الجزء السادس والعشرون

 

سورة الأحقاف

 

الآيات: 1 - 3 ( حم، تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم، ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون )

 

قوله تعالى: « حم، تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم » تقدم. « ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق » تقدم أيضا. « وأجل مسمى » « وأجل مسمى » يعني القيامة، في قول ابن عباس وغيره. وهو الأجل الذي تنتهي إليه السموات والأرض. وقيل: إنه هو الأجل المقدور لكل مخلوق. « والذين كفروا عما أنذروا معرضون » « والذين كفروا عما أنذروا » خُوفوه « معرضون » مولون لا هون غير مستعدين له. يجوز أن تكون « ما » مصدرية، أي عن إنذارهم ذلك اليوم.

 

الآية: 4 ( قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين )

 

قوله تعالى: « قل أرأيتم ما تدعون من دون الله » أي ما تعبدون من الأصنام والأنداد من دون الله. « أروني ماذا خلقوا من الأرض » أي هل خلقوا شيئا من الأرض « أم لهم شرك » أي نصيب « في السماوات » أي في خلق السموات مع الله. « ائتوني بكتاب من قبل هذا » أي من قبل هذا القرآن.

 

قوله تعالى: « أو أثارة من علم » قراءة العامة « أو أثارة » بألف بعد الثاء. قال ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( هو خط كانت تخطه العرب في الأرض ) ، ذكره المهدوي والثعلبي. وقال ابن العربي: ولم يصح. وفي مشهور الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك ) ولم يصح أيضا.

قلت: هو ثابت من حديث معاوية بن الحكم السلمي، خرجه مسلم. وأسند النحاس: حدثنا محمد بن أحمد ( يعرف بالجرايجي ) قال حدثنا محمد بن بندار قال حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان الثوري عن صفوان بن سليم عن أبي سلمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل: « أو أثارة من علم » قال: [ الخط ] وهذا صحيح أيضا. قال ابن العربي: واختلفوا في تأويله، فمنهم من قال: جاء لإباحة الضرب، لأن بعض الأنبياء كان يفعل. ومنهم من قال جاء للنهي عنه، لأنه صلى الله عليه وسلم قال: [ فمن وافق خطه فذاك ] . ولا سبيل إلى معرفة طريق النهي المتقدم فيه، فإذا لا سبيل إلى العمل به. قال:

لعمرك ما تدري الضوارب بالحصا ولا زاجرات الطير ما الله صانع

وحقيقته عند أربابه ترجع إلى صور الكواكب، فيدل ما يخرج منها على ما تدل عليه تلك الكواكب من سعد أو نحس يحل بهم، فصار ظنا مبنيا على ظن، وتعلقا بأمر غائب قد درست طريقه وفات تحقيقه، وقد نهت الشريعة عنه، وأخبرت أن ذلك مما اختص الله به، وقطعه عن الخلق، وإن كانت لهم قبل ذلك أسباب يتعلقون بها في درك الأشياء المغيبة، فإن الله قد رفع تلك الأسباب وطمس تلك الأبواب وأفرد نفسه بعلم الغيب، فلا يجوز مزاحمته في ذلك، ولا يحل لأحد دعواه. وطلبه عناء لو لم يكن فيه نهي. فإذ وقد ورد النهي فطلبه معصية أو كفر بحسب قصد الطالب.

قلت: ما اختاره هو قول الخطابي. قال الخطابي: قوله عليه السلام: [ فمن وافق خطه فذاك ] هذا يحتمل الزجر إذ كان ذلك علما لنبوته وقد انقطعت، فنهينا عن التعاطي لذلك. قال القاضي عياض: الأظهر من اللفظ خلاف هذا، وتصويب خط من يوافق خطه، لكن من أين تعلم الموافقة والشرع منع من التخرص وادعاء الغيب جملة - فإنما معناه أن من وافق خطه فذاك الذي يجدون إصابته، لا أنه يريد إباحة ذلك لفاعله على ما تأوله بعضهم. وحكى مكي في تفسير قوله: [ كان نبي من الأنبياء يخط ] أنه كان يخط بأصبعه السبابة والوسطى في الرمل ثم يزجر. وقال ابن عباس في تفسير قوله [ ومنا رجال يخطون ] : هو الخط الذي يخطه الحازي فيعطى حلوانا فيقول: اقعد حتى أخط لك، وبين يدي الحازي غلام معه ميل ثم يأتي إلى أرض رخوة فيخط الأستاذ خطوطا معجلة لئلا يلحقها العدد، ثم يرجع فيمحو على مهل خطين خطين، فإن بقي خطان فهو علامة النجح، وإن بقي خط فهو علامة الخيبة. والعرب تسميه الأسحم وهو مشؤوم عندهم.

 

قال ابن العربي: إن الله تعالى لم يبق من الأسباب الدالة على الغيب التي أذن في التعلق بها والاستدلال منها إلا الرؤيا، فإنه أذن فيها، وأخبر أنها جزء من النبوة وكذلك الفأل، وأما الطيرة والزجر فإنه نهى عنهما. والفأل: هو الاستدلال بما يسمع من الكلام على ما يريد من الأمر إذا كان حسنا، فإذا سمع مكروها فهو تطير، أمره الشرع بأن يفرح بالفأل ويمضى على أمره مسرورا. وإذا سمع المكروه أعرض عنه ولم يرجع لأجله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك ] . وقد روى بعض الأدباء:

الفأل والزجر والكهان كلهم مضللون ودون الغيب أقفال

وهذا كلام صحيح، إلا في الفأل فإن الشرع استثناه وأمر به، فلا يقبل من هذا الشاعر ما نظمه فيه، فإنه تكلم بجهل، وصاحب الشرع أصدق وأعلم وأحكم.

قلت: قد مضى في الطيرة والفأل وفي الفرق بينهما ما يكفي في ( المائدة ) وغيرها. ومضى في ( الأنعام ) أن الله سبحانه منفرد بعلم الغيب، وأن أحدا لا يعلم ذلك إلا ما أعلمه الله، أو يجعل على ذلك دلالة عادية يعلم بها ما يكون على جري العادة، وقد يختلف. مثال إذا رأى نخلة قد أطلعت فإنه يعلم أنها ستثمر، وإذا رآها قد تناثر طلعها علم أنها لا تثمر. وقد يجوز أن يأتي عليها آفة تهلك ثمرها فلا تثمر، كما أنه جائز أن تكون النخلة التي تناثر طلعها يطلع الله فيها طلعا ثانيا فتثمر. وكما أنه جائز أيضا ألا يلي شهره شهر ولا يومه يوم إذا أراد الله إفناء العالم ذلك الوقت. إلى غير ذلك مما تقدم في ( الأنعام ) بيانه.

 

قال ابن خويز منداد: قوله تعالى: « أو أثارة من علم » يريد الخط. وقد كان مالك رحمه الله يحكم بالخط إذا عرف الشاهد خطه. وإذا عرف الحاكم خطه أو خط من كتب إليه حكم به، ثم رجع عن ذلك حين ظهر في الناس ما ظهر من الحيل والتزوير. وقد روي عنه أنه قال: [ يُحدِث الناس فجورا فتحدث لهم أقضية ] . فأما إذا شهد الشهود على الخط المحكوم به، مثل أن يشهدوا أن هذا الحاكم وكتابه، أشهدنا على ما فيه وإن لم يعلموا ما في الكتاب. وكذلك الوصية أو خط الرجل باعترافه بمال لغيره يشهدون أنه خطه ونحو ذلك - فلا يختلف مذهبه أن يحكم به. وقيل: « أو أثارة من علم » أو بقية من علم، قبل ابن عباس والكلبي وأبو بكر بن عياش وغيرهم. وفي الصحاح « أو أثارة من علم » بقية منه. وكذلك الأثرة ( بالتحريك ) . ويقال: سمنت الإبل على أثارة، أي بقية شحم كان قبل ذلك. وأنشد الماوردي والثعلبي قول الراعي:

وذات أثارة أكلت عليها نباتا في أكمته ففارا

وقال الهروي: والأثارة والأثر: البقية، يقال: ما ثم عين ولا أثر. وقال ميمون بن مهران وأبو سلمة بن عبدالرحمن وقتادة: « أو أثارة من علم » خاصة من علم. وقال مجاهد: رواية تأثرونها عمن كان قبلكم. وقال عكرمة ومقاتل: رواية عن الأنبياء. وقال القرظي: هو الإسناد. الحسن: المعنى شيء يثار أو يستخرج. وقال الزجاج: « أو أثارة » أي علامة. والأثارة مصدر كالسماحة والشجاعة. وأصل الكلمة من الأثر، وهي الرواية، يقال: أثرت الحديث آثره أثرا وأثارة وأثرة فأنا آثر، إذا ذكرته عن غيرك. ومنه قيل: حديث مأثور، أي نقله خلف عن سلف. قال الأعشى:

إن الذي فيه تماريتما بُيِّن للسامع والآثر

ويروى « بَيَّن » وقرئ « أو أثرة » بضم الهمزة وسكون الثاء. ويجوز أن يكون معناه بقية من علم. ويجوز أن يكون معناه شيئا مأثورا من كتب الأولين. والمأثور: ما يتحدث به مما صح سنده عمن تحدث به عنه. وقرأ السلمي والحسن وأبو رجاء بفتح الهمزة والثاء من غير ألف، أي خاصة من علم أوتيتموها أو أوثرتم بها على غيركم. وروي عن الحسن أيضا وطائفة « أثرة » مفتوحة الألف ساكنة الثاء، ذكر الأولى الثعلبي والثانية الماوردي. وحكى الثعلبي عن عكرمة: أو ميراث علم. « إن كنتم صادقين » .

 

قوله تعالى: « ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم » فيه بيان مسالك الأدلة بأسرها، فأولها المعقول، وهو قوله تعالى: « قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات » وهو احتجاج بدليل العقل في أن الجماد لا يصح أن يدعى من دون الله فإنه لا يضر ولا ينفع. ثم قال: « ائتوني بكتاب من قبل هذا » فيه بيان أدلة السمع « أو أثارة من علم » .

 

الآية: 5 ( ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون )

 

قوله تعالى: « ومن أضل » أي لا أحد أضل وأجهل « ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة » وهي الأوثان. « وهم عن دعائهم غافلون » يعني لا يسمعون ولا يفهمون، فأخرجها وهي جماد مخرج ذكور بني آدم، إذ قد مثلتها عبدتها بالملوك والأمراء التي تُخدم.

 

الآية: 6 ( وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين )

 

قوله تعالى: « وإذا حشر الناس » يريد يوم القيامة. « كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين » أي هؤلاء المعبودون أعداء الكفار يوم القيامة. فالملائكة أعداء الكفار، والجن والشياطين يتبرؤون غدا من عبدتهم، ويلعن بعضهم بعضا.

ويجوز أن تكون الأصنام للكفار الذين عبدوها أعداء، على تقدير خلق الحياة لها، دليله قوله تعالى: « تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون » [ القصص: 63 ] . وقيل: عادوا معبوداتهم لأنهم كانوا سبب هلاكهم، وجحد المعبودون عبادتهم، وهو قوله: « وكانوا بعبادتهم كافرين » .

 

الآية: 7 ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين )

 

قوله تعالى: « وإذا تتلى عليهم آياتنا ببنات » يعني القرآن. « قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين » .

 

الآية: 8 ( أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم )

 

قوله تعالى: « أم يقولون افتراه » الميم صلة، التقدير: أيقولون افتراه، أي تقوله محمد. وهو إضراب عن ذكر تسميتهم الآيات سحرا. ومعنى الهمزة في « أم » الإنكار والتعجب، كأنه قال: دع هذا واسمع قولهم المستنكر المقضي منه العجب. وذلك أن محمدا كان لا يقدر عليه حتى يقوله ويفتريه على الله، ولو قدر عليه دون أمة العرب لكانت قدرته عليه معجزة لخرقها العادة، وإذا كانت معجزة كانت تصديقا من الله له، والحكيم لا يصدق الكاذب فلا يكون مفتريا، والضمير للحق، والمراد به الآيات. « قل إن افتريته » على سبيل الفرض. « فلا تملكون لي من الله شيئا » أي لا تقدرون على أن تردوا عني عذاب الله، فكيف أفتري على الله لأجلكم. « هو أعلم بما تفيضون فيه » أي تقولونه، عن مجاهد. وقيل: تخوضون فيه من التكذيب. والإفاضة في الشيء: الخوض فيه والاندفاع. أفاضوا في الحديث أي أندفعوا فيه. وأفاض البعير أي دفع جرته من كرشه فأخرجها، ومنه قول الشاعر:

وأفضن بعد كظومهن بجرة

وأفاض الناس من عرفات إلى منى أي دفعوا، وكل دفعة إفاضة. « كفى به شهيدا بيني وبينكم » « كفى به شهيدا » نصب على التمييز. « بيني وبينكم » أي هو يعلم صدقي وأنكم مبطلون. « وهو الغفور » لمن تاب « الرحيم » بعباده المؤمنين.

 

الآية: 9 ( قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين )

 

قوله تعالى: « قل ما كنت بدعا من الرسل » أي أول من أرسل، قد كان قبلي رسل، عن ابن عباس وغيره. والبدع: الأول. وقرأ عكرمة وغيره « بدعا » بفتح الدال، على تقدير حذف المضاف، والمعنى: ما كنت صاحب بدع. وقيل: بدع وبديع بمعنى، مثل نصف ونصيف. وأبدع الشاعر: جاء بالبديع. وشيء بدع ( بالكسر ) أي مبتدع. وفلان بدع في هذا الأمر أي بديع. وقوم أبداع، عن الأخفش. وأنشد قطرب قول عدي بن زيد:

فلا أنا بدع من حوادث تعتري رجالا غدت من بعد بؤسى بأسعد

« وما أدري ما يفعل بي ولا بكم » يريد يوم القيامة. ولما نزلت فرح المشركون واليهود والمنافقون وقالوا: كيف نتبع نبيا لا يدري ما يفعل به ولا بنا، وأنه لا فضل له علينا، ولو لا أنه ابتدع الذي يقول من تلقاء نفسه لأخبره الذي بعثه بما يفعل به، فنزلت: « ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر » [ الفتح: 2 ] فنسخت هذه الآية، وأرغم الله أنف الكفار. وقالت الصحابة: هنيئا لك يا رسول الله، لقد بين الله لك ما يفعل بك يا رسول الله، فليت شعرنا ما هو فاعل بنا؟ فنزلت: « ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار » [ الفتح: 5 ] الآية. ونزلت: « وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا » [ الأحزاب: 47 ] . قاله أنس وابن عباس وقتادة والحسن وعكرمة والضحاك. وقالت أم العلاء امرأة من الأنصار: اقتسمنا المهاجرين فصار لنا عثمان بن مظعون بن حذافة بن جمح، فأنزلناه أبياتنا فتوفي، فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب إن الله أكرمك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ وما يدريك أن الله أكرمه ] ؟ فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله فمن؟ قال: [ أما هو فقد جاءه اليقين وما رأينا إلا خيرا فوالله إني لأرجو له الجنة ووالله إني لرسول الله وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ] . قالت: فوالله لا أزكي بعده أحدا أبدا. ذكره الثعلبي، وقال: وإنما قال هذا حين لم يعلم بغفران ذنبه، وإنما غفر الله له ذنبه في غزوة الحديبية قبل موته بأربع سنين.

قلت: حديث أم العلاء خرجه البخاري، وروايتي فيه: « وما أدري ما يفعل به » ليس فيه « بي ولا بكم » وهو الصحيح إن شاء الله، على ما يأتي بيانه. والآية ليست منسوخة، لأنها خبر. قال النحاس: محال أن يكون في هذا ناسخ ولا منسوخ من جهتين: أحدهما أنه خبر، والآخر أنه من أول السورة إلى هذا الموضع خطاب للمشركين واحتجاج عليهم وتوبيخ لهم، فوجب أن يكون هذا أيضا خطابا للمشركين كما كان قبله وما بعده، ومحال أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين « ما أدري ما يفعل بي ولا بكم » في الآخرة، ولم يزل صلى الله عليه وسلم من أول مبعثه إلى مماته يخبر أن من مات على الكفر مخلد في النار، ومن مات على الإيمان واتبعه وأطاعه فهو في الجنة، فقد رأى صلى الله عليه وسلم ما يفعل به وبهم في الآخرة. وليس يجوز أن يقول لهم ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة، فيقولون كيف نتبعك وأنت لا تدري أتصير إلى خفض ودعة أم إلى عذاب وعقاب.

والصحيح في الآية قول الحسن، كما قرأ علي بن محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف بن موسى قال حدثنا وكيع قال حدثنا أبو بكر الهذلي عن الحسن: « وما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا » قال أبو جعفر: وهذا أصح قول وأحسنه، لا يدري صلى الله عليه وسلم ما يلحقه وإياهم من مرض وصحة ورخص وغلاء وغنى وفقر. ومثله: « ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير » [ الأعراف: 188 ] . وذكر الواحدي وغيره عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: لما اشتد البلاء بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء، فقصها على أصحابه به فاستبشروا بذلك، ورأوا فيها فرجا مما هم فيه من أذى المشركين، ثم إنهم مكثوا برهة لا يرون ذلك فقالوا: يا رسول الله، متى نهاجر إلى الأرض التي رأيت؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: « وما أدري ما يفعل بي ولا بكم » أي لا أدري أأخرج إلى الموضع الذي رأيته في منامي أم لا. ثم قال: [ إنما هو شيء رأيته في منامي ما أتبع إلا ما يوحى إلي ] أي لم يوح إلي ما أخبرتكم به. قال القشيري: فعلى هذا لا نسخ في الآية. وقيل: المعنى لا أدري ما يفرض علي وعليكم من الفرائض. واختار الطبري أن يكون المعنى: ما أدري ما يصير إليه أمري وأمركم في الدنيا، أتؤمنون أم تكفرون، أم تعاجلون بالعذاب أم تؤخرون.

قلت: وهو معنى قول الحسن والسدي وغيرهما. قال الحسن: ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا، أما في الآخرة فمعاذ الله قد علم أنه في الجنة حين أخذ ميثاقه في الرسل، ولكن قال ما أدري ما يفعل بي في الدنيا أأخرج كما أخرجت الأنبياء قبلي، أو أقتل كما قتلت الأنبياء قبلي، ولا أدري ما يفعل بكم، أأمتي المصدقة أم المكذبة، أم أمتى المرمية بالحجارة من السماء قذفا، أو مخسوف بها خسفا، ثم نزلت: « هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله » [ التوبة: 33 ] . يقول: سيظهر دينه على الأديان. ثم قال في أمته: « وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم » [ الأنفال: 33 ] فأخبره تعالى بما يصنع به وبأمته، ولا نسخ على هذا كله، والحمد لله. وقال الضحاك أيضا: « ما أدري ما يفعل بي ولا بكم » أي ما تؤمرون به وتنهون عنه. وقيل: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول للمؤمنين ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في القيامة، ثم بين الله تعالى ذلك في قوله: « ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر » [ الفتح: 2 ] وبين فيما بعد ذلك حال المؤمنين ثم بين حال الكافرين.

قلت: وهذا معنى القول الأول، إلا أنه أطلق فيه النسخ بمعنى البيان، وأنه أمر أن يقول ذلك للمؤمنين، والصحيح ما ذكرناه عن الحسن وغيره. و « ما » في « ما يفعل » يجوز أن تكون موصولة، وأن تكون استفهامية مرفوعة.

 

قوله تعالى: « إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين » وقرئ « يوحي » أي الله عز وجل. تقدم في غير موضع.

 

الآية: 10 ( قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين )

 

قوله تعالى: « قل أرأيتم إن كان من عند الله » يعني القرآن. « وكفرتم به » وقال الشعبي: المراد محمد صلى الله عليه وسلم. « وشهد شاهد من بني إسرائيل » قال ابن عباس والحسن وعكرمة وقتادة ومجاهد: هو عبدالله بن سلام، شهد على اليهود أن رسول الله صلى الله مذكور في التوراة، وأنه نبي من عند الله. وفي الترمذي عنه: ونزلت في آيات من كتاب الله، نزلت في: « وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين » . وقد تقدم في آخر سورة « الرعد » . وقال مسروق: هو موسى والتوراة، لا ابن سلام؛ لأنه أسلم بالمدينة والسورة مكية. وقال: وقول: « وكفرتم به » مخاطبة لقريش. الشعبي: هو من آمن من بني إسرائيل بموسى والتوراة، لأن ابن سلام إنما أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بعامين، والسورة مكية. قال القشيري: ومن قال الشاهد موسى قال السورة مكية، وأسلم ابن سلام قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بعامين. ويجوز أن تكون الآية نزلت بالمدينة وتوضع في سورة مكية، فإن الآية كانت تنزل فيقول النبي صلى الله عليه وسلم ضعوها في سورة كذا. والآية في محاجة المشركين، ووجه الحجة أنهم كانوا يراجعون اليهود في أشياء، أي شهادتهم لهم وشهادة نبيهم لي من أوضح الحجج. ولا يبعد أن تكون السورة في محاجة اليهود، ولما جاء ابن سلام مسلما من قبل أن تعلم اليهود بإسلامه قال: يا رسول الله، اجعلني حكما بينك وبين اليهود، فسألهم عنه: [ أي رجل هو فيكم ] قالوا: سيدنا وعالمنا. فقال: [ إنه قد آمن بي ] فأساؤوا القول فيه... الحديث، وقد تقدم. قال ابن عباس: رضيت اليهود بحكم ابن سلام، وقالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن يشهد لك آمنا بك، فسئل فشهد ثم أسلم. « على مثله » أي على مثل ما جئتكم به، فشهد موسى على التوراة ومحمد على القرآن. وقال الجرجاني. « مثل » صلة، أي وشهد شاهد عليه أنه من عند الله. « فآمن » أي هذا الشاهد. « واستكبرتم » أنتم عن الإيمان. وجواب « إن كان » محذوف تقديره: فآمن أتؤمنون، قال الزجاج. وقيل: « فآمن واستكبرتم » أليس قد ظلمتم، يبينه « إن الله لا يهدي القوم الظالمين » وقيل: « فآمن واستكبرتم » أفتأمنون عذاب الله. و « أرأيتم » لفظ موضوع للسؤال والاستفهام، ولذلك لا يقتضي مفعولا. وحكى النقاش وغيره: أن في الآية تقديما وتأخيرا، وتقديره: قل أرأيتم إن كان من عند الله وشهد شاهد من بني إسرائيل فآمن هو وكفرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين.

 

الآية: 11 ( وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم )

 

قوله تعالى: « وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه » اختلف في سبب نزولها على ستة أقوال: الأول: أن أبا ذر الغفاري دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام بمكة فأجاب، واستجار به قومه فأتاه زعيمهم فأسلم، ثم دعاهم الزعيم فأسلموا، فبلغ ذلك قريشا فقالوا: غفار الحلفاء لو كان هذا خيرا ما سبقونا إليه، فنزلت هذه الآية، قال أبو المتوكل. الثاني: أن زنيرة أسلمت فأصيب بصرها فقالوا لها: أصابك اللات والعزى، فرد الله عليها بصرها. فقال عظماء قريش: لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقتنا إليه زنيرة، فأنزل الله تعالى هذه الآية، قاله عروة بن الزبير. الثالث: أن الذين كفروا هم بنو عامر وغطفان وتميم وأسد وحنظلة وأشجع قالوا لمن أسلم من غفار وأسلم وجهينة ومزينة وخزاعة: لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقتنا إليه رعاة البهم إذ نحن أعز منهم، قاله الكلبي والزجاج، وحكاه القشيري عن ابن عباس. الرابع: وقال قتادة: نزلت في مشركي قريش، قالوا: لو كان ما يدعونا إليه محمد خيرا ما سبقنا إليه بلال وصهيب وعمار وفلان وفلان.

الخامس: أن الذين كفروا من اليهود قالوا للذين آمنوا يعني عبدالله بن سلام وأصحابه: لو كان دين محمد حقا ما سبقونا إليه، قال أكثر المفسرين، حكاه الثعلبي.

وقال مسروق: إن الكفار قالوا لو كان خيرا ما سبقتنا إليه اليهود، فنزلت هذه الآية. وهذه المعارضة من الكفار في قولهم: لو كان خيرا ما سبقونا إليه من أكبر المعارضات بانقلابها عليهم لكل من خالفهم، حتى يقال لهم: لو كان ما أنتم عليه خيرا ما عدلنا عنه، ولو كان تكذيبكم للرسول خيرا ما سبقتمونا إليه، ذكره الماوردي. ثم قيل: قوله: « ما سبقونا إليه » يجوز أن يكون من قول الكفار لبعض المؤمنين، ويجوز أن يكون على الخروج من الخطاب إلي الغبة، كقوله تعالى: « حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم » [ يونس: 22 ] . « وإذ لم يهتدوا به » يعني الإيمان. وقيل القرآن. وقيل محمد صلى الله عليه وسلم. « فسيقولون هذا إفك قديم » أي لما لم يصيبوا الهدى بالقرآن ولا بمن جاء به عادوه ونسبوه إلى الكذب، وقالوا هذا إفك قديم، كما قالوا: أساطير الأولين وقيل لبعضهم: هل في القرآن: من جهل شيئا عاداه؟ فقال نعم، قال الله تعالى: « وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم » ومثله: « بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه » [ يونس: 39 ] .

 

الآية: 12 ( ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين )

 

قوله تعالى: « ومن قبله » أي ومن قبل القرآن « كتاب موسى » أي التوراة « إماما » يقتدى بما فيه. و « إماما » نصب على الحال، لأن المعنى: وتقدمه كتاب موسى إماما. « ورحمة » معطوف عليه. وقيل: انتصب بإضمار فعل، أي أنزلناه إماما ورحمة. وقال الأخفش: على القطع، لأن كتاب موسى معرفة بالإضافة، لأن النكرة إذا أعيدت أو أضيفت أو أدخل عليها ألف ولام صارت معرفة. « ورحمة » من الله. وفي الكلام حذف، أي فلم تهتدوا به. وذلك أنه كان في التوراة نعت النبي صلى الله عليه وسلم والإيمان به فتركوا ذلك. و « إماما » نصب على الحال، لأن المعنى: وتقدمه كتاب موسى إماما. « ورحمة » معطوف عليه. وقيل: انتصب بإضمار فعل، أي أنزلناه إماما ورحمة. وقال الأخفش: على القطع، لأن كتاب موسى معرفة بالإضافة، لأن النكرة إذا أعيدت أو أضيفت أو أدخل عليها ألف ولام صارت معرفة. « وهذا كتاب » يعني القرآن « مصدق » يعني للتوراة ولما قبله من الكتب. وقيل: مصدق للنبي صلى الله عليه وسلم. « لسانا عربيا » منصوب على الحال، أي مصدق لما قبله عربيا، و « لسانا » توطئة للحال أي تأكيد، كقولهم: جاءني زيد رجلا صالحا، فتذكر رجلا توكيدا.

وقيل: نصب بإضمار فعل تقديره: وهذا كتاب مصدق أعني لسانا عربيا. وقيل: نصب بإسقاط حرف الخفض تقديره: بلسان عربي. وقيل: إن لسانا مفعول والمراد به النبي صلى الله عليه وسلم، أي وهذا كتاب مصدق للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه معجزته، والتقدير: مصدق ذا لسان عربي. فاللسان منصوب بمصدق، وهو النبي صلى الله عليه وسلم. ويبعد أن يكون اللسان القرآن، لأن المعنى يكون يصدق نفسه. « لينذر الذين ظلموا » قراءة العامة « لينذر » بالياء خبر عن الكتاب، أي لينذر الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية. وقيل: هو خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم. وقرأ نافع وابن عامر والبزي بالتاء، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: « إنما أنت منذر » [ الرعد: 7 ] . « وبشرى للمحسنين » « بشرى » في موضع رفع، أي وهو بشرى. وقيل: عطفا على الكتاب، أي وهذا كتاب مصدق وبشرى. ويجوز أن يكون منصوبا بإسقاط حرف الخفض، أي لينذر الذين ظلموا وللبشرى، فلما حذف الخافض نصب. وقيل: على المصدر، أي وتبشر المحسنين بشرى، فلما جعل مكان وتبشر بشرى أو بشارة نصب، كما تقول: أتيتك لأزورك، وكرامة لك وقضاء لحقك، يعني لأزورك وأكرمك وأقضي حقك، فنصب الكرامة بفعل مضمر.

 

الآيات: 13 - 14 ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون )

 

قوله تعالى: « إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا » الآية تقدم معناها. وقال ابن عباس: نزلت في أبي بكر الصديق. والآية تعم. « جزاء » نصب على المصدر.

 

الآية: 15 ( ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين )

 

قوله تعالى: « ووصينا الإنسان بوالديه » بين اختلاف حال الإنسان مع أبويه، فقد يطيعهما وقد يخالفهما، أي فلا يبعد مثل هذا في حق النبي صلى الله عليه وسلم وقومه حتى يستجيب له البعض ويكفر البعض. فهذا وجه اتصال الكلام بعضه ببعض، قاله القشيري. « حسنا » قراءة العامة « حُسناً » وكذا هو في مصاحف أهل الحرمين والبصرة والشام. وقرأ ابن عباس والكوفيون « إحسانا » وحجتهم قوله تعالى في سورة ( الأنعام وبني إسرائيل ) : « وبالوالدين إحسانا » [ الأنعام: 151 ] وكذا هو في مصاحف الكوفة. وحجة القراءة الأولى قوله تعالى في سورة العنكبوت: « ووصينا الإنسان بوالديه حسنا » [ العنكبوت: 8 ] ولم يختلفوا فيها. والحسن خلاف القبح. والإحسان خلاف الإساءة. والتوصية الأمر. وقد مضى القول في هذا وفيمن نزلت.

 

قوله تعالى: « حملته أمه كرها ووضعته كرها » أي بكره ومشقة. وقراءة العامة بفتح الكاف. واختاره أبو عبيد، قال: وكذلك لفظ الكره في كل القرآن بالفتح إلا التي في سورة البقرة: « كتب عليكم القتال وهو كره لكم » [ البقرة: 216 ] لأن ذلك اسم وهذه كلها مصادر. وقرأ الكوفيون « كرها » بالضم. قيل: هما لغتان مثل الضعف والضعف والشهد والشهد، قاله الكسائي، وكذلك هو عند جميع البصريين. وقال الكسائي أيضا والفراء في الفرق بينهما: إن الكره ( بالضم ) ما حمل الإنسان على نفسه، وبالفتح ما حمل على غيره، أي قهرا وغضبا، ولهذا قال بعض أهل العربية إن كرها ( بفتح الكاف ) لحن.

 

قوله تعالى: « وحمله وفصاله ثلاثون شهرا » قال ابن عباس: إذا حملت تسعة أشهر أرضعت إحدى وعشرين شهرا، وإن حملت ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهرا. وروي أن عثمان قد أتي بامرأة قد ولدت لستة أشهر، فأراد أن يقضي عليها بالحد، فقال له علي رضي الله عنه: ليس ذلك عليها، قال الله تعالى: « وحمله وفصاله ثلاثون شهرا » وقال تعالى: « والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين » [ البقرة: 233 ] فالرضاع أربعة وعشرون شهرا والحمل ستة أشهر، فرجع عثمان عن قول ولم يحدها. وقد مضى في « البقرة » . وقيل: لم يعد ثلاثة أشهر في ابتداء الحمل، لأن الولد فيها نطفة وعلقة ومضغة فلا يكون له ثقل يحس به، وهو معنى قوله تعالى: « فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به » [ الأعراف: 189 ] . والفصال الفطام. وقد تقدم في « لقمان » الكلام فيه. وقرأ الحسن ويعقوب وغيرهما « وفصله » بفتح الفاء وسكون الصاد. وروي أن الآية نزلت في أبي بكر الصديق؛ وكان حمله وفصاله في ثلاثين شهرا، حملته أمه تسعة أشهر وأرضعته إحدى وعشرين شهرا. وفي الكلام إضمار، أي ومدة حمله ومدة فصاله ثلاثون شهرا، ولو لا هذا الإضمار لنصب ثلاثون على الظرف وتغير المعنى.

 

قوله تعالى: « حتى إذا بلغ أشده » قال ابن عباس: « أشده » ثماني عشرة سنة. وقال في رواية عطاء عنه: إن أبا بكر صحب النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة والنبي صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة، وهم يريدون الشام للتجارة، فنزلوا منزلا فيه سدرة، فقعد النبي صلى الله عليه وسلم في ظلها، ومضى أبو بكر إلى راهب هناك فسأله عن الدين. فقال الراهب: من الرجل الذي في ظل الشجرة؟ فقال: ذاك محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب. فقال: هذا والله نبي، وما استظل أحد تحتها بعد عيسى. فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق، وكان لا يكاد يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفاره وحضره. فلما نبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين سنة، صدق أبو بكر رضى الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمانية وثلاثين سنة. فلما بلغ أربعين سنة قال: « رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي » الآية. وقال الشعبي وابن زيد: الأشد الحلم. وقال الحسن: هو بلوغ الأربعين. وعنه قيام الحجة عليه. وقد مضى في « الأنعام » الكلام في الآية. وقال السدي والضحاك: نزلت في سعد بن أبي وقاص. وقد تقدم. وقال الحسن: هي مرسلة نزلت على العموم. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « قال رب أوزعني » أي ألهمني. « أن أشكر نعمتك » في موضع نصب على المصدر، أي شكر نعمتك « علي » أي ما أنعمت به علي من الهداية « وعلى والدي » بالتحنن والشفقة حتى ربياني صغيرا. وقيل: أنعمت علي بالصحة والعافية وعلى والدي بالغنى والثروة. وقال علي رضي الله عنه: هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أسلم أبواه جميعا ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أن أسلم أبواه غيره، فأوصاه الله بهما ولزم ذلك من بعده. ووالده هو قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم. وأمه أم الخير، واسمها سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد. وأم أبيه أبي قحافة « قيلة » « بالياء المعجمة باثنتين من تحتها » . وامرأة أبي بكر الصديق اسمها « قتيلة » « بالتاء المعجمة باثنتين من فوقها » بنت عبد العزى. « وأن أعمل صالحا ترضاه » قال ابن عباس: فأجابه الله فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله منهم بلال وعامر بن فهيرة، ولم يدع شيئا من الخير إلا أعانه الله عليه. وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ من أصبح منكم اليوم صائما ] ؟ قال أبو بكر أنا. قال: [ فمن تبع منكم اليوم جنازة ] ؟ قال أبو بكر أنا. قال: [ فمن أطعم منكم اليوم مسكينا ] ؟ قال أبو بكر أنا. قال: [ فمن عاد منكم اليوم مريضا ] ؟ قال أبو بكر أنا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة ] .

 

قوله تعالى: « وأصلح لي في ذريتي » أي اجعل ذريتي صالحين. قال ابن عباس: فلم يبق له ولد ولا والد ولا والدة إلا امنوا بالله وحده. ولم يكن أحد من أصحاب رسول الله أسلم هو وأبواه وأولاده وبناته كلهم إلا أبو بكر. وقال سهل بن عبدالله: المعنى اجعلهم لي خلف صدق، ولك عبيد حق. وقال أبو عثمان: اجعلهم أبرارا لي مطيعين لك. وقال ابن عطاء: وفقهم لصالح أعمال ترضى بها عنهم. وقال محمد بن علي: لا تجعل للشيطان والنفس والهوى عليهم سبيلا. وقال مالك بن مقول: اشتكى أبو معشر ابنه إلى طلحة بن مصرف، فقال: استعن عليه بهذه الآية، وتلا: « رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين » . « إني تبت إليك » قال ابن عباس: رجعت عن الأمر الذي كنت عليه. « وإني من المسلمين » أي المخلصين بالتوحيد.

 

الآية: 16 ( أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون )

 

قوله تعالى: « أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم » قراءة العامة بضم الياء فيهما. وقرئ « يتقبل، ويتجاوز » بفتح الياء، والضمير فيهما يرجع لله عز وجل. وقرأ حفص وحمزة والكسائي « نتقل، ونتجاوز » النون فيهما، أي نغفرها ونصفح عنها. والتجاوز أصله من جزت الشيء إذا لم تقف عليه. وهذه الآية تدل على أن الآية التي قبلها « ووصينا الإنسان » إلى آخرها مرسلة نزلت على العموم. وهو قول الحسن. ومعنى « نتقبل عنهم » أي نتقبل منهم الحسنات ونتجاوز عن السيئات. قال زيد بن أسلم - ويحكيه مرفوعا - : إنهم إذا أسلموا قبلت حسناتهم وغفرت سيئاتهم. وقيل: الأحسن ما يقتضى الثواب من الطاعات، وليس في الحسن المباح ثواب ولا عقاب، حكاه ابن عيسى. « في أصحاب الجنة » « في » بمعنى مع، أي مع أصحاب الجنة، تقول: أكرمك وأحسن إليك في جميع أهل البلد، أي مع جميعهم. « وعد الصدق » نصب لأنه مصدر مؤكد لما قبله، أي وعد الله أهل الإيمان أن يتقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم وعد الصدق. وهو من باب إضافة الشيء إلى نفسه، لأن الصدق هو ذلك الوعد الذي وعده الله، وهو كقوله تعالى: « حق اليقين » [ الواقعة: 95 ] . وهذا عند الكوفيين، فأما عند البصريين فتقديره: وعد الكلام الصدق أو الكتاب الصدق، فحذف الموصوف. وقد مضى هذا في غير موضع. « الذي كانوا يوعدون » في الدنيا على ألسنة الرسل، وذلك الجنة.

 

الآيات: 17 - 18 ( والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين، أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين )

 

قوله تعالى: « والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن اخرج » أي أن أبعث. « وقد خلت القرون من قبلي » قراءة نافع وحفص وغيرهما « أف » مكسور منون. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وابن عامر والمفضل عن عاصم « أف » بالفتح من غير تنوين. الباقون بالكسر غير منون، وكلها لغات، وقد مضى في « بني إسرائيل » . وقراءة العامة « أتعدانني » بنونين مخففتين. وفتح ياءه أهل المدينة ومكة. وأسكن الباقون. وقرأ أبو حيوة والمغيرة وهشام « أتعداني » بنون واحدة مشددة، وكذلك هي في مصاحف أهل الشام. والعامة على ضم الألف وفتح الراء من « أن أخرج » . وقرأ الحسن ونصر وأبو العالية والأعمش وأبو معمر بفتح الألف وضم الراء. قال ابن عباس والسدي وأبو العالية ومجاهد: نزلت في عبدالله بن أبي بكر رضي الله عنهما، وكان يدعوه أبواه إلى الإسلام فيجيبهما بما أخبر الله عز وجل.

وقال قتادة والسدي أيضا: هو عبدالرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه، وكان أبوه وأمه أم رومان يدعوانه إلى الإسلام ويعدانه بالبعث، فيرد عليهما بما حكاه الله عز وجل عنه، وكان هذا منه قبل إسلامه. وروي أن عائشة رضي الله عنها أنكرت أن تكون نزلت في عبدالرحمن. وقال الحسن وقتادة أيضا: هي نعت عبد كافر عاق لوالديه. وقال الزجاج: كيف يقال نزلت في عبدالرحمن قبل إسلامه والله عز وجل يقول: « أولئك الذين حق عليهم القول في أمم » أي العذاب، ومن ضرورته عدم الإيمان، وعبدالرحمن من أفاضل المؤمنين، فالصحيح أنها نزلت في عبد كافر عاق لوالديه. وقال محمد بن زياد: كتب معاوية إلى مروان بن الحكم حتى يبايع الناس ليزيد، فقال عبدالرحمن بن أبي بكر: لقد جئتم بها هرقلية، أتبايعون لأبنائكم فقال مروان: هو الذي يقول الله فيه: « والذي قال لوالديه أف لكما » الآية. فقال: والله ما هو به. ولو شئت لسميت، ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه، فأنت فضض من لعنة الله. قال المهدوي: ومن جعل الآية في عبدالرحمن كان قوله بعد ذلك « أولئك الذين حق عليهم القول » يراد به من اعتقد ما تقدم ذكره، فأول الآية خاص وآخرها عام. وقيل إن عبدالرحمن لما قال: « وقد خلت القرون من قبلي » قال مع ذلك: فأين عبدالله بن جدعان، وأين عثمان بن عمرو، وأين عامر بن كعب ومشايخ قريش حتى أسألهم عما يقولون. فقول: « أولئك الذين حق عليهم القول » يرجع إلى أولئك الأقوام.

قلت: قد مضى من خبر عبدالرحمن بن أبي بكر في سورة ( الأنعام ) عند قوله: « له أصحاب يدعونه إلى الهدى » [ الأنعام: 71 ] ما يدل على نزول هذه الآية فيه، إذ كان كافرا وعند إسلامه وفضله تعين أنه ليس المراد بقوله: « أولئك الذين حق عليهم القول » . « وهما » يعني والديه. « يستغيثان الله » أي يدعوان الله له بالهداية. أو يستغيثان بالله من كفره، فلما حذف الجار وصل الفعل فنصب. وقيل: الاستغاثة الدعاء، فلا حاجة إلى الباء. قال الفراء: أجاب الله دعاءه وغواثه. « ويلك آمن » أي صدق بالبعث. « إن وعد الله حق » أي صدق لا خلف فيه. « فيقول ما هذا » أي ما يقوله والداه. « إلا أساطير الأولين » أي أحاديثهم وما سطروه مما لا أصل له. « أولئك الذين حق عليهم القول » يعني الذين أشار إليهم ابن أبي بكر في قوله أحيوا لي مشايخ قريش، وهم المعنيون بقوله: « وقد خلت القرون من قبلي » . فأما ابن أبي بكر عبدالله أو عبدالرحمن فقد أجاب الله فيه دعاء أبيه في قوله: « وأصلح لي في ذريتي » [ الأحقاف: 15 ] على ما تقدم. ومعنى: « حق عليهم القول » أي وجب عليهم العذاب، وهي كلمة الله: ( هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي ) . « في أمم » أي مع أمم « قد خلت من قبلهم » تقدمت ومضت. « من الجن والإنس » الكافرين « إنهم » أي تلك الأمم الكافرة « كانوا خاسرين » لأعمالهم، أي ضاع سعيهم وخسروا الجنة.

 

الآية: 19 ( ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون )

 

قوله تعالى: « ولكل درجات مما عملوا » أي ولكل واحد من الفريقين المؤمنين والكافرين من الجن والإنس مراتب عند الله يوم القيامة بأعمالهم. قال ابن زيد: درجات أهل النار في هذه الآية تذهب سفالا، ودرج أهل الجنة علوا. « وليوفيهم أعمالهم » قرأ ابن كثير وابن محيصن وعاصم وأبو عمرو ويعقوب بالياء لذكر الله قبله، وهو قوله تعالى: « إن وعد الله حق » واختاره أبو حاتم. الباقون بالنون ردا على قوله تعالى: « ووصينا الإنسان بوالديه » وهو اختيار أبي عبيد. « وهم لا يظلمون » أي لا يزاد على مسيء ولا ينقص من محسن.

 

الآية: 20 ( ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون )

 

قوله تعالى: « ويوم يعرض » أي ذكرهم يا محمد يوم يعرض. « على النار » أي يكشف الغطاء فيقربون من النار وينظرون إليها. « أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها » أي يقال لهم أذهبتم، فالقول مضمر. وقرأ الحسن ونصر وأبو العال ويعقوب وابن كثير « أأذهبتم » بهمزتين مخففتين، واختاره أبو حاتم. وقرأ أبو حيوة وهشام « آذهبتم » بهمزة واحدة مطولة على الاستفهام. الباقون بهمزة واحدة من غير مد على الخبر، وكلها لغات فصيحة ومعناها التوبيخ، والعرب توبخ بالاستفهام وبغير الاستفهام، وقد تقدم. واختار أبو عبيد ترك الاستفهام لأنه قراءة أكثر أئمة السبعة نافع وعاصم وأبي عمرو وحمزة والكسائي، مع من وافقهم شيبة والزهري وابن محيصن والمغيرة بن أبي شهاب ويحيى بن الحارث والأعمش ويحيى بن وثاب وغيرهم، فهذه عليها جلة الناس. وترك الاستفهام أحسن، لأن إثباته يوهم أنهم لم يفعلوا ذلك، كما تقول: أنا ظلمتك؟ تريد أنا لم أظلمك. وإثباته حسن أيضا، يقول القائل: ذهبت فعلت كذا، يوبخ ويقول: أذهبت فعلت كل ذلك جائز. ومعنى « أذهبتم طيباتكم » أي تمتعتم بالطيبات في الدنيا واتبعتم الشهوات واللذات، يعني المعاصي. « فاليوم تجزون عذاب الهون » أي عذاب الخزي والفضيحة. قال مجاهد: الهون الهوان. قتادة: بلغة قريش. « بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق » أي تستعلون على أهلها بغير استحقاق. « وبما كنتم تفسقون » في أفعالكم بغيا وظلما. وقيل: « أذهبتم طيباتكم » أي أفنيتم شبابكم في الكفر والمعاصي. قال ابن بحر: الطيبات الشباب والقوة، مأخوذ من قولهم: ذهب أطيباه، أي شبابه وقوته. قال الماوردي: ووجدت الضحاك قاله أيضا.

قلت: القول الأول أظهر، روى الحسن عن الأحنف بن قيس أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: لأنا أعلم بخفض العيش، ولو شئت لجعلت أكبادا وصلاء وصنابا وصلائق، ولكني أستبقي حسناتي، فإن الله عز وجل وصف أقواما فقال: « أذهبتم طباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها » وقال أبو عبيد في حديث عمر: لو شئت لدعوت بصلائق وصناب وكراكر وأسنمة. وفي بعض الحديث: وأفلاذ. قال أبو عمرو وغيره: الصلاء ( بالمد والكسر ) : الشواء، سمي بذلك لأنه يصلى بالنار. والصلاء أيضا: صلاء النار، فإن فتحت الصاد قصرت وقلت: صلى النار. والصناب: الأصبغة المتخذة من الخردل والزبيب. قال أبو عمرو: ولهذا قيل للبرذون: صنابي، وإنما شبه لونه بذلك. قال: والسلائق ( بالسين ) هو ما يسلق من البقول وغيرها. وقال غيره: هي الصلائق بالصاد، قال جرير:

تكلفني معيشة آل زيد ومن لي بالصلائق والصناب

والصلائق: الخبز الرقاق العريض. وقد مضى هذا المعنى في ( الأعراف ) . وأما الكراكر فكراكر الإبل، واحدتها كركرة وهي معروفة، هذا قول أبي عبيد.

وفي الصحاح: والكركرة رحى زور البعير، وهي إحدى النفثات الخمس. والكركرة أيضا الجماعة من الناس. وأبو مالك عمرو بن كركرة رجل من علماء اللغة. قال أبو عبيد: وأما الأفلاذ فإن واحدها فلذ، وهي القطعة من الكبد. قال أعشى باهلة:

تكفيه حزة فلذ إن ألم بها من الشواء ويروي شربه الغمر

وقال قتادة: ذكر لنا أن عمر رضي الله عنه قال: لو شئت كنت أطيبكم طعاما، وألينكم لباسا، ولكني أستبقي طيباتي للآخرة. ولما قدم عمر الشام صنع له طعام لم ير قط مثله قال: هذا لنا! فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وما شبعوا من خبز الشعير فقال خالد بن الوليد: لهم الجنة، فاغرورقت عينا عمر بالدموع وقال: لئن كان حظنا من الدنيا هذا الحطام، وذهبوا هم في حظهم بالجنة فلقد باينونا بونا بعيدا.

وفي صحيح مسلم وغيره أن عمر رضي الله عنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مشربته حين هجر نساءه قال: فالتفت فلم أر شيئا يرد البصر إلا أهبا جلودا معطونة قد سطع ريحها، فقلت: يا رسول الله، أنت رسول الله وخيرته، وهذا كسرى وقيصر في الديباج والحرير؟ قال: فاستوى جالسا وقال: ( أفي شك أنت يا ابن الخطاب. أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا ) فقلت: استغفر لي فقال: ( اللهم اغفر له ) . وقال حفص بن أبي العاص: كنت أتغدى عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخبز والزيت، والخبز والخل، والخبز واللبن، والخبز والقديد، وأقل ذلك اللحم الغريض. وكان يقول: لا تنخلوا الدقيق فإنه طعام كله، فجيء بخبز متفلع غليظ، فجعل يأكل ويقول: كلوا، فجعلنا لا نأكل، فقال: ما لكم لا تأكلون؟ فقلنا: والله يا أمير المؤمنين نرجع إلى طعام ألين من طعامك هذا، فقال: يا بن أبي العاص أما ترى بأني عالم أن لو أمرت بعناق سمينة فيلقى عنها شعرها ثم تخرج مصلية كأنها كذا وكذا، أما ترى بأني عالم أن لو أمرت بصاع أو صاعين من زبيب فأجعله في سقاء ثم أشن عليه من الماء فيصبح كأنه دم غزال، فقلت: يا أمير المؤمنين، أجل ما تنعت العيش، قال: أجل والله الذي لا إله إلا هو لولا أني أخاف أن تنقص حسناتي يوم القيامة لشاركناكم في العيش ولكني سمعت الله تعالى يقول لأقوام: « أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها » . « فاليوم تجزون عذاب الهون » أي الهوان. « بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق » أي تتعظمون عن طاعة الله وعلى عباد الله. « وبما كنتم تفسقون » تخرجون عن طاعة الله. وقال جابر: اشتهى أهلي لحما فاشتريته لهم فمررت بعمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: ما هذا يا جابر؟ فأخبرته، فقال: أو كلما اشتهى أحدكم شيئا جعله في بطنه أما يخشى أن يكون من أهل هذه الآية: « أذهبتم طيباتكم » الآية.

قال ابن العربي: وهذا عتاب منه له على التوسع بابتياع اللحم والخروج عن جلف الخبز والماء، فإن تعاطي الطيبات من الحلال تستشره لها الطباع وتستمرئها العادة فإذا فقدتها استسهلت في تحصيلها بالشبهات حتى تقع في الحرام المحض بغلبة العادة واستشراه الهوى على النفس الأمارة بالسوء. فأخذ عمر الأمر من أوله وحماه من ابتدائه كما يفعله مثله. والذي يضبط هذا الباب ويحفظ قانونه: على المرء أن يأكل ما وجد، طيبا كان أو قفارا، ولا يتكلف الطيب ويتخذه عادة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يشبع إذا وجد، ويصبر إذا عدم، ويأكل الحلوى إذا قدر عليها، ويشرب العسل إذا اتفق له، ويأكل اللحم إذا تيسر، ولا يعتمد أصلا، ولا يجعله ديدنا. ومعيشة النبي صلى الله عليه وسلم معلومة، وطريقة الصحابة منقولة، فأما اليوم عند استيلاء الحرام وفساد الحطام فالخلاص عسير، والله يهب الإخلاص، ويعين على الخلاص برحمته. وقيل: إن التوبيخ واقع على ترك الشكر لا على تناول الطيبات المحللة، وهو حسن، فإن تناول الطيب الحلال مأذون فيه، فإذا ترك الشكر عليه واستعان به على ما لا يحل له فقد أذهبه. والله أعلم.

 

الآية: 21 ( واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم )

 

قوله تعالى: « واذكر أخا عاد » هو هود بن عبدالله بن رباح عليه السلام، كان أخاهم في النسب لا في الدين. « إذ أنذر قومه بالأحقاف » أي اذكر لهؤلاء المشركين قصة عاد ليعتبروا بها. وقيل: أمره بأن يتذكر في نفسه قصة هود ليقتدي به، ويهون عليه تكذيب قومه له. والأحقاف: ديار عاد. وهي الرمال العظام، في قول الخليل وغيره. وكانوا قهروا أهل الأرض بفضل قوتهم. والأحقاف جمع حقف، وهو ما استطال من الرمل العظيم وأعوج ولم يبلغ أن يكون جبلا، والجمع حقاف وأحقاف وحقوف. واحقوقف الرمل والهلال أي اعوج. وقيل: الحقف جمع حقاف. والأحقاف جمع الجمع. ويقال: حِقف أحقف. قال الأعشى:

بات إلى أرطاة حقف أحقفا

أي رمل مستطيل مشرف. والفعل منه احقوقف. قال العجاج:

طي الليالي زلفا فزلفا سماوة الهلال حتى احقوقفا

أي انحنى واستدار. وقال امرؤ القيس:

كحقف النقا يمشي الوليدان فوقه بما احتسبا من لين مس وتسهال

وفيما أريد بالأحقاف ها هنا مختلف فيه. فقال ابن زيد: هي رمال مشرفة مستطيلة كهيئة الجبال، ولم تبلغ أن تكون جبالا، وشاهده ما ذكرناه. وقال قتادة: هي جبال مشرفة بالشحر، والشحر قريب من عدن، يقال: شحر عمان وشحر عمان، وهو ساحل البحر بين عمان وعدن. وعنه أيضا: ذكر لنا أن عادا كانوا أحياء باليمن، أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها: الشحر. وقال مجاهد: هي أرض من حسمى تسمى بالأحقاف. وحسمى ( بكسر الحاء ) اسم أرض بالبادية فيها جبال شواهق ملس الجوانب لا يكاد القتام يفارقها. قال النابغة:

فأصبح عاقلا بجبال حسمى دقاق الترب محتزم القتام

قاله الجوهري. وقال ابن عباس والضحاك: الأحقاف جبل بالشام. وعن ابن عباس أيضا: واد بين عمان ومهرة. وقال مقاتل: كانت منازل عاد باليمن في حضر موت بواد يقال له مهرة، وإليه تنسب الإبل المهرية، فيقال: إبل مهرية ومهاري. وكانوا أهل عمد سيارة في الربيع فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم، وكانوا من قبيلة إرم. وقال الكلبي: أحقاف الجبل ما نضب عنه الماء زمان الغرف، كان ينضب الماء من الأرض ويبقى أثره. وروى الطفيل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه فال: خير واديين في الناس واد بمكة وواد نزل به آدم بأرض الهند. وشر واديين في الناس واد بالأحقاف وواد بحضر موت يدعى برهوت تلقى فيه أرواح الكفار. وخير بئر في الناس بئر زمزم. وشر بئر في الناس بئر برهوت، وهو في ذلك الوادي الذي بحضر موت. « وقد خلت النذر » أي مضت الرسل. « من بين يديه » أي من قبل هود. « ومن خلفه » أي ومن بعده، قال الفراء. وفي قراءة ابن مسعود « من بين يديه ومن بعده » . « ألا تعبدوا إلا الله » هذا من قول المرسل، فهو كلام معترض. ثم قال هود: « إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم » وقيل: « ألا تعبدوا إلا الله » من كلام هود، والله أعلم.

