الجزء الثامن والعشرون

 

سورة المجادلة

مقدمة السورة

 

سورة المجادلة مدنية في قول الجميع. إلا رواية عن عطاء: أن العشر الأول منها مدني وباقيها مكي، وقال الكلبي: نزل جميعها بالمدينة غير قوله تعالى: « ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم » [ المجادلة: 7 ] نزلت بمكة.

 

الآية: 1 ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير )

 

قوله تعالى: « قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله » التي اشتكت إلى الله هي خولة بنت ثعلبة. وقيل بنت حكيم. وقيل اسمها جميلة. وخولة أصح، وزوجها أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت، وقد مر بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته والناس معه على حمار فاستوقفته طويلا ووعظته وقالت: يا عمر قد كنت تدعى عميرا، ثم قيل لك عمر، ثم قيل لك أمير المؤمنين، فاتق الله يا عمر، فإنه من أيقن بالموت خاف الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب، وهو واقف يسمع كلامها، فقيل له: يا أمير المؤمنين أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف؟ فقال: والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره لا زلت إلا للصلاة المكتوبة، أتدرون من هذه العجوز؟ هي خولة بنت ثعلبة سمع الله قولها من فوق سبع سموات، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر؟ وقالت عائشة رضي الله عنها: تبارك الذي وسع سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفي علي بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تقول: يا رسول الله! أكل شبابي ونثرت له بطني، حتى إذا كبر سني وانقطع ولدى ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك! فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية: « قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله » خرجه ابن ماجة في السنن. والذي في البخاري من هذا عن عائشة قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة تشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل: « قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها » . وقال الماوردي: هي خولة بنت ثعلبة. وقيل: بنت خويلد. وليس هذا بمختلف، لأن أحدهما أبوها والآخر جدها فنسبت إلى كل واحد منهما. وزوجها أوس بن الصامت أخو عباد بن الصامت.

وقال الثعلبي قال ابن عباس: هي خولة بنت خويلد الخزرجية، كانت تحت أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت، وكانت حسنة الجسم، فرآها زوجها ساجدة فنظر عجيزتها فأعجبه أمرها، فلما انصرفت أرادها فأبت فغضب عليها قال عروة: وكان أمرا به لمم فأصابه بعض لممه فقال لها: أنت علي كظهر أمي. وكان الإيلاء والظهار من الطلاق في الجاهلية، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: ( حرمتِ عليه ) فقالت: والله ما ذكر طلاقا، ثم قالت: أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي ووحشتي وفراق زوجي وابن عمي وقد نفضت له بطني، فقال: ( حرمت عليه ) فما زالت تراجعه ومراجعها حتى نزلت عليه الآية. وروى الحسن: أنها قالت: يا رسول الله! قد نسخ الله سنن الجاهلية وإن زوجي ظاهر مني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما أوحى إلي في هذا شيء ) فقالت: يا رسول الله، أوحي إليك في كل شيء وطوي عنك هذا؟! فقال: ( هو ما قلت لك ) فقالت: إلى الله أشكو لا إلى رسوله. فأنزل الله: « قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله » الآية.

وروى الدارقطني من حديث قتادة أن أنس بن مالك حدثه قال: إن أوس بن الصامت ظاهر من امرأته خويلة بنت ثعلبة فشكت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ظاهر حين كبرت سني ورق عظمي. فأنزل الله تعالى آية الظهار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأوس: ( اعتق رقبة ) قال: مالي بذلك يدان. قال: ( فصم شهرين متتابعين ) قال: أما إني إذا أخطأني أن آكل في يوم ثلاث مرات يكل بصري. قال: ( فأطعم ستين مسكينا ) قال: ما أجد إلا أن تعينني منك بعون وصلة. قال: فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر صاعا حتى جمع الله له والله غفور رحيم. « إن الله سميع بصير » قال: فكانوا يرون أن عنده مثلها وذلك لستين مسكينا، وفي الترمذي وسنن ابن ماجة: أن سلمة بن صخر البياضي ظاهر من امرأته، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ( أعتق رقبة ) قال: فضربت صفحة عنقي بيدي. فقلت: لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها. قال: ( فصم شهرين ) فقلت: يا رسول الله! وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام. قال: ( فأطعم ستين مسكينا ) الحديث. وذكر ابن العربي في أحكامه: روي أن خولة بنت دليج ظاهر منها زوجها، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( قد حرمت عليه ) فقالت: أشكو إلى الله حاجتي. ثم عادت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( حرمت عليه ) فقالت: إلى الله أشكو حاجتي إليه وعائشة تغسل شق رأسه الأيمن، ثم تحولت إلى الشق الآخر وقد نزل عليه الوحي، فذهبت أن تعيد، فقالت عائشة : اسكتي فإنه قد نزل الوحي. فلما نزل القرآن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوجها: ( اعتق رقبة ) قال: لا أجد. قال: ( صم شهرين متتابعين ) قال: إن لم آكل في اليوم ثلاث مرات خفت أن يعشو بصري. قال: ( فأطعم ستين مسكينا ) . قال: فأعني. فأعانه بشيء. قال أبو جعفر النحاس: أهل التفسير على أنها خولة وزوجها أوس بن الصامت، واختلفوا في نسبها، قال بعضهم: هي أنصارية وهي بنت ثعلبة، وقال بعضهم: هي بنت دليج، وقيل: هي بنت خويلد، وقال بعضهم: هي بنت الصامت، وقال بعضهم: هي أمة كانت لعبدالله بن أبي، وهي التي أنزل الله فيها « ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا » [ النور: 33 ] لأنه كان يكرهها على الزنى. وقيل: هي بنت حكيم. قال النحاس: وهذا ليس بمتناقض، يجوز أن تنسب مرة إلى أبيها، ومرة إلى أمها، ومرة إلى جدها، ويجوز أن تكون أمة كانت لعبدالله بن أبي فقيل لها أنصارية بالولاء، لأنه كان في عداد الأنصار وإن كان من المنافقين.

 

قرئ « قد سمع الله » بالإدغام و « قد سمع الله » بالإظهار. والأصل في السماع إدراك المسموعات، وهو اختيار الشيخ أبي الحسن. وقال ابن فورك: الصحيح أنه إدراك المسموع. وقال الحاكم أبو عبدالله في معنى السميع: إنه المدرك للأصوات التي يدركها المخلقون بآذانهم من غير أن يكون له أذن، وذلك راجع إلى أن الأصوات لا تخفى عليه، وإن كان غير موصوف بالحس المركب في الأذن، كالأصم من الناس لما لم تكن له هذه الحاسة لم يكن أهلا لإدراك الصوت. والسمع والبصر صفتان كالعلم والقدرة والحياة والإرادة، فهما من صفات الذات لم يزل الخالق سبحانه وتعالى متصفا بهما. وشكى واشتكى بمعنى واحد. وقرئ « تحاورك » أي تراجعك الكلام و « تجادلك » أي تسائلك.

 

الآية: 2 ( الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور )

 

قوله تعالى: « الذين يظاهرون » قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف « يظاهرون » بفتح الياء وتشديد الظاء وألف. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب « يظهرون » بحذف الألف وتشديد الهاء والظاء وفتح الياء. وقرأ أبو العالية وعاصم وزر بن حبيش « يظاهرون » بضم الياء وتخفيف الظاء والف وكسر الهاء. وقد تقدم هذا في « الأحزاب » . وفي قراءة أبى « يتظاهرون » وهي معنى قراءة ابن عامر وحمزة. وذكر الظهر كناية عن معنى الركوب، والآدمية إنما يركب بطنها ولكن كنى عنه بالظهر، لأن ما يركب من غير الآدميات فإنما يركب ظهره، فكنى بالظهر عن الركوب. ويقال: نزل عن امرأته أي طلقها كأنه نزل عن مركوب. ومعنى أنت علي كظهر أمي: أي أنت علي محرمة لا يحل لي ركوبك.

 

حقيقة الظهار تشبيه ظهر بظهر، والموجب للحكم منه تشبيه ظهر محلل بظهر محرم، ولهذا أجمع الفقهاء على أن من قال لزوجته: أنت علي كظهر أمي أنه مظاهر. وأكثرهم على أنه إن قال لها: أنت علي كظهر ابنتي أو أختي أو غير ذلك من ذوات المحارم أنه مظاهر. وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وغيرهما. واختلف فيه عن الشافعي رضى الله عنه، فروي عنه نحو قول مالك، لأنه شبه امرأته بظهر محرم عليه مؤبد كالأم. وروى عنه أبو ثور: أن الظهار لا يكون إلا بالأم وحدها. وهو مذهب قتادة والشعبي. والأول قول الحسن والنخعي والزهري والأوزاعي والثوري.

 

أصل الظهار أن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي. وإنما ذكر الله الظهر كناية عن البطن وسترا. فإن قال: أنت علي كأمي ولم يذكر الظهر، أو قال: أنت علي مثل أمي، فإن أراد الظهار فله نيته، وإن أراد الطلاق كان مطلقا البتة عند مالك، وإن لم تكن له نية في طلاق ولا ظهار كان مظاهرا. ولا ينصرف صريح الظهار بالنية إلى الطلاق، كما لا ينصرف صريح الطلاق وكنايته المعروفة له إلى الظهار، وكنايه الظهار خاصة تنصرف بالنية إلى الطلاق البت.

 

ألفاظ الظهار ضربان: صريح وكناية، فالصريح أنت علي كظهر أمي، وأنت عندي وأنت مني وأنت معي كظهر أمي. وكذلك أنت علي كبطن أمي أو كرأسها أو فرجها أو نحوه، وكذلك فرجك أو رأسك أو ظهرك أو بطنك أو رجلك علي كظهر أمي فهو مظاهر، مثل قوله: يدك أو رجلك أو رأسك أو فرجك طالق تطلق عليه. وقال الشافعي في أحد قوليه: لا يكون ظهارا. وهذا ضعيف منه، لأنه قد وافقنا على أنه يصح إضافة الطلاق إليه خاصة حقيقة خلافا لأبي حنيفة فصح إضافة الظهار إليه. ومت شبهها بأمه أو بإحدى جداته من قبل أبيه أو أمه فهو ظهار بلا خلاف. وإن شبهها بغيرهن من ذوات المحارم التي لا تحل له بحال كالبنت والأخت، والعمة والخالة كان مظاهرا عند أكثر الفقهاء، وعند الإمام الشافعي رضي الله عنه على الصحيح من المذهب على ما ذكرنا. والكناية أن يقول: أنت علي كأمي أو مثل أمي فإنه يعتبر فيه النية. فإن أراد الظهار كان ظهارا، وإن لم يرد الظهار لم يكن مظاهرا عند الشافعي وأبي حنيفة. وقد تقدم مذهب مالك رضي الله عنه في ذلك، والدليل عليه أنه أطلق تشبيه امرأته بأمه فكان ظهارا. أصله إذا ذكر الظهر وهذا قوي فان معنى اللفظ فيه موجود - واللفظ بمعناه - ولم يلزم حكم الظهر للفظه وإنما ألزمه بمعناه وهو التحريم، قاله ابن العربي.

 

إذا شبه جملة أهله بعضو من أعضاء أمه كان مظاهرا، خلافا لأبي حنيفة في قوله: إنه إن شبهها بعضو يحل له النظر إليه لم يكن مظاهرا. وهذا لا يصح، لأن النظر إليه على طريق الاستمتاع لا يحل له، وفيه وقع التشبيه وإياه قصد المظاهر، وقد قال الإمام الشافعي في قوله: إنه لا يكون ظهارا إلا في الظهر وحده. وهذا فاسد، لأن كل عضو منها محرم، فكان التشبيه به ظهارا كالظهر، ولأن المظاهر إنما يقصد تشبيه المحلل بالمحرم فلزم على المعنى.

 

إن شبه امرأته بأجنبية فإن ذكر الظهر كان ظهارا حملا على الأول، وإن لم يذكر الظهر فاختلف فيه علماؤنا، فمنهم من قال: يكون ظهارا. ومنهم من قال: يكون طلاقا. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يكون شيئا. قال ابن العربي: وهذا فاسد، لأنه شبه محللا من المرأة بمحرم فكان مقيدا بحكمه كالظهر، والأسماء بمعانيها عندنا، وعندهم بألفاظها وهذا نقض للأصل منهم.

قلت: الخلاف في الظهار بالأجنبية قوي عند مالك. وأصحابه منهم من لا يرى الظهار إلا بذوات المحارم خاصة ولا يرى الظهار بغيرهن. ومنهم من لا يجعله شيئا. ومنهم من يجعله في الأجنبية طلاقا. وهو عند مالك إذا قال: كظهر ابني أو غلامي أو كظهر زيد أو كظهر أجنبية ظهار لا يحل له وطؤها في حين يمينه. وقد روي عنه أيضا: أن الظهار بغير ذوات المحارم ليس بشيء، كما قال الكوفي والشافعي. وقال الأوزاعي: لو قال لها أنت علي كظهر فلان رجل فهو يمين يكفرها. والله أعلم.

 

إذا قال: أنت علي حرام كظهر أمي كان ظهارا ولم يكن طلاقا، لأن قوله: أنت حرام علي يحتمل التحريم بالطلاق فهي مطلقة، ويحتمل التحريم بالظهار فلما صرح به كان تفسيرا لأحد الاحتمالين يقضي به فيه.

 

الظهار لازم في كل زوجة مدخول بها أو غير مدخول بها على أي الأحوال كانت من زوج يجوز طلاقه. وكذلك عند مالك من يجوز له وطؤها من إمائه، إذا ظاهر منهن لزمه الظهار فيهن. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يلزم. قال القاضي أبو بكر بن العربي: وهي مسألة عسيرة جدا علينا، لأن مالكا يقول: إذا قال لأمته أنت علي حرام لا يلزم. فكيف يبطل فيها صريح التحريم وتصح كنايته. ولكن تدخل الأمة في عموم قوله: « من نسائهم » لأنه أراد من محللاتهم. والمعنى فيه أنه لفظ يتعلق بالبضع دون رفع العقد فصح في الأمة، أصله الحلف بالله تعالى.

 

ويلزم الظهار قبل النكاح إذا نكح التي ظاهر منها عند مالك. ولا يلزم عند الشافعي وأبي حنيفة، لقوله تعالى: « من نسائهم » وهذه ليست من نسائه. وقد مضى أصل هذه المسألة في سورة « التوبة » عند قوله تعالى « ومنهم من عاهد الله » [ التوبة: 75 ] الآية.

 

الذمي لا يلزم ظهاره. وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: يصح ظهار الذمي، ودليلنا قوله تعالى: « منكم » يعني من المسلمين. وهذا يقتضي خروج الذمي من الخطاب. فإن قيل: هذا استدلال بدليل الخطاب. قلنا: هو استدلال بالاشتقاق والمعنى، فإن أنكحة الكفار فاسدة مستحقة الفسخ فلا يتعلق بها حكم طلاق ولا ظهار، وذلك كقوله تعالى: « وأشهدوا ذوي عدل منكم » [ الطلاق: 2 ] وإذا خلت الأنكحة عن شروط الصحة فهي فاسدة، ولا ظهار في النكاح الفاسد بحال.

 

قوله تعالى: « منكم » يقتضي صحة ظهار العبد خلافا لمن منعه. وحكاه الثعلبي عن مالك، لأنه من جملة المسلمين وأحكام النكاح في حقه ثابتة وإن تعذر عليه العتق والإطعام فإنه قادر على الصيام.

 

وقال مالك رضي الله عنه: ليس على النساء تظاهر، وإنما قال الله تعالى: « والذين يظهرون منكم من نسائهم » ولم يقل اللائي يظهرن منكن من أزواجهن، إنما الظهار على الرجال. قال ابن العربي: هكذا روي عن ابن القاسم وسالم ويحيى بن سعيد وربيعة وأبي الزناد. وهو صحيح معنى، لأن الحل والعقد والتحليل والتحريم في النكاح بيد الرجال ليس بيد المرأة منه شيء وهذا إجماع. قال أبو عمر: ليس على النساء ظهار في قول جمهور العلماء. وقال الحسن بن زياد: هي مظاهرة. وقال الثوري وأبو حنيفة ومحمد: ليس ظهار المرأة من الرجل بشيء قبل النكاح كان أو بعده. وقال الشافعي: لا ظهار للمرأة من الرجل. وقال الأوزاعي إذا قالت المرأة لزوجها، أنت علي كظهر أمي فلانة فهي يمين تكفرها. وكذلك قال إسحاق، قال: لا تكون امرأة متظاهرة من رجل ولكن عليها يمين تكفرها. وقال الزهري: أرى أن تكفر الظهار، ولا يحول قولها هذا بينها وبين زوجها أن يصيبها، رواه عنه معمر. وابن جريج عن عطاء قال: حرمت ما أحل الله، عليها كفارة يمين. وهو قول أبي يوسف. وقال محمد بن الحسن: لا شيء عليها

 

من به لمم وانتظمت له في بعض الأوقات الكلم إذا ظاهر لزم ظهاره، لما روي في الحديث: أن خولة بنت ثعلبة وكان زوجها أوس بن الصامت وكان به لمم فأصابه بعض لممه فظاهر من امرأته.

من غضب وظاهر من امرأته أو طلق لم يسقط عنه غضبه حكمه. وفي بعض طرق هذا الحديث، قال يوسف بن عبدالله بن سلام: حدثتني خولة امرأة أوس بن الصامت، قالت: كان بيني وبينه شيء، فقال: أنت علي كظهر أمي ثم خرج إلى نادي قومه. فقولها: كان بيني وبينه شيء، دليل على منازعة أحرجته فظاهر منها. والغضب لغو لا يرفع حكما ولا يغير شرعا وكذلك السكران.

يلزمه حكم الظهار والطلاق في حال سكره إذا عقل قوله ونظم قوله ونظم كلامه، لقوله تعالى: « حتى تعلموا ما تقولون » [ النساء: 43 ] على ما تقدم في « النساء » بيانه. والله أعلم.

 

ولا يقرب المظاهر امرأته ولا يباشرها ولا يتلذذ منها بشيء حتى يكفر، خلافا للشافعي في أحد قوليه، لأن قوله: أنت علي كظهر أمي يقتضي تحريم كل استمتاع بلفظه ومعناه، فإن وطئها قبل أن يكفر، استغفر الله تعالى وأمسك عنها حتى يكفر كفارة واحدة. وقال مجاهد وغيره: عليه كفارتان. روى سعيد عن قتادة، ومطرف عن رجاء بن حيوة عن قبيصة بن ذؤيب عن عمرو بن العاص في المظاهر: إذا وطئ قبل أن يكفر عليه كفارتان. ومعمر عن قتادة قال: قال قبيصة بن ذؤيب: عليه كفارتان. وروى جماعة من الأئمة منهم ابن ماجة والنسائي عن ابن عباس: أن رجلا ظاهر من امرأته فغشيها قبل أن يكفر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: ( ما حملك على ذلك ) فقال: يا رسول الله! رأيت بياض خلخالها في ضوء القمر فلم أملك نفسي أن وقعت عليها فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وأمره ألا يقربها حتى يكفر. وروى ابن ماجة والدارقطني عن سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر أنه ظاهر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وقع بامرأته قبل أن يكفر، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فأمره أن يكفر تكفيرا واحدا.

الثامنة عشر: إذا ظاهر من أربع نسوة في كلمة واحدة، كقوله: أنتن علي كظهر أمي كان مظاهرا من كل واحدة منهن، ولم يجز له وطء إحداهن وأجزأته كفارة واحدة. وقال الشافعي: تلزمه أربع كفارات. وليس في الآية دليل على شيء من ذلك، لأن لفظ الجمع إنما وقع في عامة المؤمنين والمعول على المعنى. وقد روى الدارقطني عن ابن عباس قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إذا كان تحت الرجل أربع نسوة فظاهر منهن يجزيه كفارة واحدة، فإن ظاهر من واحدة بعد أخرى لزمه في كل واحدة منهن كفارة. وهذا إجماع.

 

فإن قال لأربع نسوة: إن تزوجتكن فأنتن علي كظهر أمي فتزوج إحداهن لم يقربها حتى يكفر، ثم قد سقط عنه اليمين في سائرهن. وقد قيل: لا يطأ البواقي منهن حتى يكفر. والأول هو المذهب. وإن قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي وأنت طالق البتة، لزمه الطلاق والظهار معا، ولم يكفر حتى ينكحها بعد زوج آخر ولا يطأها إذا نكحها حتى يكفر، فإن قال لها: أنت طالق البتة وأنت علي كظهر أمي لزمه الطلاق ولم يلزمه الظهار، لأن المبتوتة لا يلحقها طلاق.

 

قال بعض العلماء: لا يصح ظهار غير المدخول بها. وقال المزني: لا يصح الظهار من المطلقة الرجعية، وهذا ليس بشيء، لأن أحكام الزوجية في الموضعين ثابتة، وكما يلحقها الطلاق كذلك يلحقها الظهار قياسا ونظرا. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « ما هن أمهاتهم » أي ما نساؤهم بأمهاتهم. وقراءة العامة « أمهاتهم » بخفض التاء على لغة أهل الحجاز، كقوله تعالى: « ما هذا بشرا » [ يوسف: 31 ] . وقرأ أبو معمر والسلمي وغيرهما « أمهاتهم » بالرفع على لغة تميم. قال الفراء: أهل نجد وبنو تميم يقولون « ما هذا بشر » ، و « ما هن أمهاتهم » بالرفع. « إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم » أي ما أمهاتهم إلا الوالدات. وفي المثل: ولدك من دمي عقبيك. وقد تقدم القول في اللائي في « الأحزاب » . « وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا » أي فظيعا من القول لا يعرف في الشرع. والزور الكذب « وإن الله لعفو غفور » إذ جعل الكفارة عليهم مخلصة لهم من هذا القول المنكر.

 

الآيات: 3 - 4 ( والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم )

 

قوله تعالى: « والذين يظاهرون من نسائهم » هذا ابتداء والخبر « فتحرير رقبة » وحذف عليهم لدلالة الكلام عليه، أي فعليهم تحرير رقبة. وقيل: أي فكفارتهم عتق رقبة. والمجمع عليه عند العلماء في الظهار قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي. وهو قول المنكر والزور الذي عنى الله بقوله: « وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا » [ المجادلة: 2 ] فمن قال هذا القول حرم عليه وطء امرأته. فمن عاد لما قال لزمته كفارة الظهار، لقوله عز وجل: « والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة » وهذا يدل على أن كفارة الظهار لا تلزم بالقول خاصة حتى ينضم إليها العود، وهذا حرف مشكل اختلف الناس فيه على أقوال سبعة: الأول: أنه العزم على الوطء، وهو مشهور قول العراقيين أبي حنيفة وأصحابه. وروي عن مالك: فإن عزم على وطئها كان عودا، وإن لم يعزم لم يكن عودا. الثاني: العزم على الإمساك بعد التظاهر منها، قال مالك. الثالث: العزم عليهما. وهو قول مالك في موطئه، قال مالك في قول الله عز وجل: « والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا » قال: سمعت أن تفسير ذلك أن يظاهر الرجل من امرأته ثم يجمع على إصابتها وإمساكها، فإن أجمع على ذلك فقد وجبت عليه الكفارة، وإن طلقها ولم يجمع بعد تظاهره منها على إمساكها وإصابتها فلا كفارة عليه. قال مالك: وإن تزوجها بعد ذلك لم يمسها حتى يكفر كفارة التظاهر. القول الرابع: أنه الوطء نفسه فإن لم يطأ لم يكن عودا، قاله الحسن ومالك أيضا. الخامس: وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: هو أن يمسكها زوجة بعد الظهار مع القدرة على الطلاق، لأنه لما ظاهر قصد التحريم، فإن وصل به الطلاق فقد جرى على خلاف ما ابتدأه من إيقاع التحريم ولا كفارة عليه. وإن أمسك عن الطلاق فقد عاد إلى ما كان عليه فتجب عليه الكفارة. السادس: أن الظهار يوجب تحريما لا يرفعه إلا الكفارة. ومعنى العود عند القائلين بهذا: أنه لا يستبيح وطأها إلا بكفارة يقدمها، قاله أبو حنيفة وأصحابه والليث بن سعد. السابع هو تكرير الظهار بلفظه. وهذا قول أهل الظاهر النافين للقياس، قالوا: إذا كرر اللفظ بالظهار فهو العود، وإن لم يكرر فليس بعود. ويسند ذلك إلى بكير بن الأشج وأبي العالية وأبي حنيفة أيضا، وهو قول الفراء.

وقال أبو العالية: وظاهر الآية يشهد له، لأنه قال: « ثم يعودون لما قالوا » أي إلى قول ما قالوا. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله عز وجل: « والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا » هو أنو يقول لها أنت علي كظهر أمي فإذا قال لها ذلك فليست تحل له حتى يكفر كفارة الظهار. قال ابن العربي: فأما القول بأنه العود إلى لفظ الظهار فهو باطل قطعا لا يصح عن بكير، وإنما يشبه أن يكون من جهالة داود وأشياعه. وقد رويت قصص المتظاهرين وليس في ذكر الكفارة عليهم ذكر لعود القول منهم، وأيضا فإن المعنى ينقضه، لأن الله تعالى وصفه بأنه منكر من القول وزور، فكيف يقال له إذا أعدت القول المحرم والسبب المحظور وجبت عليك الكفارة، وهذا لا يعقل، ألا ترى أن كل سبب يوجب الكفارة لا تشترط فيه الإعادة من قتل ووطء في صوم أو غيره.

قلت: قول يشبه أن يكون من جهالة داود وأشياعه حمل ممنه عليه، وقد قال بقول داود من ذكرناه عنهم، وأما قول الشافعي: بأنه ترك الطلاق مع القدرة عليه فينقضه ثلاثة أمور أمهات: الأول: أنه قال: « ثم » وهذا بظاهره يقتضي التراخي. الثاني: أن قوله تعالى: « ثم يعودون » يقتضي وجود فعل من جهة ومرور الزمان ليس بفعل منه. الثالث: أن قوله تعالى: « ثم يعودون » على الملك فلم يسقط حكم الظهار كالإيلاء. فإن قيل: فإذا رآها كالأم لم يمسكها إذ لا يصح إمساك الأم بالنكاح. وهذه عمدة أهل ما وراء النهر. قلنا: إذا عزم على خلاف ما قال وراها خلاف الأم كفر وعاد إلى أهله. وتحقيق هذا القول: أن العزم قول نفسي، وهذا رجل قال قولا اقتضى التحليل وهو النكاح، وقال قولا اقتضى التحريم وهو الظهار، ثم عاد لما قال وهو التحليل، ولا يصح أن يكون منه ابتداء عقد، لأن العقد باق فلم يبق إلا أنه قول عزم يخالف ما اعتقده وقاله في نفسه من الظهار الذي أخبر عنه بقوله أنت علي كظهر أمي، وإذا كان ذلك كفر وعاد إلى أهله، لقول: « من قبل أن يتماسا » . وهذا تفسير بالغ في فنه.

 

قال بعض أهل التأويل: الآية فيها تقديم وتأخير، والمعنى « والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون » إلى ما كانوا عليه من الجماع « فتحرير رقبة » لما قالوا، أي فعليهم تحرير رقبة من أجل ما قالوا، فالجار في قوله: « لما قالوا » متعلق بالمحذوف الذي هو خبر الابتداء وهو عليهم، قال الأخفش. وقال الزجاج: المعنى ثم يعودون إلى إرادة الجماع من أجل ما قالوا. وقيل: المعنى الذين كانوا يظهرون من نسائهم في الجاهلية، ثم يعودون لما كانوا قالوه في الجاهلية في الإسلام فكفارة من عاد أن يحرر رقبة. الفراء: اللام بمعنى عن والمعنى ثم يرجعون عما قالوا ويريدون الوطء. وقال الأخفش: لما قالوا وإلى ما قالوا واحد، واللام وإلى يتعاقبان، قال: « الحمد لله الذي هدانا لهذا » [ الأعراف: 43 ] وقال: « فاهدوهم إلى صراط الجحيم » [ الصافات: 23 ] وقال: « بأن ربك أوحى لها » [ الزلزلة: 5 ] وقال: « وأوحي إلى نوح » [ هود: 36 ] .

 

قوله تعالى: « فتحرير رقبة » أي فعليه إعتاق رقبة، يقال: حررته أي جعلته حرا. ثم هذه الرقبة يجب أن تكون كاملة سليمة من كل عيب، من كمالها إسلامها عند مالك والشافعي، كالرقبة في كفارة القتل. وعند أبي حنيفة وأصحابه تجزي الكفارة ومن فيها شائبة رق كالمكاتبة وغيرها. فإن أعتق نصفي عبدين فلا يجزيه عندنا ولا عند أبي حنيفة. وقال الشافعي يجزئ، لأن نصف العبدين في معنى العبدالواحد، ولأن الكفارة بالعتق طريقها المال فجاز أن يدخلها التبعيض والتجزيء كالإطعام، ودليلنا قوله تعالى: « فتحرير رقبة » وهذا الاسم عبارة عن شخص واحد، وبعض الرقبة ليس برقبة، وليس ذلك مما يدخله التلفيق، لأن العبادة المتعلقة بالرقبة لا يقوم النصف من رقبتين مقامها، أصله إذا أشترك رجلان في أضحيتين، ولأنه لو أمر رجلين أن يحجا عنه حجة لم يجز أن يحج عنه واحد منهما نصفها كذلك هذا، ولأنه لو أوصى بأن تشترى رقبة فتعتق عنه لم يجز أن يعتق عنه نصف عبدين، كذلك في مسألتنا وبهذا يبطل دليلهم. والإطعام وغيره لا يتجزء في الكفارة عندنا.

 

قوله تعالى: « من قبل أن يتماسا » أي يجامعها فلا يجوز للمظاهر الوطء قبل التكفير، فإن جامعها قبل التكفير أثم وعصى ولا يسقط عنه التكفير. وحكي عن مجاهد: أنه إذا وطئ قبل أن يشرع في التكفير لزمته كفارة أخرى. وعن غيره: أن الكفارة الواجبة بالظهار تسقط عنه ولا يلزمه شيء أصلا، لأن الله تعالى أوجب الكفارة وأمر بها قبل المسيس، فإذا أخرها حتى مس فقد فات وقتها. والصحيح ثبوت الكفارة، لأنه بوطئه ارتكب إثما فلم يكن ذلك مسقطا للكفارة، ويأتي بها قضاء كما لو أخر الصلاة عن وقتها. وفي حديث أوس بن الصامت لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه وطئ امرأته أمره بالكفارة. وهذا نص وسواء كانت كفارة بالعتق أو الصوم أو الإطعام. وقال أبو حنيفة: إن كانت كفارته بالإطعام جاز أن يطأ ثم يطعم، فأما غير الوطء مر، القبلة والمباشرة والتلذذ فلا يحرم في قول أكثر العلماء. وقال الحسن وسفيان، وهو الصحيح من مذهب الشافعي. وقيل: وكل ذلك محرم وكل معاني المسيس، وهو قول مالك وأحد قولي الشافعي. وقد تقدم.

 

قوله تعالى: « ذلكم توعظون به » أي تؤمرون به « والله بما تعملون خبير » من التكفير وغيره.

 

من لم يجد الرقبة ولا ثمنها، أو كان مالكا لها إلا أنه شديد الحاجة إليها لخدمته، أو كان مالكا لثمنها إلا أنه يحتاج إليه لنفقته، أو كان له مسكن ليس له غيره ولا يجد شيئا سواه، فله أن يصوم عند الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يصوم وعليه عتق ولو كان محتاجا إلى ذلك. وقال مالك: إذا كان له دار وخادم لزمه العتق فإن عجز عن الرقبة، فعليه صوم شهرين متتابعين. فإن أفطر في أثنائهما بغير عذر استأنفهما، وإن أفطر لعذر من سفر أو مرض، فقيل: يبني، قال ابن المسيب والحسن وعطاء بن أبي رباح وعمر وبن دينار والشعبي. وهو أحد قولي الشافعي وهو الصحيح من مذهبيه. وقال مالك: إنه إذا مرض في صيام كفارة الظهار بنى إذا صح. ومذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أنه يبتدئ. وهو أحد قولي الشافعي.

 

ا ابتدأ الصيام ثم وجد الرقبة أتم الصيام وأجزأه عند مالك والشافعي، لأنه بذلك أمر حين دخل فيه. ويهدم الصوم ويعتق عند أبي حنيفة وأصحابه، قياسا على الصغيرة المعتدة بالشهور ترى الدم قبل انقضائها، فإنها تستأنف الحيض إجماعا من العلماء. وإذا ابتدأ سفرا في صيامه فأفطر، ابتدأ الصيام عند مالك والشافعي وأبي حنيفة، لقوله: « متتابعين » . ويبني في قول الحسن البصري، لأنه عذر وقياسا على رمضان، فإن تخللها زمان لا يحل صومه في الكفارة كالعيدين وشهر رمضان انقطع.

 

ا وطئ المتظاهر في خلال الشهرين نهارا، بطل التتابع في قول الشافعي، وليلا فلا يبطل، لأنه ليس محلا للصوم. وقال مالك وأبو حنيفة: يبطل بكل حال ووجب عليه ابتداء الكفارة، لقوله تعالى: « من قبل أن يتماسا » وهذا الشرط عائد إلى جملة الشهرين، وإلى أبعاضهما، فإذا وطئ قبل انقضائهما فليس هو الصيام المأمور به، فلزمه استئنافه، كما لو قال: صل قبل أن تكلم زيدا. فكلم زيدا في الصلاة، أو قال: صل قبل أن تبصر زيدا فأبصره في الصلاة لزمه استئنافها، لأن هذه الصلاة ليست هي الصلاة المأمور بها كذلك هذا، والله أعلم.

 

ن تطاول مرضه طولا لا يرجى برؤه كان بمنزلة العاجز من كبر، وجاز له العدول عن الصيام إلى الإطعام. ولو كان مرضه مما يرجى برؤه واشتدت حاجته إلى وطء امرأته كان الاختيار له أن ينتظر البرء حتى يقدر على الصيام. ولو كفر بالإطعام ولم ينتظر القدرة على الصيام أجزأه.

 

ومن تظاهر وهو معسر ثم أيسر لم يجزه الصوم. ومن تظاهر وهو موسر ثم أعسر قبل أن يكفر صام. وإنما ينظر إلى حال يوم يكفر. ولو جامعها في عدمه وعسره ولم يصم حتى أيسر لزمه العتق. ولو ابتدأ بالصوم ثم أيسر فإن كان مضى من صومه صدر صالح نحو الجمعة وشبهها تمادى. وإن كان اليوم واليومين ونحوهما ترك الصوم وعاد إلى العتق وليس ذلك بواجب عليه. ألا ترى أنه غير واجب على من طرأ الماء عليه وهو قد دخل بالتيمم في الصلاة أن يقطع ويبتدئ الطهارة عند مالك.

 

ولو أعتق رقبتين عن كفارتي ظهار أو قتل أو فطر في رمضان وأشرك بينهما في كل واحدة منهما لم يجزه. وهو بمنزلة من أعتق رقبة واحدة عن كفارتين. وكذلك لو صام عنهما أربعة أشهر حتى يصوم عن كل واحدة منهما شهرين. وقد قيل: إن ذلك يجزيه. ولو ظاهر من امرأتين له فأعتق رقبة عن إحداهما بغير عينها لم يجز له وطء واحدة منهما حتى يكفر كفارة أخرى. ولو عين الكفارة عن إحداهما جاز له أن يطأها قبل أن يكفر الكفارة عن الأخرى. ولو ظاهر من أربع نسوة فأعتق عنهن ثلاث رقاب، وصام شهرين، لم يجزه العتق ولا الصيام، لأنه إنما صام عن كل واحدة خمسة عشر يوما، فإن كفر عنهن بالإطعام جاز أن يطعم عنهن مائتي مسكين، وإن لم يقدر فرق بخلاف العتق والصيام، لأن صيام الشهرين لا يفرق والإطعام يفرق.

فصل وفيه أربع مسائل: الأولى: ذكر الله عز وجل الكفارة هنا مرتبة، فلا سبيل إلى الصيام إلا عند العجز عن الرقبة، وكذلك لا سبيل إلى الإطعام إلا عند عدم الاستطاعة على الصيام، فمن لم يطق الصيام وجب عليه إطعام ستين مسكينا لكل مسكين مدان يمد النبي صلى الله عليه وسلم. وإن أطعم مدا بمد هشام، وهو مدان إلا ثلثا، أو أطعم مدا ونصفا بمد النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو عمر بن عبدالبر: وأفضل ذلك مدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الله عز وجل لم يقل في كفارة الظهار « من أوسط ما تطعمون » [ المائدة: 89 ] فواجب قصد الشبع. قال ابن العربي: وقال مالك في رواية ابن القاسم وابن عبدالحكم: مد بمد هشام وهو الشبع ها هنا، لأن الله تعالى أطلق الطعام ولم يذكر الوسط. وقال في رواية أشهب: مدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم: قيل له: ألم تكن قلت مد هشام؟ قال: بلى، مدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم أحب إلي. وكذلك قال عنه ابن القاسم أيضا.

قلت: وهي رواية ابن وهب ومطرف عن مالك: أنه يعطي مدين لكل مسكين بمد النبي صلى الله عليه وسلم. وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه. ومذهب الشافعي وغيره مد واحد لكل مسكين لا يلزمه أكثر من ذلك، لأنه يكفر بالإطعام ولم يلزمه صرف زيادة على المد، أصله كفارة الإفطار واليمين. ودليلنا قوله تعالى: « فإطعام ستين مسكينا » وإطلاق الإطعام يتناول الشبع، وذلك لا يحصل بالعادة بمد واحد إلا بزيادة عليه. وكذلك قال أشهب: قلت لمالك أيختلف الشبع عندنا وعندكم؟ قال نعم! الشبع عندنا مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم والشبع عندكم أكثر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لنا بالبركة دونكم، فأنتم تأكلون أكثر مما نأكل نحن. وقال أبو الحسن القابسي: إنما أخذ أهل المدينة بمد هشام في كفارة الظهار تغليظا على المتظاهرين الذين شهد الله عليهم أنهم يقولون منكرا من القول وزورا. قال ابن العربي: وقع الكلام ها هنا في مد هشام كما ترون، ووددت أن يهشم الزمان ذكره، ويمحو من الكتب رسمه، فإن المدينة التي نزل الوحي بها واستقر الرسول، بها ووقع عندهم الظهار، وقيل لهم فيه: « فإطعام ستين مسكينا » فهموه وعرفوا المراد به وأنه الشبع، وقدره معروف عندهم متقرر لديهم، وقد ورد ذلك الشبع في الأخبار كثيرا، واستمرت الحال على ذلك أيام الخلفاء الراشدين المهديين حتى نفخ الشيطان في أذن هشام، فرأى أن مد النبي صلى الله عليه وسلم لا يشبعه، ولا مثله من حواشيه ونظرائه، فسول له أن يتخذ مدا يكون فيه شبعه، فجعله رطلين وحمل الناس عليه، فإذا ابتل عاد نحو الثلاثة الأرطال، فغير السنة وأذهب محل البركة. قال النبي صلى الله عليه وسلم حين دعا ربه لأهل المدينة بأن تبقى لهم البركة في مدهم وصاعهم، مثل ما بارك لإبراهيم بمكة، فكانت البركة تجري بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم في مده، فسعى الشيطان في تغيير هذه السنة وإذهاب هذه البركة، فلم يستجب له في ذلك إلا هشام، فكان من حق العلماء أن يلغوا ذكره ويمحوا رسمه إذا لم يغيروا أمره، وأما أن يحيلوا على ذكره في الأحكام، ويجعلوه تفسيرا لما ذكر الله ورسول بعد أن كان مفسرا عند الصحابة الذين نزل عليهم فخطب جسيم، ولذلك كانت رواية أشهب في ذكر مدين بمد النبي صلى في كفارة الظهار أحب إلينا من الرواية بأنها بمد هشام. ألا ترى كيف نبه مالك على هذا العلم بقوله لأشهب: الشبع عندنا بمد النبي صلى الله عليه وسلم، والشبع عندكم أكثر لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لنا بالبركة. وبهذا أقول، فإن العبادة إذا أديت بالسنة، فإن كانت بالبدن كانت أسرع إلى القبول، وإن كانت بالمال كان قليلها أثقل في الميزان، وأبرك في يد الآخذ، وأطيب في شدقه، وأقل آفة في بطنه، وأكثر إقامة لصلبه. والله أعلم.

