذين، و « إن » تدخل على كل مبتدأ فتقول إن زيدا هو منطلق، ثم تأتي بإن فتقول: إن زيدا إنه منطلق. وقال الشاعر:

إن الخليفة إن الله سربله سربال عز به ترجى الخواتيم

 

الآية: 18 ( ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء )

 

قوله تعالى: « ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض » هذه رؤية القلب؛ أي ألم تر بقلبك وعقلك. وتقدم معنى السجود في « البقرة » ، وسجود الجماد في « النحل » . « والشمس » معطوفة على « من » . وكذا « والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس » . ثم قال: « وكثير حق عليه العذاب » وهذا مشكل من الإعراب، كيف لم ينصب ليعطف ما عمل فيه الفعل على ما عمل فيه الفعل؛ مثل « والظالمين أعد لهم عذابا أليما » ؟ [ الإنسان: 31 ] فزعم الكسائي والفراء أنه لو نصب لكان حسنا، ولكن اختير الرفع لأن المعنى وكثير أبي السجود، فيكون ابتداء وخبرا، وتم الكلام عند قوله « وكثير من الناس » . ويجوز أن يكون معطوفا، على أن يكون السجود التذلل والانقياد لتدبير الله عز وجل من ضعف وقوة وصحة وسقم وحسن وقبح، وهذا يدخل فيه كل شيء. ويجوز أن ينتصب على تقدير: وأهان كثيرا حق عليه العذاب، ونحوه. وقيل: تم الكلام عند قوله « والدواب » ثم ابتدأ فقال « وكثير من الناس » في الجنة « وكثير حق عليه العذاب » . وكذا روي عن ابن عباس أنه قال: ( المعنى وكثير من الناس في الجنة وكثير حق عليه العذاب ) ؛ ذكره ابن الأنباري. وقال أبو العالية: ما في السماوات نجم ولا قمر ولا شمس إلا يقع ساجدا لله حين يغيب، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيرجع من مطلعه ) . قال القشيري: وورد هذا في خبر مسند في حق الشمس؛ فهذا سجود حقيقي، ومن ضرورته تركيب الحياة والعقل في هذا الساجد.

قلت: الحديث المسند الذي أشار إليه خرجه مسلم، وسيأتي في سورة « يس » عند قوله تعالى: « والشمس تجري لمستقر لها » [ يس: 38 ] . وقد تقدم في البقرة معنى السجود لغة ومعنى.

 

قوله تعالى: « ومن يهن الله فما له من مكرم » أي من أهانه بالشقاء والكفر لا يقدر أحد على دفع الهوان عنه. وقال ابن عباس: ( إن تهاون بعبادة الله صار إلى النار ) .

 

قوله تعالى: « إن الله يفعل ما يشاء » يريد أن مصيرهم إلى النار فلا اعتراض لأحد عليه. وحكى الأخفش والكسائي والفراء « ومن يهن الله فما له من مكرم » أي إكرام.

 

الآيات: 19 - 21 ( هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم، يصهر به ما في بطونهم والجلود، ولهم مقامع من حديد )

 

قوله تعالى: « هذان خصمان اختصموا في ربهم » خرج مسلم عن قيس بن عباد قال: سمعت أبا ذر يقسم قسما إن « هذان خصمان اختصموا في ربهم » إنها نزلت في الذين برزوا يوم بدر: حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة. وبهذا الحديث ختم مسلم رحمه الله كتابه. وقال ابن عباس: ( نزلت هذه الآيات الثلاث على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة في ثلاثة نفر من المؤمنين وثلاثة نفر كافرين ) ، وسماهم، كما ذكر أبو ذر. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ( إني لأول من يجثو للخصومة بين يدي الله يوم القيامة؛ يريد قصته في مبارزته هو وصاحباه ) ؛ ذكره البخاري. وإلى هذا القول ذهب هلال بن يساف وعطاء بن يسار وغيرهما. وقال عكرمة: المراد بالخصمين الجنة والنار؛ اختصمتا فقالت النار: خلقني لعقوبته. وقالت الجنة خلقني لرحمته.

قلت: وقد ورد بتخاصم الجنة والنار حديث عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( احتجت الجنة والنار فقالت هذه يدخلني الجبارون والمتكبرون وقالت هذه يدخلني الضعفاء والمساكين فقال الله تعالى لهذه أنت عذابي أعذب بك من أشاء وقال لهذه أنت رحمتي أرحم بك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها ) . خرجه البخاري ومسلم والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وقال ابن عباس أيضا: ( هم أهل الكتاب قالوا للمؤمنين نحن أولى بالله منكم، وأقدم منكم كتابا، ونبينا قبل نبيكم. وقال المؤمنون: نحن أحق بالله منكم، آمنا بمحمد وآمنا بنبيكم وبما أنزل إليه من كتاب، وأنتم تعرفون نبينا وتركتموه وكفرتم به حسدا؛ فكانت هذه خصومتهم ) ، وأنزلت فيهم هذه الآية. وهذا قول قتادة، والقول الأول أصح رواه البخاري عن حجاج بن منهال عن هشيم عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد عن أبي ذر، ومسلم عن عمرو بن زرارة عن هشيم، ورواه سليمان التيمي عن أبي مجلز عن قيس بن عباد عن علي قال: فينا نزلت هذه الآية وفي مبارزتنا يوم بدر « هذان خصمان اختصموا في ربهم - إلى قوله - عذاب الحريق » . وقرأ ابن كثير « هذان خصمان » بتشديد النون من « هذان » . وتأول الفراء الخصمين على أنهما فريقان أهل دينين، وزعم أن الخصم الواحد المسلمون والآخر اليهود والنصارى، اختصموا في دين ربهم؛ قال: فقال « اختصموا » لأنهم جمع، قال: ولو قال « اختصما » لجاز. قال النحاس: وهذا تأويل من لا دراية له بالحديث ولا بكتب أهل التفسير؛ لأن الحديث في هذه الآية مشهور، رواه سفيان الثوري وغيره عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد قال: سمعت أبا ذر يقسم قسما إن هذه الآية نزلت في حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة. وهكذا روى أبو عمرو بن العلاء عن مجاهد عن ابن عباس. وفيه قول رابع ( أنهم المؤمنون كلهم والكافرون كلهم من أي ملة كانوا ) ؛ قاله مجاهد والحسن وعطاء بن أبي رباح وعاصم بن أبي النجود والكلبي. وهذا القول بالعموم يجمع المنزل فيهم وغيرهم. وقيل: نزلت في الخصومة في البعث والجزاء؛ إذ قال به قوم وأنكره قوم.

 

قوله تعالى: « فالذين كفروا » يعني من الفرق الذين تقدم ذكرهم. « قطعت لهم ثياب من نار » أي خيطت وسويت؛ وشبهت النار بالثياب لأنها لباس لهم كالثياب. وقوله « قطعت » أي تقطع لهم في الآخرة ثياب من نار؛ وذكر بلفظ الماضي لأن ما كان من أخبار الآخرة فالموعود منه كالواقع المحقق؛ قال الله تعالى: « وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس » [ المائدة: 116 ] أي يقول الله تعالى. ويحتمل أن يقال قد أعدت الآن تلك الثياب لهم ليلبسوها إذا صاروا إلى النار. وقال سعيد بن جبير: « من نار » من نحاس؛ فتلك الثياب من نحاس قد أذيبت وهي السرابيل المذكورة في « قطران » [ إبراهيم: 50 ] وليس في الآنية شيء إذا حمي يكون أشد حرا منه. وقيل: المعنى أن النار قد أحاطت بهم كإحاطة الثياب المقطوعة إذا لبسوها عليهم؛ فصارت من هذا الوجه ثيابا لأنها بالإحاطة كالثياب؛ مثل « وجعلنا الليل لباسا » [ النبأ: 10 ] . « يصب من فوق رؤوسهم الحميم » أي الماء الحار المغلى بنار جهنم. وروى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الحميم حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان ) . قال: حديث حسن صحيح غريب. « يصهر » يذاب. « به ما في بطونهم » والصهر إذابة الشحم. والصهارة ما ذاب منه؛ يقال: صهرت الشيء فانصهر، أي أذبته فذاب، فهو صهير. قال ابن أحمر يصف فرخ قطاة:

تروي لقى ألقي في صفصف تصهره الشمس فما ينصهر

أي تذيبه الشمس فيصبر على ذلك. « والجلود » أي وتحرق الجلود، أو تشوى الجلود؛ فإن الجلود لا تذاب؛ ولكن يضم في كل شيء ما يليق به، فهو كما تقول: أتيته فأطعمني ثريدا، إي والله ولبنا قارصا؛ أي وسقاني لبنا. وقال الشاعر:

علفتها تبنا وماء باردا

« ولهم مقامع من حديد » أي يضربون بها ويدفعون؛ الواحدة مقمعة، ومقمع أيضا كالمحجن، يضرب به على رأس الفيل. وقد قمعته إذا ضربته بها. وقمعته وأقمعته بمعنى؛ أي قهرته وأذللته فانقمع. قال ابن السكيت: أقمعت الرجل عني إقماعا إذا طلع عليك فرددته عنك. وقيل: المقامع المطارق، وهي المرازب أيضا. وفي الحديث ( بيد كل ملك من خزنة جهنم مرزبة لها شعبتان فيضرب الضربة فيهوي بها سبعين ألفا ) . وقيل: المقامع سياط من نار، وسميت بذلك لأنها تقمع المضروب، أي تذلله.

 

الآية: 22 ( كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق )

 

قوله تعالى: « كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم » أي من النار. « أعيدوا فيها » بالضرب بالمقامع. وقال أبو ظبيان: ذكر لنا أنهم يحاولون الخروج من النار حين تجيش بهم وتفور فتلقي من فيها إلى أعلى أبوابها فيريدون الخروج فتعيدهم الخزان إليها بالمقامع. وقيل: إذا اشتد غمهم فيها فروا؛ فمن خلص منهم إلى شفيرها أعادتهم الملائكة فيها بالمقامع، ويقولون لهم « وذوقوا عذاب الحريق » أي المحرق؛ مثل الأليم والوجيع. وقيل: الحريق الاسم من الاحتراق. تحرق الشيء بالنار واحترق، والاسم الحرقة والحريق. والذوق: مماسة يحصل معها إدراك الطعم؛ وهو هنا توسع، والمراد به إدراكهم الألم.

 

الآية: 23 ( إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير )

 

قوله تعالى: « إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار » لما ذكر أحد الخصمين وهو الكافر ذكر حال الخصم الآخر وهو المؤمن. « يحلون فيها من أساور من ذهب » « من » صلة. والأساور جمع أسورة، وأسورة واحدها سوار؛ وفيه ثلاث لغات: ضم السين وكسرها وإسوار. قال المفسرون: لما كانت الملوك تلبس في الدنيا الأساور والتيجان جعل الله ذلك لأهل الجنة، وليس أحد من أهل الجنة إلا وفي يده ثلاثة أسورة: سوار من ذهب، وسوار من فضة، وسوار من لؤلؤ. قال هنا وفي فاطر: « من أساور من ذهب ولؤلؤا » [ فاطر: 33 ] وقال في سورة الإنسان: « وحلوا أساور من فضة » [ الإنسان: 21 ] . وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول: ( تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء ) . وقيل: تحلى النساء بالذهب والرجال بالفضة. وفيه نظر، والقرآن يرده. « ولؤلؤا » قرأ نافع وابن القعقاع وشيبة وعاصم هنا وفي سورة الملائكة « لؤلؤا » بالنصب، على معنى ويخلون لؤلؤا؛ واستدلوا بأنها مكتوبة في جميع المصاحف هنا بألف. وكذلك قرأ يعقوب والجحدري وعيسى بن عمر بالنصب هنا والخفض في « فاطر » اتباعا للمصحف، ولأنها كتبت ههنا بألف وهناك بغير ألف. الباقون بالخفض في الموضعين. وكان أبو بكر لا يهمز « اللولؤ » في كل القرآن؛ وهو ما يستخرج من البحر من جوف الصدف. قال القشيري: والمراد ترصيع السوار باللؤلؤ؛ ولا يبعد أن يكون في الجنة سوار من لؤلؤ مصمت.

قلت: وهو ظاهر القرآن بل نصه. وقال ابن الأنباري: من قرأ « ولؤلؤ » بالخفض وقف عليه ولم يقف على الذهب. وقال السجستاني: من نصب « اللؤلؤ » فالوقف الكافي « من ذهب » ؛ لأن المعنى ويحلون لؤلؤا. قال ابن الأنباري: وليس كما قال، لأنا إذا خفضنا « اللؤلؤ » نسقناه على لفظ الأساور، وإذا نصبناه نسقناه على تأويل الأساور، وكأنا قلنا: يحلون فيها أساور ولؤلؤا، فهو في النصب بمنزلته في الخفض، فلا معنى لقطعه من الأول.

 

قوله تعالى: « ولباسهم فيها حرير » أي وجميع ما يلبسونه من فرشهم ولباسهم وستورهم حرير، وهو أعلى مما في الدنيا بكثير. وروى النسائي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربه في الآخرة ومن شرب في آنية الذهب والفضة لم يشرب فيها في الآخرة - ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لباس أهل الجنة وشراب أهل الجنة وآنية أهل الجنة ) . فإن قيل: قد سوى النبي صلى الله عليه وسلم بين هذه الأشياء الثلاثة وأنه يحرمها في الآخرة؛ فهل يحرمها إذا دخل الجنة؟ قلنا: نعم! إذا لم يتب منها حرمها في الآخرة وإن دخل الجنة؛ لاستعجاله ما حرم الله عليه في الدنيا. لا يقال: إنما يحرم ذلك في الوقت الذي يعذب في النار أو بطول مقامه في الموقف، فأما إذا دخل الجنة فلا؛ لأن حرمان شيء من لذات الجنة لمن كان في الجنة نوع عقوبة ومؤاخذة والجنة ليست بدار عقوبة، ولا مؤاخذة فيها بوجه. فإنا نقول: ما ذكرتموه محتمل، لولا ما جاء ما يدفع هذا الاحتمال ويرده من ظاهر الحديث الذي ذكرناه. وما رواه الأئمة من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ( من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة ) . والأصل التمسك بالظاهر حتى يرد نص يدفعه، بل قد ورد نص على صحة ما ذكرناه، وهو ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا هشام عن قتادة عن داود السراج عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو ) . وهذا نص صريح وإسناده صحيح. فإن كان ( وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو ) من قول النبي صلى الله عليه وسلم فهو الغاية في البيان، وإن كان من كلام الراوي على ما ذكر فهو أعلى بالمقال وأقعد بالحال، ومثله لا يقال بالرأي، والله أعلم. وكذلك ( من شرب الخمر ولم يتب ) و ( من استعمل آنية الذهب والفضة ) وكما لا يشتهي منزلة من هو أرفع منه، وليس ذلك بعقوبة كذلك لا يشتهي خمر الجنة ولا حريرها ولا يكون ذلك عقوبة. وقد ذكرنا هذا كله في كتاب التذكرة مستوفى، والحمد لله، وذكرنا فيها أن شجر الجنة وثمارها يتفتق عن ثياب الجنة، وقد ذكرناه في سورة الكهف.

 

الآية: 24 ( وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد )

 

قوله تعالى: « وهدوا إلى الطيب من القول » أي أرشدوا إلى ذلك. قال ابن عباس: ( يريد لا إله إلا الله والحمد لله ) . وقيل: القرآن، ثم قيل: هذا في الدنيا، هدوا إلى الشهادة، وقراءة القرآن. « وهدوا إلى صراط الحميد » أي إلى صراط الله. وصراط الله: دينه وهو الإسلام. وقيل: هدوا في الآخرة إلى الطيب من القول، وهو الحمد لله؛ لأنهم يقولون غدا الحمد لله الذي هدانا لهذا، الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن؛ فليس في الجنة لغو ولا كذب فما يقولونه فهو طيب القول. وقد هدوا في الجنة إلى صراط الله، إذ ليس في الجنة شيء من مخالفة أمر الله. وقيل: الطيب من القول ما يأتيهم من الله من البشارات الحسنة. « وهدوا إلى صراط الحميد » أي إلى طريق الجنة.

 

الآية: 25 ( إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم )

 

قوله تعالى: « إن الذين كفروا ويصدون » أعاد الكلام إلى مشركي العرب حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام عام الحديبية، وذلك أنه لم يعلم لهم صد قبل ذلك الجمع؛ إلا أن يريد صدهم لأفراد من الناس، فقد وقع ذلك في صدر المبعث. والصد: المنع؛ أي وهم يصدون. وبهذا حسن عطف المستقبل على الماضي. وقيل: الواو زائدة « ويصدون » خبر « إن » . وهذا مفسد للمعنى المقصود، وإنما الخبر محذوف مقدر عند قوله ( والباد ) تقديره: خسروا إذا هلكوا. وجاء « ويصدون » مستقبلا إذ هو فعل يديمونه؛ كما جاء قوله تعالى: « الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله » [ الرعد: 28 ] ؛ فكأنه قال: إن الذين كفروا من شأنهم الصد. ولو قال إن الذين كفروا وصدروا لجاز. قال النحاس: وفي كتابي عن أبي إسحاق قال وجائز أن يكون - وهو الوجه - الخبر « نذقه من عذاب أليم » . قال أبو جعفر: وهذا غلط، ولست أعرف ما الوجه فيه؛ لأنه جاء بخبر « إن » جزما، وأيضا فإنه جواب الشرط، ولو كان خبر « إن » لبقي الشرط بلا جواب، ولا سيما والفعل الذي في الشرط مستقبل فلا بد له من جواب.

 

قوله تعالى: « والمسجد الحرام » قيل: إنه المسجد نفسه، وهو ظاهر القرآن؛ لأنه لم يذكر غيره. وقيل: الحرم كله؛ لأن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عنه عام الحديبية، فنزل خارجا عنه؛ قال الله تعالى: « وصدوكم عن المسجد الحرام » [ الفتح: 25 ] وقال: « سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام » [ الإسراء: 1 ] . وهذا صحيح، لكنه قصد هنا بالذكر المهم المقصود من ذلك. « الذي جعلناه للناس » أي للصلاة والطواف والعبادة؛ وهو كقوله تعالى: « إن أول بيت وضع للناس » [ آل عمران: 96 ] . « سواء العاكف فيه والباد » العاكف: المقيم الملازم. والبادي: أهل البادية ومن يقدم عليهم. يقول: سواء في تعظيم حرمته وقضاء النسك فيه الحاضر والذي يأتيه من البلاد؛ فليس أهل مكة أحق من النازح إليه. وقيل: إن المساواة إنما هي في دوره ومنازله، ليس المقيم فيها أولى من الطارئ عليها. وهذا على أن المسجد الحرام الحرم كله؛ وهذا قول مجاهد ومالك؛ رواه عنه ابن القاسم. وروي عن عمر وابن عباس وجماعة ( إلى أن القادم له النزول حيث وجد، وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أو أبى ) . وقال ذلك سفيان الثوري وغيره، وكذلك كان الأمر في الصدر الأول، كانت دورهم بغير أبواب حتى كثرت السرقة؛ فاتخذ رجل بابا فأنكر عليه عمر وقال: أتغلق بابا في وجه حاج بيت الله؟ فقال: إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة، فتركه فاتخذ الناس الأبواب. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضا أنه كان يأمر في الموسم بقلع أبواب دور مكة، حتى يدخلها الذي يقدم فينزل حيث شاء، وكانت الفساطيط تضرب في الدور. وروي عن مالك أن الدور ليست كالمسجد ولأهلها الامتناع منها والاستبداد؛ وهذا هو العمل اليوم. وقال بهذا جمهور من الأمة.

وهذا الخلاف يبنى على أصلين: أحدهما أن دور مكة هل هي ملك لأربابها أم للناس. وللخلاف سببان: أحدهما هل فتح مكة كان عنوة فتكون مغنومة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقسمها وأقرها لأهلها ولمن جاء بعدهم؛ كما فعل عمر رضي الله عنه بأرض السواد وعفا لهم عن الخراج كما عفا عن سبيهم واسترقاقهم إحسانا إليهم دون سائر الكفار فتبقى على ذلك لاتباع ولا تكرى، ومن سبق إلى موضع كان أولى به. وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والأوزاعي. أو كان فتحها صلحا - وإليه ذهب الشافعي - فتبقى ديارهم بأيديهم، وفي أملاكهم يتصرفون كيف شاؤوا. وروي عن عمر أنه اشترى دار صفوان بن أمية بأربعة آلاف وجعلها سجنا، وهو أول من حبس في السجن في الإسلام، على ما تقدم بيانه في آية المحاربين من سورة « المائدة » . وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة. وكان طاوس يكره السجن بمكة ويقول: لا ينبغي لبيت عذاب أن يكون في بيت رحمة.