 

الآيات: 22 - 25 ( قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين، قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون، فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم، تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين )

 

قوله تعالى: « قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا » فيه وجهان: أحدهما: لتزيلنا عن عبادتها بالإفك. الثاني: لتصرفنا عن آلهتنا بالمنع، قال الضحاك. قال عروة بن أذينة:

إن تك عن أحسن الصنيعة مأ فوكا ففي آخرين قد أفكوا

يقول: إن لم توفق للإحسان فأنت في قوم قد صرفوا. « فأتنا بما تعدنا » هذا يدل على أن الوعد قد يوضع موضع الوعيد. « إن كنت من الصادقين » أنك نبي « قال إنما العلم » بوقت مجيء العذاب. « عند الله » لا عندي « وأبلغكم ما أرسلت به » عن ربكم. « ولكني أراكم قوما تجهلون » في سؤالكم استعجال العذاب. « فلما رأوه عارضا » قال المبرد: الضمير في « رأوه » يعود إلى غير مذكور، وبينه قوله: « عارضا » فالضمير يعود إلى السحاب، أي فلما رأوا السحاب عارضا. فـ « عارضا » نصب على التكرير، سمي بذلك لأنه يبدو في عرض السماء. وقيل: نصب على الحال. وقيل: يرجع الضمير إلى قوله: « فأتنا بما تعدنا » فلما رأوه حسبوه سحابا يمطرهم، وكان المطر قد أبطأ عنهم، فلما رأوه « مستقبل أوديتهم » استبشروا. وكان قد جاءهم من واد جرت العادة أن ما جاء منه يكون غيثا، قال ابن عباس وغيره. « قالوا هذا عارض ممطرنا » قال الجوهري: والعارض السحاب يعترض في الأفق، ومنه قوله تعالى: « هذا عارض ممطرنا » أي ممطر لنا، لأنه معرفة لا يجوز أن يكون صفة لعارض وهو نكرة. والعرب إنما تفعل مثل هذا في الأسماء المشتقة من الأفعال دون غيرها. قال جرير:

يا رب غابطنا لو كان يطلبكم لاقى مباعدة منكم وحرمانا

ولا يجوز أن يقال: هذا رجل غلامنا. وقال أعرابي بعد الفطر: رب صائمة لن تصومه، وقائمة لن تقومه، فجعله نعتا للنكرة وأضافه إلى المعرفة.

قلت: قوله: ( لا يجوز أن يكون صفة لعارض ) خلاف قول النحويين، والإضافة في تقدير الانفصال، فهي إضافة لفظية لا حقيقية، لأنها لم تفد الأول تعريفا، بل الاسم نكرة على حاله، فلذلك جرى نعتا على النكرة. هذا قول النحويين في الآية والبيت. ونعت النكرة نكرة. و « رب » لا تدخل إلا على النكرة. « بل هو » أي قال هود لهم. والدليل عليه قراءة من قرأ « قال هود بل هو » وقرئ « قل بل ما استعجلتم به هي ريح » أي قال الله: قل بل هو ما استعجلتم به، ويعني قولهم: « فأتنا بما تعدنا » ثم بين ما هو فقال: « ريح فيها عذاب أليم » والريح التي عذبوا بها نشأت من ذلك السحاب الذي رأوه، وخرج هود من بين أظهرهم، فجعلت تحمل الفساطيط وتحمل الظعينة فترفعها كأنها جرادة، ثم تضرب بها الصخور. قال ابن عباس: أول ما رأوا العارض قاموا فمدوا أيديهم، فأول ما عرفوا أنه عذاب رأوا ما كان خارجا من ديارهم من الرجال والمواشي تطير بهم الريح ما بين السماء والأرض مثل الريش، فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم، فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم، وأمر الله الريح فأمالت عليهم الرمال، فكانوا تحت الرمال سبع ليال وثمانية أيام حسوما، ولهم أنين، ثم أمر الله الريح فكشف عنهم الرمال واحتملتهم فرمتهم في البحر، فهي التي قال الله تعالى فيها: « تدمر كل شيء بأمر ربها » أي كل شيء مرت عليه من رجال عاد وأموالها. قال ابن عباس: أي كل شيء بعثت إليه.

 

قوله تعالى: « تدمر كل شيء بأمر ربها » والتدمير: الهلاك. وكذلك الدمار. وقرئ « يدمر كل شيء » من دمر دمارا. يقال: دمره تدميرا ودمارا ودمر عليه بمعنى. ودمر يدمر دمورا دخل بغير إذن. وفي الحديث: ( من سبق طرفه استئذانه فقد دمر ) مخفف الميم. وتدمر: بلد بالشام. ويربوع تدمري إذا كان صغيرا قصيرا. « بأمر ربها » بإذن ربها. وفي البخاري عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكا حتى أرى منه لهواته إنما كان يتبسم. قالت: وكان إذا رأى غيما أو ريحا عرف في وجهه. قالت: يا رسول الله، الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهية؟ فقال: [ يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب عذب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب فقالوا هذا عارض ممطرنا ] خرجه مسلم والترمذي، وقال فيه: حديث حسن. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور ] . وذكر الماوردي أن القائل « هذا عارض ممطرنا » من قوم عاد: بكر بن معاوية، ولما رأى السحاب قال: إني لأرى سحابا مرمدا، لا تدع من عاد أحدا. فذكر عمرو بن ميمون أنها كانت تأتيهم بالرجل الغائب حتى تقذفه في ناديهم. قال ابن إسحاق: واعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة، ما يصيبه ومن معه منها إلا ما يلين أعلى ثيابهم. وتلتذ الأنفس به، لأنها لتمر من عاد بالظعن بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة حتى هلكوا. وحكى الكلبي أن شاعرهم قال في ذلك:

فدعا هود عليهم دعوة أضحوا همودا

عصفت ريح عليهم تركت عادا خمودا

سخرت سبع ليال لم تدع في الأرض عودا

وعمر هود في قومه بعدهم مائة وخمسين سنة. « فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم »

قرأ عاصم وحمزة « لا يرى إلا مساكنهم » بالياء غير مسمى الفاعل. وكذلك روى حماد بن سلمة عن ابن كثير إلا أنه قرأ « ترى » بالتاء. وقد روى ذلك عن أبي بكر عن عاصم. الباقون « ترى » بتاء مفتوحة. « مساكنهم » بالنصب، أي لا ترى يا محمد إلا مساكنهم. قال المهدوي: ومن قرأ بالتاء غير مسمى الفاعل فعلى لفظ الظاهر الذي هو المساكن المؤنثة، وهو قليل لا يستعمل إلا في الشعر. وقال أبو حاتم: لا يستقيم هذا في اللغة إلا أن يكون فيها إضمار، كما تقول في الكلام ألا ترى النساء إلا زينب. ولا يجوز لا ترى إلا زينب. وقال سيبويه: معناه لا ترى أشخاصهم إلا مساكنهم. واختار أبو عبيد وأبو حاتم قراءة عاصم وحمزة. قال الكسائي: معناه لا يرى شيء إلا مساكنهم، فهو محمول على المعنى، كما تقول: ما قام إلا هند، والمعنى ما قام أحد إلا هند. وقال الفراء: لا يرى الناس لأنهم كانوا تحت الرمل، وإنما ترى مساكنهم لأنها قائمة. « كذلك نجزي القوم المجرمين » أي مثل هذه العقوبة نعاقب بها المشركين.

 

الآية: 26 ( ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون )

 

قوله تعالى: « ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه » قيل: إن « إن » زائدة، تقديره ولقد مكناكم فيما مكناكم فيه. وهذا قول القتبي. وأنشد الأخفش:

يرجي المرء ما إن لا يراه وتعرض دون أدناه الخطوب

وقال آخر:

فما إن طبنا جبن ولكن منايانا ودولة آخرينا

وقيل: إن « ما » بمعنى الذي. و « إن » بمعنى ما، والتقدير ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه، قاله المبرد. وقيل: شرطية وجوابها مضمر محذوف، والتقدير ولقد مكناهم في ما إن مكناكم فيه كان بغيكم أكثر وعنادكم أشد، وتم الكلام.

 

قوله تعالى: « وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة » يعني قلوبا يفقهون بها. « فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء » ما أغنت عنهم من عذاب الله. « إذ كانوا يجحدون » يكفرون « بآيات الله وحاق بهم » أحاط بهم « ما كانوا به يستهزئون » .

 

الآية: 27 ( ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون )

 

قوله تعالى: « ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى » يريد حجر ثمود وقرى لوط ونحوهما مما كان يجاور بلاد الحجاز، وكانت أخبارهم متواترة عندهم. « وصرفنا الآيات » يعني الحجج والدلالات وأنواع البينات والعظات، أي بيناها لأهل تلك القرى. « لعلهم يرجعون » فلم يرجعوا. وقيل: أي صرفنا آيات القرآن في الوعد والوعيد والقصص والإعجاز لعل هؤلاء المشركين يرجعون.

 

الآية: 28 ( فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون )

 

قوله تعالى: « فلولا نصرهم » « لولا » بمعنى هلا، أي هلا نصرهم آلهتهم التي تقربوا بها بزعمهم إلى الله لتشفع لهم حيث قالوا: « هؤلاء شفعاؤنا عند الله » [ يونس: 18 ] ومنعتهم من الهلاك الواقع بهم. قال الكسائي: القربان كل ما يتقرب به إلى الله تعالى من طاعة ونسيكة، والجمع قرابين، كالرهبان والرهابين. وأحد مفعولي اتخذ الراجع إلى الذين المحذوف، والثاني « آلهة » . و « قربانا » حال، ولا يصح أن يكون « قربانا » مفعولا ثانيا. و « آلهة » بدل منه لفساد المعنى، قال الزمخشري. وقرئ « قربانا » بضم الراء. « بل ضلوا عنهم » أي هلكوا عنهم. وقيل: « بل ضلوا عنهم » أي ضلت عنهم آلهتهم لأنها لم يصبها ما أصابهم، إذ هي جماد. وقيل: « ضلوا عنهم » ، أي تركوا الأصنام وتبرؤوا منها. « وذلك إفكهم » أي والآلهة التي ضلت عنهم هي إفكهم في قولهم: إنها تقربهم إلى الله زلفى. وقراءة العامة « إفكهم » بكسر الهمزة وسكون الفاء، أي كذبهم. والإفك: الكذب، وكذلك الأفيكة، والجمع الأفائك. ورجل أفاك أي كذاب. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن الزبير « وذلك أفكهم » بفتح الهمزة والفاء والكاف، على الفعل، أي ذلك القول صرفهم عن التوحيد. والأفك « بالفتح » مصدر قولك: أفكه يأفكه أفكا، أي قلبه وصرفه عن الشيء. وقرأ عكرمة « أفكهم » بتشديد الفاء على التأكيد والتكثير. قال أبو حاتم: يعني قلبهم عما كانوا عليه من النعيم. وذكر المهدوي عن ابن عباس أيضا « آفكهم » بالمد وكسر الفاء، بمعنى صارفهم. وعن عبدالله بن الزبير باختلاف عنه « آفكهم » بالمد، فجاز أن يكون أفعلهم، أي أصارهم إلى الإفك. وجاز أن يكون فاعلهم كخادعهم. ودليل قراءة العامة « إفكهم » قوله: « وما كانوا يفترون » أي يكذبون. وقيل « أفكهم » مثل « أفكهم » . الإفك والأفك كالحذر والحذر، قاله المهدوي.

 

الآية: 29 ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين )

 

قوله تعالى: « وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن » هذا توبيخ لمشركي قريش، أي إن الجن سمعوا القرآن فآمنوا به وعلموا أنه من عند الله وأنتم معرضون مصرون على الكفر. ومعنى: « صرفنا » وجهنا إليك وبعثنا. وذلك أنهم صرفوا عن استراق السمع من السماء برجوم الشهب - على ما يأتي - ولم يكونوا بعد عيسى قد صرفوا عنه إلا عند مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. قال المفسرون ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وغيرهم: لما مات أبو طالب خرج النبي صلى الله عليه وسلم وحده إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصرة فقصد عبد ياليل ومسعودا وحبيبا وهم إخوة - بنو عمرو بن عمير - وعندهم امرأة من قريش من بني جمح، فدعاهم إلى الإيمان وسألهم أن ينصروه على قومه فقال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك وقال الآخر: ما وجد الله أحدا يرسله غيرك وقال الثالث: والله لا أكلمك كلمة أبدا، إن كان الله أرسلك كما تقول فأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام، وإن كنت تكذب فما ينبغي لي أن أكلمك. ثم أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويضحكون به، حتى اجتمع عليه الناس وألجؤوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة. فقال للجمحية: ( ماذا لقينا من أحمائك ) ؟ ثم قال: ( اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، لمن تكلني إلى عبد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك من أن ينزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك ) . فرحمه ابنا ربيعة وقالا لغلام لهما نصراني يقال له عداس: خذ قطفا من العنب وضعه في هذا الطبق ثم ضعه بين يدي هذا الرجل، فلما وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم ( باسم الله ) ثم أكل، فنظر عداس إلى وجهه ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من أي البلاد أنت يا عداس وما دينك ) قال: أنا نصراني من أهل نينوى. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى ) ؟ فقال: وما يدريك ما يونس بن متى؟ قال: ( ذاك أخي كان نبيا وأنا نبي ) فانكب عداس حتى قبل رأس النبي صلى الله عليه وسلم ويديه ورجليه. فقال له ابنا ربيعة: لم فعلت هكذا؟ فقال: يا سيدي ما في الأرض خير من هذا، أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي.

ثم انصرف النبي صلى الله عليه وسلم حين يئس من خير ثقيف، حتى إذا كان ببطن نخلة قام من الليل يصلي فمر به نفر من جن أهل نصيبين. وكان سبب ذلك أن الجن كانوا يسترقون السمع، فلما حرست السماء ورموا بالشهب قال إبليس: إن هذا الذي حدث في السماء لشيء حدث في الأرض، فبعث سراياه ليعرف الخبر، أولهم ركب نصيبين وهم أشراف الجن إلى تهامة، فلما بلغوا بطن نخلة سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الغداة ببطن نخلة ويتلو القرآن، فاستمعوا له وقالوا: أنصتوا. وقالت طائفة: بل أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينذر الجن ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ عليهم القرآن، فصرف الله عز عز وجل إليه نفرا من الجن من نينوى وجمعهم له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إني أريد أن أقرأ القرآن على الجن الليلة فأيكم يتبعني ) ؟ فأطرقوا، ثم قال الثانية فأطرقوا، ثم قال الثالثة فأطرقوا، فقال ابن مسعود: أنا يا رسول الله، قال ابن مسعود: ولم يحضر معه أحد غيري، فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة دخل النبي صلى الله عليه وسلم شعبا يقال له ( شعب الحجون ) وخط لي خطا وأمرني أن أجلس فيه وقال: ( لا تخرج منه حتى أعود إليك ) . ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن، فجعلت أرى أمثال النسور تهوي وتمشي في رفرفها، وسمعت لغطا وغمغمة حتى خفت على النبي صلى الله عليه وسلم، وغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته، ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين، ففرغ النبي صلى الله عليه وسلم مع الفجر فقال: ( أنمت ) ؟ قلت: لا والله، ولقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك تقول اجلسوا، فقال: ( لو خرجت لم آمن عليك أن يخطفك بعضهم ) ثم قال: ( هل رأيت شيئا ) ؟ قلت: نعم يا رسول الله، رأيت رجالا سودا مستثفري ثيابا بيضا، فقال: ( أولئك جن نصيبين سألوني المتاع والزاد فمتعتهم بكل عظم حائل وروثة وبعرة ) . فقالوا: يا رسول الله يقذرها الناس علينا. فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستنجى بالعظم والروث. قلت: يا نبي الله، وما يغني ذلك عنهم قال: ( إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل، ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكل ) فقلت: يا رسول الله، لقد سمعت لغطا شديدا؟ فقال: ( إن الجن تدارأت في قتيل بينهم فتحاكموا إلي فقضيت بينهم بالحق ) . ثم تبرز النبي صلى الله عليه وسلم ثم أتاني فقال: ( هل معك ماء ) ؟ فقلت يا نبي الله، معي إداوة فيها شيء من نبيذ التمر فصببت على يديه فتوضأ فقال: ( تمرة طيبة وماء طهور ) . روى معناه معمر عن قتادة وشعبة أيضا عن ابن مسعود. وليس في حديث معمر ذكر نبيذ التمر.

روي عن أبي عثمان النهدي أن ابن مسعود أبصر زطا فقال: ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء الزط. قال: ما رأيت شبههم إلا الجن ليلة الجن فكانوا مستفزين يتبع بعضهم بعضا. وذكر الدارقطني عن عبدالله بن لهيعة حدثني قيس بن الحجاج عن حنش عن ابن عباس عن ابن مسعود أنه وضأ النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن بنبيذ فتوضأ به وقال: ( شراب وطهور ) . ابن لهيعة لا يحتج به. وبهذا السند عن ابن مسعود: أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أمعك ماء يا ابن مسعود ) ؟ فقال: معي نبيذ في إداوة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( صب علي منه ) . فتوضأ وقال: ( هو شراب وطهور ) تفرد به ابن لهيعة وهو ضعيف الحديث. قال الدارقطني: وقيل إن ابن مسعود لم يشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن. كذلك رواه علقمة بن قيس وأبو عبيدة بن عبدالله وغيرهما عنه أنه قال: ما شهدت ليلة الجن. حدثنا أبو محمد بن صاعد حدثنا أبو الأشعث حدثنا بشر بن المفضل حدثنا داود بن أبي هند عن عامر عن علقمة بن قيس قال قلت لعبدالله بن مسعود: أشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد منكم ليلة أتاه داعى الجن؟ قال لا. قال الدارقطني: هذا إسناد صحيح لا يختلف في عدالة راويه. وعن عمرو بن مرة قال قلت لأبي عبيدة: حضر عبدالله بن مسعود ليلة الجن؟ فقال لا. قال ابن عباس: كان الجن سبعة نفر من جن نصيبين فجعلهم النبي صلى الله عليه وسلم رسلا إلى قومهم. وقال زر بن حبيش: كانوا تسعة أحدهم زوبعة. وقال قتادة: إنهم من أهل نينوى. وقال مجاهد: من أهل حران. وقال عكرمة: من جزيرة الموصل. وقيل: إنهم كانوا سبعة، ثلاثة من أهل نجران وأربعة من أهل نصيبين. وروى ابن أبي الدنيا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذا الحديث وذكر فيه نصيبين فقال: ( رفعت إلي حتى رأيتها فدعوت الله أن يكثر مطرها وينضر شجرها وأن يغزو نهرها ) . وقال السهيلي: ويقال كانوا سبعة، وكانوا يهودا فأسلموا، ولذلك قالوا: « أنزل من بعد موسى » . وقيل في أسمائهم: شاصر وماصر ومنشي وماشي والأحقب، ذكر هؤلاء الخمسة ابن دريد. ومنهم عمرو بن جابر، ذكره ابن سلام من طريق أبي إسحاق السبيعي عن أشياخه عن ابن مسعود أنه كان في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يمشون فرفع لهم إعصار ثم جاء إعصار أعظم منه فإذا حية قتيل، فعمد رجل منا إلى ردائه فشقه وكفن الحية ببعضه ودفنها، فلما جن الليل إذا امرأتان تسألان: أيكم دفن عمرو بن جابر؟ فقلنا: ما ندري من عمرو بن جابر فقالتا: إن كنتم ابتغيتم الأجر فقد وجدتموه، إن فسقة الجن اقتتلوا مع المؤمنين فقتل عمرو، وهو الحية التي رأيتم، وهو من النفر الذين استمعوا القرآن من محمد صلى الله عليه وسلم ثم ولوا إلى قومهم منذرين. وذكر ابن سلام رواية أخرى: أن الذي كفنه هو صفوان بن المعطل.

قلت: وذكر هذا الخبر الثعلبي بنحوه فقال: وقال ثابت بن قطبة جاء أناس إلى ابن مسعود فقالوا: إنا كنا في سقر فرأينا حية متشحطة في دمائها، فأخذها رجل منا فواريناها، فجاء أناس فقالوا: أيكم دفن عمرا؟ قلنا وما عمرو؟ قالوا الحية التي دفنتم في مكان كذا، أما إنه كان من النفر الذين سمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم وكان بين حيين من الجن مسلمين وكافرين قتال فقتل. ففي هذا الخبر أن ابن مسعود لم يكن في سفر ولا حضر الدفن، والله أعلم. وذكر ابن أبي الدنيا عن رجل من التابعين سماه: أن حية دخلت عليه في خبائه تلهث عطشا فسقاها ثم أنها ماتت فدفنها، فأتي من الليل فسلم عليه وشكر، وأخبر أن تلك الحية كانت رجلا عن جن نصيبين اسمه زوبعة. قال السهيلي: وبلغنا في فضائل عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه مما حدثنا به أبو بكر بن طاهر الأشبيلي أن عمر بن عبدالعزيز كان يمشي بأرض فلاة، فإذا حية ميتة فكفنها بفضلة من ردائه ودفنها، فإذا قائل يقول: يا سرق، أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ ستموت بأرض فلاة فيكفنك رجل صالح ] . فقال: ومن أنت يرحمك الله؟ فقال: رجل من الجن الذين استمعوا القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق منهم إلا أنا وسرق، وهذا سرق قد مات. وقد قتلت عائشة رضي الله عنها حية رأتها في حجرتها تستمع وعائشة تقرأ، فأتيت في المنام فقيل لها: إنك قتلت رجلا مؤمنا من الجن الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: لو كان مؤمنا ما دخل على حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل لها: ما دخل عليك إلا وأنت متقنعة، وما جاء إلا ليستمع الذكر. فأصبحت عائشة فزعة، واشترت رقابا فأعتقتهم. قال السهيلي: وقد ذكرنا من أسماء هؤلاء الجن ما حضرنا، فإن كانوا سبعة فالأحقب منهم وصف لأحدهم، وليس باسم علم، فإن الأسماء التي ذكرناها آنفا ثمانية بالأحقب. والله أعلم.

قلت: وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخه: هامة بن الهيم بن الأقيس بن إبليس، قيل: إنه من مؤمني الجن وممن لقي النبي صلى الله عليه وسلم وعلمه سورة « إذا وقعت الواقعة » [ الواقعة: 1 ] و « المرسلات » [ المرسلات: 1 ] و « عم يتساءلون » [ النبأ: 1 ] و « إذا الشمس كورت » [ التكوير: 1 ] و « الحمد » [ الفاتحة: 1 ] و « المعوذتين » [ الفلق: 1 ، والناس: 1 ] . وذكر أنه حضر قتل هابيل وشرك في دمه وهو غلام ابن أعوام، وأنه لقي نوحا وتاب على يديه، وهودا وصالحا ويعقوب ويوسف وإلياس وموسى بن عمران وعيسى ابن مريم عليهم السلام. وقد ذكر الماوردي أسماءهم عن مجاهد فقال: حسى ومسى ومنشى وشاصر وماصر والأرد وأنيان والأحقم. وذكرها أبو عمرو عثمان بن أحمد المعروف بابن السماك قال: حدثنا محمد بن البراء قال حدثنا الزبير بن بكار قال: كان حمزة بن عتبة بن أبي لهب يسمي جن نصيبين الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: حسى ومسى وشاصر وماصر والأفخر والأرد وأنيال.

 

قوله تعالى: « فلما حضروه » أي حضروا النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من باب تلوين الخطاب. وقيل: لما حضروا القرآن واستماعه. « قالوا أنصتوا » أي قال بعضهم لبعض اسكتوا لاستماع القرآن. قال ابن مسعود: هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة، فلما سمعوه « قالوا أنصتوا » قالوا صه. وكانوا سبعة: أحدهم زوبعة، فأنزل الله تعالى: « وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا » الآية إلى قوله: « في ضلال مبين » [ الأحقاف: 32 ] . وقيل: « أنصوا » لسماع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى متقارب. « فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين » وقرأ لاحق بن حميد وخبيب بن عبدالله بن الزبير « فلما قضى » بفتح القاف والضاد، يعني النبي صلى الله عليه وسلم قبل الصلاة. وذلك أنهم خرجوا حين حرست السماء من استراق السمع ليستخبروا ما أوجب ذلك؟ فجاؤوا وادي نخلة والنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الفجر، وكانوا سبعة، فسمعوه وانصرفوا إلى قومهم منذرين، ولم يعلم بهم النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: بل أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينذر الجن ويقرأ عليهم القرآن، فصرف الله إليه نفرا من الجن ليستمعوا منه وينذروا قومهم، فلما تلا عليهم القرآن وفرغ انصرفوا بأمره قاصدين من وراءهم من قومهم من الجن، منذرين لهم مخالفة القرآن ومحذرين إياهم بأس الله إن لم يؤمنوا. وهذا يدل على أنهم آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه أرسلهم. ويدل على هذا قولهم: « يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به » [ الأحقاف: 31 ] ولولا ذلك لما أنذروا قومهم. وقد تقدم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم جعلهم رسلا إلى قومهم، فعلى هذا ليلة الجن ليلتان، وقد تقدم هذا المعنى مستوفى. وفي صحيح مسلم ما يدل على ذلك على ما يأتي بيانه في « قل أوحي إلي » [ الجن: 1 ] . وفي صحيح مسلم عن معن قال: سمعت أبي قال سألت مسروقا: من آذن النبي صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة استمعوا القرآن؟ فقال: حدثني أبوك - يعني ابن مسعود - أنه آذنته بهم شجرة.

 

الآيات: 30 - 31 ( قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم )

 

قوله تعالى: « قالوا ياقومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى » أي القرآن، وكانوا مؤمنين بموسى. قال عطاء: كانوا يهودا فأسلموا، ولذلك قالوا: « أنزل من بعد موسى » . وعن ابن عباس: أن الجن لم تكن سمعت بأمر عيسى، فلذلك قالت: « أنزل من بعد موسى » . « مصدقا لما بين يديه » يعني ما قبله من التوراة. « يهدي إلى الحق » دين الحق. « وإلى طريق مستقيم » دين الله القويم. « يا قومنا أجيبوا داعي الله » يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أنه كان مبعوثا إلى الجن والإنس. قال مقاتل: ولم يبعث الله نبيا إلى الجن والإنس قبل محمد صلى الله عليه وسلم.

قلت: يدل على قوله ما في صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وجعلت لي الأرض طيبة طهورا ومسجدا فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر وأعطيت الشفاعة ] . قال مجاهد: الأحمر والأسود: الجن والإنس. وفي رواية من حديث أبي هريرة « وبعثت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون » .

 

قوله تعالى: « وآمنوا به » أي بالداعي، وهو محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: « به » أي بالله، لقوله: « يغفر لكم من ذنوبكم » . قال ابن عباس: فاستجاب لهم من قومهم سبعون رجلا، فرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوافقوه بالبطحاء، فقرأ عليهم القرآن وأمرهم ونهاهم.

مسألة: هذه الآي تدل على أن الجن كالإنس في الأمر والنهي والثواب والعقاب. وقال الحسن: ليس لمؤمني الجن ثواب غير نجاتهم من النار، يدل عليه قوله تعالى: « يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم » . وبه قال أبو حنيفة قال: ليس ثواب الجن إلا أن يجاروا من النار، ثم يقال لهم: كونوا ترابا مثل البهائم. وقال آخرون: إنهم كما يعاقبون في الإساءة يجازون في الإحسان مثل الإنس. وإليه ذهب مالك والشافعي وابن أبي ليلي. وقد قال الضحاك: الجن يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون. قال القشيري: والصحيح أن هذا مما لم يقطع فيه بشيء، والعلم عند الله.

قلت: قوله تعالى: « ولكل درجات مما عملوا » [ الأنعام: 132 ] يدل على أنهم يثابون ويدخلون الجنة، لأنه قال في أول الآية: « يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي » إلى أن قال « ولكل درجات مما عملوا » [ الأنعام:130 ] . والله أعلم، وسيأتي لهذا في سورة « الرحمن » مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

 

الآية: 32 ( ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين )

 

قوله تعالى: « ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض » أي لا يفوت الله ولا يسبقه « وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين » أي أنصار يمنعونه من عذاب الله. « أولئك في ضلال مبين » .

 

الآية: 33 ( أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير )

 

قوله تعالى: « أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض » الرؤية هنا بمعنى العلم. و « أن » واسمها وخبرها سدت مسد مفعولي الرؤية. « ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير » احتجاج على منكري البعث. ومعنى « لم يعي » يعجز ويضعف عن إبداعهن. يقال: عي بأمره وعيي إذا لم يهتد لوجهه، والإدغام أكثر. وتقول في الجمع عيوا، مخففا، وعيوا أيضا بالتشديد. قال

عيوا بأمرهم كما عيت ببيضتها الحمامة

وعييت بأمري إذا لم تهتد لوجهه. وأعياني هو. وقرأ الحسن « ولم يعي » بكسر العين وإسكان الياء، وهو قليل شاذ، لم يأت إعلال العين وتصحيح اللام إلا في أسماء قليلة، نحو غاية وآية. ولم يأت في الفعل سوى بيت أنشده الفراء، وهو قول الشاعر:

فكأنها بين النساء سبيكة تمشى بسدة بيتها فتعي

« بقادر » قال أبو عبيدة والأخفش: الباء زائدة للتوكيد كالباء في قوله: « وكفى بالله شهيدا » [ النساء: 166 ] ، وقوله: « تنبت بالدهن » [ المؤمنون: 20 ] . وقال الكسائي والفراء والزجاج: الباء فيه خلف الاستفهام والجحد في أول الكلام. قال الزجاج: والعرب تدخلها مع الجحد تقول: ما ظننت أن زيدا بقائم. ولا تقول: ظننت أن زيدا بقائم. وهو لدخول « ما » ودخول « أن » للتوكيد. والتقدير: أليس الله بقادر، كقوله تعالى: « أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر » [ يس: 81 ] . وقرأ ابن مسعود والأعرج والجحدري وابن أبي إسحاق ويعقوب « يقدر » واختاره أبو حاتم، لأن دخول الباء في خبر « أن » قبيح. واختار أبو عبيد قراءة العامة، لأنها في قراءة عبدالله « خلق السموات والأرض قادر » بغير باء. والله أعلم.

 

الآية: 34 ( ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون )

 

قوله تعالى: « ويوم يعرض الذين كفروا على النار » أي ذكرهم يوم يعرضون فيقال لهم: « أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا » فيقول لهم المقرر: « فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون » أي بكفركم.

 

الآية: 35 ( فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون )

 

قوله تعالى: « فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل » وقال ابن عباس: ذوو الحزم والصبر، قال مجاهد: هم خمسة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد عليهم الصلاة والسلام. وهم أصحاب الشرائع. وقال أبو العالية: إن أولي العزم: نوح، وهود، وإبراهيم. فأمر الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام أن يكون رابعهم. وقال السدي: هم ستة: إبراهيم، وموسى، وداود، وسليمان، وعيسى، ومحمد، صلوات الله عليهم أجمعين. وقيل: نوح، وهود، وصالح، وشعيب، ولوط، وموسى، وهم المذكورون على النسق في سورة « الأعراف والشعراء » . وقال مقاتل: هم ستة: نوح صبر على أذى قومه مدة. وإبراهيم صبر على النار. وإسحاق صبر على الذبح. ويعقوب صبر على فقد الولد وذهاب البصر. ويوسف صبر على البئر والسجن. وأيوب صبر على الضر. وقال ابن جريج: إن منهم إسماعيل ويعقوب وأيوب، وليس منهم يونس ولا سليمان ولا آدم. وقال الشعبي والكلبي ومجاهد أيضا: هم الذين أمروا بالقتال فأظهروا المكاشفة وجاهدوا الكفرة. وقيل: هم نجباء الرسل المذكورون في سورة « الأنعام » وهم ثمانية عشر: إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، ونوح، وداود، وسليمان، وأيوب، ويوسف، وموسى، وهرون، وزكرياء، ويحيى، وعيسى، وإلياس، وإسماعيل، واليسع، ويونس، ولوط. واختاره الحسن بن الفضل لقوله في عقبه: « أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده » [ الأنعام: 90 ] وقال ابن عباس أيضا: كل الرسل كانوا أولي عزم. واختاره علي بن مهدي الطبري، قال: وإنما دخلت « من » للتجنيس لا للتبعيض، كما تقول: اشتريت أردية من البز وأكسية من الخز. أي اصبر كما صبر الرسل. وقيل: كل الأنبياء أولو عزم إلا يونس بن متى، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي أن يكون مثله، لخفة وعجلة ظهرت منه حين ولى مغاضبا لقومه، فابتلاه الله بثلاث: سلط عليه العمالقة حتى أغاروا على أهله وماله، وسلط الذئب على ولده فأكله، وسلط عليه الحوت فابتلعه، قال أبو القاسم الحكيم.

وقال بعض العلماء: أولو العزم اثنا عشر نبيا أرسلوا إلى بني إسرائيل بالشام فعصوهم، فأوحى الله إليهم الأنبياء أني مرسل عذابي إلى عصاة بني إسرائيل؛ فشق ذلك على المرسلين فأوحى الله إليهم اختاروا لأنفسكم، إن شئتم أنزلت بكم العذاب وأنجيت بني إسرائيل، لان شئتم نجيتكم وأنزلت العذاب ببني إسرائيل، فتشاوروا بينهم فاجتمع رأيهم على أن ينزل بهم العذاب وينجي الله بني إسرائيل، فأنجى الله بني إسرائيل وأنزل بأولئك العذاب. وذلك أنه سلط عليهم ملوك الأرض، فمنهم من نشر بالمناشير، ومنهم من سلخ جلدة رأسه ووجهه، ومنهم من صلب على الخشب حتى مات، ومنهم من حرق بالنار. والله أعلم. وقال الحسن: أولو العزم أربعة: إبراهيم، وموسى، وداود، وعيسى، فأما إبراهيم فقيل له: « أسلم قال أسلمت لرب العالمين » [ البقرة: 131 ] ثم ابتلي في ماله وولده ووطنه ونفسه، فوجد صادقا وافيا في جميع ما ابتلي به. وأما موسى فعزمه حين قال له قومه: « إنا لمدركون. قال كلا إن معي ربي سيهدين » [ الشعراء: 61 ] . وأما داود فأخطأ خطيئته فنبه عليها، فأقام يبكي أربعين سنة حتى نبتت من دموعه شجرة، فقعد تحت ظلها. وأما عيسى فعزمه أنه لم يضع لبنة على لبنة وقال: « إنها معبرة فاعبروها ولا تعمروها » . فكأن الله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: اصبر، أي كن صادقا فيما ابتليت به مثل صدق إبراهيم، واثقا بنصرة مولاك مثل ثقة موسى، مهتما بما سلف من هفواتك مثل اهتمام داود، زاهدا في الدنيا مثل زهد عيسى. ثم قيل هي: منسوخة بآية السيف. وقيل: محكمة، والأظهر أنها منسوخة، لأن السورة مكية. وذكر مقاتل: أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فأمره الله عز وجل أن يصبر على ما أصابه كما صبر أولو العزم من الرسل، تسهيلا عليه وتثبيتا له. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « ولا تستعجل لهم » قال مقاتل: بالدعاء عليهم. وقيل: في إحلال العذاب بهم، فإن أبعد غاياتهم يوم القيامة. ومفعول الاستعجال محذوف، وهو العذاب. « كأنهم يوم يرون ما يوعدون » قال يحيى: من العذاب. النقاش: من الآخرة. « لم يلبثوا » أي في الدنيا حتى جاءهم العذاب، وهو مقتضى قول يحيى. وقال النقاش: في قبورهم حتى بعثوا للحساب. « إلا ساعة من نهار » يعني في جنب يوم القيامة. وقيل: نساهم هول ما عاينوا من العذاب طول لبثهم في الدنيا. « بلاغ » أي هذا القرآن بلاغ، قاله الحسن. فـ « بلاغ » رفع على إضمار مبتدأ، دليله قوله تعالى: « هذا بلاغ للناس ولينذروا به » [ إبراهيم: 52 ] ، وقوله: « إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين » [ الأنبياء: 106 ] . والبلاغ بمعنى التبليغ. وقيل: أي إن ذلك اللبث بلاغ، قاله ابن عيسى، فيوقف على هذا على « بلاغ » وعلى « نهار » . وذكر أبو حاتم أن بعضهم وقف على « ولا تستعجل » ثم ابتدأ « لهم » على معنى لهم بلاغ. قال ابن الأنباري: وهذا خطأ، لأنك قد فصلت بين البلاغ وبين اللام، - وهي رافعة - بشيء ليس منهما. ويجوز في العربية: بلاغا وبلاغ، النصب على معنى إلا ساعة بلاغا، على المصدر أو على النعت للساعة. والخفض على معنى من نهار بلاغ. وبالنصب قرأ عيسى بن عمو والحسن. وروي عن بعض القراء « بلغ » على الأمر، فعلى هذه القراءة يكون الوقف على « من نهار » ثم يبتدئ « بلغ » . « فهل يهلك إلا القوم الفاسقون » أي الخارجون عن أمر الله، قاله ابن عباس وغيره. وقرأ ابن محيصن « فهل يهلك إلا القوم » على إسناد الفعل إلى القوم. وقال ابن عباس: إذا عسر على المرأة ولدها تكتب هاتين الآيتين والكلمتين في صحيفة ثم تغسل وتسقى منها، وهي: بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله العظيم الحليم الكريم، سبحان الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم « كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها » [ النازعات: 46 ] . « كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون » صدق الله العظيم. وعن قتادة: لا يهلك الله إلا هالكا مشركا. وقيل: هذه أقوى آية في الرجاء. والله أعلم.

 

سورة محمد

مقدمة السورة

 

مدنية في قول ابن عباس، ذكره النحاس. وقال الماوردي: في قول الجميع إلا ابن عباس وقتادة فإنهما قالا: إلا آية منها نزلت عليه بعد حجة الوداع حين خرج من مكة، وجعل ينظر إلى البيت وهو يبكي حزنا عليه، فنزل عليه « وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك » [ محمد: 13 ] . وقال الثعلبي: إنها مكية، وحكاه ابن هبة الله عن الضحاك وسعيد بن جبير. وهي تسع وثلاثون آية. وقيل ثمان.

 

الآية: 1 ( الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم )

 

قال ابن عباس ومجاهد: هم أهل مكة كفروا بتوحيد الله، وصدوا أنفسهم والمؤمنين عن دين الله وهو الإسلام بنهيهم عن الدخول فيه، وقال السدي. وقال الضحاك: « عن سبيل الله » عن بيت الله بمنع قاصديه. ومعنى « أضل أعمالهم » : أبطل كيدهم ومكرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، وجعل الدائرة عليهم، قال الضحاك. وقيل: أبطل ما عملوه في كفرهم بما كانوا يسمونه مكارم، من صلة الأرحام وفك الأسارى وقرى الأضياف وحفظ الجوار. وقال ابن عباس: نزلت في المطعمين ببدر، وهم اثنا عشر رجلا: أبو جهل، والحارث بن هشام، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبي وأمية ابنا خلف، ومنبه ونبيه ابنا الحجاج، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وحكيم بن حزام، والحارث بن عامر بن نوفل.

 

الآية: 2 ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم )

 

قوله تعالى: « والذين آمنوا » قال ابن عباس ومجاهد: هم الأنصار. وقال مقاتل: إنها نزلت خاصة في ناس من قريش. وقيل: هما عامتان فيمن كفروا وآمن. ومعنى « أضل أعمالهم » : أبطلها. وقيل: أضلهم عن الهدى بما صرفهم عنه من التوفيق. « وعملوا الصالحات » من قال إنهم الأنصار فهي المواساة في مساكنهم وأموالهم. ومن قال إنهم من قريش فهي الهجرة. ومن قال بالعموم فالصالحات جميع الأعمال التي ترضي الله تعالى. « وآمنوا بما نزل على محمد » لم يخالفوه في شيء، قال سفيان الثوري. وقيل: صدقوا محمدا صلى الله عليه وسلم فيما جاء به. « وهو الحق من ربهم » يريد أن إيمانهم هو الحق من ربهم. وقيل: أي إن القرآن هو الحق من ربهم، نسخ به ما قبله « كفر عنهم سيئاتهم » أي ما مضى من سيئاتهم قبل الإيمان. « وأصلح بالهم » أي شأنهم، عن مجاهد وغيره. وقال قتادة: حالهم. ابن عباس: أمورهم. والثلاثة متقاربة وهي متأولة على إصلاح ما تعلق بدنياهم. وحكى النقاش أن المعنى أصلح نياتهم، ومنه قول الشاعر:

فإن تقبلي بالود أقبل بمثله وإن تدبري أذهب إلى حال باليا

وهو على هذا التأول محمول على صلاح دينهم. « والبال » كالمصدر، ولا يعرف منه فعل، ولا تجمعه العرب إلا في ضرورة الشعر فيقولون فيه: بالات. المبرد: قد يكون البال في موضع آخر بمعنى القلب، يقال: ما يخطر فلان على بالي، أي على قلبي. الجوهري: والبال رخاء النفس، يقال فلان رخي البال. والبال: الحال؛ يقال ما بالك. وقولهم: ليس هذا من بالي، أي مما أباليه. والبال: الحوت العظيم من حيتان البحر، وليس بعربي. والبالة: وعاء الطيب، فارسي معرب، وأصله بالفارسية بيلة. قال أبو ذؤيب:

كأن عليها بالة لطمية لها من خلال الدأيتين أريج

 

الآية: 3 ( ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم )

 

قوله تعالى: « ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم » « ذلك » في موضع رفع، أي الأم ذلك، أو ذلك الإضلال والهدى المتقدم ذكرهما سببه هذا. فالكافر اتبع الباطل، والمؤمن اتبع الحق. والباطل: الشرك. والحق: التوحيد والإيمان. « كذلك يضرب الله للناس أمثالهم » أي كهذا البيان الذي بين يبين الله للناس أمر الحسنات والسيئات. والضمير في « أمثالهم » يرجع إلى الذين كفروا والذين آمنوا.

 

الآية: 4 ( فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم )

 

قوله تعالى: « فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب » لما ميز بين الفريقين أمر بجهاد الكفار. قال ابن عباس: الكفار المشركون عبدة الأوثان. وقيل: كل من خالف دين الإسلام من مشرك أو كتابي إذا لم يكن صاحب عهد ولا ذمة، ذكره الماوردي. واختاره ابن العربي وقال: وهو الصحيح لعموم الآية فيه. « فضرب الرقاب » مصدر. قال الزجاج: أي فاضربوا الرقاب ضربا. وخص الرقاب بالذكر لأن القتل أكثر ما يكون بها. وقيل: نصب على الإغراء. قال أبو عبيدة: هو كقولك يا نفس صبرا. وقيل: التقدير اقصدوا ضرب الرقاب. وقال: « فضرب الرقاب » ولم يقل فاقتلوهم، لأن في العبارة بضرب الرقاب من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل، لما فيه من تصوير القتل بأشنع صوره، وهو حز العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وعلوه وأوجه أعضائه.

 

قوله تعالى: « حتى إذا أثخنتموهم » أي أكثرتم القتل. وقد مضى في « الأنفال » عند قوله تعالى: « حتى يثخن في الأرض » [ الأنفال: 67 ] . « فشدوا الوثاق » أي إذا أسرتموهم. والوثاق اسم من الإيثاق، وقد يكون مصدرا، يقال: أوثقته إيثاقا ووثاقا. وأما الوثاق ( بالكسر ) فهو اسم الشيء الذي يوثق به كالرباط؛ قاله القشيري. وقال الجوهري: وأوثقه في الوثاق أي شده، وقال تعالى: « فشدوا الوثاق » . والوثاق ( بكسر الواو ) لغة فيه. وإنما أمر بشد الوثاق لئلا يفلتوا. « فإما منا بعد وإما فداء » « فإما منا » عليهم بالإطلاق من غير فدية « وإما فداء » . ولم يذكر القتل ها هنا اكتفاء بما تقدم من القتل في صدر الكلام، و « منا » و « فداء » نصب بإضمار فعل. وقرئ « فدى » بالقصر مع فتح الفاء، أي فإما أن تمنوا عليهم منا، وإما أن تفادوهم فداء.

روي عن بعضهم أنه قال: كنت واقفا على رأس الحجاج حين أتي بالأسرى من أصحاب عبدالرحمن بن الأشعث وهم أربعة آلاف وثمانمائة فقتل منهم نحو من ثلاثة آلاف حتى قدم إليه رجل من كندة فقال: يا حجاج، لا جازاك الله عن السنة والكرم خيرا قال: ولم ذلك؟ قال: لأن الله تعالى قال: « فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء » في حق الذين كفروا، فوالله ما مننت ولا فديت؟ وقد قال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق:

ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم إذا أثقل الأعناق حمل المغارم

فقال الحجاج: أف لهذه الجيف أما كان فيهم من يحسن مثل هذا الكلام؟ خلوا سبيل من بقي. فخلي يومئذ عن بقية الأسرى، وهم زهاء ألفين، بقول ذلك الرجل.

 

واختلف العلماء في تأويل هذه الآية على خمسة أقوال: الأول: أنها منسوخة، وهي في أهل الأوثان، لا يجوز أن يفادوا ولا يمن عليهم. والناسخ لها عندهم قوله تعالى: « فاقتلوا المشركين حيث وجدتموه » [ التوبة: 5 ] وقوله: « فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم » [ الأنفال: 57 ] وقوله: « وقاتلوا المشركين كافة » [ التوبة: 36 ] الآية، قال قتادة والضحاك والسدي وابن جريج والعوفي عن ابن عباس، وقاله كثير من الكوفيين. وقال عبدالكريم الجوزي: كتب إلى أبي بكر في أسير أسر، فذكروا أنهم التمسوه بفداء كذا وكذا، فقال اقتلوه، لقتل رجل من المشركين أحب إلي من كذا وكذا. الثاني: أنها في الكفار جميعا. وهي منسوخة على قول جماعة من العلماء وأهل النظر، منهم قتادة ومجاهد. قالوا: إذ أسر المشرك لم يجز أن يمن عليه، ولا أن يفادى به فيرد إلى المشركين، ولا يجوز أن يفادى عندهم إلا بالمرأة، لأنها لا تقتل. والناسخ لها: « فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم » [ التوبة: 5 ] إذ كانت براءة آخر ما نزلت بالتوقيف، فوجب أن يقتل كل مشرك إلا من قامت الدلالة على تركه من النساء والصبيان ومن يؤخذ منه الجزية. وهو المشهور من مذهب أبي حنيفة، خيفة أن يعودوا حربا للمسلمين. ذكر عبدالرزاق أخبرنا معمر عن قتادة « فإما منا بعد وإما فداء » قال: نسخها « فشرد بهم من خلفهم » . وقال مجاهد: نسخها « فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم » [ التوبة: 5 ] . وهو قول الحكم.

الثالث: أنها ناسخة، قال الضحاك وغيره. روى الثوري عن جويبر عن الضحاك: « فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم » [ التوبة: 5 ] قال: نسخها « فإما منا بعد وإما فداء » . وقال ابن المبارك عن ابن جريج عن عطاء: « فإما منا بعد وإما فداء فلا يقتل المشرك ولكن يمن عليه ويفادى، كما قال الله عز وجل. وقال أشعث: كان الحسن يكره أن يقتل الأسير، ويتلو « فإما منا بعد وإما فداء » . وقال الحسن أيضا: في الآية تقديم وتأخير، فكأنه قال: فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها. ثم قال: » حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق « . وزعم أنه ليس للإمام إذا حصل الأسير في يديه أن يقتله، لكنه بالخيار في ثلاثة منازل: إما أن يمن، أو يفادي، أو يسترق. الرابع: قول سعيد بن جبير: لا يكون فداء ولا أسر إلا بعد الإثخان والقتل بالسيف، لقوله تعالى: » ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض « [ الأنفال: 67 ] . فإذا أسر بعد ذلك فللإمام أن يحكم بما رآه من قتل أو غيره. الخامس: أن الآية محكمة، والإمام مخير في كل حال، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وقال كثير من العلماء منهم ابن عمر والحسن وعطاء، وهو مذهب مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأبي عبيد وغيرهم. وهو الاختيار، لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين فعلوا كل ذلك، قتل النبي صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث يوم بدر صبرا، وفادى سائر أسارى بدر، ومن على ثمامة بن أثال الحنفي وهو أسير في يده، وأخذ من سلمة بن الأكوع جارية ففدى بها أناسا من المسلمين، وهبط عليه عليه السلام قوم من أهل مكة فأخذهم النبي صلى الله عليه وسلم ومن عليهم، وقد من على سبي هوازن. وهذا كله ثابت في الصحيح، وقد مضى جميعه في ( الأنفال ) وغيرها.»

قال النحاس: وهذا على أن الآيتين محكمتان معمول بهما، وهو قول حسن، لأن النسخ إنما يكون لشيء قاطع، فإذا أمكن العمل بالآيتين فلا معنى للقول بالنسخ، إذا كان يجوز أن يقع التعبد إذا لقينا الذين كفروا قتلناهم، فإذا كان الأسر جاز القتل والاسترقاق والمفاداة والمن، على ما فيه الصلاح للمسلمين. وهذا القول يروى عن أهل المدينة والشافعي وأبي عبيد، وحكاه الطحاوي مذهبا عن أبي حنيفة، والمشهور عنه ما قدمناه، وبالله عز وجل التوفيق.

 

قوله تعالى: « حتى تضع الحرب أوزارها » قال، مجاهد وابن جبير: هو خروج عيسى عليه السلام. وعن مجاهد أيضا: أن المعنى حتى لا يكون دين إلا دين الإسلام، فيسلم كل يهودي ونصراني وصاحب ملة، وتأمن الشاة من الذئب. ونحوه عن الحسن والكلبي والفراء والكسائي. قال الكسائي: حتى يسلم الخلق. وقال الفراء: حتى يؤمنوا ويذهب الكفر. وقال الكلبي: حتى يظهر الإسلام على الدين كله. وقال الحسن: حتى لا يعبدوا إلا الله. وقيل: معنى الأوزار السلاح، فالمعنى شدوا الوثاق حتى تأمنوا وتضعوا السلاح. وقيل: معناه حتى تضع الحرب، أي الأعداء المحاربون أوزارهم، وهو سلاحهم بالهزيمة أو الموادعة. ويقال للكراع أوزار. قال الأعشى:

وأعددت للحرب أوزارها رماحا طوالا وخيلا ذكورا

ومن نسج داود يحدى بها على أثر الحي عيرا فعيرا

وقيل: « حتى تضع الحرب أوزارها » أي أثقالها. والوزر الثقل، ومنه وزير الملك لأنه يتحمل عنه الأثقال. وأثقالها السلاح لثقل حملها. قال ابن العربي: قال الحسن وعطاء: في الآية تقديم وتأخير، المعنى فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها فإذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق، وليس للإمام أن يقتل الأسير. وقد روي عن الحجاج أنه دفع أسيرا إلى عبدالله بن عمر ليقتله فأبى وقال: ليس بهذا أمرنا الله، وقرأ « حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق » . قلنا: قد قاله رسول الله: صلى الله عليه وسلم وفعله، وليس في تفسير الله للمن والفداء منع من غيره، فقد بين الله في الزنى حكم الجلد، وبين النبي صلى الله عليه وسلم حكم الرجم، ولعل ابن عمر كره ذلك من يد الحجاج فاعتذر بما قال، وربك أعلم.

 

قوله تعالى: « ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم » « ذلك » في موضع رفع على ما تقدم، أي الأمر ذلك الذي ذكرت وبينت. وقيل: هو منصوب على معنى افعلوا ذلك. ويجوز أن يكون مبتدأ، المعنى ذلك حكم الكفار. وهي كلمة يستعملها الفصيح عند الخروج من كلام إلى كلام، وهو كما قال تعالى: « هذا وإن للطاغين لشر مآب » [ ص: 55 ] . أي هذا حق وأنا أعرفكم أن للظالمين كذا. ومعنى: « لا انتصر منهم » أي أهلكهم بغير قتال. وقال ابن عباس: لأهلكهم بجند من الملائكة. « ولكن ليبلو بعضكم ببعض » أي أمركم بالحرب ليبلو ويختبر بعضكم ببعض فيعلم المجاهدين والصابرين، كما في السورة نفسها. « والذين قتلوا في سبيل الله » يريد قتلى أحد من المؤمنين « فلن يضل أعمالهم » قراءة العامة « قاتلوا » وهي اختيار أبي عبيد. وقرأ أبو عمرو وحفص « قتلوا » بضم القاف وكسر التاء، وكذلك قرأ الحسن إلا أنه شدد التاء على التكثير. وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر وأبو حيوة « قتلوا » بفتح القاف والتاء من غير ألف، يعني الذين قتلوا المشركين. قال قتادة: ذكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم أحد ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب، وقد فشت فيهم الجراحات والقتل، وقد نادى المشركون: اعل هبل. ونادى المسلمون: الله أعلى وأجل. وقال المشركون: يوم بيوم بدر والحرب سجال. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( قولوا لا سواء. قتلانا أحياء عند ربهم يرزقون وقتلاكم في النار يعذبون ) . فقال المشركون: إن لنا العزى ولا عزى لكم. فقال المسلمون: الله مولانا ولا مولى لكم. وقد تقدم ذكر ذلك في ( آل عمران ) .

 

الآية: 5 ( سيهديهم ويصلح بالهم )

 

قال القشيري: قراءة أبي عمرو « قتلوا » بعيدة، لقوله تعالى: « سيهديهم ويصلح بالهم » والمقتول لا يوصف بهذا. قال غيره: يكون المعنى سيهديهم إلى الجنة، أو سيهدي من بقي منهم، أي يحقق لهم الهداية. وقال ابن زياد: سيهديهم إلى محاجة منكر ونكير في القبر. قال أبو المعالي: وقد ترد الهداية والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان والطرق المفضية إليها، ومن ذلك قوله تعالى في صفة المجاهدين: « فلن يضل أعمالهم. سيهديهم » ومنه قوله تعالى: « فاهدوهم إلى صراط الجحيم » [ الصافات: 23 ] معناه فاسلكوا بهم إليها.

 

الآية: 6 ( ويدخلهم الجنة عرفها لهم )

 

أي إذا دخلوها يقال لهم تفرقوا إلى منازلكم؛ فهم أعرف بمنازلهم من أهل الجمعة إذا انصرفوا إلى منازلهم. قال معناه مجاهد وأكثر المفسدين. وفي البخاري ما يدل على صحة هذا القول عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يخلص المؤمنون من النار فحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقص لبعضهم من بعض مظالم كان بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله في الدنيا ) . وقيل: « عرفها لهم » أي بينها لهم حتى عرفوها من غير استدلال. قال الحسن: وصف الله تعالى لهم الجنة في الدنيا، فلما دخلوها عرفوها بصفتها. وقيل: فيه حذف؛ أي عرف طرقها ومساكنها وبيوتها لهم؛ فحذف المضاف. وقيل: هذا التعريف، بدليل، وهو الملك الموكل بعمل العبد يمشي بين يديه ويتبعه العبد حتى يأتي العبد منزله، ويعرفه الملك جميع ما جعل له في الجنة. وحديث أبي سعيد الخدري يرده. وقال ابن عباس: « عرفها لهم » أي طيبها لهم بأنواع الملاذ؛ مأخوذ من العرف، وهو الرائحة الطيبة. وطعام معرف أي مطيب؛ تقول العرب: عرفت القدر إذا طيبتها بالملح والأبزار. وقال الشاعر يخاطب رجلا ويمدحه:

عرفت كإتب عرفته اللطائم

يقول: كما عرف الإتب، وهو البقير والبقيرة، وهو قميص لا كمين له تلبسه النساء. وقيل: هو من وضع الطعام بعضه على بعض من كثرته، يقال حرير معرف، أي بعضه على بعض، وهو من العرف المتتابع كعرف الفرس. وقيل: « عرفها لهم » أي وفقهم للطاعة حتى استوجبوا الجنة. وقيل: عرف أهل السماء أنها لهم إظهارا لكرامتهم فيها. وقيل: عرف المطيعين أنها لهم.