الثانية: ولا يجزئ عند مالك والشافعي أن يطعم أقل من ستين مسكينا. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن أطعم مسكينا واحدا كل يوم نصف صاع حتى يكمل العدد أجزأه. الثالثة: قال القاضي أبو بكر بن العربي: من غريب الأمر أن أبا حنيفة قال إن الحجر على الحر باطل. واحتج بقوله تعالى: « فتحرير رقبة » ولم يفرق بين الرشيد والسفيه، وهذا فقه ضعيف لا يناسب قدره، فإن هذه الآية عامة، وقد كان القضاء بالحجر في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشيا والنظر يقتضيه، ومن كان عليه حجر لصغر أو لولاية وبلغ سفيها قد نهي عن دفع المال إليه، فكيف ينفذ فعله فيه والخاص يقضي على العام. الرابعة: وحكم الظهار عند بعض العلماء ناسخ لما كانوا عليه من كون الظهار طلاقا، وقد روي معنى ذلك عن ابن عباس وأبي قلابة وغيرهما.

 

قوله تعالى: « ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله » أي ذلك الذي وصفنا من التغليظ في الكفارة « لتؤمنوا » أي لتصدقوا أن الله أمر به. وقد استدل بعض العلماء على أن هذه الكفارة إيمان بالله سبحانه وتعالى، لما ذكرها وأوجبها قال: « ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله » أي ذلك لتكونوا مطيعين لله تعالى واقفين عند حدوده لا تتعدوها، فسمى التكفير لأنه طاعة ومراعاة للحد إيمانا، فثبت أن كل ما أشبهه فهو إيمان. فإن قيل: معنى قوله: « ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله » أي لئلا تعودوا للظهار الذي هو منكر من القول وزور. وقيل له: قد يجوز أن يكون هذا مقصودا والأول مقصودا، فيكون المعنى ذلك لئلا تعودوا للقول المنكر والزور، بل تدعونهما طاعة لله سبحانه وتعالى إذ كان قد حرمهما، ولتجتنبوا المظاهر منها إلى أن تكفروا، إذ كان الله منع من مسيسها، وتكفروا إذ كان الله تعالى أمر بالكفارة وألزم إخراجها منكم، فتكونوا بهذا كله مؤمنين بالله ورسوله، لأنها حدود تحفظونها، وطاعات تودونها والطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم إيمان. وبالله التوفيق. « وتلك حدود الله » أي بين معصيته وطاعته، فمعصيته الظهار وطاعته الكفارة. « وللكافرين عذاب أليم » أي لمن لم يصدق بأحكام الله تعالى عذاب جهنم.

 

الآيات: 5 - 6 ( إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين، يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد )

 

قوله تعالى: « إن الذين يحادون الله ورسوله » لما ذكر المؤمنين الواقفين عند حدوده ذكر المحادين المخالفين لها. والمحادة المعاداة والمخالفة في الحدود، وهو مثل قوله تعالى: « ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله » [ الأنفال: 13 ] . وقيل: « يحادون الله » أي أولياء الله كما في الخبر: ( من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ) . وقال الزجاج: المحادة أن تكون في حد يخالف حد صاحبك. وأصلها الممانعة، ومنه الحديد، ومنه الحداد للبواب. « كبتوا » قال أبو عبيدة والأخفش: أهلكوا. وقال قتادة: اخزوا كما أخزي الذين من قبلهم. وقال ابن زيد: عذبوا. وقال السدي: لعنوا. وقال الفراء: غيظوا يوم الخندق. وقيل: يوم بدر. والمراد المشركون. وقيل: المنافقون. « كما كبت الذين من قبلهم » قيل: « كبتوا » أي سيكبتون، وهو بشارة من الله تعالى للمؤمنين بالنصر، وأخرج الكلام بلفظ الماضي تقريبا للمخبر عنه. وقيل: هي بلغة مدحج. « وقد أنزلنا آيات بينات » فيمن حاد الله ورسوله من الذين من قبلهم فيما فعلنا بهم. « والله على كل شيء شهيد » .

 

قوله تعالى: « يوم » نصب بـ « عذاب مهين » أو بفعل مضمر تقديره واذكر تعظيما لليوم. « يبعثهم الله جميعا » أي الرجال والنساء يبعثهم من قبورهم في حالة واحدة « فينبئهم » أي يخبرهم « بما عملوا » في الدنيا « أحصاه الله » عليهم في صحائف أعمالهم « ونسوه » هم حتى ذكرهم به في صحائفهم ليكون أبلغ في الحجة عليهم. « والله على كل شيء شهيد » مطلع وناظر لا يخفى عليه شيء.

 

الآية: 7 ( ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم )

 

قوله تعالى: « ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض » فلا يخفى عليه سر ولا علانية. « ما يكون من نجوى » قراءه العامة بالياء، لأجل الحائل بينهما. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع والأعرج وأبو حيوة وعيسى « ما تكون » بالتاء لتأنيث الفعل. والنجوى: السرار، وهو مصدر والمصدر قد يوصف به، يقال: قوم نجوى أي ذوو نجوى، ونجوى، ومنه قوله تعالى: « وإذ هم نجوى » [ الإسراء: 47 ] . وقوله تعالى: « ثلاثة » خفض بإضافة « نجوى » إليها. قال الفراء: « ثلاثة » نعت للنجوى فانخفضت وإن شئت أضفت « نجوى » إليها. ولو نصب على إضمار فعل جاز، وهي قراءة ابن أبي عبلة « ثلاثة » و « خمسة » بالنصب على الحال بإضمار يتناجون، لأن نجوى يدل عليه، قال الزمخشري. ويجوز رفع « ثلاثة » على البدل من موضع « نجوى » . ثم قيل: كل سرار نجوى. وقيل: النجوى ما يكون من خلوة ثلاثة يسرون شيئا ويتناجون به. والسرار ما كان بين اثنين. « إلا هو رابعهم » يعلم ويسمع نجواهم، يدل عليه آفتتاح الآية بالعلم ثم ختمها بالعلم. وقيل: النجوى من النجوة وهي ما ارتفع من الأرض، فالمتناجيان يتناجيان ويخلوان بسرهما كخلو المرتفع من الأرض عما يتصل به، والمعنى: أن سمع الله محيط بكل كلام، وقد سمع الله مجادلة المرأة التي ظاهر منها زوجها. « ولا أدنى من ذلك ولا أكثر » قرأ سلام ويعقوب وأبو العالية ونصر وعيسى بالرفع على موضع « من نجوى » قبل دخول « من » لأن تقديره ما يكون نجوى، و « ثلاثة يجوز أن يكون مرفوعا على محل » لا « مع » أدنى « كقولك: لا حول ولا قوة إلا بالله بفتح الحول ورفع القوة. ويجوز أن يكونا مرفوعين على الابتداء، كقولك لا حول ولا قوة إلا بالله. وقد مضى في » البقرة « بيان هذا مستوفى.»

وقرأ الزهري وعكرمة « أكبر » بالباء. والعامة بالثاء وفتح الراء على اللفظ وموضعها جر. وقال الفراء في قوله: « ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم » قال: المعنى غير مصمود والعدد غير مقصود لأنه تعالى إنما قصد وهو أعلم أنه مع كل عدد قل أو كثر، يعلم ما يقولون سرا وجهرا ولا تخفى عليه خافية، فمن أجل ذلك آكتفى بذكر بعض العدد دون بعض. وقيل: معنى ذلك أن الله معهم بعلمه حيث كانوا من غير زوال ولا انتقال. ونزل ذلك في قوم من المنافقين كانوا فعلوا شيئا سرا فأعلم الله أنه لا يخفي عليه ذلك، قال ابن عباس. وقال قتادة ومجاهد: نزلت في اليهود. « ثم ينبئهم » يخبرهم « بما عملوا » من حسن وسيء « يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم » .

 

الآية: 8 ( ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير )

 

قوله تعالى: « ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى » قيل: إن هذا في اليهود والمنافقين حسب ما قدمناه. وقيل: في المسلمين. قال ابن عباس: نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم، وينظرون للمؤمنين ويتغامزون بأعينهم، فيقول المؤمنون: لعلهم بلغهم عن إخواننا وقرابتنا من المهاجرين والأنصار قتل أو مصيبة أو هزيمة، ويسوءهم ذلك فكثرت شكواهم إلى النبي صلى ا لله عليه وسلم، فنهاهم عن النجوى فلم ينتهوا فنزلت. وقال مقاتل: كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود موادعة، فإذا مر بهم رجل من المؤمنين تناجوا بينهم حتى يظن المؤمن شرا، فيعرج عن طريقه، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينتهوا فنزلت. وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: كان الرجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيسأل الحاجة ويناجيه والأرض يومئذ حرب، فيتوهمون أنه يناجيه في حرب أو بلية أو أمر مهم فيفزعون لذلك فنزلت.

 

روى أبو سعيد الخدري قال: كنا ذات ليلة نتحدث إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( ما هذه النجوى ألم تنهوا عن النجوى ) فقلنا: تبنا إلى الله يا رسول الله، إنا كنا في ذكر المسيخ - يعني الدجال - فرقا منه. فقال: ( ألا أخبركم بما هو أخوف عندي منه ) قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ( الشرك الحفي أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل ) ذكره الماوردي. وقرأ حمزة وخلف ورويس عن يعقوب « وينتجون » في وزن يفتعلون وهي قراءة عبدالله وأصحابه. وقرأ الباقون « ومتناجون » في وزن يتفاعلون، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لقوله تعالى: « إذا تناجيتم » [ المجادلة: 9 ] و « تناجوا » . النحاس: وحكى سيبويه أن تفاعلوا وافتعلوا يأتيان بمعنى واحد، نحو تخاصموا واختصموا، وتقاتلوا واقتتلوا فعلى هذا « يتناجون » و « ينتجون » واحد. ومعنى « بالإثم والعدوان » أي الكذب والظلم. « ومعصية الرسول » أي مخالفته. وقرأ الضحاك ومجاهد وحميد « ومعصيات الرسول » بالجمع.

 

قوله تعالى: « وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله » لا خلاف بين النقلة أن المراد بها اليهود، كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون: السلام عليك. يريدون بذلك السلام ظاهرا وهم يعنون الموت باطنا، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( عليكم ) في رواية، وفي رواية أخرى ( وعليكم ) . قال ابن العربي: وهي مشكلة. وكانوا يقولون: لو كان محمد نبيا لما أمهلنا الله بسبه والاستخفاف به، وجهلوا أن الباري تعالى حليم لا يعاجل من سبه، فكيف من سب نبيه. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا أحد أصبر على الأذى من الله يدعون له الصاحبة والولد وهو يعافيهم ويرزقهم ) فأنزل الله تعالى هذا كشفا لسرائرهم، وفضحا لبواطنهم، معجزة لرسول صلى الله عليه وسلم. وقد ثبت عن قتادة عن أنس أن يهوديا أتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه فقال: السام عليكم. فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ( أتدرون ما قال هذا ) قالوا: الله ورسول أعلم. قال: ( قال كذا ردوه علي ) فردوه، قال: ( قلت السام عليكم ) قال: نعم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: ( إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا عليك ما قلت ) فأنزل الله تعالى: « وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله » .

قلت: خرجه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح. وثبت عن عائشة أنها قالت: جاء أناس من اليهود إلى النبي صلى ا لله عليه وسلم فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم. فقلت: السام عليكم وفعل الله بكم وفعل. فقال عليه السلام: ( مه يا عائشة فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش ) فقلت: يا رسول الله ألست ترى ما يقولون؟ فقال: ( ألست ترين أرد عليهم ما يقولون أقول وعليكم ) فنزلت هذه الآية « بما لم يحيك به الله » أي إن الله سلم عليك وهم يقولون السام عليك، والسام الموت. خرجه البخاري ومسلم بمعناه. وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم ) كذا الرواية ( وعليكم ) بالواو تكلم عليها العلماء، لأن الواو العاطفة يقتضي التشريك فيلزم منه أن يدخل معهم فيما دعوا به علينا من الموت، أو من سأمه ديننا وهو الملال. يقال: سئم يسأم سأمه وسأما. فقال بعضهم: الواو زائدة كما زيدت في قول الشاعر:

فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى

أي لما أجزنا أنتحى فزاد الواو. وقال بعضهم: هي للاستئناف، كأنه قال: والسام عليكم. وقال بعضهم: هي على بابها من العطف ولا يضرنا ذلك، لأنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. روى الزبير أنه سمع جابر بن عبدالله يقول: سلم ناس من يهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقال: ( وعليكم ) فقالت عائشة وغضبت: ألم تسمع ما قالوا؟ قال: ( بلى قد سمعت فرددت عليهم وإنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا ) خرجه مسلم. ورواية الواو أحسن معنى، وإثباتها أصح رواية وأشهر.

وقد اختلف في رد السلام على أهل الذمة هل هو واجب كالرد على المسلمين، وإليه ذهب ابن عباس والشعبي وقتادة، للأمر بذلك. وذهب مالك فيما روى عنه أشهب وابن وهب إلى أن ذلك ليس بواجب فإن رددت فقل عليك. وقد اختار ابن طاوس أن يقول في الرد عليهم: علاك السلام أي ارتفع عنك. واختار بعض أصحابنا: السِّلام بكسر السين يعني الحجارة. وما قال مالك أولى اتباعا للسنة، والله أعلم. وروى مسروق عن عائشة قالت: أتى النبي صلى ا لله عليه وسلم ناس من اليهود، فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، قال: ( وعليكم ) قالت عائشة: قلت بل عليكم السام والذام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا عائشة لا تكوني فاحشة ) فقالت: ما سمعت ما قالوا! فقال: ( أو ليس قد رددت عليهم الذي قالوا قلت وعليكم ) . وفي رواية قال: ففطنت بهم عائشة فسبتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( مه يا عائشة فإن الله لا يحب الفحش والتفحش ) وزاد فأنزل الله تبارك وتعالى: « وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله » إلى آخر الآية. الذام بتخفيف الميم هو العيب، وفي المثل ( لا تعدم الحسنات ذاما ) أي عيبا، ويهمز ولا يهمز، يقال: ذأمه يذأمه، مثل ذأب يذأب، والمفعول مذؤوم مهموزا، ومنه « مذؤوما مدحورا » [ الأعراف: 18 ] ويقال: ذامه يذومه مخففا كرامه يرومه.

 

قوله تعالى: « ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول » قالوا: لو كان محمد نبيا لعذبنا الله بما نقول فهلا يعذبنا الله. وقيل: قالوا إنه يرد علينا ويقول وعليكم السام والسام الموت، فلو كان نبيا لاستجيب له فينا ومتنا. وهذا موضع تعجب منهم، فإنهم كانوا أهل كتاب، وكانوا يعلمون أن الأنبياء قد يغضبون فلا يعاجل من يغضبهم بالعذاب. « حسبهم جهنم » أي كافيهم جهنم عقابا غدا « فبئس المصير » أي المرجع.

 

الآية: 9 ( يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون )

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم » نهى المؤمنين أن يتناجوا فيما بينهم كفعل المنافقين واليهود فقال: « يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم » أي تساررتم. « فلا تتناجوا » هذه قراءة العامة. وقرأ يحيى بن وثاب وعاصم ورويس عن يعقوب « فلا تنتجوا » من الانتجاء « وتناجوا بالبر » أي بالطاعة « والتقوى » بالعفاف عما نهى الله عنه. وقيل: الخطاب للمنافقين، أي يا أيها الذين آمنوا بزعمهم. وقيل: أي يا أيها الذين آمنوا بموسى. « الذي إليه تحشرون » أي تجمعون في الآخرة.

 

الآية: 10 ( إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون )

 

قوله تعالى: « إنما النجوى من الشيطان » أي من تزيين الشياطين « ليحزن الذين آمنوا » إذ توهموا أن المسلمين أصيبوا في السرايا، أو إذا أجروا اجتماعهم على مكايدة المسلمين، وربما كانوا يناجون النبي صلى الله عليه وسلم فيظن المسلمون أنهم ينتقصونهم عند النبي صلى الله عليه وسلم « وليس بضارهم شيئا » أي التناجي « إلا بإذن الله » أي بمشيئته وقيل: بعلمه. وعن ابن عباس: بأمره. « وعلى الله فليتوكل المؤمنون » أي يكلون أمرهم إليه، ويفوضون جميع شؤونهم إلى عونه، ويستعيذون به من الشيطان ومن كل شر، فهو الذي سلط الشيطان بالوساوس ابتلاء للعبد وامتحانا ولو شاء لصرفه عنه.

 

في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الواحد ) . وعن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس من أجل أن يحزنه ) فبين في هذا الحديث غاية المنع وهي أن يجد الثالث من يتحدث معه كما فعل ابن عمر، ذلك أنه كان يتحدث مع رجل فجاء آخر يريد أن يناجيه فلم يناجه حتى دعا رابعا، فقال له وللأول: تأخرا وناجى الرجل الطالب للمناجاة. خرجه الموطأ. وفيه أيضا التنبيه على التعليل بقوله: ( من أجل أن يحزنه ) أي يقع في نفسه ما يحزن لأجله. وذلك بأن يقدر في نفسه أن الحديث عنه بما يكره، أو أنه لم يروه أهلا ليشركوه في حديثهم، إلى غير ذلك من ألقيات الشيطان وأحاديث النفس. وحصل ذلك كله من بقائه وحده، فإذا كان معه غيره أمن ذلك، وعلى هذا يستوي في ذلك كل الأعداد، فلا يتناجى أربعة دون واحد ولا عشرة ولا ألف مثلا، لوجود ذلك المعنى في حقه، بل وجوده في العدد الكثير أمكن وأوقع، فيكون بالمنع أولى. وإنما خص الثلاثة بالذكر، لأنه أول عدد يتأتى ذلك المعنى فيه. وظاهر الحديث يعم جميع الأزمان والأحوال، وإليه ذهب ابن عمر ومالك والجمهور. وسواء أكان التناجي في مندوب أو مباح أو واجب فإن الحزن يقع به. وقد ذهب بعض الناس إلى أن ذلك كان في أول الإسلام، لأن ذلك كان في حال المنافقين فيتناجى المنافقون دون المؤمنين، فلما فشا الإسلام سقط ذلك. وقال بعضهم: ذلك خاص بالسفر في المواضع التي لا يأمن الرجل فيها صاحبه، فأما في الحضر وبين العمارة فلا، فإنه يجد من يعينه، بخلاف السفر فإنه مظنة الاغتيال وعدم المغيث. والله أعلم.

 

الآية: 11 ( يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير )

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس » لما بين أن اليهود يحيونه بما لم يحيه به الله وذمهم على ذلك وصل به الأمر بتحسين الأدب في مجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى لا يضيقوا عليه المجلس، وأمر المسلمين بالتعاطف والتآلف حتى يفسح بعضهم لبعض، حتى يتمكنوا من الاستماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم والنظر إليه. قال قتادة ومجاهد: كانوا يتنافسون في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، فأمروا أن يفسح بعضهم لبعض. وقال الضحاك. وقال ابن عباس: المراد بذلك مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب. قال الحسن ويزيد بن أبي حبيب: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قاتل المشركين تشاح أصحابه على الصف الأول فلا يوسع بعضهم لبعض، رغبة في القتال والشهادة فنزلت. فيكون كقوله: « مقاعد للقتال » [ آل عمران: 121 ] . وقال مقاتل: كان النبي صلى الله عليه وسلم في الصفة، وكان في المكان ضيق يوم الجمعة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء أناس من أهل بدر فيهم ثابت بن قيس بن شماس وقد سبقوا في المجلس، فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وسلم على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم فلم يفسحوا لهم، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لمن حول من غير أهل بدر: ( قم يا فلان وأنت يا فلان ) بعدد القائمين من أهل بدر، فشق ذلك على من أقيم، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهية في وجوههم، فغمز المنافقون وتكلموا بأن قالوا: ما أنصف هؤلاء وقد أحبوا القرب من نبيهم فسبقوا إلى المكان، فأنزل الله عز وجل هذه الآية. « تفسحوا » أي توسعوا. وفسح فلان لأخيه في مجلسه يفسح فسحا أي وسع له، ومنه قولهم: بلد فسيح ولك في كذا فسحة، وفسح يفسح مثل منع يمنع، أي وسع في المجلس، وفسح يفسح فساحة مثل كرم يكرم كرامة أي صار واسعا، ومنه مكان فسيح.

 

قرأ السلمي وزر بن حبيش وعاصم « في المجالس » . وقرأ قتادة وداود بن أبي هند والحسن باختلاف عنه « إذا قيل لكم تفاسحوا » الباقون « تفسحوا في المجلس » فمن جمع فلأن قوله: « تفسحوا في المجالس » ينبئ أن لكل واحد مجلسا. وكذلك إن أريد به الحرب. وكذلك يجوز أن يراد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وجمع لأن لكل جالس مجلسا. وكذلك يجوز إن أريد بالمجلس المفرد مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن يراد به الجمع على مذهب الجنس، كقولهم: كثر الدينار والدرهم.

قلت: الصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير والأجر، سواء كان مجلس حرب أو ذكر أو مجلس يوم الجمعة، فإن كل واحد أحق بمكانه الذي سبق إليه قال صلى الله عليه وسلم: ( من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به ) ولكن يوسع لأخيه ما لم يتأذ فيخرجه الضيق عن موضعه. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ) . وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يقام الرجل من مجلسه ويجلس فيه آخر، ولكن تفسحوا وتوسعوا. وكان ابن عمر يكره أن يقوم الرجل من مجلسه ثم يجلس مكانه. لفظ البخاري.

 

إذا قعد واحد من الناس في موضع من المسجد لا يجوز لغيره أن يقيمه حتى يقعد مكانه، لما روى مسلم عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ثم يخالف إلى مقعده فيقعد فيه ولكن يقول افسحوا ) . فرع: القاعد في المكان إذا قام حتى يقعد غيره موضعه نظر، فإن كان الموضع الذي قام إليه مثل الأول في سماع كلام الإمام لم يكره له ذلك، وإن كان أبعد من الإمام كره له ذلك، لأن فيه تفويت حظه.

 

إذا أمر إنسان إنسانا أن يبكر إلى الجامع فيأخذ له مكانا يقعد فيه لا يكره، فإذا جاء الآمر يقوم من الموضع، لما روي: أن ابن سيرين كان يرسل غلامه إلى مجلس له في يوم الجمعة فيجلس له فيه، فإذا جاء قام له منه.

فرع: وعلى هذا من أرسل بساطا أو سجادة فتبسط له في موضع من المسجد.

 

روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا قام أحدكم - وفي حديث أبي عوانة من قام من مجلسه - ثم رجع إليه فهو أحق به ) قال علماؤنا: هذا يدل على صحة القول بوجوب اختصاص الجالس بموضعه إلى أن يقوم منه، لأنه إذا كان أولى به بعد قيامه فقبله أولى به وأحرى. وقد قيل: إن ذلك على الندب، لأنه موضع غير متملك لأحد لا قبل الجلوس ولا بعد. وهذا فيه نظر، وهو أن يقال: سلمنا أنه غير متملك لكنه يختص به إلى أن يفرغ غرضه منه، فصار كأنه يملك منفعته، إذ قد منع غيره من يزاحمه عليه. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « يفسح الله لكم » أي في قبوركم. وقيل: في قلوبكم. وقيل: يوسع عليكم في الدنيا والآخرة. « وإذا قيل انشزوا فانشزوا » قرأ نافع وابن عامر وعاصم بضم الشين فيهما. وكسر الباقون، وهما لغتان مثل « يعكفون » [ الأعراف: 138 ] و « يعرشون » [ الأعراف: 137 ] والمعنى انهضوا إلى الصلاة والجهاد وعمل الخير، قال أكثر المفسرين. وقال مجاهد والضحاك: إذا نودي للصلاة فقوموا إليها. وذلك أن رجالا تثاقلوا عن الصلاة فنزلت. وقال الحسن ومجاهد أيضا: أي انهضوا إلى الحرب. وقال ابن زيد: هذا في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، كان كل رجل منهم يحب أن يكون آخر عهده بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال الله تعالى: « وإذا قيل أنشزوا » عن النبي صلى الله عليه وسلم « فانشزوا » فإن له حوائج فلا تمكثوا. وقال قتادة: المعنى أجيبوا إذا دعيتم إلى أمر بمعروف. وهذا هو الصحيح، لأنه يعم. والنشز الارتفاع، مأخوذ من نشز الأرض وهو ارتفاعها، يقال نشز ينشز وينشز إذا انتحى من موضعه، أي ارتفع منه. وامرأة ناشز منتحية عن زوجها. وأصل هذا من النشز، والنشز هو ما ارتفع من الأرض وتنحى، ذكره النحاس.

 

قوله تعالى: « يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات » أي في الثواب في الآخرة وفي الكرامة في الدنيا، فيرفع المؤمن على من ليس بمؤمن والعالم على من ليس بعالم. وقال ابن مسعود: مدح الله العلماء في هذه الآية. والمعنى أنه يرفع الله الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم « درجات » أي درجات في دينهم إذا فعلوا ما أمروا به. وقيل: كان أهل الغنى يكرهون أن يزاحمهم من يلبس الصوف فيستبقون إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فالخطاب لهم. ورأى عليه الصلاة والسلام رجلا من الأغنياء يقبض ثوبه نفورا من بعض الفقراء أراد أن يجلس إليه فقال: ( يا فلان خشيت أن يتعدى غناك إليه أو فقره إليك ) وبين في هذه الآية أن الرفعة عند الله تعالى بالعلم والإيمان لا بالسبق إلى صدور المجالس. وقيل: أراد بالذين أوتوا العلم الذين قرؤوا القرآن. وقال يحيى بن يحيى عن مالك: « يرفع الله الذين آمنوا منكم » الصحابة « والذين أوتوا العلم درجات » يرفع الله بها العالم والطالب للحق.

قلت: والعموم أوقع في المسألة وأولى بمعنى الآية، فيرفع المؤمن بإيمانه أولا ثم بعلمه ثانيا. وفي الصحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقدم عبدالله بن عباس على الصحابة، فكلموا في ذلك فدعاهم ودعاه، وسألهم عن تفسير « إذا جاء نصر الله والفتح » [ النصر: 1 ] فسكتوا، فقال ابن عباس: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله إياه. فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم. وفي البخاري عن عبدالله بن عباس قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس بن حصن، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولا كانوا أو شبانا. الحديث وقد مضى في آخر « الأعراف » . وفي صحيح مسلم أن نافع بن الحرث لقي عمر بعسفان وكان عمر يستعمله على مكة فقال: من استعملته على أهل الوتادي؟ فقال: ابن أبزى. فقال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا. قال: فاستخلفت عليهم مولى! قال: إنه قارئ لكتاب الله وإنه عالم بالفرائض. قال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: ( إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين ) وقد مضى أول الكتاب. ومضى القول في فضل العلم والعلماء في غير موضع من هذا الكتاب والحمد لله. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( بين العالم والعابد مائة درجة بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة ) . وعنه صلى الله عليه وسلم: ( فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ) . وعنه عليه الصلاة والسلام: ( يشفع يوم القيامة ثلاثة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء ) فأعظم بمنزلة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن ابن عباس: خير سليمان عليه السلام بين العلم والمال والملك فاختار العلم فأعطي المال والملك معه.

 

الآية: 12 ( يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم )

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول » « ناجيتم » ساررتم. قال ابن عباس: نزلت بسبب أن المسلمين كانوا يكثرون المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه، فأراد الله عز وجل أن يخفف عن نبيه صلى الله عليه وسلم، فلما قال ذلك كف كثير من الناس. ثم وسع الله عليهم بالآية التي بعدها. وقال الحسن: نزلت بسب أن قوما من المسلمين كانوا يستخلون النبي صلى الله عليه وسلم ويناجونه، فظن بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النجوى، فشق عليهم ذلك فأمرهم الله تعالى بالصدقة عند النجوى ليقطعهم عن استخلافه. وقال زيد بن أسلم: نزلت بسبب أن المنافقين واليهود كانوا يناجون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: إنه أذن يسمع كل ما قيل له، وكان لا يمنع أحدا مناجاته. فكان ذلك يشق على المسلمين، لأن الشيطان كان يلقي في أنفسهم أنهم ناجوه بأن جموعا اجتمعت لقتاله. قال: فأنزل الله تبارك وتعالى: « يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول » [ المجادلة: 9 ] الآمة، فلم ينتهوا فأنزل الله هذه الآية، فأنتهى أهل الباطل عن النجوى، لأنهم لم يقدموا بين يدي نجواهم صدقة، وشق ذلك على أهل الإيمان وامتنعوا من النجوى، لضعف مقدرة كثير منهم عن الصدقة فخفف الله عنهم بما بعد الآية.

 

قال ابن العربي: وفي هذا الخبر عن زيد ما يدل على أن الأحكام لا تترتب بحسب المصالح، فإن الله تعالى قال: « ذلك خير لكم وأطهر » ثم نسخه مع كونه خيرا وأطهر. وهذا رد على المعتزلة عظيم في التزام المصالح، لكن راوي الحديث عن زيد ابنه عبدالرحمن وقد ضعفه العلماء. والأمر في قوله تعالى: « ذلك خير لكم وأطهر » نص متواتر في الرد على المعتزلة. والله أعلم.

 

روى الترمذي عن علي بن علقمة الأنماري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما نزلت « يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة » سألته قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما ترى دينارا ) قلت لا يطيقونه. قال: ( فنصف دينار ) قلت: لا يطيقونه. قال: ( فكم ) قلت: شعيرة. قال: ( إنك لزهيد ) قال فنزلت: « أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات » [ المجادلة: 13 ] الآية. قال: فبي خفف الله عن هذه الأمة. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب إنما نعرفه من هذا الوجه، ومعنى قوله: شعيرة يعني وزن شعيرة من ذهب. قال ابن العربي: وهذا يدل على مسألتين حسنتين أصوليتين: الأولى: نسخ العبادة قبل فعلها. والثانية: النظر في المقدرات بالقياس، خلافا لأبي حنيفة.

قلت: الظاهر أن النسخ إنما وقع بعد فعل الصدقة. وقد روي عن مجاهد: أن أول من تصدق في ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه وناجى النبي صلى الله عليه وسلم. روي أنه تصدق بخاتم. وذكر القشيري وغيره عن علي بن ابن طالب أنه قال: في كتاب الله آية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي، وهي: « يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بن يدي نجواكم صدقة » كان لى دينار فبعته، فكنت إذا ناجيت الرسول تصدقت بدرهم حتى نفد، فنسخت بالآية الأخرى « أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات » [ المجادلة: 13 ] . وكذلك قال ابن عباس: نسخها الله بالآية التي بعدها. وقال ابن عمر: لقد كانت لعلي رضي الله عنه ثلاثة لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إلي من حمر النعم: تزويجه فاطمة، وإعطاؤه الراية يوم خيبر، وآية النجوى.

 

قوله تعالى: « ذلك خير لكم » أي من إمساكها « وأطهر » لقلوبكم من المعاصي « فإن لم تجدوا » يعني الفقراء « فإن الله غفور رحيم » .

 

الآية: 13 ( أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون )

 

قوله تعالى: « أأشفقتم » استفهام معناه التقرير. قال ابن عباس: « أأشفقتم » أي أبخلتم بالصدقة، وقل: خفتم، والإشفاق الخوف من المكروه. أي خفتم وبخلتم بالصدقة وشق عليكم « أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات » قال مقاتل بن حيان: إنما كان ذلك عشر ليال ثم نسخ. وقال الكلبي: ما كان ذلك إلا ليلة واحدة. وقال ابن عباس: ما بقي إلا ساعة من النهار حتى نسخ. وكذا قال قتادة. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم » أي نسخ الله ذلك الحكم. وهذا خطاب لمن وجد ما يتصدق به « فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة » فنسخت فرضية الزكاة هذه الصدقة. وهذا يدل على جواز النسخ قبل الفعل، وما روي عن علي رضي الله عنه ضعيف، لأن الله تعالى قال: « فإذ لم تفعلوا » وهذا يدل على أن أحدا لم يتصدق بشيء. والله أعلم. « وأطيعوا الله » في فرائضه « ورسوله والله خبير بما تعملون » في سننه « والله خبير بما تعملون » .

 

الآيات: 14 - 16 ( ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون، أعد الله لهم عذابا شديدا إنهم ساء ما كانوا يعملون، اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين )

 

قوله تعالى: « ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم » قال قتادة: هم المنافقون تولوا اليهود « ما هم منكم ولا منهم » يقول: ليس المنافقون من اليهود ولا من المسلمين بل هم مذبذبون بين ذلك، وكانوا يحملون أخبار المسلمين إليهم. قال السدي ومقاتل: نزلت في عبدالله بن أبي وعبدالله بن نبتل المنافقين، كان أحدهما يجالس النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرفع حديثه إلى اليهود، فبينا النبي صلى الله عليه وسلم في حجرة من حجراته إذ قال: ( يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان ) فدخل عبدالله بن نبتل - وكان أزرق أسمر قصيرا خفيف اللحية - فقال عليه الصلاة والسلام: ( علام تشتمني أنت وأصحابك ) فحلف بالله ما فعل ذلك. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( فعلت ) فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه، فنزلت هذه الآية. وقال معناه ابن عباس. روى عكرمة عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل شجرة قد كاد الظل يتقلص عنه إذ قال: ( يجيئكم الساعة رجل أزرق ينظر إليكم نظر الشيطان ) فنحن على ذلك إذ أقبل رجل أزرق، فدعا به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( علام تشتمني أنت وأصحابك ) قال: دعني أجيئك بهم. فمر فجاء بهم فحلفوا جميعا أنه ما كان من ذلك شيء، فأنزل الله عز وجل: « يوم يبعثهم الله جميعا » [ المجادلة:18 ] إلى قوله: « هم الخاسرون » واليهود مذكرون في القرآن بـ « وغضب الله عليهم » [ الفتح: 6 ] . « أعد الله لهم » أي لهؤلاء المنافقين « عذابا شديدا » في جهنم وهو الدرك الأسفل. « إنهم ساء ما كانوا يعملون » أي بئس الأعمال أعمالهم « اتخذوا أيمانهم جنة » يستجنون بها من القتل. وقرأ الحسن وأبو العالية « إيمانهم » بكسر الهمزة هنا وفي « المنافقون » . أي إقرارهم اتخذوه جنة، فآمنت ألسنتهم من خوف القتل، وكفرت قلوبهم « فلهم عذاب مهين » في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار. والصد المنع « عن سبيل الله » أي عن الإسلام. وقيل: في قتلهم بالكفر لما أظهروه من النفاق. وقيل: أي بإلقاء الأراجيف وتثبيط المسلمين عن الجهاد وتخويفهم.

 

الآيات: 17 - 19 ( لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون، استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون )

 

قوله تعالى: « لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا » أي من عذابه شيئا. وقال مقاتل: قال المنافقون إن محمدا يزعم أنه ينصر يوم القيامة، لقد شقينا إذا فوالله لننصرن يوم القيامة بأنفسنا وأولادنا وأموالنا إن كانت قيامة. فنزلت: « يوم يبعثهم الله جميعا » أي لهم عذاب مهين يوم يبعثهم « فيحلفون له كما يحلفون لكم » اليوم. وهذا أمر عجيب وهو مغالطتهم باليمين غدا، وقد صارت المعرف ضرورية. وقال ابن عباس: هو قولهم « والله ربنا ما كنا مشركين » [ الأنعام: 23 ] . « ويحسبون أنهم على شيء » بإنكارهم وحلفهم. قال ابن زيد: ظنوا أنهم ينفعهم في الآخرة. وقيل: « ويحسبون » في الدنيا « أنهم على شيء » لأنهم في الآخرة يعلمون الحق باضطرار. والأول أظهر. وعن بن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ينادي مناد يوم القيامة أين خصماء الله فتقوم القدرية مسودة وجهوهم مزرقة أعينهم مائل شدقهم يسيل لعابهم فيقولون والله ما عبدنا من دونك شمسا ولا قمرا ولا صنما ولا وثنا، ولا اتخذنا من دونك إلها ) . قال ابن عباس: صدقوا والله! أتاهم الشرك من حيث لا يعلمون، ثم تلا « ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون » هم والله القدرية. ثلاثا.

 

قوله تعالى: « استحوذ عليهم الشيطان » أي غلب واستعلى، أي بوسوسته في الدنيا. وقيل: قوي عليهم. وقال المفضل: أحاط بهم. ويحتمل رابعا أي جمعهم وضمهم. يقال: أحوذ الشيء أي جمعه وضم بعضه إلى بعض، وإذا جمعهم فقد غلبهم وقوي عليهم وأحاط بهم. « فأنساهم ذكر الله » أي أوامره في العمل بطاعته. وقيل: زواجره في النهي عن معصيته. والنسيان قد يكون بمعنى الغفلة، ويكون بمعنى الترك، والوجهان محتملان هنا. « أولئك حزب الشيطان » طائفته ورهطه « ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون » في بيعهم، لأنهم باعوا الجنة بجهنم، وباعوا الهدى بالضلالة.

 

الآيات: 20 - 21 ( إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين، كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز )

 

قوله تعالى: « إن الذين يحادون الله ورسوله » تقدم. « أولئك في الأذلين » أي من جملة الأذلاء لا أذل منهم « كتب الله لأغلبن » أي قضى الله ذلك. وقيل: كتب في اللوح المحفوظ، عن قتادة. الفراء: كتب بمعنى قال. « أنا » توكيد « ورسلي » من بعث منهم بالحرب فإنه غالب بالحرب، ومن بعث منمهم بالحجة فإنه غالب بالحجة. قال مقاتل قال المؤمنون: لئن فتح الله لنا مكة والطائف وخيبر وما حولهن رجونا أن يظهرنا الله على. فارس والروم، فقال عبدالله بن أبي ابن سلول: أتظنون الروم وفارس مثل القرى التي غلبتم عليها؟! والله إنهم لأكثر عددا، وأشد بطشا من أن تظنوا فيهم ذلك، فنزلت: « لأغلبن أنا ورسلي » . نظيره: « ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين. إنهم لهم المنصورون. وإن جندنا لهم الغالبون » [ الصافات: 171 ] .