قلت: الصحيح ما قاله مالك؛ وعليه تدل ظواهر الأخبار الثابتة بأنها فتحت عنوة. قال أبو عبيد: ولا نعلم مكة يشبهها شيء من البلاد. وروى الدارقطني عن علقمة بن نضلة قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما وما تدعى رباع مكة إلا السوائب؛ من احتاج سكن ومن استغنى أسكن. وزاد في رواية: وعثمان. وروي أيضا عن علقمة بن نضلة الكناني قال: كانت تدعى بيوت مكة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما السوائب، لا تباع؛ من احتاج سكن ومن استغنى أسكن. وروي أيضا عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله تعالى حرم مكة فحرام بيع رباعها وأكل ثمنها - وقال - من أكل من أجر بيوت مكة شيئا فإنما يأكل نارا ) . قال الدارقطني: كذا رواه أبو حنيفة مرفوعا ووهم فيه، ووهم أيضا في قوله عبيدالله بن أبي يزيد وإنما هو ابن أبي زياد القداح، والصحيح أنه موقوف، وأسند الدارقطني أيضا عن عبدالله بن عمرو قال قال رسول الله: ( مكة مناخ لا تباع رباعها ولا تؤاجر بيوتها ) . وروى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله؛ ألا أبني لك بمنى بيتا أو بناء يظلك من الشمس؟ فقال: ( لا، إنما هو مناخ من سبق إليه ) . وتمسك الشافعي رضي الله عنه بقوله تعالى: « الذين أخرجوا من ديارهم » الحج: 40 ] فأضافها إليهم. وقال عليه السلام يوم الفتح: ( من أغلق بابه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ) .

 

قرأ جمهور الناس « سواء » بالرفع، وهو على الابتداء، و « العاكف » خبره. وقيل: الخبر « سواء » وهو مقدم؛ أي العاكف فيه والبادي سواء؛ وهو قول أبي علي، والمعنى: الذي جعلناه للناس قبلة أو متعبدا العاكف فيه والبادي سواء. وقرأ حفص عن عاصم « سواء » بالنصب، وهي قراءة الأعمش. وذلك يحتمل أيضا وجهين: أحدهما: أن يكون مفعولا ثانيا لجعل، ويرتفع « العاكف » به لأنه مصدر، فأعمل عمل اسم الفاعل لأنه في معنى مستو. والوجه الثاني: أن يكون حالا من الضمير في جعلناه. وقرأت فرقة « سواء » بالنصب « العاكف » بالخفض، و « البادي » عطفا على الناس، التقدير: الذي جعلناه للناس العاكف والبادي. وقراءة ابن كثير في الوقف والوصل بالياء، ووقف أبو عمرو بغير ياء ووصل بالياء. وقرأ نافع بغير ياء في الوصل والوقف. وأجمع الناس على الاستواء في نفس المسجد الحرام، واختلفوا في مكة؛ وقد ذكرناه.

 

قوله تعالى: « ومن يرد فيه بإلحاد بظلم » شرط، وجوابه « نذقه من عذاب أليم » . والإلحاد في اللغة: الميل؛ إلا أن الله تعالى بين أن الميل بالظلم هو المراد. واختلف في الظلم؛ فروى علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس ( « ومن يرد فيه بإلحاد بظلم » قال: الشرك ) . وقال عطاء: الشرك والقتل. وقيل: معناه صيد حمامه، وقطع شجره؛ ودخول غير محرم. وقال ابن عمر: ( كنا نتحدث أن الإلحاد فيه أن يقول الإنسان: لا والله! وبلى والله! وكلا والله! ولذلك كان له فسطاطان، أحدهما في الحل والآخر في الحرم؛ فكان إذا أراد الصلاة دخل فسطاط الحرم، وإذا أراد بعض شأنه دخل فسطاط الحل، صيانة للحرم عن قولهم كلا والله وبلى والله، حين عظم الله الذنب فيه ) . وكذلك كان لعبدالله بن عمرو بن العاص فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل، وإذا أراد أن يصلي صلى في الحرم، فقيل له في ذلك فقال: إن كنا لنتحدث أن من الإلحاد في الحرم أن نقول كلا والله وبلى والله، والمعاصي تضاعف بمكة كما تضاعف الحسنات، فتكون المعصية معصيتين، إحداهما بنفس المخالفة والثانية بإسقاط حرمة البلد الحرام؛ وهكذا الأشهر الحرم سواء. وقد تقدم. وروى أبو داود عن يعلى بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه ) . وهو قول عمر بن الخطاب. والعموم يأتي على هذا كله.

 

ذهب قوم من أهل التأويل منهم الضحاك وابن زيد إلى أن هذه الآية تدل على أن الإنسان يعاقب على ما ينويه من المعاصي بمكة وإن لم يعمله. وقد روي نحو ذلك عن ابن مسعود وابن عمر قالوا: لو هم رجل بقتل رجل بهذا البيت وهو ( بعدن أبين ) لعذبه الله.

قلت: هذا صحيح، وقد جاء هذا المعنى في سورة « ن والقلم » القلم: 1 ] مبينا، على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى.

 

الباء في « بإلحاد » زائدة كزيادتها في قوله تعالى: « تنبت بالدهن » [ المؤمنون:20 ] ؛ وعليه حملوا قول الشاعر:

نحن بنو جعدة أصحاب الفلج نضرب بالسيف ونرجو بالفرج

أراد: نرجو الفرج. وقال الأعشى:

ضمنت برزق عيالنا أرماحنا

أي رزق: وقال آخر:

ألم يأتيك والأنباء تنمي بما لاقت لبون بني زياد

أي ما لاقت؛ والباء زائدة، وهو كثير. وقال الفراء: سمعت أعرابيا وسألته عن شيء فقال: أرجو بذاك، أي أرجو ذاك. وقال الشاعر:

بواد يمان ينبت الشث صدرة وأسفله بالمرخ والشبهان

أي المرخ. وهو قول الأخفش، والمعنى عنده: ومن يرد فيه إلحادا بظلم. وقال الكوفيون: دخلت الباء لأن المعنى بأن يلحد، والباء مع أن تدخل وتحذف. ويجوز أن يكون التقدير: ومن برد الناس فيه بإلحاد. وهذا الإلحاد والظلم يجمع المعاصي من الكفر إلى الصغائر؛ فلعظم حرمة المكان توعد الله تعالى على نية السيئة فيه. ومن نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب عليها إلا في مكة. هذا قول ابن مسعود وجماعة من الصحابة وغيرهم. وقد ذكرناه آنفا.

 

الآية: 26 ( وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود )

 

قوله تعالى: « وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت » أي واذكر إذ بوأنا لإبراهيم؛ يقال: بوأته منزلا وبوأت له. كما يقال: مكنتك ومكنت لك؛ فاللام في قوله: « لإبراهيم » صلة للتأكيد؛ كقوله: « ردف لكم » [ النمل: 72 ] ، وهذا قول الفراء. وقيل: « بوأنا لإبراهيم مكان البيت » أي أريناه أصله ليبنيه، وكان قد درس بالطوفان وغيره، فلما جاءت مدة إبراهيم عليه السلام أمره الله ببنيانه، فجاء إلى موضعه وجعل يطلب أثرا، فبعث الله ريحا فكشفت عن أساس آدم عليه السلام؛ فرتب قواعده عليه؛ حسبما تقدم بيانه في « البقرة » . وقيل: « بوأنا » نازلة منزلة فعل يتعدى باللام؛ كنحو جعلنا، أي جعلنا لإبراهيم مكان البيت مبوأ. وقال الشاعر:

كم من أخ لي ماجد بوأته بيدي لحدا

 

« أن لا تشرك » هي مخاطبة لإبراهيم عليه السلام في قول الجمهور. وقرأ عكرمة « أن لا يشرك » بالياء، على نقل معنى القول الذي قيل له. قال أبو حاتم: ولا بد من نصب الكاف على هذه القراءة، بمعنى لئلا يشرك. وقيل: إن « أن » مخففة من الثقيلة. وقيل مفسرة. وقيل زائدة؛ مثل « فلما أن جاء البشير » [ يوسف: 96 ] . وفي الآية طعن على من أشرك من قطان البيت؛ أي هذا كان الشرط على أبيكم ممن بعده وأنتم، فلم تفوا بل أشركتم. وقالت فرقة: الخطاب من قول « أن لا تشرك » لمحمد صلى الله عليه وسلم؛ وأمر بتطهير البيت والأذان بالحج. والجمهور على أن ذلك لإبراهيم؛ وهو الأصح. وتطهير البيت عام في الكفر والبدع وجميع الأنجاس والدماء. وقيل: عنى به التطهير عن الأوثان؛ كما قال تعالى: « فاجتنبوا الرجس من الأوثان » [ الحج: 30 ] ؛ وذلك أن جرهما والعمالقة كانت لهم أصنام في محل البيت وحوله قبل أن يبنيه إبراهيم عليه السلام. وقيل: المعنى نزه بيتي عن أن يعبد فيه صنم. وهذا أمر بإظهار التوحيد فيه. وقد مضى ما للعلماء في تنزيه المسجد الحرام وغيره من المساجد بما فيه كفاية في سورة « التوبة » . والقائمون هم المصلون. وذكر تعالى من أركان الصلاة أعظمها، وهو القيام والركوع والسجود.

 

الآية: 27 ( وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق )

 

قوله تعالى: « وأذن في الناس بالحج » قرأ جمهور الناس « وأذن » بتشديد الذال. وقرأ الحسن بن أبي الحسن وابن محيصن « وآذن » بتخفيف الذال ومد الألف. ابن عطية: وتصحف هذا على ابن جني، فإنه حكى عنهما « وآذن » على أنه فعل ماض، وأعرب على ذلك بأن جعله عطفا على « بوأنا » . والأذان الإعلام، وقد تقدم في « التوبة » .

 

لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت، وقيل له: أذن في الناس بالحج، قال: يا رب! وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن وعلي الإبلاغ؛ فصعد إبراهيم خليل الله جبل أبي قبيس وصاح: يا أيها الناس! إن الله قد أمركم بحج هذا البيت ليثيبكم به الجنة ويجيركم من عذاب النار، فحجوا؛ فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء: لبيك اللهم لبيك! فمن أجاب يومئذ حج على قدر الإجابة؛ إن أجاب مرة فمرة، وإن أجاب مرتين فمرتين؛ وجرت التلبية على ذلك؛ قاله ابن عباس وابن جبير. وروي عن أبي الطفيل قال قال لي ابن عباس: ( أتدري ما كان أصل التلبية؟ قلت لا! قال: لما أمر إبراهيم عليه السلام أن يؤذن في الناس بالحج خفضت الجبال رؤوسها ورفعت له القرى؛ فنادى في الناس بالحج فأجابه كل شيء: لبيك اللهم لبيك ) . وقيل: إن الخطاب لإبراهيم عليه السلام تم عند قوله « السجود » ، ثم خاطب الله عز وجل محمدا عليه الصلاة والسلام فقال « وأذن في الناس بالحج » أي أعلمهم أن عليهم الحج. وقول ثالث: إن الخطاب من قوله « أن لا تشرك » مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم. وهذا قول أهل النظر؛ لأن القرآن أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، فكل ما فيه من المخاطبة فهي له إلا أن يدل دليل قاطع على غير ذلك. وههنا دليل آخر يدل على أن المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو « أن لا تشرك بي » بالتاء، وهذا مخاطبة لمشاهد، وإبراهيم عليه السلام غائب، فالمعنى على هذا: وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت فجعلنا لك الدلائل على توحيد الله تعالى وعلى أن إبراهيم كان يعبد الله وحده. وقرأ جمهور الناس « بالحج » بفتح الحاء. وقرأ ابن أبي إسحاق في كل القرآن بكسرها. وقيل: إن نداء إبراهيم من جملة ما أمر به من شرائع الدين. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « يأتوك رجالا وعلى كل ضامر » وعده إجابة الناس إلى حج البيت ما بين راجل وراكب، وإنما قال « يأتوك » وإن كانوا يأتون الكعبة لأن المنادي إبراهيم، فمن أتى الكعبة حاجا فكأنما أتى إبراهيم؛ لأنه أجاب نداءه، وفيه تشريف إبراهيم. ابن عطية: « رجالا » جمع راجل مثل تاجر وتجار، وصاحب وصحاب. وقيل: الرجال جمع رجل، والرجل جمع راجل؛ مثل تجار وتجر وتاجر، وصحاب وصحب وصاحب. وقد يقال في الجمع: رجال، بالتشديد؛ مثل كافر وكفار. وقرأ ابن أبي إسحاق وعكرمة « رجالا » بضم الراء وتخفيف الجيم، وهو قليل في أبنية الجمع، ورويت عن مجاهد. وقرأ مجاهد « رجالى » على وزن فعالى؛ فهو مثل كسالى. قال النحاس: في جمع راجل خمسة أوجه، ورجالة مثل ركاب، وهو الذي روي عن عكرمة، ورجال مثل قيام، ورجلة، ورجل، ورجالة. والذي روي عن مجاهد رجالا غير معروف، والأشبه به أن يكون غير منون مثل كسالى وسكارى، ولو نون لكان على فعال، وفعال في الجمع قليل. وقدم الرجال على الركبان في الذكر لزيادة تعبهم في المشي. « وعلى كل ضامر يأتين » لأن معنى « ضامر » معنى ضوامر. قال الفراء: ويجوز « يأتي » على اللفظ. والضامر: البعير المهزول الذي أتعبه السفر؛ يقال: ضمر يضمر ضمورا؛ فوصفها الله تعالى بالمآل الذي انتهت عليه إلى مكة. وذكر سبب الضمور فقال: « يأتين من كل فج عميق » أي أثر فيها طول السفر. ورد الضمير إلى الإبل تكرمة لها لقصدها الحج مع أربابها؛ كما قال: « والعاديات ضبحا » [ العاديات: 1 ] في خيل الجهاد تكرمة لها حين سعت في سبيل الله.

قال بعضهم: إنما قال « رجالا » لأن الغالب خروج الرجال إلى الحج دون الإناث؛ فقول « رجالا » من قولك: هذا رجل؛ وهذا فيه بعد؛ لقوله « وعلى كل ضامر » يعني الركبان، فدخل فيه الرجال والنساء. ولما قال تعالى: « رجالا » وبدأ بهم دل ذلك على أن حج الراجل أفضل من حج الراكب. قال ابن عباس: ( ما آسى على شيء فاتني إلا أن لا أكون حججت ماشيا، فإني سمعت الله عز وجل يقول « يأتوك رجالا » ) . وقال ابن أبي نجيح: حج إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ماشيين. وقرأ أصحاب ابن مسعود « يأتون » وهي قراءة ابن أبي عبلة والضحاك، والضمير للناس.

 

لا خلاف في جواز. الركوب والمشي، واختلفوا في الأفضل منهما؛ فذهب مالك والشافعي في آخرين إلى أن الركوب أفضل، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولكثرة النفقة ولتعظيم شعائر الحج بأهبة الركوب. وذهب غيرهم إلى أن المشي أفضل لما فيه من المشقة على النفس، ولحديث أبي سعيد قال: حج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مشاة من المدينة إلى مكة، وقال: ( اربطوا أوساطكم بأزركم ) ومشى خلط الهرولة؛ خرجه ابن ماجه في سننه. ولا خلاف في أن الركوب عند مالك في المناسك كلها أفضل؛ للاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.

 

استدل بعض العلماء بسقوط ذكر البحر من هذه الآية على أن فرض الحج بالبحر ساقط. قال مالك في الموازية: لا أسمع للبحر ذكرا، وهذا تأنس، لا أنه يلزم من سقوط ذكره سقوط الفرض فيه؛ وذلك أن مكة ليست في ضفة بحر فيأتيها الناس في السفن؛ ولابد لمن ركب البحر أن يصير في إتيان مكة إما راجلا وإما على ضامر؛ فإنما ذكرت حالتا الوصول؛ وإسقاط فرض الحج بمجرد البحر ليس بالكثير ولا بالقوي. فأما إذا اقترن به عدو وخوف أو هول شديد أو مرض يلحق شخصا، فمالك والشافعي وجمهور الناس على سقوط الوجوب بهذه الأعذار، وأنه ليس بسبيل يستطاع. قال ابن عطية: وذكر صاحب الاستظهار في هذا المعنى كلاما. ظاهره أن الوجوب لا يسقط بشيء من هذه الأعذار؛ وهذا ضعيف.

قلت: وأضعف من ضعيف، وقد مضى في « البقرة » بيانه. والفج: الطريق الواسعة، والجمع فجاج. وقد مضى في « الأنبياء » . والعميق معناه البعيد. وقراءة الجماعة « يأتين » . وقرأ أصحاب عبدالله « يأتون » وهذا للركبان و « يأتين » للجمال؛ كأنه قال: وعلى إبل ضامرة يأتين « من كل فج عميق » أي بعيد؛ ومنه بئر عميقة أي بعيدة القعر؛ ومنه:

وقاتم الأعماق خاوي المخترق

 

واختلفوا في الواصل إلى البيت، هل يرفع يديه عند رؤيته أم لا؛ فروى أبو داود قال: سئل جابر بن عبدالله عن الرجل يرى البيت ويرفع يديه فقال: ما كنت أرى أن أحدا يفعل هذا إلا اليهود، وقد حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نكن نفعله. وروى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ترفع الأيدي في سبع مواطن افتتاح الصلاة واستقبال البيت والصفا والمروة والموقفين والجمرتين ) . وإلى حديث ابن عباس هذا ذهب الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق وضعفوا حديث جابر؛ لأن مهاجرا المكي راوية مجهول. وكان ابن عمر يرفع يديه عند رؤية البيت. وعن ابن عباس مثله.

 

الآيتان: 28 - 29 ( ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير، ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق )

 

قوله تعالى: « ليشهدوا » أي أذن بالحج يأتوك رجالا وركبانا ليشهدوا؛ أي ليحضروا. والشهود الحضور. « منافع لهم » أي المناسك، كعرفات والمشعر الحرام. وقيل المغفرة. وقيل التجارة. وقيل هو عموم؛ أي ليحضروا منافع لهم، أي ما يرضي الله تعالى من أمر الدنيا والآخرة؛ قال مجاهد وعطاء واختاره ابن العربي؛ فإنه يجمع ذلك كله من نسك وتجارة ومغفرة ومنفعة دنيا وأخرى. ولا خلاف في أن المراد بقوله: « ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم » [ البقرة: 198 ] التجارة. « ويذكروا اسم الله في أيام معلومات » قد مضى في « البقرة » الكلام في الأيام المعلومات والمعدودات. والمراد بذكر اسم الله ذكر التسمية عند الذبح والنحر؛ مثل قولك: باسم الله والله أكبر، اللهم منك ولك. ومثل قولك عند الذبح « إن صلاتي ونسكي » [ الأنعام:162 ] الآية. وكان الكفار يذبحون على أسماء أصنامهم، فبين الرب أن الواجب الذبح على اسم الله؛ وقد مضى في « الأنعام » .

 

واختلف العلماء في وقت الذبح يوم النحر؛ فقال مالك رضي الله عنه: بعد صلاة الإمام وذبحه؛ إلا أن يؤخر تأخيرا يتعدى فيه فيسقط الاقتداء به. وراعى أبو حنيفة الفراغ من الصلاة دون ذبح. والشافعي دخول وقت الصلاة ومقدار ما توقع فيه الخطبتين؛ فاعتبر الوقت دون الصلاة، هذه رواية المزني عنه، وهو قول الطبري. وذكر الربيع عن البويطي قال قال الشافعي: ولا يذبح أحد حتى يذبح الإمام إلا أن يكون ممن لا يذبح، فإذا صلى وفرغ من الخطبة حل الذبح. وهذا كقول مالك. وقال أحمد: إذا انصرف الإمام فاذبح. وهو قول إبراهيم. وأصح هذه الأقوال قول مالك؛ لحديث جابر بن عبدالله قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر بالمدينة، فتقدم رجال فنحروا وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نحر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان نحر أن يعيد بنحر آخر، ولا ينحروا حتى ينحر النبي صلى الله عليه وسلم خرجه مسلم والترمذي وقال: وفي الباب عن جابر وجندب وأنس وعويمر بن أشقر وابن عمر وأبي زيد الأنصاري، وهذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم ألا يضحى بالمصر حتى يصلي الإمام. وقد احتج أبو حنيفة بحديث البراء، وفيه: ( ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين ) . خرجه مسلم أيضا. فعلق الذبح على الصلاة ولم يذكر الذبح، وحديث جابر يقيده. وكذلك حديث البراء أيضا، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ) الحديث. وقال أبو عمر بن عبدالبر: لا أعلم خلافا بين العلماء أن من ذبح قبل الصلاة وكان من أهل المصر أنه غير مضح؛ لقوله عليه السلام: ( من ذبح قبل الصلاة فتلك شاة لحم ) .

وأما أهل البوادي ومن لا أمام له فمشهور مذهب مالك يتحرى وقت ذبح الإمام، أو أقرب الأئمة إليه. وقال ربيعة وعطاء فيمن لا إمام له: إن ذبح قبل طلوع الشمس لم يجزه، ويجزيه إن ذبح بعده. وقال أهل الرأي: يجزيهم من بعد الفجر. وهو قول ابن المبارك، ذكره عنه الترمذي. وتمسكوا بقوله تعالى: « ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام » ، فأضاف النحر إلى اليوم. وهل اليوم من طلوع الفجر أو من طلوع الشمس، قولان. ولا خلاف أنه لا يجزى ذبح الأضحية قبل طلوع الفجر من يوم النحر.