 

الآية: 7 ( يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم )

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم » أي إن تنصروا دين الله ينصركم على الكفار. نظيره: « ولينصرن الله من ينصره » [ الحج: 40 ] وقد تقدم. وقال قطرب: إن تنصروا نبي الله ينصركم الله، والمعنى واحد. « ويثبت أقدامكم » أي عند القتال. وقيل على الإسلام. وقيل على الصراط. وقيل: المراد تثبيت القلوب بالأمن، فيكون تثبيت الأقدام عبارة عن النصر والمعونة في موطن الحرب. وقد مضى في « الأنفال » هذا المعنى. وقال هناك: « إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا » [ الأنفال: 12 ] فأثبت هناك واسطة ونفاها هنا، كقوله تعالى: « قل يتوفاكم ملك الموت » [ السجدة: 11 ] ثم نفاها بقوله: « الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم » [ الروم: 40 ] . « الذي خلق الموت والحياة » [ الملك: 2 ] ومثله كثير، فلا فاعل إلا الله وحده.

 

الآية: 8 ( والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم )

 

قوله تعالى: « والذين كفروا فتعسا لهم » يحتمل، الرفع على الابتداء، والنصب بما يفسره « فتعسا لهم » كأنه قال: أتعس الذين كفروا. و « تعسا لهم » نصب على المصدر بسبيل الدعاء، قاله الفراء، مثل سقيا له ورعيا. وهو نقيض لعا له. قال الأعشى:

فالتعس أولى لها من أن أقول لعا

وفيه عشرة أقوال: الأول: بعدا لهم، قاله ابن عباس وابن جريج. الثاني: حزنا لهم، قاله السدي. الثالث: شقاء لهم، قال ابن زيد. الرابع: شتما لهم من الله، قاله الحسن. الخامس: هلاكا لهم، قال ثعلب. السادس: خيبة لهم، قاله الضحاك وابن زيد. السابع: قبحا لهم، حكاه النقاش. الثامن: رغما لهم، قاله الضحاك أيضا. التاسع: شرا لهم، قاله ثعلب أيضا. العاشر: شقوة لهم، قال أبو العالية. وقيل: إن التعس الانحطاط والعثار. قال ابن السكيت: التعس أن يخر على وجهه. والنكس أن يخر على رأسه. قال: والتعس أيضا الهلاك. قال الجوهري: وأصله الكب، وهو ضد الانتعاش. وقد تعس ( بفتح العين ) يتعس تعسا، وأتعسه الله. قال مجمع بن هلال:

تقول وقد أفردتها من خليلها تعست كما أتعستني يا مجمع

يقال: تعسا لفلان، أي ألزمه الله هلاكا. قال القشيري: وجوز قوم تعس ( بكسر العين ) . قلت: ومنه حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض » خرجه البخاري. في بعض طرق هذا الحديث « تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش » خرجه ابن ماجة.

 

قوله تعالى: « وأضل أعمالهم » أي أبطلها لأنها كانت في طاعة الشيطان. ودخلت الفاء في قوله: « فتعسا » لأجل الإبهام الذي في « الذين » ، وجاء « وأضل أعمالهم » على الخبر حملا على لفظ الذين، لأنه خبر في اللفظ، فدخول الفاء حملا على المعنى، « وأضل » حملا على اللفظ.

 

الآية: 9 ( ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم )

 

أي ذلك الإضلال والإتعاس، لأنهم « كرهوا ما أنزل الله » من الكتب والشرائع. « فأحبط أعمالهم » أي ما لهم من صور الخيرات، كعمارة المسجد وقرى الضيف وأصناف القرب، ولا يقبل الله العمل إلا من مؤمن. وقيل: أحبط أعمالهم أي عبادة الصنم.

 

الآية: 10 ( أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها )

 

بين أحوال المؤمن والكافر تنبيها على وجوب الإيمان، ثم وصل هذا بالنظر، أي ألم يسر هؤلاء في أرض عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ليعتبروا بهم « فينظروا » بقلوبهم « كيف كان » آخر أمر الكافرين قبلهم. « دمر الله عليهم » أي أهلكهم واستأصلهم. يقال: دمره تدميرا، ودمر عليه بمعنى. « وللكافرين أمثالها » ثم تواعد مشركي مكة فقال: « وللكافرين أمثالها » أي أمثال هذه الفعلة، يعني التدمير. وقال الزجاج والطبري: الهاء تعود على العاقبة، أي وللكافرين من قريش أمثال عاقبة تكذيب الأمم السالفة إن لم يؤمنوا.

 

الآية: 11 ( ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم )

 

قوله تعالى: « ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا » أي وليهم وناصرهم. وفي حرف ابن مسعود « ذلك بأن الله ولي الذين آمنوا » . فالمولى: الناصر ها هنا، قاله ابن عباس وغيره. قال:

فغدت كلا الفرجين تحسب أنه مولى المخافة خلفها وأمامها

قال قتادة: نزلت يوم أحد والنبي صلى الله عليه وسلم في الشعب، إذ صاح المشركون: يوم بيوم، لنا العزى ولا عزى لكم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ قولوا الله مولانا ولا مولى لكم ] وقد تقدم. « وأن الكافرين لا مولى لهم » أي لا ينصرهم أحد من الله.

 

الآية: 12 ( إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم )

 

قوله تعالى: « إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار » تقدم. « والذين كفروا يتمتعون » في الدنيا كأنهم أنعام، ليس لهم همة إلا بطونهم وفروجهم، ساهون عما في غدهم. وقيل: المؤمن في الدنيا يتزود، والمنافق يتزين، والكافر يتمتع. « والنار مثوى لهم » أي مقام ومنزل.

 

الآية: 13 ( وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم )

 

قوله تعالى: « وكأين من قرية » تقدم الكلام في « كأين » في ( آل عمران ) . وهي ها هنا بمعنى كم، أي وكم من قرية. وأنشد الأخفش قول لبيد:

وكائن رأينا من ملوك وسوقة ومفتاح قيد للأسير المكبل

فيكون معناه: وكم من أهل قرية. « قريتك التي » أي أخرجك أهلها. « أهلكناهم فلا ناصر لهم » قال قتادة وابن عباس: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال: [ اللهم أنت أحب البلاد إلى الله وأنت أحب البلاد إلي ولولا المشركون أهلك أخرجوني لما خرجت منك ] . فنزلت الآية، ذكره الثعلبي، وهو حديث صحيح.

 

الآية: 14 ( أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم )

 

قوله تعالى: « أفمن كان على بينة من ربه » الألف ألف تقرير. ومعنى « على بينة » أي على ثبات ويقين، قال ابن عباس. أبو العالية: وهو محمد صلى الله عليه وسلم. والبينة: الوحي. « كمن زين له سوء عمله » أي عبادة الأصنام، وهو أبو جهل والكفار. « واتبعوا أهواءهم » أي ما اشتهوا. وهذا التزيين من جهة الله خلقا. ويجوز أن يكون من الشيطان دعاء ووسوسة. ويجوز أن يكون من الكافر، أي زين لنفسه سوء عمله وأصر على الكفر. وقال: « سوء » على لفظ « من » « واتبعوا » على معناه.

 

الآية: 15 ( مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم )

 

قوله تعالى: « مثل الجنة التي وعد المتقون » لما قال عز وجل: « إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات » [ الحج: 14 ] وصف تلك الجنات، أي صفة الجنة المعدة للمتقين. وقد مضى الكلام في هذا في « الرعد » . وقرأ علي بن أبي طالب « مثال الجنة التي وعد المتقون » . « فيها أنهار من ماء غير آسن » أي غير متغير الرائحة. والآسن من الماء مثل الآجن. وقد أسن الماء يأسن ويأسن أسنا وأسونا إذا تغيرت رائحته. وكذلك أجن الماء يأجن ويأجن أجنا وأجونا. ويقال بالكسر فيهما: أجن وأسن يأسن ويأجن أسنا وأجنا، قاله اليزيدي. وأسن الرجل أيضا يأسن ( بالكسر لا غير ) إذا دخل البئر فأصابته ريح منتنة من ريح البئر أو غير ذلك فغشي عليه أو دار رأسه، قال زهير:

قد أترك القِرن مصفرا أنامله يميد في الرمح ميد المائح الأسن

ويروى « الوسن » . وتأسن الماء تغير. أبو زيد: تأسن علي تأسنا اعتل وأبطأ. أبو عمرو: تأسن الرجل أباه أخذ أخلاقه. وقال اللحياني: إذا نزع إليه في الشبه، وقراءة العامة « آسن » بالمد. وقرأ ابن كثير وحميد « أسن » بالقصر، وهما لغتان، مثل حاذر وحذر. وقال الأخفش: أسن للحال، وآسن ( مثل فاعل ) يراد به الاستقبال.

 

قوله تعالى: « وأنهار من لبن لم يتغير طعمه » أي لم يحمض بطول المقام كما تتغير ألبان الدنيا إلى الحموضة. « وأنهار من خمر لذة للشاربين » أي لم تدنسها الأرجل ولم ترنقها الأيدي كخمر الدنيا، فهي لذيذة الطعم طيبة الشرب لا يتكرهها الشاربون. يقال: شراب لذ ولذيذ بمعنى. واستلذه عده لذيذا. « وأنهار من عسل مصفى » العسل ما يسيل من لعاب النحل. « مصفى » أي من الشمع والقذى، خلقه الله كذلك لم يطبخ على نار ولا دنسه النحل. وفي الترمذي عن حكيم بن معاومة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ إن في الجنة بحر الماء وبحر العسل وبحر اللبن وبحر الخمر ثم تشقق الأنهار بعد ] . قال: حديث حسن صحيح. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة ] . وقال كعب: نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة، ونهر الفرات نهر لبنهم، ونهر مصر نهر خمرهم، ونهر سيحان نهر عسلهم. وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر. والعسل: يذكر ويؤنث. وقال ابن عباس: « من عسل مصفى » أي لم يخرج من بطون النحل. « ولهم فيها من كل الثمرات » « من » زائدة للتأكيد. « ومغفرة من ربهم » أي لذنوبهم. « كمن هو خالد في النار » قال الفراء: المعنى أفمن يخلد في هذا النعيم كمن يخلد في النار. وقال الزجاج: أي أفمن كان على بينة من ربه وأعطى هذه الأشياء كمن زين له سوء عمله وهو خالد في النار. فقوله: « كمن » بدل من قوله: « أفمن زين له سوء عمله » [ فاطر: 8 ] . وقال ابن كيسان: مثل هذه الجنة التي فيها الثمار والأنهار كمثل النار التي فيها الحميم والزقوم. ومثل أهل الجنة في النعيم المقيم كمئل أهل النار في العذاب المقيم. « وسقوا ماء حميما » أي حارا شديد الغليان، إذا أدنى منهم شوى وجوههم، ووقعت فروة رؤوسهم، فإذا شربوه قطع أمعاءهم وأخرجها من دبورهم. والأمعاء: جمع معى، والتثنية معيان، وهو جميع ما في البطن من الحوايا.

 

الآيات: 16 - 17 ( ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم، والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم )

 

قوله تعالى: « ومنهم من يستمع إليك » أي من هؤلاء الذين يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، وزين لهم سوء عملهم قوم يستمعون إليك وهم المنافقون: عبدالله بن أبي ابن سلول ورفاعة بن التابوت وزيد بن الصليت والحارث بن عمرو ومالك بن دخشم، كانوا يحضرون الخطبة يوم الجمعة فإذا سمعوا ذكر المنافقين فيها أعرضوا عنه، فإذا خرجوا سألوا عنه، قاله الكلبي ومقاتل. وقيل: كانوا يحضرون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين، فيستمعون منه ما يقول، فيعيه المؤمن ولا يعيه الكافر. « حتى إذا خرجوا من عندك » أي إذا فارقوا مجلسك. « قالوا للذين أوتوا العلم » قال عكرمة: هو عبدالله بن العباس. قال ابن عباس: كنت ممن يُسأل، أي كنت من الذين أوتوا العلم. وفي رواية عن ابن عباس: أنه يريد عبدالله بن مسعود. وكذا قال عبدالله بن بريدة: هو عبدالله بن مسعود. وقال القاسم بن عبدالرحمن: هو أبو الدرداء. وقال ابن زيد: إنهم الصحابة. « ماذا قال آنفا » أي الآن، على جهة الاستهزاء. أي أنا لم ألتفت إلى قوله. و « آنفا » يراد به الساعة التي هي أقرب الأوقات إليك، من قولك: استأنفت الشيء إذا ابتدأت به. ومنه أمر أنف، وروضة أنف، أي لم يرعها أحد. وكأس أنف: إذا لم يشرب منها شيء، كأنه استؤنف شربها مثل روضة أنف. قال الشاعر:

ويحرم سر جارتهم عليهم ويأكل جارهم أنف القصاع

وقال آخر:

إن الشواء والنشيل والرغف والقينة الحسناء والكأس الأنف

للطاعنين الخيل والخيل قطف

وقال امرؤ القيس:

قد غدا يحملني في أنفه

أي في أوله. وأنف كل شيء أوله. وقال قتادة في هؤلاء المنافقين: الناس رجلان: رجل عقل عن الله فانتفع بما سمع، ورجل لم يعقل ولم ينتفع بما سمع. وكان يقال: الناس ثلاثة: فسامع عامل، وسامع عاقل، وسامع غافل تارك.

 

قوله تعالى: « أولئك الذين طبع الله على قلوبهم » فلم يؤمنوا. « واتبعوا أهواءهم » في الكفر. « والذين اهتدوا » أي للإيمان زادهم الله هدى. وقيل: زادهم النبي صلى الله عليه وسلم هدى. وقيل: ما يستمعونه من القرآن هدى، أي يتضاعف يقينهم. وقال الفراء: زادهم إعراض المنافقين واستهزاؤهم هدى. وقيل: زادهم نزول الناسخ هدى. وفي الهدى الذي زادهم أربعة أقاويل: أحدها: زادهم علما، قاله الربيع بن أنس. الثاني: أنهم علموا ما سمعوا وعملوا بما علموا، قاله الضحاك. الثالث: زادهم بصيرة في دينهم وتصديقا لنبيهم، قاله الكلبي. الرابع: شرح صدورهم بما هم عليه من الإيمان.

 

قوله تعالى: « وآتاهم تقواهم » أي ألهمهم إياها. وقيل: فيه خمسة أوجه: أحدها: آتاهم الخشية، قاله الربيع. الثاني: ثواب تقواهم في الآخرة، قاله السدي. الثالث: وفقهم للعمل الذي فرض عليهم، قاله مقاتل. الرابع: بين لهم ما يتقون، قاله ابن زياد والسدي أيضا. الخامس: أنه ترك المنسوخ والعمل بالناسخ، قاله عطية. الماوردي: ويحتمل. سادسا: أنه ترك الرخص والأخذ بالعزائم. وقرئ « وأعطاهم » بدل « وآتاهم » . وقال عكرمة: هذه نزلت فيمن آمن من أهل الكتاب.

 

الآية: 18 ( فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم )

 

قوله تعالى: « فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة » أي فجأة. وهذا وعيد للكفار. « فقد جاء أشراطها » أي أماراتها وعلاماتها. وكانوا قد قرؤوا في كتبهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء، فبعثه من أشراطها وأدلتها، قاله الضحاك والحسن. وفي الصحيح عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ بعثت أنا والساعة كهاتين ] وضم السبابة والوسطى، لفظ مسلم: وخرجه البخاري والترمذي وابن ماجه. ويروى [ بعثت والساعة كفرسي رهان ] . وقيل: أشراط الساعة أسبابها التي هي دون معظمها. ومنه يقال للدون من الناس: الشرط. وقيل: يعني علامات الساعة انشقاق القمر والدخان، قال الحسن أيضا. وعن الكلبي: كثرة المال والتجارة وشهادة الزور وقطع الأرحام، وقلة الكرام وكثرة اللئام. وقد أتينا على هذا الباب في كتاب « التذكرة » مستوفى والحمد لله. وواحد الأشراط شرط، وأصله الأعلام. ومنه قيل الشرط، لأنهم جعلوا لأنفسهم علامة يعرفون بها. ومنه الشرط في البيع وغيره. قال أبو الأسود:

فإن كنت قد أزمعت بالصرم بيننا فقد جعلت أشراط أوله تبدو

ويقال: أشرط فلان نفسه في عمل كذا أي أعلمها وجعلها له. قال أوس بن حجر يصف رجلا تدلى بحبل من رأس جبل إلى نبعة يقطعها ليتخذ منها قوسا:

فأشرط نفسه فيها وهو معصم وألقى بأسباب له وتوكلا

« أن تأتيهم بغتة » « أن » بدل اشتمال من « الساعة » ، نحو قوله: « أن تطؤوهم » [ الفتح: 25 ] من قوله: « رجال مؤمنون ونساء مؤمنات » [ الفتح: 25 ] . وقرئ « بغتة » بوزن جربة، وهي غريبة لم ترد في المصادر أختها، وهي مروية عن أبي عمرو. الزمخشري: وما أخوفني أن تكون غلطة من الراوي عن أبي عمرو، وأن يكون الصواب « بغتة » بفتح الغين من غير تشديد، كقراءة الحسن. وروى أبو جعفر الرؤاسي وغيره من أهل مكة « إن تأتهم بغتة » . قال المهدوي: ومن قرأ « إن تأتهم بغتة » كان الوقف على « الساعة » ثم استأنف الشرط. وما يحتمله الكلام من الشك مردود إلى الخلق، كأنه قال: إن شكوا في مجيئها « فقد جاء أشراطها » .

 

قوله تعالى: « فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم » « ذكراهم » ابتداء و « أنى لهم » الخبر. والضمير المرفوع في « جاءتهم » للساعة، التقدير: فمن أين لهم التذكر إذا جاءتهم الساعة، قال معناه قتادة وغيره. وقيل: فكيف لهم بالنجاة إذا جاءتهم الذكرى عند مجيء الساعة، قاله ابن زيد. وفي الذكرى وجهان: أحدهما: تذكيرهم بما عملوه من خير أو شر. الثاني: هو دعاؤهم بأسمائهم تبشيرا وتخويفا، روى أبان عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ أحسنوا أسماءكم فإنكم تدعون بها يوم القيامة يا فلان قم إلى نورك يا فلان قم لا نور لك ] ذكره الماوردي.

 

الآية: 19 ( فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم )

 

قوله تعالى: « فاعلم أنه لا إله إلا الله » قال الماوردي: وفيه - وإن كان الرسول عالما بالله - ثلاثة أوجه: يعني اعلم أن الله أعلمك أن لا إله إلا الله. الثاني: ما علمته استدلالا فاعلمه خبرا يقينا. الثالث: يعني فاذكر أن لا إله إلا الله، فعبر عن الذكر بالعلم لحدوثه عنه. وعن سفيان بن عيينة أنه سئل عن فضل العلم فقال: ألم تسمع قوله حين بدأ به « فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك » فأمر بالعمل بعد العلم وقال: « اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو » إلى قوله « سابقوا إلى مغفرة من ربكم » [ الحديد: 20 - 21 ] وقال: « واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة » [ الأنفال: 28 ] . ثم قال بعد: « فاحذروهم » [ التغابن: 14 ] . وقال تعالى: « واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسة » [ الأنفال: 41 ] . ثم أمر بالعمل بعد.

 

قوله تعالى: « واستغفر لذنبك » يحتمل وجهين: أحدهما: يعني استغفر الله أن يقع منك ذنب. الثاني: استغفر الله ليعصمك من الذنوب. وقيل: لما ذكر له حال الكافرين والمؤمنين أمره بالثبات على الإيمان، أي اثبت على ما أنت عليه من التوحيد والإخلاص والحذر عما تحتاج معه إلى استغفار. وقيل: الخطاب له والمراد به الأمة، وعلى هذا القول توجب الآية استغفار الإنسان لجميع المسلمين. وقيل: كان عليه السلام يضيق صدره من كفر الكفار والمنافقين، فنزلت الآية. أي فاعلم أنه لا كاشف يكشف ما بك إلا الله، فلا تعلق قلبك بأحد سواه. وقيل: أمر بالاستغفار لتقتدي به الأمة. « وللمؤمنين والمؤمنات » أي ولذنوبهم. وهذا أمر بالشفاعة. وروى مسلم عن عاصم الأحول عن عبدالله بن سرجس المخزومي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأكلت من طعامه فقلت: يا رسول الله، غفر الله لك فقال له صاحبي: هل استغفر لك النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، ولك. ثم تلا هذه الآية: « واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات » ثم تحولت فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه، جمعا عليه خيلان كأنه الثآليل.

 

قوله تعالى: « والله يعلم متقلبكم ومثواكم » فيه خمسة أقوال: أحدها: يعلم أعمالكم في تصرفكم وإقامتكم. الثاني: « متقلبكم » في أعمالكم نهارا « ومثواكم » في ليلكم نياما. وقيل « متقلبكم » في الدنيا. « ومثواكم » في الدنيا والآخرة، قال ابن عباس والضحاك. وقال عكرمة: « متقلبكم » في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات. « ومثواكم » مقامكم في الأرض. وقال ابن كيسان: « متقلبكم » من ظهر إلى بطن الدنيا. « ومثواكم » في القبور.

قلت: والعموم يأتي على هذا كله، فلا يخفى عليه سبحانه شيء من حركات بني آدم وسكناتهم، وكذا جميع خلقه. فهو عالم بجميع ذلك قبل كونه جملة وتفصيلا أولى وأخرى. سبحانه! لا إله إلا هو.

 

الآيات: 20 - 21 ( ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم، طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم )

 

قوله تعالى: « ويقول الذين آمنوا » أي المؤمنون المخلصون. « لولا نزلت سورة » اشتياقا للوحي وحرصا على الجهاد وثوابه. ومعنى « لولا » هلا. « فإذا أنزلت سورة محكمة » لا نسخ فيها. قال قتادة: كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة، وهي أشد القرآن على المنافقين. وفي قراءة عبدالله « فإذا أنزلت سورة محدثة » أي محدثة النزول. « وذكر فيها القتال » أي فرض فيها الجهاد. وقرئ « فإذا أنزلت سورة وذكر فيها القتال » على البناء للفاعل ونصب القتال. « رأيت الذين في قلوبهم مرض » أي شك ونفاق. « ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت » أي نظر مغموصين مغتاظين بتحديد وتحديق، كمن يشخص بصره عند الموت، وذلك لجبنهم عن القتال جزعا وهلعا، ولميلهم في السر إلى الكفار.

 

قوله تعالى: « فأولى لهم » قال الجوهري: وقولهم: أولى لك، تهديد ووعيد. قال الشاعر:

فأولى ثم أولى ثم أولى وهل للدر يحلب من مرد

قال الأصمعي: معناه قاربه ما يهلكه، أي نزل به. وأنشد:

فعادى بين هاديتين منها وأولى أن يزيد على الثلاث

أي قارب أن يزيد. قال ثعلب: ولم يقل أحد في « أولى » أحسن مما قال الأصمعي. وقال المبرد: يقال لمن هم بالعطب ثم أفلت: أولى لك، أي قاربت العطب. كما روي أن أعرابيا كان يوالي رمي الصيد فيفلت منه ليقول: أولى لك. ثم رمى صيدا فقاربه ثم أفلت منه فقال:

فلو كان أولى يطعم القوم صدتهم ولكن أولى يترك القوم جوعا

وقيل: هو كقول الرجل لصاحبه: يا محروم، أي شيء فاتك وقال الجرجاني: هو مأخوذ من الويل، فهو أفعل، ولكن فيه قلب، وهو أن عين الفعل وقع موقع اللام. وقد تم الكلام على قوله: « فأولى لهم » . قال قتادة: كأنه قال العقاب أولى لهم. وقيل: أي وليهم المكروه. ثم قال: « طاعة وقول معروف » أي طاعة وقول معروف أمثل وأحسن، وهو مذهب سيبويه والخليل. وقيل: إن التقدير أمرنا طاعة وقول معروف، فحذف المبتدأ فيوقف على « فأولى لهم » . وكذا من قدر يقولون منا طاعة. وقيل: إن الآية الثانية متصلة بالأولى. واللام في قوله: « لهم » بمعنى الباء، أي الطاعة أولى وأليق بهم، وأحق لهم من ترك أمتثال أمر الله. وهي قراءة أبي « يقولون طاعة » . وقيل إن: « طاعة » نعت لـ « سورة » ، على تقدير: فإذا أنزلت سورة ذات طاعة، فلا يوقف على هذا على « فأولى لهم » . قال ابن عباس: إن قولهم « طاعة » إخبار من الله عز وجل عن المنافقين. والمعنى لهم طاعة وقول معروف، قيل: وجوب الفرائض عليهم، فإذا أنزلت الفرائض شق عليهم نزولها. فيوقف على هذا على « فأولى » . « فإذا عزم الأمر » أي جد القتال، أو وجب فرض القتال، كرهوه. فكرهوه جواب « إذا » وهو محذوف. وقيل: المعنى فإذا عزم أصحاب الأمر. « فلو صدقوا الله » أي في الإيمان والجهاد. « لكان خيرا لهم » من المعصية والمخالفة.

 

الآيات: 22 - 24 ( فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم، أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم، أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها )

 

قوله تعالى: « فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض » اختلف في معنى « إن توليتم » فقيل: هو من الولاية. قال أبو العالية: المعنى فهل عسيتم إن توليتم الحكم فجُعِلتم حكاما أن تفسدوا في الأرض بأخذ الرشا. وقال الكلبي: أي فهل عسيتم إن توليتم أمر الأمة أن تفسدوا في الأرض بالظلم. وقال ابن جريج: المعنى فهل عسيتم إن توليتم عن الطاعة أن تفسدوا في الأرض بالمعاصي وقطع الأرحام. وقال كعب: المعنى فهل عسيتم إن توليتم الأمر أن يقتل بعضكم بعضا. وقيل: من الإعراض عن الشيء. قال قتادة: أي فهل عسيتم إن توليتم عن كتاب الله أن تفسدوا في الأرض بسفك الدماء الحرام، وتقطعوا أرحامكم. وقيل: « فهل عسيتم » أي فلعلكم إن أعرضتم عن القرآن وفارقتم أحكامه أن تفسدوا في الأرض فتعودوا إلى جاهليتكم. وقرئ بفتح السين وكسرها. وقد مضى في « البقرة » القول فيه مستوفى. وقال بكر المزني: إنها نزلت في الحرورية والخوارج، وفيه بعد. والأظهر أنه إنما عني بها المنافقون. وقال ابن حيان: قريش. ونحوه قال المسيب بن شريك والفراء، قالا: نزلت في بني أمية وبني هاشم، ودليل هذا التأويل ما روى عبدالله بن مغفل قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض - ثم قال - هم هذا الحي من قريش أخذ الله عليهم إن ولوا الناس ألا يفسدوا في الأرض ولا يقطعوا أرحامهم ) . وقرأ علي بن أبي طالب « إن توليتم أن تفسدوا في الأرض » بضم التاء والواو وكسر اللام. وهي قراءة ابن أبي إسحاق، ورواها رويس عن يعقوب. يقول: إن وليتكم ولاة جائرة خرجتم معهم في الفتنة وحاربتموهم.

 

قوله تعالى: « وتقطعوا أرحامكم » بالبغي والظلم والقتل. وقرأ يعقوب وسلام وعيسى وأبو حاتم « وتقطعوا » بفتح التاء وتخفيف القاف، من القطع، اعتبارا بقوله تعالى: « ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل » [ البقرة: 27 ] . وروى هذه القراءة هارون عن أبى عمرو. وقرأ الحسن « وتقطعوا » مفتوحة الحروف مشددة، أعتبارا بقوله تعالى: « وتقطعوا أمرهم بينهم » [ الأنبياء: 93 ] . الباقون « وتقطعوا » بضم التاء مشددة الطاء، من التقطيع على التكثير، وهو اختيار أبي عبيد. وتقدم ذكر « عسيتم » [ البقرة: 246 ] في ( البقرة ) . وقال الزجاج في قراءة نافع: لو جاز هذا لجاز « عيسى » بالكسر. قال الجوهري: ويقال عسيت أن أفعل ذلك، وعسيت بالكسر. وقرئ « فهل عسيتم » بالكسر.

قلت: ويدل قوله هذا على أنهما لغتان. وقد مضى القول فيه في « البقرة » مستوفى.

 

قوله تعالى: « أولئك الذين لعنهم الله » أي طردهم وأبعدهم من رحمته. « فأصمهم » عن الحق. « وأعمى أبصارهم » أي قلوبهم عن الخير. فأتبع الأخبار بأن من فعل ذلك حقت عليه لعنته، وسلبه الانتفاع بسمعه وبصره حتى لا ينقاد للحق وإن سمعه، فجعله كالبهيمة التي لا تعقل. وقال: « فهل عسيتم » ثم قال: « أولئك الذين لعنهم الله » فرجع من الخطاب إلى الغيبة على عادة العرب في ذلك. « أفلا يتدبرون القرآن » أي يتفهمونه فيعلمون ما أعد الله للذين لم يتولوا عن الإسلام. « أم على قلوب أقفالها » أي بل على قلوب أقفال أقفلها الله عز وجل عليهم فهم لا يعقلون. وهذا يرد على القدرية والإمامية مذهبهم. وفي حديث مرفوع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ إن عليها أقفالا كأقفال الحديد حتى يكون الله يفتحها ] . وأصل القفل اليبس والصلابة. ويقال لما يبس من الشجر: القفل. والقفيل مثله. والقفيل أيضا نبت. والقفيل: الصوت. قال الراجز:

لما أتاك يابسا قرشبا قمت إليه بالقفيل ضربا

كيف قريت شيخك الأزبا

القِرْشَبُّ ( بكسر القاف ) المسن، عن الأصمعي. وأقفله الصوم أي أيبسه، قاله القشيري والجوهري. فالأقفال ها هنا إشارة إلى ارتجاج القلب وخلوه عن الإيمان. أي لا يدخل قلوبهم الإيمان ولا يخرج منها الكفر، لأن الله تعالى طبع على قلوبهم وقال: « على قلوب » لأنه لو قال على قلوبهم لم يدخل قلب غيرهم في هذه الجملة. والمراد أم على قلوب هؤلاء وقلوب من كانوا بهذه الصفة أقفالها.

 

في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت هذا مقام العائذ من القطيعة قال نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك قالت بلى قال فذاك لك - ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - اقرؤوا إن شئتم « فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم. أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم. أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها » ] . وظاهر الآية أنها خطاب لجميع الكفار. وقال قتادة وغيره: معنى الآية فلعلكم، أو يخاف عليكم، إن أعرضتم عن الإيمان أن تعودوا إلى الفساد في الأرض لسفك الدماء. قال قتادة: كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله تعالى ألم يسفكوا الدماء الحرام ويقطعوا الأرحام وعصوا الرحمن. فالرحم على هذا رحم دين الإسلام والإيمان، التي قد سماها الله إخوة بقوله تعالى: « إنما المؤمنون إخوة » [ الحجرات: 10 ] . وعلى قول الفراء أن الآية نزلت في بني هاشم وبني أمية، والمراد من أضمر منهم نفاقا، فأشار بقطع الرحم إلى ما كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم من القرابة بتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم. وذلك يوجب القتال. وبالجملة فالرحم على وجهين: عامة وخاصة، فالعامة رحم الدين، ويوجب مواصلتها بملازمة الإيمان والمحبة لأهله ونصرتهم، والنصيحة وترك مضارتهم والعدل بينهم، والنصفة في معاملتهم والقيام بحقوقهم الواجبة، كتمريض المرضى وحقوق الموتى من غسلهم والصلاة عليهم ودفنهم، وغير ذلك من الحقوق المترتبة لهم. وأما الرحم الخاصة وهي رحم القرابة من طرفي الرجل أبيه وأمه، فتجب لهم الحقوق الخاصة وزيادة، كالنفقة وتفقد أحوالهم، وترك التغافل عن تعاهدهم في أوقات ضروراتهم، وتتأكد في حقهم حقوق الرحم العامة، حتى إذا تزاحمت الحقوق بدئ بالأقرب فالأقرب. وقال بعض أهل العلم: إن الرحم التي تجب صلتها هي كل رحم محرم وعليه فلا تجب في بني الأعمام وبني الأخوال. وقيل: بل هذا في كل رحم ممن ينطلق عليه ذلك من ذوي الأرحام في المواريث، محرما كان أو غير محرم. فيخرج من هذا أن رحم الأم التي لا يتوارث بها لا تجب صلتهم ولا يحرم قطعهم. وهذا ليس بصحيح، والصواب أن كل ما يشمله ويعمه الرحم تجب صلته على كل حال، قربة ودينية، على ما ذكرناه أولا والله أعلم. قد روى أبو داود الطيالسي في مسنده قال: حدثنا شعبة قال أخبرني محمد بن عبدالجبار قال سمعت محمد بن كعب القرظي يحدث عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن للرحم لسانا يوم القيامة تحت العرش يقول يا رب قطعت يا رب ظلمت يا رب أسيء إلي فيجيبها ربها ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ) . وفي صحيح مسلم عن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يدخل الجنة قاطع ) . قال ابن أبي عمر قال سفيان: يعني قاطع رحم. ورواه البخاري.

 

قوله عليه السلام: ( إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم ... ) « خلق » بمعنى اخترع وأصله التقدير، كما تقدم. والخلق هنا بمعنى المخلوق. ومنه قوله تعالى: « هذا خلق الله » [ لقمان: 11 ] أي مخلوقه. ومعنى [ فرغ منهم ] كمل خلقهم. لا أنه اشتغل بهم ثم فرغ من شغله بهم، إذ ليس فعله بمباشرة ولا مناولة، ولا خلقه بآلة ولا محاولة، تعالى عن ذلك. وقوله: [ قامت الرحم فقالت ] يحمل على أحد وجهين: أحدهما: أن يكون الله تعالى أقام من يتكلم عن الرحم من الملائكة فيقول ذلك، وكأنه وكل بهذه العبادة من يناضل عنها ويكتب ثواب من وصلها ووزر من قطعها، كما وكل الله بسائر الأعمال كراما كاتبين، وبمشاهدة أوقات الصلوات ملائكة متعاقبين. وثانيهما: أن ذلك على جهة التقدير والتمثيل المفهم للإعياء وشدة الاعتناء. فكأنه قال: لو كانت الرحم ممن يعقل ويتكلم لقالت هذا الكلام، كما قال تعالى: « لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله » ثم قال « وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون » [ الحشر: 21 ] . وقوله: ( فقالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة ) مقصود هذا الكلام الإخبار بتأكد أمر صلة الرحم، وأن الله سبحانه قد نزلها بمنزلة من استجار به فأجاره، وأدخله في ذمته وخفارته. وإذا كان كذلك فجار الله غير مخذول وعهده غير منقوض. ولذلك قال مخاطبا للرحم: ( أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ) . وهذا كما قال عليه السلام: [ ومن صلى الصبح فهو في ذمة الله تعالى فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء فإنه من يطلبه بذمته بشيء يدركه ثم يكبه في النار على وجهه ] .

 

الآية: 25 ( إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم )

 

قوله تعالى: « إن الذين ارتدوا على أدبارهم » قال قتادة: هم كفار أهل الكتاب، كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد ما عرفوا نعته عندهم، قاله ابن جريج. وقال ابن عباس والضحاك والسدي: هم المنافقون، قعدوا عن القتال بعد ما علموه في القرآن. « الشيطان سول لهم » أي زين لهم خطاياهم، قاله الحسن. « وأملى لهم » أي مد لهم الشيطان في الأمل ووعدهم طول العمر، عن الحسن أيضا. وقال: إن الذي أملى لهم في الأمل ومد في آجالهم هو الله عز وجل، قاله الفراء والمفضل. وقال الكلبي ومقاتل: إن معنى « أملى لهم » أمهلهم، فعلى هذا يكون الله تعالى أملى لهم بالإمهال في عذابهم. وقرأ أبو عمرو وابن إسحاق وعيسى بن عمرو أبو جعفر وشيبة « وأملي لهم » بضم الهمزة وكسر اللام وفتح الياء، على ما لم يسم فاعله. وكذلك قرأ ابن هرمز ومجاهد والجحدري ويعقوب، إلا أنهم سكنوا الياء على وجه الخبر من الله تعالى عن نفسه أنه يفعل ذلك بهم، كأنه قال: وأنا أملي لهم. واختاره أبو حاتم، قال: لأن فتح الهمزة يوهم أن الشيطان يملي لهم، وليس كذلك، فلهذا عدل إلى الضم. قال المهدوي: ومن قرأ « وأملى لهم » فالفاعل اسم الله تعالى. وقيل الشيطان. واختار أبو عبيد قراءة العامة، قال: لأن المعنى معلوم، لقوله: « لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه » [ الفتح: 9 ] رد التسبيح على اسم الله، والتوقير والتعزير على اسم الرسول.

 

الآية: 26 ( ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم )

 

قوله تعالى: « ذلك بأنهم قالوا » أي ذلك الإملاء لهم حتى يتمادوا في الكفر بأنهم قالوا، يعني المنافقين واليهود. « للذين كرهوا ما نزل الله » وهم المشركون. « سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم » أي في مخالفة محمد والتظاهر على عداوته، والقعود عن الجهاد معه وتوهين أمره في السر. وهم إنما قالوا ذلك سرا فأخبر الله نبيه. وقراءة العامة « أسرارهم » بفتح الهمزة جمع سر، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. وقرأ الكوفيون وابن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم « إسرارهم » بكسر الهمزة على المصدر، نحو قوله تعالى: « وأسررت لهم إسرارا » [ نوح: 9 ] جمع لاختلاف ضروب السر.

 

الآية: 27 ( فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم )

 

قوله تعالى: « فكيف » أي فكيف تكون حالهم. « إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم » أي ضاربين، فهو في موضع الحال. ومعنى الكلام التخويف والتهديد، أي إن تأخر عنهم العذاب فإلى انقضاء العمر. وقد مضى في « الأنفال والنحل » . وقال ابن عباس: لا يتوفى أحد على معصية إلا بضرب شديد لوجهه وقفاه. وقيل: ذلك عند القتال نصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بضرب الملائكة وجوههم عند الطلب وأدبارهم عند الهرب. وقيل: ذلك في القيامة عند سوقهم إلى النار.

 

الآية: 28 ( ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم )

 

قوله تعالى: « ذلك » أي ذلك جزاؤهم. « بأنهم اتبعوا ما أسخط الله » قال ابن عباس: هو كتمانهم ما في التوراة من نعت محمد صلى الله عليه وسلم. وإن حملت على المنافقين فهو إشارة إلى ما أضمروا عليه من الكفر. « وكرهوا رضوانه » يعني الإيمان. « فأحبط أعمالهم » أي ما عملوه من صدقة وصلة رحم وغير ذلك، على ما تقدم.

الآية [ 29 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات: 29 - 30 ( أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم، ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم )

 

قوله تعالى: « أم حسب الذين في قلوبهم مرض » نفاق وشك، يعني المنافقين. « أن لن يخرج الله أضغانهم » الأضغان ما يضمر من المكروه. واختلف في معناه، فقال السدي: غشهم. وقال ابن عباس: حسدهم. وقال قطرب: عداوتهم، وأنشد قول الشاعر:

قل لابن هند ما أردت بمنطق ساء الصديق وشيد الأضغانا

وقيل: أحقادهم. واحدها ضغن. قال:

وذي ضغن كففت النفس عنه

وقد تقدم. وقال عمرو بن كلثوم:

وإن الضغن بعد الضغن يفشو عليك ويخرج الداء الدفينا

قال الجوهري: الضغن والضغينة: الحقد. وقد ضغن عليه ( بالكسر ) ضغنا. وتضاغن القوم واضطغنوا: أبطنوا على الأحقاد. واضطغنت الصبي إذا أخذته تحت حضنك. وأنشد الأحمر:

كأنه مضطغن صبيا

أي حامله في حجره. وقال ابن مقبل:

إذا اضطغنت سلاحي عند مغرضها ومرفق كرئاس السيف إذ شسفا

وفرس ضاغن: لا يعطي ما عنده من الجري إلا بالضرب. والمعنى: أم حسبوا أن لن يظهر الله عداوتهم وحقدهم لأهل الإسلام. « ولو نشاء لأريناكهم » أي لعرفناكهم. قال ابن عباس: وقد عرفه إياهم في سورة « التوبة » . تقول العرب: سأريك ما أصنع، أي سأعلمك، ومنه قوله تعالى: « بما أراك الله » [ النساء: 105 ] أي بما أعلمك. « فلعرفتهم بسيماهم » أي بعلاماتهم. قال أنس. ما خفي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية أحد من المنافقين، كان يعرفهم بسيماهم. وقد كنا في غزاة وفيها سبعة من المنافقين يشك فيهم الناس، فأصبحوا ذات ليلة وعلى جبهة كل واحد منهم مكتوب ( هذا منافق ) فذلك سيماهم. وقال ابن زيد: قدر الله إظهارهم وأمر أن يخرجوا من المسجد فأبوا إلا أن يتمسكوا بلا إله إلا الله، فحقنت دماؤهم ونكحوا وأنكحوا بها. « ولتعرفنهم في لحن القول » أي في فحواه ومعناه. ومنه قول الشاعر:

وخير الكلام ما كان لحنا

أي ما عرف بالمعنى ولم يصرح به. مأخوذ من اللحن في الإعراب، وهو الذهاب عن الصواب، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: [ إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ] أي أذهب بها في الجواب لقوته على تصريف الكلام. أبو زيد: لحنت له ( بالفتح ) ألحن لحنا إذا قلت له قولا يفهمه عنك ويخفى على غيره. ولحنه هو عني ( بالكسر ) يلحنه لحنا أي فهمه. وألحنته أنا إياه، ولاحنت الناس فاطنتهم، قال الفزاري:

وحديث ألذه هو مما ينعت الناعتون يوزن وزنا

منطق رائع وتلحن أحيانا وخير الحديث ما كان لحنا

يريد أنها تتكلم بشيء وهي تريد غيره، وتعرض في حديثها فتزيله عن جهته من فطنتها وذكائها. وقد قال تعالى: « ولتعرفنهم في لحن القول » . وقال القتال الكلابي:

ولقد وحيت لكم لكيما تفهموا ولحنت لحنا ليس بالمرتاب

وقال مرار الأسدي:

ولحنت لحنا فيه غش ورابني صدودك ترضين الوشاة الأعاديا

قال الكلبي: فلم يتكلم بعد نزولها عند النبي صلى الله عليه وسلم منافق إلا عرفه. وقيل: كان المنافقون يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم بكلام تواضعوه فيما بينهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع ذلك ويأخذ بالظاهر المعتاد، فنبهه الله تعالى عليه، فكان بعد هذا يعرف المنافقين إذا سمع كلامهم. قال أنس: فلم يخف منافق بعد هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، عرفه الله ذلك بوحي أو علامة عرفها بتعريف الله إياه. « والله يعلم أعمالكم » أي لا يخفى عليه شيء منها.

 

الآية: 31 ( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم )

 

قوله تعالى: « ولنبلونكم » أي نتعبدكم بالشرائع لان علمنا عواقب الأمور. وقيل: لنعاملنكم معاملة المختبرين. « حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين » عليه. قال ابن عباس: « حتى نعلم » حتى نميز. وقال على رضي الله عنه. « حتى نعلم » حتى نرى. وقد مضى في « البقرة » . وقراءة العامة بالنون في « نبلونكم » و « نعلم » « ونبلو » . وقرأ أبو بكر عن عاصم بالياء فيهن. وروى رويس عن يعقوب إسكان الواو من « نبلو » على القطع مما قبل. ونصب الباقون ردا على قوله: « حتى نعلم » . وهذا العلم هو العلم الذي يقع به الجزاء، لأنه إنما يجازيهم بأعمالهم لا بعلمه القديم عليهم. فتأويله: حتى نعلم المجاهدين علم شهادة، لأنهم إذا أمروا بالعمل يشهد منهم ما عملوا، فالجزاء بالثواب والعقاب يقع على علم الشهادة. « ونبلو أخباركم » نختبرها ونظهرها. قال إبراهيم بن الأشعث: كان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية بكى وقال: اللهم لا تبتلنا فإنك إذا بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا.

 

الآية: 32 ( إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم )

 

قوله تعالى: « إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله » يرجع إلى المنافقين أو إلى اليهود. وقال ابن عباس: هم المطعمون يوم بدر. نظيرها: « إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله » [ الأنفال: 36 ] الآية. « وشاقوا الرسول » أي عادوه وخالفوه. « من بعد ما تبين لهم الهدى » أي علموا أنه نبي بالحجج والآيات. « لن يضروا الله شيئا » بكفرهم. « وسيحبط أعمالهم » أي ثواب ما عملوه.

 

الآية: 33 ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم )

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول » لما بين حال الكفار أمر المؤمنين بلزوم الطاعة في أوامره والرسول في سننه. « ولا تبطلوا أعمالكم » أي حسناتكم بالمعاصي، قال الحسن. وقال الزهري: بالكبائر. ابن جريج: بالرياء والسمعة. وقال مقاتل والثمالي: بالمن، وهو خطاب لمن كان يمن على النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه. وكله متقارب، وقول الحسن يجمعه. وفيه إشارة إلى أن الكبائر تحبط الطاعات، والمعاصي تخرج عن الإيمان.

 

احتج علماؤنا وغيرهم بهذه الآية على أن التحلل من التطوع - صلاة كان أو صوما - بعد التلبس به لا يجوز، لأن فيه إبطال العمل وقد نهى الله عنه. وقال من أجاز ذلك - وهو الإمام الشافعي وغيره - : المراد بذلك إبطال ثواب العمل المفروض، فنهى الرجل عن إحباط ثوابه. فأما ما كان نفلا فلا، لأنه ليس واجبا عليه. فان زعموا أن اللفظ عام فالعام يجوز تخصيصه أن النفل تطوع، والتطوع يقتضي تخبيرا. وعن أبي العالية كانوا يرون أنه لا يضر مع الإسلام ذنب، حتى نزلت هذه الآية فخافوا الكبائر أن تحبط الأعمال. وقال مقاتل: يقول الله تعالى إذا عصيتم الرسول فقد أبطلتم أعمالكم.

 

الآية: 34 ( إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم )

 

بين أن الاعتبار بالوفاة على الكفر يوجب الخلود في النار. وقد مضى في « البقرة » الكلام فيه. وقيل: إن المراد بالآية أصحابة القليب. وحكمها عام.

 

الآية: 35 ( فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم )

 

قوله تعالى: « فلا تهنوا » أي تضعفوا عن القتال. والوهن: الضعف وقد وهن الإنسان ووهنه غيره، يتعدى ولا يتعدى. قال:

إنني لست بموهون فقر

ووهن أيضا ( بالكسر ) وهنا أي ضعف، وقرئ « فما وهنوا » بضم الهاء وكسرها. وقد مضى في ( آل عمران ) .

 

قوله تعالى: « وتدعوا إلى السلم » أي الصلح. « وأنتم الأعلون » أي وأنتم أعلم بالله منهم. وقيل: وأنتم الأعلون في الحجة. وقيل: المعنى وأنتم الغالبون لأنكم مؤمنون وإن غلبوكم في الظاهر في بعض الأحوال. وقال قتادة: لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها.

 

واختلف العلماء في حكمها، فقيل: إنها ناسخة لقوله تعالى: « وإن جنحوا للسلم فاجنح لها » [ الأنفال: 61 ] ، لأن الله تعالى منع من الميل إلى الصلح إذا لم يكن بالمسلمين حاجة إلى الصلح. وقيل: منسوخة بقوله تعالى: « وإن جنحوا للسلم فاجنح لها » . وقيل: هي محكمة. والآيتان نزلتا في وقتين مختلفي الحال. وقيل: إن قوله: « وإن جنحوا للسلم فاجنح لها » مخصوص في قوم بأعيانهم، والأخرى عامة. فلا يجوز مهادنة الكفار إلا عند الضرورة، وذلك إذا عجزنا عن مقاومتهم لضعف المسلمين. وقد مضى هذا المعنى مستوفى. « والله معكم » أي بالنصر والمعونة، مثل: « وإن الله لمع المحسنين » [ العنكبوت: 69 ] : « ولن يتركم أعمالكم » أي لن ينقصكم، عن ابن عباس وغيره. ومنه الموتور الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه، تقول منه: وتره يتره وترا وترة. ومنه قوله عليه السلام: [ من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله ] أي ذهب بهما. وكذلك وتره حقه أي نقصه. وقوله تعالى: « ولن يتركم أعمالكم » أي لن ينتقصكم في أعمالكم، كما تقول: دخلت البيت، وأنت تريد في البيت، قاله الجوهري. الفراء: « ولن يتركم » هو مشتق من الوتر وهو الفرد، فكان المعنى: ولن يفردكم بغير ثواب.

 

الآيات: 36 - 37 ( إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم، إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم )

 

قوله تعالى: « إنما الحياة الدنيا لعب ولهو » تقدم في « الأنعام. » وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم « شرط وجوابه. » ولا يسألكم أموالكم « أي لا يأمركم بإخراج جميعها في الزكاة، بل أمر بإخراج البعض، قاله أين عيينة وغيره. وقيل: » لا يسألكم أموالكم « لنفسه أو لحاجة منه إليها، إنما يأمركم بالإنفاق في سبيله ليرجع ثوابه إليكم. وقيل: » لا يسألكم أموالكم « إنما يسألكم أمواله، لأنه المالك لها وهو المنعم بإعطائها. وقيل: ولا يسألكم محمد أموالكم أجرا على تبليغ الرسالة. نظيره: » قل ما أسألكم عليه من أجر « [ الفرقان: 57 ] الآية.»

 

قوله تعالى: « إن يسألكموها فيحفكم » يلح عليكم، يقال: أحفى بالمسألة وألحف وألح بمعنى واحد. والحفي المستقصي في السؤال، وكذلك الإحفاء الاستقصاء في الكلام والمنازعة. ومنه أحفى شاربه أي استقصى في أخذه. « تبخلوا ويخرج أضغانكم » أي يخرج البخل أضغانكم. قال قتادة: قد علم الله أن في سؤال المال خروج الأضغان. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن وحميد « وتخرج » بتاء مفتوحة وراء مضمومة. « أضغانكم » بالرفع لكونه الفاعل. وروى الوليد عن يعقوب الحضرمي « ونخرج » بالنون. وأبو معمر عن عبدالوارث عن أبي عمرو « ومخرج » بالرفع في الجيم على القطع والاستئناف والمشهور عنه « ويخرج » كسائر القراء، عطف على ما تقدم.

 

الآية: 38 ( ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم )

 

قوله تعالى: « ها أنتم هؤلاء تدعون » أي ها أنتم هؤلاء أيها المؤمنون تدعون « لتنفقوا في سبيل الله » أي في الجهاد وطريق الخير. « فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه » أي على نفسه، أي يمنعها الأجر والثواب. « والله الغني » أي إنه ليس بمحتاج إلى أموالكم. « وأنتم الفقراء » إليها. « وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم » أي أطوع لله منكم. روى الترمذي عن أبى هريرة قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية « وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم » قالوا: ومن يستبدل بنا؟ قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكب سلمان ثم قال: [ هذا وقومه. هذا وقومه ] قال: حديث غريب في إسناده مقال. وقد روى عبدالله بن جعفر بن نجيح والد على بن المديني أيضا هذا الحديث عن العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال أنس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله، من هؤلاء الذين ذكر الله إن تولينا استبدلوا ثم لا يكونوا أمثالنا؟ قال: وكان سلمان جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذ سلمان، قال: [ هذا وأصحابه. والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس ] . وقال الحسن: هم العجم. وقال عكرمة: هم فارس والروم. قال المحاسبي: فلا أحد بعد العربي من جميع أجناس الأعاجم أحسن دينا، ولا كانت العلماء منهم إلا الفرس. وقيل: إنهم اليمن، وهم الأنصار، قال شريح بن عبيد. وكذا قال ابن عباس: هم الأنصار. وعنه أنهم الملائكة. وعنه هم التابعون. وقال مجاهد: إنهم من شاء من سائر الناس. قال الطبري: أي في البخل بالإنفاق في سبيل الله. وحكي عن أبي موسى الأشعري أنه لما نزلت هذه الآية فرح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: [ هي أحب إلي من الدنيا ] . والله أعلم.

ختمت السورة بحمد الله وعونه، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه الأطهار.

 

سورة الفتح

مقدمة السورة

 

مدنية بإجماع، وهي تسع وعشرون آية. ونزلت ليلا بين مكة والمدينة في شأن الحديبية. روى محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، قالا: نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية من أولها إلى آخرها. وفي الصحيحين عن زيد بن أسلم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره وعمر بن الخطاب يسير معه ليلا فسأله عمر عن شيء فلم يجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سأله فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، فقال عمر بن الخطاب: ثكلت أم عمر، نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك لم يجبك، فقال عمر: فحركت بعيري ثم تقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل في قرآن، فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي، فقلت: لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه، فقال: [ لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس - ثم قرأ - « إنا فتحنا لك فتحا مبينا » ] لفظ البخاري. وقال الترمذي: حديث حسن غريب صحيح. وفي صحيح مسلم عن قتادة أن أنس بن مالك حدثهم قال: لما نزلت: « إنا فتحنا لك فتحا مبينا. ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما - إلى قوله - فوزا عظيما » مرجعه من الحديبية وهم يخالطهم الحزن والكآبة، وقد نحر الهدي بالحديبية، فقال: [ لقد أنزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعا ] . وقال عطاء عن ابن عباس: إن اليهود شتموا النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين لما نزل قوله تعالى: « وما أدري ما يفعل بي ولا بكم » [ الأحقاف: 9 ] وقالوا: كيف نتبع رجلا لا يدري ما يفعل به فاشتد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: « إنا فتحنا لك فتحا مبينا. ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر » . ونحوه قال مقاتل بن سليمان: لما نزل قوله تعالى: « وما أدري ما يفعل بي ولا بكم » [ الأحقاف: 9 ] فرح المشركون والمنافقون وقالوا: كيف نتبع رجلا لا يدري ما يفعل به ولا بأصحابه، فنزلت بعد ما رجع من الحديبية: « إنا فتحنا لك فتحا مبينا » أي قضينا لك قضاء. فنسخت هذه الآية تلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ لقد أنزلت علي سورة ما يسرني بها حمر النعم ] . وقال المسعودي: بلغني أنه من قرأ سورة الفتح في أول ليلة من رمضان في صلاة التطوع حفظه الله ذلك العام.