 

الآية: 22 ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون )

 

قوله تعالى: « لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون » أي يحبون ويوالون « من حاد الله ورسوله » تقدم « ولو كانوا آباءهم » قال السدي: نزلت في عبدالله بن عبدالله بن أبي، جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشرب النبي صلى الله عليه وسلم ماء، فقال له: بالله يا رسول الله ما أبقيت من شرابك فضلة أسقيها أبي، لعل الله يطهر بها قلبه؟ فأفضل له فأتاه بها، فقال له عبدالله: ما هذا؟ فقال: هي فضلة من شراب النبي صلى الله عليه وسلم جئتك بها تشربها لعل الله يطهر قلبك بها. فقال له أبوه: فهلا جئتني ببول أمك فإنه أطهر منها. فغضب وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله! أما أذنت لي في قتل أبي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( بل ترفق به وتحسن إليه ) . وقال ابن جريج: حدثت أن أبا قحافة سب النبي صلى الله عليه وسلم فصكه أبو بكر ابنه صكة فسقط منها على وجهه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: ( أو فعلته، لا تعد إليه ) فقال: والذى بعثك بالحق نبيا لو كان السيف مني قريبا لقتلته. وقال ابن مسعود: نزلت في أبي عبيدة بن الجراح، قتل أباه عبدالله بن الجراح يوم أحد وقيل: يوم بدر. وكان الجراح يتصدى لأبي عبيدة وأبوعبيدة يحيد عنه، فلما أكثر قصد إليه أبو عبيدة فقتله، فأنزل الله حين قتل أباه: « لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الأخر » الآية. قال الواقدي: كذلك يقول أهل الشام. ولقد سألت رجالا من بني الحرث بن فهر فقالوا: توفي أبوه من قبل الإسلام. « أو أبناءهم » يعني أبا بكر دعا ابنه عبدالله إلى البراز يوم بدر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( متعنا بنفسك يا أبا بكر أما تعلم أنك عندي بمنزلة السمع والبصر ) . « أو إخوانهم » يعني مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم بدر. « أو عشيرتهم » يعني عمر بن الخطاب قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم بدر، وعلا وحمزة قتلا عتبة وشيبة والوليد يوم بدر. وقيل: إن الآية نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، لما كتب إلى أهل مكة بمسير النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح، على ما يأتي بيانه أول سورة « الممتحنة » إن شاء الله تعالى. بين أن الإيمان يفسد بموالاة الكفار وإن كانوا أقارب.

 

استدل مالك رحمه الله من هذه الآية على معاداة القدرية وترك مجالستهم. قال أشهب عن مالك: لا تجالس القدرية وعادهم في الله، لقوله تعالى: « لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله » .

قلت: وفي معنى أهل القدر جميع أهل الظلم والعدوان. وعن الثوري أنه قال: كانوا يرون أنها نزلت في من كان يصحب السلطان. وعن عبدالعزيز بن أبي داود أنه لقي المنصور في الطواف فلما عرفه هرب منه وتلاها. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: ( اللهم لا تجعل لفاجر عندي نعمة فإني وجدت فيما أوحيت ) « لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الأخر - إلى قوله - أولئك كتب في قلوبهم الإيمان » أي خلق في قلوبهم التصديق، يعني من لم يوال من حاد الله. وقيل: كتب أثبت، قاله الربيع بن أنس. وقيل: جعل، كقوله تعالى: « فاكتبنا مع الشاهدين » [ آل عمران: 53 ] أي اجعلنا. وقوله: « فسأكتبها للذين يتقون » [ الأعراف: 156 ] وقيل: « كتب » أي جمع، ومنه الكتيبة، أي لم يكونوا ممن يقول نؤمن ببعض ونكفر ببعض. وقراءة العامة بفتح الكاف من « كتب » ونصب النون من « الإيمان » بمعنى كتب الله وهو الأجود، لقوله تعالى: « وأيدهم بروح منه » وقرأ أبو العالية وزر بن حبيش والمفضل عن عاصم « كتب » على ما لم يسم فاعله « الإيمان » برفع النون. وقرأ زر بن حبيش « وعشيراتهم » بألف وكسر التاء على الجمع، ورواها الأعمش عن أبي بكر عن عاصم. وقيل: « كتب في قلوبهم » أي على قلوبهم، كما في قلوبهم « في جذوع النخل » [ طه: 71 ] وخص القلوب بالذكر لأنها موضع الإيمان. « وأيدهم بروح منه » قواهم ونصرهم بروح منه، قال الحسن: وبنصر منه. وقال الربيع بن أنس: بالقرآن وحججه. وقال ابن جريج: بنور وإيمان وبرهان وهدى. وقيل: برحمة من الله. وقال بعضهم: أيدهم بجبريل عليه السلام. « ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم » أي قبل أعمالهم « ورضوا عنه » فرحوا بما أعطاهم « أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون » قال سعيد بن أبي سعيد الجرجاني عن بعض مشايخه، قال داود عليه السلام: إلهي! من حزبك وحول عرشك؟ فأوحى الله إليه: « يا داود الغاضة أبصارهم، النقية قلوبهم، السليمة أكفهم، أولئك حزبي وحول عرشي » .

 

سورة الحشر

مقدمة السورة

 

روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من قرأ سورة الحشر لم يبق شيء من الجنة والنار والعرش والكرسي والسموات والأرض والهوام والريح والسحاب والطير والدواب والشجر والجبال والشمس والقمر والملائكة إلا صلوا عليه واستغفروا له. فإن مات من يومه أو ليلته مات شهيدا ) . خرجه الثعلبي. وخرج الثعالبي عن يزيد الرقاشي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من قرأ آخر سورة الحشر « لو أنزلنا هذا القرآن على جبل » [ الحشر: 21 ] - إلى آخرها - فمات من ليلته مات شهيدا ) . وروى الترمذي عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي وإن مات في يومه مات شهيدا ومن قرأها حين يمسي فكذلك ) . قال: حديث حسن غريب.

 

الآية: 1 ( سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم )

 

تقدم.

 

الآية: 2 ( هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار )

 

قوله تعالى: « هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم » قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: سورة الحشر؟ قال: قل سورة النضير؛ وهم رهط من اليهود من ذرية هارون عليه السلام، نزلوا المدينة في فتن بني إسرائيل انتظارا لمحمد صلى الله عليه وسلم، وكان من أموهم ما نص الله عليه. « لأول الحشر » الحشر الجمع؛ وهو على أربعة أوجه: حشران في الدنيا وحشران في الآخرة؛ أما الذي في الدنيا فقوله تعالى: « هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر » قال الزهري: كانوا من سبط لم يصبهم جلاء، وكان الله عز وجل قد كتب عليهم الجلاء؛ فلولا ذلك لعذبهم في الدنيا وكان أول حشر حشروا في الدنيا إلى الشام. قال ابن عباس وعكرمة: من شك أن الحشر في الشام فليقرأ هذه الآية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: ( اخرجوا ) قالوا إلى أين؟ قال: ( إلى أرض المحشر ) . قال قتادة: هذا أول المحشر. قال ابن عباس: هم أول من حشر من أهل الكتاب وأخرج من دياره. وقيل: إنهم أخرجوا إلى خيبر، وأن معنى « لأول الحشر » إخراجهم من حصونهم إلى خيبر، وآخره إخراج عمر رضي الله عنه إياهم من خيبر إلى نجد وأذرعات. وقيل تيماء وأريحاء، وذلك بكفرهم ونقض عهدهم. وأما الحشر الثاني: فحشرهم قرب القيامة. قال قتادة: تأتي نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، وتأكل منهم من تخلف. وهذا ثابت في الصحيح، وقد ذكرناه في ( كتاب التذكرة ) . ونحوه روى ابن وهب عن مالك قال: قلت لمالك هو جلاؤهم من ديارهم؟ فقال لي: الحشر يوم القيامة حشر اليهود. قال: وأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود إلى خيبر حين سئلوا عن المال فكتموه؛ فاستحلهم بذلك. قال ابن العربي: للحشر أول ووسط وآخر؛ فالأول إجلاء بني النضير، والأوسط إجلاء خيبر، والآخر حشر يوم القيامة. وعن الحسن: هم بنو قريظة. وخالفه بقية المفسرين وقالوا: بنو قريظة ما حشروا ولكنهم قتلوا. حكاه الثعلبي.

 

قال الكيا الطبري: ومصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم من غير شيء لا يجور الآن، وإنما كان ذلك في أول الإسلام ثم نسخ. والآن فلا بد من قتالهم أو سبيهم أو ضرب الجزية عليهم.

 

قوله تعالى: « ما ظننتم أن يخرجوا » يريد لعظم أمر اليهود ومنعتهم وقوتهم في صدور المسلمين، واجتماع كلمتهم. « وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم » قيل: هي الوطيح والنطاة والسلالم والكتيبة. « من الله » أي من أمره. وكانوا أهل حلقة - أي سلاح كثير - وحصون منيعة؛ فلم يمنعهم شيء منها. « فأتاهم الله » أي أمره وعذابه. « من حيث لم يحتسبوا »

أي لم يظنوا. وقيل: من حيث لم يعلموا. وقيل: « من حيث لم يحتسبوا » بقتل كعب بن الأشرف؛ قال ابن جريج والسدي وأبو صالح. « وقذف في قلوبهم الرعب » بقتل سيدهم كعب بن الأشرف؛ وكان الذي قتله هو محمد بن مسلمة وأبو نائلة سلكان بن سلامة بن وقش - وكان أخا كعب بن الأشرف من الرضاعة - وعباد بن بشر بن وقش، والحارث بن أوس بن معاذ، وأبو عبس بن جبر. وخبره مشهور في السيرة. وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( نصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر ) فكيف لا ينصر به مسيرة ميل من المدينة إلى محلة بني النضير. وهذه خصيصى لمحمد صلى الله عليه وسلم دون غيره.

 

قوله تعالى: « يخربون بيوتهم » قراءة العامة بالتخفيف من أخرب؛ أي يهدمون. وقرأ السلمي والحسن ونصر بن عاصم وأبو العالية وقتادة وأبو عمرو « يخربون » بالتشديد من التخريب. قال أبو عمرو: إنما اخترت التشديد لأن الإخراب ترك الشيء خرابا بغير ساكن، وبنو النضر لم يتركوها خرابا وإنما خربوها بالهدم؛ يؤيده قوله تعالى: « بأيديهم وأيدي المؤمنين » . وقال آخرون: التحريب والإخراب بمعنى واحد، والتشديد بمعنى التكثير. وحكى سيبويه: أن معنى فعلت وأفعلت يتعاقبان؛ نحو أخربته وخربته وأفرحته وفرحته. واختار أبو عبيد وأبو حاتم الأولى. قال قتادة والضحاك: كان المؤمنون يخربون من خارج ليدخلوا، واليهود يخربون من داخل ليبنوا به ما خرب من حصنهم. فروي أنهم صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا يكونوا عليه ولا له؛ فلما ظهر يوم بدر قالوا: هو النبي الذي نعت في التوراة، فلا ترد له راية. فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة، فخالفوا عليه قريشا عند الكعبة، فأمر عليه السلام محمد بن مسلمة الأنصاري فقتل كعبا غيلة ثم صبحهم بالكتاب؛ فقال لهم. اخرجوا من المدينة. فقالوا: الموت أحب إلينا من ذلك؛ فتنادوا بالحرب. وقيل: استمهلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أيام ليتجهزوا للخروج، فدس إليهم عبدالله بن أبي المنافق وأصحابه لا تخرجوا من الحصن، فإن قاتلوكم فنحن معكم لا نخذلكم، ولئن أخرجتم لنخرجن معكم. فدربوا على الأزقة وحصنوها إحدى وعشرين ليلة، فلما قذف الله في قلوبهم الرعب وأيسوا من نصر المنافقين طلبوا الصلح؛ فأبى عليهم إلا الجلاء؛ على ما يأتي بيانه.

وقال الزهري وابن زيد وعروة بن الزبير: لما صالحهم النبي صلى الله عليه وسلم على أن لهم ما أقلت الإبل؛ كانوا يستحسنون الخشبة والعمود فيهدمون بيوتهم ويحملون ذلك على إبلهم ويخرب المؤمنون باقيها. وعن ابن زيد أيضا: كانوا يخربونها لئلا يسكنها المسلمون بعدهم. وقال ابن عباس: كانوا كلما ظهر المسلمون على دار من دورهم هدموها ليتسع موضع القتال، وهم ينقبون دورهم من أدبارها إلى التي بعدها ليتحصنوا فيها، ويرموا بالتي أخرجوا منها المسلمين. وقيل: ليسدوا بها أزقتهم. وقال عكرمة « بأيديهم » في إخراب دواخلها وما فيها لئلا يأخذه المسلمون. و « أيدي المؤمنين » في إخراب ظاهرها ليصلوا بذلك إليهم. قال عكرمة: كانت منازلهم مزخرفة فحسدوا المسلمين أن يسكنوها « فخربوها من داخل وخربها المسلمون من خارج. وقيل: » يخربون بيوتهم « بنقض المواعدة » وأيدي المؤمنين « بالمقاتلة؛ قال الزهري أيضا. وقال أبو عمرو بن العلاء « بأيديهم » في تركهم لها. و « أيدي المؤمنين » في إجلائهم عنها. قال ابن العربي: التناول للإفساد إذا كان باليد كان حقيقة، وإذا كان بنقض العهد كان مجازا؛ إلا أن قول الزهري في المجاز أمثل من قول أبي عمرو بن العلاء. »

 

قوله تعالى: « فاعتبروا يا أولي الأبصار »

أي اتعظوا يا أصحاب العقول والألباب. وقيل: يا من عاين ذلك ببصره؛ فهو جمع للبصر. ومن جملة الاعتبار هنا أنهم اعتصموا بالحصون من الله فأنزلهم الله منها. ومن وجوهه: أنه سلط عليهم من كان ينصرهم. ومن وجوهه أيضا: أنهم هدموا أموالهم بأيديهم. ومن لم يعتبر بغيره اعتبر في نفسه. وفي الأمثال الصحيحة: « السعيد من وعظ بغيره » .

الآية [ 3 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات: 3 - 4 ( ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار، ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب )

 

قوله تعالى: « ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء » أي لولا أنه قضى أنه سيجليهم عن دارهم وأنهم يبقون مدة فيؤمن بعضهم ويولد لهم من يؤمن. « لعذبهم في الدنيا » أي بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة. والجلاء مفارقة الوطن يقال: جلا بنفسه جلاء، وأجلاه غيره إجلاء. والفرق بين الجلاء والإخراج وإن كان معناهما في الإبعاد واحدا من وجهين: أحدهما: أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد. الثاني: أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة، والإخراج يكون لواحد ولجماعة؛ قاله الماوردي. « ذلك » أي ذلك الجلاء « بأنهم شاقوا الله ورسوله » أي عادوه وخالفوا أمره. « ومن يشاق الله » قرأ طلحة بن مصرف ومحمد بن السميقع « ومن يشاقق الله » بإظهار التضعيف كالتي في « الأنفال » ، وأدغم الباقون.

 

الآية: 5 ( ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين )

 

قوله تعالى: « ما قطعتم من لينة » « ما » في محل نصب بـ « قطعتم » ؛ كأنه قال: أي شيء قطعتم. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل على حصون بني النضير - وهي البويرة - حين نقضوا العهد بمعونة قريش عليه يوم أحد، أمر بقطع نخيلهم وإحراقها. واختلفوا في عدد ذلك؛ فقال قتادة والضحاك: إنهم قطعوا من نخيلهم وأحرقوا ست نخلات. وقال محمد بن إسحاق: إنهم قطعوا نخلة وأحرقوا نخلة. وكان ذلك عن إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بأمره؛ إما لإضعافهم بها وإما لسعة المكان بقطعها. فشق ذلك عليهم فقالوا وهم يهود أهل الكتاب : يا محمد، ألست تزعم أنك نبي تريد الصلاح، أفمن الصلاح قطع النخل وحرق الشجر؟ وهل وجدت فيما أنزل الله عليك إباحة الفساد في الأرض؟ فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم. ووجد المؤمنون في أنفسهم حتى اختلفوا؛ فقال بعضهم: لا تقطعوا مما أفاء الله علينا. وقال بعضهم: أقطعوا لنغيظهم بذلك. فنزلت الآية بتصديق من نهى عن القطع وتحليل من قطع من الإثم، وأخبر أن قطعه وتركه بإذن الله. وقال شاعرهم سماك اليهودي في ذلك:

ألسنا ورثنا الكتاب الحكيم على عهد موسى ولم نصدف

وأنتم رعاء لشاء عجاف بسهل تهامة والأخيف

ترون الرعاية مجدا لكم لدى كل دهر لكم مجحف

فيا أيها الشاهدون انتهوا عن الظلم والمنطق المؤنف

لعل الليالي وصرف الزهور يدلن من العادل المنصف

بقتل النضير وإجلائها وعقر النخيل ولم تقطف

فأجابه حسان بن ثابت:

تفاقد معشر نصروا قريشا وليس لهم ببلدتهم نصير

همو أوتوا الكتاب فضيعوه وهم عمي عن التوراة بور

كفرتم بالقران وقد أبيتم بتصديق الذي قال النذير

وهان على سراة بني لوي حريق بالبويرة مستطير

فأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب:

أدام الله ذلك من صنيع وحرق في نواحيها الشعير

ستعلم أينا منها بنزه وتعلم أي أرضينا تصير

فلو كان النخيل بها ركابا لقالوا لا مقام لكم فسيروا

 

كان خروج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم في ربيع الأول أول السنة الرابعة من الهجرة، وتحصنوا منه في الحصون، وأمر بقطع النخل وإحراقها، وحينئذ نزل تحريم الخمر. ودس عبدالله بن أبي ابن سلول ومن معه من المنافقين إلى بني النضير: إنا معكم، وإن قوتلنا قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم؛ فاغتروا بذلك. فلما جاءت الحقيقة خذلوهم وأسلموهم وألقوا بأيديهم، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكف عن دمائهم ويجليهم؛ على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح، فاحتملوا كذلك إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام. وكان ممن سار منهم إلى خيبر أكابرهم؛ كحيي بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع. فدانت لهم خيبر.

 

ثبت في صحيح مسلم وغيره عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع نخل بني النضير وحرق. ولها يقول حسان:

وهان على سراة بني لوي حريق بالبويرة مستطير

وفي ذلك نزلت : « ما قطعتم من لينة » الآية.

واختلف الناس في تخريب دار العدو وتحريقها وقطع ثمارها على قولين: الأول: أن ذلك جائز؛ قال في المدونة. الثاني: إن علم المسلمون أن ذلك لهم لم يفعلوا، وإن يئسوا فعلوا؛ قاله مالك في الواضحة. وعليه يناظر أصحاب الشافعي. ابن العربي: والصحيح الأول. وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخل بني النضير له؛ ولكنه قطع وحرق ليكون ذلك نكاية لهم ووهنا فيهم حتى يخرجوا عنها. وإتلاف بعض المال لصلاح باقيه مصلحة جائزة شرعا، مقصودة عقلا.

 

قال الماوردي: إن في هذه الآية دليلا على أن كل مجتهد مصيب. وقاله الكيا الطبري قال: وإن كان الاجتهاد يبعد في مثله مع وجود النبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، ولا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأي ذلك وسكت؛ فتلقوا الحكم من تقريره فقط. قال ابن العربي: وهذأ باطل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معهم، ولا اجتهاد مع حضور رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يدل على اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم فيما لم ينزل عليه؛ أخذا بعموم الأذية للكفار، ودخولا في الإذن للكل لما يقضي عليهم بالاجتياح والبوار؛ وذلك قوله تعالى: « وليخزي الفاسقين » .

 

اختلف في اللينة ما هي؛ على أقوال عشرة: الأول: النخل كله إلا العجوة؛ قاله الزهري ومالك وسعيد بن جبير وعكرمة والخليل. وعن ابن عباس ومجاهد والحسن: أنها النخل كله، ولم يستثنوا عجوة ولا غيرها. وعن ابن عباس أيضا: أنها لون من النخل. وعن الثوري: أنها كرام النخل. وعن أبي عبيدة: أنها جميع ألوان التمر سوى العجوة والبرني. وقال جعفر بن محمد: إنها العجوة خاصة. وذكر أن العتيق والعجوة كانتا مع نوح عليه السلام في السفينة. والعتيق: الفحل. وكانت العجوة أصل الإناث كلها فلذلك شق على اليهود قطعها؛ حكاه الماوردي. وقيل: هي ضرب من النخل يقال لتمره: اللون، تمره أجود التمر، وهو شديد الصفرة، يرى نواه من خارجه ويغيب فيه الضرس؛ النخلة منها أحب إليهم من وصيف. وقيل: هي النخلة القريبة من الأرض. وأنشد الأخفش.

قد شجاني الحمام حين تغنى بفراق الأحباب من فوق لينه

وقيل: إن اللينة الفسيلة؛ لأنها ألين من النخلة. ومنه قول الشاعر:

غرسوا لينها بمجرى معين ثم حفوا النخيل بالآجام

وقيل: إن اللينة الأشجار كلها للينها بالحياة؛ قال ذو الرمة:

طراق الخوافي واقع فوق لينه ندى ليله في ريشه يترقرق

والقول العاشر: أنها الدقل؛ قال الأصمعي. قال: وأهل المدينة يقولون لا تنتفخ الموائد حتى توجد الألوان؛ يعنون الدقل. قال ابن العربي: والصحيح ما قال الزهري ومالك لوجهين: أحدهما: أنهما أعرف ببلدهما وأشجارهما. الثاني: أن الاشتقاق يعضده، وأهل اللغة يصححونه؛ فإن اللينة وزنها لونة، واعتلت على أصولهم قالت إلى لينة فهي لون، فإذا دخلت الهاء كسر أولها؛ كبرك الصدر ( بفتح الباء ) وبركه ( بكسرها ) لأجل الهاء. وقيل لينة أصلها لونة فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. وجمع اللينة لين. وقيل: ليان؛ قال امرؤ القيس يصف عنق فرسه:

وسالفة كسحوق الليان أضرم فيها الغوي السعر

وقال الأخفش: إنما سميت لينة اشتقاقا من اللون لا من اللين. المهدوي: واختلف في اشتقاقها؛ فقيل: هي من اللون وأصلها لونة. وقيل: أصلها لينة من لان يلين. وقرأ عبدالله « ما قطعتم من لينة ولا تركتم قوماء على أصولها » أي قائمة على سوقها. وقرأ الأعمش « ما قطعتم من لينة أو تركتموها قوما على أصولها » المعنى لم تقطعوها. وقرئ « قوماء على أصلها » . وفيه وجهان: أحدهما: أنه جمع أصل؛ كرهن ورهن. والثاني: اكتفي فيه بالضمة عن الواو. وقرئ « قائما على أصوله » ذهابا إلى لفظ « ما » . « فبإذن الله » أي بأمره « وليخزي الفاسقين » أي ليذل اليهود الكفار به وبنبيه وكتبه.

 

الآيات: 6 - 7 ( وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير، ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب )

 

قوله تعالى: « وما أفاء الله » يعني ما رده الله تعالى « على رسوله » من أموال بني النضير. « قما أوجفتم عليه » أوضعتم عليه. والإيجاف: الإيضاع في السير وهو الإسراع؛ يقال: وجف الفرس إذا أسرع، وأوجفته أنا أي حركته وأتعبته؛ ومنه قول تميم بن مقبل:

مذاويد بالبيض الحديث صقالها عن الركب أحيانا إذا الركب أوجفوا

والركاب الإبل، واحدها راحلة. يقول: لم تقطعوا إليها شقة ولا لقيتم بها حربا ولا مشقة؛ وإنما كانت من المدينة على ميلين؛ قاله الفراء. فمشوا إليها مشيا ولم يركبوا خيلا ولا إبلا؛ إلا النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ركب جملا وقيل حمارا مخطوما بليف، فافتتحها صلحا وأجلاهم وأخذ أموالهم. فسأل المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم أن يقسم لهم فنزلت: « وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه » الآية. فجعل أموال بني النضير للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة يضعها حيث شاء؛ فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين. قال الواقدي: ورواه ابن وهب عن مالك؛ ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر محتاجين؛ منهم أبو دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمة. وقيل: إنما أعطى رجلين، سهلا وأبا دجانة. ويقال: أعطى سعد بن معاذ سيف بن أبي الحقيق، وكان سيفا له ذكر عندهم. ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان: سفيان بن عمير، وسعد بن وهب؛ أسلما على أموالهما فأحرزاها.

وفي صحيح مسلم عن عمر قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، وكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان ينفق على أهله نفقة سنة، وما بقي يجعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله تعالى. وقال العباس لعمر - رضي الله عنهما - : اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن - يعني عليا رضي الله عنه - فيما أفاء الله على رسوله من أموال بني النضير. فقال عمر: أتعلمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا نورث ما تركناه صدقة ) قالا نعم. قال عمر: إن الله عز وجل كان خص رسوله صلى الله عليه وسلم بخاصة ولم يخصص بها أحدا غيره. قال: « ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول » ( ما أدري هل قرأ الآية التي قبلها أم لا ) فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينكم أموال بني النضير، فوالله ما استأثرها عليكم ولا أخذها دونكم حتى بقي هذا المال؛ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ منه نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي أسوة المال.. . الحديث بطوله، خرجه مسلم. وقيل: لما ترك بنو النضير ديارهم وأموالهم طلب المسلمون أن يكون لهم فيها حظ كالغنائم؛ فبين الله تعالى أنها فيء وكان جرى ثم بعض القتال؛ لأنهم حوصروا أياما وقاتلوا وقتلوا، ثم صالحوا على الجلاء. ولم يكن قتال على التحقيق؛ بل جرى مبادئ القتال وجرى الحصار، وخص الله تلك الأموال برسوله صلى الله عليه وسلم. وقال مجاهد: اعلمهم الله تعالى وذكرهم أنه إنما نصر رسول صلى الله عليه وسلم ونصرهم بغير كراع ولا عدة. « ولكن الله يسلط رسله على من يشاء » أي من أعدائه. وفي هذا بيان أن تلك الأموال كانت خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم دون أصحابه.

 

قوله تعالى: « ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى » قال ابن عباس: هي قريظة والنضير، وهما بالمدينة وفدك، وهي على ثلاثة أيام من المدينة وخيبر. وقرى عرينة وينبع جعلها الله لرسوله. وبين أن في ذلك المال الذي خصه بالرسول عليه السلام سهمانا لغير الرسول نظرا منه لعباده. وقد تكلم العلماء في هذه الآية والتي قبلها، هل معناهما واحد أو مختلف، والآية التي في الأنفال؛ فقال قوم من العلماء: إن قوله تعالى: « ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى » منسوخ بما في سورة الأنفال من كون الخمس لمن سمي له، والأخماس الأربعة لمن قاتل. وكان في أول الإسلام تقسم الغنيمة على هذه الأصناف ولا يكون لمن قاتل عليها شيء. وهذا قول يزيد بن رومان وقتادة وغيرهما. ونحوه عن مالك. وقال قوم: إنما غنم بصلح من غير إيجاف خيل ولا ركاب؛ فيكون لمن سمى الله تعالى فيه فيئا والأولى للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، إذا أخذ منه حاجته كان الباقي في مصالح المسلمين. وقال معمر: الأولى: للنبي صلى الله عليه وسلم. والثانية: هي الجزية والخراج للأصناف المذكورة فيه. والثالثة: الغنيمة في سورة الأنفال للغانمين. وقال قوم منهم الشافعي: إن معنى الآيتين واحد؛ أي ما حصل من أموال الكفار بغير قتال قسم على خمسة أسهم؛ أربعة منها للنبي صلى الله عليه وسلم. وكان الخمس الباقي على خمسة أسهم: سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا وسهم لذوي القربى - وهم بنو هاشم وبنو المطلب - لأنهم منعوا الصدقة فجعل لهم حق في الفيء. وسهم لليتامى. وسهم للمساكين. وسهم لابن السبيل. وأما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالذي كان من ألفيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف عند الشافعي في قول إلى المجاهدين المترصدين للقتال في الثغور؛ لأنهم القائمون مقام الرسول عليه الصلاة والسلام. وفي قول آخر له: يصرف إلى مصالح المسلمين من سد الثغور وحفر الأنهار وبناء القناطر؛ يقدم الأهم فالأهم، وهذا في أربعة أخماس الفيء. فأما السهم الذي كان له من خمس الفيء والغنيمة فهو لمصالح المسلمين بعد موته صلى الله عليه وسلم بلا خلاف؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: ( ليس لي من غنائمكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم ) . وقد مضى القول فيه في سورة « الأنفال » .

وكذلك ما خلفه من المال غير موروث، بل هو صدقة يصرف عنه إلى مصالح المسلمين؛ كما قال عليه السلام: ( إنا لا نورث ما تركناه صدقة ) . وقيل: كان مال الفيء لنبيه صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى: « ما أفاء الله رسوله » فأضافه إليه؛ غير أنه كان لا يتأثل مالا، إنما كان يأخذ بقدر حاجة عياله ويصرف الباقي في مصالح المسلمين. قال القاضي أبو بكر بن العربي: لا إشكال أنها ثلاثة معان في ثلاث آيات؛ أما الآية الأولى فهي قوله: « هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر » [ الحشر: 2 ] ثم قال تعالى: « وما أفاء الله على رسوله منهم » يعني من أهل الكتاب معطوفا عليهم. « فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب » يريد كما بينا؛ فلا حق لكم فيه، ولذلك قال عمر: إنها كانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني بني النضير وما كان مثلها. فهذه آية واحدة ومعنى متحد.

 

قوله تعالى: « ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول » وهذا كلام مبتدأ غير الأول لمستحق غير الأول. وسمى الآية الثالثة آية الغنيمة، ولا شك في أنه معنى آخر باستحقاق ثان لمستحق آخر، بيد أن الآية الأولى والثانية، اشتركتا في أن كل واحدة منهما تضمنت شيئا أفاءه الله على رسوله، واقتضت الآية الأولى أنه حاصل بغير قتال، واقتضت آية الأنفال أنه حاصل بقتال، وعريت الآية الثالثة وهي قوله تعالى: « ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى » عن ذكر حصوله بقتال أو بغير قتال؛ فنشأ الخلاف من ها هنا، فمن طائفة قالت: هي ملحقة بالأولى، وهو مال الصلح كله ونحوه. ومن طائفة قالت: هي ملحقة بالثانية وهي آية الأنفال. والذين قالوا أنها ملحقة بآية الأنفال اختلفوا؛ هل هي منسوخة - كما تقدم - أو محكمة؟ وإلحاقها بشهادة الله بالتي قبلها أولى؛ لأن فيه تجديد فائدة ومعنى. ومعلوم أن حمل الحرف من الآية فضلا عن الآية على فائدة متجددة أولى من حمله على فائدة معادة. وروى ابن وهب عن مالك في قوله تعالى: « فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب » بني النضير، لم يكن فيها خمس ولم يوجف عليها بخيل ولا ركاب. كانت صافية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقسمها بين المهاجرين وثلاثة من الأنصار؛ حسب ما تقدم. وقوله: « ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى » هي قريظة، وكانت قريظة والخندق في يوم واحد. قال ابن العربي: قول مالك إن الآية الثانية في بني قريظة، إشارة إلى أن معناها يعود إلى آية الأنفال، ويلحقها النسخ. وهذا أقوى من القول بالإحكام. ونحن لا نختار إلا ما قسمنا وبينا أن الآية الثانية لها معنى مجدد حسب ما دللنا عليه. والله اعلم.

قلت: ما اختاره حسن. وقد قيل إن سورة « الحشر » نزلت بعد الأنفال، فمن المحال أن ينسخ المتقدم المتأخر. وقال ابن أبي نجيح: المال ثلاثة: مغنم، أو فيء، أو صدقة، وليس منه درهم إلا وقد بين الله موضعه. وهذا أشبه.

 

الأموال التي للأئمة والولاة فيها مدخل ثلاثة أضرب: ما أخذ من المسلمين على طريق التطهير لهم؛ كالصدقات والزكوات. والثاني: الغنائم؛ وهو ما يحصل في أيدي المسلمين من أموال الكافرين بالحرب والقهر والغلبة. والثالث: الفيء، وهو ما رجع للمسلمين من أموال الكفار عفوا صفوا من غير قتال ولا إيجاف؛ كالصلح والجزية والخراج والعشور المأخوذة من تجار الكفار. ومثله أن يهرب المشركون ويتركوا أموالهم، أو يموت أحد منهم في دار الإسلام ولا وارث له. فأما الصدقة فمصرفها الفقراء والمساكين والعاملين عليها؛ حسب ما ذكره الله تعالى، وقد مضى في « براءة » . وأما الغنائم فكانت في صدر الإسلام للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع فيها ما شاء؛ كما قال في سورة « الأنفال » : « قل الأنفال لله والرسول » [ الأنفال: 1 ] ، ثم نسخ بقوله تعالى: « واعلموا أنما غنمتم من شيء » [ الأنفال: 41 ] الآية. وقد مضى في الأنفال بيانه. فأما الفيء فقسمته وقسمة الخمس سواء. والأمر عند مالك فيهما إلى الإمام، فإن رأى حبسهما لنوازل تنزل بالمسلمين فعل، وإن رأى قسمتهما أو قسمة أحدهما قسمه كله بين الناس، وسوى فيه بين عربيهم ومولاهم. ويبدأ بالفقراء من رجال ونساء حتى يغنوا، ويعطوا ذوو القربى من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفيء سهمهم على ما يراه الإمام، وليس له حد معلوم.

واختلف في إعطاء الغني منهم؛ فأكثر الناس على إعطائه لأنه حق لهم. وقال مالك: لا يعطي منه غير فقرائهم، لأنه جعل لهم عوضا من الصدقة. وقال الشافعي: أيما حصل من أموال الكفار من غير قتال كان يقسم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على خمسة وعشرين سهما: عشرون للنبي صلى الله عليه وسلم يفعل فيها ما يشاء. والخمس يقسم على ما يقسم عليه خمس الغنيمة. قال أبو جعفر أحمد بن الداودي: وهذا قول ما سبقه به أحد علمناه، بل كان ذلك خالصا له؛ كما ثبت في الصحيح عن عمر مبينا للآية. ولو كان هذا لكان قوله: « خالصة لك من دون المؤمنين » [ الأحزاب: 50 ] يدل على أنه يجوز الموهبة لغيره، وأن قوله: « خالصة يوم القيامة » [ الأعراف: 32 ] يجوز أن يشركهم فيها غيرهم. وقد مضى قول الشافعي مستوعبا في ذلك والحمد لله. ومذهب الشافعي رضي الله عنه: أن سبيل خمس الفيء سبيل خمس الغنيمة، وأن أربعه أخماسه كانت للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي بعده لمصالح المسلمين. وله قول آخر: أنها بعده للمرصدين أنفسهم للقتال بعده خاصة؛ كما تقدم.

 

قال علماؤنا: ويقسم كل مال في البلد الذي جبي فيه، ولا ينقل عن ذلك البلد الذي جبي فيه حتى يغنوا، ثم ينقل إلى الأقرب من غيرهم، إلا أن ينزل بغير البلد الذي جبي فيه فاقة شديدة، فينتقل ذلك إلى أهل الفاقة حيث كانوا، كما فعل عمر بن الخطات رضي الله عنه في أعوام الرمادة، وكانت خمسة أعوام أو ستة. وقد قيل عامين وقيل: عام فيه اشتد الطاعون مع الجوع. وإن لم يكن ما وصفنا ورأى الإمام إيقاف الفيء أوقفه لنوائب المسلمين، ويعطى منه المنفوس ويبدأ بمن أبوه فقير. والفيء حلال للأغنياء. ويسوى بين الناس فيه إلا أنه يؤثر أهل الحاجة والفاقة. والتفضيل فيه إنما يكون على قدر الحاجة. ويعطي منه الغرماء ما يؤدون به ديونهم. ويعطي منه الجائزة والصلة إن كان ذلك أهلا، ويرزق القضاء والحكام ومن فيه منفعة للمسلمين. وأولاهم بتوفر الحظ منهم أعظمهم للمسلمين نفعا. ومن أخذ من ألفيء شيئا في الديوان كان عليه أن يغزو إذا غزي.

 

قوله تعالى: « كي لا يكون دولة » قراءة العامة « يكون » بالياء. « دولة » بالنصب، أي كي لا يكون الفيء دولة وقرأ أبو جعفر والأعرج وهشام - عن ابن عامر - وأبو حيوة « تكون » بتاء « دولة » بالرفع، أي كي لا تقع دولة. فكانت تامة. و « دولة » رفع على اسم كان ولا خبر له. ويجوز أن تكون ناقصة وخبرها « بين الأغنياء منكم » . وإذا كانت تامة فقوله: « بين الأغنياء منكم » متعلق بـ « دولة » على معنى تداول بين الأغنياء منكم. ويجوز أن يكون « بين الأغنياء منكم » وصفا لـ « دولة » . وقراءة العامة « دولة » بضم الدال. وقرأها السلمي وأبو حيوة بالنصب. قال عيسى بن عمر ويونس والأصمعي: هما لغتان بمعنى واحد. وقال أبو عمرو بن العلاء: الدولة ( بالفتح ) الظفر في الجواب وغيره، وهي المصدر. وبالضم اسم الشيء الذي يتداول من الأموال. وكذا قال أبو عبيدة: الدولة اسم الشيء الذي يتداول. والدولة الفعل. ومعنى الآية: فعلنا ذلك في هذا الفيء، كي لا تقسمه الرؤساء والأغنياء والأقوياء بينهم دون الفقراء والضعفاء، لأن أهل الجاهلية كانوا إذا غنموا أخذ الرئيس ربعها لنفسه، وهو المرباع. ثم يصطفي منها أيضا بعد المرباع ما شاء؛ وفيها قال شاعرهم:

لك المرباع منها والصفايا

يقول: كي لا يعمل فيه كما كان يعمل في الجاهلية. فجعل الله هذا لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ يقسمه في المواضع التي أمر بها ليس فيها خمس، فإذا جاء خمس وقع بين المسلمين جميعا.

 

قوله تعالى: « وما آتاكم الرسول فخذوة وما نهاكم عه فانتهوا » أي ما أعطاكم من مال الغنيمة فخذوه، وما نهاكم عنه من الأخذ والغلول فانتهوا؛ قاله الحسن وغيره. السدي: ما أعطاكم من مال الفيء فأقبلوه، وما منعكم منه فلا تطلبوه. وقال ابن جريج: ما آتاكم من طاعتي فافعلوه، وما نهاكم عنه من معصيتي فاجتنبوه. الماوردي: وقيل إنه محمول على العموم في جميع أوامره ونواهيه؛ لا يأمر إلا بصلاح ولا ينهى إلا عن فساد. قلت: هذا هو معنى القول الذي قبله. فهي ثلاثة أقوال.

 

قال المهدوي: قوله تعالى: « وما آتاكم الرسول فخذوة وما نهاكم عنه فانتهوا » هذا يوجب أن كل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أمر من الله تعالى. والآية وإن كانت في الغنائم فجميع أوامره صلى الله عليه وسلم ونواهيه دخل فيها. وقال الحكم بن عمير - وكانت له صحبة - قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن هذا القرآن صعب مستصعب عسير على من تركه يسير على من اتبعه وطلبه. وحديثي صعب مستصعب وهو الحكم فمن استمسك بحديثي وحفظه نجا مع القرآن. ومن تهاون بالقرآن وحديثي خسر الدنيا والآخرة. وأمرتم أن تأخذوا بقولي وتكتنفوا أمري وتتبعوا سنتي فمن رضي بقولي فقد رضي بالقرآن ومن استهزأ بقولي فقد استهزأ بالقرآن قال الله تعالى: « وما آتاكم الرسول فخذوة وما نهاكم عنه فانتهوا » ) .