 

واختلفوا كم أيام النحر؟ فقال مالك: ثلاثة، يوم النحر ويومان بعده. وبه قال أبو حنيفة والثوري وأحمد بن حنبل، وروي ذلك عن أبي هريرة وأنس بن مالك من غير اختلاف عنهما. وقال الشافعي: أربعة، يوم النحر وثلاثة بعده. وبه قال الأوزاعي، وروي ذلك عن علي رضي الله عنه وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم، وروي عنهم أيضا مثل قول مالك وأحمد. وقيل: ( هو يوم النحر خاصة وهو العاشر من ذي الحجة ) ؛ وروي عن ابن سيرين. وعن سعيد بن جبير وجابر بن زيد أنهما قالا: النحر في الأمصار يوم واحد وفي منى ثلاثة أيام. وعن الحسن البصري في ذلك ثلاث روايات: إحداها كما قال مالك، والثانية كما قال الشافعي، والثالثة إلى آخر يوم من ذي الحجة؛ فإذا أهل هلال المحرم فلا أضحى.

قلت: وهو قول سليمان بن يسار وأبي سلمة بن عبدالرحمن، ورويا حديثا مرسلا مرفوعا خرجه الدارقطني: الضحايا إلى هلال ذي الحجة؛ ولم يصح، ودليلنا قوله تعالى: « في أيام معلومات » الآية، وهذا جمع قلة؛ لكن المتيقن منه الثلاثة، وما بعد الثلاثة غير متيقن فلا يعمل به. قال أبو عمر بن عبدالبر: أجمع العلماء على أن يوم النحر يوم أضحى، وأجمعوا أن لا أضحى بعد انسلاخ ذي الحجة، ولا يصح عندي في هذه إلا قولان: أحدهما: قول مالك والكوفيين. والآخر: قول الشافعي والشاميين؛ وهذان القولان مرويان عن الصحابة فلا معنى للاشتغال بما خالفهما؛ لأن ما خالفهما لا أصل له في السنة ولا في قول الصحابة، وما خرج عن هذين فمتروك لهما. وقد روي عن قتادة قول سادس، وهو أن الأضحى يوم النحر وستة أيام بعده؛ وهذا أيضا خارج عن قول الصحابة فلا معنى له. واختلفوا في ليالي النحر هل تدخل مع الأيام فيجوز فيها الذبح أولا؛ فروي عن مالك في المشهور أنها لا تدخل فلا يجوز الذبح بالليل. وعليه جمهور أصحابه وأصحاب الرأي؛ لقوله تعالى: « ويذكروا اسم الله في أيام » فذكر الأيام، وذكر الأيام دليل على أن الذبح في الليل لا يجوز. وقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: الليالي داخلة في الأيام ويجزى الذبح فيها. وروي عن مالك وأشهب نحوه، ولأشهب تفريق بين الهدي والضحية، فأجاز الهدي ليلا ولم يجز الضحية ليلا. قوله تعالى: « على ما رزقهم » أي على ذبح ما رزقهم. « من بهيمة الأنعام » والأنعام هنا الإبل والبقر والغنم. وبهيمة الأنعام هي الأنعام، فهو كقولك صلاة الأولى، ومسجد الجامع.

 

قوله تعالى: « فكلوا منها » أمر معناه الندب عند الجمهور. ويستحب للرجل أن يأكل من هديه وأضحيته وأن يتصدق بالأكثر، مع تجويزهم الصدقة بالكل وأكل الكل. وشذت طائفة فأوجبت الأكل والإطعام بظاهر الآية. ولقول عليه السلام: ( فكلوا وادخروا وتصدقوا ) . قال الكيا: قوله تعالى: « فكلوا منها وأطعموا » يدل على أنه لا يجوز بيع جميعه ولا التصدق بجميعه.

 

دماء الكفارات لا يأكل منها أصحابها. ومشهور مذهب مالك رضي الله عنه أنه لا يأكل من ثلاث: جزاء الصيد، ونذر المساكين وفدية الأذى، ويأكل مما سوى ذلك إذا بلغ محله واجبا كان أو تطوعا، ووافقه على ذلك جماعة من السلف وفقهاء الأمصار.

فإن أكل مما منع منه فهل يغرم قدر ما أكل أو يغرم هديا كاملا؛ قولان في مذهبنا، وبالأول قال ابن الماجشون. قال ابن العربي: وهو الحق، لا شيء عليه غيره. وكذلك لو نذر هديا للمساكين فيأكل منه بعد أن بلغ محله لا يغرم إلا ما أكل - خلافا للمدونة - لأن النحر قد وقع، والتعدي إنما هو على اللحم، فيغرم قدر ما تعدى فيه.

 

قوله تعالى: « وليوفوا نذورهم » يدل على وجوب إخراج النذر إن كان دما أو هديا أو غيره، ويدل ذلك على أن النذر لا يجوز أن يأكل منه وفاء بالنذر، وكذلك جزاء الصيد وفدية الأذى؛ لأن المطلوب أن يأتي به كاملا من غير نقص لحم ولا غيره، فإن أكل من ذلك كان عليه هدي كامل. والله أعلم.

هل يغرم قيمة اللحم أو يغرم طعاما؛ ففي كتاب محمد عن عبدالملك أنه يغرم طعاما. والأول أصح؛ لأن الطعام إنما هو في مقابلة الهدي كله عند تعذره عبادة، وليس حكم التعدي حكم العبادة.

فإن عطب من هذا الهدي المضمون الذي هو جزاء الصيد وفدية الأذى ونذر المساكين شيء قبل محله أكل منه صاحبه وأطعم منه الأغنياء والفقراء ومن أحب، ولا يبيع من لحمه ولا جلده ولا من قلائده شيئا. قال إسماعيل بن إسحاق: لأن الهدي المضمون إذا عطب قبل أن يبلغ محله كان عليه بدله، ولذلك جاز أن يأكل منه صاحبه ويطعم. فإذا عطب الهدي التطوع قبل أن يبلغ محله لم يجز أن يأكل منه ولا يطعم؛ لأنه لما لم يكن عليه بدله خيف أن يفعل ذلك بالهدي وينحر من غير أن يعطب، فاحتيط على الناس، وبذلك مضى العمل. وروى أبو داود عن ناجية الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معه بهدي وقال: ( إن عطب منها شيء فانحره ثم اصبغ نعله في دمه ثم خل بينه وبين الناس ) . وبهذا الحديث قال مالك والشافعي في أحد قوليه، وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي ومن اتبعهم في الهدي التطوع: لا يأكل منها سائقها شيئا، ويخلى بينها وبين الناس يأكلونها. وفي صحيح مسلم: ( ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك ) . وبظاهر هذا النهي قال ابن عباس والشافعي في قوله الآخر، واختاره ابن المنذر، فقالا: لا يأكل منها ولا أحد من أهل رفقته. قال أبو عمر: قوله عليه السلام ( ولا يأكل منها أحد ولا أحد من أهل رفقتك ) لا يوجد إلا في حديث ابن عباس. وليس ذلك في حديث هشام بن عروة عن أبيه عن ناجية. وهو عندنا أصح من حديث ابن عباس، وعليه العمل عند الفقهاء. ويدخل في قوله عليه السلام: ( خل بينها وبين الناس ) أهل رفقته وغيرهم. وقال الشافعي وأبو ثور: ما كان من الهدي أصله واجبا فلا يأكل منه، وما كان تطوعا ونسكا أكل منه وأهدى وادخر وتصدق. والمتعة والقرآن عنده نسك. ونحوه مذهب الأوزاعي. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يأكل من هدي المتعة والتطوع، ولا يأكل مما سوى ذلك مما وجب بحكم الإحرام. وحكي عن مالك: لا يأكل من دم الفساد. وعلى قياس هذا لا يأكل من دم الجبر؛ كقول الشافعي والأوزاعي. تمسك مالك بأن جزاء الصيد جعله الله للمساكين بقوله تعالى: « أو كفارة طعام مساكين » [ المائدة: 95 ] . وقال في فدية الأذى: « ففدية من صيام أو صدقة أو نسك » [ البقرة: 196 ] . وقال صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة: ( أطعم ستة مساكين مدين لكل مسكين أو صم ثلاثة أيام أو انسك شاة ) . ونذر المساكين مصرح به، وأما غير ذلك من الهدايا فهو باق على أصل قوله: « والبدن جعلناها لكم من شعائر الله » إلى قوله « فكلوا منها » [ الحج: 36 ] . وقد أكل النبي صلى الله عليه وسلم وعلي رضي الله عنه من الهدي الذي جاء به وشربا من مرقه. وكان عليه السلام قارنا في أصح الأقوال والروايات؛ فكان هديه على هذا واجبا، فما تعلق به أبو حنيفة غير صحيح. والله أعلم. وإنما أذن الله سبحانه من الأكل من الهدايا لأجل أن العرب كانت لا ترى أن تأكل من نسكها، فأمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بمخالفتهم؛ فلا جرم كذلك شرع وبلغ، وكذلك فعل حين أهدى وأحرم صلى الله عليه وسلم.

 

« فكلوا منها » قال بعض العلماء: قوله تعالى: « فكلوا منها » ناسخ لفعلهم، لأنهم كانوا يحرمون لحوم الضحايا على أنفسهم ولا يأكلون منها - كما قلناه في الهدايا - فنسخ الله ذلك بقوله: « فكلوا منها » وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من ضحى فليأكل من أضحيته ) ولأنه عليه السلام أكل من أضحيته وهديه. وقال الزهري: من السنة أن تأكل أولا من الكبد.

ذهب أكثر العلماء إلى أنه يستحب أن يتصدق بالثلث ويطعم الثلث ويأكل هو وأهله الثلث. وقال ابن القاسم عن مالك: ليس عندنا في الضحايا قسم معلوم موصوف. قال مالك في حديثه: وبلغني عن ابن مسعود، وليس عليه العمل. روى الصحيح وأبو داود قال: ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة ثم قال: ( يا ثوبان، أصلح لحم هذه الشاة ) قال: فما زلت أطعمه منها حتى قدم المدينة. وهذا نص في الفرض. واختلف قول الشافعي؛ فمرة قال: يأكل النصف ويتصدق بالنصف لقوله تعالى: « فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير » فذكر شخصين. وقال مرة: يأكل ثلثا ويهدي ثلثا ويطعم ثلثا، لقوله تعالى: « فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر » [ الحج: 36 ] فذكر ثلاثة.

 

المسافر يخاطب بالأضحية كما يخاطب بها الحاضر؛ إذ الأصل عموم الخطاب بها، وهو قول كافة العلماء. وخالف في ذلك أبو حنيفة والنخعي، وروي عن علي؛ والحديث حجة عليهم. واستثنى مالك من المسافرين الحاج بمنى، فلم ير عليه أضحية، وبه قال النخعي. وروي ذلك عن الخليفتين أبي بكر وعمر وجماعة من السلف رضي الله عنهم؛ لأن الحاج إنما هو مخاطب في الأصل بالهدي. فإذا أراد أن يضحي جعله هديا، والناس غير الحاج إنما أمروا بالأضحية ليتشبهوا بأهل منى فيحصل لهم حظ من أجرهم.

 

اختلف العلماء في الادخار على أربعة أقوال. روي عن علي وابن عمر رضي الله عنهما من وجه صحيح أنه لا يدخر من الضحايا بعد ثلاث. وروياه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي. وقالت جماعة: ما روي من النهي عن الادخار منسوخ؛ فيدخر إلى أي وقت أحب. وبه قال أبو سعيد الخدري وبريدة الأسلمي، وقالت فرقة: يجوز الأكل منها مطلعا. وقالت طائفة: إن كانت بالناس حاجة إليها فلا يدخر، لأن النهي إنما كان لعلة وهي قوله عليه السلام: ( إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت ) ولما ارتفعت ارتفع المنع المتقدم لارتفاع موجبه، لا لأنه منسوخ. وتنشأ هنا مسألة أصولية: وهي الفرق بين رفع الحكم بالنسخ ورفعه لارتفاع علته. أعلم أن المرفوع بالنسخ لا يحكم به أبدا، والمرفوع لارتفاع علته يعود الحكم لعود العلة؛ فلو قدم على أهل بلدة ناس محتاجون في زمان الأضحى؛ ولم يكن عند أهل ذلك البلد سعة يسدون بها فاقتهم إلا الضحايا لتعين عليهم ألا يدخروها فوق ثلاث كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

 

الأحاديث الواردة في هذا الباب بالمنع والإباحة صحاح ثابتة. وقد جاء المنع والإباحة معا؛ كما هو منصوص في حديث عائشة وسلمة بن الأكوع وأبي سعيد الخدري رواها الصحيح. وروى الصحيح عن أبي عبيد مولى ابن أزهر أنه شهد العيد مع عمر بن الخطاب قال: ثم صليت العيد مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ قال: فصلى لنا قبل الخطبة ثم خطب الناس فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهاكم أن تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث ليال فلا تأكلوها. وروي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى أن تؤكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث. قال سالم: فكان ابن عمر لا يأكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث. وروى أبو داود عن نبيشة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنا كنا نهيناكم عن لحومها فوق ثلاث لكي تسعكم جاء الله بالسعة فكلوا وادخروا واتجروا إلا أن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل ) . قال أبو جعفر النحاس: وهذا القول أحسن ما قيل في هذا حتى تتفق الأحاديث ولا تضاد، ويكون قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعثمان محصور، لأن الناس كانوا في شدة محتاجين، ففعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدمت الدافة. والدليل على هذا ما حدثنا إبراهيم بن شريك قال: حدثنا أحمد قال حدثنا ليث قال حدثني الحارث بن يعقوب عن يزيد بن أبي يزيد عن امرأته أنها سألت عائشة رضي الله عنها عن لحوم الأضاحي فقالت: قدم علينا علي بن أبي طالب من سفر فقدمنا إليه منه، فأبى أن يأكل حتى يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله فقال: « كل من ذي الحجة إلى ذي الحجة ) . وقال الشافعي: من قال بالنهي عن الادخار بعد ثلاث لم يسمع الرخصة. ومن قال بالرخصة مطلقا لم يسمع النهي عن الادخار. ومن قال بالنهي والرخصة سمعهما جميعا فعمل بمقتضاهما. والله أعلم. وسيأتي في سورة » الكوثر « الاختلاف في وجوب الأضحية وندبيتها وأنها ناسخة لكل ذبح تقدم، إن شاء الله تعالى.»

 

قوله تعالى: « وأطعموا البائس الفقير » « الفقير » من صفة البائس، وهو الذي ناله البؤس وشدة الفقر؛ يقال: بئس يبأس بأسا إذا افتقر؛ فهو بائس. وقد يستعمل فيمن نزلت به نازلة دهر وإن لم يكن فقيرا؛ ومنه قوله عليه السلام: ( لكن البائس سعد بن خولة ) . ويقال: رجل بئيس أي شديد. وقد بؤس يبؤس بأسا إذ اشتد؛ ومنه قوله تعالى: « وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس » [ الأعراف: 165 ] أي شديد. وكلما كان التصدق بلحم الأضحية أكثر كان الأجر أوفر. وفي القدر الذي يجوز أكله خلاف قد ذكرناه؛ فقيل النصف؛ لقوله: « فكلوا » ، « وأطعموا » وقيل الثلثان؛ لقوله: ( ألا فكلوا وادخروا واتجروا ) أي اطلبوا الأجر بالإطعام. واختلف في الأكل والإطعام؛ فقيل واجبان. وقيل مستحبان. وقيل بالفرق بين الأكل والإطعام؛ فالأكل مستحب والإطعام واجب؛ وهو قول الشافعي.

 

قوله تعالى: « ثم ليقضوا تفثهم » أي ثم ليقضوا بعد نحر الضحايا والهدايا ما بقي عليهم من أمر الحج؛ كالحلق ورمي الجمار وإزالة شعث ونحوه. قال ابن عرفة: أي ليزيلوا عنهم أدرانهم. وقال الأزهري: التفث الأخذ من الشارب وقص الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة؛ وهذا عند الخروج من الإحرام. وقال النضر بن شميل: التفث في كلام العرب إذهاب الشعث وسمعت الأزهري يقول: التفث في كلام العرب لا يعرف إلا من قول ابن عباس وأهل التفسير. وقال الحسن: ( هو إزالة قشف الإحرام. وقيل: التفث مناسك الحج كلها ) ، رواه ابن عمر وابن عباس. قال ابن العربي: لو صح عنهما لكان حجة لشرف الصحبة والإحاطة باللغة، قال: وهذه اللفظة غريبة لم يجد أهل العربية فيها شعرا ولا أحاطوا بها خبرا؛ لكني تتبعت التفث لغة فرأيت أبا عبيدة معمر بن المثنى قال: إنه قص الأظفار وأخذ الشارب، وكل ما يحرم على المحرم إلا النكاح. قال: ولم يجيء فيه شعر يحتج به. وقال صاحب العين: التفث هو الرمي والحلق والتقصير والذبح وقص الأظفار والشارب والإبط. وذكر الزجاج والفراء نحوه، ولا أراه أخذوه إلا من قول العلماء. وقال قطرب: تفث الرجل إذا كثر وسخه. قال أمية بن أبي الصلت:

حفوا رؤوسهم لم يحلقوا تفثا ولم يسلوا لهم قملا وصئبانا

وما أشار إليه قطرب هو الذي قال ابن وهب عن مالك، وهو الصحيح في التفث. وهذه صورة إلقاء التفث لغة، وأما حقيقته الشرعية فإذا نحر الحاج أو المعتمر هديه وحلق رأسه وأزال وسخه وتطهر وتنقى ولبس فقد أزال تفثه ووفى نذره؛ والنذر ما لزم الإنسان والتزمه. قلت: ما حكاه عن قطرب وذكر من الشعر قد ذكره في تفسيره الماوردي وذكر بيتا آخر فقال:

قضوا تفثا ونحبا ثم ساروا إلى نجد وما انتظروا عليا

وقال الثعلبي: وأصل التفث في اللغة الوسخ؛ تقول العرب للرجل تستقذره: ما أتفثك؛ أي ما أوسخك وأقذرك. قال أمية بن أبي الصلت:

ساخين آباطهم لم يقذفوا تفثا وينزعوا عنهم قملا وصئبانا

الماوردي: قيل لبعض الصلحاء ما المعنى في شعث المحرم؟ قال: ليشهد الله تعالى منك الإعراض عن العناية بنفسك فيعلم صدقك في بذلها لطاعته.

 

قوله تعالى: « وليوفوا نذورهم » أمروا بوفاء النذر مطلقا إلا ما كان معصية؛ لقوله عليه السلام: ( لا وفاء لنذر في معصية الله ) ، وقوله: ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه ) « وليطوفوا بالبيت العتيق » الطواف المذكور في هذه الآية هو طواف الإفاضة الذي هو من واجبات الحج. قال الطبري: لا خلاف بين المتأولين في ذلك. للحج ثلاثة أطواف: طواف القدوم، وطواف الإفاضة، وطواف الوداع. قال إسماعيل بن إسحاق: طواف القدوم سنة، وهو ساقط عن المراهق وعن المكي وعن كل من يحرم بالحج من مكة. قال: والطواف الواجب الذي لا يسقط بوجه من الوجوه، وهو طواف الإفاضة الذي يكون بعد عرفة؛ قال الله تعالى: « ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق » . قال: فهذا هو الطواف المفترض في كتاب الله عز وجل، وهو الذي يحل به الحاج من إحرامه كله. قال الحافظ أبو عمر: ما ذكره إسماعيل في طواف الإفاضة هو قول مالك عند أهل المدينة، وهي رواية ابن وهب وابن نافع وأشهب عنه. وهو قول جمهور أهل العلم من فقهاء أهل الحجاز والعراق. وقد روى ابن القاسم وابن عبدالحكم عن مالك أن طواف القدوم واجب. وقال ابن القاسم في غير موضع من المدونة ورواه أيضا عن مالك: الطواف الواجب طواف القادم مكة. وقال: من نسي الطواف في حين دخوله مكة أو نسي شوطا منه، أو نسي السعي أو شوطا منه حتى رجع إلى بلده ثم ذكره، فإن لم يكن أصاب النساء رجع إلى مكة حتى يطوف بالبيت ويركع ويسعى بين الصفا والمروة، ثم يهدي. وإن أصاب النساء رجع فطاف وسعى، ثم اعتمر وأهدى. وهذا كقوله فيمن نسي طواف الإفاضة سواء. فعلى هذه الرواية الطوافان جميعا واجبان، والسعي أيضا. وأما طواف الصدر وهو المسمى بطواف الوداع فروى ابن القاسم وغيره عن مالك فيمن طاف طواف الإفاضة على غير وضوء: أنه يرجع من بلده فيفيض إلا أن يكون تطوع بعد ذلك. وهذا مما أجمع عليه مالك وأصحابه، وأنه يجزيه تطوعه عن الواجب المفترض عليه من طوافه. وكذلك أجمعوا أن من فعل في حجه شيئا تطوع به من عمل الحج، وذلك الشيء واجب في الحج قد جاز وقته، فإن تطوعه ذلك يصير للواجب لا للتطوع؛ بخلاف الصلاة. فإذا كان التطوع ينوب عن الفرض في الحج كان الطواف لدخول مكة أحرى أن ينوب عن طواف الإفاضة، إلا ما كان من الطواف بعد رمي جمرة العقبة يوم النحر أو بعده للوداع. ورواية ابن عبدالحكم عن مالك بخلاف ذلك؛ لأن فيها أن طواف الدخول مع السعي ينوب عن طواف الإفاضة لمن رجع إلى بلده مع الهدي، كما ينوب طواف الإفاضة مع السعي لمن لم يطف ولم يسع حين دخوله مكة مع الهدي أيضا عن طواف القدوم. ومن قال هذا قال: إنما قيل لطواف الدخول واجب ولطواف الإفاضة واجب لأن بعضهما ينوب عن بعض، ولأنه قد روي عن مالك أنه يرجع من نسي أحدهما من بلده على ما ذكرنا، ولأن الله عز وجل لم يفترض على الحاج إلا طوافا واحدا بقوله: « وأذن في الناس بالحج » ، وقال في سياق الآية: « وليطوفوا بالبيت العتيق » والواو عندهم في هذه الآية وغيرها لا توجب رتبة إلا بتوقيف. وأسند الطبري عن عمرو بن أبي سلمة قال: سألت زهيرا عن قوله تعالى: « وليطوفوا بالبيت العتيق » فقال: هو طواف الوداع. وهذا يدل على أنه واجب، وهو أحد قولي الشافعي؛ لأنه عليه السلام رخص للحائض أن تنفر دون أن تطوفه، ولا يرخص إلا في الواجب.