 

الآية: 1 ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا )

 

اختلف في هذا الفتح ما هو؟ ففي البخاري حدثني محمد بن بشار قال حدثنا غندر قال حدثنا شعبة قال سمعت قتادة عن أنس « إنا فتحنا لك فتحا مبينا » قال: الحديبية. وقال جابر: ما كنا نعد فتح مكة إلا يوم الحديبية. وقال الفراء: تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحا ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، كنا نعد مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة، والحديبية بئر. وقال الضحاك: « إنا فتحنا لك فتحا مبينا » بغير قتال. وكان الصلح من الفتح. وقال مجاهد: هو منحره بالحديبية وحلقه رأسه. وقال: كان فتح الحديبية آية عظيمة، نزح ماؤها فمج فيها فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه. وقال موسى بن عقبة: قال رجل عند منصرفهم من الحديبية: ما هذا بفتح، لقد صدونا عن البيت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ بل هو أعظم الفتوح قد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح ويسألكم القضية ويرغبوا إليكم في الأمان وقد رأوا منكم ما كرهوا ] . وقال الشعبي في قوله تعالى: « إنا فتحنا لك فتحا مبينا » قال: هو فتح الحديبية، لقد أصاب بها ما لم يصب في غزوة، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبويع بيعة الرضوان، وأطعموا نخل خيبر، وبلغ الهدي محله، وظهرت الروم على فارس، ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس. وقال الزهري: لقد كان الحديبية أعظم الفتوح، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إليها في ألف وأربعمائة، فلما وقع الصلح مشى الناس بعضهم في بعض وعلموا وسمعوا عن الله، فما أراد أحد الإسلام إلا تمكن منه، فما مضت تلك السنتان إلا والمسلمون قد جاؤوا إلى مكة في عشرة آلاف. وقال مجاهد أيضا والعوفي: هو فتح خبير. والأول أكثر، وخيبر إنما كانت وعدا وعدوه، على ما يأتي بيانه في قوله تعالى: « سيقول المخلفون إذا انطلقتم » [ الفتح: 10 ] وقوله: « وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه » [ الفتح: 20 ] . وقال مجمع بن جارية - وكان أحد القراء الذين قرؤوا القرآن - : شهدنا الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزون الأباعر، فقال بعض الناس لبعض: ما بال الناس؟ قالوا: أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فخرجنا نوجف فوجدنا نبي الله صلى الله عليه وسلم عند كراع الغميم، فلما اجتمع الناس قرأ النبي صلى الله عليه وسلم « إنا فتحنا لك فتحا مبينا » فقال عمر بن الخطاب: أو فتح هو يا رسول الله؟ قال: [ نعم، والذي نفسي بيده إنه لفتح ] . فقسمت خيبر على أهل الحديبية، لم يدخل أحد إلا من شهد الحديبية. وقيل: إن قوله تعالى: « فتحا » يدل على أن مكة فتحت عنوة، لأن اسم الفتح لا يقع مطلقا إلا على ما فتح عنوة. هذا هو حقيقة الاسم. وقد يقال: فتح البلد صلحا، فلا يفهم الصلح إلا بأن يقرن بالفتح، فصار الفتح في الصلح مجازا. والأخبار دالة على أنها فتحت عنوة، وقد مضى القول فيها، ويأتي.

 

الآيات: 2 - 3 ( ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما، وينصرك الله نصرا عزيزا )

 

قال ابن الأنباري: « فتحا مبينا » غير تام، لأن قوله: « ليغفر لك الله ما تقدم » متعلق بالفتح. كأنه قال: إنا فتحنا لك فتحا مبينا لكي يجمع الله لك مع الفتح المغفرة، فيجمع الله لك به ما تقر به عينك في الدنيا والآخرة. وقال أبو حاتم السجستاني: هي لام القسم. وهذا خطأ، لأن لام القسم لا تكسر ولا ينصب بها، ولو جاز هذا لجاز: ليقوم زيد، بتأويل ليقومن زيد. الزمخشري: فإن قلت كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة؟ قلت: لم يجعل علة للمغفرة، ولكن لاجتماع ما عدد من الأمور الأربعة، وهي: المغفرة، وإتمام النعمة، وهداية الصراط المستقيم، والنصر العزيز. كأنه قال يسرنا لك فتح مكة ونصرناك على عدوك ليجمع لك عز الدارين وأعراض العاجل والآجل. ويجوز أن يكون فتح مكة من حيث إنه جهاد للعدو سببا للغفران والثواب. وفي الترمذي عن أنس قال: أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم « ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر » مرجعه من الحديبية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ لقد أنزلت علي آية أحب إلي مما على وجه الأرض ] . ثم قرأها النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، فقالوا: هنيئا مريئا يا وسول الله، لقد بين الله لك ماذا يفعل بك، فماذا يفعل بنا، فنزلت عليه: « ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار - حتى بلغ - فوزا عظيما » قال حديث حسن صحيح. وفيه عن مجمع بن جارية. واختلف أهل التأويل في معنى « ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر » فقيل: « ما تقدم من ذنبك » قبل الرسالة. « وما تأخر » بعدها، قال مجاهد. ونحوه قال الطبري وسفيان الثوري، قال الطبري: هو راجع إلى قوله تعالى: « إذا جاء نصر الله والفتح » إلى قول « توابا » [ النصر: 1 - 3 ] . « ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك » قبل الرسالة « وما تأخر » إلى وقت نزول هذه الآية. وقال سفيان الثوري: « ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك » ذنبك « ما عملته في الجاهلية من قبل أن يوحى إليك. « وما تأخر » كل شيء لم تعمله، وقاله الواحدي. وقد مضى الكلام في جريان الصغائر على الأنبياء في سورة » البقرة « ، فهذا قول. وقيل: » ما تقدم « قبل الفتح. « وما تأخر » بعد الفتح. وقيل: » ما تقدم « قبل نزول هذه الآية. « وما تأخر » بعدها. وقال عطاء الخرساني: « ما تقدم من ذنبك » يعني من ذنب أبويك آدم وحواء. « وما تأخر » من ذنوب أمتك. وقيل: من ذنب أبيك إبراهيم. « وما تأخر » من ذنوب النبيين. وقيل: » ما تقدم « من ذنب يوم بدر. « وما تأخر » من ذنب يوم حنين. وذلك أن الذنب المتقدم يوم بدر، أنه جعل يدعو ويقول: » اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض أبدا « وجعل يردد هذا القول دفعات، فأوحى الله إليه: من أين تعلم أني لو أهلكت هذه العصابة لا أعبد أبدا، فكان هذا الذنب المتقدم. وأما الذنب المتأخر فيوم حنين، لما انهزم الناس قال لعمه العباس ولابن عمه أبي سفيان: [ ناولاني كفا من حصباء الوادي ] فناولاه فأخذه بيده ورمى به في وجوه المشركين وقال: [ شاهت الوجوه. حم. لا ينصرون ] فانهزم القوم عن آخرهم، فلم يبق أحد إلا امتلأت عيناه رملا وحصباء. ثم نادى في أصحابه فرجعوا فقال لهم عند رجوعهم: [ لو لم أرمهم لم ينهزموا ] فأنزل الله عز وجل: » وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى « [ الأنفال: 17 ] فكان هذا هو الذنب المتأخر. وقال أبو علي الروذباري: يقول لو كان لك ذنب قديم أو حديث لغفرناه لك. »

 

قوله تعالى: « ويتم نعمته عليك » قال ابن عباس: في الجنة. وقيل: بالنبوة والحكمة. وقيل: بفتح مكة والطائف وخيبر. وقيل: بخضوع من استكبر وطاعة من تجبر. « ويهديك صراطا مستقيما » أي يثبتك على الهدى إلى أن يقبضك إليه. « وينصرك الله نصرا عزيزا » أي غالبا منيعا لا يتبعه ذل.

 

الآية: 4 ( هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما )

 

قوله تعالى: « هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين » « السكينة » : السكون والطمأنينة. قال ابن عباس: كل سكينة في القرآن هي الطمأنينة إلا التي في « البقرة » . « ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم » قال ابن عباس: بعث النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدقوه فيها زادهم الصلاة، فلما صدقوه زادهم الزكاة، فلما صدقوه زادهم الصيام، فلما صدقوه زادهم الحج، ثم أكمل لهم دينهم، فذلك قوله: « ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم » أي تصديقا بشرائع الإيمان مع تصديقهم بالإيمان. وقال الربيع بن أنس: خشية مع خشيتهم. وقال الضحاك: يقينا مع يقينهم. « ولله جنود السماوات والأرض » قال ابن عباس: يريد الملائكة والجن والشياطين والإنس « وكان الله عليما » بأحوال خلقه « حكيما » فيما يريده.

 

الآية: 5 ( ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما )

 

أي أنزل السكينة ليزدادوا إيمانا. ثم تلك الزيادة بسبب إدخالهم الجنة. وقيل: اللام في « ليدخل » يتعلق بما يتعلق به اللام في قوله: « ليغفر لك الله » « وكان ذلك » أي ذلك الوعد من دخول مكة وغفران الذنوب. « عند الله فوزا عظيما » أي نجاة من كل غم، وظفرا بكل مطلوب. وقيل: لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه « ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر » قالوا: هنيئا لك يا رسول الله، فماذا لنا؟ فنزل: « ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات » ولما قرأ « ويتم نعمته عليك » قالوا: هنيئا لك، فنزلت: « وأتممت عليكم نعمتي » [ المائدة: 3 ] فلما قرأ « ويهديك صراطا مستقيما » نزل في حق الأمة: « ويهديك صراطا مستقيما » [ الفتح: 2 ] . ولما قال: « وينصرك الله نصرا عزيزا » [ الفتح: 3 ] نزل: « وكان حقا علينا نصر المؤمنين » [ الروم: 47 ] . وهو كقوله تعالى: « إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما » [ الأحزاب: 56 ] . ثم قال: « هو الذي يصلي عليكم » [ الأحزاب: 43 ] ذكره القشيري.

 

الآيات: 6 - 7 ( ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا، ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما )

 

قوله تعالى: « ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات » أي بإيصال الهموم إليهم بسبب علو كلمة المسلمين، وبأن يسلط النبي عليه السلام قتلا وأسرا واسترقاقا. « الظانين بالله ظن السوء » يعني ظنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرجع إلى المدينة، ولا أحد من أصحابه حين خرج إلى الحديبية، وأن المشركين يستأصلونهم. كما قال: « بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا » [ الفتح: 12 ] . وقال الخليل وسيبويه: « السوء » هنا الفساد. « عليهم دائرة السوء » في الدنيا بالقتل والسبي والأسر، وفي الآخرة جهنم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو « دائرة السوء » بالضم. وفتح الباقون. قال الجوهري: ساءه يسوءه سوءا ( بالفتح ) ومساءة ومساية، نقيض سره، والاسم السوء ( بالضم ) . وقرئ « عليهم دائرة السوء » يعني الهزيمة والشر. ومن فتح فهو من المساءة. « وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا. ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما » تقدم في غير موضع جميعه. والحمد لله. وقيل: لما جرى صلح الحديبية قال ابن أُبي: أيظن محمد أنه إذا صالح أهل مكة أو فتحها لا يبقى له عدو، فأين فارس والروم فبين الله عز وجل أن جنود السموات والأرض أكثر من فارس والروم. وقيل: يدخل فيه جميع المخلوقات. وقال ابن عباس: « ولله جنود السموات » الملائكة. وجنود الأرض المؤمنون. وأعاد لأن الذي سبق عقيب ذكر المشركين من قريش، وهذا عقيب ذكر المنافقين وسائر المشركين. والمراد في الموضعين التخويف والتهديد. فلو أراد إهلاك المنافقين والمشركين لم يعجزه ذلك، ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى.

 

الآيات: 8 - 9 ( إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا )

 

قوله تعالى: « إنا أرسلناك شاهدا » قال قتادة: على أمتك بالبلاغ. وقيل: شاهدا عليهم بأعمالهم من طاعة أو معصية. وقيل: مبينا لهم ما أرسلناك به إليهم. وقيل: شاهدا عليهم يوم القيامة. فهو شاهد أفعالهم اليوم، والشهيد عليهم يوم القيامة. وقد مضى في « النساء » عن سعيد بن جبير هذا المعنى مبينا. « ومبشرا » لمن أطاعه بالجنة. « ونذيرا » من النار لمن عصى، قاله قتادة وغيره. وقد مضى في « البقرة » اشتقاق البشارة والنذارة ومعناهما. وانتصب « شاهدا ومبشرا ونذيرا » على الحال المقدرة. حكى سيبويه: مررت برجل معه صقر صائدا به غدا، فالمعنى: إنا أرسلناك مقدرين بشهادتك يوم القيامة. وعلى هذا تقول: رأيت عمرا قائما غدا.

 

قوله تعالى: « لتؤمنوا بالله ورسوله » قرأ ابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو « ليؤمنوا » بالياء، وكذلك « يعزروه ويوقروه ويسبحوه » كله بالياء على الخبر. واختاره أبو عبيد لذكر المؤمنين قبله وبعده، فأما قبله فقوله: « ليدخل » وأما بعده فقوله: « إن الذين يبايعونك » [ الفتح: 10 ] الباقون بالتاء على الخطاب، واختاره أبو حاتم. « وتعزروه » أي تعظموه وتفخموه، قاله الحسن والكلبي، والتعزيز: التعظيم والتوقير. وقال قتادة: تنصروه وتمنعوا منه. ومنه التعزير في الحد. لأنه مانع. قال القطامي:

ألا بكرت مي بغير سفاهة تعاتب والمودود ينفعه العزر

وقال ابن عباس وعكرمة: تقاتلون معه بالسيف. وقال بعض أهل اللغة: تطيعوه. « وتوقروه » أي تسودوه، قاله السدي. وقيل تعظموه. والتوقير: التعظيم والترزين أيضا. والهاء فيهما للنبي صلى الله عليه وسلم. وهنا وقف تام، ثم تبتدئ « وتسبحوه » أي تسبحوا الله « بكرة وأصيلا » أي عشيا. وقيل: الضمائر كلها لله تعالى، فعلى هذا يكون تأويل « تعزروه وتوقروه » أي تثبتوا له صحة الربوبية وتنفوا عنه أن يكون له ولد أو شريك. واختار هذا القول القشيري. والأول قول الضحاك، وعليه يكون بعض الكلام راجعا إلى الله سبحانه وتعالى وهو « وتسبحوه » من غير خلاف. وبعضه راجعا إلى رسول صلى الله عليه وسلم وهو « وتعزروه وتوقروه » أي تدعوه بالرسالة والنبوة لا بالاسم والكنية. وفي « تسبحوه » وجهان: تسبيحه بالتنزيه له سبحانه من كل قبيح. والثاني: هو فعل الصلاة التي فيها التسبيح. « بكرة وأصيلا » أي غدوة وعشيا. وقد مضى القول فيه. وقال الشاعر:

لعمري لأنت البيت أكرم أهله وأجلس في أفيائه بالأصائل

 

الآية: 10 ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما )

 

قوله تعالى: « إن الذين يبايعونك » بالحديبية يا محمد. « إنما يبايعون الله » بين أن بيعتهم لنبيه إنما هي بيعة الله، كما قال تعالى: « من يطع الرسول فقد أطاع الله » [ النساء: 80 ] . وهذه المبايعة هي بيعة الرضوان، على ما يأتي بيانها في هذه السورة إن شاء الله تعالى. « يد الله فوق أيديهم » قيل: يده في الثواب فوق أيديهم في الوفاء، ويده في المنة عليهم بالهداية فوق أيديهم في الطاعة. وقال الكلبي: معناه نعمة الله عليهم فوق ما صنعوا من البيعة. وقال ابن كيسان: قوه الله ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم. « فمن نكث » بعد البيعة. « فإنما ينكث على نفسه » أي يرجع ضرر النكث عليه، لأنه حرم نفسه الثواب وألزمها العقاب. « ومن أوفى بما عاهد عليه الله » قيل في البيعة. وقيل في إيمانه. وقرأ حفص والزهري « عليه » بضم الهاء. وجرها الباقون. « فسيؤتيه أجرا عظيما » يعني في الجنة. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر « فسنؤتيه » بالنون. واختاره الفراء وأبو معاذ. وقرأ الباقون بالياء. وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، لقرب اسم الله منه.

 

الآية: 11 ( سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا )

 

قوله تعالى: « سيقول لك المخلفون من الأعراب » قال مجاهد وابن عباس: يعني أعراب غفار ومزينة وجهينة وأسلم وأشجع والديل، وهم الأعراب الذين كانوا حول المدينة، تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد السفر إلى مكة عام الفتح، بعد أن كان استنفرهم ليخرجوا معه حذرا من قريش، وأحرم بعمرة وساق معه الهدي، ليعلم الناس أنه لا يريد حربا فتثاقلوا عنه واعتلوا بالشغل، فنزلت. وإنما قال: « المخلفون » لأن الله خلفهم عن صحبة نبيه. والمخلف المتروك. وقد مضى في « التوبة » . « شغلتنا أموالنا وأهلونا » أي ليس لنا من يقوم بهما. « فاستغفر لنا » جاؤوا يطلبون الاستغفار واعتقادهم بخلاف ظاهرهم، ففضحهم الله تعالى بقوله: « يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم » وهذا هو النفاق المحض.

 

قوله تعالى: « قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا » قرأ حمزة والكسائي « ضرا » بضم الضاد هنا فقط، أي أمرا يضركم. وقال ابن عباس: الهزيمة. الباقون بالفتح، وهو مصدر ضررته ضرا. وبالضم اسم لما ينال الإنسان من الهزال وسوء الحال. والمصدر يؤدي عن المرة وأكثر. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قالا: لأنه قابله بالنفع وهو ضد الضر. وقيل: هما لغتان بمعنى، كالفقر والفقر والضعف والضعف. « أو أراد بكم نفعا » أي نصرا وغنيمة. وهذا رد عليهم حين ظنوا أن التخلف عن الرسول يدفع عنهم الضر ويعجل لهم النفع.

 

الآية: 12 ( بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا )

 

قوله تعالى: « بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا » وذلك أنهم قالوا: إن محمدا وأصحابه أكلة رأس لا يرجعون. « وزين ذلك » أي النفاق. « في قلوبكم » وهذا التزيين من الشيطان، أو يخلق الله ذلك في قلوبهم. « وظننتم ظن السوء » أن الله لا ينصر رسوله. « وكنتم قوما بورا » أي هلكى، قاله مجاهد. وقال قتادة: فاسدين لا يصلحون لشيء من الخير. قال الجوهري: البور: الرجل الفاسد الهالك الذي لا خير فيه. قال عبدالله بن الزبعرى السهمي:

يا رسول المليك إن لساني راتق ما فتقت إذ أنا بور

وامرأة بور أيضا، حكاه أبو عبيد. وقوم بور هلكى. قال تعالى: « وكنتم قوما بورا » وهو جمع بائر، مثل حائل وحول. وقد بار فلان أي هلك. وأباره الله أي أهلكه. وقيل: « بورا » أشرارا، قاله ابن بحر. وقال حسان بن ثابت:

لا ينفع الطول من نوك الرجال وقد يهدي الإله سبيل المعشر البور

أي الهالك.

 

الآية: 13 ( ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا )

 

وعيد لهم، وبيان أنهم كفروا بالنفاق.

 

الآية: 14 ( ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وكان الله غفورا رحيما )

 

أي هو غني عن عباده، وإنما ابتلاهم بالتكليف ليثيب من آمن ويعاقب من كفر وعصى.

 

الآية: 15 ( سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا )

 

قوله تعالى: « سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها » يعني مغانم خيبر، لأن الله عز وجل وعد أهل الحديبية فتح خيبر، وأنها لهم خاصة من غاب منهم ومن حضر. ولم يغب منهم عنها غير جابر بن عبدالله فقسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم كسهم من حضر. قال ابن إسحاق: وكان المتولي للقسمة بخيبر جبار بن صخر الأنصاري من بني سلمة، وزيد بن ثابت من بني النجار، كانا حاسبين قاسمين. « ذرونا نتبعكم » أي دعونا. تقول: ذره، أي دعه. وهو يذره، أي يدعه. وأصله وذره يذره مثال وسعه يسعه. وقد أميت صدره، لا يقال: وذره ولا واذر، ولكن تركه وهو تارك. قال مجاهد: تخلفوا عن الخروج إلى مكة، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ قوما ووجه بهم قالوا ذرونا نتبعكم فنقاتل معكم. « يريدون أن يبدلوا كلام الله » أي يغيروا. قال ابن زيد: هو قوله تعالى: « فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا » [ التوبة: 83 ] الآية. وأنكر هذا القول الطبري وغيره، بسبب أن غزوة تبوك كانت بعد فتح خيبر وبعد فتح مكة. وقيل: المعنى يريدون أن يغيروا وعد الله الذي وعد لأهل الحديبية، وذلك أن الله تعالى جعل لهم غنائم خيبر عوضا عن فتح مكة إذ رجعوا من الحديبية على صلح، قاله مجاهد وقتادة، واختاره الطبري وعليه عامة أهل التأويل. وقرأ حمزة والكسائي « كلم » بإسقاط الألف وكسر اللام جمع كلمة، نحو سلمة وسلم. الباقون « كلام » على المصدر. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، اعتبارا بقوله: « إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي » [ الأعراف: 144 ] . والكلام: ما استقل بنفسه من الجمل. قال الجوهري: الكلام اسم جنس يقع على القليل والكثير. والكلم لا يكون أقل من ثلاث كلمات لأنه جمع كلمة، مثل نبقة ونبق. ولهذا قال سيبويه: ( هذا باب علم ما الكلم من العربية ) ولم يقل ما الكلام، لأنه أراد نفس ثلاثة أشياء: الاسم والفعل والحرف، فجاء بما لا يكون إلا جمعا، وترك ما يمكن أن يقع على الواحد والجماعة. وتميم تقول: هي كلمة، بكسر الكاف، وقد مضى في « التوبة » القول فيها.

 

قوله تعالى: « كذلكم قال الله من قبل » أي من قبل رجوعنا من الحديبية إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية خاصة. « فسيقولون بل تحسدوننا » أن نصيب معكم من الغنائم. وقيل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، [ إن خرجتم لم أمنعكم إلا أنه لا سهم لكم ] . فقالوا: هذا حسد. فقال المسلمون: قد أخبرنا الله في الحديبية بما سيقولونه وهو قوله تعالى: « فسيقولون بل تحسدوننا » فقال الله تعالى: « بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا » يعني لا يعلمون إلا أمر الدنيا. وقيل: لا يفقهون من أمر الدين إلا قليلا، وهو ترك القتال.

 

الآية: 16 ( قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما )

 

قوله تعالى: « قل للمخلفين من الأعراب » أي قل لهؤلاء الذين تخلفوا عن الحديبية. « ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد » قال ابن عباس وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وابن أبي ليلى وعطاء الخراساني: هم فارس. وقال كعب والحسن وعبدالرحمن بن أبي ليلى: الروم. وعن الحسن أيضا: فارس والروم. وقال ابن جبير: هوازن وثقيف. وقال عكرمة: هوازن. وقال قتادة: هوازن وغطفان يوم حنين. وقال الزهري ومقاتل: بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مسيلمة. وقال رافع بن خديج: والله لقد كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى « ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد » فلا نعلم من هم حتى دعانا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم. وقال أبو هريرة: لم تأت هذه الآية بعد. وظاهر الآية يرده.

 

في هذه الآية دليل على صحة إمامة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، لأن أبا بكر دعاهم إلى قتال بني حنيفة، وعمر دعاهم إلى قتال فارس والروم. وأما قول عكرمة وقتادة إن ذلك في هوازن وغطفان يوم حنين فلا، لأنه يمتنع أن يكون الداعي لهم الرسول عليه السلام، لأنه قال: « لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا » فدل على أن المراد بالداعي غير النبي صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أنه لم يدع هؤلاء القوم بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. الزمخشري: فإن صح ذلك عن قتادة فالمعنى لن تخرجوا معي أبدا ما دمتم على ما أنتم عليه من مرض القلوب والاضطراب في الدين. أو على قول مجاهد كان الموعد أنهم لا يتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا متطوعين لا نصيب لهم في المغنم. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « تقاتلونهم أو يسلمون » هذا حكم من لا تؤخذ منهم الجزية، وهو معطوف على « تقاتلونهم » أي يكون أحد الأمرين: إما المقاتلة وإما الإسلام، لا ثالث لهما. وفي حرف أُبي « أو يسلموا » بمعنى حتى يسلموا، كما تقول: كل أو تشبع، أي حتى تشبع. قال:

فقلت له لا تبك عينك إنما نحاول ملكا أو نموت فنعذرا

وقال الزجاج: قال « أو يسلمون » لأن المعنى أو هم يسلمون من غير قتال. وهذا في قتال المشركين لا في أهل الكتاب. « فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا » الغنيمة والنصر في الدنيا، والجنة في الآخرة. « وإن تتولوا كما توليتم من قبل » عام الحديبية. « يعذبكم عذابا أليما » وهو عذاب النار.

 

الآية: 17 ( ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما )

 

قال ابن عباس: لما نزلت: « وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما » قال أهل الزمانة: كيف بنا يا رسول الله؟ فنزلت « ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج » أي لا إثم عليهم في التخلف عن الجهاد لعماهم وزمانتهم وضعفهم. وقد مضى في « التوبة » وغيرها الكلام فيه مبينا. والعرج: آفة تعرض لرجل واحدة، وإذا كان ذلك مؤثرا فخلل الرجلين أولى أن يؤثر. وقال مقاتل: هم أهل الزمانة الذين تخلفوا عن الحديبية وقد عذرهم. أي من شاء أن يسير منهم معكم إلى خيبر فليفعل. « ومن يطع الله ورسوله » فيما أمره. « يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار » قرأ نافع وابن عامر « ندخله » بالنون على التعظيم. الباقون بالياء، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لتقدم اسم الله أولا. « ومن يتول يعذبه عذابا أليما » .

 

الآيات: 18 - 19 ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا، ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما )

 

قوله تعالى: « لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة » هذه بيعة الرضوان، وكانت بالحديبية، وهذا خبر الحديبية على اختصار: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام منصرفه من غزوة بني المصطلق في شوال، وخرج في ذي القعدة معتمرا، واستنفر الأعراب الذين حول المدينة فأبطأ عنه أكثرهم، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن اتبعه من العرب، وجميعهم نحو ألف وأربعمائة. وقيل: ألف وخمسمائة. وقيل غير هذا، على ما يأتي. وساق معه الهدي، فأحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلم الناس أنه لم يخرج لحرب، فلما بلغ خروجه قريشا خرج جمعهم صادين لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام ودخول مكة، وإنه إن قاتلهم قاتلوه دون ذلك، وقدموا خالد بن الوليد في خيل إلى ( كراع الغميم ) فورد الخبر بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ( بعسفان ) وكان المخبر له بشر بن سفيان الكعبي، فسلك طريقا يخرج به في ظهورهم، وخرج إلى الحديبية من أسفل مكة، وكان دليله فيهم رجل من أسلم، فلما بلغ ذلك خيل قريش التي مع خالد جرت إلى قريش تعلمهم بذلك، فلما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية بركت ناقته صلى الله عليه وسلم فقال الناس: خلأت خلأت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما خلأت وما هو لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة رحم إلا أعطيتهم إياها ) . ثم نزل صلى الله عليه وسلم هناك، فقيل: يا رسول الله، ليس بهذا الوادي ماء فأخرج عليه الصلاة والسلام سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه، فنزل في قليب من تلك القلب فغرزه في جوفه فجاش بالماء الرواء حتى كفى جميع الجيش. وقيل: إن الذي نزل بالسهم في القليب ناجية بن جندب بن عمير الأسلمي وهو سائق بدن النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ. وقيل: نزل بالسهم في القليب البراء بن عازب، ثم جرت السفراء بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش، وطال التراجع والتنازع إلى أن جاء سهيل بن عمرو العامري، فقاضاه عل أن ينصرف عليه الصلاة والسلام عامه ذلك، فإذا كان من قابِلٍ أتى معتمِرا ودخل هو وأصحابه مكة بغير سلاح، حاشا السيوف في قِربها فيقيم بها ثلاثا ويخرج، وعلى أن يكون بينه وبينهم صلح عشرة أعوام، يتداخل فيها الناس ويأمن بعضهم بعضا، وعلى أن من جاء من الكفار إلى المسلمين مسلما من رجل أو امرأة رد إلى الكفار، ومن جاء من المسلمين إلى الكفار مرتدا لم يردوه إلى المسلمين، فعظم ذلك على المسلمين حتى كان لبعضهم فيه كلام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بما علمه الله من أنه سيجعل للمسلمين فرجا، فقال لأصحابه ( اصبروا فإن الله يجعل هذا الصلح سببا إلى ظهور دينه ) فأنس الناس إلى قوله هذا بعد نفار منهم، وأبى سهيل بن عمرو أن يكتب في صدر صحيفة الصلح: من محمد رسول الله، وقالوا له: لو صدقناك بذلك ما دفعناك عما تريد فلا بد أن تكتب: باسمك اللهم. فقال لعلي وكان يكتب صحيفة الصلح: ( امح يا علي، واكتب باسمك اللهم ) فأبى علي أن يمحو بيده « محمد رسول الله » . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اعرضه علي ) فأشار إليه فمحاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وأمره أن يكتب ( من محمد بن عبدالله ) . وأتى أبو جندل بن سهيل يومئذ بأكثر كتاب الصلح وهو يرسف في قيوده، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيه، فعظم ذلك على المسلمين، فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر أبا جندل ( أن الله سيجعل له فرجا ومخرجا ) . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الصلح قد بعث عثمان بن عفان إلى مكة رسولا، فجاء خبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أهل مكة قتلوه، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ إلى المبايعة له على الحرب والقتال لأهل مكة، فروي أنه بايعهم على الموت. وروي أنه بايعهم على ألا يفروا. وهي بيعة الرضوان تحت الشجرة، التي أخبر الله تعالى أنه رضي عن المبايعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحتها. وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم لا يدخلون النار. وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيمينه على شماله لعثمان، فهو كمن شهدها.

وذكر وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: أول من بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية أبو سفيان الأسدي. وفي صحيح مسلم عن أبي الزبير عن جابر قال: كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة، فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة، وقال: بايعناه على ألا نفر ولم نبايعه على الموت وعنه أنه سمع جابرا يسأل: كم كانوا يوم الحديبية؟ قال: كنا أربع عشرة مائة، فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة، فبايعناه، غير جد بن قيس الأنصاري اختبأ تحت بطن بعيره. وعن سالم بن أبي الجعد قال: سألت جابر بن عبدالله عن أصحاب الشجرة. فقال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا ألفا وخمسمائة. وفي رواية: كنا خمس عشرة مائة.

وعن عبدالله بن أبي أوفى قال: كان أصحاب الشجرة ألفا وثلاثمائة، وكانت أسلم ثمن المهاجرين. وعن يزيد بن أبي عبيد قال: قلت لسلمة: على أي شيء بايعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية؟ قال: على الموت. وعن البراء بن عازب قال: كتب علي رضي الله عنه الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين يوم الحديبية، فكتب: هذا ما كاتب عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لا تكتب رسول الله، فلو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: ( امحه ) . فقال: ما أنا بالذي أمحاه، فمحاه النبي صلى الله عليه وسلم بيده. وكان فيما اشترطوا: أن يدخلوا مكة فيقيموا فيها ثلاثا، ولا يدخلها بسلاح إلا جلبان السلاح. قلت لأبي إسحاق وما جلبان السلاح؟ قال: القراب وما فيه. وعن أنس: أن قريشا صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم فيهم سهيل بن عمرو، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: ( اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ) فقال سهيل بن عمرو: أما باسم الله، فما ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم ولكن اكتب ما نعرف: باسمك اللهم. فقال: ( اكتب من محمد رسول الله ) قالوا: لو علمنا أنك رسوله لاتبعناك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اكتب من محمد بن عبدالله ) فاشترطوا على النبي صلى الله عليه وسلم: أن من جاء منكم لم نرده عليكم، ومن جاءكم منا رددتموه علينا. فقالوا: يا رسول الله، أنكتب هذا قال: ( نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاءنا منهم فسيجعل الله له فرجا ومخرجا ) . وعن أبي وائل قال: قام سهل بن حنيف يوم صفين فقال يا أيها الناس، اتهموا أنفسكم، لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ولو نرى قتالا لقاتلنا، وذلك في الصلح الذي كان ببن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين. فجاء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال ( بلى ) قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال ( بلى ) قال ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال ( يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا ) قال: فانطلق عمر، فلم يصبر متغيظا فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر، ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال بلى، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال بلى. قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال: يا ابن الخطاب، إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا. قال: فنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتح، فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه، فقال: يا رسول الله، أو فتح هو؟ قال ( نعم ) . فطابت نفسه ورجع.

 

قوله تعالى: « فعلم ما في قلوبهم » من الصدق والوفاء، قاله الفراء. وقال ابن جريج وقتادة: من الرضا بأمر البيعة على ألا يفروا. وقال مقاتل: من كراهة البيعة على أن يقاتلوا معه على الموت « فأنزل السكينة عليهم » حتى بايعوا. وقيل: « فعلم ما في قلوبهم » من الكآبة بصد المشركين إياهم وتخلف رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم عنهم، إذا رأى أنه يدخل الكعبة، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنما ذلك رؤيا منام ) . وقال الصديق: لم يكن فيها الدخول في هذا العام. والسكينة: الطمأنينة وسكون النفس إلى صدق الوعد. وقيل الصبر. « وأثابهم فتحا قريبا » قال قتادة وابن أبي ليلى: فتح خيبر. وقيل فتح مكة. وقرئ « وآتاهم » « ومغانم كثيرة يأخذونها » يعني أموال خيبر، وكانت خيبر ذات عقار وأموال، وكانت بين الحديبية ومكة. فـ « مغانم » على هذا بدل من « فتحا قريبا » والواو مقحمة. وقيل « ومغانم » فارس والروم.

 

الآية: 20 ( وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطا مستقيما )

 

قوله تعالى: « وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها » قال ابن عباس ومجاهد. إنها المغانم التي تكون إلى يوم القيامة. وقال ابن زيد: هي مغانم خيبر. « فعجل لكم هذه » أي خيبر، قاله مجاهد. وقال ابن عباس: عجل لكم صلح الحديبية. « وكف أيدي الناس عنكم » يعني أهل مكة، كفهم عنكم بالصلح. وقال قتادة: كف أيدي اليهود عن المدينة بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية وخيبر. وهو اختيار الطبري، لأن كف أيدي المشركين بالحديبية مذكور في قوله: « وهو الذي كف أيديهم عنكم » [ الفتح: 24 ] . وقال ابن عباس: في « كف أيدي الناس عنكم » يعني عيينة بن حصن الفزاري وعوف بن مالك النضري ومن كان معهما، إذ جاؤوا لينصروا أهل خيبر والنبي صلى الله عليه وسلم محاصر لهم، فألقى الله عز وجل في قلوبهم الرعب وكفهم عن المسلمين « ولتكون آية للمؤمنين » أي ولتكون هزيمتهم وسلامتكم آية للمؤمنين، فيعلموا أن الله يحرسهم في مشهدهم ومغيبهم. وقيل: أي لتكون كف أيديهم عنكم آية للمؤمنين. وقيل: أي ولتكون هذه التي عجلها لكم آية للمؤمنين على صدقك حيث وعدتهم أن يصيبوها. والواو في « ولتكون » مقحمة عند الكوفيين. وقال البصريون: عاطفة على مضمر، أي وكف أيدي الناس عنكم لتشكروه ولتكون آية للمؤمنين. « ويهديكم صراطا مستقيما » أي يزيدكم هدى، أو يثبتكم على الهداية.

 

الآية: 21 ( وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شيء قديرا )

 

قوله تعالى: « وأخرى » « أخرى » معطوفة على « هذه » ، أي فعجل لكم هذه المغانم ومغانم أخرى. « لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها » قال ابن عباس: هي الفتوح التي فتحت على المسلمين، كأرض فارس والروم، وجميع ما فتحه المسلمون. وهو قول الحسن ومقاتل وابن أبي ليلى. وعن ابن عباس أيضا والضحاك وابن زيد وابن إسحاق: هي خيبر، وعدها الله نبيه قبل أن يفتحها، ولم يكونوا يرجونها حتى أخبرهم الله بها. وعن الحسن أيضا وقتادة: هو فتح مكة. وقال عكرمة: حنين، لأنه قال: « لم تقدروا عليها » . وهذا يدل على تقدم محاولة لها وفوات درك المطلوب في الحال كما كان في مكة، قال القشيري. وقال مجاهد: هي ما يكون إلى يوم القيامة. ومعنى « قد أحاط الله بها » : أي أعدها لكم. فهي كالشيء الذي قد أحيط به من جوانبه، فهو محصور لا يفوت، فأنتم وإن لم تقدروا عليها في الحال فهي محبوسة عليكم لا تفوتكم. وقيل: « أحاط الله بها » علم أنها ستكون لكم، كسا قال: « وأن الله قد أحاط بكل شيء علما » [ الطلاق: 12 ] . وقيل: حفظها الله عليكم. ليكون فتحها لكم. « وكان الله على كل شيء قديرا » .

 

الآيات: 22 - 23 ( ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا، سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا )

 

قوله تعالى: « ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار » قال قتادة: يعني كفار قريش في الحديبية. وقيل: « ولو قاتلكم » غطفان وأسد والذين أرادوا نصرة أهل خيبر، لكانت الدائرة عليهم. « ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا. سنة الله التي قد خلت من قبل » يعني طريقة الله وعاداته السالفة نصر أوليائه على أعدائه. وانتصب « سنة » على المصدر. وقيل: « سنة الله » أي كسنة الله. والسنة الطريقة والسيرة. قال:

فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها فأول راض سنة من يسيرها

والسنة أيضا: ضرب من تمر المدينة. « ولن تجد لسنة الله تبديلا » .

 

الآية: 24 ( وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا )

 

قوله تعالى: « وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة » وهي الحديبية. « من بعد أن أظفركم عليهم » روى يزيد بن هارون قال: أخبرنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون غرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأخذناهم سلما فاستحييناهم، فأنزل الله تعالى: « وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم » . وقال عبدالله بن مغفل المزني: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية في أصل الشجرة التي قال الله في القرآن، فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ الله بأبصارهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ هل جئتم في عهد أحد أو هل جعل لكم أحد أمانا ] . قالوا: اللهم لا، فخلى سبيلهم. فأنزل الله تعالى: « وهو الذي كف أيدهم عنكم » الآية. وذكر ابن هشام عن وكيع: وكانت قريش قد جاء منهم نحو سبعين رجلا أو ثمانين رجلا للإيقاع بالمسلمين وانتهاز الفرصة في أطرافهم، ففطن المسلمون لهم فأخذوهم أسرى، وكان ذلك والسفراء يمشون بينهم في الصلح، فأطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم الذين يسمون العتقاء، ومنهم معاوية وأبوه. وقال مجاهد: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم معتمرا، إذ أخذ أصحابه ناسا من الحرم غافلين فأرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك الإظفار ببطن مكة. وقال قتادة: ذكر لنا أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له زنيم، اطلع الثنية من الحديبية فرماه المشركون بسهم فقتلوه، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلا فأتوا باثني عشر فارسا من الكفار، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: [ هل لكم علي ذمة ] قالوا لا؟ فأرسلهم فنزلت. وقال ابن أبزى والكلبي: هم أهل الحديبية، كف الله أيديهم عن المسلمين حتى وقع الصلح، وكانوا خرجوا بأجمعهم وقصدوا المسلمين، وكف أيدي المسلمين عنهم. وقد تقدم أن خالد بن الوليد كان في خيل المشركين. قال القشيري: فهذه رواية، والصحيح أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت. وقد قال سلمة بن الأكوع: كانوا في أمر الصلح إذ أقبل أبو سفيان، فإذا الوادي يسير بالرجال والسلاح، قال: فجئت بستة من المشركين أسوقهم متسلحين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، فأتيت بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان عمر قال في الطريق: يا رسول الله، نأتي قوما حربا وليس معنا سلاح ولا كراع؟ فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من الطريق فأتوه بكل سلاح وكراع كان فيها، وأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عكرمة بن أبي جهل خرج إليك في خمسمائة فارس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد بن الوليد: [ هذا ابن عمك أتاك في خمسمائة ] . فقال خالد: أنا سيف الله وسيف رسوله، فيومئذ سمي بسيف الله، فخرج ومعه خيل وهزم الكفار ودفعهم إلى حوائط مكة. وهذه الرواية أصح، وكان بينهم قتال بالحجارة، وقيل بالنبل والظفر. وقيل: أراد بكف اليد أنه شرط في الكتاب أن من جاءنا منهم فهو رد عليهم، فخرج أقوام من مكة مسلمون وخافوا أن يردهم الرسول عليه السلام إلى المشركين لحقوا بالساحل، ومنهم أبو بصير، وجعلوا يغيرون على الكفار ويأخذون عيرهم، حتى جاء كبار قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: اضممهم إليك حتى نأمن، ففعل. وقيل: همت غطفان وأسد منع المسلمين من يهود خيبر، لأنهم كانوا حلفاءهم فمنعهم الله عن ذلك، فهو كف اليد. « ببطن مكة » فيه قولان: أحدهما: يريد به مكة. الثاني: الحديبية، لأن بعضها مضاف إلى الحرم. قال الماوردي: وفي قوله: « من بعد أن أظفركم عليهم » بفتح مكة. تكون هذه نزلت بعد فتح مكة، وفيها دليل على أن مكة فتحت صلحا، لقوله عز وجل: « كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم » .

قلت: الصحيح أن هذه الآية نزلت في الحديبية قبل فتح مكة، حسب ما قدمناه عن أهل التأويل من الصحابة والتابعين. وروى الترمذي قال: حدثنا عبد بن حميد قال حدثني سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس: أن ثمانين هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الصبح وهم يريدون أن يقتلوه، فأخذوا أخذا فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: « وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم » الآية. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وقد تقدم. وأما فتح مكة فالذي تدل عليه الأخبار أنها إنما فتحت عنوة، وقد مضى القول في ذلك في « الحج » وغيرها. « وكان الله بما تعملون بصيرا » .

 

الآية: 25 ( هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما )

 

قوله تعالى: « هم الذين كفروا » يعني قريشا، منعوكم دخول المسجد الحرام عام الحديبية حين أحرم النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه بعمرة، ومنعوا الهدي وحبسوه عن أن يبلغ محله. وهذا كانوا لا يعتقدونه، ولكنه حملتهم الأنفة ودعتهم حمية الجاهلية إلى أن يفعلوا ما لا يعتقدونه دينا، فوبخهم الله على ذلك وتوعدهم عليه، وأدخل الأنس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيانه ووعده. « والهدي معكوفا » أي محبوسا. وقيل موقوفا. وقال أبو عمرو بن العلاء: مجموعا. الجوهري: عكفه أي حبسه ووقفه، يعكفه ويعكفه عكفا، ومنه قوله تعالى: « والهدي معكوفا » ، يقال ما عكفك عن كذا. ومنه الاعتكاف في المسجد وهو الاحتباس. « أن يبلغ محله » أي منحره، قاله الفراء. وقال الشافعي رضي الله عنه: الحرم. وكذا قال أبو حنيفة رضي الله عنه، المحصر محل هديه الحرم. والمحل ( بكسر الحاء ) : غاية الشيء. ( وبالفتح ) : هو الموضع الذي يحله الناس. وكان الهدي سبعين بدنة، ولكن الله بفضله جعل ذلك الموضع له محلا. وقد اختلف العلماء في هذا على ما تقدم بيانه في « البقرة » عند قوله تعالى: « فإن أحصرتم » والصحيح ما ذكرناه. وفي صحيح مسلم عن أبي الزبير عن جابر بن عبدالله قال: نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة. وعنه قال: اشتركنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج والعمرة كل سبعة في بدنة. فقال رجل لجابر: أيشترك في البدنة ما يشترك في الجزور؟ قال: ما هي إلا من البدن. وحضر جابر الحديبية قال: ونحرنا يومئذ سبعين بدنة، اشتركنا كل سبعة في بدنة. وفي البخاري عن ابن عمر قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمرين، فحال كفار قريش دون البيت، فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنة وحلق رأسه. قيل: إن الذي حلق رأسه يومئذ خراش بن أمية بن أبي العيص الخزاعي، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن ينحروا ويحلوا، ففعلوا بعد توقف كان منهم أغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت له أم سلمة: لو نحرت لنحروا، فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه ونحروا بنحره، وحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه ودعا للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة. ورأى كعب بن عجرة والقمل يسقط على وجهه، فقال: [ أيؤذيك هوامك ] ؟ قال نعم، فأمره أن يحلق وهو بالحديبية. خرجه البخاري والدارقطني. وقد مضى في « البقرة » .

 

قوله تعالى: « والهدي » والهَديُ والهَدِيّ لغتان. وقرئ « حتى يبلغ الهَدْيُ محله » [ البقرة: 196 ] بالتخفيف والتشديد، الواحدة هدية. وقد مضى في « البقرة » أيضا. وهو معطوف على الكاف والميم من « صدوكم » . و « معكوفا » حال، وموضع « أن » من قوله: « أن يبلغ محله » نصب على تقدير الحمل على « صدوكم » أي صدوكم وصدوا الهدي عن أن يبلغ. ويجوز أن يكون مفعولا له، كأنه قال: وصدوا الهدي كراهية أن يبلغ محله. أبو علي: لا يصح حمله على العكف، لأنا لا نعلم « عكف » جاء متعديا، ومجيء « معكوفا » في الآية يجوز أن يكون محمولا على المعنى، كأنه لما كان حبسا حمل المعنى على ذلك، كما حمل الرفث على معنى الإفضاء فعدي بإلى، فإن حمل على ذلك كان موضعه نصبا على قياس قول سيبويه، وجرا على قياس قول الخليل. أو يكون مفعولا له، كأنه قال: محبوسا كراهية أن يبلغ محله. ويجوز تقدير الجر في « أن » لأن عن تقدمت، فكأنه قال: وصدوكم عن المسجد الحرام، وصدوا الهدي « عن » أن يبلغ محله. ومثله ما حكاه سيبويه عن يونس: مررت برجل إن زيد وإن عمرو، فأضمر الجار لتقدم ذكره.

 

قوله تعالى: « ولولا رجال مؤمنون » يعني المستضعفين من المؤمنين بمكة وسط الكفار، كسلمه بن هشام وعياش بن أبي ربيعة وأبي جندل بن سهيل، وأشباههم. « لم تعلموهم » أي تعرفوهم. وقيل لم تعلموهم أنهم مؤمنون. « أن تطؤوهم » بالقتل والإيقاع بهم، يقال: وطئت القوم، أي أوقعت بهم. و « أن » يجوز أن يكون رفعا على البدل من رجال، ونساء كأنه قال ولولا وطؤكم رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات. ويجوز أن يكون نصبا على البدل من الهاء والميم في « تعلموهم » ، فيكون التقدير: لم تعلموا وطأهم، وهو في الوجهين بدل الاشتمال. « لم تعلموهم » نعت لـ « رجال » و « نساء » . وجواب « لولا » محذوف، والتقدير: ولو أن تطؤوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم لأذن الله لكم في دخول مكة، ولسلطكم عليهم، ولكنا صنا من كان فيها يكثم إيمانه. وقال الضحاك: لولا من في أصلاب الكفار وأرحام نسائهم من رجال مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموا أن تطؤوا آباءهم فتهلك أبناؤهم.

 

قوله تعالى: « فتصيبكم منهم معرة » المعرة العيب، وهي مفعلة من العر وهو الجرب، أي يقول المشركون: قد قتلوا أهل دينهم. وقيل: المعنى يصيبكم من قتلهم ما يلزمكم من أجله كفارة قتل الخطأ، لأن الله تعالى إنما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يكن هاجر منها ولم يعلم بإيمانه الكفارة دون الدية في قوله: « فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة » [ النساء: 92 ] قاله الكلبي ومقاتل وغيرهما. وقد مضى في « النساء » القول فيه. وقال ابن زيد: « معرة » إثم. وقال الجوهري وابن إسحاق: غرم الدية. قطرب: شدة. وقيل غم. « بغير علم » تفضيل للصحابة وإخبار عن صفتهم الكريمة من العفة عن المعصية والعصمة عن التعدي، حتى لو أنهم أصابوا من ذلك أحدا لكان عن غير قصد. وهذا كما وصفت النملة عن جنه سليمان عليه السلام في قولها: « لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون » [ النمل: 18 ] .

 

قوله تعالى: « ليدخل الله في رحمته من يشاء » اللام في « ليدخل » متعلقة بمحذوف، أي لو قتلتموهم لأدخلهم الله في رحمته. ويجوز أن تتعلق بالإيمان. ولا تحمل على مؤمنين دون مؤمنات ولا على مؤمنات دون مؤمنين لأن الجميع يدخلون في الرحمة. وقيل: المعنى لم يأذن الله لكم في قتال المشركين ليسلم بعد الصلح من قضى أن يسلم من أهل مكة، وكذلك كان أسلم الكثير منهم وحسن إسلامه، ودخلوا في رحمته، أي جنته.

 

قوله تعالى: « لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما » أي تميزوا، قاله القتبي. وقيل: لو تفرقوا، قاله الكلبي. وقيل: لو زال المؤمنون من بين أظهر الكفار لعذب الكفار بالسيف، قاله الضحاك. ولكن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار. وقال علي رضي الله عنه: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية « لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا » فقال: [ هم المشركون من أجداد نبي الله ومن كان بعدهم وفي عصرهم كان في أصلابهم قوم مؤمنون فلو تزيل المؤمنون عن أصلاب الكافرين لعذب الله تعالى الكافرين عذابا أليما ] .

 

هذه الآية دليل على مراعاة الكافر في حرمة المؤمن، إذ لا يمكن أذية الكافر إلا بأذية المؤمن. قال أبو زيد قلت لابن القاسم: أرأيت لو أن قوما من المشركين في حصن من حصونهم، حصرهم أهل الإسلام وفيهم قوم من المسلمين أسارى في أيديهم، أيحرق هذا الحصن أم لا؟ قال: سمعت مالكا وسئل عن قوم من المشركين في مراكبهم: أنرمي في مراكبهم بالنار ومعهم الأسارى في مراكبهم؟ قال: فقال مالك لا أرى ذلك، لقوله تعالى لأهل مكة: « لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما » . وكذلك لو تترس كافر بمسلم لم يجز رميه. وإن فعل ذلك فاعل فأتلف أحدا من المسلمين فعليه الدية والكفارة. فإن لم يعلموا فلا دية ولا كفارة، وذلك أنهم إذا علموا فليس لهم أن يرموا، فإذا فعلوه صاروا قتلة خطأ والدية على عواقلهم. فإن لم يعلموا فلهم أن يرموا. وإذا أبيحوا الفعل لم يجز أن يبقى عليهم فيها تباعة. قال ابن العربي: وقد قال جماعة إن معناه لو تزيلوا عن بطون النساء وأصلاب الرجال. وهذا ضعيف، لأن من في الصلب أو في البطن لا يوطأ ولا تصيب منه معرة. وهو سبحانه قد صرح فقال: « ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤوهم » وذلك لا ينطلق على من في بطن المرأة وصلب الرجال، وإنما ينطلق على مثل الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، وأبي جندل بن سهيل. وكذلك قال مالك: وقد حاصرنا مدينة الروم فحبس عنهم الماء، فكانوا ينزلون الأسارى يستقون لهم الماء، فلا يقدر أحد على رميهم بالنبل، فيحصل لهم الماء بغير اختيارنا. وقد جوز أبو حنيفة وأصحابه والثوري الرمي في حصون المشركين وإن كان فيهم أسارى من المسلمين وأطفالهم. ولو تترس كافر بولد مسلم رمي المشرك، وإن أصيب أحد من المسلمين فلا دية فيه ولا كفارة. وقال الثوري: فيه الكفارة ولا دية. وقال الشافعي بقولنا. وهذا ظاهر، فإن التوصل إلى المباح بالمحظور لا يجوز، سيما بروح المسلم، فلا قول إلا ما قاله مالك رضي الله عنه. والله أعلم.

قلت: قد يجوز قتل الترس، ولا يكون فيه اختلاف إن شاء الله، وذلك إذا كانت المصلحة ضرورية كلية قطعية. فمعنى كونها ضرورية: أنها لا يحصل الوصول إلى الكفار إلا بقتل الترس. ومعنى أنها كلية: أنها قاطعة لكل الأمة، حتى يحصل من قتل الترس مصلحة كل المسلمين، فإن لم يفعل قتل الكفار الترس واستولوا على كل الأمة. ومعنى كونها قطعية: أن تلك المصلحة حاصلة من قتل الترس قطعا. قال علماؤنا: وهذه المصلحة بهذه القيود لا ينبغي أن يختلف في اعتبارها، لأن الفرض أن الترس مقتول قطعا، فإما بأيدي العدو فتحصل المفسدة العظيمة التي هي استيلاء العدو على كل المسلمين. وإما بأيدي المسلمين فيهلك العدو وينجو المسلمون أجمعون. ولا يتأتى لعاقل أن يقول: لا يقتل الترس في هذه الصورة بوجه، لأنه يلزم منه ذهاب الترس والإسلام والمسلمين، لكن لما كانت هذه المصلحة غير خالية من المفسدة، نفرت منها نفس من لم يمعن النظر فيها، فإن تلك المفسدة بالنسبة إلى ما حصل منها عدم أو كالعدم. والله أعلم.

 

قراءة العامة « لو تزيلوا » إلا أبا حيوة فإنه قرأ « تزايلوا » وهو مثل « تزيلوا » في المعنى. والتزايل: التباين. و « تزيلوا » تفعلوا، من زلت. وقيل: هي تفيعلوا. « لعذبنا الذين كفروا » قيل: اللام جواب لكلامين، أحدهما: « لولا رجال » والثاني: « لو تزيلوا » . وقيل جواب « لولا » محذوف، وقد تقدم. « ولو تزيلوا » ابتداء كلام.

 

الآية: 26 ( إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما )

 

قوله تعالى: « إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية » العامل في « إذ » قوله تعالى: « لعذبنا » أي لعذبناهم إذ جعلوا هذا. أو فعل مضمر تقديره واذكروا. « الحمية » فعيلة وهي الأنفة. يقال: حميت عن كذا حمية ( بالتشديد ) ومحمية إذا أنفت منه وداخلك عار وأنفة أن تفعله. ومنه قول المتلمس:

ألا إنني منهم وعرضي عرضهم كذي الأنف يحمي أنفه أن يكشما

أي يمنع. قال الزهري: حميتهم أنفتهم من الإقرار للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة والاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم، ومنعهم من دخول مكة. وكان الذي امتنع من كتابة بسم الله الرحمن الرحيم ومحمد رسول الله: سهيل بن عمرو، على ما تقدم. وقال ابن بحر: حميتهم عصبيتهم لآلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى، والأنفة من أن يعبدوا غيرها. وقيل: « حمية الجاهلية » إنهم قالوا: قتلوا أبناءنا وإخواننا ثم يدخلون علينا في منازلنا، واللات والعزى لا يدخلها أبدا. « فأنزل الله سكينته » أي الطمأنينة والوقار. « على رسوله وعلى المؤمنين » وقيل: ثبتهم على الرضا والتسليم، ولم يدخل قلوبهم ما أدخل قلوب أولئك من الحمية.

 

قوله تعالى: « وألزمهم كلمة التقوى » قيل: لا إله إلا الله. روي مرفوعا من حديث أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهو قول علي وابن عمر وابن عباس، وعمرو بن ميمون ومجاهد وقتادة وعكرمة والضحاك، وسلمة بن كهيل وعبيد بن عمير وطلحة بن مصرف، والربيع والسدي وابن زيد. وقال عطاء الخرساني، وزاد « محمد رسول الله » . وعن علي وابن عمر أيضا هي لا إله إلا الله والله أكبر. وقال عطاء بن أبي رباح ومجاهد أيضا: هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وقال الزهري: بسم الله الرحمن الرحيم. يعني أن المشركين لم يقروا بهذه الكلمة، فخص الله بها المؤمنين. و « كلمة التقوى » هي التي يتقى بها من الشرك. وعن مجاهد أيضا أن « كلمة التقوى » الإخلاص. « وكانوا أحق بها وأهلها » أي أحق بها من كفار مكة، لأن الله تعالى اختارهم لدينه وصحبة نبيه. « وكان الله بكل شيء عليما » .