 

قال عبدالرحمن بن زيد: لقي ابن مسعود رجلا محرما وعليه ثيابه فقال له: انزع عنك هذا. فقال الرجل: أتقرأ علي بهذا آية من كتاب الله تعالى؟ قال: نعم، « وما آتاكم الرسول فخذوة وما نهاكم عنه فانتهوا » . وقال عبدالله بن محمد بن هارون الفريابي: سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول: سلوني عما شئتم أخبركم من كتاب الله تعالى وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم؛ قال فقلت له: ما تقول - أصلحك الله - في المحرم يقتل الزنبور؟ قال فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: « وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا » . وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبدالملك بن عمير عن ربعي بن حراش عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ) . حدثنا سفيان بن عيينة عن مسعر بن كدام عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه أمر بقتل الزنبور. قال علماؤنا: وهذا جواب في نهاية الحسن، أفتى بجواز قتل الزنبور في الإحرام، وبين أنه يقتدي فيه بعمر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاقتداء به، وأن الله سبحانه أمر بقبول ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم؛ فجواز قتله مستنبط من الكتاب والسنة. وقد مضى هذا المعنى من قول عكرمة حين سئل عن أمهات الأولاد فقال: هن أحرار في سورة « النساء » عند قوله تعالى: « أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم » [ النساء: 59 ] . وفي صحيح مسلم وغيره عن علقمة عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله ) فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب؛ فجاءت فقالت: بلغني أنك لعنت كيت وكيت! فقال: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله! فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول. فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه! أما قرأت « وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا » ! قالت: بلى. قال: فإنه قد نهى عنه.. الحديث. وقد مضى القول فيه في « النساء » مستوفى.

 

قوله تعالى: « وما آتاكم الرسول فخذوه » وإن جاء بلفظ الإيتاء وهو المناولة فإن معناه الأمر؛ بدليل قوله تعالى: « وما نهاكم عنه فانتهوا » فقابله بالنهي، ولا يقابل النهي إلا بالأمر؛ والدليل على فهم ذلك ما ذكرناه قبل مع قوله عليه الصلاة والسلام: ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ) . وقال الكلبي: إنها نزلت في رؤوساء المسلمين، قالوا فيما ظهر عليه رسول الله من أموال، المشركين: يا رسول الله، خذ صفيك والربع، ودعنا والباقي؛ فهكذا كنا نفعل في الجاهلية. وأنشدوه:

لك المرباع منها والصفايا وحكمك والنشيطة والفضول

فأنزل الله تعالى هذه الآية. « واتقوا الله » أي عذاب الله، إنه شديد لمن عصاه. وقيل: اتقوا الله في أوامره ونواهيه فلا تضيعوها. « إن الله شديد العقاب » لمن خالف ما أمره به.

 

الآية: 8 ( للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون )

 

أي الفيء والغنائم « للفقراء المهاجرين » . وقيل: « كي لا يكون دولة بين الأغنياء » ولكن يكون « للفقراء » . وقيل: هو بيان لقوله: « ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل » فلما ذكروا بأصنافهم قيل المال لهؤلاء، لأنهم فقراء ومهاجرون وقد أخرجوا من ديارهم؛ فهم أحق الناس به. وقيل: « ولكن الله يسلط رسله على من يشاء » للفقراء المهاجرين لكيلا يكون المال دولة للأغنياء من بني الدنيا. وقيل: والله شديد العقاب للمهاجرين؛ أي شديد العقاب للكفار بسبب الفقراء المهاجرين ومن أجلهم. ودخل في هؤلاء الفقراء المتقدم ذكرهم في قوله تعالى: « ولذي القربى واليتامى » . وقيل: هو عطف على ما مضى، ولم يأت بواو العطف كقولك: هذا المال لزيد لبكر لفلان لفلان. والمهاجرون هنا: من هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم حبا فيه ونصرة له. قال قتادة: هؤلاء المهاجرون الذين تركوا الديار والأموال والأهلين والأوطان حبا لله ولرسول، حتى إن الرجل منهم كان يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع، وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ماله دثار غيرها. وقال عبدالرحمن بن أبزى وسعيد بن جبير: كان ناس من المهاجرين لأحدهم العبد والزوجة والدار والناقة يحج عليها ويغزو فنسبهم الله إلى الفقر وجحل لهم سهما في الزكاة. ومعنى « أخرجوا من ديارهم » أي أخرجهم كفار مكة؛ أي أحوجوهم إلى الخروج؛ وكانوا مائة رجل. « يبتغون » يطلبون. « فضلا من الله » أي غنيمة في الدنيا « ورضوانا » في الآخرة؛ أي مرضاة ربهم. « وينصرون الله ورسوله » في الجهاد في سبيل الله. « أولئك هم الصادقون » في فعلهم ذلك. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب بالجابية فقال: من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أبي بن كعب، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني؛ فإن الله تعالى جعلني له خازنا وقاسما. ألا وإني باد بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فمعطيهن، ثم المهاجرين الأولين؛ أنا وأصحابي اخرجنا من مكة من ديارنا وأموالنا.

 

الآية: 9 ( والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون )

 

قوله تعالى: « والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم » لا خلاف أن الذين تبوؤوا الدار هم الأنصار الذين استوطنوا المدينة قبل المهاجرين إليها. « والإيمان » نصب بفعل غير تبوأ؛ لأن التبوء إنما يكون في الأماكن. و « من قبلهم » « من » صلة تبوأ والمعنى: والذين تبوؤوا الدار من قبل المهاجرين واعتقدوا الإيمان وأخلصوه؛ لأن الإيمان ليس بمكان يتبوأ؛ كقوله تعالى: « فأجمعوا أمركم وشركاءكم » [ يونس: 71 ] أي وادعوا شركاءكم؛ ذكره أبو علي والزمخشري وغيرهما. ويكون من باب قوله: علفتها تبنا وماء باردا. ويجوز حمله على حذف المضاف كأنه قال: تبوؤوا الدار ومواضع الإيمان. ويجوز حمله على ما دل عليه تبوأ؛ كأنه قال: لزموا الدار ولزموا الإيمان فلم يفارقوهما. ويجوز أن يكون تبوأ الإيمان عل طريق المثل؛ كما تقول: تبوأ من بني فلان الصميم. والتبوء: التمكن والاستقرار. وليس يريد أن الأنصار آمنوا قبل المهاجرين، بل أراد آمنوا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم.

 

واختلف أيضا هل هذه الآية مقطوعة مما قبلها أو معطوفة؛ فتأول قوم أنها معطوفة على قوله : « » للفقراء المهاجرين « وأن الآيات التي في الحشر كلها معطوفة بعضها على بعض. ولو تأملوا ذلك وأنصفوا لوجدوه على خلاف ما ذهبوا إليه؛ لأن الله تعالى يقول: » هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا « إلى قوله » الفاسقين « [ الحشر: 2 ] فأخبر عن بني النضير وبني قينقاع. ثم قال: » وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء « فأخبر أن ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يوجف عليه حين خلوه. وما تقدم فيهم من القتال وقطع شجرهم فقد كانوا رجعوا عنه وانقطع ذلك الأمر. ثم قال: » ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل « وهذا كلام غير معطوف على الأول. وكذا » والذين تبوؤوا الدار والإيمان « ابتداء كلام في مدح الأنصار والثناء عليهم؛ فإنهم سلموا ذلك الفيء للمهاجرين؛ وكأنه قال؛ الفيء للفقراء المهاجرين؛ والأنصار يحبون لهم لم يحسدوهم على ما صفا لهم من الفيء. وكذا » والذين جاؤوا من بعدهم « [ الحشر: 10 ] ابتداء كلام؛ والخبر » يقولون ربنا اغفر لنا « [ الحشر: 10 ] .»

وقال إسماعيل بن إسحاق: إن قوله « والذين تبوؤوا الدار » « والذين جاؤوا معطوف على ما قبل، وأنهم شركاء في الفيء؛ أي هذا المال للمهاجرين والذين تبوؤوا الدار. وقال مالك بن أوس: قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الآية » إنما الصدقات للفقراء « [ التوبة: 60 ] فقال: هذه لهؤلاء. ثم قرأ » واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه « فقال: هذه لهؤلاء. ثم قرأ » ما أفاء الله على رسوله - حتى بلغ - للفقراء المهاجرين « ، » والذين تبوؤوا الدار والإيمان « ، » والذين جاؤوا من بعدهم « ثم قال: لئن عشت ليأتين الراعي وهو بسرو حمير نصيبه منها لم يعرق فيها جبينه. وقيل: إنه دعا المهاجرين والأنصار واستشارهم فيما فتح الله عليه من ذلك، وقال لهم: تثبتوا الأمر وتدبروه ثم أغدوا علي. ففكر في ليلته فتبين له أن هذه الآيات في ذلك أنزلت. فلما غدوا عليه قال: قد مررت البارحة بالآيات التي في سورة » الحشر « وتلا » ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى - إلى قوله - للفقراء المهاجرين « فلما بلغ قوله: » أولئك هم الصادقون « [ الحجرات: 15 ] قال : ما هي لهؤلاء فقط. وتلا قوله: » والذين جاؤوا من بعدهم « إلى قوله » رؤوف رحيم « [ الحشر: 10 ] ثم قال: ما بقي أحد من أهل الإسلام إلا وقد دخل في ذلك. والله اعلم. »

 

روى مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر قال: لولا من يأتي من آخر الناس ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر. وفي الروايات المستفيضة من الطرق الكثيرة: أن عمر أبقى سواد العراق ومصر وما ظهر عليه من الغنائم؛ لتكون من أعطيات المقاتلة وأرزاق الحشوة والذراري، وأن الزبير وبلالا وغير واحد من الصحابة أرادوه على قسم ما فتح عليهم؛ فكره ذلك منهم واختلف فيما فعل من ذلك؛ فقيل: إنه استطاب أنفس أهل الجيش؛ فمن رضي له بترك حظه بغير ثمن ليبقيه للمسلمين قلة. ومن أبى أعطاه ثمن حظه. فمن قال: إنما أبقى الأرض بعد استطابة أنفس القوم جعل فعله كفعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قسم خيبر، لأن اشتراءه إياها وترك من ترك عن طيب نفسه بمنزلة قسمها. وقيل: إنه أبقاها بغير شيء أعطاه أهل الجيوش. وقيل إنه تأول في ذلك قول الله سبحانه وتعالى: « للفقراء المهاجرين - إلى قوله - ربنا إنك رؤوف رحيم » على ما تقدم. والله اعلم.

 

واختلف العلماء في قسمة العقار؛ فقال مالك: للإمام أن يوقفها لمصالح المسلمين. وقال أبو حنيفة: الإمام مخير بين أن يقسمها أو يجعلها وقفا لمصالح المسلمين. وقال الشافعي: ليس للإمام حبسها عنهم بغير رضاهم، بل يقسمها عليهم كسائر الأموال. فمن طاب نفسا عن حقه للإمام أن يجعله وقفا عليهم فله. ومن لم تطب نفسه فهو أحق بمال. وعمر رضي الله عنه استطاب نفوس الغانمين واشتراها منهم.

قلت: وعلى هذا يكون قوله: « والذين جاؤوا من بعدهم » [ الحشر: 10 ] مقطوعا مما قبله، وانهم ندبوا بالدعاء للأولين والثناء عليهم.

 

قال ابن وهب: سمعت مالكا يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق فقال: إن المدينة تبوئت بالإيمان والهجرة، وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف؛ ثم قرأ « والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم » الآية. وقد مضى الكلام في هذا، وفي فضل الصلاة في المسجدين: المسجد الحرام ومسجد المدينة؛ فلا معنى للإعادة.

 

قوله تعالى: « ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا » يعني لا يحسدون المهاجرين على ما خصوا به من مال الفيء وغيره؛ كذلك قال الناس. وفيه تقدير حذف مضافين؛ المعنى مس حاجة من فقد ما أوتوا. وكل ما يجد الإنسان في صدره مما يحتاج إلى إزالته فهو حاجة. وكان المهاجرون في دور الأنصار، فلما غنم عليه الصلاة والسلام أموال بني النضير، دعا الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين في إنزالهم إياهم في منازلهم، وإشراكهم في أموالهم. ثم قال: ( إن أحببتم قسمت ما أفاء الله علي من بني النضير بينكم وبينهم، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم ) . فقال سعد بن عبادة وسعد بن معاذ: بل نقسمه بين المهاجرين، ويكونون في دورنا كما كانوا. ونادت الأنصار: رضينا وسلمنا يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار ) . وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين ولم يعط الأنصار شيئا إلا الثلاثة الذين ذكرناهم. ويحتمل أن يريد به « ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا » إذا كان قليلا بل يقنعون به ويرضون عنه. وقد كانوا على هذه الحالة حين حياة النبي صلى الله عليه وسلم دنيا، ثم كانوا عليه بعد موته صلى الله عليه وسلم بحكم الدنيا. وقد أنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ( سترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض ) .

 

قوله تعالى: « ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة » في الترمذي عن أبي هريرة: أن رجلا بات به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه؛ فقال لامرأته: نومي الصبية وأطفئي السراج وقربي للضيف ما عندك؛ فنزلت هذه الآية « ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة » قال: هذا حديث حسن صحيح. خرجه مسلم أيضا. وخرج عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهود. فأرسل إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء. ثم أرسل إلى الأخرى فقالت مثل ذلك؛ حتى قلن كلهن مئل ذلك: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء. فقال: من يضيف هذا الليلة رحمه الله؟ فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله. فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا، إلا قوت صبياني. قال: فعلليهم بشيء فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل؛ فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه. قال: فقعدوا وأكل الضيف. فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( قد عجب الله - عز وجل - من صنيعكما بضيفكما الليلة ) . وفي رواية عن أبي هريرة فال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضيفه فلم يكن عنده ما يضيفه. فقال: ( ألا رجل يضيف هذا رحمه الله ) ؟ فقام رجل من الأنصار يقال له أبو طلحة. فانطلق به إلى رحله...؛ وساق الحديث بنحو الذي قبله، وذكر فيه نزول الآية. وذكر المهدوي عن أبي هريرة أن هذا نزل في ثابت بن قيس ورجل من الأنصار - نزل به ثابت - يقال له أبو المتوكل، فلم يكن عند أبي المتوكل إلا قوته وقوت صبيانه؛ فقال لامرأته: أطفئي السراج ونومي الصبية؛ وقدم ما كان عنده إلى ضيفه.

وكذا ذكر النحاس قال: قال أبو هريرة: نزل برجل من الأنصار - يقال له أبو المتوكل - ثابت بن قيس ضيفا، ولم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه؛ فقال لامرأته: أطفئي السراج ونومي الصبية؛ فنزلت « ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة - إلى قوله - فأولئك هم المفلحون » . وقيل: إن فاعل ذلك أبو طلحة. وذكر القشيري أبو نصر عبدالرحيم بن عبدالكريم: وقال ابن عمر: أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال: إن أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا منا؛ فبعثه إليهم، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها سبعة أبيات، حتى رجعت إلى أولئك؛ فنزلت « ويؤثرون على أنفسهم » . ذكره الثعلبي عن أنس قال: أهدي لرجل من الصحابة رأس شاة وكان مجهودا فوجه به إلى جار له، فتداولته سبعة أنفس في سبعة أبيات، ثم عاد إلى الأول؛ فنزلت: « ويؤثرون على أنفسهم » الآية. وقال ابن عباس قال النبي للأنصار يوم بني النضير: ( إن شئتم قسمت للمهاجرين من دياركم وأموالكم وشاركتموهم في هذه الغنيمة وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم نقسم لكم من الغنيمة شيئا ) فقالت الأنصار: بل نقسم لإخواننا من ديارنا وأموالنا ونؤثرهم بالغنيمة؛ فنزلت « ويؤثرون على أنفسهم » الآية. والأول أصح. وفي الصحيحين عن أنس: أن الرجل كان يجعل للنبي صلى الله عليه وسلم النخلات من أرضه حتى فتحت عليه قريظة والنضير، فجعل بعد ذلك يرد عليه ما كان أعطاه. لفظ مسلم. وقال الزهري عن أنس بن مالك: لما قدم المهاجرون من مكة المدينة قدموا وليس بأيديهم شيء، وكان الأنصار أهل الأرض والعقار، فقاسمهم الأنصار على أن أعطوهم أنصاف ثمار أموالهم كل عام ويكفونهم العمل والمؤونة؛ وكانت أم أنس بن مالك تدعي أم سليم، وكانت أم عبدالله بن أبي طلحة، كان أخا لأنس لأمه؛ وكانت أعطت أم أنس رسول الله صلى الله عليه وسلم عذاقا لها؛ فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مولاته، ثم أسامة بن زيد. قال ابن شهاب: فأخبرني أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من قتال أهل خيبر وانصرف إلى المدينة، رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارهم. قال: فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمي عذاقها، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مكانهن من حائطه. خرجه مسلم أيضا.

 

الإيثار: هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية، ورغبة في الحظوظ الدينية. وذلك ينشأ عن قوة اليقين، وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة. يقال: آثرته بكذا؛ أي خصصته به وفضلته. ومفعول الإيثار محذوف؛ أي يؤثرونهم على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم، لا عن غنى بل مع احتياجهم إليها؛ حسب ما تقدم ببانه. وفي موطأ مالك: « أنه بلغه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أن مسكينا سألها وهي صائمة وليس في بيتها إلا رغيف؛ فقالت لمولاة لها: أعطيه إياه؛ فقالت: ليس لك ما تفطرين عليه؟ فقالت: أعطيه إياه. قالت: ففعلت. قالت: فلما أمسينا أهدى لنا أهل بيت أو إنسان ما كان يهدي لنا: شاة وكفنها. فدعتني عائشة فقالت: كلي من هذا، فهذا خير من قرصك. قال علماؤنا: هذا من المال الرابح، والفعل الزاكي عند الله تعالى يعجل منه ما يشاء، ولا ينقص ذلك مما يدخره عنه. ومن ترك شيئا لله لم يجد فقده. وعائشة رضي الله عنها في فعلها هذا من الذين أثنى الله عليهم بأنهم يؤثرون على أنفسهم مع ما هم فيه من الخصاصة، وأن من فعل ذلك فقد وقى شح نفسه وأفلح فلاحا لا خسارة بعده. ومعنى ( شاة وكفنها ) فإن العرب - أو بعض العرب أو بعض وجوههم - كان هذا من طعامهم، يأتون إلى الشاة أو الخروف إذا سلخوه غطوه كله بعجين البر وكفنوه به ثم علقوه في التنور، فلا يخرج من ودكه شيء إلا في ذلك الكفن؛ وذلك من طيب الطعام عندهم.»

وروى النسائي عن نافع أن ابن عمر اشتكى واشتهى عنبا، فاشترى له عنقود بدرهم، فجاء مسكين فسأل؛ فقال: اعطوه إياه؛ فخالف إنسان فاشتراه بدرهم، ثم جاء به إلى ابن عمر، فجاء المسكين فسأل؛ فقال: أعطوه إياه؛ ثم خالف إنسان فاشتراه بدرهم، ثم جاء به إليه؛ فأراد السائل أن يرجع فمنع. ولو علم ابن عمر أنه ذلك العنقود ما ذاقه؛ لأن ما خرج لله لا يعود فيه. وذكر ابن المبارك قال: أخبرنا محمد بن مطرف قال: حدثنا أبو حازم عن عبدالرحمن بن سعيد بن يربوع عن مالك الدار: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ أربعمائة دينار، فجعلها في صرة ثم قال للغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح، ثم تلكأ ساعة في البيت حتى تنظر ماذا يصنع بها. فذهب بها الغلام إليه فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك؛ فقال: وصله الله ورحمه، ثم قال: تعالي يا جارية، اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان؛ حتى أنفذها. فرجع الغلام إلى عمر، فأخبره فوجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل؛ وقال: اذهب بهذا إلى معاذ بن جبل؛ وتلكأ في البيت ساعة حتى تنظر ماذا يصنع، فذهب بها إليه فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: رحمه الله ووصله، وقال: يا جارية، اذهبي إلى بيت فلان بكذا وبيت فلان بكذا، فاطلعت امرأة معاذ فقالت: ونحن! والله مساكين فأعطنا. ولم يبق في الخرقة إلا ديناران قد جاء بهما إليها. فرجع الغلام إلى عمر فأخبره فسر بذلك عمر وقال: إنهم إخوة! بعضهم من بعض.

ونحوه عن عائشة رضي الله عنها في إعطاء معاوية إياها، وكان عشرة آلاف وكان المنكدر دخل عليها. فإن قيل: وردت أخبار صحيحة في النهي عن التصدق بجميع ما يملكه المرء، قيل له: إنما كره ذلك في حق من لا يوثق منه الصبر على الفقر، وخاف أن يتعرض للمسألة إذا فقد ما ينفقه. فأما الأنصار الذين أثنى الله عليهم بالإيثار على أنفسهم، فلم يكونوا بهذه الصفة، بل كانوا كما قال الله تعالى: « والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس » [ البقرة: 177 ] . وكان الإيثار فيهم أفضل من الإمساك. والإمساك لن لا يصبر ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار. وروي أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمثل البيضة من الذهب فقال: هذه صدقة، فرماه بها وقال: ( يأتي أحدكم بجميع ما يملكه فيتصدق به ثم يقعد يتكفف الناس ) . والله اعلم.

 

والإيثار بالنفس فوق الإيثار بالمال وإن عاد إلى النفس. ومن الأمثال السائرة:

والجود بالنفس أقصى غاية الجود

ومن عبارات الصوفية الرشيقة في حد المحبة: أنها الإيثار، ألا ترى أن امرأة العزيز لما تناهت في حبها ليوسف عليه السلام، آثرته على نفسها فقالت: أنا راودته عن نفسه. وأفضل الجود بالنفس الجوة على حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيح أن أبا طلحة ترس على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع ليرى القوم. فيقول له أبو طلحة: لا تشرف يا رسول الله! لا يصيبونك! نحري دون نحرك ووقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت. وقال حذيفة العدوي: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي - ومعي شيء من الماء - وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته، فإذا أنا به، فقلت له: أسقيك، فأشار برأسه أن نعم، فإذا أنا برجل يقول: آه! آه! فأشار إلي ابن عمي أن انطلق إليه، فاذا هو هشام بن العاص فقلت: أسقيك؟ فأشار أن نعم. فسمع آخر يقول: آه! آه! فأشار هشام أن انطلق إليه فجئته فإذا هو قد مات. فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات. فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات. وقال أبو يزيد البسطامي: ما غلبني أحد ما غلبني شاب من أهل بلخ! قدم علينا حاجا فقال لي: يا أبا يزيد، ما حد الزهد عندكم؟ فقلت: إن وجدنا أكلنا. وإن فقدنا صبرنا. فقال: هكذا كلاب بلخ عندنا. فقلت: وما حد الزهد عندكم؟ قال: إن فقدنا شكرنا، وإن وجدنا آثرنا. وسئل ذو النون المصري: ما حد الزاهد المنشرح صدره؟ قال ثلاث: تفريق المجموع، وترك طلب المفقود، والإيثار عند القوت.

وحكي عن أبي الحسن الأنطاكي: أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلا بقرية من قرى الري، ومعهم أرغفة معدودة لا تشبع جميعهم، فكسروا الرغفان وأطفؤوا السراج وجلسوا للطعام؛ فلما رفع فإذا الطعام بحاله لم يأكل منه أحد شيئا؛ إيثارا لصاحبه على نفسه. العاشرة: قوله تعالى: « ولو كان بهم خصاصة » الخصاصة: الحاجة التي مختل بها الحال. وأصلها من الاختصاص وهو انفراد بالأمر. فالخصاصة الانفراد بالحاجة؛ أي ولو كان بهم فاقة وحاجة. ومنه قول الشاعر.

أما الربيع إذا تكون خصاصة عاش السقيم به وأثرى المقتر

 

قوله تعالى: « ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون » الشح والبخل سواء؛ يقال: رجل شحيح بين الشح والشح والشحاحة. قال عمرو بن كلثوم:

ترى اللحز الشحيح إذا مرت عليه لماله فيها مهينا

وجعل بعض أهل اللغة الشح أشد من البخل. وفي الصحاح: الشح البخل مع حرص؛ تقول: شححت ( بالكسر ) تشح. وشححت أيضا تشح وتشح. ورجل شحيح، وقوم شحاح وأشحة. والمراد بالآية: الشح بالزكاة وما ليس بفرض من صلة ذوي الأرحام والضيافة، وما شاكل ذلك. فليس بشحيح ولا بخيل من أنفق في ذلك وإن أمسك عن نفسه. ومن وسع على نفسه ولم ينفق فيما ذكرناه من الزكوات والطاعات فلم يوق شح نفسه. وروى الأسود عن ابن مسعود أن رجلا أتاه فقال له: إني أخاف أن أكون قد هلكت؟ قال: وما ذاك؟ قال: سمعت الله عز وجل يقول: « ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون » وأنا رجل شحيح لا أكاد أن أخرج من يدي شيئا. فقال ابن مسعود: ليس ذلك بالشح الذي ذكره الله تعالى في القرآن، إنما الشح الذي ذكره الله تعالى في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلما، ولكن ذلك البخل، وبئس الشيء البخل. ففرق رضي الله عنه بين الشح والبخل. وقال طاوس: البخل أن يبخل الإنسان بما في يده، والشح أن يشح بما في أيدي الناس، يحب أن يكون له ما في أيديهم بالحل والحرام، لا يقنع. ابن جبير: الشح منع الزكاة وادخار الحرام. ابن عيينة: الشح الظلم. الليث: ترك الفرائض وانتهاك المحارم. ابن عباس: من اتبع هواه ولم يقبل الإيمان فذلك الشحيح. ابن زيد: من لم يأخذ شيئا لشيء نهاه الله عنه، ولم يدعه الشح على أن يمنع شيئا من شيء أمره الله به، فقد وقاه الله شح نفسه. وقال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( بريء من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأعطى في النائبة ) . وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو ( اللهم إني أعوذ بك من شح نفسي وإسرافها ووساوسها ) . وقال أبو الهياج الأسدي: رأيت رجلا في الطواف يدعو: اللهم قني شح نفسي. لا يزيد على ذلك شيئا، فقلت له؟ فقال: إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن ولم أفعل. فاذا الرجل عبدالرحمن بن عوف.

قلت: يدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: ( اتقوا الظلم فان الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم ) . وقد بيناه في آخر « آل عمران » . وقال كسرى لأصحابه: أي شيء أضر بابن آدم؟ قالوا: الفقر. فقال كسرى: الشح أضر من الفقر؛ لأن الفقير إذا وجد شبع، والشحيح إذا وجد لم يشبع أبدا.

 

الآية: 10 ( والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم )

 

قوله تعالى: « والذين جاؤوا من بعدهم » يعني التابعين ومن دخل في الإسلام إلى يوم القيامة. قال ابن أبي ليلى: الناس على ثلاثة منازل: المهاجرون، والذين تبوؤوا الدار والإيمان، والذين جاؤوا من بعدهم. فاجهد ألا تخرج من هذه المنازل. وقال بعضهم: كن شمسا، فإن لم تستطع فكن قمرا، فإن لم تستطع فكن كوكبا مضيئا، فإن لم تستطع فكن كوكبا صغيرا، ومن جهة النور لا تنقطع. ومعنى هذا: كن مهاجريا. فإن قلت: لا أجد، فكن أنصاريا. فإن لم تجد فاعمل كأعمالهم، فإن لم تستطع فأحبهم واستغفر لهم كما أمرك الله. وروى مصعب بن سعد قال: الناس على ثلاثة منازل، فمضت منزلتان وبقيت منزلة؛ فأحسن ما أنتم عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت. وعن جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جده علي بن الحسين رضي الله عنه، أنه جاءه رجل فقال له: يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما تقول في عثمان؟ فقال له: يا أخي أنت من قوم قال الله فيهم: « للفقراء المهاجرين » الآية. قال لا قال: فوالله لئن لم تكن من أهل الآية فأنت من قوم قال الله فيهم: « والذين تبوؤوا الدار والإيمان » الآية. قال لا قال: فوالله لئن لم تكن من أهل الآية الثالثة لتخرجن من الإسلام وهي قوله تعالى: « والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان » الآية. وقد قيل: إن محمد بن علي بن الحسين، رضي الله عنهم، روى عن أبيه: أن نفرا من أهل العراق جاؤوا إليه، فسبوا أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - ثم عثمان - رضي الله عنه - فأكثروا؛ فقال لهم: أمن المهاجرين الأولين أنتم؟ قالوا لا. فقال: أفمن الذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم؟ فقالوا لا. فقال: قد تبرأتم من هذين الفريقين! أنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله عز وجل: « والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم » قوموا، فعل الله بكم وفعل ذكره النحاس.

 

هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة؛ لأنه جعل لمن بعدهم حظا في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم، وأن من سبهم أو واحدا منهم أو اعتقد فيه شرا إنه لا حق له في ألفيء؛ روي ذلك عن مالك وغيره. قال مالك: من كان يبغض أحدا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أو كان في قلبه عليهم غل، فليس له حق في فيء المسلمين؛ ثم قرأ « والذين جاؤوا من بعدهم » الآية.

 

هذه الآية تدل على أن الصحيح من أقوال العلماء قسمة المنقول، وإبقاء العقار والأرض شملا بين المسلمين أجمعين؛ كما فعل عمر رضي الله عنه؛ إلا أن يجتهد الوالي فينفذ أمرا فيمضى عمله فيه لاختلاف الناس عليه وأن هذه الآية قاضية بذلك؛ لأن الله تعالى أخبر عن الفيء وجعله لثلاث طوائف: المهاجرين والأنصار - وهم معلمون - « والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان » . فهي عامة في جميع التابعين والآتين بعدهم إلى يوم الدين. وفي الحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال: ( السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون وددت أن رأيت إخواننا ) قالوا: يا رسول الله، ألسنا بإخوانك؟ فقال: ( بل أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد وأنا فرطهم على الحوض ) . فبين صلى الله عليه وسلم أن إخوانهم كل من يأتي بعدهم؛ لا كما قال السدي والكلبي: إنهم الذين هاجروا بعد ذلك. وعن الحسن أيضا « والذين جاؤوا من بعدهم » من قصد إلى النبي إلى المدينة بعد انقطاع الهجرة.

 

قوله تعالى: « يقولون » نصب في موضع الحال؛ أي قائلين. « ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان » فيه وجهان: أحدهما: أمروا أن يستغفروا لمن سبق هذه الأمة من مؤمني أهل الكتاب. قالت عائشة رضي الله عنها: فأمروا أن يستغفروا لهم فسبوهم. الثاني: أمروا أن يستغفروا للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. قال ابن عباس: أمر الله تعالى بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهو يعلم أنهم سيفتنون. وقالت عائشة: أمرتم بالاستغفار لأصحاب محمد فسببتموهم، سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها ) وقال ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا رأيتم الذين يسبون أصحابي فقولوا لعن الله أشركم ) . وقال العوام بن حوشب: أدركت صدر هذه الأمة يقولون: اذكروا محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تألف عليهم القلوب، ولا تذكروا ما شجر بينهم فتجسروا الناس عليهم. وقال الشعبي: تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة، سئلت اليهود: من خير أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحاب موسى. وسئلت النصارى: من خير أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحاب عيسى. وسئلت الرافضة من شر أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحاب محمد، أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم، فالسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة، لا تقوم لهم راية، ولا تثبت لهم قدم، ولا تجتمع لهم كلمة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله بسفك دمائهم وإدحاض حجتهم. أعاذنا الله وإياكم من الأهواء المضلة. « ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم » أي حقدا وحسدا « ربنا إنك رؤوف رحيم » .

 

الآية: 11 ( ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون )

 

قوله تعالى: « ألم تر إلى الذين نافقوا » تعجب من اغترار اليهود بما وعدهم المنافقون من النصر مع علمهم بأنهم لا يعتقدون دينا ولا كتابا. ومن جملة المنافقين عبدالله بن أبي بن سلول، وعبدالله بن نبتل، ورفاعة بن زيد. وقيل: رافعة بن تابوت، وأوس بن قيظي، كانوا من الأنصار ولكنهم نافقوا، وقالوا ليهود قريظة والنضير. « لئن أخرجتم لنخرجن معكم » وقيل: هو من قول بني النضير لقريظة. « ولا نطيع فيكم أحدا أبدا » يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم؛ لا نطيعه في قتالكم. وفي هذا دليل على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من جهة علم الغيب؛ لأنهم أخرجوا فلم يخرجوا، وقوتلوا فلم ينصروهم؛ كما قال الله تعالى: « والله يشهد إنهم لكاذبون » أي في قولهم وفعلهم.

 

الآية: 12 ( لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون )

 

قوله تعالى: « لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار » أي منهزمين. « ثم لا ينصرون » قيل: معنى « لا ينصرونهم » طائعين. « ولئن نصروهم » مكرهين « ليولن الأدبار » . وقيل: معنى « لا ينصرونهم » لا يدومون عل نصرهم. هذا على أن الضميرين متفقان. وقيل: إنهما مختلفان؛ والمعنى لئن أخرج اليهود لا يخرج معهم المنافقون، ولئن قوتلوا لا ينصرونهم. « ولئن نصروهم » أي ولئن نصر اليهود المنافقين « ليولن الأدبار » . وقيل: « لئن أخرجوا لا يخرجون معهم » أي علم الله منهم أنهم لا يخرجون إن أخرجوا. « ولئن قوتلوا لا ينصرونهم » أي علم الله منهم ذلك. ثم قال: « ليولن الأدبار » فأخبر عما قد أخبر أنه لا يكون كيف كان يكون لو كان؟ وهو كقوله تعالى: « ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه » [ الأنعام: 28 ] . وقيل: معنى « ولئن نصروهم » أي ولئن شئنا أن ينصروهم زينا ذلك لهم. « ليولن الأدبار » .

 

الآية: 13 ( لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون )

 

قوله تعالى: « لأنتم » يا معشر المسلمين « أشد رهبة » أي خوفا وخشية « في صدورهم من الله » يعني صدور بني النضير. وقيل: في صدور المنافقين. ويحتمل أن يرجع إلى الفريقين؛ أي يخافون منكم أكثر مما يخافون من ربهم ذلك الخوف. « ذلك بأنهم قوم لا يفقهون » أي لا يفقهون قدر عظمة الله وقدرته.

 

الآية: 14 ( لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون )

 

قوله تعالى: « لا يقاتلونكم جميعا » يعني اليهود « إلا في قرى محصنة » أي بالحيطان والدور؛ يظنون أنها تمنعهم منكم. « أو من وراء جدر » أي من خلف حيطان يستترون بها لجبنهم ورهبتهم. وقراءة العامة « جدر » على الجمع، وهو اختيار أبي عبيدة وأبي حاتم؛ لأنها نظير قوله تعالى: « في قرى محصنة » وذلك جمع. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو « جدار » على التوحيد؛ لأن التوحيد يؤدي عن الجمع. وروي عن بعض المكيين « جدر » ( بفتح الجيم وإسكان الدال ) ؛ وهي لغة في الجدار. ويجوز أن يكون معناه من وراء نخيلهم وشجرهم؛ يقال: أجدر النخل إذا طلعت رؤوسه في أول الربيع. والجدر: نبت واحدته جدرة. وقرئ « جدر » ( بضم الجيم وإسكان الدال ) جمع الجدار. ويجوز أن تكون الألف في الواحد كألف كتاب، وفي الجمع كألف ظراف. ومثله ناقة هجان ونوق هجان؛ لأنك تقول في التثنية: هجانان؛ فصار لفظ الواحد والجمع مشتبهين في اللفظ مختلفين في المعنى؛ قاله ابن جني.

 

قوله تعالى: « بأسهم بينهم شديد » يعني عداوة بعضهم لبعض. وقال مجاهد: « بأسهم بينهم شديد » أي بالكلام والوعيد لنفعلن كذا. وقال السدي: المراد اختلاف قلوبهم حتى لا يتفقوا على أمر واحد. وقيل: « بأسهم بينهم شديد » أي إذا لم يلقوا عدوا نسبوا أنفسهم إلى الشدة والبأس، ولكن إذا لقوا العدو انهزموا. « تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى » يعني اليهود والمنافقين؛ قال مجاهد. وعنه أيضا يعني المنافقين. الثوري: هم المشركون وأهل الكتاب. وقال قتادة: « تحسبهم جميعا » أي مجتمعين على أمر ورأي. « وقلوبهم شتى » متفرقة. فأهل الباطل مختلفة آراؤهم، مختلفة شهادتهم، مختلفة أهواؤهم وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق. وعن مجاهد أيضا: أراد أن دين المنافقين مخالف لدين اليهود؛ وهذا ليقوي أنفس المؤمنين عليهم. وقال الشاعر :

إلى الله أشكو نية شقت العصا هي اليوم شتى وهي أمس جمع

وفي قراءة ابن مسعود « وقلوبهم أشت » يعني أشد تشتيتا؛ أي أشد اختلافا. « ذلك بأنهم قوم لا يعقلون » أي ذلك التشتيت والكفر بأنهم لا عقل لهم يعقلون به أمر الله.

 

الآية: 15 ( كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم )

 

قال ابن عباس: يعني به قينقاع؛ أمكن الله منهم قبل بني النضير. وقال قتادة: يعني بني النضير؛ أمكن الله منهم قبل قريظة. مجاهد: يعني كفار قريش يوم بدر. وقيل: هو عام في كل من انتقم منه على كفره قبل بني الضير من نوح إلى محمد صلى الله عليه وسلم. ومعنى « وبال » جزاء كفرهم. ومن قال: هم بنو قريظة، جعل « وبال أمرهم » نزولهم على حكم سعد بن معاذ؛ فحكم فيهم بقتل المقاتل وسبي الذرية. وهو قول الضحاك. ومن قال المراد بنو النضير قال: « وبال أمرهم » الجلاء والنفي. وكان بين النضير وقريظة سنتان. وكانت وقعة بدر قبل غزوة بني النضير بستة أشهر، فلذلك قال: « قريبا » وقد قال قوم: غزوة بني النضير بعد وقعة أحد. « ولهم عذاب أليم » في الآخرة.

الآية [ 16 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات: 16 - 17 ( كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين، فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين )

 

قوله تعالى: « كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر » هذا ضرب مثل للمنافقين واليهود في تخاذلهم وعدم الوفاء في نصرتهم. وحذف حرف العطف، ولم يقل: وكمثل الشيطان؛ لأن حذف حرف العطف كثير كما تقول: أنت عاقل أنت كريم أنت عالم. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الإنسان الذي قال له الشيطان اكفر، راهب تركت عنده امرأة أصابها لمم ليدعو لها، فزين له الشيطان فوطئها فحملت، ثم قتلها خوفا أن يفتضح، فدل الشيطان قومها على موضعها، فجاؤوا فاستنزلوا الراهب ليقتلوه، فجاء الشيطان فوعده أنه إن سجد له أنجاه منهم، فسجد له فتبرأ منه فأسلمه. ذكره القاضي إسماعيل وعلي بن المديني عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عروة بن عامر عن عبيد بن رفاعة الزرقي عن النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر خبره مطولا ابن عباس ووهب بن منبه. ولفظهما مختلف.