 

اختلف المتأولون في وجه صفة البيت بالعتيق؛ فقال مجاهد والحسن: العتيق القديم. يقال: سيف عتيق، وقد عتق أي قدم؛ وهذا قول يعضده النظر. وفي الصحيح ( أنه أول مسجد وضع في الأرض ) . وقيل عتيقا لأن الله أعتقه من أن يتسلط عليه جبار بالهوان إلى انقضاء الزمان؛ قال معناه ابن الزبير مجاهد. وفي الترمذي عن عبدالله بن الزبير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنما سمي البيت العتيق لأنه لم يظهر عليه جبار ) قال: هذا حديث حسن صحيح، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا. فإن ذكر ذاكر الحجاج بن يوسف ونصبه المنجنيق على الكعبة حتى كسرها قيل له: إنما أعتقها عن كفار الجبابرة؛ لأنهم إذا أتوا بأنفسهم متمردين ولحرمة البيت غير معتقدين، وقصدوا الكعبة بالسوء فعصمت منهم ولم تنلها أيديهم، كان ذلك دلالة على أن الله عز وجل صرفهم عنها قسرا. فأما المسلمون الذين اعتقدوا حرمتها فإنهم إن كفوا عنها لم يكن في ذلك من الدلالة على منزلتها عند الله مثل ما يكون منها في كف الأعداء؛ فقصر الله تعالى هذه الطائفة عن الكف بالنهي والوعيد، ولم يتجاوزه إلى الصرف بالإلجاء والاضطرار، وجعل الساعة موعدهم، والساعة أدهى وأمر. وقالت طائفة: سمي عتيقا لأنه لم يملك موضعه قط. وقالت فرقة: سمي عتيقا لأن الله عز وجل يعتق فيه رقاب المذنبين من العذاب. وقيل: سمي عتيقا لأنه أعتق من غرق الطوفان؛ قال ابن جبير. وقيل: العتيق الكريم. والعتق الكرم. قال طرفة يصف أذن الفرس:

مؤللتان تعرف العتق فيهما كسامعتي مذعورة وسط ربرب

وعتق الرقيق: الخروج من ذل الرق إلى كرم الحرية. ويحتمل أن يكون العتيق صفة مدح تقتضي جودة الشيء؛ كما قال عمر: حملت على فرس عتيق؛ الحديث. والقول الأول أصح للنظر والحديث الصحيح. قال مجاهد: خلق الله البيت قبل الأرض بألفي عام، وسمي عتيقا لهذا؛ والله أعلم.

الآية [ 30 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيتان: 30 - 31 ( ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور، حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق )

 

قوله تعالى: « ذلك » يحتمل أن يكون في موضع رفع بتقدير: فرضكم ذلك، أو الواجب ذلك. ويحتمل أن يكون في موضع نصب بتقدير: امتثلوا ذلك؛ ونحو هذه الإشارة البليغة قول زهير:

هذا وليس كمن يعيا بخطته وسط الندي إذا ما قائل نطقا

والحرمات المقصودة هنا هي أفعال الحج المشار إليها في قوله: « ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم » ويدخل في ذلك تعظيم المواضع؛ قاله ابن زيد وغيره. ويجمع ذلك أن تقول: الحرمات امتثال الأمر من فرائضه وسننه. وقوله: « فهو خير له عند ربه » أي التعظيم خير له عند ربه من التهاون بشيء منها. وقيل: ذلك التعظيم خير من خيراته ينتفع به، وليست للتفضيل وإنما هي عدة بخير. « وأحلت لكم الأنعام » أن تأكلوها؛ وهي الإبل والبقر والغنم. « إلا ما يتلى عليكم » أي في الكتاب من المحرمات؛ وهي الميتة والموقوذة وأخواتها. ولهذا اتصال بأمر الحج؛ فإن في الحج الذبح، فبين ما يحل ذبحه وأكل لحمه. وقيل: « إلا ما يتلى عليكم » غير محلي الصيد وأنتم حرم.

 

قوله تعالى: « فاجتنبوا الرجس من الأوثان » الرجس: الشيء القذر. الوثن: التمثال من خشب أو حديد أو ذهب أو فضة ونحوها، وكانت العرب تنصبها وتعبدها. والنصارى تنصب الصليب وتعبده وتعظمه فهو كالتمثال أيضا. وقال عدي بن حاتم: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال: ( ألق هذا الوثن عنك ) أي الصليب؛ وأصله من وثن الشيء أي أقام في مقامه. وسمي الصنم وثنا لأنه ينصب ويركز في مكان فلا يبرح عنه. يريد اجتنبوا عبادة الأوثان، روي عن ابن عباس وابن جريج. وسماها رجسا لأنها سبب الرجز وهو العذاب. وقيل: وصفها بالرجس، والرجس النجس فهي نجسة حكما. وليست النجاسة وصفا ذاتيا للأعيان وإنما هي وصف شرعي من أحكام الإيمان، فلا تزال إلا بالإيمان كما لا تجوز الطهارة إلا بالماء. « من » في قوله: « من الأوثان » قيل: إنها لبيان الجنس، فيقع نهيه عن رجس الأوثان فقط، ويبقى سائر الأرجاس نهيها في غير هذا الموضع. ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية؛ فكأنه نهاهم عن الرجس عاما ثم عين لهم مبدأه الذي منه يلحقهم؛ إذ عبادة الوثن جامعة لكل فساد ورجس. ومن قال إن « من » للتبعيض، قلب معنى الآية وأفسده. « واجتنبوا قول الزور » والزور: الباطل والكذب. وسمي زورا لأنه أميل عن الحق؛ ومنه « تزاور عن كهفهم » ، [ الكهف: 17 ] ، ومدينة زوراء؛ أي مائلة. وكل ما عدا الحق فهو كذب وباطل وزور. وفي الخبر أنه عليه السلام قام خطيبا فقال: ( عدلت شهادة الزور الشرك بالله ) قالها مرتين أو ثلاثا. يعني أنها قد جمعت مع عبادة الوثن في النهي عنها.

 

هذه الآية تضمنت الوعيد على الشهادة بالزور، وينبغي للحاكم إذا عثر على الشاهد بالزور أن يعزره وينادي عليه ليعرف لئلا يغتر بشهادته أحد. ويختلف الحكم في شهادته إذا تاب؛ فإن كان من أهل العدالة المشهور بها المبرز فيها لم تقبل؛ لأنه لا سبيل إلى علم حاله في التوبة؛ إذ لا يستطيع أن يفعل من القربات أكثر مما هو عليه. وإن كان دون ذلك فشمر في العبادة وزادت حاله في التقى قبل شهادته. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن من أكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور وقول الزور ) . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت.

 

قوله تعالى: « حنفاء لله » معناه مستقيمين أو مسلمين مائلين إلى الحق. ولفظة « حنفاء » من الأضداد تقع على الاستقامة وتقع على الميل. و « حنفاء » نصب على الحال. وقيل: « حنفاء » حجاجا؛ وهذا تخصيص لا حجة معه. « ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء » أي هو يوم القيامة بمنزلة من لا يملك لنفسه نفعا ولا يدفع عن نفسه ضرا ولا عذابا؛ فهو بمنزلة من خر من السماء، فهو لا يقدر أن يدفع عن نفسه. ومعنى « فتخطفه الطير » أي تقطعه بمخالبها. وقيل: هذا عند خروج روحه وصعود الملائكة بها إلى سماء الدنيا، فلا يفتح لها فيرمى بها إلى الأرض؛ كما في حديث البراء، وقد ذكرناه في التذكرة. والسحيق: البعيد؛ ومنه قوله تعالى: « فسحقا لأصحاب السعير » [ الملك: 11 ] ، وقوله عليه الصلاة والسلام: ( فسحقا فسحقا ) .

 

الآيتان: 32 - 33 ( ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب، لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق )

 

قوله تعالى: « ذلك » فيه ثلاثة أوجه. قيل: يكون في موضع رفع بالابتداء، أي ذلك أمر الله. ويجوز أن يكون في موضع رفع على خبر ابتداء محذوف. ويجوز أن يكون في موضع نصب، أي اتبعوا ذلك. « ومن يعظم شعائر الله » الشعائر جمع شعيرة، وهو كل شيء لله تعالى فيه أمر أشعر به وأعلم؛ ومنه شعار القوم في الحرب؛ أي علامتهم التي يتعارفون بها. ومنه إشعار البدنة وهو الطعن في جانبها الأيمن حتى يسيل الدم فيكون علامة، فهي تسمى شعيرة بمعنى المشعورة. فشعائر الله أعلام دينه لا سيما ما يتعلق بالمناسك. وقال قوم: المراد هنا تسمين البدن والاهتمام بأمرها والمغالاة بها؛ قال ابن عباس ومجاهد وجماعة. وفيه إشارة لطيفة، وذلك أن أصل شراء البدن ربما يحمل على فعل ما لا بد منه، فلا يدل على الإخلاص، فإذا عظمها مع حصول الإجزاء بما دونه فلا يظهر له عمل إلا تعظيم الشرع، وهو من تقوى القلوب. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « فإنها من تقوى القلوب » الضمير في « إنها » عائد على الفعلة التي يتضمنها الكلام، ولو قال فإنه لجاز. وقيل إنها راجعة إلى الشعائر؛ أي فإن تعظيم الشعائر، فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه، فرجعت الكناية إلى الشعائر. « فإنها من تقوى القلوب » قرئ « القلوب » بالرفع على أنها فاعلة بالمصدر الذي هو « تقوى » وأضاف التقوى إلى القلوب لأن حقيقة التقوى في القلب؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في صحيح الحديث: ( التقوى هاهنا ) وأشار إلى صدره.

 

قوله تعالى: « لكم فيها منافع » يعني البدن من الركوب والدر والنسل والصوف وغير ذلك، إذا لم يبعثها ربها هديا، فإذا بعثها فهو الأصل المسمى؛ قال ابن عباس. فإذا صارت بدنا هديا فالمنافع فيها أيضا ركوبها عند الحاجة، وشرب لبنها بعد ري فصيلها. وفي الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( رأى رجلا يسوق بدنة فقال: ( اركبها ) فقال: إنها بدنة. فقال: ( اركبها ) قال: إنها بدنة. قال: ( اركبها ويلك ) في الثانية أو الثالثة ) . وروي عن جابر بن عبدالله وسئل عن ركوب الهدي فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا ) . والأجل المسمى على هذا القول نحرها؛ قاله عطاء بن أبي رباح.

ذهب بعض العلماء إلى وجوب ركوب البدنة لقوله عليه الصلاة والسلام: ( اركبها ) . وممن أخذ بظاهره أحمد واسحاق وأهل الظاهر. وروى ابن نافع عن مالك: لا بأس بركوب البدنة ركوبا غير فادح. والمشهور أنه لا يركبها إلا إن اضطر إليها لحديث جابر فإنه مقيد والمقيد يقضي على المطلق. وبنحو ذلك قال الشافعي وأبو حنيفة. ثم إذا ركبها عنده الحاجة نزل؛ قال إسماعيل القاضي. وهو الذي يدل عليه مذهب مالك، وهو خلاف ما ذكره ابن القاسم أنه لا يلزمه النزول، وحجته إباحة النبي صلى الله عليه وسلم له الركوب فجاز له استصحابه. وقوله: ( إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا ) يدل على صحة ما قاله الإمام الشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهما؛ وما حكاه إسماعيل عن مذهب مالك. وقد جاء صريحا أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة وقد جهد، فقال: ( اركبها ) . وقال أبو حنيفة والشافعي: إن نقصها الركوب المباح فعليه قيمة ذلك ويتصدق به.

 

قوله تعالى: « ثم محلها إلى البيت العتيق » يريد أنها تنتهي إلى البيت، وهو الطواف. فقول: « محلها » مأخوذ من إحلال المحرم. والمعنى أن شعائر الحج كلها من الوقوف بعرفة ورمي الجمار والسعي ينتهي إلى طواف الإفاضة بالبيت العتيق. فالبيت على هذا التأويل مراد بنفسه؛ قاله مالك في الموطأ. وقال عطاء: ينتهي إلى مكة. وقال الشافعي: إلى الحرم. وهذا بناء على أن الشعائر هي البدن، ولا وجه لتخصيص الشعائر مع عمومها وإلغاء خصوصية ذكر البيت. والله أعلم.

 

الآية: 34 ( ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين )

 

قوله تعالى: « ولكل أمة جعلنا منسكا » لما ذكر تعالى الذبائح بين أنه لم يخل منها أمة، والأمة القوم المجتمعون على مذهب واحد؛ أي ولكل جماعة مؤمنة جعلنا منسكا. والمنسك الذبح وإراقة الدم؛ قاله مجاهد. يقال: نسك إذا ذبح ينسك نسكا. والذبيحة نسيكة، وجمعها نسك؛ ومنه قوله تعالى: « أو صدقة أو نسك » [ البقرة: 196 ] . والنسك أيضا الطاعة. وقال الأزهري في قوله تعالى: « ولكل أمة جعلنا منسكا » : إنه يدل على موضع النحر في هذا الموضع، أراد مكان نسك. ويقال: منسك ومنسك، لغتان، وقرئ بهما. قرأ الكوفيون إلا عاصما بكسر السين، الباقون بفتحها. وقال الفراء: المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد في خير أو شر. وقيل مناسك الحج لترداد الناس إليها من الوقوف بعرفة ورمي الجمار والسعي. وقال ابن عرفة في قوله « ولكل أمة جعلنا منسكا » : أي مذهبا من طاعة الله تعالى؛ يقال: نسك نسك قومه إذا سلك مذهبهم. وقيل: منسكا عيدا؛ قاله الفراء. وقيل حجا؛ قاله قتادة. والقول الأول أظهر؛ لقوله تعالى: « ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام » ي على ذبح ما رزقهم. فأمر تعالى عند الذبح بذكره وأن يكون الذبح له؛ لأنه رازق ذلك. ثم رجع اللفظ من الخبر عن الأمم إلى إخبار الحاضرين بما معناه: فالإله واحد لجميعكم، فكذلك الأمر في الذبيحة إنما ينبغي أن تخلص له.

 

قوله تعالى: « فله أسلموا » معناه لحقه ولوجهه وإنعامه آمنوا وأسلموا. ويحتمل أن يريد الاستسلام؛ أي له أطيعوا وانقادوا. « وبشر المخبتين » المخبت: المتواضع الخاشع من المؤمنين. والخبت ما انخفض من الأرض؛ أي بشرهم بالثواب الجزيل. قال عمرو بن أوس: المخبتون الذين لا يظلمون، وإذا ظلموا لم ينتصروا. وقال مجاهد فيما روى عنه سفيان عن ابن أبي نجيح: المخبتون المطمئنون بأمر الله عز وجل.

 

الآية: 35 ( الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون )

 

قوله تعالى: « وجلت قلوبهم » أي خافت وحذرت مخالفته. فوصفهم بالخوف والوجل عند ذكره، وذلك لقوة يقينهم ومراعاتهم لربهم، وكأنهم بين يديه، ووصفهم بالصبر وإقامة الصلاة وإدامتها. وروي أن هذه الآية قوله: « وبشر المخبتين » نزلت في أبي بكر وعمر وعلي رضوان الله عليهم. وقرأ الجمهور « الصلاة » بالخفض على الإضافة، وقرأ أبو عمرو « الصلاة » بالنصب على توهم النون، وأن حذفها للتخفيف لطول الاسم. وأنشد سيبويه:

الحافظو عورة العشيرة...

هذه الآية نظير قوله تعالى: « إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون » [ الأنفال: 2 ] ، وقوله تعالى: « الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله » [ الزمر: 23 ] . هذه حالة العارفين بالله، الخائفين من سطوته وعقوبته؛ لا كما يفعله جهال العوام والمبتدعة الطغام من الزعيق والزئير، ومن النهاق الذي يشبه نهاق الحمير، فيقال لمن تعاطى ذلك وزعم أن ذلك وجد وخشوع: إنك لم تبلغ أن تساوي حال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حال أصحابه في المعرفة بالله تعالى والخوف منه والتعظيم لجلاله؛ ومع ذلك فكانت حالهم عند المواعظ الفهم عن الله والبكاء خوفا من الله. وكذلك وصف الله تعالى أحوال أهل المعرفة عند سماع ذكره وتلاوة كتابه، ومن لم يكن كذلك فليس على هديهم ولا على طريقتهم؛ قال الله تعالى: « وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين » [ المائدة: 83 ] . فهذا وصف حالهم وحكاية مقالهم؛ فمن كان مستنا فليستن، ومن تعاطى أحوال المجانين والجنون فهو من أخسهم حالا؛ والجنون فنون. روى الصحيح عن أنس بن مالك أن الناس سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه في المسألة، فخرج ذات يوم فصعد المنبر فقال: ( سلوني لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم ما دمت في مقامي هذا ) فلما سمع ذلك القوم أرموا ورهبوا أن يكون بين [ يدي ] أمر قد حضر. قال أنس: فجعلت ألتفت يمينا وشمالا فإذا كل إنسان لاف رأسه في ثوبه يبكي. وذكر الحديث. وقد مضى القول في هذه المسألة بأشبع من هذا في سورة « الأنفال » والحمد لله.

 

الآية: 36 ( والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون )

 

قوله تعالى: « والبُدْن » وقرأ ابن أبي إسحاق « والبُدُن » لغتان، واحدتها بَدَنَة. كما يقال: ثمرة وثُمُر وثُمْر، وخشبة وخشُب وخشْب. وفي التنزيل « وكان له ثمر » وقرئ « ثمر » لغتان. وسميت بدنة لأنها تبدن، والبدانة السمن. وقيل: إن هذا الاسم خاص بالإبل. وقيل: البدن جمع « بدن » بفتح الباء والدال. ويقال: بدن الرجل ( بضم الدال ) إذا سمن. وبدن ( بتشديدها ) إذا كبر وأسن. وفي الحديث ( إني قد بدنت ) أي كبرت وأسننت. وروي ( بدنت ) وليس له معنى؛ لأنه خلاف صفته صلى الله عليه وسلم، ومعناه كثرة اللحم. يقال: بدن الرجل يبدُن بدنا وبدانة فهو بادن؛ أي ضخم.

 

اختلف العلماء في البدن هل تطلق على غير الإبل من البقر أم لا؛ فقال ابن مسعود وعطاء والشافعي: لا. وقال مالك وأبو حنيفة: نعم. وفائدة الخلاف فيمن نذر بدنة فلم يجد البدنة أو لم يقدر عليها وقدر على البقرة؛ فهل تجزيه أم لا؛ فعلى مذهب الشافعي وعطاء لا تجزيه. وعلى مذهب مالك تجزيه. والصحيح ما ذهب إليه الشافعي وعطاء؛ لقوله عليه السلام في الحديث الصحيح في يوم الجمعة: ( من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ) الحديث. فتفريقه عليه السلام بين البقرة والبدنة يدل على أن البقرة لا يقال عليها بدنة؛ والله أعلم. وأيضا قوله تعالى: « فإذا وجبت جنوبها » يدل على ذلك؛ فإن الوصف خاص بالإبل. والبقر يضجع ويذبح كالغنم؛ على ما يأتي. ودليلنا أن البدنة مأخوذة من البدانة وهو الضخامة، والضخامة توجد فيهما جميعا. وأيضا فإن البقرة في التقرب إلى الله تعالى بإراقة الدم بمنزلة الإبل؛ حتى تجوز البقرة في الضحايا على سبعة كالإبل. وهذا حجة لأبي حنيفة حيث وافقه الشافعي على ذلك، وليس ذلك في مذهبنا. وحكى ابن شجرة أنه يقال في الغنم بدنة، وهو قول شاذ. والبدن هي الإبل التي تهدى إلى الكعبة. والهدي عام في الإبل والبقر والغنم.