 

الآية: 27 ( لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا )

 

قوله تعالى: « لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق » قال قتادة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه يدخل مكة على هذه الصفة، فلما صالح قريشا بالحديبية ارتاب المنافقون حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه يدخل مكة، فأنزل الله تعالى: « لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق » فأعلمهم أنهم سيدخلون في غير ذلك العام، وأن رؤياه صلى الله عليه وسلم حق. وقيل: إن أبا بكر هو الذي قال إن المنام لم يكن مؤقتا بوقت، وأنه سيدخل. وروي أن الرؤيا كانت بالحديبية، وأن رؤيا الأنبياء حق. والرؤيا أحد وجوه الوحي إلى الأنبياء. « لتدخلن » أي في العام القابل « المسجد الحرام إن شاء الله » قال ابن كيسان: إنه حكاية ما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم في منامه، خوطب في منامه بما جرت به العادة، فأخبر الله عن رسول أنه قال ذلك ولهذا استثنى، تأدب بأدب الله تعالى حيث قال تعالى: « ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله » [ الكهف: 23 ] . وقيل: خاطب الله العباد بما يحب أن يقولوه، كما قال: « ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله » . وقيل: استثنى فيما يعلم ليستثني الخلق فيما لا يعلمون، قاله ثعلب. وقيل: كان الله علم أنه يميت بعض هؤلاء الذين كانوا معه بالحديبية فوقع الاستثناء لهذا المعنى، قال الحسين بن الفضل. وقيل: الاستثناء من « آمنين » ، وذلك راجع إلى مخاطبة العباد على ما جرت به العادة. وقيل: معنى « إن شاء الله » إن أمركم الله بالدخول. وقيل: أي إن سهل الله. وقيل: « إن شاء الله » أي كما شاء الله. وقال أبو عبيدة: « إن » بمعنى « إذ » ، أي إذ شاء الله، كقوله تعالى: « اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين » [ البقرة: 278 ] أي إذ كنتم. وفيه بعد، لأن « إذ » في الماضي من الفعل، و « إذا » في المستقبل، وهذا الدخول في المستقبل، فوعدهم دخول المسجد الحرام وعلقه بشرط المشيئة، وذلك عام الحديبية، فأخبر أصحابه بذلك فاستبشروا، ثم تأخر ذلك عن العام الذي طمعوا فيه فساءهم ذلك واشتد عليهم وصالحهم ورجع، ثم أذن الله في العام المقبل فأنزل الله: « لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق » . وإنما قيل له في المنام: « لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله » فحكى في التنزيل ما قيل له في المنام، فليس هنا شك كما زعم بعضهم أن الاستثناء يدل على الشك، والله تعالى لا يشك، و « لتدخلن » تحقيق فكيف يكون شك. فـ « إن » بمعنى « إذا » . « آمنين » أي من العدو. « محلقين رؤوسكم ومقصرين » والتحليق والتقصير جميعا للرجال، ولذلك غلب المذكر على المؤنث. والحلق أفضل، وليس للنساء إلا التقصير. وقد مضى القول في هذا في « البقرة » . وفي الصحيح أن معاوية أخذ من شعر النبي صلى الله عليه وسلم على المروة بمشقص. وهذا كان في العمرة لا في الحج، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حلق في حجته. « لا تخافون » حال من المحلقين والمقصرين، والتقدير: غير خائفين. « فعلم ما لم تعلموا » أي علم ما في تأخير الدخول من الخير والصلاح ما لم تعلموه أنتم. وذلك أنه عليه السلام لما رجع مضى منها إلى خيبر فافتتحها، ورجع بأموال خيبر وأخذ من العدة والقوة أضعاف ما كان فيه في ذلك العام، وأقبل إلى مكة على أهبة وقوة وعدة بأضعاف ذلك. وقال الكلبي: أي علم أن دخولها إلى سنة ولم تعلموه أنتم. وقيل: علم أن بمكة رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم.

 

قوله تعالى: « فجعل من دون ذلك فتحا قريبا » أي من دون رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم فتح خيبر، قال ابن زيد والضحاك. وقيل فتح مكة. وقال مجاهد: هو صلح الحديبية، وقاله أكثر المفسرين. قال الزهري: ما فتح الله في الإسلام أعظم من صلح الحديبية، لأنه إنما كان القتال حين تلتقي الناس، فلما كانت الهدنة وضعت الحرب أوزارها وأمن الناس بعضهم بعضا، فالتقوا وتفاوضوا الحديث والمناظرة. فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، فلقد دخل تينك السنتين في الإسلام مثل ما كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر. يدلك على ذلك أنهم كانوا سنة ست يوم الحديبية ألفا وأربعمائة، وكانوا بعد عام الحديبية سنة ثمان في عشرة آلاف.

 

الآية: 28 ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا )

 

قوله تعالى: « هو الذي أرسل رسوله » يعني محمدا صلى الله عليه وسلم « ليظهره على الدين كله » أي يعليه على كل الأديان. فالدين اسم بمعنى المصدر، ويستوي لفظ الواحد والجمع فيه. وقيل: أي ليظهر رسول على الدين كله، أي على الدين الذي هو شرعه بالحجة ثم باليد والسيف، ونسخ ما عداه. « وكفى بالله شهيدا » « شهيدا » نصب على التفسير، والباء زائدة، أي كفى الله شهيدا لنبيه صلى الله عليه وسلم، وشهادته له تبين صحة نبوته بالمعجزات. وقيل: « شهيدا » على ما أرسل به، لأن الكفار أبوا أن يكتبوا: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله.

 

الآية: 29 ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما )

 

قوله تعالى: « محمد رسول الله » « محمد » مبتدأ و « رسول » خبره. وقيل: « محمد » ابتداء و « رسول الله » نعته. « والذين معه » عطف على المبتدأ، والخبر فيما بعده؛ فلا يوقف على هذا التقدير على « رسول الله » . وعلى الأول يوقف على « رسول الله » ؛ لأن صفاته عليه السلام تزيد على ما وصف أصحابه؛ فيكون « محمد » ابتداء و « رسول الله » الخبر « والذين معه » ابتداء ثان. و « أشداء » خبره و « رحماء » خبر ثان. وكون الصفات في جملة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هو الأشبه. وقيل: المراد بـ « الذين معه » جميع المؤمنين. « أشداء على الكفار » قال ابن عباس: أهل الحديبية أشداء على الكفار؛ أي غلاظ عليهم كالأسد على فريسته. « رحماء بينهم » أي يرحم بعضهم بعضا. وقيل: متعاطفون متوادون. وقرأ الحسن « أشداء على الكفار رحماء بينهم » بالنصب على الحال، كأنه قال: والذين معه في حال شدتهم على الكفار وتراحمهم بينهم. « تراهم ركعا سجدا » إخبار عن كثرة صلاتهم. « يبتغون فضلا من الله ورضوانا » أي يطلبون الجنة ورضا الله تعالى.

 

قوله تعالى: « سيماهم في وجوههم من أثر السجود » السيما العلامة، وفيها لغتان: المد والقصر، أي لاحت علامات التهجد بالليل وأمارات السهر. وفي سنن ابن ماجة قال: حدثنا إسماعيل بن محمد الطلحي قال حدثنا ثابت بن موسى أبو يزيد عن شريك عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ] . وقال ابن العربي: ودسه قوم في حديث النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الغلط، وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه ذكر بحرف. وقد روى ابن وهب عن مالك « سيماهم في وجوههم من أثر السجود » ذلك مما يتعلق بجباههم من الأرض عند السجود، وبه قال سعيد بن جبير. وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: صلى صبيحة إحدى وعشرين من رمضان وقد وكف المسجد وكان على عريش، فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته وعلى جبهته وأرنبته أثر الماء والطين. وقال الحسن: هو بياض يكون في الوجه يوم القيامة. وقاله سعيد بن جبير أيضا، ورواه العوفي عن ابن عباس؛ قاله الزهري. وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة، وفيه: [ حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا ممن أراد الله أن يرحمه ممن يقول لا إله إلا الله فيعرفونهم في النار بأثر السجود تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود ] . وقال شهر بن حوشب: يكون موضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر. وقال ابن عباس ومجاهد: السيما في الدنيا وهو السمت الحسن. وعن مجاهد أيضا: هو الخشوع والتواضع. قال منصور: سألت مجاهدا عن قوله تعالى: « سيماهم في وجوههم » أهو أثر يكون بين عيني الرجل؟ قال لا، ربما يكون بين عيني الرجل مثل ركبة العنز وهو أقسى قلبا من الحجارة ولكنه نور في وجوههم من الخشوع. وقال ابن جريج: هو الوقار والبهاء. وقال شمر بن عطية: هو صفرة الوجه من قيام الليل. قال الحسن: إذا رأيتهم حسبتهم مرضى وما هم بمرضى. وقال الضحاك: أما إنه ليس بالندب في وجوههم ولكنه الصفرة. وقال سفيان الثوري: يصلون بالليل فإذا أصبحوا رئي ذلك في وجوههم، بيانه قوله صلى الله عليه وسلم: [ من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ] . وقد مضى القول فيه آنفا. وقال عطاء الخراساني: دخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس.

 

قوله تعالى: « ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل » قال الفراء: فيه وجهان، إن شئت قلت المعنى ذلك مثلهم في التوراة وفي الإنجيل أيضا، كمثلهم في القرآن، فيكون الوقف على « الإنجيل » وإن شئت قلت: تمام الكلام ذلك مثلهم في التوراة، ثم ابتداء فقال: ومثلهم في الإنجيل. وكذا قال ابن عباس وغيره: هما مثلان، أحدهما في التوراة والآخر في الإنجيل، فيوقف على هذا على « التوراة » . وقال مجاهد: هو مثل واحد، يعني أن هذه صفتهم في التوراة والإنجيل، فلا يوقف على « التوراة » على هذا، ويوقف على « الإنجيل » ، ويبتدئ: « كزرع أخرج شطأه » على معنى وهم كزرع. و « شطأه » يعني فراخه وأولاده، قاله ابن زيد وغيره. وقال مقاتل: هو نبت واحد، فإذا خرج ما بعده فقد شطأه. قال الجوهري: شطء الزرع والنبات فراخه، والجمع أشطاء. وقد أشطأ الزرع خرج شطؤه. قال الأخفش في قوله: « أخرج شطأه » أي طرفه. وحكاه الثعلبي عن الكسائي. وقال الفراء: أشطأ الزرع فهو مشطئ إذا خرج. قال الشاعر:

أخرج الشطء على وجه الثرى ومن الأشجار أفنان الثمر

الزجاج: أخرج شطأه أي نباته. وقيل: إن الشطء شوك السنبل، والعرب أيضا تسميه: السفا، وهو شوك البهمى، قاله قطرب. وقيل: إنه السنبل، فيخرج من الحبة عشر سنبلات وتسع وثمان، قال الفراء، حكاه الماوردي. وقرأ ابن كثير وابن ذكوان « شطأه » بفتح الطاء، وأسكن الباقون. وقرأ أنس ونصر بن عاصم وابن وثاب « شطاه » مثل عصاه. وقرأ الجحدري وابن أبي إسحاق « شطه » بغير همز، وكلها لغات فيها.

وهذا مثل ضربه الله تعالى لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يعني أنهم يكونون قليلا ثم يزدادون ويكثرون، فكان النبي صلى الله عليه وسلم حين بدأ بالدعاء إلى دينه ضعيفا فأجابه الواحد بعد الواحد حتى قوي أمره، كالزرع يبدو بعد البذر ضعيفا فيقوى حالا بعد حال حتى يغلظ نباته وأفراخه. فكان هذا من أصح مثل وأقوى بيان. وقال قتادة: مثل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الإنجيل مكتوب أنه سيخرج من قوم ينبتون نبات الزرع، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. « فآزره » أي قواه وأعانه وشده، أي قوى الشطء الزرع. وقيل بالعكس، أي قوى الزرع الشطء. وقراءة العامة « آزره » بالمد. وقرأ ابن ذكوان وأبو حيوة وحميد بن قيس « فأزره » مقصورة، مثل فعله. والمعروف المد. قال امرؤ القيس:

بمحنية قد آزر الضال نبتها مجر جيوش غانمين وخيب

« فاستغلظ فاستوى على سوقه » على عوده الذي يقوم عليه فيكون ساقا له. والسوق: جمع الساق. « يعجب الزراع » أي يعجب هذا الزرع زراعه. وهو مثل كما بينا، فالزرع محمد صلى الله عليه وسلم، والشطء أصحابه، كانوا قليلا فكثروا، وضعفاء فقووا، قال الضحاك وغيره. « ليغيظ بهم الكفار » اللام متعلقة بمحذوف، أي فعل الله هذا لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليغيظ بهم الكفار.

 

قوله تعالى: « وعد الله الذين آمنوا » أي وعد الله هؤلاء الذين مع محمد، وهم المؤمنون الذين أعمالهم صالحة. و « من » في قوله: « منهم » مبعضة لقوم من الصحابة دون قوم، ولكنها عامة مجنسة، مثل قوله تعالى: « فاجتنبوا الرجس من الأوثان » [ الحج: 30 ] لا يقصد للتبعيض لكنه يذهب إلى الجنس، أي فاجتنبوا الرجس من جنس الأوثان، إذ كان الرجس يقع من أجناس شتى، منها الزنى والربا وشرب الخمر والكذب، فأدخل « من » يفيد بها الجنس وكذا « منهم » ، أي من هذا الجنس، يعني جنس الصحابة. ويقال: أنفق نفقتك من الدراهم، أي اجعل نفقتك هذا الجنس. وقد يخصص أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بوعد المغفرة تفضيلا لهم، وإن وعد الله جميع المؤمنين المغفرة. وفي الآية جواب آخر: وهو أن « من » مؤكدة للكلام، والمعنى وعدهم الله كلهم مغفرة وأجرا عظيما. فجرى مجرى قول العربي: قطعت من الثوب قميصا، يريد قطعت الثوب كله قميصا. و « من » لم يبعض شيئا. وشاهد هذا من القرآن « وننزل من القرآن ما هو شفاء » [ الإسراء: 82 ] معناه وننزل القرآن شفاء، لأن كل حرف منه يشفي، وليس الشفاء مختصا به بعضه دون بعض. على أن من اللغويين من يقول: « من » مجنسة، تقديرها ننزل الشفاء من جنس القرآن، ومن جهة القرآن، ومن ناحية القرآن. قال زهير:

أمن أم أوفى دمنة لم تكلم

أراد من ناحية أم أوفى دمنة، أم من منازلها دمنة. وقال الآخر:

أخو رغائب يعطيها ويسألها يأبى الظلامة منه النوفل الزفر

فـ « من » لم تبعض شيئا، إذ كان المقصد يأبى الظلامة لأنه نوفل زفر. والنوفل: الكثير العطاء. والزفر: حامل الأثقال والمؤن عن الناس.

 

روى أبو عروة الزبيري من ولد الزبير: كنا عند مالك بن أنس، فذكروا رجلا ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ مالك هذه الآية « محمد رسول الله والذين معه » حتى بلغ « يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار » . فقال مالك: من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية، ذكره الخطيب أبو بكر.

قلت: لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله. فمن نقص واحدا منهم أو طعن عليه في روايته فقد رد على الله رب العالمين، وأبطل شرائع المسلمين، قال الله تعالى: « محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار » الآية. وقال: « لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة » [ الفتح: 18 ] إلى غير ذلك من الآي التي تضمنت الثناء عليهم، والشهادة لهم بالصدق والفلاح، قال الله تعالى: « رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه » [ الأحزاب: 23 ] . وقال: « للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا » إلى قوله « أولئك هم الصادقون » [ الحشر: 8 ] ، ثم قال عز من قائل: « والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم » إلى قوله « فأولئك هم المفلحون » [ الحشر: 9 ] . وهذا كله مع علمه تبارك وتعالى بحالهم ومآل أمرهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ) وقال: ( لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا لم يدرك مد أحدهم ولا نصيفه ) خرجهما البخاري. وفي حديث آخر: ( فلو أن أحدكم أنفق ما في الأرض لم يدرك مد أحدهم ولا نصيفه ) . قال أبو عبيد: معناه لم يدرك مد أحدهم إذا تصدق به ولا نصف المد، فالنصيف هو النصف هنا. وكذلك يقال للعشر عشير، وللخمس خميس، وللتسع تسيع، وللثمن ثمين، وللسبع سبيع، وللسدس سديس، وللربع ربيع. ولم تقل العرب للثلث ثليث.

وفي البزار عن جابر مرفوعا صحيحا: ( إن الله اختار أصحابي على العالمين سوى النبيين والمرسلين واختار لي من أصحابي أربعة - يعني أبا بكر وعمر وعثمان وعليا - فجعلهم أصحابي ) . وقال: ( في أصحابي كلهم خير ) . وروى عويم بن ساعدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله عز وجل اختارني واختار لي أصحابي فجعل لي منهم وزراء وأختانا وأصهارا فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ولا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا ) . والأحاديث بهذا المعنى كثيرة، فحذار من الوقوع في أحد منهم، كما فعل من طعن في الدين فقال: إن المعوذتين ليستا من القرآن، وما صح حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تثبيتهما ودخولهما في جملة التنزيل إلا عن عقبة بن عامر، وعقبة بن عامر ضعيف لم يوافقه غيره عليها، فروايته مطروحة. وهذا رد لما ذكرناه من الكتاب والسنة، وإبطال لما نقلته لنا الصحابة من الملة. فإن عقبة بن عامر بن عيسى الجهني ممن روى لنا الشريعة في الصحيحين البخاري ومسلم وغيرهما، فهو ممن مدحهم الله ووصفهم وأثنى عليهم ووعدهم مغفرة وأجرا عظيما. فمن نسبه أو واحدا من الصحابة إلى كذب فهو خارج عن الشريعة، مبطل للقرآن طاعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومتى ألحق واحد منهم تكذيبا فقد سب، لأنه لا عار ولا عيب بعد الكفر بالله أعظم من الكذب، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من سب أصحابه، فالمكذب لأصغرهم - ولا صغير فيهم - داخل في لعنة الله التي شهد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألزمها كل من سب واحدا من أصحابه أو طعن عليه. وعن عمر بن حبيب قال: حضرت مجلس هارون الرشيد فجرت مسألة تنازعها الحضور وعلت أصواتهم، فاحتج بعضهم بحديث يرويه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع بعضهم الحديث وزادت المدافعة والخصام حتى قال قائلون منهم: لا يقبل هذا الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن أبا هريرة متهم فيما يرويه، وصرحوا بتكذيبه، ورأيت الرشيد قد نحا نحوهم ونصر قولهم فقلت أنا: الحديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو هريرة صحيح النقل صدوق فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره، فنظر إلي الرشيد نظر مغضب، وقمت من المجلس فانصرفت إلى منزلي، فلم ألبث حتى قيل: صاحب البريد بالباب، فدخل فقال لي: أجب أمير المؤمنين إجابة مقتول، وتحنط وتكفن فقلت: اللهم إنك تعلم أني دافعت عن صاحب نبيك، وأجللت نبيك أن يطعن على أصحابه، فسلمني منه. فأدخلت على الرشيد وهو جالس على كرسي من ذهب، حاسر عن ذراعيه، بيده السيف وبين يديه النطع، فلما بصر بي قال لي: يا عمر بن حبيب ما تلقاني أحد من الرد والدفع لقولي بمثل ما تلقيتني به فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الذي قلته وجادلت عنه فيه ازدراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى ما جاء به، إذا كان أصحابه كذابين فالشريعة باطلة، والفرائض والأحكام في الصيام والصلاة والطلاق والنكاح والحدود كله مردود غير مقبول فرجع إلى نفسه ثم قال: أحييتني يا عمر بن حبيب أحياك الله، وأمر لي بعشرة آلاف درهم.

قلت: فالصحابة كلهم عدول، أولياء الله تعالى وأصفياؤه، وخيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله. هذا مذهب أهل السنة، والذي عليه الجماعة من أئمة هذه الأمة. وقد ذهبت شرذمة لا مبالاة بهم إلى أن حال الصحابة كحال غيرهم، فيلزم البحث عن عدالتهم. ومنهم من فرق بين حالهم في بداءة الأمر فقال: إنهم كانوا على العدالة إذ ذاك، ثم تغيرت بهم الأحوال فظهرت فيهم الحروب وسفك الدماء، فلا بد من البحث. وهذا مردود، فإن خيار الصحابة وفضلاءهم كعلي وطلحة والزبير وغيرهم رضي الله عنهم ممن أثنى الله عليهم وزكاهم ورضي عنهم وأرضاهم ووعدهم الجنة بقوله تعالى: « مغفرة وأجرا عظيما » . وخاصة العشرة المقطوع لهم بالجنة بإخبار الرسول هم القدوة مع علمهم بكثير من الفتن والأمور الجارية عليهم بعد نبيهم بإخباره لهم بذلك. وذلك غير مُسقط من مرتبتهم وفضلهم، إذ كانت تلك الأمور مبنية على الاجتهاد، وكل مجتهد مصيب. وسيأتي الكلام في تلك الأمور في سورة « الحجرات » مبينة إن شاء الله تعالى.

 

سورة الحجرات

 

الآية: 1 ( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم )

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله » قال العلماء: كان في العربي جفاء وسوء أدب في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم وتلقيب الناس. فالسورة في الأمر بمكارم الأخلاق ورعاية الآداب. وقرأ الضحاك ويعقوب الحضرمي: « لا تَقَدَّموا » بفتح التاء والدال من التقدم. الباقون « تُقدِموا » بضم التاء وكسر الدال من التقديم. ومعناهما ظاهر، أي لا تقدموا قولا ولا فعلا بين يدي الله وقول رسوله وفعله فيما سبيله أن تأخذوه عنه من أمر الدين والدنيا. ومن قدم قوله أو فعله على الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قدمه على الله تعالى، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يأمر عن أمر الله عز وجل.

 

واختلف في سبب نزولها على أقوال ستة: الأول: ما ذكره الواحدي من حديث ابن جريج قال: حدثني ابن أبي مليكة أن عبدالله بن الزبير أخبره أنه قدم ركب من بني تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد. وقال عمر: أمر الأقرع بن حابس. فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي. وقال عمر: ما أردت خلافك. فتماديا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزل في ذلك: « يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله - إلى قوله - ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم » . رواه البخاري عن الحسن بن محمد بن الصباح، ذكره المهدوي أيضا.

الثاني: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يستخلف على المدينة رجلا إذا مضى إلى خيبر، فأشار عليه عمر برجل آخر، فنزل: « يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله » . ذكره المهدوي أيضا.

الثالث: ما ذكره الماوردي عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم أنفذ أربعة وعشرين رجلا من أصحابه إلى بني عامر فقتلوهم، إلا ثلاثة تأخروا عنهم فسلموا وانكفؤوا إلى المدينة، فلقوا رجلين من بني سليم فسألوهما عن نسبهما فقالا: من بني عامر، لأنهم أعز من بني سليم فقتلوهما، فجاء نفر من بني سليم إلى رسول الله صلى فقالوا: ان بيننا وبينك عهدا، وقد قتل منا رجلان، فوداهما النبي صلى الله عليه وسلم بمائة بعير، ونزلت عليه هذه الآية في قتلهم الرجلين. وقال قتادة: إن ناسا كانوا يقولون لو أنزل في كذا، لو أنزل فيّ كذا؟ فنزلت هذه الآية. ابن عباس: نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه. مجاهد: لا تفتاتوا على الله ورسول حتى يقضي الله على لسان رسوله، ذكره البخاري أيضا.

الحسن: نزلت في قوم ذبحوا قبل أن يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن يعيدوا الذبح. ابن جريج: لا تقدموا أعمال الطاعات قبل وقتها الذي أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم.

قلت: هذه الأقوال الخمسة المتأخرة ذكرها القاضي أبو بكر بن العربي، وسردها قبله الماوردي. قال القاضي: وهي كلها صحيحة تدخل تحت العموم، فالله أعلم ما كان السبب المثير للآية منها، ولعلها نزلت دون سبب، والله أعلم. قال القاضي: إذا قلنا إنها نزلت في تقديم الطاعات على أوقاتها فهو صحيح، لأن كل عبادة مؤقتة بميقات لا يجوز تقديمها عليه كالصلاة والصوم والحج، وذلك بين. إلا أن العلماء اختلفوا في الزكاة، لما كانت عبادة مالية وكانت مطلوبة لمعنى مفهوم، وهو سد خلة الفقير، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم استعجل من العباس صدقة عامين، ولما جاء من جمع صدقة الفطر قبل يوم الفطر حتى تعطى لمستحقيها يوم الوجوب وهو يوم الفطر، فاقتضى ذلك كله جواز تقديمها العام والاثنين. فإن جاء رأس العام والنصاب بحاله وقعت موقعها. وإن جاء رأس العام وقد تغير النصاب تبين أنها صدقة تطوع. وقال أشهب: لا يجوز تقديمها على الحول لحظة كالصلاة، وكأنه طرد الأصل في العبادات فرأى أنها إحدى دعائم الإسلام فوفاها حقها في النظام وحسن الترتيب. ورأى سائر علمائنا أن التقديم اليسير فيها جائز، لأنه معفو عنه في الشرع بخلاف الكثير. وما قاله أشهب أصح، فإن مفارقة اليسير الكثير في أصول الشريعة صحيح، ولكنه لمعان تختص باليسير دون الكثير. فأما في مسألتنا فاليوم فيه كالشهر، والشهر كالسنة. فإما تقديم كلي كما قال أبو حنيفة والشافعي، وإما حفظ العبادة على ميقاتها كما قال أشهب.

 

قوله تعالى: « لا تقدموا بين يدي الله » أصل في ترك التعرض لأقوال النبي صلى الله عليه وسلم، وإيجاب اتباعه والاقتداء به، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه: [ مروا أبا بكر فليصل بالناس ] . فقالت عائشة لحفصة رضي الله عنهما: قولي له إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقم مقامك لا يُسْمع الناس من البكاء، فَمُرْ عمر فليصل بالناس. فقال صلى الله عليه وسلم: [ إنكن لأنتن صواحب يوسف. مروا أبا بكر فليصل بالناس ] . فمعنى قول [ صواحب يوسف ] الفتنة بالرد عن الجائز إلى غير الجائز. وربما احتج بُغَاةُ القياس بهذه الآية. وهو باطل منهم، فإن ما قامت دلالته فليس في فعله تقديم بين يديه. وقد قامت دلالة الكتاب والسنة على وجوب القول بالقياس في فروع الشرع، فليس إذاً تقدمٌ بين يديه. « واتقوا الله » يعني في التقدم المنهي عنه. « إن الله سميع » لقولكم « عليم » بفعلكم.

 

الآية: 2 ( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون )

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي » روى البخاري والترمذي عن ابن أبي مليكة قال: حدثني عبدالله بن الزبير أن الأقرع بن حابس قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: يا رسول الله استعمله على قومه، فقال عمر: لا تستعمله يا رسول الله، فتكلما عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى ارتفعت أصواتهما، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي. فقال عمر: ما أردت خلافك، قال: فنزلت هذه الآية: « يا أيها لذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي » قال: فكان عمر بعد ذلك إذا تكلم عند النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمع كلامه حتى يستفهمه. قال: وما ذكر ابن الزبير جده يعني أبا بكر. قال: هذا حديث غريب حسن. وقد رواه بعضهم عن ابن أبي مليكة مرسلا، لم يذكر فيه عن عبدالله بن الزبير.

قلت: هو البخاري، قال: عن ابن أبي مليكة كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر، رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجل آخر، فقال نافع: لا أحفظ اسمه، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي. فقال: ما أردت خلافك. فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله عز وجل: « يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي » الآية. فقال ابن الزبير: فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه. ولم يذكر ذلك عن أبيه، يعني أبا بكر الصديق. وذكر المهدوي عن علي رضي الله عنه: نزل قوله: « لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي » فينا لما ارتفعت أصواتنا أنا وجعفر وزيد بن حارثة، نتنازع ابنة حمزة لما جاء بها زيد من مكة، فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لجعفر، لأن خالتها عنده. وقد تقدم هذا الحديث في « آل عمران » .

وفي الصحيحين عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس فقال رجل: يا رسول الله، أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده جالسا في بيته منكسا رأسه، فقال له: ما شأنك؟ فقال: شر كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم فقد حبط عمله وهو من أهل النار. فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال كذا وكذا. فقال موسى: فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة، فقال: ( اذهب إليه فقل له إنك لست من أهل النار ولكنك من أهل الجنة ) ( لفظ البخاري ) وثابت هذا هو ثابت بن قيس بن شماس الخزرجي يكنى أبا محمد بابنه محمد. وقيل: أبا عبدالرحمن. قتل له يوم الحرة ثلاثة من الولد: محمد، ويحيى، وعبدالله. وكان خطيبا بليغا معروفا بذلك، كان يقال له خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يقال لحسان شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما قدم وفد تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبوا المفاخرة قام خطيبهم فافتخر، ثم قام ثابت بن قيس فخطب خطبة بليغة جزلة فغلبهم، وقام شاعرهم وهوالأقرع بن حابس فأنشد:

أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا إذا خلفونا عند ذكر المكارم

وإنا رؤوس الناس من كل معشر وأن ليس في أرض الحجاز كدارم

وإن لنا المرباع في كل غارة تكون بنجد أو بأرض التهائم

فقام حسان فقال:

بني دارم لا تفخروا إن فخركم يعود وبالا عند ذكر المكارم

هبلتم علينا تفخرون وأنتم لنا خول من بين ظئر وخادم

في أبيات لهما.

فقالوا: خطيبهم أخطب من خطيبنا، وشاعرهم أشعر من شاعرنا، فارتفعت أصواتهم فأنزل الله تعالى: « لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول » . وقال عطاء الخراساني: حدثتني ابنة ثابت بن قيس قالت: لما نزلت: « يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي » الآية، دخل أبوها بيته وأغلق عليه بابه، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه يسأله ما خبره، فقال: أنا رجل شديد الصوت، أخاف أن يكون حبط عملي. فقال عليه السلام: ( لست منهم بل تعيش بخير وتموت بخير ) . قال: ثم أنزل الله: « إن الله لا يحب كل مختال فخور » [ لقمان: 18 ] فأغلق بابه وطفق يبكي، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فأخبره، فقال: يا رسول الله، إني أحب الجمال وأحب أن أسود قومي. فقال: [ لست منهم بل تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة ] . قالت: فلما كان يوم اليمامة خرج مع خالد بن الوليد إلى مسيلمة فلما التقوا انكشفوا، فقال ثابت وسالم مولى أبي حذيقة: ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حفر كل واحد منهما له حفرة فثبتا وقاتلا حتى قتلا، وعلى ثابت يومئذ درع له نفيسة، فمر به رجل من المسلمين فأخذها، فبينا رجل من المسلمين نائم أتاه ثابت في منامه فقال له: أوصيك بوصية، فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه، إني لما قتلت أمس مر بي رجل من المسلمين فأخذ درعي ومنزله في أقصى الناس، وعند خبائه فرس يستن في طوله، وقد كفأ على الدرع برمة، وفوق البرمة رحل، فأت خالدا فمره أن يبعث إلى درعي فيأخذها، وإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني أبا بكر - فقل له: إن علي من الدين كذا وكذا، وفلان من رقيقي عتيق وفلان، فأتى الرجل خالدا فأخبره، فبعث إلى الدرع فأتى بها وحدث أبا بكر برؤياه فأجاز وصيته. قال: ولا نعلم أحدا أجيزت وصيته بعد موته غير ثابت، رحمه الله، ذكره أبو عمر في الاستيعاب.

 

قوله تعالى: « ولا تجهروا له بالقول » أي لا تخاطبوه: يا محمد، ويا أحمد. ولكن: يا نبي الله، ويا رسول الله، توقيرا له. وقيل: كان المنافقون يرفعون أصواتهم عند النبي صلى الله عليه وسلم، ليقتدي بهم ضعفة المسلمين فنهي المسلمون عن ذلك. وقيل: « لا تجهروا له » أي لا تجهروا عليه، كما يقال: سقط لفيه، أي على فيه - « كجهر بعضكم لبعض » الكاف كاف التشبيه في محل النصب، أي لا تجهروا له جهرا مثل جهر بعضكم لبعض. وفي هذا دليل على أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقا حتى لا يسوغ لهم إلا أن يكلموه بالهمس والمخافتة، وإنما نهوا عن جهر مخصوص مقيد بصفة، أعني الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منهم فيما بينهم، وهو الخلو من مراعاة أبهة النبوة وجلالة مقدارها وانحطاط سائر الرتب وإن جلت عن رتبتها. « لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون » أي من أجل أن تحبط، أي تبطل، هذا قول البصريين. وقال الكوفيون: أي لئلا تحبط أعمالكم.

 

معنى الآية الأمر بتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوقيره، وخفض الصوت بحضرته وعند مخاطبته، أي إذا نطق ونطقتم فعليكم ألا تبلغوا بأصواتكم وراء الحد الذي يبلغه بصوته، وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه غالبا لكلامكم، وجهره باهرا لجهركم، حتى تكون مزيته عليكم لائحة، وسابقته واضحة، وامتيازه عن جمهوركم كشية الأبلق. لا أن تغمروا صوته بلغطكم، وتبهروا منطقه بصخبكم. وفي قراءة ابن مسعود « لا ترفعوا بأصواتكم » . وقد كره بعض العلماء رفع الصوت عند قبره عليه السلام. وكره بعض العلماء رفع الصوت في مجالس العلماء تشريفا لهم، إذ هم ورثة الأنبياء.

 

قال القاضي أبو بكر بن العربي: حرمة النبي صلى الله عليه وسلم ميتا كحرمته حيا، وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثال كلامه المسموع من لفظه، فإذا قرئ كلامه، وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به. وقد نبه الله سبحانه على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة بقوله تعالى: « وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا » [ الأعراف: 204 ] . وكلامه صلى الله عليه وسلم من الوحي، وله من الحكمة مثل ما للقرآن، إلا معاني مستثناة، بيانها في كتب الفقه.

 

ليس الغرض برفع الصوت ولا الجهر ما يقصد به الاستخفاف والاستهانة، لأن ذلك كفر والمخاطبون مؤمنون. وإنما الغرض صوت هو في نفسه والمسموع من جَرْسِه غير مناسب لما يهاب به العظماء ويوقر الكبراء، فيتكلف الغض منه ورده إلى حد يميل به إلى ما يستبين فيه المأمور به من التعزير والتوقير. ولم يتناول النهي أيضا رفع الصوت الذي يتأذى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما كان منهم في حرب أو مجادلة معاند أو إرهاب عدو أو ما أشبه ذلك، ففي الحديث أنه قال عليه السلام للعباس بن عبدالمطلب لما انهزم الناس يوم حنين: ( اصرخ بالناس ) ، وكان العباس أجهر الناس صوتا. يروى أن غارة أتتهم يوما فصاح العباس: يا صاحباه فأسقطت الحوامل لشدة صوته، وفيه يقول نابغة بني جعدة:

زجر أبي عروة السباع إذا أشفق أن يختلطن بالغنم

زعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم فيفتق مرارة السبع في جوفه.

 

قال الزجاج: « أن تحبط أعمالكم » التقدير لأن تحبط، أي فتحبط أعمالكم، فاللام المقدرة لام الصيرورة وليس قوله: « أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون » بموجب أن يكفر الإنسان وهو لا يعلم، فكما لا يكون الكافر مؤمنا إلا باختياره الإيمان على الكفر، كذلك لا يكون المؤمن كافرا من حيث لا يقصد إلى الكفر ولا يختاره بإجماع. كذلك لا يكون الكافر كافرا من حيث لا يعلم.

 

الآية: 3 ( إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم )

 

قوله تعالى: « إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله » أي يخفضون أصواتهم عنده إذا تكلموا إجلالا له، أو كلموا غيره بين يديه إجلالا له. قال أبو هريرة: لما نزلت « لا ترفعوا أصواتكم » قال أبو بكر رضي الله عنه: والله لا أرفع صوتي إلا كأخي السرار. وذكر سنيد قال: حدثنا عباد بن العوام عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة قال: لما نزلت: « لا تقدموا بين يدي الله ورسوله » [ الحجرات: 1 ] قال أبو بكر: والذي بعثك بالحق لا أكلمك بعد هذا إلا كأخي السرار. وقال عبدالله بن الزبير: لما نزلت: « لا ترفعوا أصواتكم » ما حدث عمر عند النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فسمع كلامه حتى يستفهمه مما يخفض، فنزلت: « إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى » . قال الفراء: أي أخلصها للتقوى. وقال الأخفش: أي اختصها للتقوى. وقال ابن عباس: « امتحن الله قلوبهم للتقوى » طهرهم من كل قبيح، وجعل في قلوبهم الخوف من الله والتقوى. وقال عمر رضي الله عنه: أذهب عن قلوبهم الشهوات. والامتحان افتعال من محنت الأديم محنا حتى أوسعته. فمعنى أمتحن الله قلوبهم للتقوى وسعها وشرحها للتقوى. وعلى الأقوال المتقدمه: امتحن قلوبهم فأخلصها، كقولك: امتحنت الفضة أي اختبرتها حتى خلصت. ففي الكلام حذف يدل عليه الكلام، وهو الإخلاص. وقال أبو عمرو: كل شيء جهدته فقد محنته. وأنشد:

أتت رذايا باديا كلالها قد محنت واضطربت آطالها

« لهم مغفرة وأجر عظيم » .

 

الآية: 4 ( إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون )

 

قوله تعالى: « إن الذين ينادونك من وراء الحجرات » قال مجاهد وغيره: نزلت في أعراب بني تميم، قدم الوفد منهم على النبي صلى الله عليه وسلم، فدخلوا المسجد ونادوا النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجرته أن اخرج إلينا، فإن مدحنا زين وذمنا شين. وكانوا سبعين رجلا قدموا الفداء ذراري لهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم نام للقائلة. وروي أن الذي نادي الأقرع بن حابس، وأنه القائل: إن مدحي زين وإن ذمي شين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ ذاك الله ] . ذكره الترمذي عن البراء بن عازب أيضا. وروى زيد بن أرقم فقال: أتى أناس النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل، فإن يكن نبيا فنحن أسعد الناس باتباعه، وإن يكن ملكا نعش في جنابه. فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا ينادونه وهو في حجرته: يا محمد، يا محمد، فأنزل الله تعالى هذه الآية. قيل: إنهم كانوا من بني تميم. قال مقاتل كانوا تسعة عشر: قيس بن عاصم، والزبرقان بن بدر، والأقرع بن حابس، وسويد بن هاشم، وخالد بن مالك، وعطاء بن حابس، والقعقاع بن معبد، ووكيع بن وكيع، وعيينة بن حصن وهو الأحمق المطاع، وكان من الجرارين يجر عشرة آلاف قناة، أي يتبعه، وكان اسمه حذيفة وسمي عيينة لشتركان في عينيه ذكر عبدالرزاق في عيينة هذا: أنه الذي نزل فيه « ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا » [ الكهف: 28 ] . وقد مضى في آخر « الأعراف » من قول لعمر رضي الله عنه ما فيه كفاية، ذكره البخاري. وروي أنهم وفدوا وقت الظهيرة ورسول الله صلى الله عليه وسلم راقد، فجعلوا ينادونه: يا محمد يا محمد، أخرج إلينا، فاستيقظ وخرج، ونزلت. وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: [ هم جفاة بني تميم لولا أنهم من أشد الناس قتالا للأعور الدجال لدعوت الله عليهم أن يهلكهم ] . والحجرات جمع الحجرة، كالغرفات جمع غرفة، والظلمات جمع ظلمة. وقيل: الحجرات جمع الحجر، والحجر جمع حجرة، فهو جمع الجمع. وفيه لغتان: ضم الجيم وفتحها. قال:

ولما رأونا باديا ركباتنا على موطن لا نخلط الجد بالهزل

والحجرة: الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها. وحظيرة الإبل تسمى الحجرة، وهي فعلة بمعنى مفعولة. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع « الحجرات » بفتح الجيم استثقالا للضمتين. وقرئ « الحجرات » بسكون الجيم تخفيفا. وأصل الكلمة المنع. وكل ما منعت أن يوصل إليه فقد حجرت عليه. ثم يحتمل أن يكون المنادي بعضا من الجملة فلهذا قال: « أكثرهم لا يعقلون » أي إن الذين ينادونك من جملة قوم الغالب عليهم الجهل.

 

الآية: 5 ( ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم )

 

أي لو انتظروا خروجك لكان أصلح في دينهم ودنياهم. وكان صلى الله عليه وسلم لا يحتجب عن الناس إلا في أوقات يشتغل فيهما بمهمات نفسه، فكان إزعاجه في تلك الحالة من سوء الأدب وقيل: كانوا جاؤوا شفعاء في أساري بني عنبر فأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم نصفهم، وفادي على النصف. ولو صبروا لأعتق جميعهم بغير فداء. « والله غفور رحيم » .

 

الآية: 6 ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين )

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا » قيل: إن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط. وسبب ذلك ما رواه سعيد عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة مصدقا إلى بني المصطلق، فلما أبصروه أقبلوا نحوه فهابهم - في رواية: لإحنة كانت بينه وبينهم - ، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنهم قد ارتدوا عن الإسلام. فبعث نبي الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد وأمره أن يتثبت ولا يعجل، فانطلق خالد حتى أتاهم ليلا، فبعث عيونه فلما جاؤوا أخبروا خالدا أنهم متمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم، فلما أصبحوا أتاهم خالد ورأى صحة ما ذكروه، فعاد إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فنزلت هذه الآية، فكان يقول نبي الله صلى الله عليه وسلم: [ التأني من الله والعجلة من الشيطان ] . وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى بني المصطلق بعد إسلامهم، فلما سمعوا به ركبوا إليه، فلما سمع بهم خافهم، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن القوم قد هموا بقتله، ومنعوا صدقاتهم. فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بغزوهم، فبينما هم كذلك إذ قدم وفدهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، سمعنا برسولك فخرجنا إليه لنكرمه، ونؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة، فاستمر راجعا، وبلغنا أنه يزعم لرسول الله أنا خرجنا لنقاتله، والله ما خرجنا لذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وسمي الوليد فاسقا أي كاذبا. قال ابن زيد ومقاتل وسهل بن عبدالله: الفاسق الكذاب. وقال أبو الحسن الوراق: هو المعلن بالذنب. وقال ابن طاهر: الذي لا يستحي من الله. وقرأ حمزة والكسائي « فتثبتوا » من التثبت. الباقون « فتبينوا » من التبيين « أن تصيبوا قوما » أي لئلا تصيبوا، فـ « أن » في محل نصب بإسقاط الخافض. « بجهالة » أي بخطأ. « فتصبحوا على ما فعلتم نادمين » على العجلة وترك التأني.

 

في هذه الآية دليل على قبول خبر الواحد إذا كان عدلا، لأنه إنما أمر فيها بالتثبت عند نقل خبر الفاسق. ومن ثبت فسقه بطل قوله في الأخبار إجماعا، لأن الخبر أمانة والفسق قرينة يبطلها. وقد استئنى الإجماع من جملة ذلك ما يتعلق بالدعوى والجحود، وإثبات حق مقصود على الغير، مثل أن يقول: هذا عبدي، فإنه يقبل قوله. وإذا قال: قد أنفذ فلان هذا لك هدية، فإنه يقبل ذلك. وكذلك يقبل في مثله خبر الكافر. وكذلك إذا أقر لغيره بحق على نفسه فلا يبطل إجماعا. وأما في الإنشاء على غيره فقال الشافعي وغيره: لا يكون وليا في النكاج. وقال أبو حنيفة ومالك: يكون وليا، لأنه يلي مالها فيلي بضعها. كالعدل، وهو وإن كان فاسقا في دينه إلا أن غيرته موفرة وبها يحمي الحريم، وقد يبذل المال ويصون الحرمة، وإذا ولي المال فالنكاج أولى.

 

قال ابن العربي: ومن العجب أن يجوز الشافعي ونظراؤه إمامة الفاسق. ومن لا يؤتمن على حبة مال كيف يصح أن يؤتمن على قنطار دين. وهذا إنما كان أصله أن الولاة الذين كانوا يصلون بالناس لما فسدت أديانهم ولم يمكن ترك الصلاة وراءهم، ولا استطيعت إزالتهم صلي معهم ووراءهم، كما قال عثمان: الصلاة أحسن ما يفعل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن، وإذا أساؤوا فآجتنب إساءتهم. ثم كان من الناس من إذا صلى معهم تقية أعادوا الصلاة لله، ومنهم من كان يجعلها صلاته. ويوجوب الإعادة أقول، فلا ينبغي لأحد أن يترك الصلاة من لا يرضى من الأئمة، ولكن يعيد سرا في نفسه، ولا يؤثر ذلك عند غيره.

 

وأما أحكامه إن كان واليا فينفذ منها ما وافق الحق ويرد ما خالفه، ولا ينقض حكمه الذي أمضاه بحال، ولا تلتفتوا إلى غير هذا القول من رواية تؤثر أو قول يحكى، فإن الكلام كثير والحق ظاهر.

لا خلاف في أنه يصح أن يكون رسولا عن غيره في قول يبلغه أو شيء يوصله، أو إذن يعلمه، إذا لم يخرج عن حق المرسل، والمبلغ، فإن تعلق به حق لغيرهما لم يقبل قوله. وهذا جائز للضرورة الداعية اليه، فإنه لو لم يتصرف بين الخلق في هذه المعاني إلا العدول لم يحصل منها شيء لعدمهم في ذلك. والله أعلم.

وفي الآية دليل على فساد. من قال: إن المسلمين كلهم عدول حتى تثبت الجرحة، لأن الله تعالى أمر بالتثبت قبل القبول، ولا معنى للتثبت بعد إنفاذ الحكم، فإن حكم الحاكم قبل التثبت فقد أصاب المحكوم عليه بجهالة.

فإن قضى بما يغلب على الظن لم يكن ذلك عملا بجهالة، كالقضاء بالشاهدين العدليين، وقبول قول العالم المجتهد. وإنما العمل بالجهالة قبول قول من لا يحصل غلبة الظن بقبوله. ذكر هذه المسألة القشيري، والذي قبلها المهدوي.

 

الآيات: 7 - 8 ( واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون، فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم )

 

قوله تعالى: « واعلموا أن فيكم رسول الله » فلا تكذبوا، فإن الله يعلمه أنباءكم فتفتضحون. « لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم » أي لو تسارع إلى ما أردتم قبل وضوح الأمر لنالكم مشقة وإثم، فإنه لو قتل القوم الذين سعى بهم الوليد بن عقبة إليه لكان خطأ، ولعنت من أراد إيقاع الهلاك بأولئك القوم لعداوة كانت بينه وبينهم. ومعنى طاعة الرسول لهم: الإئتمار بما يأمر به فيما يبلغونه عن الناس والسماع منهم. والعنت الإثم، يقال: عنت الرجل. والعنت أيضا الفجور والزني، كما في سورة « النساء » . والعنت أيضا الوقوع في أمر شاق، وقد مضى في آخر « التوبة » القول في « عنتم » [ التوبة: 128 ] بأكثر من هذا. « ولكن الله حبب إليكم الإيمان » هذا خطاب للمؤمنين المخلصين الذين لا يكذبون النبي صلى الله عليه وسلم ولا يخبرون بالباطل، أي جعل الإيمان أحب الأديان إليكم. « وزينه في قلوبكم » « وزينه » بتوفيقه. « في قلوبكم » أي حسنه إليكم حتى اخترتموه. وفي هذا رد على القدرية والإمامية وغيرهم، حسب ما تقدم في غير موضع. فهو سبحانه المنفرد بخلق ذوات الخلق وخلق أفعالهم وصفاتهم واختلاف ألسنتهم وألوانهم، لا شريك له. « وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان » قال ابن عباس: يريد به الكذب خاصة. وقاله ابن زيد. وقيل: كل ما خرج عن الطاعة، مشتق من فسقت الرطبة خرجت من قشرها. والفأرة من جحرها. وقد مضى في « البقرة » القول فيه مستوفى. والعصيان جمع المعاصي. ثم انتقل من الخطاب إلى الخبر فقال: « أولئك » يعني هم الذين وفقهم الله فحبب إليهم الإيمان وكره إليهم الكفر أي قبحه عندهم « الراشدون » كقوله تعالى: « وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون » [ الروم: 39 ] . قال النابغة:

يا دارَمَيَّةَ بالعلياء فالسند أقوَتْ وطال عليها سالف الأمد

والرشد الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه، من الرشاد وهي الصخرة. قال أبو الوازع: كل صخرة رشادة. وأنشد:

وغير مقلد وموشمات صلين الضوء من صم الرشاد

« فضلا من الله ونعمة » أي فعل الله ذلك بكم فضلا، أي الفضل والنعمة، فهو مفعول له. « والله عليم حكيم » « عليم » بما يصلحكم « حكيم » في تدبيركم.

 

الآية: 9 ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين )

 

قوله تعالى: « وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا » روى المعتمر بن سليمان عن أنس بن مالك قال: قلت: يا نبي الله، لو أتيت عبدالله بن أبي؟ فانطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فركب حمار وانطلق المسلمون يمشون، وهي أرض سبخة، فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم قال: إليك عني فوالله لقد أذاني نتن حمارك. فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك. فغضب لعبدالله رجل من قومه، وغضب لكل واحد منهما أصحابه، فكان بينهم حرب بالجريد والأيدي والنعال، فبلغنا أنه أنزل فيهم هذه الآية. وقال مجاهد: نزلت في الأوس والخزرج. قال مجاهد: تقاتل حيان من الأنصار بالعصي والنعال فنزلت الآية. ومثله عن سعيد بن جبير: أن الأوس والخزرج كان بينهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قتال بالسعف والنعال ونحوه، فأنزل الله هذه الآية فيهم. وقال قتادة: نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مداراة في حق بينهما فقال أحدهما: لآخذن حقي عنوة، لكثرة عشيرته. ودعاه الآخر إلى أن يحاكمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبي أن يتبعه، فلم يزل الأمر بينهما حتى تواقعا وتناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال والسيوف، فنزلت هذه الآية. وقال الكلبي: نزلت في حرب سُمير وحاطب، وكان سمير قتل حاطبا، فاقتتل الأوس والخزرج حتى أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت. وأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يصلحوا بينهما. وقال السدي: كانت امرأة من الأنصار يقال لها: أم زيد تحت رجل من غير الأنصار، فتخاصمت مع زوجها، أرادت أن تزور قومها فحبسها زوجها وجعلها في علية لا يدخل عليها أحد من أهلها، وأن المرأة بعثت إلى قومها، فجاء قومها فأنزلوها لينطلقوا بها، فخرج الرجل فاستغاث أهله فخرج بنو عمه ليحولوا بين المرأة وأهلها، فتدافعوا وتجالدوا بالنعال، فنزلت الآية. والطائفة تتناول الرجل الواحد والجمع والأثنين، فهو مما حمل على المعنى دون اللفظ، لأن الطائفتين في معنى القوم والناس. وفي قراءة عبدالله « حتى يفيؤوا إلى أمر الله فإن فاؤوا فخذوا بينهم بالقسط » . وقرأ ابن أبي عبلة « اقتتلتا » على لفظ الطائفتين. وقد مضى في آخر « التوبة » القول فيه. وقال ابن عباس في قوله عز وجل: « وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين » [ الروم: 2 ] قال: الواحد فما فوقه، والطائفة من الشيء القطعة منه. « فأصلحوا بينهما » بالدعاء إلى كتاب الله لهما أو عليهما. « فإن بغت إحداهما على الأخرى » تعدت ولم تجب إلى حكم الله وكتابه. والبغي: التطاول والفساد. « حتى تفيء إلى أمر الله » أي ترجع إلى كتابه. « فإن فاءت » أي فإن رجعت « فأصلحوا بينهما بالعدل » أي احملوهما على الإنصاف. « وأقسطوا » أقسطوا أيها الناس فلا تقتتلوا. وقيل: أقسطوا أي اعدلوا. « إن الله يحب المقسطين » أي العادلين المحقين.

 

قال العلماء: لا تخلو الفئتان من المسلمين في اقتتالهما، إما أن يقتتلا على سبيل البغي منهما جميعا أو لا. فإن كان الأول فالواجب في ذلك أن يمشي بينهما بما يصلح ذات البين ويثمر المكافة والموادعة. فإن لم يتحاجزا ولم يصطلحا وأقامتا على البغي صير إلى مقاتلتهما. وأما إن كان الثاني وهو أن تكون إحداهما باغية على الأخرى، فالواجب أن تقاتل فئة البغي إلى أن تكف وتتوب، فإن فعلت أصلح بينها وبين المبغي عليها بالقسط والعدل. فإن التحم القتال بينهما لشبهة دخلت عليهما وكلتاهما عند أنفسهما محقة، فالواجب إزالة الشبهة بالحجة النيرة والبراهين القاطعة على مراشد الحق. فإن ركبتا متن اللجاج ولم تعملا على شاكلة ما هديتا إليه ونصحتا به من اتباع الحق بعد وضرحه لهما فقد لحقتا بالفئتين الباغيتين. والله أعلم.

 

في هذه الآية دليل على وجوب قتال الفئة الباغية المعلوم بغيها على الإمام أو على أحد من المسلمين. وعلى فساد قول من منع من قتال المؤمنين، واحتج بقوله عليه السلام: [ قتال المؤمن كفر ] . ولو كان قتال المؤمن الباغي كفرا لكان الله تعالى قد أمر بالكفر، تعالى الله عن ذلك وقد قاتل الصديق رضي الله عنه: من تمسك بالإسلام وامتنع من الزكاة، وأمر ألا يتبع مُولٍّ، ولا يجهز على جريح، ولم تحل أموالهم، بخلاف الواجب في الكفار. وقال الطبري: لو كان الواجب في كل اختلاف يكون بين الفريقين الهرب منه ولزوم المنازل لما أقيم حد ولا أبطل باطل، ولوجد أهل النفاق والفجور سبيلا إلى استحلال كل ما حرم الله عليهم من أموال المسلمين وسبي نسائهم وسفك دمائهم، بأن يتحزبوا عليهم، ويكف المسلمون أيديهم عنهم، وذلك مخالف لقوله عليه السلام: [ خذوا على أيدي سفهائكم ] .

 

قال القاضي أبو بكر بن العربي: هذه الآية أصل في قتال المسلمين، والعمدة في حرب المتأولين، وعليها عول الصحابة، وإليها لجأ الأعيان من أهل الملة، وإياها عني النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: [ تقتل عمارا الفئة الباغية ] . وقوله عليه السلام في شأن الخوارج: [ يخرجون على خير فرقة أو على حسين فرقة ] ، والرواية الأولى أصح، لقوله عليه السلام: [ تقتلهم أولى الطائفتين إلى الحق ] . وكان الذي قتلهم علي بن أبي طالب ومن كان معه. فتقرر عند علماء المسلمين وثبت بدليل الدين أن عليا رضي الله عنه كان إماما، وأن كل من خرج عليه باغ وأن قتال واجب حتى يفيء إلى الحق وينقاد إلى الصلح، لأن عثمان رضي الله عنه قتل والصحابة برآء من دمه، لأنه منع من قتال من ثار عليه وقال: لا أكون أول من خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته بالقتل، فصبر على البلاء، واستسلم للمحنة وفدى بنفسه الأمة. ثم لم يمكن ترك الناس سدي، فعرضت على باقي الصحابة الذين ذكرهم عمر في الشوري، وتدافعوها، وكان علي كرم الله وجهه أحق بها وأهلها، فقبلها حوطة على الأمة أن تسفك دماؤها بالتهارج والباطل، أو يتخرق أمرها إلى ما لا يتحصل. فربما تغير الدين وانقض عمود الإسلام. فلما بويع له طلب أهل الشام في شرط البيعة التمكن من قتلة عثمان وأخذ القود منهم، فقال لهم علي رضي الله عنه: ادخلوا في البيعة واطلبوا الحق تصلوا إليه. فقالوا: لا تستحق بيعة وقتلة عثمان معك تراهم صباحاً ومساءً. فكان علي في ذلك أشد رأيا وأصوب قيلا، لأن عليا لو تعاطى القود منهم لتعصبت لهم قبائل وصارت حربا ثالثة، فانتظر بهم أن يستوثق الأمر وتنعقد البيعة، ويقع الطلب من الأولياء في مجلس الحكم، فيجري القضاء بالحق.