قال ابن عباس في قوله تعالى: « كمثل الشيطان » : كان راهب في الفترة يقال له: برصيصا؛ قد تعبد في صومعته سبعين سنة، لم يعص الله فيها طرفة عين، حتى أعيا إبليس، فجمع إبليس مردة الشياطين فقال: ألا أجد منكم من يكفيني أمر برصيصا؟ فقال الأبيض، وهو صاحب الأنبياء، وهو الذي قصد النبي صلى الله عليه وسلم في صورة جبريل ليوسوس إليه على وجه الوحي، فجاء جبريل فدخل بينهما، ثم دفعه بيده حتى وقع بأقصى الهند فذلك قوله تعالى: « ذي قوة عند ذي العرش مكين » [ التكوير: 20 ] فقال: أنا أكفيكه؛ فانطلق فتزيا بزي الرهبان، وحلق وسط رأسه حتى أتى صومعة برصيصا فناداه فلم يجبه؛ وكان لا ينفتل من صلاته إلا في كل عشرة أيام يوما، ولا يفطر إلا في كل عشره أيام؛ وكان يواصل العشرة الأيام والعشرين والأكثر؛ فلما رأى الأبيض أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعته؛ فلما انفتل برصيصا من صلاته، رأى الأبيض قائما يصلي في هيئة حسنة من هيئة الرهبان؛ فندم حين لم يجبه، فقال: ما حاجتك؟ فقال: أن أكون معك، فأتأدب بأدبك، وأقتبس من عملك، ونجتمع على العبادة؛ فقال: إني في شغل عنك؛ ثم أقبل على صلاته؛ وأقبل الأبيض أيضا على الصلاة؛ فلما رأى برصيصا شدة اجتهاده وعبادته قال له: ما حاجتك؟ فقال: أن تأذن لي فارتفع إليك. فأذن له فأقام الأبيض معه حولا لا يفطر إلا في كل أربعن يوما يوما واحدا، ولا ينفتل من صلاته إلا في كل أربعين يوما، وربما مد إلى الثمانين؛ فلما رأى برصيصا اجتهاده تقاصرت إليه نفسه. ثم قال الأبيض: عندي دعوات يشفي الله بها السقيم والمبتلي والمجنون؛ فعلمه إياها. ثم جاء إلى إبليس فقال: قد والله أهلكت الرجل. ثم تعرض لرجل فخنقه، ثم قال لأهله - وقد تصور في صورة الآدميين - : إن بصاحبكم جنونا أفأطبه؟ قالوا نعم. فقال: لا أقوى على جنيته، ولكن اذهبوا به إلى برصيصا، فإن عنده اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى،واذا دعي به أجاب؛ فجاؤوه فدعا بتلك الدعوات، فذهب عنه الشيطان.

ثم جعل الأبيض يفعل بالناس ذلك ويرشدهم إلى برصيصا فيعافون. فانطلق إلى جارية من بنات الملوك بين ثلاثة إخوة، وكان أبوهم ملكا فمات واستخلف أخاه، وكان عمها ملكا في بني إسرائيل فعذبها وخنقها. ثم جاء إليهم في صورة رجل متطبب ليعالجها فقال: إن شيطانها مارد لا يطاق، ولكن اذهبوا بها إلى برصيصا فدعوها عنده، فإذا جاء شيطانها دعا لها فبرئت؛ فقالوا: لا يجيبنا إلى هذا؛ قال: فابنوا صومعة في جانب صومعته ثم ضعوها فيها، وقولوا: هي أمانة عندك فاحتسب فيها. فسألوه ذلك فأبى فبنوا صومعة ووضعوا فيها الجارية؛ فلما انفتل من صلاته عاين الجارية وما بها من الجمال فأسقط في يده، فجاءها الشيطان فخنقها فانفتل من صلاته ودعا لها فذهب عنها الشيطان، ثم أقبل على صلاته فجاءها الشيطان فخنقها. وكان يكشف عنها ويتعرض بها لبرصيصا، ثم جاءه الشيطان فقال: ويحك! واقعها، فما تجد مثلها ثم تتوب بعد ذلك. فلم يزل به حتى واقعها فحملت وظهر حملها. فقال له الشيطان: ويحك! قد افتضحت. فهل لك أن تقتلها ثم تتوب فلا تفتضح، فإن جاؤوك وسألوك فقل جاءها شيطانها فذهب بها. فقتلها برصيصا ودفنها ليلا؛ فأخذ الشيطان طرف ثوبها حتى بقي خارجا من التراب؛ ورجع برصيصا إلى صلاته. ثم جاء الشيطان إلى إخوتها في المنام فقال: إن برصيصا فعل بأختكم كذا وكذا، وقتلها ودفنها في جبل كذا وكذا؛ فاستعظموا ذلك وقالوا لبرصيصا: ما فعلت أختنا؟ فقال: ذهب بها شيطانها؛ فصدقوه وانصرفوا.

ثم جاءهم الشيطان في المنام وقال: إنها مدفونة في موضع كذا وكذا، وإن طرف ردائها خارج من التراب؛ فانطلقوا فوجدوها، فهدموا صومعته وأنزلوه وخنقوه، وحملوه إلى الملك فأقر على نفسه فأمر بقتله. فلما صلب قال الشيطان: أتعرفني؟ قال لا والله قال: أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات، أما اتقيت الله أما استحيت وأنت أعبد بني إسرائيل ثم لم يكفك صنيعك حتى فضحت نفسك، وأقررت عليها وفضحت أشباهك من الناس فان مت على هذه الحالة لم يفلح أحد من نظرائك بعدك. فقال: كيف أصنع؟ قال: تطيعني في خصلة واحدة وأنجيك منهم وآخذ بأعينهم. قال: وما ذاك؟ قال تسجد لي سجدة واحدة؛ فقال: أنا أفعل؛ فسجد له من دون الله. فقال: يا برصيصا، هذا أردت منك؛ كان عاقبة أمرك أن كفرت بربك، إني بريء منك، إني أخاف الله رب العالمين.

 

وقال وهب بن منبه: إن عابدا كان في بني إسرائيل، وكان من أعبد أهل زمانه، وكان في زمانه ثلاثة إخوة لهم أخت، وكانت بكرا، ليست لهم أخت غيرها، فخرج البعث على ثلاثتهم، فلم يدروا عند من يخلفون أختهم، ولا عند من يأمنون عليها، ولا عند من يضعونها. قال فاجتمع رأيهم على أن يخلفوها عند عابد بني إسرائيل، وكان ثقة في أنفسهم، فأتوه فسألوه أن يخلفوها عنده، فتكون في كنفه وجواره إلى أن يقفلوا من غزاتهم، فأبى ذلك عليهم وتعوذ بالله منهم ومن أختهم. قال فلم يزالوا به حتى أطمعهم فقال: أنزلوها في بيت حذاء صومعتي، فأنزلوها في ذلك البيت ثم انطلقوا وتركوها، فمكثت في جوار ذلك العابد زمانا، ينزل إليها الطعام من صومعته، فيضعه عند باب الصومعة، ثم يغلق بابه ويصعد في صومعته، ثم يأمرها فتخرج من بيتها فتأخذ ما وضع لها من الطعام. قال: فتلطف له الشيطان فلم يزل يرغبه في الخير، ويعظم عليه خروج الجارية من بيتها نهارا، ويخوفه أن يراها أحد فيعلقها. قال: فلبث بذلك زمانا، ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير والأجر، وقال له: لو كنت تمشي إليها بطعامها حتى تضعه في بيتها كان أعظم لأجرك؛ قال: فلم يزل به حتى مشى إليها بطعامها فوضعه في بيتها، قال: فلبثت بذلك زمانا ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير وحضه عليه، وقال: لو كنت تكلمها وتحدثها فتأنس بحديثك، فإنها قد استوحشت وحشة شديدة. قال: فلم يزل به حتى حدثها زمانا يطلع عليها من فوق صومعته. قال: ثم أتاه إبليس بعد ذلك فقال: لوكنت تنزل إليها فتقعد على باب صومعتك وتحدثها وتقعد على باب بيتها فتحدثك كان أنس لها. فلم يزل به حتى أنزله وأجلسه على باب صومعته يحدثها، وتخرج الجارية من بيتها، فلبثا زمانا يتحدثان، ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير والثواب فيما يصنع بها، وقال: لو خرجت من باب صومعتك فجلست قريبا من باب بيتها كان آنس لها. فلم يزل به حتى فعل. قال: فلبثا زمانا، ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير وفيما له من حسن الثواب فيما يصنع بها، وقال له: لو دنوت من باب بيتها فحدثتها ولم تخرج من بيتها، ففعل. فكان ينزل من صومعته فيقعد على باب بيتها فيحدثها. فلبثا بذلك حينا ثم جاءه إبليس فقال: لو دخلت البيت معها تحدثها ولم تتركها تبرز وجهها لأحد كان أحسن بك. فلم يزل به حتى دخل البيت، فجعل يحدثها نهاره كله، فإذا أمسى صعد في صومعته. قال: ثم أتاه إبليس بعد ذلك، فلم يزل يزينها له حتى ضرب العابد على فخذها وقبلها. فلم يزل به إبليس يحسنها في عينه ويسول له حتى وقع عليها فأحبلها، فولدت له غلاما، فجاءه إبليس فقال له: أرأيت أن جاء إخوة هذه الجارية وقد ولدت منك! كيف تصنع! لا آمن عليك أن تفتضح أو يفضحوك! فاعمد إلى ابنها فاذبحه وادفنه، فإنها ستكتم عليك مخافة إخوتها أن يطلعوا على ما صنعت بها، ففعل. فقال له: أتراها تكتم إخوتها ما صنعت بها وقتلت ابنها! خذها فاذبحها وادفنها مع ابنها. فلم يزل به حتى ذبحها وألقاها في الحفيرة مع ابنها، وأطبق عليها صخرة عظيمة، وسوى عليها التراب، وصعد في صومعته يتعبد فيها؛ فمكث بذلك ما شاء الله أن يمكث؛ حتى قفل إخوتها من الغزو، فجاؤوه فسألوه عنها فنعاها لهم وترحم عليها، وبكى لهم وقال: كانت خير أمة، وهذا قبرها فانظروا إليه.

فأتى إخوتها القبر فبكوا على قبرها وترحموا عليها، وأقاموا على قبرها أياما ثم انصرفوا إلى أهاليهم. فلما جن عليهم الليل وأخذوا مضاجعهم، أتاهم الشيطان في صورة رجل مسافر، فبدأ بأكبرهم فسأله عن أختهم؛ فأخبره بقول العابد وموتها وترحمه عليها، وكيف أراهم موضع قبرها؛ فكذبه الشيطان وقال: لم يصدقكم أمر أختكم، إنه قد أحبل أختكم وولدت منه غلاما فذبحه وذبحها معه فزعا منكم، وألقاها في حفيرة احتفرها خلف الباب الذي كانت فيه عن يمين من دخله. فانطلقوا فادخلوا البيت الذي كانت فيه عن يمين من دخله فإنكم ستجدونهما هنالك جميعا كما أخبرتكم. قال: وأتى الأوسط في منامه وقال له مثل ذلك. ثم أتى أصغرهم فقال له مثل ذلك. فلما استيقظ القوم استيقظوا متعجبين لما رأى كل واحد منهم. فأقبل بعضهم على بعض، يقول كل واحد منهم: لقد رأيت عجبا، فأخبر بعضهم بعضا بما رأى. قال أكبرهم: هذا حلم ليس بشيء، فامضوا بنا ودعوا هذا. قال أصغرهم: لا أمضى حتى أتي ذلك المكان فأنظر فيه. قال: فانطلقوا جميعا حتى دخلوا البيت الذي كانت فيه أختهم، ففتحوا الباب وبحثوا الموضع الذي وصف لهم في منامهم، فوجدوا أختهم وابنها مذبوحين في الحفيرة كما قيل لهم، فسألوا العابد فصدق قول إبليس فيما صنع بهما. فاستعدوا عليه ملكهم، فأنزل من صومعته فقدموه ليصلب، فلما أوقفوه على الخشبة أتاه الشيطان فقال له: قد علمت أني صاحبك الذي فتنتك في المرأة حتى أحبلتها وذبحتها وذبحت ابنها، فإن أنت أطعتني اليوم وكفرت بالله الذي خلقك خلصتك مما أنت فيه. قال: فكفر العابد بالله؛ فلما كفر خلى الشيطان بينه وبين أصحابه فصلبوه.

قال: ففيه نزلت هذه الآية: « كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين - إلى قوله - جزاء الظالمين. قال ابن عباس: فضرب الله هذا مثلا للمنافقين مع اليهود. وذلك أن الله تعالى أمر نبيه عليه السلام أن يجلي بني النضير من المدينة، فدس إليهم المنافقون ألا تخرجوا من دياركم، فإن قاتلوكم كنا معكم، وإن أخرجوكم كنا معكم، فحاربوا النبي صلى الله عليه وسلم فخذلهم المنافقون، وتبرؤوا منهم كما تبرأ الشيطان من برصيصا العابد. فكان الرهبان بعد ذلك لا يمشون إلا بالتقية والكتمان. وطمع أهل الفسوق والفجور في الأحبار فرموهم بالبهتان والقبيح، حتى كان أم جريج الراهب، وبرأه الله فانبسطت بعده الرهبان وظهروا للناس. وقيل: المعنى مثل المنافقين في غدرهم لبني النضير كمثل إبليس إذ قال لكفار قريش: » لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم « [ الأنفال: 48 ] الآية. وقال مجاهد المراد بالإنسان ها هنا جميع الناس في غرور الشيطان إياهم. ومعنى قوله تعالى: » إذ قال للإنسان اكفر « أي أغواه حتى قال: إني كافر. وليس قول الشيطان: » إني أخاف الله رب العالمين « حقيقة، إنما هو على وجه التبرؤ من الإنسان، فهو تأكيد لقوله تعالى: » إني بريء منك « وفتح الياء من » إني « نافع وابن كثير وأبو عمرو. وأسكن الباقون. » فكان عاقبتهما « أي عاقبة الشيطان وذلك الإنسان » أنهما في النار خالدين فيها « نصب على الحال. والتثنية ظاهرة فيمن جعل الآية مخصوصة في الراهب والشيطان. ومن جعلها في الجنس فالمعنى: وكان عاقبة الفريقين أو الصنفين. ونصب » عاقبتهما « على أنه خبر كان. والاسم » أنهما في النار « وقرأ الحسن » فكان عاقبتهما « بالرفع على الضد من ذلك. وقرأ الأعمش » خالدان فيها « بالرفع وذلك خلاف المرسوم. ورفعه على أنه خبر » أن « والظرف ملغى.»

 

الآية: 18 ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون )

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله » في أوامره ونواهيه، وأداء فرائضه واجتناب معاصيه. « ولتنظر نفس ما قدمت لغد » يعني يوم القيامة. والعرب تكني عن المستقبل بالغد. وقيل: ذكر الغد تنبيها على أن الساعة قريبة؛ كما قال الشاعر:

وإن غدا للناظرين قريب

وقال الحسن وقتادة: قرب الساعة حتى جعلها كغد. ولا شك أن كل آت قريب؛ والموت لا محالة آت. ومعنى « ما قدمت » يعني من خير أو شر. « واتقوا الله » أعاد هذا تكريرا، كقولك: اعجل اعجل، ارم ارم. وقيل التقوى الأولى التوبة فيما مضى من الذنوب، والثانية اتقاء المعاصي في المستقبل. « إن الله خبير بما تعملون » قال سعيد بن جبير: أي بما يكون منكم. والله اعلم.

 

الآية: 19 ( ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون )

 

قوله تعالى: « ولا تكونوا كالذين نسوا الله » أي تركوا أمره « فأنساهم أنفسهم » أن يعلموا لها خيرا؛ قال ابن حبان. وقيل: نسوا حق الله فأنساهم حق أنفسهم؛ قال سفيان. وقيل: « نسوا الله » بترك شكره وتعظيمه. « فأنساهم أنفسهم » بالعذاب أن يذكر بعضهم بعضا؛ حكاه ابن عيسى. وقال سهل بن عبدالله: « نسوا الله » عند الذنوب « فأنساهم انفسهم » عند التوبة. ونسب تعالى الفعل إلى نفسه في « أنساهم » إذ كان ذلك بسبب أمره ونهيه الذي تركوه. وقيل: معناه وجدهم تاركين أمره ونهيه؛ كقولك: أحمدت الرجل إذا وجدته محمودا. وقيل: « نسوا الله » في الرخاء « فأنساهم أنفسهم » في الشدائد. « أولئك هم الفاسقون » قال ابن جبير: العاصون. وقال ابن زيد: الكاذبون. وأصل الفسق الخروج؛ أي الذين خرجوا عن طاعة الله.

 

الآية: 20 ( لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون )

 

قوله تعالى: « لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة » أي في الفضل والرتبة « أصحاب الجنة هم الفائزون » أي المقربون المكرمون. وقيل: الناجون من النار. وقد مضى الكلام في معنى هذه الآية في « المائدة » عند قوله تعالى: « قل لا يستوي الخبيث والطيب » [ المائدة: 100 ] وفي سورة « السجدة » عند قوله تعالى: « أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون » [ السجدة: 18 ] . وفي سورة « ص » « أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار » [ ص: 28 ] فلا معنى للإعادة، والحمد لله.

 

الآية: 21 ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون )

 

قوله تعالى: « لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا » حث على تأمل مواعظ القرآن وبين أنه لا عذر في ترك التدبر؛ فإنه لو خوطب بهذا القرآن الجبال مع تركيب العقل فيها لانقادت لمواعظه، ولرأيتها على صلابتها ورزانتها خاشعة متصدعة؛ أي متشققة من خشية الله. والخاشع: الذليل. والمتصدع: المتشقق. وقيل: « خاشعا » لله بما كلفه من طاعته. « من خشية الله » أن يعصيه فيعاقبه. وقيل: هو على وجه المثل للكفار. « وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون » أي أنه لو أنزل هذا القرآن على جبل لخشع لوعده وتصدع لوعيده وأنتم أيها المقهورون بإعجازه لا ترغبون في وعده، ولا ترهبون من وعيده وقيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي لو أنزلنا هذا القرآن يا محمد على جبل لما ثبت، وتصدع من نزوله عليه؛ وقد أنزلناه عليك وثبتناك له؛ فيكون ذلك امتنانا عليه أن ثبته لما لا تثبت له الجبال. وقيل: إنه خطاب للأمة، وأن الله تعالى لو أنذر بهذا القرآن الجبال لتصدعت من خشية الله. والإنسان أقل قوة وأكثر ثباتا؛ فهو يقوم بحقه إن أطاع، ويقدر على رده إن عصى؛ لأنه موعود بالثواب، ومزجور بالعقاب.

 

الآية: 22 ( هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم )

 

قوله تعالى: « هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة » قال ابن عباس: عالم السر والعلانية. وقيل: ما كان وما يكون. وقال سهل. عالم بالآخرة والدنيا. وقيل: « الغيب » ما لم يعلم العباد ولا عاينوه. « والشهادة » ما علموا وشاهدوا. « هو الرحمن الرحيم » .

 

الآية: 23 ( هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون )

 

قوله تعالى: « هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس » أي المنزه عن كل نقص، والطاهر عن كل عيب. والقدس ( بالتحريك ) : السطل بلغة أهل الحجاز؛ لأنه يتطهر به. ومنه القادوس لواحد الأواني التي يستخرج بها الماء من البئر بالسانية. وكان سيبويه يقول: قدوس وسبوح؛ بفتح أولهما. وحكى أبو حاتم عن يعقوب أنه سمع عند الكسائي أعرابيا فصيحا يكني أبا الدينار يقرأ « القدوس » بفتح القاف. قال ثعلب: كل اسم على فعول فهو مفتوح الأول؛ مثل سفود وكلوب وتنور وسمور وشبوط، إلا السبوح والقدوس فان الضم فيهما أكثر؛ وقد يفتحان. وكذلك الذروج ( بالضم ) وقد يفتح. « السلام » أي ذو السلامة من النقائص. وقال ابن العربي: اتفق العلماء رحمة الله عليهم على أن معنى قولنا في الله « السلام » : النسبة، تقديره ذو السلامة. ثم اختلفوا في ترجمة النسبة على ثلاثة أقوال: الأول: معناه الذي سلم من كل عيب وبريء من كل نقصى. الثاني: معناه ذو السلام؛ أي المسلم على عباده في الجنة؛ كما قال: « سلام قولا من رب رحيم » [ يس: 58 ] . الثالث: أن معناه الذي سلم الخلق من ظلمه.

قلت: وهذا قول الخطابي؛ وعليه والذي قبله يكون صفة فعل. وعلى أنه البريء من العيوب والنقائص يكون صفة ذات. وقيل: السلام معناه المسلم لعباده.

 

قوله تعالى: « المؤمن » أي المصدق لرسله بإظهار معجزاته عليهم ومصدق المؤمنين ما وعدهم به من الثواب ومصدق الكافرين ما أوعدهم من العقاب. وقيل: المؤمن الذي يؤمن أولياءه من عذابه ويؤمن عباده من ظلمه؛ يقال: آمنه من الأمان الذي هو ضد الخوف؛ كما قال تعالى: « وآمنهم من خوف » [ قريش: 4 ] فهو مؤمن؛ قال النابغة:

والمؤمن العائذات الطير يمسحها ركبان مكة بين الغيل والسند

وقال مجاهد: المؤمن الذي وحد نفسه بقول: « شهد الله أنه لا إله إلا هو » [ آل عمران: 18 ] . وقال ابن عباس: إذا كان يوم القيامة أخرج أهل التوحيد من النار. وأول من يخرج من وافق اسمه اسم نبي، حتى إذا لم يبق فيها من يوافق اسمه اسم نبي قال الله تعالى لباقيهم: أنتم المسلمون وأنا السلام، وأنتم المؤمنون وأنا المؤمن، فيخرجهم من النار ببركة هذين الاسمين. « المهيمن العزيز » وقال قتادة: المهيمن معناه المشاهد. وقيل: الحافظ. وقال الحسن: المصدق؛ « الجبار » قال ابن عباس: هو العظيم. وجبروت الله عظمته. وهو على هذا القول صفة ذات، من قولهم: نخلة جبارة. قال امرؤ القيس:

سوامق جبار أثيث فروعه وعالين قنوانا من البسر أحمرا

يعني النخلة التي فاتت اليد. فكان هذا الاسم يدل على عظمة الله وتقديسه عن أن تناله النقائص وصفات الحدث. وقيل: هو من الجبر وهو الإصلاح، يقال: جبرت العظم فجبر، إذا أصلحته بعد الكسر، فهو فعال من جبر إذا أصلح الكسير وأغنى الفقير. وقال الفراء: هو من أجبره على الأمر أي قهره. قال: ولم أسمع فعالا من أفعل إلا في جبار ودراك من أدرك. وقيل : الجبار الذي لا تطاق سطوته. « المتكبر » الذي تكبر بربوبيته فلا شيء مثله. وقيل: المتكبر عن كل سوء المتعظم عما لا يليق به من صفات الحدث والذم. وأصل الكبر والكبرياء الامتناع وقلة الانقياد. وقال حميد بن ثور:

عفت مئل ما يعفو الفصيل فأصبحت بها كبرياء الصعب وهي ذلول

والكبرياء في صفات الله مدح، وفي صفات المخلوقين ذم. وفي الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: ( الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني في واحد منهما قصمته ثم قذفته في النار ) . وقيل: المتكبر معناه العالي. وقيل: معناه الكبير لأنه أجل من أن يتكلف كبرا. وقد يقال: تظلم بمعنى ظلم، وتشتم بمعنى شتم، واستقر بمعنى قر. كذلك المتكبر بمعنى الكبير. وليس كما يوصف به المخلوق إذا وصف بتفعل إذا نسب إلى ما لم يكن منه. ثم نزه نفسه فقال: « سبحان الله » أي تنزيها لجلالته وعظمته « عما يشركون » .

 

الآية: 24 ( هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم )

 

قوله تعالى: « هو الله الخالق البارئ المصور » « الخالق » هنا المقدر. و « البارئ » المنشئ المخترع. و « المصور » مصور الصور ومركبها على هيئات مختلفه. فالتصوير مرتب على الخلق والبراية وتابع لهما. ومعنى التصوير التخطيط والتشكيل. وخلق الله الإنسان في أرحام الأمهات ثلاث خلق: جحله علقة، ثم مضغة، ثم جعله صورة وهو التشكيل الذي يكون به صورة وهيئة يعرف بها ويتميز عن غيره بسمتها. فتبارك الله أحسن الخالقين. وقال النابغة:

الخالق البارئ المصور في الـ ـأرحام ماء حتى يصير دما

وقد جعل بعض الناس الخلق بمعنى التصوير، وليس كذلك، وإنما التصوير آخرا والتقدير أولا والبراية بينهما. ومنه قول الحق: « وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير » [ المائدة: 110 ] . وقال زهير:

ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ـض القوم يخلق ثم لا يفري

يقول: تقدم ما تقدر ثم تفريه، أي تمضيه على وفق تقديرك، وغيرك يقدر ما لا يتم له ولا يقع فيه مراده، إما لقصوره في تصور تقديره أو لعجزه عن تمام مراده. وقد أتينا على هذا كله في « الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى » والحمد لله. وعن حاطب بن أبي بلتعة أنه قرأ « البارئ المصور » بفتح الواو ونصب الراء، أي الذي يبرأ المصور، أي يميز ما يصوره بتفاوت الهيئات. ذكره الزمخشري. « له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم » تقدم الكلام فيه. وعن أبي هريرة قال: سألت خليلي أبا القاسم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اسم الله الأعظم فقال: ( يا أبا هريرة، عليك بآخر سورة الحشر فأكثر قراءتها ) فأعدت عليه فأعاد علي، فأعدت عليه فأعاد علي. وقال جابر بن زيد: إن اسم الله الأعظم هو الله لمكان هذه الآية. وعن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من قرأ سورة الحشر غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ) . وعن أبي أمامة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من قرأ خواتيم سورة الحشر في ليل أو نهار فقبضه الله في تلك الليلة أو ذلك اليوم فقد أوجب الله له الجنة ) .

 

سورة الممتحنة

مقدمة السورة

 

الممتحنة ( بكسر الحاء ) أي المختبرة، أضيف الفعل إليها مجازا، كما سميت سورة « التوبة » المبعثرة والفاضحة؛ لما كشفت من عيوب المنافقين. ومن قال في هذه السورة: الممتحنة ( بفتح الحاء ) فإنه أضافها إلى المرأة التي نزلت فيها، وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، قال الله تعالى: « فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن » [ الممتحنة: 10 ] الآية. وهي امرأة عبدالرحمن بن عوف، ولدت له إبراهيم بن عبدالرحمن.

 

الآية: 1 ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل )

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء » عدَّى اتخذ إلى مفعولين وهما « عدوكم أولياء » . والعدو فعول من عدا، كعفو من عفا. ولكونه على زنة المصدر أوقع على الجماعة إيقاعه على الواحد.

روى الأئمة - واللفظ لمسلم - عن علي رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: ( ائتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها ) فانطلقنا تعادى بنا خيلنا، فإذا نحن بالمرأة، فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي كتاب. فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها. فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا حاطب ما هذا؟ قال لا تعجل علي يا رسول الله، إني كنت أمرأ ملصقا في قريش قال سفيان: كان حليفا لهم، ولم يكن من أنفسها وكان ممن كان معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن اتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي، ولم أفعله كفرا ولا ارتدادا عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( صدق ) . فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق. فقال: ( إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) فأنزل الله عز وجل: « يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء » . قيل: اسم المرأة سارة من موالي قريش. وكان في الكتاب: « أما بعد، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل، وأقسم بالله لو لم يسر إليكم إلا وحده لأظفره الله بكم، وأنجز له موعده فيكم، فإن الله وليه وناصره. ذكره بعض المفسرين.»

وذكر القشيري والثعلبي: أن حاطب بن أبي بلتعة كان رجلا من أهل اليمن، وكان له حلف بمكة في بني أسد بن عبدالعزى رهط الزبير بن العوام. وقيل: كان حليفا للزبير بن العوام، فقدمت من مكة سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هشام بن عبد مناف إلى المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز لفتح مكة. وقيل: كان هذا في زمن الحديبية؛ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أمهاجرة جئت يا سارة ) . فقالت لا. قال: ( أمسلمة جئت ) قالت لا. قال: ( فما جاء بك ) قالت: كنتم الأهل والموالي والأصل والعشيرة، وقد ذهب الموالي - تعني قتلوا يوم بدر - وقد احتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني؛ فقال عليه الصلاة والسلام: ( فأين أنت عن شباب أهل مكة ) وكانت مغنية، قالت: ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر. فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبدالمطلب وبني المطلب على إعطائها؛ فكسوها وأعطوها وحملوها فخرجت إلى مكة، وأتاها حاطب فقال: أعطيك عشرة دنانير وبردا على أن تبلغي هذا الكتاب إلى أهل مكة. وكتب في الكتاب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم. فخرجت سارة، ونزل جبريل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فبعث عليا والزبير وأبا مرثد الغنوي. وفي رواية: عليا والزبير والمقداد. وفي رواية: أرسل عليا وعمار بن ياسر. وفي رواية: عليا وعمارا وعمر والزبير وطلحة والمقداد وأبا مرثد - وكانوا كلهم فرسانا - وقال لهم: ( انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة ومعها كتاب من حاطب إلى المشركين فخذوه منها وخلوا سبيلها فان لم تدفعه لكم فأضربوا عنقها ) فأدركوها في ذلك المكان، فقالوا لها: أين الكتاب؟ فحلفت ما معها كتاب، ففتشوا أمتعتها فلم يجدوا معها كتابا، فهموا بالرجوع فقال علي: والله ما كذبنا ولا كذبنا! وسل سيفه وقال: أخرجي الكتاب وإلا والله لأجردنك ولأضربن عنقك، فلما رأت الجد أخرجته من ذؤابتها - وفي رواية من حجزتها - فخلوا سبيلها ورجحوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأرسل إلى حاطب فقال: ( هل تعرف الكتاب؟ ) قال نعم. وذكر الحديث بنحو ما تقدم. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمن جميع الناس يوم الفتح إلا أربعة هي أحدهم.

 

السورة أصل في النهي عن مولاة الكفار. وقد مضى ذلك في غير موضع. من ذلك قوله تعالى: « لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين » [ آل عمران: 28 ] . « يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم » [ آل عمران: 118 ] . « يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء » [ المائدة: 51 ] . ومثله كثير. وذكر أن حاطبا لما سمع « يا أيها الذين آمنوا » غشي عليه من الفرح بخطاب الإيمان.

 

قوله تعالى: « تلقون إليهم بالمودة » يعني بالظاهر؛ لأن قلب حاطب كان سليما؛ بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: ( أما صاحبكم فقد صدق ) وهذا نص في سلامة فؤاده وخلوص اعتقاده. والباء في « بالمودة » زائدة؛ كما تقول: قرأت السورة وقرأت بالسورة، ورميت إليه ما في نفسي وبما في نفسي. ويجوز أن تكون ثابتة على أن مفعول « تلقون » محذوف؛ معناه تلقون إليهم أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب المودة التي بينكم وبينهم. وكذلك « تسرون إليهم بالمودة » أي بسبب المودة. وقال الفراء: « تلقون إليهم بالمودة » من صلة « أولياء » ودخول الباء في المودة وخروجها سواء. ويجوز أن تتعلق بـ « لا تتخذوا » حالا من ضميره. و « أولياء » صفة له، ويجوز أن تكون استئنافا. ومعنى « تلقون إليهم بالمودة » تخبرونهم بسرائر المسلمين وتنصحون لهم؛ وقاله الزجاج. الرابعة: من كثر تطلعه على عورات المسلمين وينبه عليهم ويعرف عدوهم بأخبارهم لم يكن بذلك كافرا إذا كان فعله لغرض دنيوي واعتقاده على ذلك سليم؛ كما فعل حاطب حين قصد بذلك اتخاذ اليد ولم ينو الردة عن الدين.

 

إذا قلنا لا يكون بذلك كافرا فهل يقتل بذلك حدا أم لا؟ اختلف الناس فيه؛ فقال مالك وابن القاسم وأشهب: يجتهد في ذلك الإمام. وقال عبدالملك: إذا كانت عادته تلك قتل، لأنه جاسوس، وقد قال مالك بقتل الجاسوس - وهو صحيح لإضراره بالمسلمين وسعيه بالفساد في الأرض. ولعل ابن الماجشون إنما اتخذ التكرار في هذا لأن حاطبا أخذ في أول فعله.

 

فإن كان الجاسوس كافرا فقال الأوزاعي: يكون نقضا لعهده. وقال أصبغ: الجاسوس الحربي يقتل، والجاسوس المسلم والذمي يعاقبان إلا إن تظاهرا على الإسلام فيقتلان. وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بعين للمشركين اسمه فرات بن حيان، فأمر به أن يقتل؛ فصاح: يا معشر الأنصار، أقتل وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله! فأم به النبي صلى الله عليه وسلم فخلى سبيله. ثم قال: ( إن منكم من أكله إلى إيمانه منهم فرات بن حيان ) . وقوله: « وقد كفروا » حال، إما من « لا تتخذوا » وإما من « تلقون » أي لا تتولوهم أو توادوهم، وهذه حالهم. وقرأ الجحدري « لما جاءكم » أي كفروا لأجل ما جاءكم من الحق.

 

قوله تعالى: « يخرجون الرسول » استئناف كلام كالتفسير لكفرهم وعتوهم، أو حال من « كفروا » . « وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم » تعليل لـ « يخرجون » المعنى يخرجون الرسول ويخرجونكم من مكة لأن تؤمنوا بالله أي لأجل إيمانكم بالله. قال ابن عباس: وكان حاطب ممن أخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي. وقيل: في الكلام حذف، والمعنى إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي، فلا تلقوا إليهم بالمودة. وقيل: « إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي » شرط وجوابه مقدم. والمعنى إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء. ونصب « جهادا » و « ابتغاء » لأنه مفعول. وقوله: تسرون إليهم بالمودة « بدل من » تلقون « ومبيب عنه. والأفعال تبدل من الأفعال، كما قال تعالى: » ومن يفعل ذلك يلق أثاما. يضاعف له العذاب « [ الفرقان: 68 ] . وأنشد سيبويه:»

متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا تجد حطبا جزلا ونارا تأججا

وقيل: هو على تقدير أنتم تسرون إليهم بالمودة، فيكون استئنافا. وهذا كله معاتبة لحاطب. وهو يدل على فضله وكرامته ونصيحته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق إيمانه، فإن المعاتبة لا تكون إلا من محب لحبيبه. كما قال:

أعاتب ذا المودة من صديق إذا ما رابني منه اجتناب

إذا ذهب العتاب فليس ود ويبقى الود ما بقي العتاب

ومعنى « بالمودة » أي بالنصيحة في الكتاب إليهم. والباء زائدة كما ذكرنا، أو ثابتة غير زائدة.

 

قوله تعالى: « وأنا أعلم بما أخفيتم » أضمرتم « وما أعلنتم » أظهرتم. والباء في « بما » زائدة؛ يقال: علمت كذا وعلمت بكذا. وقيل: وأنا اعلم من كل أحد بما تخفون وما تعلنون، فحذف من كل أحد. كما يقال: فلان اعلم وأفضل من غيره. وقال ابن عباس: وأنا اعلم بما أخفيتم في صدوركم، وما أظهرتم بألسنتكم من الإقرار والتوحيد. « ومن يفعله منكم » أي من يسر إليهم ويكاتبهم منكم « فقد ضل سواء السبيل » أي أخطأ قصد الطريق.

 

الآية: 2 ( إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون )

 

قوله تعالى: « إن يثقفوكم » يلقوكم ويصادفوكم؛ ومنه المثاقفة؛ أي طلب مصادفة الغرة في المسايفة وشبهها. وقيل: « يثقفوكم » يظفروا بكم ويتمكنوا منكم « يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء » أي أيديهم بالضرب والقتل، وألسنتهم بالشتم. « وودوا لو تكفرون » بمحمد؛ فلا تناصحوهم فإنهم لا يناصحونكم.

 

الآية: 3 ( لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير )

 

قوله تعالى: « لن تنفعكم أرحامكم » لما اعتذر حاطب بأن له أولادا وأرحاما فيما بينهم، بين الرب عز وجل أن الأهل والأولاد لا ينفعون شيئا يوم القيامة إن عصي من أجل ذلك. « يفصل بينكم » فيدخل المؤمنين الجنة ويدخل الكافرين النار. وفي « يفصل » قراءات سبع: قرأ عاصم « يفصل » بفتح الياء وكسر الصاد مخففا. وقرأ حمزة والكسائي مشددا إلا أنه على ما لم يسم فاعله. وقرأ طلحة والنخعي بالنون وكسر الصاد مشددة. وروي عن علقمة كذلك بالنون مخففة. وقرأ قتادة وأبو حيوة « يفصل » بضم الياء وكسر الصاد مخففة من أفصل. وقرأ الباقون « يفصل » بياء مضمومة وتخفيف الفاء وفتح الصاد على الفعل المجهول، واختاره أبو عبيد. فمن خفف فلقوله: « وهو خير الفاصلين » [ الأنعام: 57 ] وقوله: « إن يوم الفصل » [ الدخان: 40 ] . ومن شدد فلأن ذلك أبين في الفعل الكثير المكرر المتردد. ومن أتى به على ما لم يسم فاعله فلأن الفاعل معروف. ومن أتى به مسمى الفاعل رد الضمير إلى الله تعالى. ومن قرأ بالنون فعلى التعظيم. « والله بما تعملون بصير » .

 

الآيات: 4 - 5 ( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم )

 

قوله تعالى: « قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم » لما نهى عز وجل عن مولاة الكفار ذكر قصة إبراهيم عليه السلام، وأن من سيرته التبرؤ من الكفار؛ أي فاقتدوا به وأتموا؛ إلا في استغفاره لأبيه. والأسوة ما يتأسى به، مثل القدوة والقدوة. ويقال: هو أسوتك؛ أي مثلك وأنت مثله. وقرأ عاصم « أسوة » بضم الهمزة لغتان. « والذين معه » يعني أصحاب إبراهيم من المؤمنين. وقال ابن زيد: هم الأنبياء « إذ قالوا لقومهم » الكفار « إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله » أي الأصنام. وبرآء جمع بريء؛ مئل شريك وشركاء، وظريف وظرفاء. وقراءة العامة على وزن فعلاء. وقرأ عيسى بن عمر وابن أبي إسحاق « براء » بكسر الباء على وزن فعال؛ مثل قصير وقصار، وطويل وطوال، وظريف وظراف. ويجوز ترل الهمزة حتى تقول: برا؛ وتنون. وقرئ « براء » على الوصف بالمصدر. وقرئ « براء » على إبدال الضم من الكسر؛ كرخال ورباب. والآية نص في الأمر بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام في فعله. وذلك يصحح أن شرع من قبلنا شرع لنا فيما أخبر الله ورسوله. « كفرنا بكم » أي بما آمنتم به من الأوثان. وقيل: أي بأفعالكم وكذبناها وأنكرنا أن تكونوا على حق. « وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا » أي هذا دأبنا معكم ما دمتم على كفركم « حتى تؤمنوا بالله وحده » فحينئذ تنقلب المعاداة موالاة « إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك » فلا تتأسوا به في الاستغفار فتستغفرون للمشركين؛ فإنه كان عن موعدة منه له قاله قتادة ومجاهد وغيرهما. وقيل: معنى الاستثناء أن إبراهيم هجر قومه وباعدهم إلا في الاستغفار لأببه، ثم بين عذره في سورة « التوبة » .

وفي هذا دلالة على تفضيل نبينا عليه الصلاة والسلام على سائر الأنبياء؛ لأنا حين أمرنا بالاقتداء به أمرنا أمرا مطلقا في قوله تعالى: « وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا » [ الحشر: 7 ] وحين أمرنا بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام استثنى بعض أفعاله. وقيل: هو استثناء منقطع؛ أي لكن قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك، إنما جرى لأنه ظن أنه أسلم، فلما بان له أنه لم يسلم تبرأ منه. وعلى هذا يجوز الاستغفار لمن يظن أنه أسلم؛ وأنتم لم تجدوا مثل هذا الظن، فلم توالوهم. « وما أملك لك من الله من شيء » هذا من قول إبراهيم عليه السلام لأبيه؛ أي ما أدفع عنك من عذاب الله شيئا إن أشركت به. « ربنا عليك توكلنا » هذا من دعاء إبراهيم عليه السلام وأصحابه. وقيل: علم المؤمنين أن يقولوا هذا. أي تبرؤوا من الكفار وتوكلوا على الله وقولوا: « ربنا عليك توكلنا » أي اعتمدنا « وإليك أنبنا » أي رجعنا « وإليك المصير » لك الرجوع في الآخرة « ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا » أي لا تظهر عدونا علينا فيظنوا أنهم على حق فيفتتنوا بذلك. وقيل: لا تسلطهم علينا فيفتنونا ويعذبونا. « واغفر لنا » ذنوبنا « ربنا إنك أنت العزيز الحكيم » .