 

قوله تعالى: « من شعائر الله » نص في أنها بعض الشعائر. وقوله: « لكم فيها خير » يريد به المنافع التي تقدم ذكرها. والصواب عمومه في خير الدنيا والآخرة. « فاذكروا اسم الله عليها صواف » أي انحروها على اسم الله. و « صواف » أي قد صفت قوائمها. والإبل تنحر قياما معقولة. وأصل هذا الوصف في الخيل؛ يقال: صفن الفرس فهو صافن إذا قام على ثلاثة قوائم وثنى سنبك الرابعة؛ والسنبك طرف الحافر. والبعير إذا أرادوا نحره تعقل إحدى يديه فيقوم على ثلاث قوائم. وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد وزيد بن أسلم وأبو موسى الأشعري « صوافي » أي خوالص لله عز وجل لا يشركون به في التسمية على نحرها أحدا. وعن الحسن أيضا « صواف » بكسر الفاء وتنوينها مخففة، وهي بمعنى التي قبلها، لكن حذفت الياء تخفيفا على غير قياس و « صواف » قراءة الجمهور بفتح الفاء وشدها؛ من صف يصف. وواحد صواف صافة، وواحد صوافي صافية. وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبو جعفر محمد بن علي « صوافن » بالنون جمع صافنة. ولا يكون واحدها صافنا؛ لأن فاعلا لا يجمع على فواعل إلا في حروف مختصة لا يقاس عليها؛ وهي فارس وفوارس، وهالك وهوالك، وخالف وخوالف. والصافنة هي التي قد رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب. ومنه قوله تعالى: « الصافنات الجياد » [ ص: 31 ] . وقال عمرو بن كلثوم:

تركنا الخيل عاكفة عليه مقلدة أعنتها صفونا

ويروي:

تظل جياده نوحا عليه مقلدة أعنتها صفونا

وقال آخر:

ألف الصفون فما يزال كأنه مما يقوم على الثلاث كسيرا

وقال أبو عمرو الجرمي: الصافن عرق في مقدم الرجل، فإذا ضرب على الفرس رفع رجله. وقال الأعشى:

وكل كميت كجذع السحو ق يرنو القناء إذا ما صفن

 

قال ابن وهب: أخبرني ابن أبي ذئب أنه سأل ابن شهاب عن الصواف فقال: تقيدها ثم تصفها. وقال لي مالك بن أنس مثله. وكافة العلماء على استحباب ذلك؛ إلا أبا حنيفة والثوري فإنهما أجازا أن تنحر باركة وقياما. وشذ عطاء فخالف واستحب نحرها باركة. والصحيح ما عليه الجمهور؛ لقوله تعالى: « فإذا وجبت جنوبها » معناه سقطت بعد نحرها؛ ومنه وجبت الشمس. وفي صحيح مسلم عن زياد بن جبير أن ابن عمر أتى على رجل وهو ينحر بدنته باركة فقال: ابعثها قائمة مقيدة سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم. وروى أبو داود عن أبي الزبير عن جابر، وأخبرني عبدالرحمن بن سابط أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها.

قال مالك: فإن ضعف إنسان أو تخوف أن تنفلت بدنته فلا أرى بأسا أن ينحرها معقولة. والاختيار أن تنحر الإبل قائمة غير معقولة؛ إلا أن يتعذر ذلك فتعقل ولا تعرقب إلا أن يخاف أن يضعف عنها ولا يقوى عليها. ونحرها باركة أفضل من أن تعرقب. وكان ابن عمر يأخذ الحربة بيده في عنفوان أيده فينحرها في صدرها ويخرجها على سنامها، فلما أسن كان ينحرها باركة لضعفه، ويمسك معه الحربة رجل آخر، وآخر بخطامها. وتضجع البقر والغنم.

ولا يجوز النحر قبل الفجر من يوم النحر بإجماع. وكذلك الأضحية لا تجوز قبل الفجر. فإذا طلع الفجر حل النحر بمنى، وليس عليهم انتظار نحر إمامهم؛ بخلاف الأضحية في سائر البلاد. والمنحر منى لكل حاج، ومكة لكل معتمر. ولو نحر الحاج بمكة والمعتمر بمنى لم يحرج واحد منهما، إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « فإذا وجبت جنوبها » يقال: وجبت الشمس إذا سقطت، ووجب الحائط إذا سقط. قال قيس بن الخطيم:

أطاعت بنو عوف أميرا نهاهم عن السلم حتى كان أول واجب

وقال أوس بن حجر:

ألم تكسف الشمس والبدر وال واكب للجبل الواجب

فقوله تعالى: « فإذا وجبت جنوبها » يريد إذا سقطت على جنوبها ميتة. كنى عن الموت بالسقوط على الجنب كما كنى عن النحر والذبح بقوله تعالى: « فاذكروا اسم الله عليها » والكنايات في أكثر المواضع أبلغ من التصريح. قال الشاعر:

فتركته جزر السباع ينشنه ما بين قلة رأسه والمعصم

وقال عنترة:

وضربت قرني كبشها فتجدلا

أي سقط مقتولا إلى الجدالة، وهي الأرض؛ ومثله كثير. والوجوب للجنب بعد النحر علامة نزف الدم وخروج الروح منها، وهو وقت الأكل، أي وقت قرب الأكل؛ لأنها إنما تبتدأ بالسلخ وقطع شيء من الذبيحة ثم يطبخ. ولا تسلخ حتى تبرد لأن ذلك من باب التعذيب؛ ولهذا قال عمر رضي الله عنه: لا تعجلوا الأنفس أن تزهق.

 

قوله تعالى: « فكلوا منها » أمر معناه الندب. وكل العلماء يستحب أن يأكل الإنسان من هدية وفيه أجر وامتثال؛ إذا كان أهل الجاهلية لا يأكلون من هديهم كما تقدم. وقال أبو العباس بن شريح: الأكل والإطعام مستحبان، وله الاقتصار على أيهما شاء. وقال الشافعي: الأكل مستحب والإطعام واجب، فإن أطعم جميعها أجزاه وإن أكل جميعها لم يجزه، وهذا فيما كان تطوعا؛ فأما واجبات الدماء فلا يجوز أن يأكل منها شيئا حسبما تقدم بيانه. « وأطعموا القانع والمعتر » قال مجاهد وإبراهيم والطبري: قوله « وأطعموا » أمر إباحة. و « القانع » السائل. يقال: قنع الرجل يقنع قنوعا إذا سأل، بفتح النون في الماضي وكسرها في المستقبل، يقنع قناعة فهو قنع، إذا تعفف واستغنى ببلغته ولم يسأل؛ مثل حمد يحمد، قناعة وقنعا وقنعانا؛ قاله الخليل. ومن الأول قول الشماخ:

لمال المرء يصلحه فيغني مفاقره أعف من القنوع

وقال ابن السكيت: من العرب من ذكر القنوع بمعنى القناعة، وهي الرضا والتعفف وترك المسألة. وروي عن أبى رجاء أنه قرأ « وأطعموا القنع » ومعنى هذا مخالف للأول. يقال: قنع الرجل فهو قنع إذا رضي. وأما المعتر فهو الذي يطيف بك يطلب ما عندك، سائلا كان أو ساكنا. وقال محمد بن كعب القرظي ومجاهد وإبراهيم والكلبي والحسن بن أبي الحسن: المعتر المعترض من غير سؤال. قال زهير:

على مكثريهم رزق من يعتريهم وعند المقلين السماحة والبذل

وقال مالك: أحسن ما سمعت أن القانع الفقير، والعتر الزائر. وروي عن الحسن أنه قرأ « والمعتري » ومعناه كمعنى المعتر. يقال: اعتره واعتراه وعره وعراه إذا تعرض لما عنده أو طلبه؛ ذكره النحاس.

 

الآية: 37 ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين )

 

قوله تعالى: « لن ينال الله لحومها » قال ابن عباس: ( كان أهل الجاهلية يضرجون البيت بدماء البدن، فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك ) فنزلت الآية. والنيل لا يتعلق بالبارئ تعالى، ولكنه عبر عنه تعبيرا مجازيا عن القبول، المعنى: لن يصل إليه. وقال ابن عباس: لن يصعد إليه. ابن عيسى: لن يقبل لحومها ولا دماءها، ولكن يصل إليه التقوى منكم؛ أي ما أريد به وجهه، فذلك الذي يقبله ويرفع إليه ويسمعه ويثيب عليه؛ ومنه الحديث ( إنما الأعمال بالنيات ) . والقراءة « لن ينال الله » و « يناله » بالياء فيهما. وعن يعقوب بالتاء فيهما، نظرا إلى اللحوم.

 

قوله تعالى: « كذلك سخرها لكم » من سبحانه علينا بتذليلها وتمكيننا من تصريفها وهي أعظم منا أبدانا وأقوى منا أعضاء، ذلك ليعلم العبد أن الأمور ليست على ما تظهر إلى العبد من التدبير، وإنما هي بحسب ما يريدها العزيز القدير، فيغلب الصغير الكبير ليعلم الخلق أن الغالب هو الله الواحد القهار فوق عباده. « لتكبروا الله على ما هداكم » ذكر سبحانه ذكر اسمه عليها من الآية قبلها فقال عز من قائل: « فاذكروا اسم الله عليها » ، وذكر هنا التكبير. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يجمع بينهما إذا نحر هديه فيقول: باسم الله والله أكبر؛ وهذا من فقهه رضي الله عنه. وفي الصحيح عن أنس قال: ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين. قال: ورأيته يذبحها بيده، ورأيته واضعا قدمه على صفاحهما، وسمى وكبر.

وقد اختلف العلماء في هذا؛ فقال أبو ثور: التسمية متعينة كالتكبير في الصلاة؛ وكافة العلماء على استحباب ذلك. فلو قال ذكرا أخر فيه اسم من أسماء الله تعالى وأراد به التسمية جاز. وكذلك لو قال: الله أكبر فقط، أولا إله إلا الله؛ قال ابن حبيب. فلو لم يرد التسمية لم يجز عن التسمية ولا تؤكل؛ قال الشافعي ومحمد بن الحسن. وكره كافة العلماء من أصحابنا وغيرهم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند التسمية في الذبح أو ذكره، وقالوا: لا يذكر هنا إلا الله وحده. وأجاز الشافعي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أو ذكره، وقالوا: لا يذكر هنا إلا الله وحده. وأجاز الشافعي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند الذبح.

ذهب الجمهور إلى أن قول المضحي: اللهم تقبل مني؛ جائز. وكره ذلك أبو حنيفة؛ والحجة عليه ما رواه الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، وفيه: ثم قال ( باسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد ) ثم ضحى به. واستحب بعضهم أن يقول ذلك بنص الآية « ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم » [ البقرة: 127 ] . وكره مالك قولهم: اللهم منك وإليك، وقال: هذه بدعة. وأجاز ذلك ابن حبيب من أصحابنا والحسن، والحجة لهما ما رواه أبو داود عن جابر بن عبدالله قال: ذبح النبي صلى الله عليه وسلم يوم الذبح كبشين أقرنين موجوءين أملحين، فلما وجههما قال: ( إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا - وقرأ إلى قوله: وأنا أول المسلمين - اللهم منك ولك عن محمد وأمته باسم الله والله أكبر ) ثم ذبح. فلعل مالكا لم يبلغه هذا الخبر، أو لم يصح عنده، أو رأى العمل يخالفه. وعلى هذا يدل قوله: إنه بدعة. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « وبشر المحسنين » روي أنها نزلت في الخلفاء الأربعة؛ حسبما تقدم في الآية التي قبلها. فأما ظاهر اللفظ فيقتضي العموم في كل محسن.

 

الآية: 38 ( إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور )

 

روي أنها نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة وآذاهم الكفار وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة؛ أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار ويغتال ويغدر ويحتال؛ فنزلت هذه الآية إلى قوله: « كفور » . فوعد فيها سبحانه بالمدافعة ونهى أفصح نهي عن الخيانة والغدر. وقد مضى في « الأنفال » التشديد في الغدر؛ وأنه ( ينصب للغادر لواء عند استه بقدر غدرته يقال هذه غدرة فلان ) . وقيل: المعنى يدفع عن المؤمنين بأن يديم توفيقهم حتى يتمكن الإيمان من قلوبهم، فلا تقدر الكفار على إمالتهم عن دينهم؛ وإن جرى إكراه فيعصمهم حتى لا يرتدوا بقلوبهم. وقيل: يدفع عن المؤمنين بإعلائهم بالحجة. ثم قتل كافر مؤمنا نادر، وإن فيدفع الله عن ذلك المؤمن بأن قبضه إلى رحمته. وقرأ نافع « يدافع » « ولولا دفاع » . وقرأ أبو عمرو وابن كثير « يدفع » « ولولا دفع » . وقرأ عاصم وحمزة والكسائي « يدافع » « ولولا دفع الله » . ويدافع بمعنى يدفع؛ مثل عاقبت اللص، وعافاه الله؛ والمصدر دفعا. وحكى الزهراوي أن « دفاعا » مصدر دفع؛ كحسب حسابا.

 

الآية: 39 ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير )

 

قوله تعالى: « أذن للذين يقاتلون » قيل: هذا بيان قوله « إن الله يدافع عن الذين آمنوا » أي يدفع عنهم غوائل الكفار بأن يبيح لهم القتال وينصرهم؛ وفيه إضمار، أي أذن للذين يصلحون للقتال في القتال؛ فحذف لدلالة الكلام على المحذوف. وقال الضحاك: استأذن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الكفار إذ آذوهم بمكة؛ فأنزل الله « إن الله لا يحب كل خوان كفور » فلما هاجر نزلت « أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا » . وهذا ناسخ لكل ما في القرآن من إعراض وترك صفح. وهي أول آية نزلت في القتال. قال ابن عباس وابن جبير: نزلت عند هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. وروى النسائي والترمذي عن ابن عباس قال: ( لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم ليهلكن؛ فأنزل الله تعالى: « أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير » فقال أبو بكر: لقد علمت أنه سيكون قتال ) . فقال: هذا حديث حسن. وقد روى غير واحد عن سفيان عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير مرسلا، ليس فيه: عن ابن عباس.

 

في هذه الآية دليل على أن الإباحة من الشرع، خلافا للمعتزلة؛ لأن قوله: « أذن » معناه أبيح؛ وهو لفظ موضوع في اللغة لإباحة كل ممنوع. وقد تقدم هذا المعنى في « البقرة » وغير موضع. وقرئ « أذن » بفتح الهمزة؛ أي أذن الله. « يقاتلون » بكسر التاء أي يقاتلون عدوهم. وقرئ « يقاتلون » بفتح التاء؛ أي يقاتلهم المشركون وهم المؤمنون. ولهذا قال: « بأنهم ظلموا » أي أخرجوا من ديارهم.

 

الآية: 40 ( الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز )

 

قوله تعالى: « الذين أخرجوا من ديارهم » هذا أحد ما ظلموا به؛ وإنما أخرجوا لقولهم: ربنا الله وحده. فقوله: « إلا أن يقولوا ربنا الله » استثناء منقطع؛ أي لكن لقولهم ربنا الله؛ قال سيبويه. وقال الفراء يجوز أن تكون في موضع خفض، يقدرها مردودة على الباء؛ وهو قول أبي إسحاق الزجاج، والمعنى عنده: الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا بأن يقولوا ربنا الله؛ أي أخرجوا بتوحيدهم، أخرجهم أهل الأوثان. و « الذين أخرجوا » في موضع خفض بدلا من قوله: « للذين يقاتلون » .

 

قال ابن العربي: قال علماؤنا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بيعة العقبة لم يؤذن له في الحرب ولم تحل له الدماء؛ إنما يؤمر بالدعاء إلى الله والصبر على الأذى والصفح عن الجاهل مدة عشرة أعوام؛ لإقامة حجة الله تعالى عليهم، ووفاء بوعده الذي امتن به بفضله في قوله: « وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا » [ الإسراء: 15 ] . فاستمر الناس في الطغيان وما استدلوا بواضح البرهان، وكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من قومه من المهاجرين حتى فتنوهم عن دينهم ونفوهم عن بلادهم؛ فمنهم من فر إلى أرض الحبشة، ومنهم من خرج إلى المدينة، ومنهم من صبر على الأذى. فلما عتت قريش على الله تعالى وردوا أمره وكذبوا نبيه عليه السلام، وعذبوا من آمن به ووحده وعبده، وصدق نبيه عليه السلام واعتصم بدينه، أذن الله لرسوله في القتال والامتناع والانتصار ممن ظلمهم، وأنزل « أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا - إلى قوله - الأمور » .

في هذه الآية دليل على أن نسبة الفعل الموجود من الملجأ المكره إلى الذي ألجأه وأكرهه؛ لأن الله تعالى نسب الإخراج إلى الكفار، لأن الكلام في معنى تقدير الذنب وإلزامه. وهذه الآية مثل قوله تعالى: « إذ أخرجه الذين كفروا » [ التوبة: 40 ] والكلام فيهما واحد؛ وقد تقدم في « التوبة » والحمد لله.

 

قوله تعالى: « ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض » أي لولا ما شرعه الله تعالى للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء، لاستولى أهل الشرك وعطلوا ما بينته أرباب الديانات من مواضع العبادات، ولكنه دفع بأن أوجب القتال ليتفرغ أهل الدين للعبادة. فالجهاد أمر متقدم في الأمم، وبه صلحت الشرائع واجتمعت المتعبدات؛ فكأنه قال: أذن في القتال، فليقاتل المؤمنون. ثم قوي هذا الأمر في القتال بقوله: « ولولا دفع الله الناس » الآية؛ أي لولا القتال والجهاد لتغلب على الحق في كل أمة. فمن استبشع من النصارى والصابئين الجهاد فهو مناقض لمذهبه؛ إذ لولا القتال لما بقي الدين الذي يذب عنه. وأيضا هذه المواضع التي اتخذت قبل تحريفهم وتبديلهم وقبل نسخ تلك الملل بالإسلام إنما ذكرت لهذا المعنى؛ أي لولا هذا الدفع لهدم في زمن موسى الكنائس، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع، وفي زمن محمد عليه السلام المساجد. « لهدمت » من هدمت البناء أي نقضته فانهدم. قال ابن عطية: هذا أصوب ما قيل في تأويل الآية. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: ولولا دفع الله بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الكفار عن التابعين فمن بعدهم. وهذا وإن كان فيه دفع قوم بقوم إلا أن معنى القتال أليق؛ كما تقدم. وقال مجاهد لولا دفع الله ظلم قوم بشهادة العدول. وقالت فرقة: ولولا دفع الله ظلم الظلمة بعدل الولاة. وقال أبو الدرداء: لولا أن الله عز وجل يدفع بمن في المساجد عمن ليس في المساجد، وبمن يغزو عمن لا يغزو، لأتاهم العذاب. وقالت فرقة: ولولا دفع الله العذاب بدعاء الفضلاء والأخيار إلى غير ذلك من التفصيل المفسر لمعنى الآية؛ وذلك أن الآية ولا بد تقتضي مدفوعا من الناس ومدفوعا عنه، فتأمله.

 

قال ابن خويز منداد: تضمنت هذه الآية المنع من هدم كنائس أهل الذمة وبيعهم وبيوت نيرانهم، ولا يتركون أن يحدثوا ما لم يكن، ولا يزيدون في البنيان لا سعة ولا ارتفاعا، ولا ينبغي للمسلمين أن يدخلوها ولا يصلوا فيها، ومتى أحدثوا زيادة وجب نقضها. وينقض ما وجد في بلاد الحرب من البيع والكنائس. وإنما لم ينقض ما في بلاد الإسلام لأهل الذمة؛ لأنها جرت مجرى بيوتهم وأموالهم التي عاهدوا عليها في الصيانة. ولا يجوز أن يمكنوا من الزيادة لأن في ذلك إظهار أسباب الكفر. وجائز أن ينقض المسجد ليعاد بنيانه؛ وقد فعل ذلك عثمان رضي الله عنه بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم. قرئ « لهدمت » بتخفيف الدال وتشديدها.

 

قوله تعالى: « صوامع وبيع » جمع صومعة، وزنها فوعلة، وهي بناء مرتفع حديد الأعلى؛ يقال: صمع الثريدة أي رفع رأسها وحدده. ورجل أصمع القلب أي حاد الفطنة. والأصمع من الرجال الحديد القول. وقيل: هو الصغير الأذن من الناس وغيرهم. وكانت قبل الإسلام مختصة برهبان النصارى وبعباد الصابئين - قال قتادة - ثم استعمل في مئذنة المسلمين. والبيع. جمع بيعة، وهي كنيسة النصارى. وقال الطبري: قيل هي كنائس اليهود؛ ثم أدخل عن مجاهد ما لا يقتضي ذلك.