ولا خلاف بين الأمة أنه يجوز للإمام تأخير القصاص إذا أدى ذلك إلى إثارة الفتنة أو تشتيت الكلمة. وكذلك جرى لطلحة والزبير، فإنهما ما خلعا عليا من ولاية ولا اعترضا عليه في ديانة، وإنما رأيا أن البداءة بقتل أصحاب عثمان أولى.

قلت: فهذا قول في سبب الحرب الواقع بينهم. وقال جلة من أهل العلم: إن الوقعة بالبصرة بينهم كانت على غير عزيمة منهم على الحرب بل فجأة، وعلى سبيل دفع كل واحد من الفريقين عن أنفسهم لظنه أن الفريق الآخر قد غدر به، لأن الأمر كان قد انتظم بينهم، وتم الصلح والتفرق على الرضا. فخاف قتلة عثمان رضي الله عنه من التمكين منهم والإحاطة بهم، فاجتمعوا وتشاوروا واختلفوا، ثم أتفقت آراوهم على أن يفترقوا فريقين، ويبدأوا بالحرب سحرة في العسكرين، وتختلف السهام بينهم، ويصيح الفريق الذي في عسكر علي: غدر طلحة والزبير. والفريق الذي في عسكر طلحة والزبير: غدر علي. فتم لهم ذلك على ما دبروه، ونشبت الحرب، فكان كل فريق دافعا لمكرته عند نفسه، ومانعا من الإشاطة بدمه. وهذا صواب من الفريقين وطاعة لله تعالى، إذ وقع القتال والامتناع منهما على هذه السبيل. وهذا هوالصحيح المشهور. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله » أمر بالقتال. وهو فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ولذلك تخلف قوم من الصحابة رضي الله عنهم عن هذه المقامات، كسعد بن أبي وقاص وعبدالله بن عمرو ومحمد بن مسلمة وغيرهم. وصوب ذلك علي بن أبي طالب لهم، واعتذر إليه كل واحد منهم بعذر قبله منه. ويروي أن معاوية رضي الله عنه لما أفضى إليه الأمر، عاتب سعدا على ما فعل، وقال له: لم تكن ممن أصلح بين الفئتين حين أقتتلا، ولا ممن قاتل الفئة الباغية. فقال له سعد: ندمت على تركي قتال الفئة الباغية. فتبين أنه ليس على الكل درك فيما فعل، وإنما كان تصرفا بحكم الاجتهاد وإعمالا بمقتضى الشرع. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل » ومن العدل في صلحهم ألا يطالبوا بما جرى بينهم من دم ولا مال، فإنه تلف على تأويل. وفي طلبهم تنفير لهم عن الصلح واستشراء في البغي. وهذا أصل في المصلحة. وقد قال لسان الأمة: إن حكمة الله تعالى في حرب الصحابة التعريف منهم لأحكام قتال أهل التأويل، إذ كان أحكام قتال أهل الشرك قد عرفت على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله.

 

إذا خرجت على الإمام العدل خارجة باغية ولا حجة لها، قاتلهم الإمام بالمسلمين كافة أو من فيه كفاية، ويدعوهم قبل ذلك إلى الطاعة والدخول في الجماعة، فإن أبوا من الرجوع والصلح قوتلوا. ولا يقتل أسيرهم ولا يتبع مدبرهم ولا يذفف على جريحهم، ولا تسبي ذراريهم ولا أموالهم. وإذا قتل العادل الباغي، أو الباغي العادل وهو وليه لم يتوارثا. ولا يرث قاتل عمدا على حال. وقيل: إن العادل يرث الباغي، قياسا على القصاص.

 

وما استهلكه البغاة والخوارج من دم أو مال ثم تابوا لم يؤاخذوا به. وقال أبو حنيفة: يضمنون. وللشافعي قولان. وجه قول أبي حنيفة أنه إتلاف بعدوان فيلزم الضمان. والمعول في ذلك عندنا أن الصحابة رضي الله عنهم في حروبهم لم يتبعوا مدبرا ولا ذففوا على جريح ولا قتلوا أسيرا ولا ضمنوا نفسا ولا مالا، وهم القدوة.

وقال ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ يا عبدالله أتدري كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة ] ؟ قال: الله ورسوله أعلم. فقال: [ لا يجهز على جريحها ولا يقتل أسيرها ولا يطلب طلب هاربها ولا يقسم فيئها ] . فأما ما كان قائما رد بعينه.

هذا كله فيمن خرج بتأويل يسوغ له. وذكر الزمخشري في تفسيره: إن كانت الباغية من قلة العدد بحيث لا منعة لها ضمنت بعد الفيئة ما جنت، وإن كانت كثيرة ذات منعة وشوكة لم تضمن، إلا عند محمد بن الحسن رحمه الله فإنه كان يفتي بأن الضمان يلزمها إذا فاءت. وأما قبل التجمع والتجند أو حين تتفرق عند وضع الحرب أوزارها، فما جنته ضمنته عند الجميع. فحمل الإصلاح بالعدل في قوله: « فأصلحوا بينهما بالعدل » على مذهب محمد واضح منطبق على لفظ التنزيل. وعلى قول غيره وجهه أن يحمل على كون الفئة الباغية قليلة العدد. والذي ذكروا أن الغرض إماتة الضغائن وسل الأحقاد دون ضمان الجنايات، ليس بحسن الطباق المأمور به من أعمال العدل ومراعاة القسط. قال الزمخشري: فإن قلت: لم قرن بالإصلاح الثاني العدل دون الأول؟ قلت: لأن المراد بالاقتتال في أول الآية أن يقتتلا باغيتين أو راكبتي شبهة، وأيتهما كانت فالذي يجب على المسلمين أن يأخذوا به في شأنهما إصلاح ذات البين وتسكين الدهماء بإراءة الحق والمواعظ الشافية ونفي الشبهة، إلا إذا أصرتا فحينئذ تجب المقاتلة، وأما الضمان فلا يتجه. وليس كذلك إذا بغت إحداهما، فإن الضمان متجه على الوجهين المذكورين.

 

ولو تغلبوا ( أي البغاة ) على بلد فأخذوا الصدقات وأقاموا الحدود وحكموا فيهم بالأحكام، لم تثن عليهم الصدقات ولا الحدود، ولا ينقض من أحكامهم إلا ما كان خلافا للكتاب أو السنة أو الإجماع، كما تنقض أحكام أهل العدل والسنة، قال مطرف وابن الماجشون. وقال ابن القاسم: لا تجوز بحال. وروي عن أصبغ أنه جائز. وروي عنه أيضا أنه لا يجوز كقول ابن القاسم. وبه قال أبو حنيفة، لأنه عمل بغير حق ممن لا تجوز توليته. فلم يجز كما لو لم يكونوا بغاة. والعمدة لنا ما قدمناه من أن الصحابة رضي الله عنهم، لما أنجلت الفتنة وارتفع الخلاف بالهدنة والصلح، لم يعرضوا لأحد منهم في حكم. قال ابن العربي: الذي عندي أن ذلك لا يصلح، لأن الفتنة لما انجلت كان الإمام هو الباغي، ولم يكن هناك من يعترضه والله أعلم.

 

لا يجوز أن ينسب إلى أحد من الصحابة خطأ مقطوع به، إذ كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوه وأرادوا الله عز وجل، وهم كلهم لنا أئمة، وقد تعبدنا بالكف عما شجر بينهم، وألا نذكرهم إلا بأحسن الذكر، لحرمة الصحبة ولنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سبهم، وأن الله غفر لهم، وأخبر بالرضا عنهم. هذا مع ما قد ورد من الأخبار من طرق مختلفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن طلحة شهيد يمشي على وجه الأرض، فلو كان ما خرج إليه من الحرب عصيانا لم يكن بالقتل فيه شهيدا. وكذلك لو كان ما خرج إليه خطأ في التأويل وتقصيرا في الواجب عليه، لأن الشهادة لا تكون إلا بقتل في طاعة، فوجب حمل أمرهم على ما بيناه. ومما يدل على ذلك ما قد صح وانتشر من أخبار علي بأن قاتل الزبير في النار. وقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ بشر قاتل ابن صفية بالنار ] . وإذا كان كذلك فقد ثبت أن طلحة والزبير غير عاصيين ولا أثمين بالقتال، لأن ذلك لو كان كذلك لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في طلحة: [ شهيد ] . ولم يخبر أن قاتل الزبير في النار. وكذلك من قعد غير مخطئ في التأويل. بل صواب أراهم الله الاجتهاد. وإذا كان كذلك لم يوجب ذلك لعنهم والبراءة منهم وتفسيقهم، وإبطال فضائلهم وجهادهم، وعظيم غنائهم في الدين، رضي الله عنهم. وقد سئل بعضهم عن الدماء التي أريقت فيما بينهم فقال: « تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون » [ البقرة: 141 ] . وسئل بعضهم عنها أيضا فقال: تلك دماء طهر الله منها يدي، فلا أخضب بها لساني. يعني في التحرز من الوقوع في خطأ، والحكم على بعضهم بما لا يكون مصيبا فيه. قال ابن فورك: ومن أصحابنا من قال: إن سبيل ما جرت بين الصحابة من المنازعات كسبيل ما جرى بين إخوة يوسف مع يوسف، ثم إنهم لم يخرجوا بذلك عن حد الولاية والنبوة، فكذلك الأمر فيما جرى بين الصحابة. وقال المحاسبي: فأما الدماء فقد أشكل علينا القول فيها باختلافهم. وقد سئل الحسن البصري عن قتالهم فقال: قتال شهده أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وغبنا، وعلموا وجهلنا، واجتمعوا فاتبعنا، واختلفوا فوقفنا. قال المحاسبي: فنحن نقول كما قال الحسن، ونعلم أن القوم كانوا أعلم بما دخلوا فيه منا، ونتبع ما اجتمعوا عليه، ونقف عند ما اختلفوا فيه ولا نبتدع رأيا منا، ونعلم أنهم أجتهدوا وأرادوا الله عز وجل، إذ كانوا غير متهمين في الدين، ونسأل الله التوفيق.

 

الآية: 10 ( إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون )

 

قوله تعالى: « إنما المؤمنون إخوة » أي في الدين والحرمة لا في النسب، ولهذا قيل: أخوة الدين أثبت من أخوة النسب، فإن أخوة النسب تنقطع بمخالفة الدين، وأخوة الدين لا تنقطع بمخالفة النسب. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تناجشوا وكونوا عباد الله إخوانا ) . وفي رواية: ( لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ها هنا - ويشير إلى صدره ثلاث مرات - بحسب أمريء من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ) لفظ مسلم. وفي غير الصحيحين عن أبي هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يعيبه ولا يخذله ولا يتطاول عليه في البنيان فيستر عليه الريح إلا بإذنه ولا يؤذيه بقتار قدره إلا أن يغرف له غرفة ولا يشتري لبنيه الفاكهة فيخرجون بها إلى صبيان جاره ولا يطعمونهم منها ] . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ احفظوا ولابحفظ منكم إلا قليل ] .

 

قوله تعالى: « فأصلحوا بين أخويكم » أي بين كل مسلمين تخاصما. وقيل: بين الأوس والخزرج، على ما تقدم. وقال أبو علي: أراد بالأخوين الطائفتين، لأن لفظ التثنية يرد والمراد به الكثرة، كقوله تعالى: « بل يداه مبسوطتان » [ المائدة: 64 ] . وقال أبو عبيدة: أي أصلحوا بين كل أخوين، فهو آت على الجميع. وقرأ ابن سيرين ونصر بن عاصم وأبو العالية والجحدري ويعقوب « بين إخوتكم » بالتاء على الجمع. وقرأ الحسن « إخوانكم » . الباقون: « أخويكم » بالياء على التثنية.

 

في هذه الآية والتي قبلها دليل على أن البغي لا يزيل اسم الإيمان، لأن الله تعالى سماهم إخوة مؤمنين مع كونهم باغين. قال الحارث الأعور: سئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو القدوة عن قتال أهل البغي من أهل الجمل وصفين: أمشركون هم؟ قال: لا، من الشرك فروا. فقيل: أمنافقون؟ قال: لا، لأن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا. قيل له: فما حالهم؟ قال إخواننا بغوا علينا.

 

الآية: 11 ( يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون )

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم » قيل عند الله. وقيل « خيرا منهم » أي معتقدا وأسلم باطنا. والسخرية الاستهزاء. سخرت منه أسخر سخرا ( بالتحريك ) ومسخرا وسخرا ( بالضم ) . وحكى أبو زيد سخرت به، وهو أردأ اللغتين. وقال الأخفش: سخرت منه وسخرت به، وضحكت منه وضحكت به، وهزئت منه وهزئت به، كل يقال. والاسم السخرية والسخري، وقرئ بهما قوله تعالى: « ليتخذ بعضهم بعضا سخريا » [ الزخرف: 32 ] وقد تقدم. وفلان سخرة، يتسخر في العمل. يقال: خادم سخرة. ورجل سخرة أيضا يسخر منه. وسخرة ( بفتح الخاء ) يسخرمن الناس.

 

واختلف في سبب نزولها، فقال ابن عباس: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس كان في أذنه وقر، فإذا سبقوه الى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم أوسعوا له إذا أتى حتى يجلس إلى جنبه ليسمع ما يقول، فأقبل ذات يوم وقد فاتته من صلاة الفجر ركعة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم أخذ أصحابه مجالسهم منه، فربض كل رجل منهم بمجلسه، وعضوا فيه فلا يكاد يوسع أحد لأحد حتى يظل الرجل لا يجد مجلسا فيظل قائما، فلما انصرف ثابت من الصلاة تخطي رقاب الناس ويقول: تفسحوا تفسحوا، ففسحوا له حتى انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبينه وبينه رجل فقال له: تفسح. فقال له الرجل: قد وجدت مجلسا فأجلس فجلس ثابت من خلفه مغضبا، ثم قال: من هذا؟ قالوا فلان، فقال ثابت: ابن فلانة يعيره بها، يعني أما له في الجاهلية، فاستحيا الرجل، فنزلت. وقال الضحاك: نزلت في وفد بني تميم الذي تقدم ذكرهم في أول « السورة » استهزؤوا بفقراء الصحابة، مثل عمار وخباب وابن فهيرة وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة وغيرهم، لما رأوا من رثاثة حالهم، فنزلت في الذين آمنوا منهم. وقال مجاهد: هو سخرية الغني من الفقير. وقال ابن زيد: لا يسخر من ستر الله عليه ذنوبه ممن كشفه الله، فلعل إظهار ذنوبه في الدنيا خير له في الآخرة. وقيل: نزلت في عكرمة بن أبي جهل حين قدم المدينة مسلما، وكان المسلمون إذا رأوه قالوا ابن فرعون هذه الأمة. فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت.

وبالجملة فينبغي ألا يجتريء أحد على الاستهزاء بمن يقتحمه بعينه إذا رءاه رث الحال أو ذا عاهة في بدنه أو غير لبيق في محادثته، فلعله أخلص ضميرا وأنقى قلبا ممن هو على ضد صفته، فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله، والاستهزاء بمن عظمه الله. ولقد بلغ بالسلف إفراط توقيهم وتصونهم من ذلك أن قال عمرو بن شرحبيل: لو رأيت رجلا يرضع عنزا فضحكت منه لخشيت أن أصنع مثل الذي صنع. وعن عبدالله بن مسعود: البلاء موكل بالقول، لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلبا. و « قوم » في اللغة للمذكرين خاصة. قال زهير:

وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء

وسموا قوما لأنهم يقومون مع داعيهم في الشدائد. وقيل: إنه جمع قائم، ثم استعمل في كل جماعة وإن لم يكونوا قائمين. وقد يدخل في القوم النساء مجازا، وقد مضى في « البقرة » بيانه.

 

قوله تعالى: « ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن » أفرد النساء بالذكر لأن السخرية منهن أكثر. وقد قال الله تعالى: « إنا أرسلنا نوحا إلى قومه » [ نوج: 1 ] فشمل الجميع. قال المفسرون: نزلت في امرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم سخرتا من أم سلمة، وذلك أنها ربطت خصريها بسبيبة - وهو ثوب أبيض، ومثلها السب - وسدلت طرفيها خلفها فكانت تجرها، فقالت عائشة لحفصة رضي الله عنهما: انظري ما تجر خلفها كأنه لسان كلب، فهذه كانت سخريتهما. وقال أنس وابن زيد: نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم، عيرن أم سلمة بالقصر. وقيل: نزلت في عائشة، أشارت بيدها إلى أم سلمة، يا نبي الله إنها لقصيرة. وقال عكرمة عن ابن عباس: إن صفية بنت حيي بن أخطب أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن النساء يعيرنني، ويقلن لي يا يهودية بنت يهوديين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( هلا قلت إن أبي هارون وإن عمي موسى وإن زوجي محمد ) . فأنزل الله هذه الآية.

 

في صحيح الترمذي عن عائشة قالت: حكيت للنبي صلى الله عليه وسلم رجلا، فقال: [ ما يسرني أني حكيت رجلا وأن لي كذا وكذا ] . قالت فقلت: يا رسول الله، إن صفية امرأة - وقالت بيدها - هكذا، يعني أنها قصيرة. فقال: [ لقد مزجت بكلمة لو مزج بها البحر لمزج ] . وفي البخاري عن عبدالله بن زمعة قال: نهى النبى صلى الله عليه وسلم أن يضحك الرجل مما يخرج من الأنفس. وقال: [ لم يضرب أحدكم امرأته ضرب الفحل ثم لعله يعانقها ] . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ] . وهذا حديث عظيم يترتب عليه ألا يقطع بعيب أحد لما يرى عليه من صور أعمال الطاعة أو المخالفة، فلعل من يحافظ على الأعمال الظاهرة يعلم الله من قلبه وصفا مذموما لا تصح معه تلك الأعمال. ولعل من رأينا عليه تفريطا أو معصية يعلم الله من قلبه وصفا محمودا يغفر له بسببه. فالأعمال أمارات ظنية لا أدلة قطعية. ويترتب عليها عدم الغلو في تعظيم من رأينا عليه أفعالا صالحة، وعدم الاحتقار لمسلم رأينا عليه أفعالا سيئة. بل تحتقر وتذم تلك الحالة السيئة، لا تلك الذات المسيئة. فتدبر هذا، فإنه نظر دقيق، وبالله التوفيق.

 

قوله تعالى: « ولا تلمزوا أنفسكم » اللمز: العيب، وقد مضى في « التوبة » عند قوله تعالى: « ومنهم من يلمزك في الصدقات » [ التوبة: 58 ] . وقال الطبري: اللمز باليد والعين واللسان والإشارة. والهمز لا يكون إلا باللسان. وهذه الآية مثل قوله تعالى: « ولا تقتلوا أنفسكم » [ النساء: 29 ] أي لا يقتل بعضكم بعضا، لأن المؤمنين كنفس واحدة، فكأنه بقتل أخيه قاتل نفسه. وكقوله تعالى: « فسلموا على أنفسكم » [ النور: 61 ] يعني يسلم بعضكم على بعض. والمعنى: لا يعب بعضكم بعضا. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير: لا يطعن بعضكم على بعض. وقال الضحاك: لا يلعن بعضكم بعضا. وقرئ: « ولا تُلمزوا » بالضم. وفي قوله: « أنفسكم » تنبيه على أن العاقل لا يعيب نفسه، فلا ينبغي أن يعيب غيره لأنه كنفسه، قال صلى الله عليه وسلم: [ المؤمنون كجسد واحد إن اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ] . وقال بكر بن عبدالله المزني: إذا أردت أن تنظر العيوب جمة فتأمل عيابا، فإنه إنما يعيب الناس بفضل ما فيه من العيب. وقال صلى الله عليه وسلم: [ يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه ويدع الجذع في عينه ] وقيل: من سعادة المرء أن يشتغل بعيوب نفسه عن عيوب غيره. قال الشاعر:

المرء إن كان عاقلا ورعا أشغله عن عيوبه ورعه

كما السقيم المريض يشغله عن وجع الناس كلهم وجعه

وقال آخر:

لا تكشفن مساوي الناس ما ستروا فيهتك الله سترا عن مساويكا

واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ولا تعب أحدا منهم بما فيكا

 

قوله تعالى: « ولا تنابزوا بالألقاب » النبز ( بالتحريك ) اللقب، والجمع الأنباز. والنبز ( بالتسكين ) المصدر، تقول: نبزه ينبزه نبزا، أي لقبه. وفلان ينبز بالصبيان أي يلقبهم، شدد للكثرة. ويقال النبز والنزب لقب السوء. وتنابزوا بالألقاب: أي لقب بعضهم بعضا. وفي الترمذي عن أبي جبيرة بن الضحاك قال: كان الرجل منا يكون له الاسمين والثلاثة فيدعي ببعضها فعسى أن يكره، فنزلت هذه الآية: « ولا تنابزوا بالألقاب » . قال هذا حديث حسن. وأبو جبيرة هذا هو أخو ثابت بن الضحاك بن خليفة الأنصاري. وأبو زيد سعيد بن الربيع صاحب الهروي ثقة. وفي مصنف أبي داود عنه قال: فينا نزلت هذه الآية، في بني سلمة « ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان » قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس منا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يا فلان فيقولون مه يا رسول الله، إنه يغضب من هذا الاسم، فنزلت هذه الآية: « ولا تنابزوا بالألقاب » . فهذا قول. وقول ثان - قال الحسن ومجاهد: كان الرجل يعير بعد إسلامه بكفره يا يهودي يا نصراني، فنزلت. وروي عن قتادة وأبي العالية وعكرمة. وقال قتادة: هو قول الرجل للرجل يا فاسق يا منافق، وقاله مجاهد والحسن أيضا. « بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان » أي بئس أن يسمى الرجل كافرا أو زانيا بعد إسلامه وتوبته، قال ابن زيد. وقيل: المعنى أن من لقب أخاه أو سخر منه فهو فاسق. وفي الصحيح [ من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه ] . فمن فعل ما نهى الله عنه من السخرية والهمز والنبز فذلك فسوق وذلك لا يجوز. وقد روي أن أبا ذر رضي الله عنه كان عند النبي صلى الله عليه وسلم فنازعه رجل فقال له أبو ذر: يا ابن اليهودية فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ ما ترى ها هنا أحمر وأسود ما أنت بأفضل منه ] يعني بالتقوى، ونزلت: « ولا تنابزوا بالألقاب » . وقال ابن عباس: التنابز بالألقاب أن يكون الرجل قد عمل السيئات ثم تاب، فنهى الله أن يعير بما سلف. يدل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ من عير مؤمنا بذنب تاب منه كان حقا على الله أن يبتليه به ويفضحه فيه في الدنيا والآخرة ] .

 

وقع من ذلك مستثني من غلب عليه الاستعمال كالأعرج والأحدب ولم يكن له فيه كسب يجد في نفسه منه عليه، فجوزته الأمة وأتفق على قول أهل الملة. قال ابن العربي: وقد ورد لعمر الله من ذلك في كتبهم ما لا أرضاه في صالح جزرة، لأنه صحف « خرزة » فلقب بها. وكذلك قولهم في محمد بن سليمان الحضرمي: مطين، لأنه وقع في طين ونحو ذلك مما غلب على المتأخرين، ولا أراه سائغا في الدين. وقد كان موسى بن علي بن رباح المصري يقول: لا أجعل أحدا صغر اسم أبي في حل، وكان الغالب على اسمه التصغير بضم العين. والذي يضبط هذا كله: أن كل ما يكره الإنسان إذا نودي به فلا يجوز لأجل الأذية. والله أعلم.

قلت: وعلى هذا المعنى ترجم البخاري رحمه الله في ( كتاب الأدب ) من الجامع الصحيح. في ( باب ما يجوز من ذكر الناس نحو قولهم الطويل والقصير لا يراد به شين الرجل ) قال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ ما يقول ذو اليدين ] قال أبو عبدالله بن خويز منداد: تضمنت الآية المنع من تلقيب الإنسان بما يكره، ويجوز تلقيبه بما يحب، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لقب عمر بالفاروق، وأبا بكر بالصديق، وعثمان بذي النورين، وخزيمة بذي الشهادتين، وأبا هريرة بذي الشمالين وبذي اليدين، في أشباه ذلك. الزمخشري: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم [ من حق المؤمن على المؤمن أن يسميه بأحب أسمائه إليه ] . ولهذا كانت التكنية من السنة والأدب الحسن، قال عمر رضي الله عنه: أشيعوا الكني فإنها منبهة. ولقد لقب أبو بكر بالعتيق والصديق، وعمر بالفاروق، وحمزة بأسد الله، وخالد بسيف الله. وقل من المشاهير في الجاهلية والإسلام من ليس له لقب. ولم تزل هذه الألقاب الحسنة في الأمم كلها - من العرب والعجم - تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم من غير نكير. قال الماوردي: فأما مستحب الألقاب ومستحسنها فلا يكره. وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم عددا من أصحابه بأوصاف صارت لهم من أجل الألقاب.

قلت: فأما ما يكون ظاهرها الكراهة إذا أريد بها الصفة لا العيب فذلك كثير. وقد سئل عبدالله بن المبارك عن الرجل يقول: حُميد الطويل، وسليمان الأعمش، وحُميد الأعرج، ومروان الأصغر، فقال: إذا أردت صفته ولم ترد عيبه فلا بأس به. وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن سرجس قال: رأيت الأصلع - يعني عمر - يقبل الحجر. في رواية الأصيلع.

 

قوله تعالى: « ومن لم يتب » أي عن هذه الألقاب التي يتأذى بها السامعون. « فأولئك هم الظالمون » لأنفسهم بارتكاب هذه المناهي.

 

الآية: 12 ( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم )

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن » قيل: إنها نزلت في رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اغتابا رفيقهما. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر ضم الرجل المحتاج إلى الرجلين الموسرين فيخدمهما. فضم سلمان إلى رجلين، فتقدم سلمان إلى المنزل فغلبته عيناه فنام ولم يهيئ لهما شيئا، فجاءا فلم يجدا طعاما وإداما، فقالا له: انطلق فاطلب لنا من النبي صلى الله عليه وسلم طعاما وإداما، فذهب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( اذهب إلى أسامة بن زيد فقل له إن كان عندك فضل من طعام فليعطك ) وكان أسامة خازن النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب إليه، فقال أسامة: ما عندي شيء، فرجع إليهما فأخبرهما، فقالا: قد كان عنده ولكنه بخل. ثم بعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة فلم يجد عندهم شيئا، فقالا: لو بعثنا سلمان إلى بئر سُمَيحة لغار ماؤها. ثم انطلقا يتجسسان هل عند أسامة شيء، فرآهما النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما ) فقالا: يا نبي الله، والله ما أكلنا في يومنا هذا لحما ولا غيره. فقال: ( ولكنكما ظلتما تأكلان لحم سلمان وأسامة ) فنزلت: « يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم » ذكره الثعلبي. أي لا تظنوا بأهل الخير سوءا إن كنتم تعلمون من ظاهر أمرهم الخير.

 

ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ) لفظ البخاري. قال علماؤنا: فالظن هنا وفي الآية هو التهمة. ومحل التحذير والنهي إنما هو تهمة لا سبب لها يوجبها، كمن يتهم بالفاحشة أو بشرب الخمر مثلا ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك. ودليل كون الظن هنا بمعنى التهمة قوله تعالى: « ولا تجسسوا » وذلك أنه قد يقع له خاطر التهمة ابتداء ويريد أن يتجسس خبر ذلك ويبحث عنه، ويتبصر ويستمع لتحقيق ما وقع له من تلك التهمة. فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وإن شئت قلت: والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها، أن كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر كان حراما واجب الاجتناب. وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والعلاج، وأونست منه الأمانة في الظاهر، فظن الفساد به والخيانة محرم، بخلاف من أشتهره الناس بتعاطي الريب والمجاهرة بالخبائث. وعن النبي صلى الله عليه وسلم ( إن الله حرم من المسلم دمه وعرضه وأن يظن به ظن السوء ) . وعن الحسن: كنا في زمن الظن بالناس فيه حرام، وأنت اليوم في زمن اعمل واسكت وظن في الناس ما شئت.

 

وللظن حالتان: حالة تعرف وتقوى بوجه من وجوه الأدلة فيجوز الحكم بها، وأكثر أحكام الشريعة مبنية على غلبة الظن، كالقياس وخبر الواحد وغير ذلك من قيم المتلفات وأروش الجنايات. والحالة الثانيه: أن يقع في النفس شيء من غير دلالة فلا يكون ذلك أولى من ضده، فهذا هو الشك، فلا يجوز الحكم به، وهو المنهي عنه على ما قررناه آنفا. وقد أنكرت جماعة من المبتدعة تعبدالله بالظن وجواز العمل به، تحكما في الدين ودعوى في المعقول. وليس في ذلك أصل يعول عليه، فإن البارئ تعالى لم يذم جميعه، وإنما أورد الذم في بعضه. وربما تعلقوا بحديث أبي هريرة ( إياكم والظن ) فإن هذا لا حجة فيه، لأن الظن في الشريعة قسمان: محمود ومذموم، فالمحمود منه ما سلم معه دين الظان والمظنون به عند بلوغه. والمذموم ضده، بدلالة قوله تعالى: « إن بعض الظن إثم » ، وقوله: « لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا » [ النور: 12 ] ، وقوله: « وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا » [ الفتح: 12 ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا كان أحدكم مادحا أخاه فليقل أحسب كذا ولا أزكي على الله أحدا ) . وقال: ( إذا ظننت فلا تحقق وإذا حسدت فلا تبغ وإذا تطيرت فامض ) خرجه أبو داود. وأكثر العلماء على أن الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز، وأنه لا حرج في الظن القبيح بمن ظاهره القبيح، قاله المهدوي.

 

قوله تعالى: « ولا تجسسوا » قرأ أبو رجاء والحسن باختلاف وغيرهما « ولا تحسسوا » بالحاء. واختلف هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين، فقال الأخفش: ليس تبعد إحداهما من الأخرى، لأن التجسس البحث عما يكتم عنك. والتحسس ( بالحاء ) طلب الأخبار والبحث عنها. وقيل: إن التجسس ( بالجيم ) هو البحث، ومنه قيل: رجل جاسوس إذا كان يبحث عن الأمور. وبالحاء: هو ما أدركه الإنسان ببعض حواسه. وقول ثان في الفرق: أنه بالحاء تطلبه لنفسه، وبالجيم أن يكون رسولا لغيره، قال ثعلب. والأول أعرف. جسست الأخبار وتجسستها أي تفحصت عنها، ومنه الجاسوس. ومعنى الآية: خذوا ما ظهر ولا تتبعوا عورات المسلمين، أي لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه حتى يطلع عليه بعد أن ستره الله. وفي كتاب أبى داود عن معاوية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم ) فقال أبو الدرداء: كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعه الله تعالى بها. وعن المقدام بن معد يكرب عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم ) . وعن زيد بن وهب قال: أتي ابن مسعود فقيل: هذا فلان تقطر لحيته خمرا. فقال عبدالله: إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به. وعن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته ) . وقال عبدالرحمن بن عوف: حرست ليلة مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالمدينة إذ تبين لنا سراج في بيت بابه مجاف على قوم لهم أصوات مرتفعة ولغط، فقال عمر: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف، وهم الآن شرب فما ترى !؟ قلت: أرى أنا قد أتينا ما نهى الله عنه، قال الله تعالى: « ولا تجسسوا » وقد تجسسنا، فانصرف عمر وتركهم. وقال أبو قلابة: حدث عمر بن الخطاب أن أبا محجن الثقفي يشرب الخمر مع أصحاب له في بيته، فانطلق عمر حتى دخل عليه، فإذا ليس عنده إلا رجل، فقال أبو محجن: إن هذا لا يحل لك قد نهاك الله عن التجسس، فخرج عمر وتركه. وقال زيد بن أسلم: خرج عمر وعبدالرحمن يعسان، إذ تبينت لهما نار فاستأذنا ففتح الباب، فإذا رجل وامرأة تغني وعلى يد الرجل قدح، فقال عمر: وأنت بهذا يا فلان؟ فقال: وأنت بهذا يا أمير المؤمنين! قال عمر: فمن هذه منك؟ قال امرأتي، قال فما في هذا القدح؟ قال ماء زلال، فقال للمرأة: وما الذي تغنين؟ فقالت:

تطاول هذا الليل واسود جانبه وأرقني أن لا خليل ألاعبه

فوالله لولا الله أني أراقبه لزعزع من هذا السرير جوانبه

ولكن عقلي والحياء يكفني وأ كرم بعلي أن تنال مراكبه

ثم قال الرجل: ما بهذا أمرنا يا أمير المؤمنين قال الله تعالى: « ولا تجسسوا » . قال صدقت.

قلت: لا يفهم من هذا الخبر أن المرأة كانت غير زوجة الرجل، لأن عمر لا يقر على الزنى، وإنما غنت بتلك الأبيات تذكارا لزوجها، وأنها قالتها في مغيبه عنها. والله أعلم. وقال عمرو بن دينار: كان رجل من أهل المدينة له أخت فاشتكت، فكان يعودها فماتت فدفنها. فكان هو الذي نزل في قبرها، فسقط من كمه كيس فيه دنانير، فاستعان ببعض أهله فنبشوا قبرها فأخذ الكيس ثم قال: لأكشفن حتى أنظر ما آل حال أختي إليه، فكشف عنها فإذا القبر مشتعل نارا، فجاء إلى أمه فقال: أخبريني ما كان عمل أختي؟ فقالت: قد ماتت أختك فما سؤالك عن عملها فلم يزل بها حتى قالت له: كان من عملها أنها كانت تؤخر الصلاة عن مواقيتها، وكانت إذا نام الجيران قامت إلى بيوتهم فألقمت أذنها أبوابهم، فتجسس عليهم وتخرج أسرارهم، فقال: بهذا هلكت

 

قوله تعالى: « ولا يغتب بعضكم بعضا » نهى عز وجل عن الغيبة، وهي أن تذكر الرجل بما فيه، فإن ذكرته بما ليس فيه فهو البهتان. ثبت معناه في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أتدرون ما الغيبة ) ؟ قالوا: الله ورسول أعلم. قال: ( ذكرك أخاك بما يكره ) قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: ( إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته ) . يقال: اغتابه اغتيابا إذا وقع فيه، والاسم الغيبة، وهي ذكر العيب بظهر الغيب. قال الحسن: الغيبة ثلاثة أوجه كلها في كتاب الله تعالى: الغيبة والإفك والبهتان. فأما الغيبة فهو أن تقول في أخيك ما هو فيه. وأما الإفك فأن تقول فيه ما بلغك عنه. وأما البهتان فأن تقول فيه ما ليس فيه. وعن شعبة قال: قال لي معاومة - يعني ابن قرة - : لو مر بك رجل أقطع، فقلت هذا أقطع كان غيبة. قال شعبة: فذكرته لأبي إسحاق فقال صدق. وروى أبو هريرة أن الأسلمي ما عزا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشهد على نفسه بالزنى فرجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم رجلين من أصحابه يقول أحدهما للآخر: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب، فسكت عنهما. ثم سار ساعة حتى مر بجيفة حمار شائل برجله فقال: ( أين فلان وفلان ) ؟ فقالا: نحن ذا يا رسول الله، قال: ( انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار ) فقالا: يا نبي الله ومن يأكل من هذا ! قال: ( فما نلتما من عرض أخيكما أشد من الأكل منه والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها ) .

 

قوله تعالى: « أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا » مثل الله الغيبة بأكل الميتة، لأن الميت لا يعلم بأكل لحمه كما أن الحي لا يعلم بغيبة من اغتابه. وقال ابن عباس: إنما ضرب الله هذا المثل للغيبة لأن أكل لحم الميت حرام مستقذر، وكذا الغيبة حرام في الدين وقبيح في النفوس. وقال قتادة: كما يمتنع أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا كذلك يجب أن يمتنع من غيبته حيا. واستعمل أكل اللحم مكان الغيبة لأن عادة العرب بذلك جارية. قال الشاعر:

فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا

وقال صلى الله عليه وسلم: ( ما صام من ظل يأكل لحوم الناس ) . فشبه الوقيعة في الناس بأكل لحومهم. فمن تنقص مسلما أو ثلم عرضه فهو كالآكل لحمه حيا، ومن اغتابه فهو كالآكل لحمه ميتا. وفي كتاب أبي داود عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم ) . وعن المستورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من أكل برجل مسلم أكلة فإن الله يطعمه مثلها من جهنم ومن كسي ثوبا برجل مسلم فإن الله يكسوه مثله من جهنم ومن أقام برجل مقام سمعة ورياء فإن الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة ) . وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: ( يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ) . وقوله للرجلين: ( ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما ) . وقال أبو قلابة الرقاشي: سمعت أبا عاصم يقول: ما اغتبت أحدا مذ عرفت ما في الغيبة. وكان ميمون بن سياه لا يغتاب أحدا، ولا يدع أحدا يغتاب أحدا عنده، ينهاه فإن انتهى وإلا قام. وذكر الثعلبي من حديث أبي هريرة قال: قام رجل من عند النبي صلى الله عليه وسلم فرأوا في قيامه عجزا فقالوا: يا رسول الله ما أعجز فلانا فقال: ( أكلتم لحم أخيكم وأغتبتموه ) . وعن سفيان الثوري قال: أدني الغيبة أن تقول إن فلانا جعد قطط، إلا أنه يكره ذلك. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إياكم وذكر الناس فإنه داء، وعليكم بذكر الله فإنه شفاء. وسمع علي بن الحسين رضي الله عنهما رجلا يغتاب آخر، فقال: إياك والغيبة فإنها إدام كلاب الناس. وقيل لعمرو بن عبيد: لقد وقع فيك فلان حتى رحمناك، قال: إياه فارحموا. وقال رجل للحسن: بلغني أنك تغتابني فقال: لم يبلغ قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي.

 

ذهب قوم إلى أن الغيبة لا تكون إلا في الدين ولا تكون في الخلقة والحسب. وقالوا: ذلك فعل الله به. وذهب آخرون إلى عكس هذا فقالوا: لا تكون الغيبة إلا في الخَلْق والخُلُق والحسب. والغيبة في الخلق أشد، لأن من عيب صنعة فإنما عيب صانعها. وهذا كله مردود. أما الأول فيرده حديث عائشة حين قالت في صفية: إنها امرأة قصيرة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ( لقد قلت كلمة لو مزج بها البحر لمزجته ) . خرجه أبو داود. وقال فيه الترمذي: حديث حسن صحيح، وما كان في معناه حسب ما تقدم. وإجماع العلماء قديما على أن ذلك غيبة إذا أريد به العيب. وأما الثاني فمردود أيضا عند جميع العلماء، لأن العلماء من أول الدهر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين بعدهم لم تكن الغيبة عندهم في شيء أعظم من الغيبة في الدين، لأن عيب الدين أعظم العيب، فكل مؤمن يكره أن يذكر في دينه أشد مما يكره في بدنه. وكفى ردا لمن قال هذا القول قول عليه السلام: ( إذا قلت في أخيك ما يكره فقد أغتبته... ) الحديث. فمن زعم أن ذلك ليس بغيبة فقد رد ما قال النبي صلى الله عليه وسلم نصا. وكفى بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( دماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ) وذلك عام للدين والدنيا. وقول النبي: ( من كانت عنده لأخيه مظلمة في عرضه أو ماله فليتحلله منه ) . فعم كل عرض، فمن خص من ذلك شيئا دون شيء فقد عارض ما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

 

لا خلاف أن الغيبة من الكبائر، وأن من اغتاب أحدا عليه أن يتوب إلى الله عز وجل. وهل يستحل المغتاب؟ اختلف فيه، فقالت فرقة: ليس عليه استحلاله، وإنما هي خطيئة بينه وبين ربه. واحتجت بأنه لم يأخذ من ماله ولا أصاب من بدنه ما ينقصه، فليس ذلك بمظلمة يستحلها منه، وإنما المظلمة ما يكون منه البدل والعوض في المال والبدن. وقال فرقة: هي مظلمة، وكفارتها الاستغفار لصاحبها الذي اغتابه. واحتجت بحديث يروي عن الحسن قال: كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته. وقالت فرقة: هي مظلمة وعليه الاستحلال منها. واحتجت بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض أو مال فليتحلله منه من قبل أن يأتي يوم ليس هناك دينار ولا درهم يؤخذ من حسناته فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فزيد على سيئاته ) . خرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال وسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون له دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه ) . وقد تقدم هذا المعنى في سورة « آل عمران » عند قوله تعالى: « ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء » [ آل عمران: 169 ] . وقد روي من حديث عائشة أن امرأة دخلت عليها فلما قامت قالت امرأة: ما أطول ذيلها فقالت لها عائشة: لقد اغتبتيها فاستحليها. فدلت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها مظلمة يجب على المغتاب استحلالها. وأما قول من قال: إنما الغيبة في المال والبدن، فقد أجمعت العلماء على أن على القاذف للمقذوف مظلمة يأخذه بالحد حتى يقيمه عليه، وذلك ليس في البدن ولا في المال، ففي ذلك دليل على أن الظلم في العرض والبدن والمال، وقد قال الله تعالى في القاذف: « فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون » [ النور: 13 ] . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ من بهت مؤمنا بما ليس فيه حبسه الله في طينة الخبال ] . وذلك كله في غير المال والبدن. وأما من قال: إنها مظلمة، وكفارة المظلمة أن يستغفر لصاحبها، فقد ناقض إذ سماها مظلمة ثم قال: كفارتها أن يستغفر لصاحبها، لأن قول مظلمة تثبت ظلامة المظلوم، فإذا ثبتت الظلامة لم يزلها عن الظالم إلا إحلال المظلوم له. وأما قول الحسن فليس بحجة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ من كانت له عند أخيه مظلمة في عرض أو مال فليتحللها منه ] . وقد ذهب بعضهم إلى ترك التحليل لمن سأله، ورأى أنه لا يحل ما حرم الله عليه، منهم سعيد بن المسيب قال: لا أحلل من ظلمني. وقيل لابن سيرين: يا أبا بكر، هذا رجل سألك أن تحلله من مظلمة هي لك عنده، فقال: إني لم أحرمها عليه فأحلها، إن الله حرم الغيبة عليه، وماكنت لأحل ما حرم الله عليه أبدا. وخبر النبي صلى الله عليه وسلم يدل على التحليل، وهو الحجة والمبين. والتحليل يدل على الرحمة وهو من وجه العفو، وقد قال تعالى: « فمن عفا وأصلح فأجره على الله » [ الشوري: 40 ] .

 

ليس من هذا الباب غيبة الفاسق المعلن به المجاهر، فإن في الخبر [ من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له ] . وقال صلى الله عليه وسلم: [ اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس ] . فالغيبة إذا في المرء الذي يستر نفسه. وروي عن الحسن أنه قال: ثلاثة ليس لهم حرمة: صاحب الهوي، والفاسق المعان، والإمام الجائر. وقال الحسن لما مات الحجاج: اللهم أنت أمته فاقطع عنا سنته - وفي رواية شينه - فإنه أتانا أخيفش أعيمش، يمد بيد قصيرة البنان، والله ما عرق فيها غبار في سبيل الله، يرجل جمته ويخطر في مشيته، ويصعد المنبر فيهدر حتى تفوته الصلاة. لا من الله يتقي، ولا من الناس يستحي، فوقه الله وتحته مائة ألف أو يزيدون، لا يقول له قائل: الصلاة أيها الرجل. ثم يقول الحسن: هيهات ! حال دون ذلك السيف والسوط. وروى الربيع بن صبيح عن الحسن قال: ليس لأهل البدع غيبة. وكذلك قولك للقاضي تستعين به على أخذ حقك ممن ظلمك فتقول فلان ظلمني أو غضبني أو خانني أو ضربني أو قذفني أو أساء إلي، ليس بغيبة. وعلماء الأمة على ذلك مجمعة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك: [ لصاحب الحق مقال ] . وقال: [ مطل الغني ظلم ] وقال ] [ لي الواجد يحل عرضه وعقوبته ] . ومن ذلك الاستفتاء، كقول هند للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني أنا وولدي، فآخذ من غير علمه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ نعم فخذي ] . فذكرته بالشح والظلم لها ولولدها، ولم يرها مغتابة، لأنه لم يغير عليها، بل أجابها عليه الصلاة والسلام بالفتيا لها. وكذلك إذا كان في ذكره بالسوء فائدة، كقوله صلى الله عليه وسلم: [ أما معاوية فصعلوك لا مال له وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه ] . فهذا جائز، وكان مقصوده ألا تغتر فاطمة بنت قيس بهما. قال جميعه المحاسبي رحمه الله.

 

قوله تعالى: « ميتا » وقريء « ميتا » وهو نصب على الحال من اللحم. ويجوز أن ينصب على الأخ، ولما قررهم عز وجل بأن أحدا منهم لا يجب أكل جيفة أخيه عقب ذلك بقوله تعالى: « فكرهتموه » وفيه وجهان: أحدهما: فكرهتم أكل الميتة فكذلك فاكرهوا الغيبة، روي معناه عن مجاهد. الثاني: فكرهتم أن يغتابكم الناس فاكرهوا غيبة الناس. وقال الفراء: أي فقد كرهتموه فلا تفعلوه. وقيل: لفظه خبر ومعناه أمر، أي اكرهوه. « واتقوا الله » عطف عليه. وقيل: عطف على قوله: « اجتنبوا. ولا تجسسوا » . « إن الله تواب رحيم » .

 

الآية: 13 ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير )

 

قوله تعالى: « يا أيها الناس إنا خلقناكم بن ذكر وأنثى » يعني آدم وحواء. ونزلت الآية في أبي هند، ذكره أبو داود في ( المراسيل ) ، حدثنا عمرو بن عثمان وكثير بن عبيد قالا حدثنا بقية بن الوليد قال حدثني الزهري قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: نزوج بناتنا موالينا؟ فأنزل الله عز وجل: « إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا » الآية. قال الزهري: نزلت في أبي هند خاصة. وقيل: إنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس. وقوله في الرجل الذي لم يتفسح له: ابن فلانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ من الذاكر فلانة ] ؟ قال ثابت: أنا يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ انظر في وجوه القوم ] فنظر، فقال: [ ما رأيت ] ؟ قال رأيت أبيض وأسود وأحمر، فقال: [ فإنك لا تفضلهم إلا بالتقوى ] فنزلت في ثابت هذه الآية. ونزلت في الرجل الذي لم يتفسح له: « يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس » [ المجادلة: 11 ] الآية. قال ابن عباس: لما كان يوم فتح مكة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالا حتى علا على ظهر الكعبة فأذن، فقال عتاب بن أسيد بن أبي العيص: الحمد لله الذي قبض أبي حتى لا يرى هذا اليوم. قال الحارث بن هشام: ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا. وقال سهيل بن عمرو: إن يرد الله شيئا يغيره. وقال أبو سفيان: إني لا أقول شيئا أخاف أن يخبر به رب السماء، فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما قالوا، فدعاهم وسألهم عما قالوا فأقروا، فأنزل الله تعالى هذه الآية. زجرهم عن التفاخر بالأنساب، والتكاثر بالأموال، والازدراء بالفقراء، فإن المدار على التقوى. أي الجميع من آدم وحواء، إنما الفضل بالتقوى. وفي الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب بمكة فقال: ( يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعاظمها بآبائها. فالناس رجلان: رجل بر تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله. والناس بنو آدم وخلق الله آدم من تراب قال الله تعالى: « يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير » ) . خرجه من حديث عبدالله بن جعفر والد علي بن المديني وهو ضعيف، ضعفه يحيى بن معين وغيره. وقد خرج الطبري في كتاب ( آداب النفوس ) وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا إسماعيل قال حدثنا سعيد الجريري عن أبي نضرة قال: حدثني أو حدثنا من شهد خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى في وسط أيام التشريق وهو على بعير فقال: [ أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا عجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى ألا هل بلغت؟ - قالوا نعم قال - ليبلغ الشاهد الغائب ] . وفيه عن أبو مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ إن الله لا ينظر إلى أحسابكم ولا إلى أنسابكم ولا إلى أجسامكم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم فمن كان له قلب صالح تحنن الله عليه وإنما أنتم بنو آدم وأحبكم إليه أتقاكم ] . ولعلي رضي الله عنه في هذا المعنى وهو مشهور من شعره:

الناس من جهة التمثيل أكفاء أبوهم آدم والأم حواء

نفس كنفس وأرواح مشاكلة وأعظم خلقت فيهم وأعضاء

فإن يكن لهم من أصلهم حسب يفاخرون به فالطين والماء

ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدىأدلاء

وقدر كل امرئ ما كان يحسنه وللرجال على الأفعال سيماء

وضد كل امرئ ما كان يجهله والجاهلون لأهل العلم أعداء

 

بين الله تعالى في هذه الآية أنه خلق الخلق من الذكر والأنثى، وكذلك في أول سورة « النساء » . ولو شاء لخلقه دونهما كخلقه لآدم، أو دون ذكر كخلقه لعيسى عليه السلام، أو دون أنثى كخلقه حواء من إحدى الجهتين. وهذا الجائز في القدرة لم يرد به الوجود. وقد جاء أن آدم خلق الله منه حواء من ضلع انتزعها من أضلاعه، فلعله هذا القسم، قاله ابن العربي.

 

خلق الله الخلق بين الذكر والأنثى أنسابا وأصهارا وقبائل وشعوبا، وخلق لهم منها التعارف، وجعل لهم بها التواصل للحكمة التي قدرها وهو أعلم بها، فصار كل أحد يحوز نسبه، فإذا نفاه رجل عنه استوجب الحد بقذفه، مثل أن ينفيه عن رهطه وحسبه، بقول للعربي: يا عجمي، وللعجمي: يا عربي، ونحو ذلك مما يقع به النفي حقيقة. انتهى.

 

ذهب قوم من الأوائل إلى أن الجنين إنما يكون من ماء الرجل وحده، ويتربى في رحم الأم، ويستمد من الدم الذي يكون فيه. واحتجوا بقوله تعالى: « ألم نخلقكم من ماء مهين. فجعلناه في قرار مكين » [ المرسلات: 21 ] . وقوله تعالى: « ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين » [ السجدة:8 ] . وقوله: « ألم يك نطفة من مني يمنى » [ القيامة:37 ] . فدل على أن الخلق من ماء واحد. والصحيح أن الخلق إنما يكون من ماء الرجل والمرأة لهذه الآية، فإنها نص لا يحتمل التأويل. وقوله تعال: « خلق من ماء دافق. يخرج من بين الصلب والترائب » [ الطارق: 6 ] والمراد منه أصلاب الرجال وترائب النساء، على ما يأتي بيانه. وأما ما احتجوا به فليس فيه أكثر من أن الله تعالى ذكر خلق الإنسان من الماء والسلالة والنطفة ولم يضفها إلى أحد الأبوين دون الآخر. فدل على أن الماء والسلالة لهما والنطفة منهما بدلالة ما ذكرنا. وبأن المرأة تمني كما يمني الرجل، وعن ذلك يكون الشبه، حسب ما تقدم بيانه في آخر « الشورى » . وقد قال في قصة نوج: « فالتقى الماء على أمر قد قدر » [ القمر: 12 ] وإنما أراد ماء السماء وماء الأرض، لأن الالتقاء لا يكون إلا من أثنين، فلا ينكر أن يكون « ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين » [ السجدة:8 ] . وقوله تعالى: « ألم نخلقكم من ماء مهين » [ المرسلات: 21 ] ويريد ماءين. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا » الشعوب رؤوس القبائل، مثل ربيعة ومضر والأوس والخزرج، وأحدها شَعْب بفتح الشين، سموا به لتشعبهم واجتماعهم كشعب أغصان الشجرة. والشعب من الأضداد، يقال شعبته إذا جمعته، ومنه المشعب ( بكسر الميم ) وهو الإشفي، لأنه يجمع به ويشعب. قال:

فكاب على حر الجبين ومتق بمدرية كأنه ذلق مشعب

وشعبته إذا فرقته، ومنه سميت المنية شعوبا لأنها مفرقة. فأما الشعب ( بالكسر ) فهو الطريق في الجبل، والجمع الشعاب. قال الجوهري: الشعب: ما تشعب من قبائل العرب والعجم، والجمع الشعوب. والشعوبية: فرقة لا تفضل العرب على العجم. وأما الذي في الحديث: أن رجلا من الشعوب أسلم، فإنه يعني من العجم. والشعب: القبيلة العظيمة، وهو أبو القبائل الذي ينسبون إليه، أي يجمعهم ويضمهم. قال ابن عباس: الشعوب الجمهور، مثل مضر. والقبائل الأفخاذ. وقال مجاهد: الشعوب البعيد من النسب، والقبائل دون ذلك. وعنه أيضا أن الشعوب النسب الأقرب. وقال قتادة. ذكر الأول عنه المهدوي، والثاني الماوردي. قال الشاعر:

رأيت سعودا من شعوب كثيرة فلم أر سعدا مثل سعد بن مالك

وقال آخر:

قبائل من شعوب ليس فيهم كريم قد يعد ولا نجيب

وقيل: إن الشعوب عرب اليمن من قحطان، والقبائل من ربيعة ومضر وسائر عدنان. وقيل: إن الشعوب بطون العجم، والقبائل بطون العرب. وقال ابن عباس في رواية: إن الشعوب الموالي، والقبائل العرب. قال القشيري: وعلى هذا فالشعوب من لا يعرف لهم أصل نسب كالهند والجبل والترك، والقبائل من العرب. الماوردي: ويحتمل أن الشعوب هم المضافون إلى النواحي والشعاب، والقبائل هم المشركون في الأنساب. قال الشاعر:

وتفرقوا شعبا فكل جزيرة فيها أمير المؤمنين ومنبر

وحكى أبو عبيد عن ابن الكلبي عن أبيه: الشعب أكبر من القبيلة ثم الفصيلة ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ. وقيل: الشعب ثم القبيلة ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ ثم الفصيلة ثم العشيرة، وقد نظمها بعض الأدباء فقال:

اقصد الشعب فهو أكثر حي عددا في الحواء ثم القبيله

ثم تتلوها العمارة ثم الـ ـبطن والفخذ بعدها والفصيله

ثم من بعدها العشيرة لكن هي في جنب ما ذكرناه قليله

وقال آخر:

قبيلة قبلها شعب وبعدهما عمارة ثم بطن تلوه فجذ

وليس يؤوي الفتى إلا فصيلته ولا سداد لسهم ماله قذذ

 

قوله تعالى: « إن أكرمكم عند الله أتقاكم » وقد تقدم في سورة « الزخرف » عند قوله تعالى: « وإنه لذكر لك ولقومك » [ الزخرف: 44 ] . وفي هذه الآية ما يدلك على أن التقوى هي المراعى عند الله تعالى وعند رسوله دون الحسب والنسب. وقريء « أن » بالفتح. كأنه قيل: لم يتفاخر بالأنساب؟ قيل: لأن أكرمكم عند الله أتقاكم لا أنسبكم. وفي الترمذي عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الحسب المال والكرم التقوى ) . قال: هذا حديث حسن غريب صحيح. وذلك يرجع إلى قوله تعالى: « إن أكرمكم عند الله أتقاكم » ، وقد جاء منصوصا عنه عليه السلام: ( من أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله ) . والتقوى معناه مراعاة حدود الله تعالى أمرا ونهيا، والاتصاف بما أمرك أن تتصف به، والتنزه عما نهاك عنه. وقد مضى هذا في غير موضع. وفي الخبر من رواية أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله تعالى يقول يوم القيامة إني جعلت نسبا وجعلتم نسبا فجعلت أكرمكم أتقاكم وأبيتم إلا أن تقولوا فلان ابن فلان وأنا اليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم أين المتقون أين المتقون ) . وروى الطبري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أوليائي المتقون يوم القيامة وإن كان نسب أقرب من نسب. يأتي الناس بالأعمال وتأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم تقولون يا محمد فأقول هكذا وهكذا ) . وأعرض في كل عطفيه. وفي صحيح مسلم من حديث عبدالله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جهارا غير سر يقول: ( إن آل أبي ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين ) . وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: من أكرم الناس؟ فقال: ( يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ) قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: ( فأكرمهم عند الله أتقاهم ) فقالوا: ليس عن هذا نسألك، فقال: ( عن معادن العرب؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا ) وأنشدوا في ذلك:

ما يصنع العبد بعز الغني والعز كل العز للمتقي

من عرف الله فلم تغنه معرفة الله فذاك الشقي

 

ذكر الطبري حدثني عمر بن محمد قال حدثنا عبيد بن إسحاق العطار قال حدثنا مندل بن علي عن ثور بن يزيد عن سالم بن أبي الجعد قال: تزوج رجل من الأنصار امرأة فطُعِن عليها في حسبها، فقال الرجل: إني لم أتزوجها لحسبها إنما تزوجتها لدينها وخلقها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما يضرك ألا تكون من آل حاجب بن زرارة ) . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله تبارك وتعالى جاء بالإسلام فرفع به الخسيسة وأتم به الناقصة وأذهب به اللوم فلا لوم على مسلم إنما اللوم لوم الجاهلية ) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي ) ولذلك كان أكرم البشر على الله تعالى. قال ابن العربي: وهذا الذي لحظ مالك في الكفاءة في النكاح. روى عبدالله عن مالك: يتزوج المولى العربية، واحتج بهذه الآية. وقال أبو حنيفة والشافعي: يراعى الحسب والمال. وفي الصحيح عن عائشة أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة - وكان ممن شهد بدرا مع النبي صلى الله عليه وسلم - تبني سالما وأنكحه هندا بنت أخيه الوليد بن عتبة بن ربيعة، وهو مولى لامرأة من الأنصار. وضباعة بنت الزبير كانت تحت المقداد بن الأسود.