 

الآيات: 6 - 7 ( لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد، عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم )

 

قوله تعالى: « لقد كان لكم فيهم » أي في إبراهيم ومن معه من الأنبياء والأولياء. « أسوة حسنة » أي في التبرؤ من الكفار. وقيل: كرر للتأكيد. وقيل: نزل الثاني بعد الأول بمدة؛ وما أكثر المكررات في القرآن على هذا الوجه. « ومن يتول » أي عن الإسلام وقبول هذه المواعظ « فإن الله هو الغني » أي لم يتعبدهم لحاجته إليهم. « الحميد » في نفسه وصفاته. ولما نزلت عادى المسلمون أقرباءهم من المشركين فعلم الله شدة وجد المسلمين في ذلك فنزلت: « عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة » وهذا بأن يسلم الكافر. وقد أسلم قوم منهم بعد فتح مكة وخالطهم المسلمون؛ كأبي سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وحكيم بن حزام. وقيل: المودة تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان؛ فلانت عند ذلك عريكة أبي سفيان، واسترخت شكيمته في العداوة. قال ابن عباس: كانت المودة بعد الفتح تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان؛ وكانت تحت عبدالله بن جحش، وكانت هي وزوجها من مهاجرة الحبشة. فأما زوجها فتنصر وسألها أن تتابعه على دينه فأبت وصبرت على دينها، ومات زوجها على النصرانية. فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي فخطبها؛ فقال النجاشي لأصحابه: من أولاكم بها؟ قالوا: خالد بن سعيد بن العاص. قال فزوجها من نبيكم. ففعل؛ وأمهرها النجاشي من عنده أربعمائة دينار. وقيل: خطبها النبي صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن عفان، فلما زوجه إياها بعث إلى النجاشي فيها؛ فساق عنه المهر وبعث بها إليه. فقال أبو سفيان وهو مشرك لما بلغه تزويج النبي صلى الله عليه وسلم ابنته: ذلك الفحل لا يقدع أنفه. « يقدع » بالدال غير المعجمة؛ يقال: هدا فحل لا يقدع أنفه؛ أي لا يضرب أنفه. وذلك إذا كان كريما.

 

الآية: 8 ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين )

 

قوله تعالى: « لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين » هذه الآية رخصة من الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم. قال ابن زيد: كان هذا في أول الإسلام عند الموادعة وترك الأمر بالقتال ثم نسخ. قال قتادة: نسختها « فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم » [ التوبة: 5 ] . وقيل: كان هذا الحكم لعلة وهو الصلح، فلما زال الصلح بفتح مكة نسخ الحكم وبقي الرسم يتلى. وقيل: هي مخصوصة في حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم ومن بينه وبينه عهد لم ينقضه؛ قال الحسن. الكلبي: هم خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناف. وقاله أبو صالح، وقال: هم خزاعة. وقال مجاهد: هي مخصوصة في الذين آمنوا ولم يهاجروا. وقيل: يعني به النساء والصبيان لأنهم ممن لا يقاتل؛ فأذن الله في برهم. حكاه بعض المفسرين. وقال أكثر أهل التأويل: هي محكمة. واحتجوا بأن أسماء بنت أبي بكر سألت النبي صلى الله عليه وسلم: هل تصل أمها حين قدمت عليها مشركة؟ قال: ( نعم ) خرجه البخاري ومسلم. وقيل: إن الآية فيها نزلت. روى عامر بن عبدالله بن الزبير عن أبيه: أن أبا بكر الصديق طلق امرأته قتيلة في الجاهلية، وهي أم أسماء بنت أبي بكر، فقدمت عليهم في المدة التي كانت فيها المهادنة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش، فأهدت، إلى أسماء بنت أبي بكر الصديق قرطا وأشياء؛ فكرهت أن تقبل منها حتى أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فأنزل الله تعالى: « لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين » . ذكر هذا الخبر الماوردي وغيره، وخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده.

 

قوله تعالى: « أن تبروهم » « أن » في موضع خفض على البدل من « الذين » ؛ أي لا ينهاكم الله عن أن تبروا الذين لم يقاتلوكم. وهم خزاعة، صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على ألا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحدا؛ فأمر ببرهم والوفاء لهم إلى أجلهم؛ حكاه الفراء. « وتقسطوا إليهم » أي تعطوهم قسطا من أموالكم على وجه الصلة. وليس يريد به من العدل؛ فإن العدل واجب فيمن قاتل وفيمن لم يقاتل؛ قاله ابن العربي.

 

قال القاضي أبو بكر في كتاب الأحكام له: استدل به بعض من تعقد عليه الخناصر على وجوب نفقة الابن المسلم على أبيه الكافر. وهذه وهلة عظيمة، إذ الإذن في الشيء أو ترك النهي عنه لا يدل على وجوبه، وإنما يعطيك الإباحة خاصة. وقد بينا أن إسماعيل بن إسحاق القاضي دخل عليه ذمي فأكرمه، فأخذ عليه الحاضرون في ذلك؛ فتلا هذه الآية عليهم.

 

الآية: 9 ( إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون )

 

قوله تعالى: « إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين » أي جاهدوكم على الدين « وأخرجوكم من دياركم » وهم عتاة أهل مكة. « وظاهروا على إخراجكم » أي عاونوا على إخراجكم وهم مشركو أهل مكة « أن تولوهم » « أن » في موضع جر على البدل على ما تقدم في « أن تبروهم » . « ومن يتولهم » أي يتخذهم أولياء وأنصارا وأحبابا « فأولئك هم الظالمون » .

 

الآية: 10 ( يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم )

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات » لما أمر المسلمين بترك موالاة المشركين اقتضى ذلك مهاجرة المسلمين عن بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، وكان التناكح من أوكد أسباب الموالاة؛ فبين أحكام مهاجرة النساء. قال ابن عباس: جرى الصلح مع مشركي قريش عام الحديبية، على أن من أتاه من أهل مكة رده إليهم، فجاءت سعيدة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب، والنبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية بعد؛ فأقبل زوجها وكان كافرا - وهو صيفي بن الراهب. وقيل: مسافر المخزومي - فقال: يا محمد، اردد علي امرأتي فإنك شرطت ذلك! وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقيل: جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، فجاء أهلها يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردها. وقيل: هربت من زوجها عمرو بن العاص ومعها أخواها عمارة والوليد، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخويها وحبسها، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم؛ ردها علينا للشرط، فقال صلى الله عليه وسلم: ( كان الشرط في الرجال لا في النساء ) فأنزل الله تعالى هذه الآية. وعن عروة قال: كان مما اشترط سهيل بن عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: ألا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، حتى أنزل الله تعالى في المؤمنات ما أنزل؛ يومئ إلى أن الشرط في رد النساء نسخ بذلك. وقيل: إن التي جاءت أميمة بنت بشر، كانت عند ثابت بن الشمراخ ففرت منه وهو يومئذ كافر، فتزوجها سهل بن حنيف فولدت له عبدالله، قال زيد بن حبيب. كذا قال الماوردي: أميمة بنت بشر كانت عند ثابت بن الشمراخ. وقال المهدوي: وروى ابن وهب عن خالد أن هذه الآية نزلت في أميمة بنت بشر من بني عمرو بن عوف. وهي امرأة حسان بن الدحداح، وتزوجها بعد هجرتها سهل بن حنيف. وقال مقاتل: إنها سعيدة زوجة صيفي بن الراهب مشرك من أهل مكة. والأكثر من أهل العلم أنها أم كلثوم بنت عقبة.

 

واختلف أهل العلم هل دخل النساء في عقد المهادنة لفظا أو عموما؛ فقالت طائفة منهم: قد كان شرط ردهن في عقد المهادنة لفظا صريحا فنسخ الله ردهن من العقد ومنع منه، وبقاه في الرجال على ما كان. وهذا يدل على أن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجتهد رأيه في الأحكام، ولكن لا يقره الله على خطأ. وقالت طائفة من أهل العلم: لم يشترط ردهن في العقد لفظا، وإنما أطلق العقد في رد من أسلم؛ فكان ظاهر العموم اشتماله عليهن مع الرجال. فبين الله تعالى خروجهن عن عمومه. وفرق بينهن وبين الرجال لأمرين: أحدهما: أنهن ذوات فروج يحرمن عليهم. الثاني: أنهن أرق قلوبا وأسرع تقلبا منهم. فأما المقيمة منهن على شركها فمردودة عليهم.

 

قوله تعالى: « فامتحنوهن » قيل: إنه كان من أرادت منهن إضرار زوجها فقالت: سأهاجر إلى محمد صلى الله عليه وسلم؛ فلذلك أمر صلى الله عليه وسلم بامتحانهن. واختلف فيما كان يمتحنهن به على ثلاث أقوال: الأول: قال ابن عباس: كانت المحنة أن تستحلف بالله أنها ما خرجت من بغض زوجها، ولا رغبة من أرض إلى أرض، ولا التماس دنيا، ولا عشقا لرجل منا؛ بل حبا لله ولرسوله. فإذا حلفت بالله الذي لا إله إلا هو على ذلك، أعطى النبي صلى الله عليه وسلم زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يردها؛ فذلك قوله تعالى: « فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن » . الثاني: أن المحنة كانت أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؛ قاله ابن عباس أيضا. الثالث: بما بينه في السورة بعد من قوله تعالى: « يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات » [ الممتحنة: 12 ] قالت عائشة رضي الله عنها: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحن إلا بالآية التي قال الله: « إذا جاءك المؤمنات يبايعنك » [ الممتحنة: 12 ] رواه معمر عن الزهري عن عائشة. خرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح.

 

أكثر العلماء على أن هذا ناسخ لما كان عليه الصلاة والسلام عاهد عليه قريشا، من أنه يرد إليهم من جاءه منهم مسلما؛ فنسخ من ذلك النساء. وهذا مذهب من يرى نسخ السنة بالقرآن. وقال بعض العلماء: كله منسوخ في الرجال والنساء، ولا يجوز أن يهادن الإمام العدو على أن يرد إليهم من جاءه مسلما، لأن إقامة المسلم بأرض الشرك لا تجوز. وهذا مذهب الكوفيين. وعقد الصلح على ذلك جائز عند مالك. وقد احتج الكوفيون لما ذهبوا إليه من ذلك بحديث إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن خالد بن الوليد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى قوم من خثعم فاعتصموا بالسجود فقتلهم، فوداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصف الدية، وقال « أنا بريء من كل مسلم أقام مع مشرك في دار الحرب لا تراءى نارهما ) قالوا: فهذا ناسخ لرد المسلمين إلى المشركين، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بريء ممن أقام معهم في دار الحرب. ومذهب مالك والشافعي أن هذا الحكم غير منسوخ. قال الشافعي: وليس لأحد هذا العقد إلا الخليفة أو رجل يأمره، لأنه يلي الأموال كلها. فمن عقد غير الخليفة هذا العقد فهو مردود. »

 

قوله تعالى: « الله أعلم بإيمانهن » أي هذا الامتحان لكم، والله اعلم بإيمانهن، لأنه متولي السرائر. « فإن علمتموهن مؤمنات » أي بما يظهر من الإيمان. وقيل: إن علمتموهن مؤمنات قبل الامتحان « فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن » أي لم يحل الله مؤمنة لكافر، ولا نكاح مؤمن لمشركة.

وهذا أدل دليل على أن الذي أوجب فرقة المسلمة من زوجها إسلامها لا هجرتها. وقال أبو حنيفة: الذي فرق بينهما هو اختلاف الدارين. وإليه إشارة في مذهب مالك بل عبارة. والصحيح الأول، لأن الله تعالى قال: « لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن » فبين أن العلة عدم الحل بالإسلام وليس باختلاف الدار. والله اعلم. وقال أبو عمر: لا فرق بين الدارين لا في الكتاب ولا في السنة ولا في القياس، وإنما المراعاة في ذلك الدينان، فباختلافهما يقع الحكم وباجتماعهما، لا بالدار. والله المستعان.

 

قوله تعالى: « وآتوهم ما أنفقوا » أمر الله تعالى إذا أمسكت المرأة المسلمة أن يرد على زوجها ما أنفق وذلك من الوفاء بالعهد، لأنه لما منع من أهله بحرمة الإسلام، أمر برد المال إليه حتى لا يقع عليهم خسران من الوجهين: الزوجة والمال.

 

ولا غرم إلا إذا طالب الزوج الكافر، فإذا حضر وطالب منعناها وغرمنا. فإن كانت ماتت قبل حضور الزوج لم نغرم المهر إذ لم يتحقق المنع. وإن كان المسمى خمرا أو خنزيرا لم نغرم شيئا، لأنه لا قيمة له. وللشافعي في هذه الآية قولان: أحدهما: أن هذا منسوخ. قال الشافعي: وإذا جاءتنا المرأة الحرة من أهل الهدنة مسلمة مهاجرة من دار الحرب إلى الإمام في دار السلام أو في دار الحرب، فمن طلبها من ولي سوى زوجها منع منها بلا عوض. وإذا طلبها زوجها لنفسه أو غيره بوكالته ففيه قولان: أحدهما: يعطي العوض، والقول ما قال الله عز وجل، وفيه قول آخر: أنه لا يعطى الزوج المشرك الذي جاءت زوجته مسلمة العوض. فإن شرط الإمام رد النساء كان الشرط ورسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يرد النساء كان شرط من شرط رد النساء منسوخا وليس عليه عوض، لأن الشرط المنسوخ باطل ولا عوض الباطل.

 

أمر الله تعالى برد مثل ما أنفقوا إلى الأزواج، وأن المخاطب بهذا الإمام، ينفذ مما بين يديه من بيت المال الذي لا يتعين له مصرف. وقال مقاتل: يرد المهر الذي يتزوجها من المسلمين، فإن لم يتزوجها من المسلمين أحد فليس لزوجها الكافر شيء. وقال قتادة: الحكم في رد الصداق إنما هو في نساء أهل العهد؛ فأما من لا عهد بينه وبين المسلمين فلا يرد إليهم الصداق. والأمر كما قاله.

 

قوله تعالى: « ولا جناح عليكم أن تنكحوهن » يعني إذا أسلمن وانقضت عدتهن لما ثبت من تحريم نكاح المشركة والمعتدة. فإن أسلمت قبل الدخول ثبت النكاح في الحال ولها التزوج. « إذا آتيتموهن أجورهن » أباح نكاحها بشرط المهر؛ لأن الإسلام فرق بينها وبين زوجها الكافر.

 

قوله تعالى: « ولا تمسكوا بعصم الكوافر » قراءة العامة بالتخفيف من الإمساك. وهو اختيار أبي عبيد لقوله تعالى: « فأمسكوهن بمعروف » [ البقرة: 231 ] . وقرأ الحسن وأبو العالية وأبو عمرو « ولا تمسكوا » مشددة من التمسك. يقال: مسك يمسك تمسكا؛ بمعنى أمسك يمسك. وقرئ « ولا تمسكوا » بنصب التاء؛ أي لا تتمسكوا. والعصم جمع العصمة؛ وهو ما اعتصم به. والمراد بالعصمة هنا النكاح. يقول: من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتد بها، فليست له امرأة، فقد انقطعت عصمتها لاختلاف الدارين. وعن النخعي: هي المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر؛ وكان الكفار يتزوجون المسلمات والمسلمون يتزوجون المشركات؛ ثم نسخ ذلك في هذه الآية. فطلق عمر بن الخطاب حينئذ امرأتين له بمكة مشركتين: قريبة بنت أبي أمية فتزوجها معاوية بن أبي سفيان وهما على شركهما بمكة. وأم كلثوم بنت عمرو الخزاعية أم عبدالله بن المغيرة؛ فتزوجها أبو جهم بن حذافة وهما على شركهما. فلما ولي عمر قال أبو سفيان لمعاوية: طلق قريبة لئلا يرى عمر سلبه في بيتك، فأبي معاوية من ذلك. وكانت عند طلحة بن عبيدالله أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب ففرق الإسلام بينهما، ثم تزوجها في الإسلام خالد بن سعيد بن العاص، وكانت ممن فر إلى النبي صلى الله عليه وسلم من نساء الكفار، فحبسها وزوجها خالدا. وزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب ابنته - وكانت كافرة - من أبي العاص بن الربيع، ثم أسلمت وأسلم زوجها بعدها. ذكر عبدالرزاق عن ابن جريج عن رجل عن ابن شهاب قال: أسلمت زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم وهاجرت بعد النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة الأولى، وزوجها أبو العاص بن الربيع عبدالعزى مشرك بمكة. الحديث. وفيه: أنه أسلم بعدها. وكذلك قال الشعبي. قال الشعبي: وكانت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أبي العاص بن الربيع، فأسلمت ثم لحقت بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم أتى زوجها المدينة فأمنته فأسلم فردها عليه النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أبو داود عن عكرمة عن ابن عباس: بالنكاح الأول؛ ولم يحدث شيئا. قال محمد بن عمر في حديثه: بعد ست سنين. وقال الحسن بن علي: بعد سنتين. قال أبو عمر: فإن صح هذا فلا يخلو من وجهين: إما أنها لم تحض حتى أسلم زوجها، وإما أن الأمر فيها منسوخ بقول الله عز وجل: « وبعولتهن أحق بردهن في ذلك » [ البقرة: 228 ] يعني في عدتهن. وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء أنه عني به العدة. وقال ابن شهاب الزهري رحمه الله في قصة زينب هذه: كان قبل أن تنزل الفرائض. وقال قتادة: كان هذا قبل أن تنزل سورة « التوبة » بقطع العهود بينهم وبين المشركين. والله اعلم.

 

قوله تعالى: « بعصم الكوافر » المراد بالكوافر هنا عبدة الأوثان من لا يجوز ابتداء نكاحها، فهي خاصة بالكوافر من غير أهل الكتاب. وقيل: هي عامة، نسخ منها نساء أهل الكتاب. ولو كان إلى ظاهر الآية لم تحل كافرة بوجه. وعلى القول الأول إذا أسلم وثني أو مجوسي ولم تسلم امرأته فرق بينهما. وهذا قول بعض أهل العلم. ومنهم من قال: ينتظر بها تمام العدة. فمن قال يفرق بينهما في الوقت ولا ينتظر تمام العدة إذا عرض عليها الإسلام ولم تسلم - مالك بن أنس. وهو قول الحسن وطاوس ومجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة والحكم، واحتجوا بقوله تعالى: « ولا تمسكوا بعصم الكوافر » . دوقال الزهري: ينتظر بها العدة. وهو قول الشافعي وأحمد. واحتجوا بأن أبا سفيان بن حرب أسلم قبل هند بنت عتبة امرأته، وكان إسلامه بمر الظهران ثم رجع إلى مكة وهند بها كافرة مقيمة على كفرها، فأخذت بلحيته وقالت: اقتلوا الشيخ الضال. ثم أسلمت بعده بأيام، فاستقرا على نكاحهما لأن عدتها لم تكن انقضت. قالوا: ومثله حكيم بن حزام أسلم قبل امرأته، ثم أسلمت بعده فكانا على نكاحهما. قال الشافعي: ولا حجة لمن احتج بقوله تعالى: « ولا تمسكوا بعصم الكوافر » لأن نساء المسلمين محرمات على الكفار؛ كما أن المسلمين لا تحل لهم الكوافر والوثنيات ولا المجوسيات بقول الله عز وجل: « ولا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن » ثم بينت السنة أن مراد الله من قوله هذا أنه لا يحل بعضهم لبعض إلا أن يسلم الباقي منهما في العدة. وأما الكوفيون وهم سفيان وأبو حنيفة وأصحابه فإنهم قالوا في الكافرين الذميين: إذا أسلمت المرأة عرض على الزوج الإسلام، فإن أسلم وإلا فرق بينهما. قالوا: ولو كانا حربيين فهي امرأته حتى تحيض ثلاث حيض إذا كانا جميعا في دار الحرب أو في دار الإسلام. وإن كان أحدهما في دار الإسلام والآخر في دار الحرب انقطعت العصمة بينهما فراعوا الدار؛ وليس بشيء. وقد تقدم.

 

هذا الاختلاف إنما هو في المدخول بها، فإن كانت غير مدخول بها فلا نعلم اختلافا في انقطاع العصمة بينهما؛ إذ لا عدة عليها. كذا يقول مالك في المرأة ترتد زوجها مسلم: انقطعت العصمة بينهما. وحجته « ولا تمسكوا بعصم الكوافر » وهو قول الحسن البصري والحسن بن صالح بن حي. ومذهب الشافعي وأحمد أنه ينتظر بها تمام العدة.

 

فإن كان الزوجان نصرانيين فأسلمت الزوجة ففيها أيضا اختلاف. ومذهب مالك وأحمد والشافعي الوقوف إلى تمام العدة. وهو قول مجاهد. وكذا الوثني تسلم زوجته، إنه إن أسلم في عدتها فهو أحق بها؛ كما كان صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل أحق بزوجتيهما لما أسلما في عدتيهما؛ على حديث ابن شهاب. ذكره مالك في الموطأ. قال ابن شهاب: كان بين إسلام صفوان وبين إسلام زوجته نحو من شهر. قال ابن شهاب: ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجها كافر مقيم بدار الحرب إلا فرقت هجرتها بينه وبينها؛ إلا أن يقدم زوجها مهاجرا قبل أن تنقضي عدتها. ومن العلماء من قال: ينفسخ النكاح بينهما. قال يزيد بن علقمة: أسلم جدي ولم تسلم جدتي ففرق عمر بينهما رضي الله عنه؛ وهو قول طاوس. وجماعة غيره منهم عطاء والحسن وعكرمة قالوا: لا سبيل عليها إلا بخطبة.

 

قوله تعالى: « واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا » قال المفسرون: كان من ذهب من المسلمات مرتدات إلى الكفار من أهل العهد يقال للكفار: هاتوا مهرها. ويقال للمسلمين إذا جاء أحد من الكافرات مسلمة مهاجرة: ردوا إلى الكفار مهرها. وكان ذلك نصفا وعدلا بين الحالتين. وكان هذا حكم الله مخصوصا بذلك الزمان في تلك النازلة خاصة بإجماع الأمة؛ قال ابن العربي. « ذلكم حكم الله » أي ما ذكر في هذه الآية هو حكم الله. « يحكم بينكم والله عليم حكيم » . تقدم في غير موضع.

 

الآية: 11 ( وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون )

 

قوله تعالى: « وإن فاتكم شيء من أزواجكم » في الخبر: أن المسلمين قالوا: رضينا بما حكم الله؛ وكتبوا إلى المشركين فامتنعوا فنزلت: « وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا » . وروى الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: حكم الله عز وجل بينكم فقال جل ثناؤه: « واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا » فكتب إليهم المسلمون: قد حكم الله عز وجل بيننا بأنه إن جاءتكم امرأة منا أن توجهوا إلينا بصداقها، وإن جاءتنا امرأة منكم وجهنا إليكم بصداقها. فكتبوا إليهم: أما نحن فلا نعلم لكم عندنا شيئا، فإن كان لنا عندكم شيء فوجهوا به، فأنزل الله عز وجل: « وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا » . وقال ابن عباس في قوله تعالى: « ذلكم حكم الله يحكم بينكم » أي بين المسلمين والكفار من أهل العهد من أهل مكة يرد بعضهم إلى بعض. قال الزهري: ولولا العهد لأمسك النساء ولم يرد إليهم صداقا. وقال قتادة ومجاهد: إنما أمروا أن يعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الفيء والغنيمة. وقالا: هي فيمن بيننا وبينه عهد وليس بيننا وبينه عهد. وقالا: ومعنى « فعاقبتم » فاقتصصتم. « فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا » يعني الصدقات. فهي عامة في جميع الكفار. وقال قتادة أيضا: وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار الذين بينكم وبينهم عهد، فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا. ثم نسخ هذا في سورة « التوبة » . وقال الزهري: انقطع هذا عام الفتح. وقال سفيان الثوري: لا يعمل به اليوم. وقال قوم: هو ثابت الحكم الآن أيضا. حكاه القشيري.

 

قوله تعالى: « فعاقبتم » قراءة العامة « فعاقبتم » وقرأ علقمة والنخعي وحميد والأعرج « فعقبتم » مشددة. وقرأ مجاهد « فأعقبتم » وقال: صنعتم كما صنعوا بكم. وقرأ الزهري « فعقبتم » خفيفة بغير ألف. وقرأ مسروق وشقيق بن سلمة « فعقبتم » بكسر القاف خفيفة. وقال: غنمتم. وكلها لغات بمعنى واحد. يقال: عاقب وعقب وعقب وأعقب وتعقب واعتقب وتعاقب إذا غنم. وقال القتبي « فعاقبتم » فغزوتم معاقبين غزوا بعد غزو. وقال ابن بحر: أي فعاقبتم المرتدة بالقتل فلزوجها مهرها من غنائم المسلمين. « فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا » قال ابن عباس: يقول إن لحضت امرأة مؤمنة بكفار أهل مكة، وليس بينكم وبينهم عهد ولها زوج مسلم قبلكم فغنمتم، فأعطوا هذا الزوج المسلم مهره من الغنيمة قبل أن تخمس. وقال الزهري: يعطي من مال الفيء. وعنه يعطى من صدق من لحق بنا. وقيل: أي إن امتنعوا من أن يغرموا مهر هذه المرأة التي ذهبت إليهم، فانبذوا العهد إليهم حتى إذا ظفرتم فخذوا ذلك منهم. قال الأعمش: هي منسوخة. وقال عطاء: بل حكمها ثابت. وقد تقدم جميع هذا. القشيري: والآية نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان، ارتدت وتركت زوجها عياض بن غنم القرشي، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها، ثم عادت إلى الإسلام. وحكى الثعلبي عن ابن عباس: هن ست نسوة رجعن عن الإسلام ولحقن بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين: أم الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن أبي شداد الفهري. وفاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة أخت أم سلمة، وكانت تحت عمر بن الخطاب، فلما هاجر عمر أبت وارتدت. وبروع بنت عقبة، كانت تحت شماس بن عثمان. وعبدة بنت عبدالعزى، كانت تحت هشام بن العاص. وأم كلثوم بنت جرول تحت عمر بن الخطاب. وشهبة بنت غيلان. فأعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم مهور نسائهم من الغنيمة. « واتقوا الله » احذروا أن تتعدوا ما أمرتم به.

 

الآية: 12 ( يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم )

 

قوله تعالى: « يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك » لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة جاء نساء أهل مكة يبايعنه، فأمر أن يأخذ عليهن ألا يشركن. وفي صحيح مسلم عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحن بقول الله تعالى: « يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على ألا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين » إلى آخر الآية. قالت عائشة: فمن أقر بهذا من المؤمنات فقد أقر بالمحنة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقررن بذلك من قولهن قال لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( انطلقن فقد بايعتكن ) ولا والله ما مست يد رسول الله يد امرأة قط، غير أنه بايعهن بالكلام. قالت عائشة: والله ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء قط إلا بما أمره الله عز وجل، وما مست كف رسول الله صلى الله عليه وسلم كف امرأة قط؛ وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن ( قد بايعتكن كلاما ) . وروي أنه عليه الصلاة والسلام بايع النساء وبين يديه وأيديهن ثوب، وكان يشترط عليهن. وقيل: لما فرغ من بيعة الرجال جلس على الصفا ومعه عمر أسفل منه، فجعل يشترط على النساء البيعة وعمر يصافحهن. وروي أنه كلف امرأة وقفت على الصفا فبايعتهن. ابن العربي: وذلك ضعيف، وإنما ينبغي التعويل على ما في الصحيح. وقالت أم عطية: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جمع نساء الأنصار في بيت، ثم أرسل إلينا عمر بن الخطاب، فقام على الباب فسلم فرددن عليه السلام، فقال: أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكن؛ ألا تشركن بالله شيئا. فقلن نعم. فمد يده من خارج البيت ومددنا أيدينا من داخل البيت؛ ثم قال: اللهم اشهد. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء، فغمس يده فيه ثم أمر النساء فغمسن أيديهن فيه.

 

روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: ( على ألا يشركن بالله شيئا ) قالت هند بنت عتبة وهي منتقبة خوفا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرفها لما صنعته بحمزة يوم أحد: والله إنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيتك أخذته على الرجال وكان بايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولا يسرفن ) فقالت هند: إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصيب من ماله قوتنا. فقال أبو سفيان: هو لك حلال. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وعرفها وقال: ( أنت هند ) ؟ فقالت: عفا الله عما سلف. ثم قال: ( ولا يزنين ) فقالت هند: أو تزني الحرة! ثم قال: ( ولا يقتلن أولادهن ) أي لا يئدن الموؤودات ولا يسقطن الأجنة. فقالت هند: ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا يوم بدر، فأنتم وهم أبصر. وروى مقاتل أنها قالت: ربيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا، وأنتم وهم اعلم. فضحك عمر بن الخطاب حتى استلقى. وكان حنظلة بن أبي سفيان وهو بكرها قتل يوم بدر. ثم قال: « ولا يأتين ببهتان يفترينه بن أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف » قيل: معنى « بين أيديهن » ألسنتهن بالنميمة. ومعنى بين « أرجلهن » فروجهن. وقيل: ما كان بين أيديهن من قبلة أو جسة، وبين أرجلهن الجماع وقيل: المعنى لا يلحقن برجالهن ولدا من غيرهم. وهذا قول الجمهور. وكانت المرأة تلتقط ولدا فتلحقه بزوجها وتقول: هذا ولدي منك. فكان هذا من البهتان والافتراء. وقيل: ما بين يديها ورجليها كناية عن الولد؛ لأن بطنها الذي تحمل فيه الولد بين يديها، وفرجها الذي تلد منه بين رجليها. وهذا عام في الإتيان بولد وإلحاقه بالزوج وإن سبق النهي عن الزنى.

وروي أن هندا لما سمعت ذلك قالت: والله إن البهتان لأمر قبيح؛ ما تأمر إلا بالأرشد ومكارم الأخلاق!. ثم قال: « ولا يعصينك في معروف » قال قتادة: لا ينحن. ولا تخلو امرأة منهن إلا بذي محرم. وقال سعيد بن المسيب، ومحمد بن السائب وزيد بن أسلم: هو إلا يخمشن وجها. ولا يشققن جيبا، ولا يدعون ويلا ولا ينشرن شعرا ولا يحدثن الرجال إلا ذا محرم. وروت أم عطية عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك في النوح. وهو قول ابن عباس. وروى شهر بن حوشب عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم « ولا يعصينك في معروف » فقال: ( هو النوح ) . وقال مصعب بن نوج: أدركت عجوزا ممن بايع النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثتني عنه عليه الصلاة والسلام في قوله: « ولا يتعصينك في معروف » فقال: ( النوح ) . وفي صحيح مسلم عن أم عطية لما نزلت هذه الآية: « يبايعنك على إلا يشركن بالله شيئا - إلى قوله - ولا يعصينك في معروف » قال: ( كان منه النياحة ) قالت: فقلت يا رسول الله، إلا آل فلان فإنهم كانوا أسعدوني في الجاهلية؛ فلا بد لي من أن أسعدهم. فقال، رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إلا آل فلان ) . وعنها قالت: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع البيعة إلا ننوح؛ فما وفت منا امرأة إلا خمس: أم سليم، وأم العلاء، وابنه أبي سيرة امرأة معاذ أو ابنة أبي سبرة، وامرأة معاذ. وقيل: إن المعروف ها هنا الطاعة لله ولرسوله؛ قال ميمون بن مهران. وقال بكر بن عبدالله المزني: لا يعصينك في كل أمر فيه رشدهن. الكلبي: هو عام في كل معروف أم الله عز وجل ورسول به. فروي أن هندا قالت عند ذلك: ما جلستا في مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء.

 

ذكر الله عز وجل ورسول عليه الصلاة والسلام في صفة البيعة خصالا شتى؛ صرح فيهن بأركان النهي في الدين ولم يذكر أركان الأمر. وهي ستة أيضا: الشهادة، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والاغتسال من الجنابة. وذلك لأن النهي دائم في كل الأزمان وكل الأحوال؛ فكان التنبيه على اشتراط الدائم أكد. وقيل: إن هذه المناهي كان في النساء كثير من يرتكبها ولا يحجزهن عنها شرف النسب، فخصت بالذكر لهذا. ونحو منه قول عليه الصلاة والسلام لوفد عبد القيس: ( وأنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت ) فنبههم على ترك المعصية في شرب الخمر دون سائر المعاصي، لأنها كانت شهوتهم وعادتهم، وإذا ترك المرء شهوته من المعاصي هان عليه ترك سائرها مما لا شهوة له فيها.

 

لما قال النبي صلى الله عليه وسلم في البيعة: ( ولا يسرقن ) قالت هند: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل مسيك فهل علي حرج أن آخذ ما يكفيني وولدي؟ قال ( لا إلا بالمعروف ) فخشيت هند أن تقتصر على ما يعطيها فتضيع أو تأخذ أكثر من ذلك فتكون سارقة ناكثة للبيعة المذكورة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا ) أي لا حرج عليك فيما أخذت بالمعروف، يعني من غير استطالة إلى أكثر من الحاجة. قال ابن العربي وهذا إنما هو فيما لا يخزنه عنها في حجاب ولا يضبط عليه بقفل فإنه إذا هتكته الزوجة وأخذت منه كانت سارقة تعصي به وتُقطع يدها بذلك.

 

قال عبادة بن الصامت: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النساء: ( إلا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا يعضه بعضكم بعضا ولا تعصوا في معروف أمركم به ) . معنى « يعضه » يسحر. والعضه: السحر. ولهذا قال ابن بحر وغيره في قوله تعالى: « ولا يأتين ببهتان » إنه السحر. وقال الضحاك: هذا نهى عن البهتان، أي لا يعضهن رجلا ولا امرأة. « ببهتان » أي بسحر. والله اعلم. « يفترينه بين أيديهن وأرجلهن » والجمهور على أن معنى « ببهتان » بولد يفترينه بين أيديهن « ما أخذته لقيطا. » وأرجلهن « ما ولدته من زنى. وقد تقدم. »

 

قوله تعالى: « ولا يعصينك في معروف » في البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى: « ولا يعصينك في معروف » قال: إنما هو شرط شرطه الله للنساء. واختلف في معناه على ما ذكرنا. والصحيح أنه عام في جميع ما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم وينهى عنه؛ فيدخل فيه النوح وتخريق الثياب وجز الشعر والخلوة بغير محرم إلى غير ذلك. وهذه كلها كبائر ومن أفعال الجاهلية. وفي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أربع في أمتي من أمر الجاهلية ) فذكر منها النياحة. وروى يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( هذه النوائح يجعلن يوم القيامة صفين صفا عن اليمين وصفا عن اليسار ينبحن كما تنبح الكلاب في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يؤمر بهن إلى النار ) . وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تصلي الملائكة على نائحة ولا مرنة ) . وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع نائحة فأتاها فضربها بالدرة حتى وقع خمارها عن رأسها. فقيل: يا أمير المومنين، المرأة المرأة! قد وقع خمارها. فقال: إنها لا حرمة لها. أسند جميعه الثعلبي رحمه الله. أما تخصيص قوله: « في معروف » مع قوة قوله: « ولا يعصينك » ففيه قولان: أحدهما: أنه تفسير للمعنى على التأكيد؛ كما قال تعالى: « قال رب احكم بالحق » [ الأنبياء: 112 ] لأنه لو قال احكم لكفى. الثاني: إنما شرط المعروف في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يكون تنبيها على أن غيره أولى بذلك وألزم له وأنفى للإشكال.

 

روى البخاري عن عبادة بن الصامت قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( أتبايعوني على إلا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا ) قرأ آية النساء. وأكثر لفظ سفيان قرأ في الآية ( فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله فهو إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له منها ) . وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: شهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان؛ فكلهم يصليها قبل الخطبة ثم يخطب؛ فنزل نبي الله صلى الله عليه وسلم فكأني انظر إليه حين يجلس الرجال بيده، ثم أقبل يشقهم حتى أتى النساء مع بلال فقال: ( يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على ألا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن « - حتى فرغ من الآية كلها، ثم قال حين فرغ - : أنتن على ذلك ) ؟ فقالت: امرأة واحدة لم يجبه غيرها: نعم يا رسول الله؛ لا يدري الحسن من هي. قال: ( فتصدقن ) وبسط بلال ثوبه فجعلن يلقين الفتخ والخواتيم في ثوب بلال. لفظ البخاري. »

 

قال المهدوي: أجمع المسلمون على أنه ليس للإمام أن يشترط عليهن هذا؛ والأمر بذلك ندب لا إلزام. وقال بعض أهل النظر: إذا احتيج إلى المحنة من أجل تباعد الدار كان على إمام المسلمين إقامة المحنة.

 

الآية: 13 ( يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور )

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم » يعني اليهود. وذلك أن ناسا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود بأخبار المؤمنين ويواصلونهم فيصيبون بذلك من ثمارهم فنهوا عن ذلك. « قد يئسوا من الآخرة » يعني اليهود قاله ابن زيد. وقيل: هم المنافقون. وقال الحسن: هم اليهود والنصارى. قال ابن مسعود: معناه أنهم تركوا العمل للآخرة وآثروا الدنيا. وقيل: المعنى يئسوا من ثواب الآخرة، قاله مجاهد. « كما يئس الكفار » أي الأحياء من الكفار. « من أصحاب القبور » أن رجعوا اليهم؛ قال الحسن وقتادة. قال ابن عرفة: وهم الذين قالوا: « وما يهلكنا إلا الدهر » [ الجاثية: 24 ] . وقال مجاهد: المعنى كما يئس الكفار الذين في القبور أن يرجعوا إلى الدنيا. وقيل: إن الله تعالى ختم السورة بما بدأها من ترك موالاة الكفار؛ وهي خطاب لحاطب بن أبي بلتعة وغيره. قال ابن عباس: « يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا » أي لا توالوهم ولا تناصحوهم؛ رجع تعالى بطوله وفضله على حاطب بن أبي بلتعة. يريد أن كفار قريش قد يئسوا من خير الآخرة كما يس الكفار المقبورون من حظ يكون لهم في الآخرة من رحمة الله تعالى. وقال القاسم بن أبي بزة في قوله تعالى: « قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور » قال: من مات من الكفار يئس من الخير. والله اعلم.

 

سورة الصف

مقدمة السورة

 

سورة الصف مدنية في قول الجميع، فيما ذكر الماوردي. وقيل: إنها مكية، ذكره النحاس عن ابن عباس. وهي أربع عشرة آية.

 

الآية: 1 ( سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم )

 

تقدم.