 

قوله تعالى: « وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا » قال الزجاج والحسن: هي كنائس اليهود؛ وهي بالعبرانية صلوتا. وقال أبو عبيدة: الصلوات بيوت تبنى للنصارى في البراري يصلون فيها في أسفارهم، تسمى صلوتا فعربت فقيل صلوات. وفي « صلوات » تسع قراءات ذكرها ابن عطية: صلوات، صلوات، صلوات، صلولي على وزن فعولي، صلوب بالباء بواحدة جمع صليب، صلوث بالثاء المثلثة على وزن فعول، صلوات بضم الصاد واللام وألف بعد الواو، صلوثا بضم الصاد واللام وقصر الألف بعد الثاء المثلثة، [ صلويثا بكسر الصاد وإسكان اللام وواو مكسورة بعدها ياء بعدها ثاء منقوطة بثلاث بعدها ألف ] . وذكر النحاس: وروي عن عاصم الجحدري أنه قرأ « وصلوب » . وروي عن الضحاك « وصلوث » بالثاء معجمة بثلاث؛ ولا أدري أفتح الصاد أم ضمها.

قلت: فعلى هذا تجيء هنا عشر قراءات. وقال ابن عباس: ( الصلوات الكنائس ) . أبو العالية: الصلوات مساجد الصابئين. ابن زيد: هي صلوات المسلمين تنقطع إذا دخل عليهم العدو وتهدم المساجد؛ فعلى هذا استعير الهدم للصلوات من حيث تعطل، أو أراد موضع صلوات فحذف المضاف. وعلى قول ابن عباس والزجاج وغيرهم يكون الهدم حقيقة. وقال الحسن: هدم الصلوات تركها، قطرب: هي الصوامع الصغار ولم يسمع لها واحد. وذهب خصيف إلى أن القصد بهذه الأسماء تقسيم متعبدات الأمم. فالصوامع للرهبان، والبيع للنصارى، والصلوات لليهود، والمساجد للمسلمين. قال ابن عطية: والأظهر أنها قصد بها المبالغة في ذكر المتعبدات. وهذه الأسماء تشترك الأمم في مسمياتها، إلا البيعة فإنها مختصة بالنصارى في لغة العرب. ومعاني هذه الأسماء هي في الأمم التي لها كتاب على قديم الدهر. ولم يذكر في هذه الآية المجوس ولا أهل الإشراك؛ لأن هؤلاء ليس لهم ما يجب حمايته، ولا يوجد ذكر الله إلا عند أهل الشرائع. وقال النحاس: « يذكر فيها اسم الله » الذي يجب في كلام العرب على حقيقة النظر أن يكون « يذكر فيها اسم الله » عائدا على المساجد لا على غيرها؛ لأن الضمير يليها. ويجوز أن يعود على « صوامع » وما بعدها؛ ويكون المعنى وقت شرائعهم وإقامتهم الحق. فإن قيل: لم قدمت مساجد أهل الذمة ومصلياتهم على مساجد المسلمين؟ قيل: لأنها أقدم بناء. وقيل لقربها من الهدم وقرب المساجد من الذكر؛ كما أخر السابق في قوله: « فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات » [ فاطر: 32 ] .

 

قوله تعالى: « ولينصرن الله من ينصره » أي من ينصر دينه ونبيه. « إن الله لقوي » أي قادر. قال الخطابي: القوي يكون بمعنى القادر، ومن قوي على شيء فقد قدر عليه. « عزيز » أي جليل شريف؛ قال الزجاج. وقيل الممتنع الذي لا يرام؛ وقد بيناهما في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى.

 

الآية: 41 ( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور )

 

قال الزجاج: « الذين » في موضع نصب ردا على « من » ، يعني في قوله: « ولينصرن الله من ينصره » . وقال غيره: « الذين » في موضع خفض ردا على قوله: « أذن للذين يقاتلون » ويكون « الذين إن مكناهم في الأرض » أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن في الأرض غيرهم. وقال ابن عباس: ( المراد المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان ) . وقال قتادة: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقال عكرمة: هم أهل الصلوات الخمس. وقال الحسن وأبو العالية: هم هذه الأمة إذا فتح الله عليهم أقاموا الصلاة. وقال ابن أبي نجيح: يعني الولاة. وقال الضحاك: هو شرط شرطه الله عز وجل على من أتاه الملك؛ وهذا حسن. قال سهل بن عبدالله: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على السلطان وعلى العلماء الذين يأتونه. وليس على الناس أن يأمروا السلطان؛ لأن ذلك لازم له واجب عليه، ولا يأمروا العلماء فإن الحجة قد وجبت عليهم.

 

الآيات: 42 - 44 ( وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود، وقوم إبراهيم وقوم لوط، وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير )

 

هذا تسليه للنبي صلى الله عليه وسلم وتعزية؛ أي كان قبلك أنبياء كذبوا فصبروا إلى أن أهلك الله المكذبين، فاقتد بهم واصبر. « وكذب موسى » أي كذبه فرعون وقومه. فأما بنو إسرائيل فما كذبوه، فلهذا لم يعطفه على ما قبله فيكون وقوم موسى. « فأمليت للكافرين » أي أخرت عنهم العقوبة. « ثم أخذتهم » فعاقبتهم. « فكيف كان نكير » استفهام بمعنى التغيير؛ أي فانظر كيف كان تغييري ما كانوا فيه من النعم بالعذاب والهلاك، فكذلك أفعل بالمكذبين من قريش. قال الجوهري: النكير والإنكار تغيير المنكر، والمنكر واحد المناكير.

 

الآية: 45 ( فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد )

 

قوله تعالى: « فكأين من قرية أهلكناها » أي أهلكنا أهلها. وقد مضى في « آل عمران » الكلام في كأين. « وهي ظالمة » أي بالكفر. « فهي خاوية على عروشها » تقدم في الكهف. « وبئر معطلة وقصر مشيد » قال الزجاج: « وبئر معطلة » معطوف على « من قرية » أي ومن أهل قرية ومن أهل بئر. والفراء يذهب إلى أن « وبئر » معطوف على « عروشها » . وقال الأصمعي: سألت نافع بن أبي نعيم أيهمز البئر والذئب؟ فقال: إن كانت العرب تهمزهما فاهمزهما. وأكثر الرواة عن نافع بهمزهما؛ إلا ورشا فإن روايته عنه بغير همز فيهما، والأصل الهمز. ومعنى « معطلة » متروكة؛ قاله الضحاك. وقيل: خالية من أهلها لهلاكهم. وقيل: غائرة الماء. وقيل: معطلة من دلائها وأرشيتها؛ والمعنى متقارب. « وقصر مشيد » قال قتادة والضحاك ومقاتل: رفيع طويل. قال عدي بن زيد:

شاده مرمرا وجلله كلـ ـسا فللطير في ذراه وكور

أي رفعه. وقال سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومجاهد: مجصص؛ من الشيد وهو الجص. قال الراجز:

لا تحسبني وإن كنت امرأ غمرا كحية الماء بين الطين والشيد

وقال امرؤ القيس:

ولا أطما إلا مشيدا بجندل

وقال ابن عباس: ( « مشيد » أي حصين ) ؛ وقال الكلبي. وهو مفعل بمعنى مفعول كمبيع بمعنى مبيوع. وقال الجوهري: والمشيد المعمول بالشيد. والشيد ( بالكسر ) : كل شيء طليت به الحائط من جص أو بلاط، وبالفتح المصدر. تقول: شاده يشيده شيدا جصصه. والمشيد ( بالتشديد ) المطول. وقال الكسائي: « المشيد » للواحد، من قوله تعالى: « وقصر مشيد » والمشيد للجمع، من قوله تعالى: « في بروج مشيدة » . [ النساء: 78 ] . وفي الكلام مضمر محذوف تقديره: وقصر مشيد مثلها معطل. ويقال: إن هذه البئر والقصر بحضرموت معروفان، فالقصر مشرف على قلة جبل لا يرتقى إليه بحال، والبئر في سفحه لا تقر الريح شيئا سقط فيه إلا أخرجته. وأصحاب القصور ملوك الحضر، وأصحاب الآبار ملوك البوادي؛ أي فأهلكنا هؤلاء وهؤلاء. وذكر الضحاك وغيره فيما ذكر الثعلبي وأبو بكر محمد بن الحسن المقرئ وغيرهما أن البئر الرس، وكانت بعدن باليمن بحضرموت، في بلد يقال له حضور، نزل بها أربعة آلاف ممن آمن بصالح، ونجوا من العذاب ومعهم صالح، فمات صالح فسمي المكان حضرموت؛ لأن صالحا لما حضره مات فبنوا حضور وقعدوا على هذه البئر، وأمروا عليهم رجلا يقال له العلس بن جلاس بن سويد؛ فيما ذكر الغزنوي. الثعلبي: جلهس بن جلاس. وكان حسن السيرة فيهم عاملا عليهم، وجعلوا وزيره سنحاريب بن سوادة، فأقاموا دهرا وتناسلوا حتى كثروا، وكانت البئر تسقي المدينة كلها وباديتها وجميع ما فيها من الدواب والغنم والبقر وغير ذلك؛ لأنها كانت لها بكرات كثيرة منصوبة عليها، ورجال كثيرون موكلون بها، وأبازن ( بالنون ) من رخام وهي شبه الحياض كثيرة تملأ للناس، وأخر للدواب، وأخر للبقر، وأخر للغنم. والقوام يسقون عليها بالليل والنهار يتداولون، ولم يكن لهم ماء غيرها. وطال عمر الملك الذي أمروه، فلما جاءه الموت طلي بدهن لتبقى صورته لا تتغير، وكذلك كانوا يفعلون إذا مات منهم الميت وكان ممن يكرم عليهم. فلما مات شق ذلك عليهم ورأوا أن أمرهم قد فسد، وضجوا جميعا بالبكاء، واغتنمها الشيطان منهم فدخل في جثة الملك بعد موته بأيام كثيرة، فكلمهم وقال: إني لم أمت ولكن تغيبت عنكم حتى أرى صنيعكم؛ ففرحوا أشد الفرح وأمر خاصته أن يضربوا له حجابا بينه وبينهم ويكلمهم من ورائه لئلا يعرف الموت في صورته. فنصبوا صنما من وراء الحجاب لا يأكل ولا يشرب. وأخبرهم أنه لا يموت أبدا وأنه إلههم؛ فذلك كله يتكلم به الشيطان على لسانه، فصدق كثير منهم وارتاب بعضهم، وكان المؤمن المكذب منهم أقل من المصدق له، وكلما تكلم ناصح لهم زجر وقهر. فأصفقوا على عبادته، فبعث الله إليهم نبيا كان الوحي ينزل عليه في النوم دون اليقظة، كان اسمه حنظلة بن صفوان، فأعلمهم أن الصورة صنم لا روح له، وأن الشيطان قد أضلهم، وأن الله لا يتمثل بالخلق، وأن الملك لا يجوز أن يكون شريكا لله، ووعظهم ونصحهم وحذرهم سطوة ربهم ونقمته؛ فآذوه وعادوه وهو يتعهدهم بالموعظة ولا يغبهم بالنصيحة، حتى قتلوه في السوق وطرحوه في بئر؛ فعند ذلك أصابتهم النقمة، فباتوا شباعا رواء من الماء وأصبحوا والبئر قد غار ماؤها وتعطل رشاؤها، فصاحوا بأجمعهم وضج النساء والولدان، وضجت البهائم عطشا؛ حتى عمهم الموت وشملهم الهلاك، وخلفتهم في أرضهم السباع، وفي منازلهم الثعالب والضباع، وتبدلت جناتهم وأموالهم بالسدر وشوك العضاه والقتاد، فلا يسمع فيها إلا عزيف الجن وزئير الأسد، نعوذ بالله من سطواته؛ ومن الإصرار على ما يوجب نقماته.

قال السهيلي. وأما القصر المشيد فقصر بناه شداد بن عامر بن إرم، لم يبن في الأرض مثله - فيما ذكروا وزعموا - وحاله أيضا كحال هذه البئر المذكورة في إيحاشه بعد الأنيس، وإقفاره بعد العمران، وإن أحدا لا يستطيع أن يدنو منه على أميال؛ لما يسمع فيه من عزيف الجن والأصوات المنكرة بعد النعيم والعيش الرغد وبهاء الملك وانتظام الأهل كالسلك فبادروا وما عدوا؛ فذكرهم الله تعالى في هذه الآية موعظة وعبرة وتذكرة، وذكرا وتحذيرا من مغبة المعصية وسوء عاقبة المخالفة؛ نعوذ بالله من ذلك ونستجير به من سوء المآل. وقيل: إن الذي أهلكهم بختنصر على ما تقدم في سورة « الأنبياء » في قوله: « وكم قصمنا من قرية » [ الأنبياء: 11 ] . فتعطلت بئرهم وخربت قصورهم.

 

الآية: 46 ( أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور )

 

قوله تعالى: « أفلم يسيروا في الأرض » يعني كفار مكة فيشاهدوا هذه القرى فيتعظوا، ويحذروا عقاب الله أن ينزل بهم كما نزل بمن قبلهم. « فتكون لهم قلوب يعقلون بها » أضاف العقل إلى القلب لأنه محله كما أن السمع محله الأذن. وقد قيل: إن العقل محله الدماغ؛ وروي عن أبي حنيفة؛ وما أراها عنه صحيحة. « فإنها لا تعمى الأبصار » قال الفراء: الهاء عماد، ويجوز أن يقال فإنه، وهي قراءة عبدالله بن مسعود، والمعنى واحد، التذكير على الخبر، والتأنيث على الأبصار أو القصة؛ أي فإن الأبصار لا تعمى، أو فإن القصة. « لا تعمى الأبصار » أي أبصار العيون ثابتة لهم. « ولكن تعمى القلوب التي في الصدور » أي عن درك الحق والاعتبار. وقال قتادة: البصر الناظر جعل بلغة ومنفعة، والبصر النافع في القلب. وقال مجاهد: لكل عين أربع أعين؛ يعني لكل إنسان أربع أعين: عينان في رأسه لدنياه، وعينان في قلبه لآخرته؛ فإن عميت عينا رأسه وأبصرت. عينا قلبه فلم يضره عماه شيئا، وإن أبصرت عينا رأسه وعميت عينا قلبه فلم ينفعه نظره شيئا. وقال قتادة وابن جبير: نزلت هذه الآية في ابن أم مكتوم الأعمى. قال ابن عباس ومقاتل: ( لما نزل « ومن كان في هذه أعمى » [ الإسراء: 72 ] قال ابن أم مكتوم: يا رسول الله، فأنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى؟ فنزلت « فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور » . أي من كان في هذه أعمى بقلبه عن الإسلام فهو في الآخرة في النار ) .

 

الآية: 47 ( ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون )

 

قوله تعالى: « ويستعجلونك بالعذاب » نزلت في النضر بن الحارث، وهو قوله: « فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين » [ الأعراف: 70 ] . وقيل: نزلت في أبي جهل بن هشام، وهو قوله: « اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك » [ الأنفال: 32 ] . « ولن يخلف الله وعده » أي في إنزال العذاب. قال الزجاج: استعجلوا العذاب فأعملهم الله أنه لا يفوته شيء؛ وقد نزل بهم في الدنيا يوم بدر.

 

قوله تعالى: « وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون » قال ابن عباس ومجاهد: ( يعني من الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض ) . عكرمة: يعني من أيام الآخرة؛ أعلمهم الله إذ استعجلوه بالعذاب في أيام قصيرة أنه يأتيهم به في أيام طويلة. قال الفراء: هذا وعيد لهم بامتداد عذابهم في الآخرة؛ أي يوم من أيام عذابهم في الآخرة ألف سنة. وقيل: المعنى وإن يوما في الخوف والشدة في الآخرة كألف سنة من سني الدنيا فيها خوف وشدة؛ وكذلك يوم النعيم قياسا. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي « مما يعدون » بالياء المثناة تحت، واختاره أبو عبيد لقوله: « ويستعجلونك » . والباقون بالتاء على الخطاب، واختاره أبو حاتم.

 

الآية: 48 ( وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير )

 

قوله تعالى: « وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة » أي أمهلتها مع عتوها. « ثم أخذتها » أي بالعذاب. « وإلي المصير » .

 

الآيات: 49 - 51 ( قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم، والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم )

 

قوله تعالى: « قل يا أيها الناس » يعني أهل مكة. « إنما أنا لكم نذير » أي منذر مخوف. وقد تقدم في البقرة الإنذار في أولها. « مبين » أي أبين لكم ما تحتاجون إليه من أمر دينكم. « فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم » يعني الجنة. « والذين سعوا في آياتنا » أي في إبطال آياتنا. « معاجزين » أي مغالبين مشاقين؛ قال ابن عباس. ( الفراء: معاندين ) . وقال عبدالله ابن الزبير: مثبطين عن الإسلام. وقال الأخفش: معاندين مسابقين. الزجاج: أي ظانين أنهم يعجزوننا لأنهم ظنوا أن لا بعث، وظنوا أن الله لا يقدر عليهم؛ وقاله قتادة. وكذلك معنى قراءة ابن كثير وأبي عمرو « معجزين » بلا ألف مشددا. ويجوز أن يكون معناه أنهم يعجزون المؤمنين في الإيمان بالنبي عليه السلام وبالآيات؛ قاله السدي. وقيل: أي ينسبون من اتبع محمدا صلى الله عليه وسلم إلى العجز؛ كقولهم: جهلته وفسقته.

 

الآية: 52 ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم )

 

قوله تعالى: « تمنى » أي قرأ وتلا. و « ألقى الشيطان في أمته » أي قراءته وتلاوته. وقد تقدم في البقرة. قال ابن عطية: وجاء عن ابن عباس أنه كان يقرأ « وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث » ذكره مسلمة بن القاسم بن عبدالله، ورواه سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس. قال مسلمة: فوجدنا المحدثين معتصمين بالنبوة - على قراءة ابن عباس - لأنهم تكلموا بأمور عالية من أنباء الغيب خطرات، ونطقوا بالحكمة الباطنة فأصابوا فيما تكلموا وعصموا فيما نطقوا؛ كعمر بن الخطاب في قصة سارية، وما تكلم به من البراهين العالية.

قلت: وقد ذكر هذا الخبر أبو بكر الأنباري قي كتاب الرد له، وقد حدثني أبي رحمه الله حدثنا علي بن حرب حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ « وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث » قال أبو بكر: فهذا حديث لا يؤخذ به على أن ذلك قرآن. والمحدث هو الذي يوحي إليه في نومه؛ لأن رؤيا الأنبياء وحي.

 

قال العلماء: إن هذه الآية مشكلة من جهتين: إحداهما: أن قوما يرون أن الأنبياء صلوات الله عليهم فيهم مرسلون وفيهم غير مرسلين. وغيرهم يذهب إلى أنه لا يجوز أن يقال نبي حتى يكون مرسلا. والدليل على صحة هذا قوله تعالى: « وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي » فأوجب للنبي صلى الله عليه وسلم الرسالة. وأن معنى « نبي » أنبأ عن الله عز وجل، ومعنى أنبأ عن الله عز وجل الإرسال بعينه. وقال الفراء: الرسول الذي أرسل إلى الخلق بإرسال جبريل عليه السلام إليه عيانا، والنبي الذي تكون نبوته إلهاما أو مناما؛ فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا. قال المهدوي: وهذا هو الصحيح، أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا. وكذا ذكر القاضي عياض في كتاب الشفا قال: والصحيح والذي عليه الجم الغفير أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا؛ واحتج بحديث أبي ذر، وأن الرسل من الأنبياء ثلاثمائة وثلاثة عشر، أولهم آدم وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم.