قلت: وأخت عبدالرحمن بن عوف كانت تحت بلال. وزينب بنت جحش كانت تحت زيد بن حارثة. فدل على جواز نكاح الموالي العربية، وإنما تراعى الكفاءة في الدين. والدليل عليه أيضا ما روى سهل بن سعد في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه رجل فقال: ( ما تقولون في هذا ) ؟ فقالوا: حَري إن خطب أن يُنكَح، وإن شفع أن يُشْفَّع وإن قال أن يُسْمَع. قال: ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين فقال: ( ما تقولون في هذا ) قالوا: حري إن خطب ألا يُنْكَح، وإن شفع ألا يُشَفّع، وإن قال ألا يُسمَع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( هذا خير من ملء الأرض مثل هذا ) . وقال صلى الله عليه وسلم: ( تنكح المرأة لمالها وجمالها ودينها - وفي رواية - ولحسبها فعليك بذات الدين تربت يداك ) . وقد خطب سلمان إلى أبي بكر ابنته فأجابه، وخطب إلى عمر ابنته فالتوى عليه، ثم سأله أن ينكحها فلم يفعل سلمان. وخطب بلال بنت البكير فأبى إخوتها، قال بلال: يا رسول الله، ماذا لقيت من بني البكير خطبت إليهم أختهم فمنعوني وآذوني، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل بلال، فبلغهم الخبر فأتوا أختهم فقالوا: ماذا لقينا من سببك؟ فقالت أختهم: أمري بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزوجوها. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في أبي هند حين حجمه: ( أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه ) . وهو مولى بني بياضة. وروى الدارقطني من حديث الزهري عن عروة عن عائشة أن أبا هند مولى بني بياضة كان حجاما فحجم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من سره أن ينظر إلى من صور الله الإيمان في قلبه فلينظر إلى أبي هند ) . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنكحوه وأنكحوا إليه ) . قال القشيري أبو نصر: وقد يعتبر النسب في الكفاءة في النكاح وهو الاتصال بشجرة النبوة أو بالعلماء الذين هم ورثة الأنبياء، أو بالمرموقين في الزهد والصلاح. والتقي المؤمن أفضل من الفاجر النسيب، فإن كانا تقيين فحينئذ يقدم النسيب منهما، كما تقدم الشاب على الشيخ في الصلاة إذا استويا في التقوى.

 

الآية: 14 ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم )

 

قوله تعالى: « قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم » نزلت في أعرب من بني أسد بن خزيمة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة جدبة وأظهروا الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين في السر. وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات وأغلوا أسعاوها، وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتينال بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان فأعطنا من الصدقة، وجعلوا يمنون عليه فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية. وقال ابن عباس: نزلت في أعراب أرادوا أن يتسموا باسم الهجرة قبل أن يهاجروا، فأعلم الله أن لهم أسماء الأعراب لا أسماء المهاجرين. وقال السدي: نزلت في الأعراب المذكورين في سورة الفتح: أعراب مزينة وجهينة وأسلم وغفار والديل وأشجع، قالوا آمنا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم، فلما استنفروا إلى المدينة تخلفوا، فنزلت. وبالجملة فالآية خاصة لبعض الأعراب، لأن منهم من يؤمن بالله واليوم الآخر كما وصف الله تعالى. ومعنى « ولكن قولوا أسلمنا » أي استسلمنا خوف القتل والسبي، وهذه صفة المنافقين، لأنهم أسلموا في ظاهر إيمانهم ولم تؤمن قلوبهم، وحقيقة الإيمان التصديق بالقلب. وأما الإسلام فقبول ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم في الظاهر، وذلك يحقن الدم. « وإن تطيعوا الله ورسوله » يعني إن تخلصوا الإيمان « لا يلتكم » أي لا ينقصكم. « من أعمالكم شيئا » لاته يليته ويلوته: نقصه. وقرأ أبو عمرو « لا يألتكم » بالهمزة، من ألت يألت ألتا، وهو اختيار أبي حاتم، اعتبارا بقوله تعالى: « وما ألتناهم من عملهم من شيء » [ الطور: 21 ] قال الشاعر:

أبلغ بني ثعل عني مغلغلة جهد الرسالة لا ألتا ولا كذبا

واختاو الأولى أبو عبيد. قال رؤبة:

وليلة ذات ندى سريت ولم يلتني عن سراها ليت

أي لم يمنعني عن سراها مانع، وكذلك ألته عن وجهه، فعل وأفعل بمعنى. ويقال أيضا: ما ألاته من عمله شيئا، أي ما نقصه، مثل ألته، قال الفراء. وأنشد:

ويأكلن ما أعني الولي فلم يلت كأن بحافات النهاء المزارعا

قوله: فلم « يلت » أي لم ينقص منه شيئا. و « أعني » بمعنى أنبت، يقال: ما أعنت الأرض شيئا، أي ما أنبتت. و « الولي » المطر بعد الوسمي، سمي وليا لأنه يلي الوسمي. ولم يقل: لا يألتاكم، لأن طاعة الله تعالى طاعة الرسول.

 

الآيات: 15 - 16 ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون، قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض والله بكل شيء عليم )

 

قوله تعالى: « إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا » أي صدقوا ولم يشكوا وحققوا ذلك بالجهاد والأعمال الصالحة. « أولئك هم الصادقون » في إيمانهم، لا من أسلم خوف القتل ورجاء الكسب. فلما نزلت حلف الأعراب أنهم مؤمنون في السر والعلانية وكذبوا، فنزلت. « قل أتعلمون الله بدينكم » الذي أنتم عليه. « والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض والله بكل شيء عليم » .

 

الآيات: 17 - 18 ( يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين، إن الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون )

 

قوله تعالى: « يمنون عليك أن أسلموا » إشارة إلى قولهم: جئناك بالأثقال والعيال. و « أن » في موضع نصب على تقدير لأن أسلموا. « قل لا تمنوا علي إسلامكم » أي بإسلامكم. « بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان » « أن » موضع نصب، تقديره بأن. وقيل: لأن. وفي مصحف عبدالله « إذ هداكم » . « إن كنتم صادقين » صادقين أنكم مؤمنون. وقرأ عاصم « إن هداكم » بالكسر؛ وفيه بعد؛ لقوله: « إن كنتم صادقين » . ولا يقال يمن عليكم أن يهديكم إن صدقتم. والقراءة الظاهرة « أن هداكم » . وهذا لا يدل على أنهم كانوا مؤمنين، لأن تقدير الكلام: إن آمنتم فذلك منة الله عليكم. « إن الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون » . قرأ ابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو بالياء على الخبر، ردا على قوله: « قالت الأعراب » . الباقون بالتاء على الخطاب.

 

سورة ق

مقدمة السورة

 

مكية كلها في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر. قال ابن عباس وقتادة: إلا آية، وهي قوله تعالى: « ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب » [ ق: 38 ] . وفي صحيح مسلم عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان قالت: لقد كان تنورنا وتنور رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا سنتين - أو سنة وبعض سنة - وما أخذت « ق والقرآن المجيد » إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبا واقد الليثي ما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في لأضحى والفطر؟ فقال: كان يقرأ فيهما بـ « ق والقرآن المجيد » و « اقتربت الساعة وانشق القمر » . وعن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر بـ « ق والقرآن المجيد » وكانت صلاته بعد تخفيفا.

 

الآيات: 1 - 5 ( ق والقرآن المجيد، بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب، أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد، قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ، بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج )

 

قوله تعالى: « ق والقرآن المجيد » قرأ العامة « قاف » بالجزم. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم « قاف » بكسر الفاء؛ لأن الكسر أخو الجزم، فلما سكن آخره حركوه بحركة الخفض. وقرأ عيسى الثقفي بفتح الفاء حركه إلى أخف الحركات. وقرأ هارون ومحمد بن السميقع « قاف » بالضم؛ لأنه في غالب الأمر حركة البناء نحو منذ وقد وقبل وبعد. واختلف في معنى « قاف » ما هو؟ فقال ابن زيد وعكرمة والضحاك: هو جبل محيط بالأرض من زمردة خضراء أخضرت السماء منه، وعليه طرفا السماء والسماء عليه مقبية، وما أصاب الناس من زمرد كان مما تساقط من ذلك الجبل. ورواه أبو الجوزاء عن عبدالله بن عباس. قال الفراء: كان يجب على هذا أن يظهر الإعراب في « ق » ؛ لأنه اسم وليس بهجاء. قال: ولعل القاف وحدها ذكرت من اسمه؛ كقوله القائل:

قلت لها قفي فقالت قاف

أي أنا واقفة. وهذا وجه حسن وقد تقدم أول « البقرة » . وقال وهب: أشرف ذو القرنين على جبل قاف فرأى تحته جبالا صغارا، فقال له: ما أنت؟ قال: أنا قاف، قال: فما هذه الجبال حولك ؟ قال: هي عروقي وما من مدينة إلا وفيها عرق من عروقي، فإذا أراد الله أن يزلزل مدينة أمرني فحركت عرقي ذلك فتزلزلت تلك الأرض؛ فقال له: يا قاف أخبرني بشيء من عظمة الله؛ قال: إن شأن ربنا لعظيم، وإن ورائي أرضا مسيرة خمسمائة عام في خمسمائة عام من جبال ثلج يحطم به بعضها بعضا، لولا هي لاحترقت من حر جهنم. فهذا يدل على أن جهنم على وجه الأرض والله أعلم بموضعها؛ وأين هي من الأرض. قال: زدني، قال: إن جبريل عليه السلام واقف بين يدي الله ترعد فرائصه، يخلق الله من كل رعدة مائة ألف ملك، فأولئك الملائكة وقوف بين يدي الله تعالى منكسو رؤوسهم، فاذا أذن الله لهم في الكلام قالوا: لا إله إلا الله؛ وهو قوله تعالى: « يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا » [ النبأ: 38 ] يعني قوله: لا إله إلا الله.

وقال الزجاج: قوله « ق » أي قضي الأمر، كما قيل في « حم » أي حم الأمر. وقال ابن عباس: « ق » اسم من أسماء الله تعالى أقسم به. وعنه أيضا: أنه اسم من أسماء القرآن. وهو قول قتادة. وقال القرظي: افتتاح أسماء الله تعالى قدير وقاهر وقريب وقاض وقابض. وقال الشعبي: فاتحة السورة. وقال أبوبكر الوراق: معناه قف عند أمرنا ونهينا ولا تعدهما. وقال محمد بن عاصم الأنطاكي: هو قرب الله من عباده، بيانه « ونحن أقرب إليه من حبل الوريد » [ ق: 16 ] وقال ابن عطاء: أقسم الله بقوة قلب حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم، حيث حمل الخطاب ولم يؤثر ذلك فيه لعلو حاله.

 

قوله تعالى: « والقرآن المجيد » أي الرفيع القدر. وقيل: الكريم؛ قاله الحسن. وقيل: الكثير؛ مأخوذ من كثرة القدر والمنزلة لا من كثرة العدد، من قولهم: كثير فلان في النفوس؛ ومنه قول العرب في المثل السائر: « كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار » . أي استكثر هذان النوعان من النار فزادا على سائر الشجر؛ قال ابن بحر. وجواب القسم قيل هو: « قد علمنا ما تنقص الأرض منهم » على إرادة اللام؛ أي لقد علمنا. وقيل: هو « إن في ذلك لذكرى » وهو اختيار الترمذي محمد بن علي قال: « ق » قسم باسم هو أعظم الأسماء التي خرجت إلى العباد وهو القدرة، وأقسم أيضا بالقرآن المجيد، ثم اقتص ما خرج من القدرة من خلق السموات والأرضين وأرزاق العباد، وخلق الآدميين، وصفة يوم القيامة والجنة والنار، ثم قال: « إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب » [ ق: 37 ] فوقع القسم على هذه الكلمة كأنه قال: « ق » أي بالقدرة والقرآن المجيد أقسمت أن فيما أقتصصت في هذه السورة « لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد » [ ق: 37 ] . وقال ابن كيسان: جوابه « ما يلفظ من قول » . وقال أهل الكوفة: جواب هذا القسم « بل عجبوا » . وقال الأخفش: جوابه محذوف كأنه قال: « ق والقرآن المجيد » لتبعثن؛ يدل عليه « أئذا متنا وكنا ترابا » .

 

قوله تعالى: « بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم » « أن » في موضع نصب على تقدير لأن جاءهم منذر منهم، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم والضمير للكفار. وقيل: للمؤمنين والكفار جميعا. ثم ميز بينهم « فقال الكافرون » ولم يقل فقالوا، بل قبح حالهم وفعلهم ووصفهم بالكفر، كما تقول: جاءني فلان فأسمعني المكروه، وقال لي الفاسق أنت كذا وكذا. « هذا شيء عجيب » العجيب الأمر الذي يتعجب منه، وكذلك العجاب بالضم، والعجاب بالتشديد أكثر منه، وكذلك الأعجوبة. وقال قتادة: عجبهم أن دعوا إلى إله واحد. وقيل: من إنذارهم بالبعث والنشور. والذي نص عليه القرآن أولى.

 

قوله تعالى: « أئذا متنا وكنا ترابا » نبعث؛ ففيه إضمار. « ذلك رجع بعيد » الرجع الرد أي هو رد بعيد أي محال. يقال: رجعته أرجعه رجعا، ورجع هو يرجع رجوعا، وفيه إضمار آخر؛ أي وقالوا أنبعث إذا متنا. وذكر البعث وإن لم يجرها هنا فقد جرى في مواضع، والقرآن كالسورة الواحدة. وأيضا ذكر البعث منطو تحت قوله: « بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم » لأنه إنما ينذر بالعقاب والحساب في الآخرة. « قد علمنا ما تنقص الأرض منهم » أي ما تأكل من أجسادهم فلا يضل عنا شيء حتى تتعذر علينا الإعادة. وفي التنزيل: « قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى » [ طه: 51 ] . وفي الصحيح: ( كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق وفيه يركب ) وقد تقدم. وثبت أن لأنبياء والأولياء والشهداء لا تأكل الأرض أجسادهم؛ حرم الله على الأرض أن تأكل أجسادهم. وقد بينا هذا في كتاب « التذكرة » وتقدم أيضا في هذا الكتاب. وقال السدي: النقص هنا الموت يقول قد علمنا منهم من يموت ومن يبقى؛ لأن من مات دفن فكأن الأرض تنقص من الناس. وعن ابن عباس:هو من يدخل في الإسلام من المشركين. « وعندنا كتاب حفيظ » أي بعدتهم وأسمائهم فهو فعيل بمعنى فاعل. وقيل: اللوح المحفوظ أي محفوظ من الشياطين أو محفوظ فيه كل شيء. وقيل: الكتاب عبارة عن العلم والإحصاء؛ كما تقول: كتبت عليك هذا أي حفظته؛ وهذا ترك الظاهر من غير ضرورة. وقيل: أي وعندنا كتاب حفيظ لأعمال بني آدم لنحاسبهم عليها.

 

قوله تعالى: « بل كذبوا بالحق » أي القرآن في قول الجميع؛ حكاه الماوردي. وقال الثعلبي: بالحق القرآن. وقيل: الإسلام. وقيل: محمد صلى الله عليه وسلم. « فهم في أمر مريج » أي مختلط. يقولون مرة ساحر ومرة شاعر ومرة كاهن؛ قاله الضحاك وابن زيد. وقال قتادة: مختلف. الحسن: ملتبس؛ والمعنى متقارب. وقال أبو هريرة: فاسد، ومنه مرجت أمانات الناس أي فسدت؛ ومرج الدين والأمر اختلط؛ قال أبو دواد:

مرج الدين فأعددت له مشرف الحارك محبوك الكتد

وقال ابن عباس: المريج الأمر المنكر. وقال عنه عمران بن أبي عطاء: « مريج » مختلط. وأنشد:

فجالت فالتمست به حشاها فخر كأنه خوط مريج

الخوط الغصن. وقال عنه العوفي: في أمر ضلالة وهو قولهم ساحر شاعر مجنون كاهن. وقيل: متغير. وأصل المرج الاضطراب والقلق؛ يقال: مرج أمر الناس ومرج أمر الدبن ومرج الخاتم في إصبعي إذا قلق من الهزال. وفي الحديث: ( كيف بك يا عبدالله إذا كنت في قوم قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فكانوا هكذا وهكذا ) وشبك بين أصابعه. أخرجه أبو داود وقد ذكرناه في كتاب « التذكرة » ..

 

الآيات: 6 - 11 ( أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج، والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج، تبصرة وذكرى لكل عبد منيب، ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد، والنخل باسقات لها طلع نضيد، رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج )

 

قوله تعالى: « أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم » نظر اعتبار وتفكر، وأن القادر على إيجادها قادر على الإعادة. « كيف بنيناها » فرفعناها بلا عمد « وزيناها » بالنجوم « وما لها من فروج » جمع فرج وهو الشق؛ ومنه قول امرىء القيس:

تسد به فرجها من دبر

وقال الكسائي: ليس فيها تفاوت ولا اختلاف ولا فتوق. « والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي » تقدم في « الرعد. » وأنبتنا فيها من كل زوج « أي من كل نوع من النبات » بهيج « أي حسن يسر الناظرين؛ وقد تقدم في » الحج « بيانه. » تبصرة « أي جعلنا ذلك تبصرة لندل به على كمال قدرتنا. وقال أبو حاتم: نصب على المصدر؛ يعني جعلنا ذلك تبصيرا وتنبيها على قدرتنا » وذكرى « معطوف عليه. » لكل عبد منيب « راجع إلى الله تعالى، مفكر في قدرته.»

 

قوله تعالى: « وأنزلنا من السماء » أي من السحاب « ماء مباركا » أي كثير البركة. « فأنبتنا به جنات وحب الحصيد » التقدير: وحب النبت الحصيد وهو كل ما يحصد. هذا قول البصريين. وقال الكوفيون: هو من باب إضافة الشيء إلى نفسه، كما يقال: مسجد الجامع وربيع الأول وحق اليقين وحبل الوريد ونحوها؛ قال الفراء. والأصل الحب الحصيد فحذفت الألف واللام وأضيف المنعوت إلى النعت. وقال الضحاك: حب الحصيد البر والشعير. وقيل: كل حب يحصد ويدخر ويقتات. « والنخل باسقات » نصب على الحال ردا على قوله: « وحب الحصيد » و « باسقات » حال. والباسقات الطوال؛ قال مجاهد وعكرمة. وقال قتادة وعبدالله بن شداد: بسوقها استقامتها في الطول. وقال سعيد بن جبير: مستويات. وقال الحسن وعكرمة أيضا والفراء: مواقير حوامل؛ يقال للشاة بسقت إذا ولدت، قال الشاعر:

فلما تركنا الدار ظلت منيفة بقران فيه الباسقات المواقر

والأول في اللغة أكثر وأشهر؛ يقال بسق النخل بسوقا إذا طال. قال:

لنا خمر وليست خمر كرم ولكن من نتاج الباسقات

كرام في السماء ذهبن طولا وفات ثمارها أيدي الجناة

ويقال: بسق فلان على أصحابه أي علاهم، وأبسقت الناقة إذا وقع في ضرعها للبن قبل النتاج فهي مبسق ونوق مباسيق. وقال قطبة بن مالك: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ « باصقات » بالصاد؛ ذكره الثعلبي.

قلت: الذي في صحيح مسلم عن قطبة بن مالك قال: صليت وصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ « ق والقرآن المجيد » حتى قرأ « والنخل باسقات » قال فجعلت أرددها ولا أدري ما قال؛ إلا أنه لا يجوز إبدال الصاد من السين لأجل القاف. « لها طلع نضيد » الطلع هو أول ما يخرج من ثمر النخل؛ يقال: طلع الطلع طلوعا وأطلعت النخلة، وطلعها كفراها قبل أن ينشق. « نضيد » أي متراكب قد نضد بعضه على بعض. وفي البخاري « النضيد » الكفري ما دام في أكمامه ومعناه منضود بعضه على بعض؛ فإذا خرج من أكمامه فليس بنضيد. « رزقا للعباد » أي رزقناهم رزقا، أوعلى معنى أنبتناها رزقا؛ لأن الإنبات في معنى الرزق، أو على أنه مفعول له أي أنبتناها لرزقهم، والرزق ما كان مهيأ للانتفاع به. وقد تقدم القول فيه. « وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج » أي من القبور أي كما أحيا الله هذه الأرض الميتة فكذلك يخرجكم أحياء بعد موتكم؛ فالكاف في محل رفع على الابتداء. وقد مضى هذا المعنى في غير موضع. وقال « مبتا » لأن المقصود المكان ولو قال ميتة لجاز.

 

الآيات: 12 - 15 ( كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود، وعاد وفرعون وإخوان لوط، وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد، أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد )

 

قوله تعالى: « كذبت قبلهم قوم نوح » أي كما كذب هؤلاء فكذلك كذب أولئك فحل بهم العقاب؛ ذكرهم نبأ من كان قبلهم من المكذبين وخوفهم ما أخذهم. وقد ذكرنا قصصهم في غير موضع عند ذكرهم. « كل كذب الرسل » من هذه الأمم المكذبة. « فحق وعيد » أي فحق عليهم وعيدي وعقابي.

 

قوله تعالى: « أفعيينا بالخلق الأول » أي أفعيينا به فنعيا بالبعث. وهذا توبيخ لمنكري البعث وجواب قولهم: « ذلك رجع بعيد » [ ق: 3 ] . يقال: عييت بالأمر إذا لم تعرف وجهه. « بل هم في لبس من خلق جديد » أي في حيرة من البعث منهم مصدق ومنهم مكذب؛ يقال: لبس عليه الأمر يلبسه لبسا.

 

الآيات: 16 - 19 ( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد، إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد )

 

قوله تعالى: « ولقد خلقنا الإنسان » يعني الناس، وقيل آدم. « ونعلم ما توسوس به نفسه » أي ما يختلج في سره وقلبه وضميره، وفي هذا زجر عن المعاصي التي يستخفي بها. ومن قال: إن المراد بالإنسان آدم؛ فالذي وسوست به نفسه هو الأكل من الشجرة، ثم هو عام لولده. والوسوسة حديث النفس بمنزلة الكلام الخفي. قال الأعشى:

تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت كما استعان بريح عشرق زجل

وقد مضى في « الأعراف » . « ونحن أقرب إليه من حبل الوريد » هو حبل العاتق وهو ممتد من ناحية حلقه إلى عاتقه، وهما وريدان عن يمين وشمال. روي معناه عن ابن عباس وغيره وهو المعروف في اللغة. والحبل هو الوريد فأضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين. وقال الحسن: الوريد الوتين وهو عرق معلق بالقلب. وهذا تمثيل للقرب؛ أي نحن أقرب إليه من حبل وريده الذي هو منه، وليس على وجه قرب المسافة. وقيل: أي ونحن أملك به من حبل وريده مع استيلائه عليه. وقيل: أي ونحن أعلم بما توسوس به نفسه من حبل وريده الذي هو من نفسه، لأنه عرق يخالط القلب، فعلم الرب أقرب إليه من علم القلب، روي معناه عن مقاتل قال: الوريد عرق يخالط القلب، وهذا القرب قرب العلم والقدرة، وأبعاض الإنسان يحجب البعض البعض ولا يحجب علم الله شيء.

 

قوله تعالى: « إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد » أي نحن أقرب إليه من حبل وريده حين يتلقى المتلقيان، وهما الملكان الموكلان به، أي نحن أعلم بأحواله فلا نحتاج إلى ملك يخبر، ولكنهما وكلا به إلزاما للحجة، وتوكيدا للأمر عليه. وقال الحسن ومجاهد وقتادة: « المتلقيان » ملكان يتلقيان عملك: أحدهما عن يمينك يكتب حسناتك، والآخر عن شمالك يكب سيئاتك. قال الحسن: حتى إذا مت طويت صحيفة عملك وقيل لك يوم القيامة: « اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا » [ الإسراء: 14 ] عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك. وقال مجاهد: وكل الله بالإنسان مع علمه بأحوال ملكين بالليل وملكين بالنهار يحفظان عمله، ويكتبان أثره إلزاما للحجة: أحدهما عن يمينه يكتب الحسنات، والآخر عن شماله يكتب السيئات، فذلك قوله تعالى: « عن اليمين وعن الشمال قعيد » . وقال سفيان: بلغني أن كاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا أذنب العبد قال لا تعجل لعله يستغفر الله. وروي معناه من حديث أبي أمامة؛ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يساره وكاتب الحسنات أمين علي كاتب السيئات فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر ) . وروي من حديث علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن مقعد ملكيك على ثنيتك لسانك قلمهما وريقك مدادهما وأنت تجري فيما لا يعنيك فلا تستحي من الله ولا منهما ) . وقال الضحاك: مجلسهما تحت الثغر. على الحنك. ورواه عوف عن الحسن قال: وكان الحسن يعجبه أن ينظف عنفقته. وإنما قال: « قعيد » ولم يقل قعيدان وهما أثنان؛ لأن المراد عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد فحذف الأول لدلالة الثاني عليه. قاله سيبويه؛ ومنه قول الشاعر: نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف وقال الفرزدق:

إني ضمنت لمن أتاني ما جنى وأبى فكان وكنت غير غدور

ولم يقل راضيان ولا غدورين. ومذهب المبرد: أن الذي في التلاوة أول أخر اتساعا، وحذف الثاني لدلالة الأول عليه. ومذهب الأخفش والفراء: أن الذي في التلاوة يؤدي عن الاثنين والجمع ولا حذف في الكلام. و « قعيد » بمعنى قاعد كالسميع والعليم والقدير والشهيد. وقيل: « قعيد » بمعنى مقاعد مثل أكيل ونديم بمعنى مؤاكل ومنادم.

وقال الجوهري: فعيل وفعول مما يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع؛ كقوله تعالى: « إنا رسول رب العالمين » [ الشعراء: 16 ] وقوله: « والملائكة بعد ذلك ظهير » [ التحريم: 4 ] . وقال الشاعر في الجمع، أنشده الثعلبي:

ألكني إليها وخير الرسو ل أعلمهم بنواحي الخبر

والمراد بالقعيد ها هنا الملازم الثابت لا ضد القائم.

 

قوله تعالى: « ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد » أي ما يتكلم بشيء إلا كتب عليه؛ مأخوذ من لفظ الطعام وهو إخراجه من الفم. وفي الرقيب ثلاثة أوجه: أحدها أنه المتبع للأمور. الثاني أنه الحافظ، قال السدي. الثالث أنه الشاهد، قال الضحاك. وفي العتيد وجهان: أحدهما أنه الحاضر الذي لا يغيب. الثاني أنه الحافظ المعد إما للحفظ وإما للشهادة. قال الجوهري: العتيد الشيء الحاضر المهيأ؛ وقد عتده تعتيدا وأعتده إعتادا أي أعده ليوم، ومنه قوله تعالى: « وأعتدت لهن متكأ » [ يوسف: 31 ] وفرس عَتَد وعتِد بفتح التاء وكسرها المعد للجري.

قلت وكله يرجع إلى معنى الحضور، ومنه قول الشاعر:

لئن كنت مني في العيان مغيبا فذكرك عندي في الفؤاد عتيد

قال أبو الجوزاء ومجاهد: يكتب على الإنسان كل شيء حتى الأنين في مرضه. وقال عكرمة: لا يكتب إلا ما يؤجر به أو يؤزر عليه. وقيل: يكتب عليه كل ما يتكلم به، فإذا كان آخر النهار محي عنه ما كان مباحا، نحو أنطلق أقعد كل مما لا يتعلق به أجر ولا وزر، والله أعلم. وروي عن أبي هريرة وأنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من حافظين يرفعان إلى الله ما حفظا فيرى الله في أول الصحيفة خيرا وفي آخرها خيرا إلا قال الله تعالى لملائكته اشهدوا أني قد غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة ) . وقال علي رضي الله عنه: ( إن لله ملائكة معهم صحف بيض فأملوا في أولها وفي أخرها خيرا يغفر لكم ما بين ذلك ) . وأخرج أبو نعيم الحافظ قال حدثنا أبو طاهر محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق بن خزيمة قال حدثنا جدي محمد بن إسحاق قال حدثنا محمد بن موسى الحرشي قال حدثنا سهيل بن عبدالله قال: سمعت الأعمش يحدث عن زيد بن وهب عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الحافظين إذا نزلا على العبد أو الأمة منهما كتاب مختوم فيكتبان ما يلفظ به العبد أو الأمة فإذا أرادا أن ينهضا قال أحدهما للأخر فك الكتاب المختوم الذي معك فيفكه له فاذا فيه ما كتب سواء فذلك قوله تعالى « ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد » غريب، من حديث الأعمش عن زيد، لم يروه عنه إلا سهيل. وروي من حديث أنس أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله وكل بعبده ملكين يكتبان عمله فإذا مات قالا ربنا قد مات فلان فأذن لنا أن نصعد إلى السماء فيقول الله تعالى إن، إن سمواتي مملوءة من ملائكتي يسبحونني فيقولان ربنا نقيم في الأرض فيقول الله تعالى إن أرضي مملوءة من خلقي يسبحونني فيقولان يا رب فأين نكون فيقول الله تعالى كونا على قبر عبدي فكبراني وهللاني وسبحاني واكتبا ذلك لعبدي إلى يوم القيامة ) .

 

قوله تعالى: « وجاءت سكرة الموت بالحق » أي غمرته شدته؛ فالإنسان ما دام حيا تكتب عليه أقوال وأفعال ليحاسب عليها، ثم يجيئه الموت وهو ما يراه عند المعاينة من ظهور الحق فيما كان الله تعالى وعده وأوعده. وقيل: الحق هو الموت سمي حقا إما لاستحقاقه وإما لانتقاله إلي دار الحق؛ فعلى هذا يكون في الكلام تقديم وتأخير، وتقديره وجاءت سكرة الحق بالموت، وكذلك في قراءة أبي بكر وابن مسعود رضي الله عنهما؛ لأن السكرة هي الحق فأضيفت إلى نفسها لاختلاف اللفظين. وقيل: يجوز أن يكون الحق على هذه القراءة هو الله تعالى؛ أي جاءت سكرة أمر الله تعالى بالموت. وقيل: الحق هو الموت والمعنى وجاءت سكرة الموت بالموت؛ ذكره المهدوي. وقد زعم من طعن على القرآن فقال: أخالف المصحف كما خالف أبو بكر الصديق فقرأ: وجاءت سكرة الحق بالموت. فاحتج عليه بأن أبا بكر رويت عنه روايتان: إحداهما موافقة للمصحف فعليها العمل، والأخرى مرفوضة تجري مجرى النسيان منه إن كان قالها، أو الغلط من بعض من نقل الحديث. قال أبوبكر الأنباري: حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا علي بن عبدالله حدثنا جرير عن منصور عن أبي وائل عن مسروق قال: لما احتضر أبو بكر أرسل إلى عائشة فلما. دخلت عليه قالت: هذا كما قال الشاعر:

إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر

فقال أبو بكر: هلا قلت كما قال الله: « وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد » وذكر الحديث. والسكرة واحدة السكرات. وفي الصحيح عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بين يديه ركوة - أوعلبة - فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء، فيمسح بهما وجهه ويقول: ( لا إله إلا الله إن للموت سكرات ) ثم نصب يده فجعل يقول: ( في الرفيق الأعلى ) حتى قبض ومالت يده. خرجه البخاري. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن العبد الصالح ليعالج الموت وسكراته وإن مفاصله ليسلم بعضها على بعض تقول السلام عليك تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة ) . وقال عيسى ابن مريم: « يا معشر الحواريين ادعوا الله أن يهون عليكم هذه السكرة » يعني سكرات الموت. وروي: ( إن الموت أشد من ضرب بالسيوف ونشر بالمناشير وقرض بالمقاريض ) . « ذلك ما كنت منه تحيد » أي يقال لمن جاءته سكرة الموت ذلك ما كنت تفر منه وتميل عنه. يقال: حاد عن الشيء يحيد حيودا وحيدة وحيدودة مال عنه وعدل. وأصله حيدودة بتحريك الياء فسكنت؛ لأنه ليس في الكلام فعلول غير صعفوق. وتقول في الأخبار عن نفسك: حدت عن الشيء أحيد حيدا ومحيدا إذا ملت عنه؛ قال طرفة:

أبا منذر رمت الوفاء فهبته وحدت كما حاد البعير عن الدحض

 

الآيات: 20 - 22 ( ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد، وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد، لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد )

 

قوله تعالى: « ونفخ في الصور » هي النفخة الآخرة للبعث « ذلك يوم الوعيد » الذي وعده الله للكفار أن يعذبهم فيه. وقد مضى الكلام في النفخ في الصور مستوفى والحمد لله.

 

قوله تعالى: « وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد » اختلف في السائق والشهيد؛ فقال ابن عباس: السائق من الملائكة والشهيد من أنفسهم الأيدي والأرجل؛ رواه العوفي عن ابن عباس. وقال أبو هريرة: السائق الملك والشهيد العمل. وقال الحسن وقتادة: المعنى سائق يسوقها وشاهد يشهد عليها بعملها. وقال ابن مسلم: السائق قرينها من الشياطين سمي سائقا لأنه يتبعها وإن لم يحثها. وقال مجاهد: السائق والشهيد ملكان. وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال وهو على المنبر: « وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد » سائق: ملك يسوقها إلى أمر الله، وشهيد: يشهد عليها بعملها.

قلت: هذا أصح فإن في حديث جابر بن عبدالله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن ابن آدم لفي غفلة عما خلقه الله عز وجل له إن الله لا اله غيره إذا أراد خلقه قال للملك اكتب رزقه وأثره وأجله واكتبه شقيا أو سعيدا ثم يرتفع ذلك الملك ويبعث الله ملكا آخر فيحفظه حتى يدرك ثم يبعث الله ملكين يكتبان حسناته وسيئاته فإذا جاءه الموت ارتفع ذلك الملكان ثم جاء ملك الموت عليه السلام فيقبض روحه فإذا أودخل حفرته رد الروح في جسده ثم يرتفع ملك الموت ثم جاءه ملكا القبر فامتحناه ثم يرتفعان فاذا قامت الساعة انحط عليه ملك الحسنات وملك السيئات فأنشطا كتابا معقودا في عنقه ثم حضرا معه واحد سائق والآخر شهيد ثم قال الله تعالى « لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد » قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لتركبن طبقا عن طبق قال: ( حالا بعد حال ) ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن قدامكم أمرا عظيما فاستعينوا بالله العظيم ) خرجه أبو نعيم الحافظ من حديث جعفر بن محمد بن علي عن جابر وقال فيه: هذا حديث غريب من حديث جعفر، وحديث جابر تفرد به عنه جابر الجعفي وعنه المفضل. ثم في الآية قولان: أحدهما أنها عامة في المسلم والكافر وهو قول الجمهور. الثاني أنها خاصة في الكافر؛ قاله الضحاك.

 

قوله تعالى: « لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك » قال ابن زيد: المراد به النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي لقد كنت يا محمد في غفلة من الرسالة في قريش في جاهليتهم. وقال ابن عباس والضحاك: إن المراد به المشركون أي كانوا في غفلة من عواقب أمورهم. وقال أكثر المفسرين: إن المراد به البر والفاجر. وهو اختيار الطبري. وقيل: أي لقد كنت أيها الإنسان في غفلة عن أن كل نفس معها سائق وشهيد؛ لأن هذا لا يعرف إلا بالنصوص الإلهية. « فكشفنا عنك غطاءك » أي عماك؛ وفيه أربعة أوجه: أحدها إذ كان في بطن أمه فولد؛ قاله السدي. الثاني إذا كان في القبر فنشر. وهذا معنى قول ابن عباس. الثالث وقت العرض في القيامة؛ قاله مجاهد. الرابع أنه نزول الوحي وتحمل الرسالة. وهذا معنى قول ابن زيد. « فبصرك اليوم حديد » قيل: يراد به. بصر القلب كما يقال هو بصير بالفقه؛ فبصر القلب وبصيرته تبصرته شواهد الأفكار ونتائج الاعتبار، كما تبصر العين ما قابلها من الأشخاص والأجسام. وقيل: المراد به بصر العين وهو الظاهر أي بصر عينك اليوم حديد؛ أي قوي نافذ يرى ما كان محجوبا عنك. قال مجاهد: « فبصرك اليوم حديد » يعني نظرك إلى لسان ميزانك حين توزن سيئاتك وحسناتك. وقال الضحاك. وقيل: يعاين ما يصير إليه من ثواب وعقاب. وهو معنى قول ابن عباس. وقيل: يعني أن الكافر يحشر وبصره حديد ثم يزرق ويعمى. وقرئ « لقد كنت » « عنك » « فبصرك » بالكسر على خطاب النفس.

 

الآيات: 23 - 26 ( وقال قرينه هذا ما لدي عتيد، ألقيا في جهنم كل كفار عنيد، مناع للخير معتد مريب، الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد )

 

قوله تعالى: « وقال قرينه » يعني الملك الموكل به في قول الحسن وقتادة والضحاك. « هذا ما لدي عتيد » أي هذا ما عندي من كتابة عمله معد محفوظ. وقال مجاهد: يقول هذا الذي وكلتني به من بني آدم قد أحضرته وأحضرت ديوان عمله. وقيل: المعنى هذا ما عندي من العذاب حاضر. وعن مجاهد أيضا: قرينه الذي قيض له من الشياطين. « ألقيا في جهنم » قال ابن زيد في رواية ابن وهب عنه: إنه قرينه من الإنس، فيقول الله تعالى لقرينه: « ألقيا في جهنم » قال الخليل والأخفش: هذا كلام العرب الفصيح أن تخاطب الواحد بلفظ الاثنين فتقول: ويلك ارحلاها وازجراها، وخذاه وأطلقاه للواحد. قال الفراء: تقول للواحد قوما عنا، وأصل ذلك أن أدنى، أعوان الرجل في إبله وغنمه ورفقته في سفره أثنان فجرى كلام الرجل على صاحبيه، ومنه قولهم للواحد في الشعر: خليلي، ثم يقول: يا صاح. قال امرؤ القيس:

خليلي مرا بي على أم جندب نقض لبانات الفؤاد المعذب

وقال أيضا:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل

وقال آخر:

فإن تزجراني يا ابن عفان أنزجر وإن تدعاني أحم عرضا ممنعا

وقيل: جاء كذلك لأن القرين يقع للجماعة والاثنين. وقال المازني: قوله « ألقيا » يدل على ألق ألق. وقال المبرد: هي تثنية على التوكيد، المعنى ألق ألق فناب « ألقيا » مناب التكرار. ويجوز أن يكون « ألقيا » تثنية على خطاب الحقيقة من قول الله تعالى يخاطب به الملكين. وقيل: هو مخاطبة للسائق والحافظ. وقيل: إن الأصل القين بالنون الخفيفة تقلب في الوقف ألفا فحمل الوصل على الوقف. وقرأ الحسن « ألقين » بالنون الخفيفة نحو قوله: « وليكونا من الصاغرين » [ يوسف: 32 ] وقوله: « لنسفعا » [ العلق: 15 ] . « كل كفار عنيد » أي معاند؛ قال مجاهد وعكرمة. وقال بعضهم: العنيد المعرض عن الحق؛ يقال عند يعند بالكسر عنودا أي خالف ورد الحق وهو يعرفه فهو عنيد وعاند، وجمع العنيد عند مثل رغيف ورغف. « مناع للخير » يعني الزكاة المفروضة وكل حق واجب. « معتد » في منطقه وسيرته وأمره؛ ظالم. « مريب » شاك في التوحيد؛ قاله الحسن وقتادة. يقال: أراب الرجل فهو مريب إذا جاء بالريبة. وهو المشرك يدل عليه قوله تعالى: « الذي جعل مع الله إلها آخر » وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة. وأراد بقوله: « مناع للخير » أنه كان يمنع بني أخيه من الإسلام. « فألقياه في العذاب الشديد » تأكيد للأمر الأول.

 

الآيات: 27 - 29 ( قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد، قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد، ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد )

 

قوله تعالى: « قال قرينه ربنا ما أطغيته » يعني الشيطان الذي قيض لهذا الكافر العنيد تبرأ منه وكذبه. « ولكن كان في ضلال بعيد » عن الحق وكان طاغيا باختياره وإنما دعوته فاستجاب لي. وقرينه هنا هو شيطانه بغير أختلاف. حكاه المهدوي. وحكى الثعلبي قال ابن عباس ومقاتل: قرينه الملك؛ وذلك أن الوليد بن المغيرة يقول للملك الذي كان يكتب سيئاته: رب إنه أعجلني، فيقول الملك: ربنا ما أطغيته أي ما أعجلته. وقال سعيد بن جبير: يقول الكافر رب إنه زاد علي في الكتابة، فيقول الملك: ربنا ما أطغيته أي ما زدت عليه في الكتابة؛ فحينئذ يقول الله تعالى: « قال لا تختصموا لدي » يعني الكافرين وقرناءهم من الشياطين. قال القشيري: وهذا يدل على أن القرين الشيطان. « وقد قدمت إليكم بالوعيد » أي أرسلت الرسل. وقيل: هذا خطاب لكل من اختصم. وقيل: هو للاثنين وجاء بلفظ الجمع. « ما يبدل القول لدي » قيل هو قوله: « من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها » [ الأنعام: 160 ] وقيل هو قوله: « لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين » [ السجدة: 13 ] . وقال الفراء: ما يكذب عندي أي ما يزاد في القول ولا ينقص لعلمي بالغيب. « وما أنا بظلام للعبيد » أي ما أنا بمعذب من لم يجرم؛ قال ابن عباس. وقد مضى القول في معناه في « الحج » وغيرها.

 

الآيات: 30 - 35 ( يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد، وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد، هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ، من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب، ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود، لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد )

 

قوله تعالى: « يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد » قرأ نافع وأبو بكر « يوم يقول » بالياء أعتبارا بقوله: « لا تختصموا لدي » . الباقون بالنون على الخطاب من الله تعالى وهي نون العظمة. وقرأ الحسن « يوم أقول » . وعن ابن مسعود وغيره « يوم يقال » . وأنتصب « يوم » علي معنى ما يبدل القول لدي يوم. وقيل: بفعل مقدر معناه: وأنذرهم « يوم نقول لجهنم هل أمتلات » لما سبق من وعده إياها أنه يملؤها. وهذا الاستفهام على سبيل التصديق لخبره، والتحقيق لوعده، والتقريع لأعدائه، والتنبيه لجميع عباده. « وتقول » جهنم « هل من مزيد » أي ما بقي في موضع للزيادة؛ كقوله عليه السلام: ( هل ترك لنا عقيل من ربع أومنزل ) أي ما ترك؛ بمعنى الكلام الجحد. ويحتمل أن يكون استفهاما بمعنى الاستزادة؛ أي هل من مزيد فأزداد؟. وإنما صلح هذا للوجهين؛ لأن في الاستفهام ضربا من الجحد. وقيل: ليس ثم قول وإنما هو على طريق، المثل؛ أي إنها فيما يظهر من حالها بمنزلة الناطقة بذلك؛ كما قال الشاعر:

امتلأ الحوض وقال قَطني مهلا رويدا قد ملأتَ بطني

وهذا تفسير مجاهد وغيره. أي هل في من مسلك قد امتلأت. وقيل: ينطق الله النار حتى تقول هذا كما تنطق الجوارح. وهذا أصح على ما بيناه في سورة « الفرقان » وفي صحيح مسلم والبخاري والترمذي عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط به بعزتك وكرمك ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة ) لفظ مسلم. وفي رواية أخرى من حديث أبي هريرة: ( وأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله عليها رجله يقول لها قط قط فهنالك تمتلئ وينزوي بعضها إلى بعض فلا يظلم الله من خلقه أحدا وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا ) . علماؤنا رحمهم الله: أما معنى القدم هنا فهم قوم يقدمهم الله إلى النار، وقد سبق في علمه أنهم من أهل النار. وكذلك الرجل وهو العدد الكثير من الناس وغيرهم؛ يقال:رأيت رجلا من الناس ورجلا من جراد، فال الشاعر:

فمر بنا رجل من الناس وانزوى إليهم من الحي اليماني أرجل

قبائل من لخم وعكل وحمير على ابني نزار بالعداوة أحفل

وبين هذا المعنى ما روي عن ابن مسعود أنه قال: ما في النار بيت ولا سلسلة ولا مقمع ولا تابوت إلا وعليه اسم صاحبه، فكل واحد من الخزنة ينتظر صاحبه الذي قد عرف اسمه وصفته، فإذا استوفى كل واحد منهم ما أمر به وما ينتظره ولم يبق منهم أحد قال الخزنة: قط قط حسبنا حسبنا! أي اكتفينا اكتفينا، وحينئذ تنزوي جهنم على من فيها وتنطبق إذ لم يبق أحد ينتظر. فعبر عن ذلك الجمع المنتظر بالرجل والقدم؛ ويشهد لهذا التأويل قوله في نفس الحديث: ( ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة ) وقد زدنا هذا المعنى بيانا ومهدناه في كتاب الأسماء والصفات من الكتاب الأسنى والحمد لله. وقال النضر بن شميل في معنى قوله عليه السلام: ( حتى يضع الجبار فيها قدمه ) أي من سبق في علمه أنه من أهل النار.

 

قوله تعالى: « وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد » أي قربت منهم. وقيل: هذا قبل الدخول في الدنيا؛ أي قربت من قلوبهم حين قيل لهم اجتنبوا المعاصي. وقيل: بعد الدخول قربت لهم مواضعهم فيها فلا تبعد. « غير بعيد » أي منهم وهذا تأكيد. « هذا ما توعدون » أي ويقال لهم هذا الجزاء الذي وعدتم في الدنيا على ألسنة الرسل. وقراءة العامة « توعدون » بالتاء على الخطاب. وقرأ ابن كثير بالياء على الخبر؛ لأنه أتى بعد ذكر المتقين. « لكل أواب حفيظ » أواب أي رجاع إلى الله عن المعاصي، ثم يرجع يذنب ثم يرج هكذا قاله الضحاك وغيره. وقال ابن عباس وعطاء: الأواب المسبح من قوله: « يا جبال أوبي معه » [ سبأ: 10 ] . وقال الحكم بن عتيبة: هو الذاكر لله تعالى في الخلوة. وقال الشعبي ومجاهد: هو الذي يذكر ذنوبه في الخلوة فيستغفر الله منها. وهو قول ابن مسعود. وقال عبيد بن عمير: هو الذي لا يجلس مجلسا حتى يستغفر الله تعالى فيه. وعنه قال: كنا نحدث أن الأواب الحفيظ الذي إذا قام من مجلسه قال سبحان الله وبحمده، اللهم إني أستغفرك مما أصبت في مجلسي هذا. وفي الحديث: ( من قال إذا قام من مجلسه سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك غفر الله له ما كان في ذلك المجلس ) . وهكذا كان النبي صلى صلى الله عليه وسلم يقول. وقال بعض العلماء: أنا أحب أن أقول أستغفرك وأسألك التوبة، ولا أحب أن أقول وأتوب إليك إلا على حقيقته.

قلت: هذا استحسان واتباع الحديث أولى. وقال أبو بكر الوراق: هو المتوكل على الله في السراء والضراء. وقال القاسم: هو الذي لا يشتغل إلا بالله عز وجل. « حفيظ » قال ابن عباس: هو الذي حفظ ذنوبه حتى يرجع عنها. وقال قتادة: حفيظ لما استودعه الله من حقه ونعمته وأتمنه عليه. وعن ابن عباس أيضا: هو الحافظ لأمر الله. مجاهد: هو الحافظ لحق الله تعالى بالاعتراف ولنعمه بالشكر. قال الضحاك: هو الحافظ لوصية الله تعالى بالقبول. وروى مكحول عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من حافظ على أربع ركعات من أول النهار كان أوابا حفيظا ) ذكره الماوردي.

 

قوله تعالى: « من خشي الرحمن بالغيب » « من » في محل خفض على البدل من قوله: « لكل أواب حفيظ » أو في موضع الصفة لـ « أواب » . ويجوز الرفع على الاستئناف، والخبر « ادخلوها » على تقدير حذف جواب الشرط والتقدير فيقال لهم: « ادخلوها » . والخشية بالغيب أن تخافه ولم تره. وقال الضحاك والسدي: يعني في الخلوة حين يراه أحد. وقال الحسن: إذا أرخى الستر وأغلق الباب. « وجاء بقلب منيب » مقبل على الطاعة. وقيل: مخلص. وقال أبو بكر الوراق: علامة المنيب أن يكون عارفا لحرمته ومواليا له، متواضعا لجلاله تاركا لهوى نفسه. قلت: ويحتمل أن يكون القلب المنيب القلب السليم؛ كما قال تعالى: « إلا من أتى الله بقلب سليم » [ الشعراء: 89 ] على ما تقدم؛ والله أعلم. « ادخلوها » أي يقال لأهل هذه الصفات: « ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود » أي بسلامة من العذاب. وقيل: بسلام من الله وملائكته عليهم. وقيل: بسلامة من زوال النعم. وقال: « أدخلوها » وفي أول الكلام « من خشي » ؛ لأن « من » تكون بمعنى الجمع.

 

قوله تعالى: « لهم ما يشاؤون فيها » يعني ما تشتهيه أنفسهم وتلذ أعينهم. « ولدينا مزيد » من النعم مما لم يخطر على بالهم. وقال أنس وجابر: المزيد النظر إلى وجه الله تعالى بلا كيف. وقد ورد ذلك في أخبار مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: « للذين أحسنوا الحسنى وزيادة » [ يونس: 26 ] قال: الزيادة النظر إلى وجه الله الكريم. وذكر ابن المبارك ويحيى بن سلام، قالا: أخبرنا المسعودي عن المنهال بن عمرو عن أبي عبيدة بن عبدالله بن عتبة عن ابن مسعود قال: تسارعوا إلى الجمعة فإن الله تبارك وتعالى يبرز لأهل الجنة كل يوم جمعة في كثيب من كافور أبيض فيكونون منه في القرب. قال ابن المبارك: على قدر تسارعهم إلى الجمعة في الدنيا. وقال يحيى بن سلام: لمسارعتهم إلى الجمع في الدنيا، وزاد ( فيحدث الله لهم من الكرامة شيئا لم يكونوا رأوه قبل ذلك ) . فال يحيى: وسمعت غير المسعودي يزيد فيه قوله تعالى: « ولدينا مزيد » .

قلت: قوله ( في كثيب ) يريد أهل الجنة، أي وهم على كثب؛ كما في مرسل الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن أهل الجنة ينظرون ربهم في كل يوم جمعة على كثيب من كافور ) الحديث وقد ذكرناه في كتاب « التذكرة » . وقيل: إن المزيد ما يزوجون به من الحور العين؛ رواه أبو سعيد الخدري مرفوعا.

 

الآيات: 36 - 38 ( وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص، إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب )

 

قوله تعالى: « وكم أهلكنا قبلهم من قرن » أي كم أهلكنا يا محمد قبل قومك من أمة هم أشد منهم بطشا وقوة. « فنقبوا في البلاد » أي ساروا فيها طلبا للمهرب. وقيل: أثروا في البلاد؛ قال ابن عباس. وقال مجاهد: ضربوا وطافوا. وقال النضر بن شميل: دوروا. وقال قتادة: طوفوا. وقال المؤرخ تباعدوا؛ ومنه قول امرئ القيس:

وقد نقبت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب

ثم قيل: طافوا في أقاصي البلاد طلبا للتجارات، وهل وجدوا من الموت محيصا؟. وقيل: طوفوا في البلاد يلتمسون محيصا من الموت. قال الحرث بن حلزة:

نقبوا في البلاد من حذر المو ت وجالوا في الأرض كل مجال

وقرأ الحسن وأبو العالية « فنقبوا » بفتح القاف وتخفيفها. والنقب هو الخرق والدخول في الشيء. وقيل: النقب الطريق في الجبل، وكذلك المنقب والمنقبة؛ عن ابن السكيت. ونقب الجدار نقبا، واسم تلك النقبة نقب أيضا، وجمع النقب النقوب؛ أي خرقوا البلاد وساروا في نقوبها. وقيل: أثروا فيها كتأثير الحديد فيما ينقب. وقرأ السلمي يحيى بن يعمر « فنقبوا » بكسر القاف والتشديد على الأمر بالتهديد والوعيد؛ أي طوفوا البلاد وسيروا فيها فانظروا « هل من » الموت « محيص » ومهرب؛ ذكره الثعلبي. وحكى القشيري « فنقبوا » بكسر القاف مع التخفيف؛ أي أكثروا السير فيها حتى نقبت دوابهم. الجوهري: ونقب البعير بالكسر إذا رقت أخفافه، وأنقب الرجل، إذا نقب بعيره، ونقب الخف الملبوس أي تخرق. والمحيص مصدر حاص عنه يحيص حيصا وحيوصا ومحيصا ومحاصا وحيصانا؛ أي عدل وحاد. يقال: ما عنه محيص أي محيد ومهرب. والانحياص مثله؛ يقال للأولياء: حاصوا عن العدو وللأعداء انهزموا. « إن في ذلك لذكرى » أي فيما ذكرناه في هذه السورة تذكرة وموعظة « لمن كان له قلب » أي عقل يتدبر به؛ فكنى بالقلب عن العقل لأنه موضعه؛ قال معناه مجاهد وغيره. وقيل: لمن كان له حياة ونفس مميزة، فعبر عن النفس الحية بالقلب؛ لأنه وطنها ومعدن حياتها؛ كما قال امرؤ القيس:

أغرك مني أن حبك قاتلي وأنك مهما تأمري القلب يفعل

وفي التنزيل: « لينذر من كان حيا » [ يس: 70 ] . وقال يحيى بن معاذ: القلب قلبان؛ قلب محتشى بأشغال الدنيا حتى إذا حضر أمر من الأمور الآخرة لم يدر ما يصنع، وقلب قد أحتشى بأهوال الآخرة حتى إذا حضر أمر من أمور الدنيا لم يدر ما يصنع لذهاب قلبه في الآخرة. « أو ألقى السمع » أي استمع القرآن. تقول العرب: ألق إلى سمعك أي استمع. وقد مضى في « طه » كيفية الاستماع وثمرته. « وهو شهيد » أي شاهد القلب؛ قال الزجاج: أي قلبه حاضر فيما يسمع. وقال سفيان: أي لا يكون حاضرا وقلبه غائب. ثم قيل: الآية لأهل الكتاب؛ قال مجاهد وقتادة. وقال الحسن: إنها في اليهود والنصارى خاصة. وقال محمد بن كعب وأبو صالح: إنها في أهل القرآن خاصة.