 

الآيات: 2 - 3 ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون )

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون » روى الدارمي أبو محمد في مسنده أخبرنا محسد بن كثير عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عبدالله بن سلام قال: قعدنا نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكرنا فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله تعالى لعملناه؛ فأنزل الله تعالى: « سبح لله ما قي السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم « يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون » حتى ختمها. قال عبدالله: فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ختمها. قال أبو سلمة: فقرأها علينا ابن سلام. قال يحيى: فقرأها علينا أبو سلمة وقرأها علينا يحيى وقرأها علينا الأوزاعي وقرأها علينا محمد. وقال ابن عباس قال عبدالله بن رواحة: لو علمنا أحب الأعمال إلى الله لعملناه؛ فلما نزل الجهاد كرهوه. وقال الكلبي: قال المؤمنون يا رسول الله، لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لسارعنا إليها؛ فنزلت » هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم « [ الصف: 10 ] فمكثوا زمانا يقولون: لو نعلم ما هي لاشتريناها بالأموال والأنفس والأهلين؛ فدلهم الله تعالى عليها بقول: » تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم « [ الصف: 11 ] الآية. فابتلوا يوم أحد ففروا؛ فنزلت تعيرهم بترك الوفاء. وقال محمد بن كعب: لما أخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بثواب شهداء بدر قالت الصحابة: اللهم أشهد! لئن لقينا قتالا لنفرغن فيه وسعنا؛ ففروا يوم أحد فعيرهم الله بذلك. وقال قتادة والضحاك: نزلت في قوم كانوا يقولون: نحن جاهدنا وأبلينا ولم يفعلوا. وقال صهيب: كان رجل قد آذى المسلمين يوم بدر وأنكاهم فقتلته. فقال رجل يا نبي الله، إني قتلت فلانا، ففرح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. فقال عمر بن الخطاب وعبدالرحمن بن عوف: يا صهيب، أما أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنك قتلت فلانا! فإن فلانا انتحل قتله؛ فأخبره فقال: ( أكذلك يا أبا يحيى ) ؟ قال نعم، والله يا رسول الله؛ فنزلت الآية في المنتحل. وقال ابن زيد: نزلت في المنافقين؛ كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: إن خرجتم وقاتلتم خرجنا معكم وقاتلنا؛ فلما خرجوا نكصوا عنهم وتخلفوا. »

 

هذه الآية توجب على كل من ألزم نفسه عملا فيه طاعة أن يفي بها. وفي صحيح مسلم عن أبي موسى أنه بعث إلى قراء أهل البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرؤوا القرآن؛ فقال: أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم، فاتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم. وإنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة بـ « براءة » فأنسيتها؛ غير أني قد حفظت منها « لو كان لابن آدم واديان من مال لأبتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب » . وكنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها؛ غير أني حفظت منها: « يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون » فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة. قال ابن العربي: وهذا كله ثابت في الدين. أما قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون » فثابت في الدين لفظا ومعنى في هذه السورة. وأما قوله: « شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة » فمعنى ثابت في الدين؛ فإن من التزم شيئا لزمه شرعا. والملتزم على قسمين: أحدهما: النذر، وهو على قسمين، نذر تقرب مبتدأ كقول: لله علي صلاة وصوم وصدقة، ونحوه من القرب. فهذا يلزم الوفاء به إجماعا. ونذر مباح وهو ما علق بشرط رغبة، كقوله: إن قدم غائبي فعلي صدقة، أو علق بشرط رهبة، كقوله: إن كفاني الله شر كذا فعلي صدقة. فاختلف العلماء فيه، فقال مالك وأبو حنيفة، يلزمه الوفاء به. وقال الشافعي في أحد أقوال: إنه لا يلزمه الوفاء به. وعموم الآية حجة لنا، لأنها بمطلقها تتناول ذم من قال ما لا يفعله على أي وجه كان من مطلق أو مقيد بشرط. وقد قال أصحابه: إن النذر إنما يكون بما القصد منه القربة مما هو من جنس القربة. وهذا وإن كان من جنس القربة لكنه لم يقصد به القربة، وإنما قصد منع نفسه عن فعل أوالإقدام على فعل. قلنا: القرب الشرعية مشقات وكلف وإن كانت قربات. وهذا تكلف التزام هذه القربة بمشقة لجلب نفع أو دفع ضر، فلم يخرج عن سنن التكليف ولا زال عن قصد التقرب. قال ابن العربي: فإن كان المقول منه وعدا فلا يخلو أن يكون منوطا بسبب كقوله: إن تزوجت أعنتك بدينار، أو ابتعت حاجة كذا أعطيتك كذا. فهذا لازم إجماعا من الفقهاء. وإن كان وعدا مجردا فقيل يلزم بتعلقه. وتعلقوا بسبب الآية، فإنه روي أنهم كانوا يقولون: لو نعلم أي الأعمال أفضل أو أحب إلى الله لعملناه، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وهو حديث لا بأس به. وقد روي عن مجاهد أن عبدالله بن رواحة لما سمعها قال: لا أزال حبيسا في سبيل الله حتى أقتل. والصحيح عندي: أن الوعد يجب الوفاء به على كل حال إلا لعذر. قلت: قال مالك: فأما العدة مثل أن يسأل الرجل الرجل أن يهب له الهبة فيقول له نعم؛ ثم يبدو له ألا يفعل فما أرى ذلك يلزمه. وقال ابن القاسم: إذا وعد الغرماء فقال: أشهدكم أني قد وهبت له من أن يؤدي إليكم؛ فإن هذا يلزمه. وأما أن يقول نعم أنا أفعل؛ ثم يبدو له، فلا أرى عليه ذلك.

قلت: أي لا يقضي عليه بذلك؛ فأما في مكارم الأخلاق وحسن المروءة فنعم. وقد أثنى الله تعالى على من صدق وعده ووفى بنذره فقال: « والموفون بعهدهم إذا عاهدوا » [ البقرة: 177 ] ، وقال تعالى: « واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد » [ مريم: 54 ] وقد تقدم بيانه.

 

قال النخعي: ثلاث آيات منعتني أن أقص على الناس « أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم » [ البقرة: 44 ] ، « وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه » [ هود: 88 ] ، « يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون » . وخرج أبو نعيم الحافظ من حديث مالك بن دينار عن ثمامة أن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أتيت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت وفت ) قلت: ( من هؤلاء يا جبريل ) ؟ قال: ( هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ولا يفعلون ويقرؤون كتاب الله ولا يعملون ) . وعن بعض السلف أنه قيل ل: حدثنا؛ فسكت. ثم قيل له: حدثنا. فقال: أترونني أن أقول ما لا أفعل فاستعجل مقت الله!.

 

قوله تعالى: « لم تقولون ما لا تفعلون » استفهام على جهة الإنكار والتوبيخ، على أن يقول الإنسان عن نفسه من الخير ما لا يفعله. أما في الماضي فيكون كذبا، وأما في المستقبل فيكون خلفا، وكلاهما مذموم. وتأول سفيان بن عيينة قوله تعالى: « لم تقولون ما لا تفعلون » أي لم تقولون ما ليس الأمر فيه إليكم، فلا تدرون هل تفعلون أو لا تفعلون. فعلى هذا يكون الكلام محمولا على ظاهره في إنكار القول. « كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون » قد يحتج به في وجوب الوفاء في اللجاج والغضب على أحد قولي الشافعي. و « أن » وقع بالابتداء وما قبلها الخبر؛ وكأنه قال: قولكم ما لا تفعلون مذموم، ويجوز أن يكون خبر ابتداء محذوف. الكسائي: « أن » في موضع رفع؛ لأن « كبر » فعل بمنزلة بئس رجلا أخوك. و « مقتا » نصب بالتمييز؛ المعنى كبر قولهم ما لا يفعلون مقتا. وقيل: هو حال. والمقت والمقاتة مصدران؛ يقال: رجل مقيت وممقوت إذا لم يحبه الناس.

 

الآية: 4 ( إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص )

 

قوله تعالى: « إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا » أي يصفون صفا: والمفعول مضمر؛ أي يصفون أنفسهم صفا. « كأنهم بنيان مرصوص » قال الفراء: مرصوص بالرصاص. وقال المبرد: هو من رصصت البناء إذا لاءمت بينه وقاربت حتى يصير كقطعة واحدة. وقيل: هو من الرصيص وهو انضمام الأسنان بعضها إلى بعض. والتراص التلاصق؛ ومنه وتراصوا في الصف. ومعنى الآية: يحب من يثبت في الجهاد في سبيل الله ويلزم مكانه كثبوت البناء. وقال سعيد بن جبير: هذا تعليم من الله تعالى للمؤمنين كيف يكونون عند قتال عدوهم.

وقد استدل بعض أهل التأويل بهذا على أن قتال الراجل أفضل من قتال الفارس، لأن الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة. المهدوي: وذلك غير مستقيم، لما جاء في فضل الفارس في الأجر والغنيمة. ولا يخرج الفرسان من معنى الآية؛ لأن معناه الثبات.

 

لا يجوز الخروج عن الصف إلا لحاجة تعرض للإنسان، أو في رسالة يرسلها الإمام، أو في منفعة تظهر في المقام، كفرصة تنتهز ولا خلاف فيها. وفي الخروج عن الصف للمبارزة خلاف على قولين أحدهما: أنه لا بأس بذلك إرهابا للعدو، وطلبا للشهادة وتحريضا على القتال. وقال أصحابنا: لا يبرز أحد طالبا لذلك، لأن فيه رياء وخروجا إلى ما نهى الله عنه من لقاء العدو. وإنما تكون المبارزة إذا طلبها الكافر؛ كما كانت في حروب النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر وفي غزوة خيبر، وعليه درج السلف. وقد مضى القول مستوفى في هذا في « البقرة » عند قوله تعالى: « ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة » [ البقرة: 195 ] .

 

الآية: 5 ( وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين )

 

قوله تعالى: « وإذ قال موسى لقومه » لما ذكر أمر الجهاد بين أن موسى وعيسى أمرا بالتوحيد وجاهدا في سبيل الله؛ وحل العقاب بمن خالفهما؛ أي واذكر لقومك يا محمد هذه القصة. « ياقوم لم تؤذونني » وذلك حين رموه بالأدرة؛ حسب ما تقدم في آخر سورة « الأحزاب » . ومن الأذى ما ذكر في قصة قارون: إنه دس إلى امرأة تدعي على موسى الفجور. ومن الأذى قولهم: « اجعل لنا إلها كما لهم آلهة » [ الأعراف: 138 ] . وقولهم: « فاذهب أنت وربك فقاتلا » [ المائدة: 24 ] . وقولهم: إنك قتلت هارون. وقد تقدم هذا. « وقد تعلمون أني رسول الله إليكم » والرسول يحترم ويعظم. ودخلت « قد » على « تعلمون » للتأكيد؛ كأنه قال: وتعلمون علما يقينا لا شبهة لكم فيه. « فلما زاغوا » أي مالوا عن الحق « أزاغ الله قلوبهم » أي أمالها عن الهدى. وقيل: « فلما زاغوا » عن الطاعة « أزاغ الله قلوبهم » عن الهداية. وقيل: « فلما زاغوا » عن الإيمان « أزاغ الله قلوبهم » عن الثواب. وقيل: أي لما تركوا ما أمروا به من احترام الرسول عليه السلام وطاعة الرب، خلق الله الضلالة في قلوبهم عقوبة لهم على فعلهم.

 

الآية: 6 ( وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين )

 

قوله تعالى: « وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل » أي واذكر لهم هذه القصة أيضا. وقال: « يا بني إسرائيل » ولم يقل « يا قوم » كما قال موسى؛ لأنه لا نسب له فيهم فيكونون قومه. « إني رسول الله إليكم » أي بالإنجيل. « مصدقا لما بين يدي من التوراة » لأن في التوراة صفتي، وأني لم آتكم بشيء يخالف التوراة فتنفروا عني. « ومبشرا برسول » مصدقا. « ومبشرا » نصب على الحال؛ والعامل فيها معنى الإرسال. و « إليكم » صلة الرسول. « يأتي من بعدي اسمه أحمد » قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو « من بعدي » بفتح الياء. وهي قراءة السلمي وزر بن حبيش وأبي بكر عن عاصم. واختاره أبو حاتم لأنه اسم؛ مثل الكاف من بعدك، والتاء من قمت. الباقون بالإسكان. وقرئ « من بعدي اسمه أحمد » بحذف الياء من اللفظ. و « أحمد » اسم نبينا صلى الله عليه وسلم. وهو اسم علم منقول من صفة لا من فعل؛ فتلك الصفة أفعل التي يراد بها التفضيل. فمعنى « أحمد » أي أحمد الحامدين لربه. والأنبياء صلوات الله عليهم كلهم حامدون الله، ونبينا أحمد أكثرهم حمدا. وأما محمد فمنقول من صفة أيضا، وهي في معنى محمود؛ ولكن فيه معنى المبالغة والتكرار. فالمحمد هو الذي حمد مرة بعد مرة. كما أن المكرم من الكرم مرة بعد مرة. وكذلك الممدح ونحو ذلك. فاسم محمد مطابق لمعناه، والله سبحانه سماه قبل أن يسمي به نفسه. فهذا علم من أعلام نبوته، إذ كان اسمه صادقا عليه؛ فهو محمود في الدنيا لما هدى إليه ونفع به من العلم والحكمة. وهو محمود في الآخرة بالشفاعة. فقد تكرر معنى الحمد كما يقتضي اللفظ. ثم إنه لم يكن محمدا حتى كان أحمد، حمد ربه فنبأه وشرفه؛ فلذلك تقدم اسم أحمد على الاسم الذي هو محمد فذكره عيسى عليه السلام فقال: « اسمه أحمد » . وذكره موسى عليه السلام حين قال له ربه: تلك أمة أحمد، فقال: اللهم اجعلني من أمة أحمد. فبأحمد ذكره قبل أن يذكره بمحمد، لأن حمده لربه كان قبل حمد الناس له. فلما وجد وبعث كان محمدا بالفعل. وكذلك في الشفاعة يحمد ربه بالمحامد التي يفتحها عليه، فيكون أحمد الناس لربه ثم يشفع فيحمد على شفاعته. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اسمي في التوراة أحيد لأني أحيد أمتي عن النار واسمي في الزبور الماحي محا الله بي عبدة الأوثان واسمي في الإنجيل أحمد واسمي في القرآن محمد لأني محمود في أهل السماء والأرض ) . وفي الصحيح ( لي خمسة أسماء أنا محمد وأحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي تحشر الناس على قدمي وأنا العاقب ) . وقد تقدم. « فلما جاءهم بالبينات » قيل عيسى. وقيل: محمد صلى الله عليه وسلم. « قالوا هذا سحر مبين » قرأ الكسائي وحمزة « ساحر » نعتا للرجل. وروي أنها قراءة ابن مسعود. الباقون « سحر » نعتا لما جاء به الرسول.

 

الآية: 7 ( ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين )

 

قوله تعالى: « ومن أظلم » أي لا أحد أظلم « ممن افترى على الله الكذب » تقدم في غير موضع. « وهو يدعى إلى الإسلام » هذا تعجب ممن كفر بعيسى ومحمد بعد المعجزات التي ظهرت لهما. وقرأ طلحة بن مصرف « وهو يدعي » بفتح الياء والدال وشدها وكسر العين، أي ينتسب. ويعي وينتسب سواء. « والله لا يهدي القوم الظالمين » أي من كان في حكمه أنه يختم له بالضلالة.

 

الآية: 8 ( يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون )

 

قوله تعالى: « يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم » الإطفاء هو الإخماد، يستعملان في النار، ويستعملان فيما يجري مجراها من الضياء والظهور. ويفترق الإطفاء والإخماد من وجه؛ وهو أن الإطفاء يستعمل في القليل والكثير، والإخماد إنما يستعمل في الكثير دون القليل؛ فيقال: أطفأت السراج؛ ولا يقال أخمدت السراج. وفي « نور الله » هنا خمسة أقاويل: أحدها: أنه القرآن؛ يريدون إبطاله وتكذيبه بالقول؛ قاله ابن عباس وابن زيد. والثاني: إنه الإسلام؛ يريدون دفعه بالكلام؛ قاله السدي. الثالث: أنه محمد صلى الله عليه وسلم؛ يريدون هلاكه بالأراجيف؛ قاله الضحاك. الرابع: حجج الله ودلائله؛ يريدون إبطالها بإنكارهم وتكذيبهم؛ قال ابن بحر. الخامس: أنه مثل مضروب؛ أي من أراد إطفاء نور الشمس بفيه فوجده مستحيلا ممتنعا فكذلك من أراد إبطال الحق؛ حكاه ابن عيسى. وسبب نزول هذه الآية ما حكاه عطاء عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطأ عليه الوحي أربعين يوما؛ فقال كعب بن الأشرف: يا معشر اليهود، أبشروا! فقد أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه، وما كان ليتم أمره؛ فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية واتصل الوحي بعدها؛ حكى جميعه الماوردي رحمه الله. « والله متم نوره » أي بإظهاره في الآفاق. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم « والله متم نوره » بالإضافة على نية الانفصال؛ كقوله تعالى: « كل نفس ذائقة الموت » [ آل عمران: 185 ] وشبهه، حسب ما تقدم بيانه في « آل عمران » . الباقون « متم نوره » لأنه فيما يستقبل؛ فعمل. « ولو كره الكافرون » من سائر الأصناف.

 

الآية: 9 ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون )

 

قوله تعالى: « هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق » أي محمدا بالحق والرشاد. « ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون » أي بالحجج. ومن الظهور الغلبة باليد في القتال؛ وليس المراد بالظهور ألا يبقى دين آخر من الأديان، بل المراد يكون أهل الإسلام عالين غالبين. ومن الإظهار ألا يبقى دين سوى الإسلام في آخر الزمان. قال مجاهد: وذلك إذا نزل عيسى لم يكن في الأرض دين إلا دين الإسلام. وقال أبو هريرة: « ليظهره على الدين كله » بخروج عيسى. وحينئذ لا يبقى كافر إلا أسلم. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لينزلن ابن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد ) . وقيل: « ليظهره » أي ليطلع محمدا صلى الله عليه وسلم على سائر الأديان؛ حتى يكون عالما بها عارفا بوجوه بطلانها، وبما حرفوا وغيروا منها. « على الدين » أي الأديان؛ لأن الدين مصدر يعبر به عن جمع.

 

الآيات: 10 - 13 ( يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم، تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم، وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين )

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة » قال مقاتل: نزلت في عثمان بن مظعون؛ وذلك أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أذنت لي فطلقت خولة، وترهبت واختصيت وحرمت اللحم، ولا أنام بليل أبدا، ولا أفطر بنهار أبدا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن من سنتي النكاح ولا رهبانية في الإسلام إنما رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله وخصاء أمتي الصوم ولا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم. ومن سنتي أنام وأقوم وأفطر وأصوم فمن رغب عن سنتي فليس منى ) . فقال عثمان: والله لوددت يا نبي الله أي التجارات أحب إلى الله فأتجر فيها؛ فنزلت. وقيل: « أدلكم » أي سأدلكم. والتجارة الجهاد؛ قال الله تعالى: « إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم » [ التوبة: 111 ] الآية. وهذا خطاب لجميع المؤمنين. وقيل: لأهل الكتاب.

 

قوله تعالى: « تنجيكم » أي تخلصكم « من عذاب أليم » أي مؤلم. وقراءة العامة « تنجيكم » بإسكان النون من الإنجاء. وقرأ الحسن وابن عامر وأبو حيوة « تنجيكم » مشددا من التنجية. ثم بين التجارة فقال: « تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم » ذكر الأموال أولا لأنها التي يبدأ بها في الإنفاق. « ذلكم » أي هذا الفعل « خير لكم إن كنتم تعلمون » خير لكم من أموالكم وأنفسكم « إن كنتم تعلمون » . و « تؤمنون » عند المبرد والزجاج في معنى آمنوا، ولذلك جاء « يغفر لكم » مجزوما على أنه جواب الأمر. وفي قراءة عبدالله « آمنوا بالله » وقال الفراء « يغفر لكم » جواب الاستفهام؛ وهذا إنما يصح على الحمل على المعنى؛ وذلك أن يكون « تؤمنون بالله، وتجاهدون » عطف بيان على قوله: « هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم » كأن التجارة لم يدر ما هي؛ فبينت بالإيمان والجهاد؛ فهي هما في المعنى. فكأنه قال: هل تؤمنون بالله وتجاهدون يغفر لكم. الزمخشري: وجه قول الفراء أن متعلق الدلالة هو التجارة والتجارة مفسرة بالإيمان والجهاد. كأنه قيل: هل تتجرون بالإيمان والجهاد يغفر لكم. قال المهدوي: فإن لم تقدر هذا التقدير لم تصح المسألة؛ لأن التقدير يصير إن دللتم يغفر لكم؛ والغفران إنما نعت بالقبول والإيمان لا بالدلالة. قال الزجاج: ليس إذا دلهم على ما ينفعهم يغفر لهم؛ إنما يغفر لهم إذا آمنوا وجاهدوا. وقرأ زيد بن علي « تؤمنوا » ، و « تجاهدوا » على إضمار لام الأمر؛ كقوله:

محمد تَفْدِ نفسَك كلُّ نفس إذا ما خفت من شيء تبالا

أراد لتفد. وأدغم بعضهم فقال: « يغفر لكم » والأحسن ترك الإدغام؛ لأن الراء حرف متكرر قوي فلا يحسن إدغامه في اللام؛ لأن الأقوى لا يدغم في الأضعف.

 

قوله تعالى: « ومساكن طيبة » خرج أبو الحسين الآجري عن الحسن قال: سألت عمران بن الحصين وأبا هريرة عن تفسير هذه الآية « ومساكن طيبة » فقالا: على الخبير سقطت، سألنا رسول الله صلى الله عيله وسلم عنها فقال: ( قصر من لؤلؤة في الجنة فيه سبعون دارا من ياقوتة حمراء في كل دار سبعون بيتا من زبرجدة خضراء في كل بيت سبعون سريرا على كل سرير سبعون فراشا من كل لون على كل فراش سبعون امرأة من الحور العين في كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لونا من الطعام في كل بيت سبعون وصيفا ووصيفة فيعطي الله تبارك وتعالى المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك كله ) . « في جنات عدن » أي إقامة. « ذلك الفوز العظيم » أي السعادة الدائمة الكبيرة. وأصل الفوز الظفر بالمطلوب.

 

قوله تعالى: « وأخرى تحبونها » قال الفراء والأخفش: « أخرى » معطوفة على « تجارة » فهي في محل خفض. وقيل: محلها رفع أي ولكم خصلة أخرى وتجارة أخرى تحبونها « نصر من الله » أي هو نصر من الله؛ فـ « نصر » على هذا تفسير « وأخرى » . وقيل: رفع على البدل من « أخرى » أي ولكم نصر من الله. « وفتح قريب » أي غنيمة في عاجل الدنيا؛ وقيل فتح مكة. وقال ابن عباس: يريد فتح فارس والروم. « وبشر المؤمنين » برضا الله عنهم.

 

الآية: 14 ( يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين )

 

أكد أمر الجهاد؛ أي كونوا حواريي نبيكم ليظهركم الله على من خالفكم كما أظهر حواريي عيسى على من خالفهم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع « أنصارا لله » بالتنوين. قالوا: لأن معناه اثبتوا وكونوا أعوانا لله بالسيف على أعدائه وقرأ الباقون من أهل البصرة والكوفة والشام « أنصار الله » بلا تنوين؛ وحذفوا لام الإضافة من اسم الله تعالى. واختاره أبو عبيدة لقوله: « نحن أنصار الله » ولم ينون؛ ومعناه كونوا أنصارا لدين الله. ثم قيل: في الكلام إضمار؛ أي قل لهم يا محمد كونوا أنصار الله. وقيل: هو ابتداء خطاب من الله؛ أي كونوا أنصارا كما فعل أصحاب عيسى فكانوا بحمد الله أنصارا وكانوا حواريين. والحواريون خواص الرسل. قال معمر: كان ذلك بحمد الله؛ أي نصروه وهم سبعون رجلا، وهم الذين بايعوه ليلة العقبة. وقيل: هم من قريش. وسماهم قتادة: أبا بكر وعمر وعلي وطلحة والزبير وسعد بن مالك وأبا عبيدة - واسمه عامر - وعثمان بن مظعون وحمزة بن عبدالمطلب؛ ولم يذكر سعيدا فيهم، وذكر جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.

 

قوله تعالى: « كما قال عيسى ابن مريم للحواريين » وهم أصفياؤه اثنا عشر رجلا، وقد مضت أسماؤهم في « آل عمران » ، وهم أول من آمن به من بني إسرائيل، قال ابن عباس. وقال مقاتل: قال الله لعيسى إذا دخلت القرية فأت النهر الذي عليه القصارون فاسألهم النصرة، فأتاهم عيسى وقال: من أنصاري إلى الله؟ قالوا: نحن ننصرك. فصدقوه ونصروه. « من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله » أي من أنصاري مع الله، كما تقول: الذود إلى الذود إبل، أي مع الذود. وقيل: أي من أنصاري فيما يقرب إلى الله. « قال الحواريون نحن أنصار الله » وقد مضى هذا في آل عمران « » فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة « والطائفتان في زمن عيسى افترقوا بعد رفعه إلى السماء، على ما تقدم في « آل عمران » بيانه. » فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين « » فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم « الذين كفروا بعيسى. » فأصبحوا ظاهرين « أي غالبين. قال ابن عباس: أيد الله الذين آمنوا في زمن عيسى بإظهار محمد على دين الكفار. وقال مجاهد: أيدوا في زمانهم على من كفر بعيسى. وقيل أيدنا الآن المسلمين على الفرقتين الضالتين، من قال كان الله فارتفع، ومن قال كان ابن الله فرفعه الله إليه؛ لأن عيسى ابن مريم لم يقاتل أحدا ولم يكن في دين أصحابه بعده قتال. وقال زيد بن علي وقتادة: » فأصبحوا ظاهرين « غالبين بالحجة والبرهان؛ لأنهم قالوا فيما روي: ألستم تعلمون أن عيسى كان ينام والله لا ينام، وأن عيسى كان يأكل والله تعالى لا يأكل!. وقيل: نزلت هذه الآية في رسل عيسى عليه الصلاة والسلام. قال ابن إسحاق: وكان الذي بعثهم عيسى من الحواريين والأتباع فطرس وبولس إلى رومية، واندراييس ومشى إلى الأرض التي يأكل أهلها الناس. وتوماس إلى أرض بابل من أرض المشرق. وفيلبس إلى قرطاجنة وهي أفريقية. ويحنس إلى دقسوس قرية أهل الكهف. ويعقوبس إلى أورشليم وهي بيت المقدس، وابن تلما إلى العرابية وهي أرض الحجاز. وسيمن إلى أرض البربر. ويهودا وبردس إلى الإسكندرية وما حولها. فأيدهم الله بالحجة. » فأصبحوا ظاهرين « أي عالين؛ من قولك: ظهرت على الحائط أي علوت عليه. والله سبحانه وتعالى اعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.»

 

سورة الجمعة

مقدمة السورة

 

مدنية في قول الجميع، وهي إحدى عشرة آية. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة ) . وعنه قال: قال رسول الله: ( نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ونحن أول من يدخل الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب بن قبلنا وأوتيناه من بعدهم فاختلفوا فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه هدانا الله له - قال - يوم الجمعة فاليوم لنا وغدا لليهود وبعد غد للنصارى ) .

 

الآية: 1 ( يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم )

 

تقدم الكلام فيه. وقرأ أبو العالية ونصر بن عاصم « الملك القدوس العزيز الحكيم » كلها رفعا؛ أي هو الملك.

 

الآية: 2 ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين )

 

قوله تعالى: « هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم » قال ابن عباس: الأميون العرب كلهم، من كتب منهم ومن لم يكتب، لأنهم لم يكونوا أهل كتاب. وقيل: الأميون الذين لا يكتبون. وكذلك كانت قريش. وروى منصور عن إبراهيم قال: الأمي الذي يقرأ ولا يكتب. وقد مضى في « البقرة » . « رسولا منهم » يعني محمدا صلى الله عليه وسلم. وما من حي من العرب إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة وقد ولدوه. قال ابن إسحاق: إلا حي تغلب؛ فإن الله تعالى طهر نبيه صلى الله عليه وسلم منهم لنصرانيتهم، فلم يجعل لهم عليه ولادة. وكان أميا لم يقرأ من كتاب ولم يتعلم صلى الله عليه وسلم. قال الماوردي: فإن قيل ما وجه الامتنان فإن بعث نبيا أميا؟ فالجواب عنه من ثلاثة أوجه: أحدها: لموافقته ما تقدمت به بشارة الأنبياء. الثاني: لمشاكلة حال لأحوالهم، فيكون أقرب إلى موافقتهم. الثالث: لينتفي عنه سوء الظن في تعليمه ما دعا إليه من الكتب التي قرأها والحكم التي تلاها.

قلت: وهذا كله دليل معجزته وصدق نبوته.

 

قوله تعالى: « يتلو عليهم آياته » يعني القرآن « ويزكيهم » أي يجعلهم أزكياء القلوب بالإيمان؛ قاله ابن عباس. وقيل: يطهرهم من دنس الكفر والذنوب؛ قاله ابن جريج ومقاتل. وقال السدي: يأخذ زكاة أموالهم « ويعلمهم الكتاب » يعني القرآن « والحكمة » السنة؛ قال الحسن. وقال ابن عباس: « الكتاب » الخط بالقلم؛ لأن الخط فشا في العرب بالشرع لما أمروا بتقييده بالخط. وقال مالك بن أنس: « الحكمة » الفقه في الدين. وقد مضى القول في هذا في « البقرة » . « وإن كانوا من قبل » أي من قبله وقبل أن يرسل إليهم. « لفي ضلال مبين » أي في ذهاب عن الحق.

 

الآية: 3 ( وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم )

 

قوله تعالى: « وآخرين منهم » هو عطف على « الأميين » أي بعث في الأميين وبعث في آخرين منهم. ويجوز أن يكون منصوبا بالعطف على الهاء والميم في « يعلمهم ويزكيهم » ؛ أي يعلمهم ويعلم آخرين من المؤمنين؛ لأن التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمان كان كله مسندا إلى أوله فكأنه هو الذي تولى كل ما وجد منه. « لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم » أي لم يكونوا في زمانهم وسيجيؤون بعدهم. قال ابن عمرو سعيد بن جبير: هم العجم. وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نزلت عليه سورة « الجمعة » فلما قرأ « وآخرين منهم لما يلحقوا بهم » قال رجل: من هؤلاء يا رسول الله؟ فلم يراجعه النبي صلى الله عليه وسلم حتى سأله مرة أو مرتين أو ثلاثا. قال وفينا سلمان الفارسي. قال: فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على سلمان ثم قال: ( لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء ) . في رواية ( لو كان الدين عند الثريا لذهب به رجل من فارس - أو قال - من أبناء فارس حتى يتناوله لفظ مسلم. وقال عكرمة: هم التابعون. مجاهد: هم الناس كلهم؛ يعني من بعد العرب الذين بعث فيهم محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن زيد ومقاتل بن حيان. قالا: هم من دخل في الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة. وروى سهل بن سعد الساعدي: أن النبي صل الله عليه وسلم قال: ( إن في أصلاب أمتي رجالا ونساء يدخلون الجنة بغير حساب - ثم تلا - « وآخرين منهم لما يلحقوا بهم » . والقول الأول أثبت. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( رأيتني أسقي غنما سودا ثم اتبعتها غنما عفرا أولها يا أبا بكر ) فقال: يا رسول الله، أما السود فالعرب، وأما الغفر فالعجم تتبعك بعد العرب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كذا أولها الملك ) يعني جبريل عليه السلام. رواه ابن أبي ليلى عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

 

الآية: 4 ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم )

 

قال ابن عباس: حيث ألحق العجم بقريش. يعني الإسلام، فضل الله يؤتيه من يشاء؛ قال الكلبي. وقيل: يعني الوحي والنبوة؛ قاله مقاتل. وقول رابع: إنه المال ينفق في الطاعة؛ وهو معنى قول أبي صالح. وقد روى مسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلا والنعيم المقيم. فقال: ( وما ذاك ) ؟ قالوا: يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون ولا نتصدق ويعتقون ولا نعتق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم ) قالوا: بلى يا رسول الله؛ قال: ( تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة ) . قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فلعنا ففعلوا مثله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) . وقول خامس: أنه انقياد الناس إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم ودخولهم في دينه ونصرته. والله اعلم.

 

الآية: 5 ( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين )

 

ضرب مثلا لليهود لما تركوا العمل بالتوراة ولم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم. « حملوا التوراة » أي كلفوا العمل بها؛ عن ابن عباس. وقال الجرجاني: هو من الحمالة بمعنى الكفالة؛ أي ضمنوا أحكام التوراة. « كمثل الحمار يحمل أسفارا » هي جمع سفر، وهو الكتاب الكبير؛ لأنه يسفر عن المعنى إذا قرئ. قال ميمون بن مهران: الحمار لا يدري أسفر على ظهره أم زبيل؛ فهكذا اليهود. وفي هذا تنبيه من الله تعالى لمن حمل الكتاب أن يتعلم معانيه ويعلم ما فيه؛ لئلا يلحقه من الذم ما لحق هؤلاء. وقال الشاعر:

زوامل للأسفار لا علم عندهم بجيدها إلا كعلم الأباعر

لعمرك ما يدري البعير إذا غدا بأوساقه أوراح ما في الغرائر

وقال يحيى بن يمان: يكتب أحدهم الحديث ولا يتفهم ولا يتدبر، فإذا سئل أحدهم عن مسألة جلس كأنه مكاتب. وقال الشاعر:

إن الرواة على جهل بما حملوا مثل الجمال عليها يحمل الودع

لا الودع ينفعه حمل الجمال له ولا الجمال بحمل الودع تنتفع

وقال منذر بن سعيد البلوطي رحمه الله فأحسن:

انعق بما شئت تجد أنصارا وزم أسفارا تجد حمارا

يحمل ما وضعت من أسفار يحمله كمثل الحمار

يحمل أسفارا له وما درى إن كان ما فيها صوابا وخطا

إن سئلوا قالوا كذا روينا ما إن كذبنا ولا اعتدينا

كبيرهم يصغر عند الحفل لأنه قلد أهل الجهل

« ثم لم يحملوها » أي لم يعملوا بها. شبههم - والتوراة في أيديهم وهم لا يعملون بها - بالحمار يحمل كتبا وليس له إلا ثقل الحمل من غير فائدة. و « يحمل » في موضع نصب على الحال؛ أي حاملا. ويجوز أن يكون في موضع جر على الوصف؛ لأن الحمار كاللئيم. قال:

ولقد أمر على اللئيم يسبني

« بئس مثل القوم » المثل الذي ضربناه لهم؛ فحذف المضاف. « والله لا يهدي القوم الظالمين » أي من سبق في علمه أنه يكون كافرا.

 

الآيات: 6 - 7 ( قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين، ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين )

 

لما ادعت اليهود الفضيلة وقالوا: « نحن أبناء الله وأحباؤه » [ المائدة: 18 ] قال الله تعالى: « إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس » فللأولياء عند الله الكرامة. « فتمنوا الموت إن كنتم صادقين » لتصيروا إلى ما يصير إليه أولياء الله « ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم » أي أسلفوه من تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم؛ فلو تمنوه لماتوا؛ فكان في ذلك بطلان قولهم وما ادعوه من الولاية. وفي حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت هذه الآية: ( والذي نفس محمد بيده لو تمنوا الموت ما بقي على ظهرها يهودي إلا مات ) . وفي هذا إخبار عن الغيب، ومعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم. وقد مضى معنى هذه الآية في « البقرة » في قوله تعالى - : « قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين » [ البقرة: 94 ] .

 

الآية: 8 ( قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون )

 

قال الزجاج: لا يقال: إن زيدا فمنطلق، وها هنا قال: « فإنه ملاقيكم » لما في معنى « الذي » من الشرط والجزاء، أي إن فررتم منه فإنه ملاقيكم، ويكون مبالغة في الدلالة على أنه لا يفنع الفرار منه. قال زهير:

ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ولو رام أسباب السماء بسلم

قلت: ويجوز أن يتم الكلام عند قوله: « الذي تفرون منه » ثم يبتدئ « فإنه ملاقيكم » . وقال طرفة:

وكفى بالموت فاعلم واعظا لمن الموت عليه قد قدر

فاذكر الموت وحاذر ذكره إن في الموت لذي اللب عبر

كل شيء سوف يلقى حتفه في مقام أو على ظهر سفر

والمنايا حوله ترصده ليس ينجيه من الموت الحذر

 

الآية: 9 ( يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون )

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة » قرأ عبدالله بن الزبير والأعمش وغيرهما « الجمعة » بإسكان الميم على التخفيف. وهما لغتان. وجمعهما جمع وجمعات. قال الفراء: يقال الجمعة ( بسكون الميم ) والجمعة ( بضم الميم ) والجمعة ( بفتح الميم ) فيكون صفة اليوم؛ أي تجمع الناس. كما يقال: ضحكة للذي يضحك. وقال ابن عباس: نزل القرآن بالتثقيل والتفخيم فاقرؤوها جمعة؛ يعني بضم الميم. وقال الفراء وأبو عبيد: والتخفيف أقيس وأحسن؛ نحو غرفة وغرف، وطرفة وطرف، وحجرة وحجر. وفتح الميم لغة بني عقيل. وقيل: إنها لغة النبي صلى الله عليه وسلم. وعن سلمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما سميت جمعة لأن الله جمع فيها خلق آدم ) . وقيل: لأن الله تعالى فرغ فيها من خلق كل شيء فاجتمعت فيها المخلوقات. وقيل: لتجتمع الجماعات فيها. وقيل: لاجتماع الناس فيها للصلاة. و « من » بمعنى « في » ؛ أي في يوم؛ كقوله تعالى: « أروني ماذا خلقوا من الأرض » [ فاطر: 40 ] أي في الأرض.

 

قال أبو سلمة: أول من قال: « أما بعد » كعب بن لوي، وكان أول من سمى الجمعة جمعة. وكان يقال ليوم الجمعة: العروبة. وقيل: أول من سماها جمعة الأنصار. قال ابن سيرين: جمع أهل المدينة من قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وقبل أن تنزل الجمعة؛ وهم الذين سموها الجمعة؛ وذلك أنهم قالوا: إن لليهود يوما يجتمعون فيه، في كل سبعة أيام يوم وهو السبت. وللنصارى يوم مثل ذلك وهو الأحد فتعالوا فلنجتمع حتى نجعل يوما لنا نذكر الله ونصلي فيه - ونستذكر - أو كما قالوا - فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى؛ فاجعلوه يوم العروبة. فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة ( أبو أمامة رضي الله عنه ) فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم، فسموه يوم الجمعة حين اجتمعوا. فذبح لهم أسعد شاة فتعشوا وتغدوا منها لقلتهم. فهذه أول جمعه في الإسلام.

قلت: وروي أنهم كانوا اثني عشر رجلا على ما يأتي. وجاء في هذه الرواية: أن الذي جمع بهم وصلى أسعد بن زرارة، وكذا في حديث عبدالرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه كعب على ما يأتي. وقال البيهقي: وروينا عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب الزهري أن مصعب بن عمير كان أول من جمع الجمعة بالمدينة للمسلمين قبل أن يقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال البيهقي: يحتمل أن يكون مصعب جمع بهم بمعونة أسعد بن زرارة فأضافه كعب إليه. والله اعلم.