والجهة الأخرى التي فيها الإشكال وهي الأحاديث المروية في نزول هذه الآية، وليس منها شيء يصح. وكان مما تموه به الكفار على عوامهم قولهم: حق الأنبياء ألا يعجزوا عن شيء، فلم لا يأتينا محمد بالعذاب وقد بالغنا في عداوته؟ وكانوا يقولون أيضا: ينبغي ألا يجري عليهم سهو وغلط؛ فبين الرب سبحانه أنهم بشر، والآتي بالعذاب هو الله تعالى على ما يريد، ويجوز على البشر السهو والنسيان والغلط إلى أن يحكم الله آياته وينسخ حيل الشيطان. روى الليث عن يونس عن الزهري عن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم « والنجم إذا هوى » [ النجم: 1 ] فلما بلغ « أفرأيتم اللات والعزى. ومناة الثالثة الأخرى » [ النجم: 19 - 20 ] سها فقال: ( إن شفاعتهم ترتجى ) فلقيه المشركون والذين في قلوبهم مرض فسلموا عليه وفرحوا؛ فقال: ( إن ذلك من الشيطان ) فأنزل الله تعالى: « وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي » الآية. قال النحاس: وهذا حديث منقطع وفيه هذا الأمر العظيم. وكذا حديث قتادة وزاد فيه ( وإنهن لهن الغرانيق العلا ) . وأقطع من هذا ما ذكره الواقدي عن كثير بن زيد عن المطلب بن عبدالله قال: سجد المشركون كلهم إلا الوليد بن المغيرة فإنه أخذ ترابا من الأرض فرفعه إلى جبهته وسجد عليه، وكان شيخا كبيرا. ويقال إنه أبو أحيحة سعيد بن العاص، حتى نزل جبريل عليه السلام فقرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: ( ما جئتك به ) ! وأنزل الله « لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا » [ الإسراء: 74 ] . قال النحاس: وهذا حديث منكر منقطع ولا سيما من حديث الواقدي. وفي البخاري أن الذي أخذ قبضة من تراب ورفعها إلى جبهته هو أمية بن خلف. وسيأتي تمام كلام النحاس على الحديث - إن شاء الله - أخر الباب. قال ابن عطية: وهذا الحديث الذي فيه هي الغرانيق العلا وقع في كتب التفسير ونحوها، ولم يدخله البخاري ولا مسلم، ولا ذكره في علمي مصنف مشهور؛ بل يقتضي مذهب أهل الحديث أن الشيطان ألقى، ولا يعينون هذا السبب ولا غيره. ولا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة؛ بها وقعت الفتنة. ثم اختلف الناس في صورة هذا الإلقاء، فالذي في التفاسير وهو مشهور القول أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بتلك الألفاظ على لسانه. وحدثني أبي رضي الله عنه أنه لقي بالشرق من شيوخ العلماء والمتكلمين من قال: هذا لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم في التبليغ، وإنما الأمر أن الشيطان نطق بلفظ أسمعه الكفار عند قول النبي صلى الله عليه وسلم: « أفرأيتم اللات والعزى. ومناة الثالثة الأخرى » [ النجم: 19 - 20 ] وقرب صوته من صوت النبي صلى الله عليه وسلم حتى التبس الأمر على المشركين، وقالوا: محمد قرأها. وقد روي نحو هذا التأويل عن الإمام أبي المعالي. وقيل: الذي ألقى شيطان الإنس؛ كقوله عز وجل: « والغوا فيه » [ فصلت: 26 ] . قتادة: هو ما تلاه ناعسا.

وقال القاضي عياض في كتاب الشفا بعد أن ذكر الدليل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الأمة أجمعت فيما طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه، لا قصدا ولا عمدا ولا سهوا وغلطا: اعلم أكرمك الله أن لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين: أحدهما: في توهين أصله، والثاني على تسليمه. أما المأخذ الأول فيكفيك أن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه بسند سليم متصل ثقة؛ وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم. قال أبو بكر البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل يجوز ذكره؛ إلا ما رواه شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ( فيما أحسب، الشك في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة... ) وذكر القصة. ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد، وغيره يرسله عن سعيد بن جبير. وإنما يعرف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس؛ فقد بين لك أبو بكر رحمه الله أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا، وفيه من الضعف ما نبه عليه مع وقوع الشك فيه الذي ذكرناه، الذي لا يوثق به ولا حقيقة معه. وأما حديث الكلبي فما لا تجوز الرواية عنه ولا ذكره لقوة ضعفه وكذبه؛ كما أشار إليه البزار رحمه الله. والذي منه في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ « والنجم » بمكة فسجد وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس؛ هذا توهينه من طريق النقل.

وأما المأخذ الثاني فهو مبني على تسليم الحديث لو صح. وقد أعاذنا الله من صحته، ولكن على كل حال فقد أجاب أئمة المسلمين عنه بأجوبة؛ منها الغث والسمين. والذي يظهر ويترجح في تأويله على تسليمه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كما أمره ربه يرتل القرآن ترتيلا، ويفصل الآي تفصيلا في قراءته؛ كما رواه الثقات عنه، فيمكن ترصد الشيطان لتلك السكنات ودسه فيها ما اختلقه من تلك الكلمات، محاكيا نغمة النبي صلى الله عليه وسلم بحيث يسمعه من دنا إليه من الكفار، فظنوها من قول النبي صلى الله عليه وسلم وأشاعوها. ولم يقدح ذلك عند المسلمين لحفظ السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله، وتحققهم من حال النبي صلى الله عليه وسلم في ذم الأوثان وعيبها ما عرف منه؛ فيكون ما روي من حزن النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الإشاعة والشبهة وسبب هذه الفتنة، وقد قال الله تعالى: « وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي » الآية.

قلت: وهذا التأويل، أحسن ما قيل في هذا. وقد قال سليمان بن حرب: إن « في » بمعنى عنده؛ أي ألقى الشيطان في قلوب الكفار عند تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ كقوله عز وجل: « ولبثت فينا » [ الشعراء: 18 ] أي عندنا. وهذا هو معنى ما حكاه ابن عطية عن أبيه عن علماء الشرق، وإليه أشار القاضي أبو بكر بن العربي، وقال قبله: إن هذه الآية نص في غرضنا، دليل على صحة مذهبنا، أصل في براءة النبي صلى الله عليه وسلم مما ينسب إليه أنه قاله؛ وذلك أن الله تعالى قال: « وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته » أي في تلاوته. فأخبر الله تعالى أن من سنته في رسله وسيرته في أنبيائه إذا قالوا عن الله تعالى قولا زاد الشيطان فيه من قبل نفسه كما يفعل سائر المعاصي. تقول: ألقيت في دار كذا وألقيت في الكيس كذا؛ فهذا نص في الشيطان أنه زاد في الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم، لا أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم به. ثم ذكر معنى كلام عياض إلى أن قال: وما هدي لهذا إلا الطبري لجلالة قدره وصفاء فكره وسعة باعه في العلم، وشدة ساعده في النظر؛ وكأنه أشار إلى هذا الغرض، وصوب على هذا المرمى، وقرطس بعدما ذكر في ذلك روايات كثيرة كلها باطل لا أصل لها، ولو شاء ربك لما رواها أحد ولا سطرها، ولكنه فعال لما يريد.

وأما غيره من التأويلات فما حكاه قوم أن الشيطان أكرهه حتى قال كذا فهو محال؛ إذ ليس للشيطان قدرة على سلب الإنسان الاختيار، قال الله تعالى مخبرا عنه: « وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي » [ إبراهيم: 22 ] ؛ ولو كان للشيطان هذه القدرة لما بقي لأحد من بني آدم قوة في طاعة، ومن توهم أن للشيطان هذه القوة فهو قول الثنوية والمجوس في أن الخير من الله والشر من الشيطان. ومن قال جرى ذلك على لسانه سهوا قال: لا يبعد أنه كان سمع الكلمتين من المشركين وكانتا على حفظه فجرى عند قراءة السورة ما كان في حفظه سهوا؛ وعلى هذا يجوز السهو عليهم ولا يقرون عليه، وأنزل الله عز وجل هذه الآية تمهيدا لعذره وتسليه له؛ لئلا يقال: إنه رجع عن بعض قراءته، وبين أن مثل هذا جرى على الأنبياء سهوا، والسهو إنما ينتفي عن الله تعالى، وقد قال ابن عباس: ( إن شيطانا يقال له الأبيض كان قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة جبريل عليه السلام وألقى في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم: تلك الغرانيق العلا، وأن شفاعتهن لترتجى ) . وهذا التأويل وإن كان أشبه مما قبله فالتأويل الأول عليه المعول، فلا يعدل عنه إلى غيره لاختيار العلماء المحققين إياه، وضعف الحديث مغن عن كل تأويل، والحمد لله. ومما يدل على ضعفه أيضا وتوهينه من الكتاب قوله تعالى: « وإن كادوا ليفتنونك » [ الإسراء: 73 ] الآيتين؛ فإنهما تردان الخبر الذي رووه؛ لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفتري، وأنه لولا أن ثبته لكان يركن إليهم. فمضمون هذا ومفهومه أن الله تعالى عصمه من أن يفتري وثبته حتى لم يركن إليهم قليلا فكيف كثيرا، وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء بمدح آلهتهم، وأنه قال عليه الصلاة والسلام: افتريت على الله وقلت ما لم يقل. وهذا ضد مفهوم الآية، وهي تضعف الحديث لو صح؛ فكيف ولا صحة له. وهذا مثل قوله تعالى: « ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء » [ النساء: 113 ] . قال القشيري: ولقد طالبته قريش وثقيف إذ مر بآلهتهم أن يقبل بوجهه إليها، ووعده بالإيمان به إن فعل ذلك، فما فعل! ولا كان ليفعل! قال ابن الأنباري: ما قارب الرسول ولا ركن. وقال الزجاج: أي كادوا، ودخلت إن واللام للتأكيد. وقد قيل: إن معنى « تمنى » حدث، لا « تلا » . روي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله عز وجل: ( « إلا إذا تمنى » قال: إلا إذا حدث « ألقى الشيطان في أمنيته » ) قال: في حديثه « فينسخ الله ما يلقي الشيطان » قال: فيبطل الله ما يلقي الشيطان. قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في الآية وأعلاه وأجله. وقد قال أحمد بن محمد بن حنبل بمصر صحيفة في التفسير، رواها علي بن أبي طلحة لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدا ما كان كثيرا. والمعنى عليه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حدث نفسه ألقى الشيطان في حديثه على جهة الحيطة فيقول: لو سألت الله عز وجل أن يغنمك ليتسع المسلمون؛ ويعلم الله عز وجل أن الصلاح في غير ذلك؛ فيبطل ما يلقي الشيطان كما قال ابن عباس رضي الله عنهما. وحكى الكسائي والفراء جميعا « تمنى » إذا حدث نفسه؛ وهذا هو المعروف في اللغة. وحكيا أيضا « تمنى » إذا تلا. وروي عن ابن عباس أيضا وقاله مجاهد والضحاك وغيرهما. وقال أبو الحسن بن مهدي: ليس هذا التمني من القرآن والوحي في شيء، وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صفرت يداه من المال، ورأى ما بأصحابه من سوء الحال، تمنى الدنيا بقلبه ووسوسة الشيطان. وذكر المهدوي عن ابن عباس أن المعنى: ( إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه ) ؛ وهو اختيار الطبري.

قلت: قوله تعالى: « ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة » الآية، يرد حديث النفس، وقد قال ابن عطية: لا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة، بها وقعت الفتنة؛ فالله أعلم. قال النحاس: ولو صح الحديث واتصل إسناده لكان المعنى فيه صحيحا، ويكون معنى سها أسقط، ويكون تقديره: أفرأيتم اللات والعزى؛ وتم الكلام، ثم أسقط ( والغرانيق العلا ) يعني الملائكة ( فإن شفاعتهم ) يعود الضمير على الملائكة. وأما من روى: فإنهن الغرانيق العلا، ففي روايته أجوبة؛ منها أن يكون القول محذوفا كما تستعمل العرب في أشياء كثيرة، ويجوز أن يكون بغير حذف، ويكون توبيخا؛ لأن قبله « أفرأيتم » ويكون هذا احتجاجا عليهم؛ فإن كان في الصلاة فقد كان الكلام مباحا في الصلاة. وقد روى في هذه القصة أنه كان مما يقرأ: أفرأيتم اللات والعزى. ومناة الثالثة الأخرى. والغرانقة العلا. وأن شفاعتهن لترتجى. روى معناه عن مجاهد. وقال الحسن: أراد بالغرانيق العلا الملائكة؛ وبهذا فسر الكلبي الغرانقة أنها الملائكة. وذلك أن الكفار كانوا يعتقدون [ أن ] الأوثان والملائكة بنات الله، كما حكى الله تعالى عنهم، ورد عليهم في هذه السورة بقوله « ألكم الذكر وله الأنثى » فأنكر الله كل هذا من قولهم. ورجاء الشفاعة من الملائكة صحيح؛ فلما تأوله المشركون على أن المراد بهذا الذكر آلهتهم ولبس عليهم الشيطان بذلك، نسخ الله ما ألقى الشيطان، وأحكم الله آياته، ورفع تلاوة تلك اللفظتين اللتين وجد الشيطان بهما سبيلا للتلبيس، كما نسخ كثير من القرآن؛ ورفعت تلاوته. قال القشيري: وهذا غير سديد؛ لقوله: « فينسخ الله ما يلقي الشيطان » أي يبطله، وشفاعة الملائكة غير باطلة. « والله عليم حكيم » « عليم » بما أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم. « حكيم » في خلقه.

 

الآية: 53 ( ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد )

 

قوله تعالى: « ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة » أي ضلالة. « للذين في قلوبهم مرض » أي شرك ونفاق. « والقاسية قلوبهم » فلا تلين لأمر الله تعالى. قال الثعلبي: وفي الآية دليل على أن الأنبياء يجوز عليهم السهو والنسيان والغلط بوسواس الشيطان أو عند شغل القلب حتى يغلط، ثم ينبه ويرجع إلى الصحيح؛ وهو معنى قوله: « فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته » . ولكن إنما يكون الغلط على حسب ما يغلط أحدنا، فأما ما يضاف إليه من قولهم: تلك الغرانيق العلا، فكذب على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن فيه تعظيم الأصنام، ولا يجوز ذلك على الأنبياء، كما لا يجوز أن يقرأ بعض القرآن ثم ينشد شعرا ويقول: غلطت وظننته قرآنا. « وإن الظالمين لفي شقاق بعيد » أي الكافرين لفي خلاف وعصيان ومشاقة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم في « البقرة » والحمد لله وحده.

 

الآية: 54 ( وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم )

 

قوله تعالى: « وليعلم الذين أوتوا العلم » أي من المؤمنين. وقيل: أهل الكتاب. « أنه » أي أن الذي أحكم من آيات القرآن هو « الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم » أي تخشع وتسكن. وقيل: تخلص. « وإن الله لهادي الذين آمنوا » قرأ أبو حيوة « وإن الله لهاد الذين آمنوا » بالتنوين. « إلى صراط مستقيم » أي يثبتهم على الهداية.

 

الآية: 55 ( ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم )

 

قوله تعالى: « ولا يزال الذين كفروا في مرية منه » يعني في شك من القرآن؛ قال ابن جريج. وغيره: من الدين؛ وهو الصراط المستقيم. وقيل: مما ألقى الشيطان على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، ويقولون: ما باله ذكر الأصنام بخير ثم ارتد عنها. وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي « في مرية » بضم الميم. والكسر أعرف؛ ذكره النحاس. « حتى تأتيهم الساعة » أي القيامة. « بغتة » أي فجأة. « أو يأتيهم عذاب يوم عقيم » قال الضحاك: عذاب يوم لا ليلة له وهو يوم القيامة. النحاس: سمي يوم القيامة عقيما لأنه ليس يعقب بعده يوما مثله؛ وهو معنى قول الضحاك. والعقيم في اللغة عبارة عمن لا يكون له ولد؛ ولما كان الولد يكون بين الأبوين وكانت الأيام تتوالى قبل وبعد، جعل الاتباع فيها بالبعدية كهيئة الولادة، ولما لم يكن بعد ذلك اليوم يوم وصف بالعقيم. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: المراد عذاب يوم بدر، ومعنى عقيم لا مثل له في عظمه؛ لأن الملائكة قاتلت فيه. ابن جريج: لأنهم لم ينظروا فيه إلى الليل، بل قتلوا قبل المساء فصار يوما لا ليلة له. وكذلك يكون معنى قول الضحاك أنه يوم القيامة؛ لأنه لا ليلة له. وقيل: لأنه لم يكن فيه رأفة ولا رحمة، وكان عقيما من كل خير؛ ومنه قوله تعالى: « إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم » [ الذاريات: 41 ] أي التي لا خير فيها ولا تأتي بمطر ولا رحمة.

 

الآيتان: 56 - 57 ( الملك يومئذ لله يحكم بينهم فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم، والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين )

 

قوله تعالى: « الملك يومئذ لله يحكم بينهم » يعني يوم القيامة هو لله وحده لا منازع له فيه ولا مدافع. والملك هو اتساع المقدور لمن له تدبير الأمور. ثم بين حكمه فقال: « فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين » .

قلت: وقد يحتمل أن تكون الإشارة بـ « يومئذ » ليوم بدر، وقد حكم فيه بإهلاك الكافر وسعادة المؤمن؛ وقد قال عليه السلام لعمر: ( وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) .

 

الآيتان: 58 - 59 ( والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين، ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم )

 

أفرد ذكر المهاجرين الذين ماتوا وقتلوا تفضيلا لهم وتشريفا على سائر الموتى.

وسبب نزول هذه الآية أنه لما مات بالمدينة عثمان بن مظعون وأبو سلمة بن عبد الأسد قال بعض الناس: من قتل في سبيل الله أفضل ممن مات حتف أنفه؛ فنزلت هذه الآية مسوية بينهم، وأن الله يرزق جميعهم رزقا حسنا. وظاهر الشريعة يدل على أن المقتول أفضل. وقد قال بعض أهل العلم: إن المقتول في سبيل الله والميت في سبيل الله شهيد؛ ولكن للمقتول مزية ما أصابه في ذات الله. وقال بعضهم: هما سواء، واحتج بالآية، وبقوله تعالى: « ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله » [ النساء: 100 ] ، وبحديث أم حرام؛ فإنها صرعت عن دابتها فماتت ولم تقتل فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنت من الأولين ) ، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبدالله بن عتيك: ( من خرج من بيته مهاجرا في سبيل الله فخر عن دابته فمات أو لدغته حية فمات أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله ومن مات قعصا فقد استوجب المآب ) . وذكر ابن المبارك عن فضالة بن عبيد في حديث ذكر فيه رجلين أحدهما أصيب في غزاة بمنجنيق فمات والآخر مات هناك؛ فجلس فضالة عند الميت فقيل له: تركت الشهيد ولم تجلس عنده؟ فقال: ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت؛ ثم تلا قوله تعالى: « والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا » الآية كلها. وقال سليمان بن عامر: كان فضالة برودس أميرا على الأرباع فخرج بجنازتي رجلين أحدهما قتيل والآخر متوفي؛ فرأى ميل الناس مع جنازة القتيل إلى حفرته؛ فقال: أراكم أيها الناس تميلون مع القتيل! فوالذي نفسي بيده ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت، اقرؤوا قوله تعالى: « والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا » . كذا ذكره الثعلبي في تفسيره، وهو معنى ما ذكره ابن المبارك. واحتج من قال: إن للمقتول زيادة فضل بما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل: أي الجهاد أفضل؟ قال: ( من أهريق دمه وعقر جواده ) . وإذا كان من أهريق دمه وعقر جواده أفضل الشهداء علم أنه من لم يكن بتلك الصفة مفضول. قرأ ابن عامر وأهل الشام « قتلوا » بالتشديد على التكثير. الباقون بالتخفيف. « ليدخلنهم مدخلا يرضونه » أي الجنان. قراءة أهل المدينة « مدخلا » بفتح الميم؛ أي دخولا. وضمها الباقون، وقد مضى في الإسراء. « وإن الله لعليم حليم » قال ابن عباس: عليم بنياتهم، حليم عن عقابهم.

 

الآية: 60 ( ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور )

 

قوله تعالى: « ذلك ومن عاقب » « ذلك » في موضع رفع؛ أي ذلك الأمر الذي قصصنا عليك. قال مقاتل: نزلت في قوم من مشركي مكة لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم فقالوا: إن أصحاب محمد يكرهون القتال في الشهر الحرام فاحملوا عليهم؛ فناشدهم المسلمون ألا يقاتلوهم في الشهر الحرام؛ فأبى المشركون إلا القتال، فحملوا عليهم فثبت المسلمون ونصرهم الله على المشركين؛ وحصل في أنفس المسلمين من القتال في الشهر الحرام شيء؛ فنزلت هذه الآية. وقيل: نزلت في قوم من المشركين، مثلوا بقوم من المسلمين قتلوهم يوم أحد فعاقبهم رسول الله بمثله. فمعنى « من عاقب بمثل ما عوقب به » أي من جازى الظالم بمثل ما ظلمه؛ فسمى جزاء العقوبة عقوبة لاستواء الفعلين في الصورة؛ فهو مثل « وجزاء سيئة سيئة مثلها » [ الشورى: 40 ] . ومثل « فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم » [ البقرة: 194 ] . وقد تقدم. « ثم بغي عليه » أي بالكلام والإزعاج من وطنه؛ وذلك أن المشركين كذبوا نبيهم وآذوا من آمن به وأخرجوه وأخرجوهم من مكة، وظاهروا على إخراجهم. « لينصرنه الله » أي لينصرن الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فإن الكفار بغوا عليهم. « إن الله لعفو غفور » أي عفا عن المؤمنين ذنوبهم وقتالهم في الشهر الحرام وستر.

 

الآية: 61 ( ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير )

 

قوله تعالى: « ذلك بأن الله يولج الليل في النهار » أي ذلك الذي قصصت عليك من نصر المظلوم هو بأني أنا الذي أولج الليل في النهار فلا يقدر أحد على ما أقدر عليه؛ أي من قدر على هذا قدر على أن ينصر عبده. وقد مضى في « آل عمران » معنى يولج الليل في النهار. « وأن الله سميع بصير » يسمع الأقوال ويبصر الأفعال، فلا يعزب عنه مثقال ذرة ولا دبيب نملة إلا يعلمها ويسمعها ويبصرها.