 

قوله تعالى: « ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب » تقدم في « الأعراف » وغيرها. واللغوب التعب والإعياء، تقول منه: لغب يلغب بالضم لغوبا، ولغب بالكسر يلغب لغوبا لغة ضعيفة فيه. وألغبته أنا أي أنصبته. قال قتادة والكلبي: هذه الآية نزلت في يهود المدينة؛ زعموا أن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام، أولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة، واستراح يوم السبت؛ فجعلوه راحة، فأكذبهم الله تعالى في ذلك.

 

الآيات: 39 - 40 ( فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب، ومن الليل فسبحه وأدبار السجود )

 

قوله تعالى: « فاصبر على ما يقولون » خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أمره بالصبر على ما يقوله المشركون؛ أي هون أمرهم عليك. ونزلت قبل الأمر بالقتال فهي منسوخة. وقيل: هو ثابت للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته. وقيل معناه: فاصبر على ما يقوله اليهود من قولهم: إن الله استراح يوم السبت. « وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب » قيل: إنه أراد به الصلوات الخمس. قال أبو صالح: قبل طلوع الشمس صلاة الصبح، وقبل الغروب صلاة العصر. ورواه جرير بن عبدالله مرفوعا؛ قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: ( أما انكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها - يعني العصر والفجر ثم قرأ جرير - « وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها » [ طه: 130 ] متفق عليه واللفظ لمسلم. وقال ابن عباس: « قبل الغروب » الظهر والعصر. « ومن الليل فسبحه » يعني صلاة العشاءين. وقيل: المراد تسبيحه بالقول تنزيها قبل طلوع الشمس وقبل الغروب؛ قاله عطاء الخراساني وأبو الأحوص. وقال بعض العلماء في قوله: « قبل طلوع الشمس » قال ركعتي الفجر « وقبل الغروب » الركعتين قبل المغرب؛ وقال ثمامة ابن عبدالله بن أنس: كان ذوو الألباب من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يصلون الركعتين قبل المغرب. وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: كنا بالمدينة فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا السواري فركعوا ركعتين، حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليهما. وقال قتادة: ما أدركت أحدا يصلي الركعتين إلا أنسا وأبا برزة الأسلمي.

قوله تعالى: « ومن الليل فسبحه وأدبار السجود » فيه أربعة أقوال: الأول: هو تسبيح الله تعالى في الليل، قال أبو الأحوص. الثاني: أنها صلاة الليل كله، قال مجاهد. الثالث: أنها ركعتا الفجر، قاله ابن عباس. الرابع: أنها صلاة العشاء الآخرة، قاله ابن زيد. قال ابن العربي: من قال إنه التسبيح في الليل فيعضده الصحيح ( من تعار من الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شي قدير سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ) . وأما من قال إنها الصلاة بالليل فإن الصلاة تسمى تسبيحا لما فيها من تسبيح الله، ومنه سبحة الضحى. وأما من قال إنها صلاة الفجر أو العشاء فلأنهما من صلاة الليل، والعشاء أوضحه. « وأدبار السجود » قال عمر وعلي وأبو هريرة والحسن بن علي والحسن البصري والنخعي والشعبي والأوزاعي والزهري: أدبار السجود الركعتان بعد المغرب، وأدبار النجوم الركعتان قبل الفجر، ورواه العوفي عن ابن عباس، وقد رفعه ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ركعتان بعد المغرب أدبار السجود ) ذكره الثعلبي. ولفظ الماوردي: وروي عن ابن عباس قال: بت ليلة عند النبي صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين قبل الفجر، ثم خرج إلى الصلاة فقال: ( يا ابن عباس ركعتان قبل الفجر أدبار النجوم وركعتان بعد المغرب أدبار السجود ) . وقال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم ( من صلى ركعتين بعد المغرب قبل أن يتكلم كتبت صلاته في عليين « . قال أنس فقرأ في الركعة الأولى » قل يا أيها الكافرون « [ الكافرون: 1 ] وفي الثانية » قل هو الله أحد « [ الإخلاص: 1 ] قال مقاتل: ووقتها ما لم يغرب الشفق الأحمر. وعن ابن عباس أيضا: هو الوتر. قال ابن زيد: هو النوافل بعد الصلوات، ركعتان بعد كل صلاة مكتوبة، قال النحاس: والظاهر يدل على هذا إلا أن الأولى اتباع الأكثر وهو صحيح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقال أبو الأحوص: هو التسبيح في أدبار السجود. قال ابن العربي وهو الأقوى في النظر. وفي صحيح الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر الصلاة المكتوبة ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد ) وقيل: إنه منسوخ بالفرائض فلا يجب على أحد إلا خمس صلوات، نقل ذلك الجماعة.»

 

قرأ نافع وابن كثير وحمزة « وإدبار السجود » بكسر الهمزة على المصدر من أدبر الشيء إدبارا إذا ولى. الباقون بفتحها جمع دبر. وهي قراءة علي وابن عباس، ومثالها طنب وأطناب، أو دبر كقفل وأقفال. وقد استعملوه ظرفا نحو جئتك في دبر الصلاة وفي أدبار الصلاة. ولا خلاف في آخر « والطور » . « وإدبار النجوم » [ الطور: 49 ] أنه بالكسر مصدر، وهو ذهاب ضوئها إذا طلع الفجر الثاني، وهو البياض المنشق من سواد الليل.

 

الآيات: 41 - 45 ( واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب، يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج، إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير، يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير، نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد )

 

قوله تعالى: « واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب » مفعول الاستماع محذوف؛ أي استمع النداء والصوت أو الصيحة وهي صيحة القيامة، وهي النفخة الثانية، والمنادي جبريل. وقيل: إسرافيل. الزمخشري: وقيل إسرافيل ينفخ وجبريل ينادي، فينادي بالحشر ويقول: هلموا إلى الحساب فالنداء على هذا في المحشر. وقيل: واستمع نداء الكفار بالويل والثبور من مكان قريب، أي يسمع الجميع فلا يبعد أحد عن ذلك النداء. قال عكرمة: ينادي منادي الرحمن فكأنما ينادي في آذانهم. وقيل: المكان القريب صخرة بيت المقدس. ويقال: إنها وسط الأرض وأقرب الأرض من السماء باثني عشر ميلا. وقال كعب: بثمانية عشر ميلا، ذكر الأول القشيري والزمخشري، والثاني الماوردي. فيقف جبريل أو إسرافيل على الصخرة فينادي بالحشر: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، ويا عظاما نخرة، ويا أكفانا فانية، ويا قلوبا خاوية، ويا أبدانا فاسدة، ويا عيونا سائلة، قوموا لعرض رب العالمين. قال قتادة: هو إسرافيل صاحب الصور. « يوم يسمعون الصيحة بالحق » يعني صيحة البعث. ومعنى « الخروج » الاجتماع إلى الحساب. « ذلك يوم الخروج » أي يوم الخروج من القبور. « إنا نحن نحيي ونميت » نميت الأحياء ونحيي الموتى؛ أثبت هنا الحقيقة « يوم تتشقق الأرض عنهم سراعا » إلى المنادي صاحب الصور إلى بيت المقدس. « ذلك حشر علينا يسير » أي هين سهل. وقرأ الكوفيون « تشقق » بتخفيف الشين على حذف التاء الأولى. الباقون بإدغام التاء في الشين. وأثبت ابن محيصن وابن كثير ويعقوب ياء « المنادي » في الحالين على الأصل، وأثبتها نافع وأبو عمرو في الوصل لا غير، وحذف الباقون في الحالين.

قلت: وقد زادت السنة هذه الآية بيانا؛ فروى الترمذي عن معاوية بن حيدة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذكره؛ قال وأشار بيده إلى الشام فقال: ( من ها هنا إلى ها هنا تحشرون ركبانا ومشاة وتجرون على وجوهكم يوم القيامة على أفواهكم الفدام توفون سبعين أمة أنتم خيرهم وأكرمهم على الله وإن أول ما يعرب عن أحدكم فخذه ) في رواية أخرى ( فخذه وكفه ) وخرج علي بن معبد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذكره: ثم يقول - يعني الله تعالى - لإسرافيل: ( أنفخ نفخة البعث فينفخ فتخرج الأرواح كأمثال النحل قد ملأت ما بين السماء والأرض فيقول الله عز وجل وعزتي وجلالي ليرجعن كل روح إلى جسده فتدخل الأرواح في الأرض إلى الأجساد ثم تدخل في الخياشيم فتمشي في الأجساد مشي السم في اللديغ ثم تنشق الأرض عنكم وأنا أول من تنشق عنه الأرض فتخرجون منها شبابا كلكم أبناء ثلاث وثلاثين واللسان يومئذ بالسريانية ) وذكر الحديث، وقد ذكرنا جميع هذا وغيره في « التذكرة » مستوفى والحمد لله.

 

قوله تعالى: « نحن أعلم بما يقولون » أي من تكذيبك وشتمك. « وما أنت عليهم بجبار » أي بمسلط تجبرهم على الإسلام؛ فتكون الآية منسوخة بالأمر بالقتال. والجبار من الجبرية والتسلط إذ لا يقال جبار بمعنى مجبر، كما لا يقال خراج بمعنى مخرج؛ حكاه القشيري. النحاس: وقيل معنى جبار لست تجبرهم، وهو خطأ لأنه لا يكون فعال من أفعل. وحكى، الثعلبي: وقال ثعلب قد جاءت احرف فعال بمعنى مفعل وهي شاذة، جبار بمعنى مجبر، ودراك بمعنى مدرك، وسراع بمعنى مسرع، وبكاء بمعنى مبك، وعداء بمعنى معد. وقد قرئ « وما أهديكم إلا سبيل الرشاد » [ غافر: 29 ] بتشديد الشين بمعنى المرشد وهو موسى. وقيل: هو الله. وكذلك قرئ « أما السفينة فكانت لمساكين » [ الكهف: 79 ] يعني ممسكين. وقال أبو حامد الخارزنجي: تقول العرب: سيف سقاط بمعنى مسقط. وقيل: « بجبار » بمسيطر كما في الغاشية « لست عليهم بمصيطر » [ الغاشية: 21 ] . وقال الفراء: سمعت من العرب من يقول جبره على الأمر أي قهره، فالجبار من هذه اللغة بمعنى القهر صحيح. قيل: الجبار من قولهم جبرته على الأمر أي أجبرته وهي لغة كنانية وهما لغتان. الجوهري: وأجبرته على الأمر أكرهته عليه، وأجبرته أيضا نسبته إلى الجبر، كما تقول أكفرته إذا نسبته إلى الكفر. « فذكر بالقرآن من يخاف وعيد » قال ابن عباس: قالوا يا رسول الله لو خوفتنا فنزلت: « فذكر بالقرآن من يخاف وعيد » أي ما أعددته لمن عصاني من العذاب؛ فالوعيد العذاب والوعد الثواب، قال الشاعر:

وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

وكان قتادة يقول: اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك ويرجو موعدك. وأثبت الياء في « وعيدي » يعقوب في الحالين، وأثبتها ورش في الوصل دون الوقف، وحذف الباقون في الحالين. والله أعلم. تم تفسير سورة « ق » والحمد لله.

 

سورة الذاريات

 

الآيات: 1 - 6 ( والذاريات ذروا، فالحاملات وقرا، فالجاريات يسرا، فالمقسمات أمرا، إنما توعدون لصادق، وإن الدين لواقع )

 

قوله تعالى: « والذاريات ذروا » قال أبوبكر الأنباري: حدثنا عبدالله بن ناجية، حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا الجعيد بن عبدالرحمن، عن يزيد بن خصيفة، عن السائب بن يزيد أن رجلا قال لعمر رضي الله عنه: إني مررت برجل يسأل عن تفسير مشكل القرآن، فقال عمر: اللهم أمكني منه؛ فداخل الرجل على عمر يوما وهو لا بس ثيابا وعمامة وعمر يقرأ القرآن، فلما فرغ قام إليه الرجل فقال: يا أمير المؤمنين ما « الذاريات ذروا » فقام عمر فحسر عن ذراعيه وجعل يجلده، ثم قال: ألبسوه ثيابه واحملوه على قتب وأبلغوا به حيه، ثم ليقم خطيبا فليقل: إن صبيغا طلب العلم فأخطأه، فلم يزل وضيعا في قومه بعد أن كان سيدا فيهم. وعن عامر بن واثلة أن ابن الكواء سأل عليا رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين ما « الذاريات ذروا » قال: يلك سل تفقها ولا تسأل تعنتا « والذاريات ذروا » الرياح « فالحاملات وقرا » السحاب « فالجاريات يسرا » السفن « فالمقسمات أمرا » الملائكة. وروى الحرث عن علي رضي الله عنه « والذاريات ذروا » قال: الرياح « فالحاملات وقرا » قال: السحاب تحمل الماء كما تحمل ذوات الأربع الوقر « فالجاريات يسرا » قال: السفن موقرة « فالمقسمات أمرا » قال: الملائكة تأتي بأمر مختلف؛ جبريل بالغلظة، وميكائيل صاحب الرحمة، وملك الموت يأتي بالموت. وقال الفراء: وقيل تأتي بأمر مختلف من الخصب والجدب والمطر والموت والحوادث. ويقال: ذرت الريح التراب تذروه ذروا وتذرية ذريا. ثم قيل: « والذاريات » وما بعده أقسام، وإذا أقسم الرب بشيء أثبت له شرفا. وقيل: المعنى ورب الذاريات، والجواب « إنما توعدون » أي الذي توعدونه من الخير والشر والثواب والعقاب « لصادق » لا كذب فيه؛ ومعنى « لصادق » لصدق؛ وقع الاسم موقع المصدر. « وإن الدين لواقع » يعني الجزاء نازل بكم. ثم ابتدأ قسما آخر فقال: « والسماء ذات الحبك. إنكم لفي قول مختلف » [ الذاريات: 7 ] وقيل إن الذاريات النساء الولودات لأن في ذرايتهن ذرو الخلق؛ لأنهن يذرين الأولاد فصرن ذاريات؛ وأقسم بهن لما في ترائبهن من خيرة عباده الصالحين. وخصى النساء بذلك دون الرجال وإن كان كل واحد منهما ذاريا لأمرين: أحدهما لأنهن أوعية دون الرجال، فلاجتماع الذروين فيهن خصصن بالذكر. الثاني: أن الذرو فيهن أطول زمانا، وهن بالمباشرة أقرب عهدا. « فالحاملات وقرا » السحاب. وقيل: الحاملات من النساء إذا ثقلن بالحمل. والوقر بكسر الواو ثقل الحمل على ظهر أو في بطن، يقال: جاء يحمل وقره وقد أوقر بعيره. واكثر ما يستعمل الوقر في حمل البغل والحمار، والوسق في حمل البعير. وهذه امرأة موقرة بفتح القاف إذا حملت حملا ثقيلا. وأوقرت النخلة كثر حملها؛ يقال: نخلة موقرة وموقر وموقرة، وحكي موقر وهو على غير القياس، لأن الفعل للنخلة. وإنما قيل: موقر بكسر القاف على قياس قولك امرأة حامل، لأن حمل الشجر مشبه بحمل النساء؛ فأما موقر بالفتح فشاذ، وقد روي في قول لبيد يصف نخيلا:

عصب كوارع في خليج محلم حملت فمنها موقر مكموم

والجمع مواقر. فأما الوقر بالفتح فهو ثقل الأذن، وقد وقررت أذنه توقر وقرا أي صمت، وقياس مصدره التحريك إلا أنه جاء بالتسكين وقد تقدم في « الأنعام » القول فيه. « فالجاريات يسرا » السفن تجري بالرياح يسرا إلى حيث سيرت. وقيل: السحاب؛ وفي جريها يسرا على هذا القول وجهان: أحدهما: إلى حيث يسيرها الله تعالى من البلاد والبقاع. الثاني: هو سهولة تسييرها؛ وذلك معروف عند العرب، كما قال الأعشى:

كأن مشيتها من بيت جارتها مشي السحابة لا ريث ولا عجل

 

الآيات: 7 - 14 ( والسماء ذات الحبك، إنكم لفي قول مختلف، يؤفك عنه من أفك، قتل الخراصون، الذين هم في غمرة ساهون، يسألون أيان يوم الدين، يوم هم على النار يفتنون، ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون )

 

قوله تعالى: « والسماء ذات الحبك » قيل: المراد بالسماء ها هنا السحب التي تظل الأرض. وقيل: السماء المرفوعة. ابن عمر: هي السماء السابعة؛ ذكره المهدوي والثعلبي والماوردي وغيرهم. وفي « الحبك » أقوال سبعة: الأول: قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والربيع: ذات الخلق الحسن المستوي. وقال عكرمة؛ قال: ألم تر إلى النساج إذا نسج الثوب فأجاد نسجه؛ يقال منه حبك الثوب يحبكه بالكسر حبكا أي أجاد نسجه. قال ابن الأعرابي: كل شيء أحكمته وأحسنت عمله فقد أحتبكته. والثاني: ذات الزينة؛ قال الحسن وسعيد بن جبير، وعن، الحسن أيضا: ذات النجوم وهو الثالث. الرابع: قال الضحاك: ذات الطرائق؛ يقال لما تراه في الماء والرمل إذا أصابته الريح حبك. ونحوه قول الفراء؛ قال: الحبك تكسر كل شيء كالرمل إذا مرت به الريح الساكنة، والماء القائم إذا مرت به الريح، ودرع الحديد لها حبك، والشعرة الجعدة تكسرها حبك. وفي حديث الدجال: أن شعره حبك. قال زهير:

مكلل بأصول النجم تنسِجه ريح خريق لضاحي مائه حبك

ولكنها تبعد من العباد فلا يرونها. الخامس - ذات الشدة، قال ابن زيد، وقرأ « وبنينا فوقكم سبعا شدادا » [ النبأ:12 ] . والمحبوك الشديد الخلق من الفرس وغيره، قال امرؤ القيس:

قد غدا يحملني في أنفه لا حق الإطلين محبوك ممر

وقال آخر:

مرج الدين فأعددت له مشرف الحارك محبوك الكَتَد

وفي الحديث: أن عائشة رضي الله عنها كانت تحتبك تحت الدرع في الصلاة؛ أي تشد الإزار وتحكمه. السادس: ذات الصفاقة؛ قاله خصيف، ومنه ثوب صفيق ووجه صفيق بين الصفاقة. السابع: أن المراد بالطرق المجرة التي في السماء؛ سميت بذلك لأنها كأثر المجر. و « الحبك » جمع حباك، قال الراجز:

كأنما جللها الحُوَّاك طنفسة في وشيها حِباك

والحباك والحبيكة الطريقة في الرمل ونحوه. وجمع الحباك حبك وجمع الحبيكة حبائك، والحبكة مثل العبكة وهي الحبة من السويق، عن الجوهري. وروي عن الحسن في قوله: « ذات الحبك » « الحبك » و « الحبك » و « الحبك » والحبك والحبك وقرأ أيضا « الحبك » كالجماعة. وروي عن عكرمة وأبي مجلز « الحبك » . و « الحبك » واحدتها حبيكة؛ « والحبك » مخفف منه. و « الحبك » واحدتها حبكة. ومن قرأ « الحبك » فالواحدة حبكة كبرقة وبرق أوحبكة كظلمة وظلم. ومن قرأ « الحبك » فهو كإبل وإطل و « الحبك » مخففة منه. ومن قرأ « الحبك » فهو شاذ إذ ليس في كلام العرب فعل، وهو محمول على تداخل اللغات، كأنه كسر الحاء ليكسر الباء ثم تصور « الحبك » فضم الباء. وقال جميعه المهدوي.

 

قوله تعالى: « إنكم لفي قول مختلف » هذا جواب القسم الذي هو « والسماء » أي إنكم يا أهل مكة « في قول مختلف » في محمد والقرآن فمن مصدق ومكذب. وقيل: نزلت في المقتسمين. وقيل: أختلافهم قولهم ساحر بل شاعر بل أفتراه بل هو مجنون بل هو كاهن بل هو أساطير الأولين. وقيل: أختلافهم أن منهم من نفى الحشر ومنهم من شك فيه. وقيل: المراد عبدة الأوثان والأصنام يقرون بأن الله خالقهم ويعبدون غيره. « يؤفك عنه من أفك » أي يصرف عن الإيمان بمحمد والقرآن من صرف؛ عن الحسن وغيره. وقيل: المعنى يصرف عن الإيمان من أراده بقولهم هو سحر وكهانة وأساطير الأولين. وقيل: المعنى يصرف عن ذلك الاختلاف من عصمه الله. أفكه يأفكه أفكا أي قلبه وصرفه عن الشيء؛ ومنه قوله تعالى: « أجئتنا لتأفكنا » [ الأحقاف: 22 ] . وقال مجاهد: معنى « يؤفك عنه من أفك » يؤفك عنه من أفك، والأفك فساد العقل. الزمخشري: وقرئ « يؤفك عنه من أفك » أي يحرمه من حرم؛ من أفك الضرع إذا أنهكه حلبا. وقال قطرب: يخدع عنه من خدع. وقال اليزيدي: يدفع عنه من دفع. والمعنى واحد وكله راجع إلى معنى الصرف.

 

قوله تعالى: « قتل الخراصون » في التفسير: لعن الكذابون. وقال ابن عباس: أي قتل المرتابون؛ يعني الكهنة. وقال الحسن: هم الذين يقولون لسنا نبعث. ومعنى « قتل » أي هؤلاء ممن يجب أن يدعى عليهم بالقتل على أيدي المؤمنين. وقال الفراء: معنى « قتل » لعن؛ قال: و « الخراصون » الكذابون الذين يتخرصون بما لا يعلمون؛ فيقولون: إن محمدا مجنون كذاب. ساحر شاعر؛ وهذا دعاء عليهم؛ لأن من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك. قال ابن الأنباري: علمنا الدعاء عليهم؛ أي قولوا: « قتل الخراصون » وهو جمع خارص والخرص الكذب والخراص الكذاب، وقد خرص يخرص بالضم خرصا أي كذب؛ يقال: خرص واخترص، وخلق واختلق، وبشك وابتشك، وسرج واسترج، ومان، بمعنى كذب؛ حكاه النحاس. والخرص أيضا حزر ما على النخل من الرطب تمرا. وقد خرصت النخل والاسم الخرص بالكسر؛ يقال: كم خرص نخلك والخراص الذي يخرصها فهو مشترك. وأصل الخرص القطع على ما تقدم بيانه في « الأنعام » ومنه الخريص للخليج؛ لأنه ينقطع إليه الماء، والخرص حبة القرط إذا كانت منفردة؛ لانقطاعها عن أخواتها، والخرص العود؛ لانقطاعه عن نظائره بطيب رائحته. والخرص الذي به جوع وبرد لأنه ينقطع به، يقال: خرص الرجل بالكسر فهو خرص، أي جائع مقرور، ولا يقال للجوع بلا برد خرص. ويقال للبرد بلا جوع خرص. والخرص بالضم والكسر الحلقة من الذهب أو الفضة والجمع الخرصان. ويدخل في الخرص قول المنجمين وكل من يدعي الحدس والتخمين. وقال ابن عباس: هم المقتسمون الذين اقتسموا أعقاب مكة، واقتسموا القول في نبي الله صلى الله عليه وسلم؛ ليصرفوا الناس عن الإيمان به. « الذين هم في غمرة ساهون » الغمرة ما ستر الشيء وغطاه. ومنه نهر غمر أي يغمر من دخله، ومنه غمرات الموت. « ساهون » أي لاهون غافلون عن أمر الآخرة. « يسألون أيان يوم الدين » أي متى يوم الحساب؛ يقولون ذلك استهزاء وشكا في القيامة.

 

قوله تعالى: « يوم هم على النار يفتنون » نصب « يوم » على تقدير الجزاء أي هذا الجزاء « يوم هم على النار يفتنون » أي يحرقون، وهو من قولهم: فتنت الذهب أي أحرقته لتختبره؛ وأصل الفتنة الاختبار. وقيل: إنه مبني بني لإضافته إلى غير متمكن، وموضعه نصب على التقدير المتقدم، أو رفع على البدل من « يوم الدين » . وقال الزجاج: يقول يعجبني يوم أنت قائم ويوم أنت تقوم، وإن شئت فتحت وهو في موضع رفع، فإنما أنتصب هذا وهو في المعنى رفع. وقال ابن عباس: « يفتنون » يعذبون. ومنه قول الشاعر:

كل امرئ من عباد الله مضطهد ببطن مكة مقهور ومفتون

« ذوقوا فتنتكم » أي يقال لهم ذوقوا عذابكم؛ قاله ابن زيد. مجاهد: حريقكم. ابن عباس: أي تكذيبكم يعني جزاءكم. الفراء: أي عذابكم « هذا الذي كنتم به تستعجلون » في الدنيا. وقال: « هذا » ولم يقل هذه؛ لأن الفتنة هنا بمعنى العذاب.

 

الآيات: 15 - 16 ( إن المتقين في جنات وعيون، آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين )

 

قوله تعالى: « إن المتقين في جنات وعيون » لما ذكر مال الكفار ذكر مال المؤمنين أي هم في بساتين فيها عيون جارية على نهاية ما يتنزه به. « آخذين ما آتاهم ربهم » أي ما أعطاهم من الثواب وأنواع الكرامات؛ قاله الضحاك. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: « آخذين ما آتاهم ربهم » أي عاملين بالفرائض. « إنهم كانوا قبل ذلك » أي قبل دخولهم الجنة في الدنيا « محسنين » بالفرائض. وقال ابن عباس: المعنى كانوا قبل أن يفرض عليهم الفرائض محسنين في أعمالهم.

 

الآيات: 17 - 19 ( كانوا قليلا من الليل ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون، وفي أموالهم حق للسائل والمحروم )

 

قوله تعالى: « كانوا قليلا من الليل ما يهجعون » معنى « يهجعون » ينامون؛ والهجوع النوم ليلا، والتهجاع النومة الخفيفة؛ قال أبو قيس بن الأسلت:

قد حصت البيضة رأسي فما أطعم نوما غير تهجاع

وقال عمرو بن معد يكرب يتشوق أخته وكان أسرها الصمة أبو دريد بن الصمة:

أمن ريحانة الداعي السميع يؤرقني وأصحابي هجوع

يقال: هجع يهجع هجوعا، وهبغ يهبغ هبوغا بالغين المعجمة إذا نام؛ قاله الجوهري. واختلف في « ما » فقيل: صلة زائدة - قاله إبراهيم النخعي - والتقدير كانوا قليلا من الليل يهجعون؛ أي ينامون قليلا من الليل ويصلون أكثره. قال عطاء: وهذا لما أمروا بقيام الليل. وكان أبو ذر يحتجز ويأخذ العصا فيعتمد عليها حتى نزلت الرخصة « قم الليل إلا قليلا » [ المزمل: 2 ] الآية. وقيل: ليس « ما » صلة بل الوقف عند قوله: « قليلا » ثم يبتدئ « من الليل ما يهجعون » فـ « ما » للنفي وهو نفى النوم عنهم البتة. قال الحسن: كانوا لا ينامون من الليل إلا أقله وربما نشطوا فجدوا إلى السحر. روي عن يعقوب الحضرمي أنه قال: اختلفوا في تفسير هذه الآية فقال بعضهم: « كانوا قليلا » معناه كان عددهم يسيرا ثم ابتدأ فقال: « من الليل ما يهجعون » على معنى من الليل يهجعون؛ قال ابن الأنباري: وهذا فاسد؛ لأن الآية إنما تدل على قلة نومهم لا على قلة عددهم، وبعد فلو ابتدأنا « من الليل ما يهجعون » على معنى من الليل يهجعون لم يكن في هذا مدح لهم؛ لأن الناس كلهم يهجعون من الليل إلا أن تكون « ما » جحدا.

قلت: وعلى ما تأوله بعض الناس - وهو قول الضحاك - من أن عددهم كان يسيرا يكون الكلام متصلا بما قبل من قوله: « إنهم كانوا قبل ذلك محسنين » أي كان المحسنون قليلا، ثم استأنف فقال: « من الليل ما يهجعون » وعلى التأويل الأول والثاني يكون « كانوا قليلا من الليل » خطابا مستأنفا بعد تمام ما تقدمه ويكون الوقف على « ما يهجعون » ، وكذلك إن جعلت « قليلا » خبر كان وترفع « ما » بقليل؛ كأنه قال: كانوا قليلا من الليل هجوعهم. فـ « ما » يجوز أن تكون نافية، ويجوز أن تكون مع الفعل مصدرا، ويجوز أن تكون رفعا على البدل من اسم كان، التقدير كان هجوعهم قليلا من الليل، وانتصاب قوله: « قليلا » إن قدرت « ما » زائدة مؤكدة بـ « يهجعون » على تقدير كانوا وقتا قليلا أو هجوعا قليلا يهجعون، وإن لم تقدر « ما » زائدة كان قوله: « قليلا » خبر كان ولم يجز نصبه بـ « يهجعون » ؛ لأنه إذا قدر نصبه بـ « يهجعون » مع تقدير « ما » مصدرا قدمت الصلة على الموصول. وقال أنس وقتادة في تأويل الآية: أي كانوا يصلون بين العشاءين: المغرب والعشاء. أبو العالية: كانوا لا ينامون بين العشاءين. وقاله ابن وهب. وقال مجاهد: نزلت في الأنصار كانوا يصلون العشاءين في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ثم يمضون إلى قباء. وقال محمد بن علي بن الحسين: كانوا لا ينامون حتى يصلوا العتمة. قال الحسن: كأنه عد هجوعهم قليلا في جنب يقظتهم للصلاة. وقال ابن عباس ومطرف: قل ليلة لا تأتي عليهم إلا يصلون لله فيها إما من أولها وإما من وسطها.

 

روي عن بعض المتهجدين أنه أتاه أت في منامه فأنشده:

وكيف تنام الليل عين قريرة ولم تدر في أي المجالس تنزل

وروي عن رجل من الأزد أنه قال: كنت لا أنام الليل فنمت في آخر الليل، فإذا أنا بشابين أحسن ما رأيت ومعهما حلل، فوقفا على كل مصل وكسواه حلة، ثم انتهيا إلى النيام فلم يكسواهم، فقلت لهما: أكسواني من حللكما هذه؛ فقالا لي: إنها ليست حلة لباس إنما هي رضوان الله يحل على كل مصل. ويروى عن أبي خلاد أنه قال: حدثني صاحب لي قال: فبينا أنا نائم ذات ليلة إذ مثلت لي القيامة، فنظرت إلى أقوام من إخواني قد أضاءت وجوههم، وأشرقت ألوانهم، وعليهم الحلل من دون الخلائق، فقلت: ما بال هؤلاء مكتسون والناس عراة، ووجوههم مشرقة ووجوه الناس مغبرة ! فقال لي قائل: الذين رأيتهم مكتسون فهم المصلون بين الأذان والإقامة، والذين وجوههم مشرقة فأصحاب السهر والتهجد، قال: ورأيت أقواما على نجائب، فقلت: ما بال هؤلاء ركبانا والناس مشاة حفاة؟ فقال لي: هؤلاء الذين قاموا على أقدامهم تقربا بالله تعالى فأعطاهم الله بذلك خير الثواب؛ قال: فصحت في منامي: واها للعابدين، ما أشرف مقامهم! ثم استيقظت من منامي وأنا خائف.

 

قوله تعالى: « وبالأسحار هم يستغفرون » مدح ثان؛ أي يستغفرون من، ذنوبهم، قاله الحسن. والسحر وقت يرجى فيه إجابة الدعاء. وقد مضى في « آل عمران » القول فيه. وقال ابن عمر ومجاهد: أي يصلون وقت السحر فسموا الصلاة استغفارا. وقال الحسن في قوله تعالى: « كانوا قليلا من الليل ما يهجعون » مدوا الصلاة من أول الليل إلى السحر ثم استغفروا في السحر. ابن وهب: هي في الأنصار؛ يعني أنهم كانوا يغدون من قباء فيصلون في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. ابن وهب عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب قالوا: كانوا ينضحون لناس من الأنصار بالدلاء على الثمار ثم يهجعون قليلا، ثم يصلون آخر الليل. الضحاك: صلاة الفجر. قال الأحنف بن قيس: عرضت عملي على أعمال أهل الجنة فإذا قوم قد باينونا بونا بعيدا لا نبلغ أعمالهم « كانوا قليلا من الليل ما يهجعون » وعرضت عملي على أعمال أهل النار فإذا قوم لا خير فيهم، يكذبون بكتاب الله وبرسوله وبالبعث بعد الموت، فوجدنا خيرنا منزلة قوما خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا.

 

قوله تعالى: « وفي أموالهم حق للسائل والمحروم » مدح ثالث. قال محمد بن سيربن وقتادة: الحق هنا الزكاة المفروضة. وقيل: إنه حق سوى الزكاة يصل به رحما، أو يقري به ضيفا، أو يحمل به كلا، أو يغني محروما. وقاله ابن عباس؛ لأن السورة مكية وفرضت الزكاة بالمدينة. ابن العربي: والأقوى في هذه الآية أنها الزكاة؛ لقوله تعالى في سورة « المعارج » : « والذين في أموالهم حق معلوم. للسائل والمحروم » [ المعارج:25 ] والحق المعلوم هو الزكاة التي بين الشرع قدرها وجنسها ووقتها، فأما غيرها لمن يقول به فليس بمعلوم؛ لأنه غير مقدر ولا مجنس ولا موقت. « للسائل والمحروم » السائل الذي يسأل الناس لفاقته؛ قاله ابن عباس وسعيد بن المسيب وغيرهما. « والمحروم » الذي حرم المال. واختلف في تعيينه؛ فقال ابن عباس وسعيد بن المسيب وغيرهما: المحروم المحارف الذي ليس له في الإسلام سهم. وقالت عائشة رضي الله عنها: المحروم المحارف الذي لا يتيسر له مكسبه؛ يقال: رجل محارف بفتح الراء أي محدود محروم، وهو خلاف قولك مبارك. وقد حورف كسب فلان إذا شدد عليه في معاشه كأنه ميل برزقه عنه. وقال قتادة والزهري: المحروم المتعفف الذي لا يسأل الناس شيئا ولا يعلم بحاجته. وقال الحسن ومحمد ابن الحنفية: المحروم الذي يجيء بعد الغنيمة وليس له فيها سهم. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية فأصابوا وغنموا فجاء قوم بعد ما فرغوا فنزلت هذه الآية « وفي أموالهم » . وقال عكرمة: المحروم الذي لا يبقى له مال. وقال زيد بن أسلم: هو الذي أصيب ثمره أو زرعه أونسل ماشيته. وقال القرظي: المحروم الذي أصابته الجائحة ثم قرأ « إن لمغرمون. بل نحن محرومون » نظيره في قصة أصحاب الجنة حيث قالوا: « بل نحن محرومون » [ الواقعة: 66 ] وقال أبو قلابة: كان رجل من أهل اليمامة له مال فجاء سيل فذهب بماله، فقال رجل من أصحابه: هذا المحروم فاقسموا له. وقيل: إنه الذي يطلب الدنيا وتدبر عنه. وهو يروى عن ابن عباس أيضا. وقال عبدالرحمن بن حميد: المحروم المملوك. وقيل: إنه الكلب؛ روي أن عمر بن عبدالعزيز كان في طريق مكة، فجاء كلب فانتزع عمر رحمه الله كتف شاة فرمى بها إليه وقال: يقولون إنه المحروم. وقيل: إنه من وجبت نفقته بالفقر من ذوي الأنساب؛ لأنه قد حرم كسب نفسه حتى وجبت نفقته في مال غيره. وروى ابن وهب عن مالك: أنه الذي يحرم الرزق، وهذا قول حسن؛ لأنه يعم جميع الأقوال. وقال الشعبي: لي اليوم سبعون سنة منذ احتلمت أسأل عن المحروم فما أنا اليوم بأعلم مني فيه يومئذ. رواه شعبة عن عاصم الأحول عن الشعبي. وأصله في اللغة الممنوع؛ من الحرمان وهو المنع. علقمة:

ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه أنى توجه والمحروم محروم

وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ويل للأغنياء من الفقراء يوم القيامة يقولون ربنا ظلمونا حقوقنا التي فرضت لنا عليهم فيقول الله تعالى وعزتي وجلالي لأقربنكم ولأبعدنهم ) ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم « وفي أموالهم حق للسائل والمحروم » ذكره الثعلبي.

 

الآيات: 20 - 23 ( وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تبصرون، وفي السماء رزقكم وما توعدون، فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون )

 

قوله تعالى: « وفي الأرض آيات للموقنين » لما ذكر أمر الفريقين بين أن في الأرض علامات تدل على قدرته على البعث والنشور؛ فمنها عود النبات بعد أن صار هشيما، ومنها أنه قدر الأقوات فيها قواما للحيوانات، ومنها سيرهم في البلدان التي يشاهدون فيها أثار الهلاك النازل بالأمم المكذبة. والموقنون هم العارفون المحققون وحدانية ربهم، وصدق نبوة نبيهم؛ خصهم بالذكر لأنهم المنتفعون بتلك الآيات وتدبرها. « وفي أنفسكم أفلا تبصرون » قيل: التقدير وفي الأرض وفي أنفسكم آيات للموقنين. وقال قتادة: المعنى من سار في الأرض رأى آيات وعبرا، ومن تفكر في نفسه علم أنه خلق ليعبد الله. ابن الزبير ومجاهد: المراد سبيل الخلاء والبول. وقال السائب بن شريك: يأكل ويشرب من مكان واحد ويخرج من مكانين؛ ولو شرب لبنا محضا لخرج منه الماء ومنه الغائط؛ فتلك الآية في النفس. وقال ابن زيد: المعنى أنه خلقكم من تراب، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة « ثم إذا أنتم بشر تنتشرون » [ الروم: 20 ] . السدي: « وفي أنفسكم » أي في حياتكم وموتكم، وفيما يدخل ويخرج من طعامكم. الحسن: وفي الهرم بعد الشباب، والضعف بعد القوة، والشيب بعد السواد. وقيل: المعنى وفي خلق أنفسكم من نطفة وعلقة ومضغة ولحم وعظم إلى نفخ الروح، وفي اختلاف الألسنة والألوان والصور، إلى غير ذلك من الآيات الباطنة والظاهرة، وحسبك بالقلوب وما ركز فيها من العقول، وما خصت به من أنواع المعاني والفنون، وبالألسن والنطق ومخارج الحروف والأبصار والأطراف وسائر الجوارح، وتأتيها لما خلقت له، وما سوى في الأعضاء من المفاصل للانعطاف والتثني، وأنه إذا جسا شيء منها جاء العجز، وإذا استرخى أناخ الذل « فتبارك الله أحسن الخالقين » [ المؤمنون:14 ] . « أفلا تبصرون » يعني بصر القلب ليعرفوا كمال قدرته. وقيل: إنه نجح العاجز، وحرمان الحازم.

قلت: كل ما ذكر مراد في الاعتبار. وقد قدمنا في آية التوحيد من سورة « البقرة » أن ما في بدن الإنسان الذي هو العالم الصغير شيء إلا وله نظير في العالم الكبير، وذكرنا هناك من الاعتبار ما يكفي ويغني لمن تدبر.

 

قوله تعالى: « وفي السماء رزقكم وما توعدون » قال سعيد بن جبير والضحاك: الرزق هنا ما ينزل من السماء من مطر وثلج ينبت به الزرع ويحيا به الخلق. قال سعيد بن جبير: كل عين قائمة إنها من الثلج. وعن الحسن أنه كان إذا رأى السحاب قال لأصحابه: فيه والله رزقكم ولكنكم تحرمونه بخطاياكم. وقال أهل المعاني: « وفي السماء رزقكم » معناه وفي المطر رزقكم؛ سمي المطر سماء لأنه من السماء ينزل. قال الشاعر:

إذا سقط السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا

وقال ابن كيسان: يعني وعلى رب السماء رزقكم؛ نظيره: « وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها » [ هود: 6 ] . وقال سفيان الثوري: « وفي السماء رزقكم » أي عند الله في السماء رزقكم. وقيل: المعنى وفي السماء تقدير رزقكم، وما فيه لكم مكتوب في أم الكتاب. وعن سفيان قال: قرأ واصل الأحدب « وفي السماء رزقكم » فقال: ألا أرى رزقي في السماء وأنا أطلبه في الأرض! فدخل خربة فمكث ثلاثا لا يصيب شيئا فإذا هو في الثالثة بدوخلة رطب، وكان له أخ أحسن نية منه فدخل معه فصارتا دوخلتين، فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرق الله بالموت بينهما. وقرأ ابن محيصن ومجاهد « وفي السماء رازقكم » بالألف وكذلك في أخرها « إن الله هو الرازق. » وما توعدون « قال مجاهد: يعني من خير وشر. وقال غيره: من خير خاصة. وقيل: الشر خاصة. وقيل: الجنة؛ عن سفيان بن عيينة. الضحاك: » وما توعدون « من الجنة والنار. وقال ابن سيرين: » وما توعدون « من أمر الساعة. وقاله الربيع.»

 

قوله تعالى: « فورب السماء والأرض إنه لحق » أكد ما أخبرهم به من البعث وما خلق في السماء من الرزق، وأقسم عليه بأنه لحق ثم أكده بقوله: « مثل ما أنكم تنطقون » وخص النطق من بين سائر الحواس؛ لأن ما سواه من الحواس يدخله التشبيه، كالذي يرى في المرآة، واستحالة الذوق عند غلبة الصفراء ونحوها، والدوى والطنين في الأذن، والنطق سالم من ذلك، ولا يعترض بالصدى لأنه لا يكون إلا بعد حصول الكلام من الناطق غير مشوب بما يشكل به. وقال بعض الحكماء: كما أن كل إنسان ينطق بنفسه ولا يمكنه أن ينطق بلسان غيره، فكذلك كل إنسان يأكل رزقه ولا يمكنه أن يأكل رزق غيره. وقال الحسن: بلغني أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ( قاتل الله أقواما أقسم لهم ربهم بنفسه ثم لم يصدقوه قال الله تعالى: « فورب السماء والأرض إنه لحق » . وقال الأصمعي: أقبلت ذات مرة من مسجد البصرة إذ طلع أعرابي جلف جاف على قعود له متقلدا سيفه وبيده قوسه، فدنا وسلم وقال: ممن الرجل؟ قلت من بني أصمع، قال: أنت الأصمعي؟ قلت: نعم. قال: ومن أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن؛ قال: وللرحمن كلام يتلوه الآدميون؟ قلت: نعم؛ قال: فاتل علي منه شيئا؛ فقرأت « والذاريات ذروا » إلى قوله: « وفي السماء رزقكم » فقال: يا أصمعي حسبك! ! ثم قام إلى ناقته فنحرها وقطعها بجلدها، وقال: أعني على توزيعها؛ ففرقناها على من أقبل وأدبر، ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما ووضعهما تحت الرحل وولى نحو البادية وهو يقول: « وفي السماء زرقكم وما توعدون » فمقت نفسي ولمتها، ثم حججت مع الرشيد، فبينما أنا أطوف إذا أنا بصوت رقيق، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي وهو ناحل مصفر، فسلم علي وأخذ بيدي وقال: اتل علي كلام الرحمن، وأجلسني من وراء المقام فقرأت « والذاريات » حتى وصلت إلى قوله تعالى: « وفي السماء رزقكم وما توعدون » فقال الأعرابي: لقد وجدنا ما وعدنا الرحمن حقا، وقال: وهل غير هذا؟ قلت: نعم؛ يقول الله تبارك وتعالى: « فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون » قال فصاح الأعرابي وقال: يا سبحان الله! من الذي أغضب الجليل حتى حلف! ألم يصدقوه في قوله حتى ألجأوه إلى اليمين؟ فقالها ثلاثا وخرجت بها نفسه. وقال يزيد بن مرثد: إن رجلا جاع بمكان ليس فيه شيء فقال: اللهم رزقك الذي وعدتني فأتني به؛ فشبع وروي من غير طعام ولا شراب. وعن أبي سعيد الخدري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لو أن أحدكم فر من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت ) أسنده الثعلبي. وفي سنن ابن ماجة عن حبة وسواء ابني خالد قالا: دخلنا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعالج شيئا فأعناه عليه، فقال: ( لا تيأسا من الرزق ما تهززت رؤوسكما فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشر ثم يرزقه الله ) . وروي أن قوما من الأعراب زرعوا زرعا فأصابته جائحة فحزنوا لأجله، فخرجت عليهم أعرابية فقالت: ما لي أراكم قد نكستم رؤوسكم، وضاقت صدوركم، هو ربنا والعالم بنا، رزقنا عليه يأتينا به حيث شاء! ثم أنشأت تقول:

لو كان في صخرة في البحر راسية صما ململمة ملسا نواحيها

رزق لنفس براها الله لانفلقت حتى تؤدي إليها كل ما فيها

أو كان بين طباق السبع مسلكها لسهل الله في المرقى مراقيها

حتى تنال الذي في اللوح خط لها إن لم تنله وإلا سوف يأتيها

قلت: وفي هذا المعنى قصة الأشعريين حين أرسلوا رسولهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع قوله تعالى: « وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها » [ هود: 6 ] فرجع ولم يكلم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ليس الأشعريون بأهون على الله من الدواب؛ وقد ذكرناه في سورة « هود » . وقال لقمان: « يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة » [ لقمان: 16 ] الآية. وقد مضى في « لقمان » وقد استوفينا هذا الباب في كتاب ( قمع الحرص بالزهد والقناعة ) والحمد لله. وهذا هو التوكل الحقيقي الذي لا يشوبه شيء، وهو فراغ القلب مع الرب؛ رزقنا الله إياه ولا أحالنا على أحد سواه بمنه وكرمه.

 

قوله تعالى: « مثل ما أنكم تنطقون » قراءة العامة « مثل » بالنصب أي كمثل « ما أنكم » فهو منصوب على تقدير حذف الكاف أي كمثل نطقكم و « ما » زائدة؛ قاله بعض الكوفيين. وقال الزجاج والفراء: يجوز أن ينتصب على التوكيد؛ أي لحق حقا مثل نطقك؛ فكأنه نعت لمصدر محذوف وقول سيبوبه: انه مبني بني حين أضيف إلى غير متمكن و « ما » زائدة للتوكيد. المازني: « مثل » مع « ما » بمنزلة شيء واحد فبني على الفتح لذلك. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ قال: ولأن من العرب من يجعل مثلا منصوبا أبدا؛ فتقول: قال لي رجل مثلك، ومررت برجل مثلك بنصب مثل على معنى كمثل. وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي والأعمش « مثل » بالرفع على أنه صفة لحق؛ لأنه نكرة وإن أضيف إلى معرفة، إذ لا يختصى بالإضافة لكثرة الأشياء التي يقع بعدها التماثل بين المتماثلين. و « مثل » مضاف إلى « أنكم » و « ما » زائدة ولا تكون مع ما بعدها بمنزلة. المصدر إذ لا فعل معه تكون معه مصدرا. ومجوز أن تكون بدلا من « لحق » .

 

الآيات: 24 - 28 ( هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين، إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون، فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين، فقربه إليهم قال ألا تأكلون، فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم )

 

قوله تعالى: « هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين » ذكر قصة إبراهيم عليه السلام ليبين بها أنه أهلك المكذب بآياته كما فعل بقوم لوط. « هل أتاك » أي ألم يأتك. وقيل: « هل » بمعنى قد؛ كقوله تعالى: « هل أتى على الإنسان حين من الدهر » [ الإنسان: 1 ] . وقد مضى الكلام في ضيف إبراهيم في « هود » « والحجر » . « المكرمين » أي عند الله؛ دليله قوله تعالى: « بل عباد مكرمون » [ الأنبياء: 26 ] قال ابن عباس: يريد جبريل وميكائيل وإسرافيل - زاد عثمان بن حصين - ورفائيل عليهم الصلاة والسلام. وقال محمد بن كعب: كان جبريل ومعه تسعة. وقال عطاء وجماعة: كانوا ثلاثة جبريل وميكائيل ومعهما ملك آخر. قال ابن عباس: سماهم مكرمين لأنهم غير مذعورين. وقال مجاهد: سماهم مكرمين لخدمة إبراهيم إياهم بنفسه. قال عبدالوهاب: قال لي علي بن عياض: عندي هريسة ما رأيك فيها؟ قلت: ما أحسن رأيي فيها؛ قال: امض بنا؛ فدخلت الدار فنادى الغلام فإذا هو غائب، فما راعني إلا به ومعه القمقمة والطست وعلى عاتقه المنديل، فقلت: إنا لله وإن إليه راجعون، لو علمت يا أبا الحسن أن الأمر هكذا؛ قال: هون عليك فإنك عندنا مكرم، والمكرم إنما يخدم بالنفس؛ انظر إلى قوله تعالى: « هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين » .

 

قوله تعالى: « إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما » تقدم في « الحجر » . « قال سلام » أي عليكم سلام. ويجوز بمعنى أمري سلام أو ردي لكم سلام. وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما « سِلم » بكسر السين. « قوم منكرون » أي أنتم قوم منكرون؛ أي غرباء لا نعرفكم. وقيل: لأنه رآهم على غير صورة البشر، وعلى غير صورة الملائكة الذين كان يعرفهم فنكرهم، فقال: « قوم منكرون » . وقيل: أنكرهم لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان. وقال أبو العالية: أنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض. وقيل: خافهم؛ يقال أنكرته إذا خفته، قال الشاعر:

فأنكرتني وما كان الذي نكرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا

 

قوله تعالى: « فراغ إلى أهله » قال الزجاج: أي عدل إلى أهله. وقد مضى في « والصافات » . ويقال: أراغ وارتاغ بمعنى طلب، وماذا تريغ أي تريد وتطلب، وأراغ إلى كذا أي مال إليه سرا وحاد، فعلى هذا يكون راغ وأراغ لغتين بمعنى. « فجاء بعجل سمين » أي جاء ضيفه بعجل قد شواه لهم كما في « هود » : « فما لبث أن جاء بعجل حنيذ » [ هود: 69 ] . ويقال: إن إبراهيم انطلق إلى منزله كالمستخفي من ضيفه، لئلا يظهروا على ما يريد أن يتخذ لهم من الطعام. « فقربه إليهم » يعني العجل. « قال ألا تأكلون » قال قتادة: كان عامة مال إبراهيم البقر، واختاره لهم سمينا زيادة في إكرامهم. وقيل: العجل في بعض اللغات الشاة. ذكره القشيري. وفي الصحاح: العجل ولد البقرة والعجول مثله والجمع العجاجيل والأنثى عجلة، عن أبي الجراح، وبقرة معجل ذات عجل، وعجل قبيلة من ربيعة.

 

قوله تعالى: « فأوجس منهم خيفة » أي أحس منهم في نفسه خوفا. وقيل: أضمر لما لم يتحرموا بطعامه. ومن أخلاق الناس: أن من تحرم بطعام إنسان أمنه. وقال عمرو بن دينار: قالت الملائكة لا نأكل إلا بالثمن. قال: كلوا وأدوا ثمنه. قالوا: وما ثمنه؟ قال: تسمون الله إذا أكلتم وتحمدونه إذا فرغتم. فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: لهذا اتخذك الله خليلا. وقد تقدم هذا في « هود » ولما رأوا ما بإبراهيم من الخوف « قالوا لا تخف » وأعلموه أنهم ملائكة الله ورسله. « وبشروه بغلام عليم » أي بولد يولد له من سارة زوجته. وقيل: لما أخبروه أنهم ملائكة لم يصدقهم، فدعوا الله فأحيا العجل الذي قربه إليهم. وروى عون بن أبي شداد: أن جبريل مسح العجل بجناحه، فقام يدرج حتى لحق بأمه وأم العجل في الدار. ومعنى « عليم » أي يكون بعد بلوغه من أولي العلم بالله وبدينه. والجمهور على أن المبشر به هو إسحاق. وقال مجاهد وحده: هو إسماعيل وليس بشيء فإن الله تعالى يقول: « وبشرناه بإسحاق » [ الصافات: 112 ] . وهذا نص.

 

الآيات: 29 - 30 ( فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم، قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم )

 

قوله تعالى: « فأقبلت امرأته في صرة » أي في صيحة وضجة؛ عن ابن عباس وغيره. ومنه أخذ صرير الباب وهو صوته. وقال عكرمة وقتادة: إنها الرنة والتأوه ولم يكن هذا الإقبال من مكان إلى مكان. قال الفراء: وإنما هو كقولك أقبل يشتمني أي أخذ في شتمي. وقيل: أقبلت في صرة أي في جماعة من النساء تسمع كلام الملائكة. قال الجوهري: الصرة الضجة والصيحة، والصرة الجماعة، والصرة الشدة من كرب وغيره، قال امرؤ القيس:

فألحقه بالهاديات ودونه جواحرها في صرة لم تزيل

يحتمل هذا البيت الوجوه الثلاثة. وصرة القيظ شدة حره. فلما سمعت سارة البشارة صكت وجهها؛ أي ضربت يدها على وجهها على عادة النسوان عند التعجب؛ قاله سفيان الثوري وغيره. وقال ابن عباس: صكت وجهها لطمته. وأصل الصك الضرب؛ صكه أي ضربه؛ قال الراجز:

يا كروانا صك فاكبأنـَّا

قال الأموي: كَبَن الظبي إذا لطأ بالأرض واكبأن انقبض. « وقالت عجوز عقيم » أي أتلد عجوز عقيم. الزجاج: أي قالت أنا عجوز عقيم فكيف ألد كما قالت: « يا ويلتا أألد وأنا عجوز » [ هود:72 ] « قالوا كذلك » أي كما قلنا لك وأخبرناك « قال ربك » فلا تشكي فيه، وكان بين البشارة والولادة سنة وقد مضى هذا. « إنه هو الحكيم العليم » حكيم فيما يفعله عليم بمصالح خلقه.