 

الآية: 62 ( ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير )

 

قوله تعالى: « ذلك بأن الله هو الحق » أي ذو الحق؛ فدينه الحق وعبادته حق. والمؤمنون يستحقون منه النصر بحكم وعده الحق « وأن ما يدعون من دونه هو الباطل » أي الأصنام التي لا استحقاق لها في العبادات. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو بكر « وأن ما تدعون » بالتاء على الخطاب، واختاره أبو حاتم. الباقون بالياء على الخبر هنا وفي لقمان، واختاره أبو عبيد. « وأن الله هو العلي » أي العالي على كل شيء بقدرته، والعالي عن الأشباه والأنداد، المقدس عما يقول الظالمون من الصفات التي لا تليق بجلاله. « الكبير » أي الموصوف بالعظمة والجلال وكبر الشأن. وقيل: الكبير ذو الكبرياء. والكبرياء عبارة عن كمال الذات؛ أي له الوجود المطلق أبدا وأزلا، فهو الأول القديم، والآخر الباقي بعد فناء خلقه.

 

الآية: 63 ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير )

 

قوله تعالى: « ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة » دليل على كمال قدرته؛ أي من قدر على هذا قدر على إعادة الحياة بعد الموت؛ كما قال الله عز وجل: « فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت » [ فصلت: 39 ] . ومثله كثير. « فتصبح » ليس بجواب فيكون منصوبا، وإنما هو خبر عند الخليل وسيبويه. قال الخليل: المعنى انتبه! أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا؛ كما قال:

ألم تسأل الربع القواء فينطق وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق

معناه قد سألته فنطق. وقيل استفهام تحقيق؛ أي قد رأيت، فتأمل كيف تصبح! أو عطف لأن المعنى ألم تر أن الله ينزل. وقال الفراء: « ألم تر » خبر؛ كما تقول في الكلام: اعلم أن الله عز وجل ينزل من السماء ماء. « فتصبح الأرض مخضرة » أي ذات خضرة؛ كما تقول: مقلة ومسبعة؛ أي ذات بقل وسباع. وهو عبارة عن استعجالها إثر نزول الماء بالنبات واستمرارها كذلك عادة. قال ابن عطية: وروي عن عكرمة أنه قال: هذا لا يكون إلا بمكة وتهامة. ومعنى هذا: أنه أخذ قوله « فتصبح » مقصودا به صباح ليلة المطر وذهب إلى أن ذلك الاخضرار يتأخر في سائر البلاد، وقد شاهدت هذا [ في ] السوس الأقصى نزل المطر ليلا بعد قحط أصبحت تلك الأرض الرملة التي نسفتها الرياح قد أخضرت بنبات ضعيف رقيق. « إن الله لطيف خبير » قال ابن عباس: ( « خبير » بما ينطوي عليه العبد من القنوط عند تأخير المطر. « لطيف » بأرزاق عباده ) . وقيل: لطيف باستخراج النبات من الأرض، خبير بحاجتهم وفاقتهم.

 

الآية: 64 ( له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد )

 

قوله تعالى: « له ما في السماوات وما في الأرض » خلقا وملكا؛ وكل محتاج إلى تدبيره وإتقانه. « وإن الله لهو الغني الحميد » فلا يحتاج إلى شيء، وهو المحمود في كل حال.

 

الآية: 65 ( ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرؤوف رحيم )

 

قوله تعالى: « ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض » ذكر نعمة أخرى، فأخبر أنه سخر لعباده ما يحتاجون إليه من الدواب والشجر والأنهار. « والفلك » أي وسخر لكم الفلك في حال جريها. وقرأ أبو عبدالرحمن الأعرج « والفلك » رفعا على الابتداء وما بعده خبره. الباقون بالنصب نسقا على قوله « ما في الأرض » . « ويمسك السماء أن تقع على الأرض » أي كراهية أن تقع. وقال الكوفيون: لئلا تقع. وإمساكه لها خلق السكون فيها حالا بعد حال. « إلا بإذنه » أي إلا بإذن الله لها بالوقوع، فتقع بإذنه، أي بإرادته وبحيلته. « إن الله بالناس لرؤوف رحيم » أي في هذه الأشياء التي سخرها لهم.

 

الآية: 66 ( وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور )

 

قوله تعالى: « وهو الذي أحياكم » أي بعد أن كنتم نطفا. « ثم يميتكم » عند انقضاء آجالكم. « ثم يحييكم » أي للحساب والثواب والعقاب. « إن الإنسان لكفور » أي لجحود لما ظهر من الآيات الدالة على قدرته ووحدانيته. قال ابن عباس: يريد الأسود بن عبد الأسد وأبا جهل بن هشام والعاص بن هشام وجماعة من المشركين. وقيل: إنما قال ذلك لأن الغالب على الإنسان كفر النعم؛ كما قال تعالى: « وقليل من عبادي الشكور » [ سبأ: 13 ] .

 

الآية: 67 ( لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم )

 

قوله تعالى: « لكل أمة جعلنا منسكا » أي شرعا. « هم ناسكوه » أي عاملون به. « فلا ينازعنك في الأمر » أي لا ينازعنك أحد منهم فيما يشرع لأمتك؛ فقد كانت الشرائع في كل عصر. وروت فرقة أن هذه الآية نزلت بسبب جدال الكفار في أم الذبائح، وقولهم للمؤمنين: تأكلون ما ذبحتم ولا تأكلون ما ذبح الله من الميتة، فكان ما قتل الله أحق أن تأكلوه مما قتلتم أنتم بسكاكينكم؛ فنزلت الآية بسبب هذه المنازعة. وقد مضى هذا في « الأنعام » والحمد لله. وقد تقدم في هذه السورة ما للعلماء في قوله تعالى « منسكا » [ الحج: 34 ] . وقوله: « هم ناسكوه » يعطي أن المنسك المصدر، ولو كان الموضع لقال هم ناسكون فيه. وقال الزجاج: « فلا ينازعنك في الأمر » أي فلا يجادلنك؛ ودل على هذا « وإن جادلوك » . ويقال: قد نازعوه فكيف قال فلا ينازعنك؛ فالجواب أن المعنى فلا تنازعهم أنت. نزلت الآية قبل الأمر بالقتال؛ تقول: لا يضاربنك فلان فلا تضاربه أنت؛ فيجري هذا في باب المفاعلة. ولا يقال: لا يضربنك زيد وأنت تريد لا تضرب زيدا. وقرأ أبو مجلز « فلا ينزعنك في الأمر » أي لا يستخلفنك ولا يغلبنك عن دينك. وقراءة الجماعة من المنازعة. ولفظ النهي في القراءتين للكفار، والمراد النبي صلى الله عليه وسلم. « وادع إلى ربك » أي إلى توحيده ودينه والإيمان به. « إنك لعلى هدى » أي دين. « مستقيم » أي قويم لا اعوجاج فيه.

 

الآيتان: 68 - 69 ( وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون، الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون )

 

قوله تعالى: « وإن جادلوك » أي خاصموك يا محمد؛ يريد مشركي مكة. « فقل الله أعلم بما تعملون » يريد من تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم؛ عن ابن عباس. وقال مقاتل: ( هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء وهو في السماء السابعة لما رأى من آيات ربه الكبرى؛ فأوحى الله إليه ) « وإن جادلوك » بالباطل فدافعهم بقولك « الله أعلم بما تعملون » من الكفر والتكذيب؛ فأمره الله تعالى بالإعراض عن مماراتهم صيانة له عن الاشتغال بتعنتهم؛ ولا جواب لصاحب العناد. « الله يحكم بينكم يوم القيامة » يريد بين النبي صلى الله عليه وسلم وقومه. « فيما كنتم فيه تختلفون » يريد في خلافكم آياتي، فتعرفون حينئذ الحق من الباطل.

مسألة: في هذه الآية أدب حسن علمه الله عباده في الرد على من جادل تعنتا ومراء ألا يجاب ولا يناظر ويدفع بهذا القول الذي علمه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم. وقد قيل: إن هذه الآية منسوخة بالسيف؛ يعني السكوت عن مخالفه والاكتفاء بقوله: « الله يحكم بينكم » .

 

الآية: 70 ( ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير )

 

قوله تعالى: « ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض » أي وإذ قد علمت يا محمد هذا وأيقنت فاعلم أنه يعلم أيضا ما أنتم مختلفون فيه فهو يحكم بينكم. وقد قيل: إنه استفهام تقرير للغير. « إن ذلك في كتاب » أي ما يجري في العالم فهو مكتوب عند الله في أم الكتاب. « إن ذلك على الله يسير » أي إن الفصل بين المختلفين على يسير. وقيل: المعنى إن كتاب القلم الذي أمره أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة على الله يسير.

 

الآية: 71 ( ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير )

 

قوله تعالى: « ويعبدون » يريد كفار قريش. « من دون الله ما لم ينزل به سلطانا » أي حجة وبرهانا. وقد تقدم في ( آل عمران ) . « وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير » .

 

الآية: 72 ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير )

 

قوله تعالى: « وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات » يعني القرآن. « تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر » أي الغضب والعبوس. « يكادون يسطون » أي يبطشون. والسطوة شدة البطش؛ يقال: سطا به يسطو إذا بطش به؛ كان ذلك بضرب أو بشتم، وسطا عليه. « بالذين يتلون عليهم آياتنا » وقال ابن عباس: ( يسطون يبسطون إليهم أيديهم ) . محمد بن كعب: أي يقعون بهم. الضحاك: أي يأخذونهم أخذا باليد، والمعنى واحد. وأصل السطو القهر. والله ذو سطوات؛ أي أخذات شديدة. « قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار » أي أكره من هذا القرآن الذي تسمعون هو النار. فكأنهم قالوا: ما الذي هو شر؛ فقيل هو النار. وقيل: أي هل أنبكم بشر مما يلحق تالي القرآن منكم هو النار؛ فيكون هذا وعيدا لهم على سطواتهم بالذين يتلون القرآن. ويجوز في « النار » الرفع والنصب والخفض؛ فالرفع على هو النار، أو هي النار. والنصب بمعنى أعني، أو على إضمار فعل مثل الثاني، أو يكون محمولا على المعنى؛ أي أعرفكم من ذلكم النار. والخفض على البدل. « وعدها الله الذين كفروا » في القيامة. « وبئس المصير » أي الموضع الذي يصيرون إليه وهو النار.

 

الآية: 73 ( يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب )

 

قوله تعالى: « يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له » هذا متصل بقوله: « ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا » . وإنما قال « ضرب مثل » لأن حجج الله تعالى عليهم بضرب الأمثال أقرب إلى أفهامهم. فإن قيل: فأين المثل المضروب؛ ففيه وجهان: الأول: قال الأخفش: ليس ثم مثل، وإنما المعنى ضربوا لي مثلا فاستمعوا قولهم؛ يعني أن الكفار جعلوا لله مثلا بعبادتهم غيره؛ فكأنه قال جعلوا لي شبيها في عبادتي فاستمعوا خبر هذا الشبه. الثاني: قول القتبي: وأن المعنى يا أيها الناس، مثل من عبد آلهة لم تستطع أن تخلق ذبابا وإن سلبها الذباب شيئا لم تستطع أن تستنقذه منه. وقال النحاس: المعنى ضرب الله عز وجل ما يعبد من دونه مثلا، قال: وهذا من أحسن ما قيل فيه؛ أي بين الله لكم شبها ولمعبودكم. « إن الذين تدعون من دون الله » قراءة العامة « تدعون » بالتاء. وقرأ السلمي وأبو العالية ويعقوب « يدعون » بالياء على الخبر. والمراد الأوثان الذين عبدوهم من دون الله، وكانت حول الكعبة، وهي ثلاثمائة وستون صنما. وقيل: السادة الذين صرفوهم عن طاعة الله عز وجل. وقيل: الشياطين الذين حملوهم على معصية الله تعالى؛ والأول أصوب. « لن يخلقوا ذبابا » الذباب اسم واحد للذكر والأنثى، والجمع القليل أذبة والكثير ذبان؛ على مثل غراب وأغربة وغربان؛ وسمي به لكثرة حركته. الجوهري: والذباب معروف الواحدة ذبابة، ولا تقل ذبانة. والمذبة ما يذب به الذباب. وذباب أسنان الإبل حدها. وذباب السيف طرفه الذي يضرب به. وذباب العين إنسانها. والذبابة البقية من الدين. وذبب النهار إذا لم يبق منه إلا بقية. والتذبذب التحرك. والذبذبة نوس الشيء المعلق في الهواء. والذبذب الذكر لتردده. وفي الحديث ( من وقي شر ذبذبه ) . وهذا مما لم يذكره - أعني - قوله: وفي الحديث. « وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه » الاستنقاذ والإنقاذ التخليص. قال ابن عباس: ( كانوا يطلون أصنامهم بالزعفران فتجف فيأتي فيختلسه ) . وقال السدي: كانوا يجعلون للأصنام طعاما فيقع عليه الذباب فيأكله. « ضعف الطالب والمطلوب » قيل: الطالب الآلهة والمطلوب الذباب. وقيل بالعكس. وقيل: الطالب عابد الصنم والمطلوب الصنم؛ فالطالب يطلب إلى هذا الصنم بالتقرب إليه، والصنم المطلوب إليه. وقد قيل: « وإن يسلبهم الذباب شيئا » راجع إلى ألمه في قرص أبدانهم حتى يسلبهم الصبر لها والوقار معها. وخص الذباب لأربعة أمور تخصه: لمهانته وضعفه ولاستقذاره وكثرته؛ فإذا كان هذا الذي هو أضعف الحيوان وأحقره لا يقدر من عبدوه من دون الله عز وجل على خلق مثله ودفع أذيته فكيف يجوز أن يكونوا آلهة معبودين وأربابا مطاعين. وهذا من أقوى حجة وأوضح برهان.

 

الآية: 74 ( ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز )

 

قوله تعالى: « ما قدروا الله حق قدره » أي ما عظموه حق عظمته؛ حيث جعلوا هذه الأصنام شركاء له. وقد مضى في « الأنعام » . « إن الله لقوي عزيز » تقدم.

 

الآيتان: 75 - 76 ( الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور )

 

قوله تعالى: « الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس » ختم السورة بأن الله اصطفى محمدا صلى الله عليه وسلم لتبليغ الرسالة؛ أي ليس بعثه محمدا أمرا بدعيا. وقيل: إن الوليد بن المغيرة قال: أو أنزل عليه الذكر من بيننا؛ فنزلت الآية. وأخبر أن الاختيار إليه سبحانه وتعالى. « إن الله سميع » لأقوال عباده « بصير » بمن يختاره من خلقه لرسالته. « يعلم ما بين أيديهم » يريد ما قدموا. « وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور » يريد ما خلفوا؛ مثل قوله في يس: « إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا » [ يس: 12 ] يريد ما بين أيديهم « وآثارهم » يريد ما خلفوا.

 

الآية: 77 ( يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون )

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا » تقدم في أول السورة أنها فضلت بسجدتين؛ وهذه السجدة الثانية لم يرها مالك وأبو حنيفة من العزائم؛ لأنه قرن الركوع بالسجود، وأن المراد بها الصلاة المفروضة؛ وخص الركوع والسجود تشريفا للصلاة. وقد مضى القول في الركوع والسجود مبينا في « البقرة » والحمد لله وحده. « واعبدوا ربكم » أي امتثلوا أمره. « وافعلوا الخير » ندب فيما عدا الواجبات التي صح وجوبها من غير هذا الموضع.

 

الآية: 78 ( وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير )

 

قوله تعالى: « وجاهدوا في الله حق جهاده » قيل: عنى به جهاد الكفار. وقيل: هو إشارة إلى امتثال جميع ما أمر الله به، والانتهاء عن كل ما نهى الله عنه؛ أي جاهدوا أنفسكم في طاعة الله وردوها عن الهوى، وجاهدوا الشيطان في رد وسوسته، والظلمة في رد ظلمهم، والكافرين في رد كفرهم. قال ابن عطية: وقال مقاتل وهذه الآية منسوخة بقوله تعالى: « فاتقوا الله ما استطعتم » [ التغابن: 16 ] . وكذا قال هبة الله: إن قول « حق جهاده » وقوله في الآية الأخرى. « حق تقاته » [ آل عمران: 102 ] منسوخ بالتخفيف إلى الاستطاعة في هذه الأوامر. ولا حاجة إلى تقدير النسخ؛ فإن هذا هو المراد من أول الحكم؛ لأن « حق جهاده » ما ارتفع عنه الحرج. وقد روى سعيد بن المسيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خير دينكم أيسره ) . وقال أبو جعفر النحاس. وهذا مما لا يجوز أن يقع فيه نسخ؛ لأنه واجب على الإنسان، كما روى حيوة بن شريح يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( المجاهد من جاهد نفسه لله عز وجل ) . وكما روى أبو غالب عن أبي أمامة أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الجهاد أفضل؟ عند الجمرة الأولى فلم يجبه، ثم سأله عند الجمرة الثانية فلم يجبه، ثم سأله عند جمرة العقبة؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أين السائل ) ؟ فقال: أنا ذا؛ فقال عليه السلام: ( كلمة عدل عند سلطان جائر ) .

 

قوله تعالى: « هو اجتباكم » أي اختاركم للذب عن دينه والتزام أمره؛ وهذا تأكيد للأمر بالمجاهدة؛ أي وجب عليكم أن تجاهدوا لأن الله اختاركم له.

 

قوله تعالى: « من حرج » أي من ضيق. وقد تقدم في « الأنعام » . وهذه الآية تدخل في كثير من الأحكام؛ وهي مما خص الله بها هذه الأمة. روى معمر عن قتادة قال: أعطيت هذه الأمة ثلاثا لم يعطها إلا نبي: كان يقال للنبي اذهب فلا حرج عليك، وقيل لهذه الأمة: « وما جعل عليكم في الدين من حرج » . والنبي شهيد على أمته، وقيل لهذه الأمة: « لتكونوا شهداء على الناس » . ويقال للنبي: سل تعطه، وقيل لهذه الأمة: « ادعوني أستجب لكم » .

واختلف العلماء في هذا الحرج الذي رفعه الله تعالى؛ فقال عكرمة: هو ما أحل من النساء مثنى وثلاث ورباع، وما ملكت يمينك. وقيل: المراد قصر الصلاة، والإفطار للمسافر، وصلاة الإيماء لمن لا يقدر على غيره، وحط الجهاد عن الأعمى والأعرج والمريض والعديم الذي لا يجد ما ينفق في غزوه، والغريم ومن له والدان، وحط الإصر الذي كان على بني إسرائيل. وقد مضى تفصيل أكثر هذه الأشياء. وروي عن ابن عباس والحسن البصري ( أن هذا في تقديم الأهلة وتأخيرها في الفطر والأضحى والصوم؛ فإذا أخطأت الجماعة هلال ذي الحجة فوقفوا قبل يوم عرفة بيوم أو وقفوا يوم النحر أجزأهم ) ، على خلاف فيه بيناه في كتاب المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس رضي الله عنه. وما ذكرناه هو الصحيح في الباب. وكذلك الفطر والأضحى؛ لما رواه حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن المنكدر عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون ) . خرجه أبو داود والدارقطني، ولفظه ما ذكرناه. والمعنى: باجتهادكم من غير حرج يلحقكم. وقد روى الأئمة أنه عليه السلام سئل يوم النحر عن أشياء، فما يسأل عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم الأمور بعضها قبل بعض وأشباهها إلا قال فيها: ( أفعل ولا حرج ) .

قال العلماء: رفع الحرج إنما هو لمن استقام على منهاج الشرع، وأما السلابة والسراق وأصحاب الحدود فعليهم الحرج، وهم جاعلوه على أنفسهم بمفارقتهم الدين، وليس في الشرع أعظم حرجا من إلزام ثبوت رجل لاثنين في سبيل الله تعالى؛ ومع صحة اليقين وجودة العزم ليس بحرج.

 

قوله تعالى: « ملة أبيكم » قال الزجاج: المعنى اتبعوا ملة أبيكم. الفراء: انتصب على تقدير حذف الكاف؛ كأنه قال كملة. وقيل: المعنى وافعلوا الخير فعل أبيكم، فأقام الفعل مقام الملة. وإبراهيم هو أبو العرب قاطبة. وقيل: الخطاب لجميع المسلمين، وإن لم يكن الكل من ولده؛ لأن حرمة إبراهيم على المسلمين كحرمة الوالد على الولد. « هو سماكم المسلمين من قبل » قال ابن زيد والحسن: « هو » راجع إلى إبراهيم؛ والمعنى: هو سماكم المسلمين من قبل النبي صلى الله عليه وسلم. « وفي هذا » أي وفي حكمه أن من اتبع محمدا صلى الله عليه وسلم فهو مسلم. قال ابن زيد: وهو معنى قوله: « ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك » [ البقرة: 128 ] . قال النحاس: وهذا القول مخالف لقول عظماء الأمة. روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: ( سماكم الله عز وجل المسلمين من قبل، أي في الكتب المتقدمة وفي هذا القرآن ) ؛ قال مجاهد وغيره. « ليكون الرسول شهيدا عليكم » أي بتبليغه إياكم. « وتكونوا شهداء على الناس » أن رسلهم قد بلغتهم؛ كما تقدم في « البقرة » . « فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير » تقدم مستوفى والحمد لله.