وأما أول جمعة جمعها النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه؛ فقال أهل السير والتواريخ: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرا حتى نزل بقباء، على بني عمرو بن عوف يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول حين اشتد الضحى. ومن تلك السنة يعد التاريخ. فأقام بقباء إلى يوم الخميس وأسس مسجدهم. ثم خرج يوم الجمعة إلى المدينة؛ فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم قد اتخذ القوم في ذلك الموضع مسجدا؛ فجمع بهم وخطب. وهي أول خطبة خطبها بالمدينة، وقال فيها: ( الحمد لله. أحمده وأستعينه وأستغفره وأستهديه، وأأمن به ولا أكفره، وأعادي من يكفر به. واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسول، أرسله بالهدى ودين الحق، والنور والموعظة والحكمة على فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان، ودنو من الساعة، وقرب من الأجل. من يطيع الله ورسوله فقد رشد. ومن يعص الله ورسول فقد غوى وفرط وضل ضلالا بعيدا. أوصيكم بتقوى الله، فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله. واحذروا ما حذركم الله من نفسه؛ فإن تقوى الله لمن عمل به على وجل ومخافة من ربه عون صدق على ما تبغون من أمر الآخرة. ومن يصلح الذي بينه وبين ربه من أمره في السر والعلانية، لا ينوي به إلا وجه الله يكن له ذكرا في عاجل أمره، وذخرا فيما بعد الموت، حين يفتقر المرء إلى ما قدم. وما كان مما سوى ذلك يود لو أن بينه وبينه أمدا بعيدا. « ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد » [ آل عمران: 30 ] . وهو الذي صدق قول، وأنجز وعده، لا خلف لذلك؛ فإنه يقول تعالى: « ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد » [ ق: 29 ] . فاتقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السر والعلانية؛ فإنه « ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا » [ الطلاق: 5 ] . ومن يتق الله فقد فاز فوزا عظيما. وإن تقوى الله توقي مقته وتوقي عقوبته وتوقي سخطه. وإن تقوى الله تبيض الوجوه، وترضي الرب، وترفع الدرجة. فخذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله، فقد علمكم كتابه، ونهج لكم سبيله؛ ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين. فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه، وجاهدوا في الله حق جهاده؛ هو اجتباكم وسماكم المسلمين. ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة. ولا حول ولا قوة إلا بالله. فأكثروا ذكر الله تعالى، واعملوا لما بعد الموت؛ فإنه من يصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس. ذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه. الله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ) . وأول جمعة جمعت بعدها جمعة بقرية يقال لها: « جواثي » من قرى البحرين. وقيل: إن أول من سماها الجمعة كعب بن لؤي بن غالب لاجتماع قريش فيه إلى كعب؛ كما تقدم. والله اعلم.

 

خاطب الله المؤمنين بالجمعة دون الكافرين تشريفا لهم وتكريما فقال: « يا أيها الذين آمنوا » ثم خصه بالنداء، وإن كان قد دخل في عموم قوله تعالى: « وإذا ناديتم إلى الصلاة » [ المائدة: 58 ] ليدل على وجوبه وتأكيد فرضه. وقال بعض العلماء: كون الصلاة الجمعة ها هنا معلوم بالإجماع لا من نفس اللفظ. قال ابن العربي: وعندي أنه معلوم من نفس اللفظ بنكتة وهي قوله: « من يوم الجمعة » وذلك يفيده؛ لأن النداء الذي يختص بذلك اليوم هو نداء تلك الصلاة. فأما غيرها فهو عام في سائر الأيام. ولو لم يكن المراد به نداء الجمعة لما كان لتخصيصه بها وإضافته إليها معنى ولا فائدة.

 

فقد تقدم حكم الأذان في سورة « المائدة » مستوفى. وقد كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في سائر الصلوات؛ يؤذن واحد إذا جلس النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر. وكذلك كان يفعل أبو بكر وعمر وعلي بالكوفة. ثم زاد عثمان على المنبر أذانا ثالثا على داره التي تسمى « الزوراء » حين كثر الناس بالمدينة. فإذا سمعوا أقبلوا؛ حتى إذا جلس عثمان على المنبر أذن مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يخطب عثمان. خرجه ابن ماجة في سننه من حديث محمد بن إسحاق عن الزهري عن السائب بن يزيد قال: ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مؤذن واحد؛ إذا خرج أذن وإذا نزل أقام. وأبو بكر وعمر كذلك. فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على دار في السوق يقال لها « الزوراء » ؛ فإذا خرج أذن وإذا نزل أقام. خرجه البخاري من طرق بمعناه. وفي بعضها: أن الأذان الثاني يوم الجمعة أمر به عثمان بن عفان حين كثر أهل المسجد، وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام. وقال الماوردي: فأما الأذان الأول فمحدث، فعله عثمان بن عفان ليتأهب الناس لحضور الخطبة عند اتساع المدينة وكثرة أهلها. وقد كان عمر رضي الله عنه أمر أن يؤذن في السوق قبل المسجد ليقوم الناس عن بيوعهم، فإذا اجتمعوا أذن في المسجد، فجعله عثمان رضي الله عنه أذانين في المسجد. قال ابن العربي. وفي الحديث الصحيح: أن الأذان كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا، فلما كان زمن عثمان زاد الأذان الثالث على الزوراء، وسماه في الحديث ثالثا لأنه أضافه إلى الإقامة، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( بين كل أذانين صلاة لمن شاء ) يعني الأذان والإقامة. ويتوهم الناس أنه أذان أصلي فجعلوا المؤذنين ثلاثة فكان وهما، ثم جمعوهم في وفت واحد فكان وهما على وهم. ورأيتهم يؤذنون بمدينة السلام بعد أذان المنار بين يدي الإمام تحت المنبر في جماعة.، كما كانوا يفعلون عندنا في الدول الماضية. وكل ذلك محدث.

 

قوله تعالى: « فاسعوا » اختلف في معنى السعي ها هنا على ثلاثة أقوال: أولها: القصد. قال الحسن: والله ما هو بسعي على الأقدام ولكنه سعي بالقلوب والنية. الثاني: أنه العمل، كقوله تعالى: « ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن » [ الإسراء: 19 ] ، وقوله: « إن سعيكم لشتى » [ الليل: 4 ] ، وقوله: « وأن ليس للإنسان إلا ما سعى » [ النجم: 39 ] . وهذا قول الجمهور. وقال زهير:

سعى بعدهم قوم لكي يدركوهم

وقال أيضا:

وسعى ساعيا غيظ بن مرة بعدما تبزل ما بين العشيرة بالدم

أي فاعملوا على المضى إلى ذكر الله، واشتغلوا بأسبابه من الغسل والتطهير والتوجه إليه. الثالث: أن المراد به السعي على الأقدام. وذلك فضل وليس بشرط. ففي البخاري: أن أبا عبس بن جبر - واسمه عبدالرحمن وكان من كبار الصحابة - مشى إلى الجمعة راجلا وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من أغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار ) . ويحتمل ظاهره رابعا: وهو الجري والاشتداد. قال ابن العربي: وهو الذي أنكره الصحابة الأعلمون والفقهاء الأقدمون. وقرأها عمر: « فامضوا إلى ذكر الله » فرارا عن طريق الجري والاشتداد الذي يدل على الظاهر. وقرأ ابن مسعود كذلك وقال: لو قرأت « فاسعوا » لسعيت حتى يسقط ردائي. وقرأ ابن شهاب: « فامضوا إلى ذكر الله سالكا تلك السبيل » . وهو كله تفسير منهم؛ لا قراءة قرآن منزل. وجائز قراءة القرآن بالتفسير في معرض التفسير. قال أبو بكر الأنباري: وقد احتج من خالف المصحف بقراءة عمر وابن مسعود، وأن خرشة بن الحر قال: رأني عمر رضي الله عنه ومعي قطعة فيها « فاسعوا إلى ذكر الله » فقال لي عمر: من أقرأك هذا؟ قلت أبي. فقال: إن أبيا أقرؤنا للمنسوخ. ثم قرأ عمر « فامضوا إلى ذكر الله » . حدثنا إدريس قال حدثنا خلف قال حدثنا هشيم عن المغيرة عن إبراهيم عن خرشة؛ فذكره. وحدثنا محمد بن يحيى أخبرنا محمد وهو ابن سعدان قال حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: ما سمعت عمر يقرأ قط إلا « فامضوا إلى ذكر الله » . وأخبرنا إدريس قال حدثنا خلف قال حدثنا هشيم عن المغيرة عن إبراهيم أن عبدالله بن مسعود قرأ « فامضوا إلى ذكر الله » وقال: لو كانت « فاسعوا » لسعيت حتى يسقط ردائي. قال أبو بكر: فاحتج عليه بأن الأمة أجمعت على « فاسعوا » برواية ذلك عن الله رب العالمين ورسول صلى الله عليه وسلم. فأما عبدالله بن مسعود فما صح عنه « فامضوا » لأن السند غير متصل؛ إذ إبراهيم النخعي لم يسمع عن عبدالله بن مسعود شيئا، وإنما ورد « فأمضوا » عن عمر رضي الله عنه. فإذا انفرد أحد بما يخالف الآية والجماعة كان ذلك نسيانا منه. والعرب مجمعة على أن السعي يأتي بمعنى المضي؛ غير أنه لا يخلو من الجد والانكماش. قال زهير:

سعى ساعيا غيظ بن مرة بعد ما تبزل ما بين العشيرة بالدم

أراد بالسعي المضى بجد وانكماش، ولم يقصد للعدو والإسراع في الخطو. وقال الفراء وأبو عبيدة: معنى السعي في الآية المضي. واحتج الفراء بقولهم: هو يسعى في البلاد يطلب فضل الله؛ معناه هو يمضى بجد واجتهاد. واحتج أبو عبيدة بقول الشاعر:

أسعى على جل بني مالك كل امرئ في شأنه ساعي

فهل يحتمل السعي في هذا البيت إلا مذهب المضى بالانكماش؛ ومحال أن يخفى هذا المعنى على ابن مسعود على فصاحته وإتقان عربيته. قلت: ومما يدل على أنه ليس المراد ها هنا العدو قوله عليه الصلاة والسلام: ( إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون ولكن ائتوها وعليكم السكينة ) . قال الحسن: أما والله ما هو بالسعي على الأقدام، ولقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار؛ ولكن بالقلوب والنية والخشوع. وقال قتادة: السعي أن تسعى بقلبك وعملك. وهذا حسن، فإنه جمع الأقوال الثلاثة. وقد جاء في الاغتسال للجمعة والتطيب والتزين باللباس أحاديث مذكورة في كتب الحديث.

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا » خطاب المكلفين بإجماع. ويخرج منه المرضى والزمني والمسافرون والعبيد والنساء بالدليل، والعميان والشيخ الذي لا يمشي إلا بقائد عند أبي حنيفة. روى أبو الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة إلا مريض أو مسافر أو امرأة أو صبي أو مملوك فمن استغنى بلهو أو تجارة استغنى الله عنه والله غني حميد ) خرجه الدارقطني وقال علماؤنا رحمهم الله: ولا يتخلف أحد عن الجمعة ممن عليه إتيانها إلا بعذر لا يمكنه منه الإتيان إليها؛ مئل المرض الحابس، أو خوف الزيادة في المرض، أو خوف جور السلطان عليه في مال أو بدن دون القضاء عليه بحق. والمطر الوابل مع الوحل عذر إن لم ينقطع. ولو يره مالك عذرا له؛ حكاه المهدوي. ولو تخلف عنها متخلف على ولي حميم له قد حضرته الوفاة، ولم يكن عنده من يقوم بأمره رجا أن يكون في سعة. وقد فعل ذلك ابن عمر. ومن تخلف عنها لغير عذر فصلى قبل الإمام أعاد، ولا يجزيه أن يصلي قبله. وهو في تخلفه عنها مع إمكانه لذلك عاص لله بفعله.

 

قوله تعالى: « إذا نودي للصلاة » يختص بوجوب الجمعة على القريب الذي يسمع النداء، فأما البعيد الدار الذي لا يسمع النداء فلا يدخل تحت الخطاب. واختلف فيمن يأتي الجمعة من الداني والقاصي، فقال ابن عمر وأبو هريرة وأنس: تجب الجمعة على من في المصر على ستة أميال. وقال ربيعة: أربعة أميال. وقال مالك والليث: ثلاثة أميال. وقال الشافعي: اعتبار سماع الأذان أن يكون المؤذن صيتا، والأصوات هادئة، والريح ساكنة وموقف المؤذن عند سور البلد. وفي الصحيح عن عائشة: أن الناس كانوا ينتابون الجمعة من منازلهم ومن العوالي فيأتون في الغبار ويصيبهم الغبار فتخرج منهم الريح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لو اغتسلتم ليومكم هذا ) قال علماؤنا: والصوت إذا كان منيعا والناس في هدوء وسكون فأقصى سماع الصوت ثلاثة أميال. والعوالي من المدينة أقربها على ثلاثة أميال. وقال أحمد بن حنبل وإسحاق: تجب الجمعة على من سمع النداء. وروى الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما الجمعة على من سمع النداء ) . وقال أبو حنيفة وأصحابه: تجب على من في المصر، سمع النداء أو لم يسمعه، ولا تجب على من هو خارج المصر وإن سمع النداء. حتى سئل: وهل تجب الجمعة على أهل زبارة - بينها وبين الكوفة مجرى نهر - ؟ فقال لا. وروي عن ربيعه أيضا: أنها تجب على من إذا سمع النداء وخرج من بيته ماشيا أدرك الصلاة. وقد روي عن الزهري: أنها تجب عليه إذا سمع الأذان.

 

قوله تعالى: « إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله » دليل على أن الجمعة لا تجب إلا بالنداء، والنداء لا يكون إلا بدخول الوقت، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: ( إذا حضرت الصلاة فأذنا ثم أقيما وليومكما أكبركما ) قاله لمالك بن الحويرث وصاحبه. وفي البخاري عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس. وقد روي عن أبي الصديق وأحمد بن حنبل أنها تصلي قبل الزوال. وتمسك أحمد في ذلك بحديث سلمة بن الأكوع: كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم ننصرف وليس للحيطان ظل. وبحديث ابن عمر: ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة. ومثله عن سهل. خرجه مسلم. وحديث سلمة محمول على التبكير. رواه هشام بن عبدالملك عن يعلي بن الحارث عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه. وروى وكيع عن يعلي عن إياس عن أبيه قال: كنا نجمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفيء. وهذا مذهب الجمهور من الخلف والسلف، وقياسا على صلاة الظهر. وحديث ابن عمر وسهل، دليل على أنهم كانوا يبكرون إلى الجمعة تبكيرا كثيرا عند الغداة أو قبلها، فلا يتناولون ذلك إلا بعد انقضاء الصلاة. وقد رأى مالك أن التبكير بالجمعة إنما يكون قرب الزوال بيسير. وتأول قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة... ) الحديث بكماله إنه كان في ساعة واحدة. وحمله سائر العلماء على ساعات النهار الزمانية الاثنتي عشرة ساعة المستوية أو المختلفة بحسب زيادة النهار ونقصانه. ابن العربي: وهو أصح؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: ما كانوا يقيلون ولا يتغدون إلا بعد الجمعة لكثرة البكور إليها.

 

فرض الله تعالى الجمعة على كل مسلم؛ ردا على من يقول: إنها فرض على الكفاية؛ ونقل عن بعض الشافعية. ونقل عن مالك من لم يحقق: أنها سنة. وجمهور الأمة والأئمة أنها فرض على الأعيان؛ لقول الله تعالى: « إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع » . وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين ) . وهذا حجة واضحة في وجوب الجمعة وفرضيتها. وفي سنن ابن ماجة عن أبي الجعد الضمري - وكانت له صحبة - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من ترل الجمعة ثلاث مرات تهاونا بها طبع الله على قلبه ) . إسناده صحيح. وحديث جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من ترك الجمعة ثلاثا من غير ضرورة طبع الله على قلبه ) . ابن العربي: وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الرواح إلى الجمعة واجب على كل مسلم ) .

 

أوجب الله السعي إلى الجمعة مطلقا من غير شرط. وثبت شرط الوضوء بالقرآن والسنة في جميع الصلوات؛ لقوله عز وجل: « إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم » [ المائدة: 6 ] الآية. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يقبل الله صلاة بغير طهور ) . وأغربت طائفة فقالت: إن غسل الجمعة فرض. ابن العربي: وهذا باطل؛ لما روى النسائي وأبو داود في سننهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت. ومن اغتسل فالغسل أفضل ) . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من توضأ يوم الجمعة فأحسن الوضوء ثم راح إلى الجمعة فاستمع وأنصت غفر الله له ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام. ومن مس الحصى فقد لغا ) وهذا نص. وفي الموطأ: أن رجلا دخل يوم الجمعة وعمر بن الخطاب يخطب... - الحديث إلى أن قال: - ما زدت على أن توضأت، فقال عمر: والوضوء أيضا؟ وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل. فأمر عمر بالغسل ولم يأمره بالرجوع، فدل على أنه محمول على الاستحباب. فلم يمكن وقد تلبس بالفرض - وهو الحضور والإنصات للخطبة - أن يرجع عنه إلى السنة، وذلك بمحضر فحول الصحابة وكبار المهاجرين حوالي عمر، وفي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. الحادية عشرة: لا تسقط الجمعة لكونها في يوم عيد، خلافا لأحمد بن حنبل فإنه قال: إذا اجتمع عيد وجمعة سقط فرض الجمعة؛ لتقدم العيد عليها واشتغال الناس به عنها. وتعلق في ذلك بما روي أن عثمان أذن في يوم عيد لأهل العوالي أن يتخلفوا عن الجمعة. وقول الواحد من الصحابة ليس بحجة إذا خولف فيه ولم يجمع معه عليه. والأمر بالسعي متوجه يوم العيد كتوجهه في سائر الأيام. وفي صحيح مسلم عن النعمان بن بشير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة: بـ « سبح اسم ربك الأعلى » [ الأعلى. 1 ] و « هل أتاك حديث الغاشية » [ الغاشية: 1 ] قال وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما أيضا في الصلاتين. أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة.

 

قوله تعالى: « إلى ذكر الله » أي الصلاة. وقيل الخطبة والمواعظ؛ قاله سعيد بن جبير. ابن العربي: والصحيح أنه واجب في الجميع؛ وأول الخطبة. وبه قال علماؤنا؛ إلا عبدالملك بن الماجشون فإنه رآها سنة. والدليل على وجوبها أنها تحرم البيع ولولا وجوبها ما حرمته؛ لأن المستحب لا يحرم المباح. وإذا قلنا: إن المراد بالذكر الصلاة فالخطبة من الصلاة. والعبد يكون ذاكرا لله بفعله كما يكون مسبحا لله بفعله. الزمخشري: فإن قلت: كيف يفسر ذكر الله بالخطبة وفيها غير ذلك! قلت: ما كان من ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم والثناء عليه وعلى خلفائه الراشدين وأتقياء المؤمنين والموعظة والتذكير فهو في حكم ذكر الله. فأما ما عدا ذلك من ذكر الظلمة وألقابهم والثناء عليهم والدعاء لهم، وهم أحقاء بعكس ذلك؛ فهو من ذكر الشيطان، وهو من ذكر الله على مراحل.

 

قوله تعالى: « وذروا البيع » منع الله عز وجل منه عند صلاة الجمعة، وحرمه في وقتها على من كان مخاطبا بفرضها. والبيع لا يخلو عن شراء فاكتفى بذكر أحدهما، كقوله تعالى: « سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم » [ النحل: 81 ] . وخص البيع لأنه أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق. ومن لا يجب عليه حضور الجمعة فلا ينهى عن البيع والشراء. وفي وقت التحريم قولان: إنه من بعد الزوال إلى الفراغ منها، قاله الضحاك والحسن وعطاء. الثاني - من وقت أذان الخطبة إلى وقت الصلاة، قال الشافعي. ومذهب مالك أن يترك البيع إذا نودي للصلاة، ويفسخ عنده ما وقع من ذلك من البيع في ذلك الوقت. ولا يفسخ العتق والنكاح والطلاق وغيره، إذ ليس من عادة الناس الاشتغال به كاشتغالهم بالبيع. قالوا: وكذلك الشركة والهبة والصدقة نادر لا يفسخ. ابن العربي: والصحيح فسخ الجميع، لأن البيع إنما منع منه للاشتغال به. فكل أمر يشغل عن الجمعة من العقود كلها فهو حرام شرعا مفسوخ ردعا. المهدوي. ورأى بعض العلماء البيع في الوقت المذكور جائزا، وتأول النهي عنه ندبا، واستدل بقوله تعالى: « ذلكم خير لكم »

قلت: وهذا مذهب الشافعي؛ فإن البيع ينعقد عنده ولا يفسخ. وقال الزمخشري في تفسير: إن عامة العلماء على أنه ذلك لا يؤدي فساد البيع. قالوا: لأن البيع لم يحرم لعينه، ولكن لما فيه من الذهول عن الواجب؛ فهو كالصلاة في الأرض المغصوبة والثوب المغصوب، والوضوء بماء مغصوب. وعن بعض الناس أنه فاسد.

قلت: والصحيح فساده وفسخه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ( كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد ) . أي مردود. والله اعلم.

 

الآية: 10 ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون )

 

قوله تعالى: « فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض » هذا أمر إباحة؛ كقوله تعالى: « وإذا حللتم فاصطادوا » [ المائدة: 2 ] . يقول: إذا فرغتم من الصلاة فانتشروا في الأرض للتجارة والتصرف في حوائجكم. « وابتغوا من فضل الله » أي من رزقه. وكان عراك بن مالك إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: اللهم إني أجبت دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين. وقال جعفر بن محمد في قوله تعالى: « وابتغوا من فضل الله » إنه العمل في يوم السبب. وعن الحسن بن سعيد بن المسيب: طلب العمل. وقيل: التطوع. وعن ابن عباس: لم يؤمروا بطلب شيء من الدنيا؛ إنما هو عيادة المرضى وحضور الجنائز وزيارة الأخ في الله تعالى. « واذكروا الله كثيرا » أي بالطاعة واللسان، وبالشكر على ما به أنعم عليكم من التوفيق لأداء الفرائض. « لعلكم تفلحون » كي تفلحوا. قال سعيد بن جبير: الذكر طاعة الله تعالى، فمن أطاع الله فقد ذكره ومن لم يطعه فليس بذاكر وإن كان كثير التسبيح. وقد مضى هذا مرفوعا في « البقرة » .

 

الآية: 11 ( وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين )

 

قوله تعالى: « وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها » في صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائما يوم الجمعة، فجاءت عير من الشام فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلا - في رواية أنا فيهم - فانزلت هذه الآية التي في الجمعة: « وإذا رأوا تجارة أو لهو انفضوا إليها وتركوك قائما » . في رواية: فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. وقد ذكر الكلبي وغيره: أن الذي قدم بها دحية بن خليفة الكلبي من الشام عند مجاعة وغلاء سعر، وكان معه جميع ما يحتاج الناس من بر ودقيق وغيره، فنزل عند أحجار الزيت، وضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه؛ فخرج الناس إلا اثني عشر رجلا. وقيل: أحد عشر رجلا. قال الكلبي: وكانوا في خطبة الجمعة فانفضوا إليها، وبقى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية رجال؛ حكاه الثعلبي عن ابن عباس، وذكر الدارقطني من حديث جابر بن عبدالله قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا يوم الجمعة إذ أقبلت عير تحمل الطعام حتى نزلت بالبقيع؛ فالتفتوا إليها وانفضوا إلها وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس معه إلا أربعون رجلا أنا فيهم. قال: وأنزل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم: « وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما ) . قال الدارقطني: لم يقل في هذا الإسناد » إلا أربعين رجلا « غير علي بن عاصم عن حصين، وخالفه أصحاب حصين فقالوا: لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلا. وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( والذي نفسي بيده لو خرجوا جميعا لأضرم الله عليهم الوادي نارا ) ؛ ذكره الزمخشري. وروي في حديث مرسل أسماء الاثني عشر رجلا، رواه أسد بن عمرو والد أسد بن موسى بن أسد. وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق معه إلا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص، وعبدالرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح، وسعيد بن زيد وبلال، وعبدالله بن مسعود في إحدى الروايتين. وفي الرواية الأخرى عمار بن ياسر.»

قلت: لم يذكر جابرا؛ وقد ذكر مسلم أنه كان فيهم؛ والدارقطني أيضا. فيكونون ثلاثة عشر. وإن كان عبدالله بن مسعود فيهم فهم أربعة عشر. وقد ذكر أبو داود في مراسيله السبب الذي ترخصوا لأنفسهم في ترك سماع الخطبة، وقد كانوا خليقا بفضلهم ألا يفعلوا؛ فقال: حدثنا محمود بن خالد قال حدثنا الوليد قال أخبرني أبو معاذ بكر بن معروف أنه سمع مقاتل بن حيان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة قبل الخطبة مثل العيدين، حتى كان يوم جمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، وقد صلى الجمعة، فدخل، رجل فقال: إن دحية بن خليفة الكلبي قدم بتجارة، وكان دحية إذا قدم تلقاه أهله بالدفاف؛ فخرج الناس فلم يظنوا إلا أنه ليس في ترك الخطبة شيء؛ فأنزل الله عز وجل: « وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها » . فقدم النبي صلى الله عليه وسلم الخطبة يوم الجمعة وأخر الصلاة. وكان لا يخرج أحد لرعاف أو أحداث بعد النهي حتى يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم، يشير إليه بأصبعه التي تلي الإبهام؛ فيأذن له النبي صلى الله عليه وسلم ثم يشير إليه بيده. فكان من المنافقين من ثقل عليه الخطبة والجلوس في المسجد، وكان إذا استأذن رجل من المسلمين قام المنافق إلى جنبه مستترا به حتى يخرج؛ فأنزل الله تعالى: « قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا » [ النور: 63 ] الآية. قال السهيلي: وهذا الخبر وإن لم ينقل من وجه ثابت فالظن الجميل بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوجب أن يكون صحيحا. وقال قتادة: وبلغنا أنهم فعلوه ثلاث مرات؛ كل مرة عير تقدم من الشام، وكل ذلك يوافق يوم الجمعة. وقيل: إن خروجهم لقدوم دحية الكلبي بتجارته ونظرهم إلى العير تمر، لهو لا فائدة فيه؛ إلا أنه كان مما لا إثم فيه لو وقع على غير ذلك الوجه، ولكنه لما اتصل به الإعراض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والانفضاض عن حضرته، غلظ وكبر ونزل فيه من القرآن وتهجينه باسم اللهو ما نزل. وجاء عن وسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( كل ما يلهو به الرجل باطل إلا رميه بقوسه ) . الحديث. وقد مضى في سورة « الأنفال » فلله الحمد. وقال جابر بن عبدالله: كانت الجواري إذا نكحن يمررن بالمزامير والطبل فانفضوا إليها؛ فنزلت. وإنما رد الكناية إلى التجارة لأنها أهم. وقرأ طلحة بن مصرف « وإذا رأوا التجارة واللهو انفضوا إليها » . وقيل: المعنى وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها، أو لهوا انفضوا إليه فحذف لدلالته. كما قال:

نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف

وقيل: الأجود في العربية أن يجعل الراجع في الذكر للآخر من الاسمين.

 

واختلف العلماء في العدد الذي تنعقد به الجمعة على أقوال؛ فقال الحسن: تنعقد الجمعة باثنين. وقال الليث وأبو يوسف، تنعقد بثلاثة. وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة: بأربعة. وقال ربيعة: باثني عشر رجلا. وذكر النجاد أبو بكر أحمد بن سليمان قال: حدثنا أبو خالد يزيد بن الهيثم بن طهمان الدقاق، حدثنا صبح بن دينار قال حدثنا المعافي بن عمران حدثنا معقل بن عبيدالله عن الزهري بسنده إلى مصعب بن عمير: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى المدينة، وأنه نزل في دار سعد بن معاذ، فجمع بهم وهم اثنا عشر رجلا ذبح لهم يومئذ شاة. وقال الشافعي: بأربعين رجلا. وقال أبو إسحاق الشيرازي في ( كتاب التنبيه على مذهب الإمام الشافعي ) : كل قرية فيها أربعون رجلا بالغين عقلاء أحرارا مقيمين، لا يظعنون عنها صيفا ولا شتاء إلا ظعن حاجة، وأن يكونوا حاضرين من أول الخطبة إلى أن تقام الجمعة وجبت عليهم الجمعة. ومال أحمد وإسحاق إلى هذا القول ولم يشترطا هذه الشروط. وقال مالك: إذا كانت قرية فيها سوق ومسجد فعليهم الجمعة من غير اعتبار عدد. وكتب عمر بن عبدالعزيز: أي قرية اجتمع فيها ثلاثون بيتا فعليهم الجمعة. وقال أبو حنيفة: لا تجب الجمعة على أهل السواد والقرى، لا يجوز لهم إقامتها فيها. واشترط في وجوب الجمعة وانعقادها: المصر الجامع والسلطان القاهر والسوق القائمة والنهر الجاري. واحتج بحديث علي: لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع ورفقة تعينهم. وهذا يرده حديث ابن عباس، قال: إن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقرية من قرى البحرين يقال لها جواثي. وحجة الإمام الشافعي في الأربعين حديث جابر المذكور الذي خرجه الدارقطني. وفي سنن ابن ماجة والدارقطني أيضا ودلائل النبوة للبيهقي عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك قال: كنت قائد أبي حين ذهب بصره، فإذا خرجت به إلى الجمعة فسمع الأذان، صلى على أبي أمامة واستغفر له - قال - فمكث كذلك حينا لا يسمع الأذان بالجمعة إلا فعل ذلك؛ فقلت له: يا أبةِ، استغفارك لأبي أمامة كلما سمعت أذان الجمعة، ما هو؟ قال: أي بني، هو أول من جمع بالمدينة في هزم من حرة بني بياضة يقال له نقيع الخضمات؛ قال قلت: كم أنتم يومئذ؟ قال أربعون رجلا. وقال جابر بن عبدالله: مضت السنة أن في كل ثلاثة إماما، وفي كل أربعين فما فوق ذلك جمعة وأضحى وفطرا، وذلك أنهم جماعة. خرجه الدارقطني.

وروى أبو بكر أحمد بن سليمان النجاد: قرئ على عبدالملك بن محمد الرقاشي وأنا أسمع حدثني رجاء بن سلمة قال حدثنا أبي قال حدثنا روح بن غطيف الثقفي قال حدثني الزهري عن أبي سلمة قال: قلت لأبي هريرة على كم تجب الجمعة من رجل؟ قال: لما بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين رجلا جمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قرئ على عبدالملك بن محمد وأنا أسمع قال حدثنا رجاء بن سلمة قال حدثنا عباد بن عباد المهلبي عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( تجب الجمعة على خمسين رجلا ولا تجب على من دون ذلك ) . قال ابن المنذر: وكتب عمر بن عبدالعزيز: أيما قرية اجتمع فيها خمسون رجلا فليصلوا الجمعة. وروى الزهري عن أم عبدالله الدوسية قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الجمعة واجبة على كل قرية وإن لم يكن فيها إلا أربعة ) . يعني بالقرى: المدائن. لا يصح هذا عن الزهري. في رواية ( الجمعة واجبة على أهل كل قرية وإن لم يكونوا إلا ثلاثة رابعهم إمامهم ) . الزهري لا يصح سماعه من الدوسية. والحكم هذا متروك.

 

وتصح الجمعة بغير إذن الإمام وحضوره. وقال أبو حنيفة: من شرطها الإمام أو خليفته. ودليلنا أن الوليد بن عقبة والي الكوفة أبطأ يوما فصلى ابن مسعود بالناس من غير إذنه. وروي أن عليا صلى الجمعة يوم حصر عثمان ولم ينقل أنه استأذنه. وروي أن سعيد بن العاصي والي المدينة لما خرج من المدينة صلى أبو موسى بالناس الجمعة من غير استئذان. وقال مالك: إن لله فرائض في أرضه لا يضيعها؛ وليها وال أو لم يلها.

 

قال علماؤنا: من شرط أدائها المسجد المسقف. قال ابن العربي: ولا اعلم وجهه. قلت: وجهه قوله تعالى: « وطهر بيتي للطائفين » [ الحج: 26 ] ، وقوله: « في بيوت أذن الله أن ترفع » [ النور: 36 ] . وحقيقة البيت أن يكون ذا حيطان وسقف. هذا العرف، والله اعلم.

 

قوله تعالى: « وتركوك قائما » شرط في قيام الخطيب على المنبر إذا خطب. قال علقمة: سئل عبدالله أكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائما أو قاعدا؟ فقال: أما تقرأ « وتركوك قائما » . وفي صحيح مسلم عن كعب بن عجرة أنه دخل المسجد وعبدالرحمن بن أم الحكم يخطب قاعدا فقال: انظروا إلى هذا الخبيث، يخطب قاعدا وقال الله تعالى: « وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما » . وخرج عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائما ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب؛ فمن نبأك أنه كان يخطب جالسا فقد كذب؛ فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة. وعلى هذا جمهور الفقهاء وأئمة العلماء. وقال أبو حنيفة: ليس القيام بشرط فيها. ويروى أن أول من خطب قاعدا معاوية. وخطب عثمان قائما حتى رق فخطب قاعدا. وقيل: إن معاوية إنما خطب قاعدا لسنه. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائما ثم يقعد ثم يقوم ولا يتكلم في قعدته. رواه جابر بن سمرة. ورواه ابن عمر في كتاب البخاري.

 

والخطبة شرط في انعقاد الجمعة لا تصح إلا بها؛ وهو قول جمهور العلماء. وقال الحسن: هي مستحبة. وكذا فال ابن الماجشون: إنها سنة وليست بفرض. وقال سعيد بن جبير: هي بمنزلة الركعتين من صلاة الظهر؛ فإذا تركها وصلى الجمعة فقد ترك الركعتين من صلاة الظهر. والدليل على وجوبها قوله تعالى: « وتركوك قائما » . وهذا ذم، والواجب هو الذي يذم تاركه شرعا، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلها إلا بخطبة.

 

ويخطب متوكئا على قوس أو عصا. وفي سنن ابن ماجة قال حدثنا هشام بن عمار حدثنا عبدالرحمن بن سعد بن عمار بن سعد قال حدثني أبي عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب في الحرب خطب على قوس، وإذا خطب في الجمعة خطب على عصا.

 

ويسلم إذا صعد المنبر على الناس عند الشافعي وغيره. ولم يره مالك. وقد روى ابن ماجة من حديث جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صعد المنبر سلم. التاسعة: فإن خطب على غير طهارة الخطبة كلها أو بعضها أساء عند مالك؛ ولا إعادة عليه إذا صلى طاهرا. وللشافعي قولان في إيجاب الطهارة؛ فشرطها في الجديد ولم يشترطها في القديم. وهو قول أبي حنيفة.

 

وأقل ما يجزي في الخطبة أن يحمد الله ويصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم، ويوصي بتقوى الله ويقرأ آية من القران. ويجب في الثانية أربع كالأولى؛ إلا أن الواجب بدلا من قراءة الآية في الأولى الدعاء؛ قال أكثر الفقهاء. وقال أبو حنيفة: لو اقتصر على التحميد أو التسبيح أو التكبير أجزأه. وعن عثمان رضي الله عنه أنه صعد المنبر فقال: الحمد لله، وارتج عليه فقال: إن أبا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالا، وإنكم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال، وستأتيكم الخطب؛ ثم نزل فصلى. وكان ذلك بحضرة الصحابة فلم ينكر عليه أحد. وقال أبو يوسف ومحمد: الواجب ما تناوله اسم خطبة. وهو قول الشافعي. قال أبو عمر بن عبدالبر: وهو أصح ما قيل في ذلك.

 

في صحيح مسلم عن يعلى بن أمية أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر « ونادوا يا مالك » [ الزخرف: 77 ] . وفيه عن عمرة بنت عبدالرحمن عن أخت لعمرة قالت: ما أخذت « ق والقرآن المجيد » [ ق: 1 ] إلا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وهو يقرأ بها على المنبر في كل جمعة. وقد مضى في أول « ق » . وفي مراسيل أبي داود عن الزهري قال: كان صدر خطبة النبي صلى الله عليه وسلم ( الحمد لله. نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا. من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. ونشهد أن لا إله إلا الله؛ وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى. نسأل الله ربنا أن يجعلنا ممن يطيعه ويطيع رسوله، ويتبع رضوانه ويجتنب سخطه، فإنما نحن به وله ) . وعنه قال: بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا خطب: ( كل ما هو آت قريب، ولا بعد لما هو آت. لا يعجل الله لعجلة أحد، ولا يخف لأمر الناس. ما شاء الله لا ما شاء الناس. يريد الله أمرا ويريد الناس أمرا، ما شاء الله كان ولو كره الناس. ولا مبعد لما قرب الله، ولا مقرب لما بعد الله. لا يكون شيء إلا بإذن الله جل وعز. وقال جابر: كان النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يخطب فيقول بعد أن يحمد الله ويصلي على أنبيائه: ( أيها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم. إن العبد المؤمن بين مخافتين بين أجل قد مضى لا يدري ما الله قاض فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله صانع فيه. فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة قبل الممات. والذي نفسي بيده ما بعد الموت من مستعتب، وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ) . وقد تقدم ما خطب به عليه الصلاة والسلام أول جمعة عند قدومه المدينة.

 

السكوت للخطبة واجب على من سمعها وجوب سنة. والسنة أن يسكت لها من يسمع ومن لم يسمع، وهما إن شاء الله في الأجر سواء. ومن تكلم حينئذ لغا؛ ولا تفسد صلاته بذلك. وفي الصحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت ) . الزمخشري: وإذا قال المنصت لصاحبه صه؛ فقد لغا، أفلا يكون الخطيب الغالي في ذلك لاغيا؟ نعوذ بالله من غربة الإسلام ونكد الأيام.

 

ويستقبل الناس الإمام إذا صعد المنبر؛ لما رواه أبو داود مرسلا عن أبان بن عبدالله قال: كنت مع عدي بن ثابت يوم الجمعة؛ فلما خرج الإمام - أو قال صعد المنبر - استقبله وقال: هكذا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلون برسول الله صلى الله عليه وسلم. خرجه ابن ماجة عن عدي بن ثابت عن أبيه؛ فزاد في الإسناد: عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام على المنبر استقبله أصحابه بوجوههم. قال ابن ماجة: أرجو أن يكون متصلا. قلت: وخرج أبو نعيم الحافظ قال حدثنا محمد بن معمر قال حدثنا عبدالله بن محمد بن ناجية قال حدثنا عباد بن يعقوب قال حدثنا محمد بن الفضل الخراساني عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا. تفرد به محمد بن الفضل بن عطية عن منصور.

 

ولا يركع من دخل المسجد والإمام يخطب؛ عند مالك رحمه الله. وهو قول ابن شهاب رحمه الله وغيره. وفي الموطأ عنه: فخروج الإمام يقطع الصلاة، وكلامه يقطع الكلام. وهذا مرسل. وفي صحيح مسلم من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما ) . وهذا نص في الركوع. وبه يقول الشافعي وغيره.

 

.. .. ابن عون عن ابن سيرين قال: كانوا يكرهون النوم والإمام يخطب ويقولون فيه قولا شديدا. قال ابن عون: ثم لقيني بعد ذلك فقال: تدري ما يقولون؟ قال: يقولون مثلهم كمثل سرية أخفقوا؛ ثم قال: هل تدري ما أخفقوا؟ لم تغنم شيئا. وعن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا نعس أحدكم فليتحول إلى مقعد صاحبه وليتحول صاحبه إلى مقعده ) .

 

نذكر فيها من فضل الجمعة وفرضيتها ما لم نذكره. روى الأئمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال: ( فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله عز وجل شيئا إلا أعطاه إياه ) وأشار بيده يقللها. وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة ) . وروي من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطأ علينا ذات يوم؛ فلما خرج قلنا: احتبست! قال: ( ذلك أن جبريل أتاني بكهيئة المرآة البيضاء فيها نكتة سوداء فقلت ما هذه يا جبريل قال هذه الجمعة فيها خير لك ولأمتك وقد أرادها اليهود والنصارى فأخطؤوها وهداكم الله لها قلت يا جبريل ما هذه النكتة السوداء قال هذه الساعة التي في يوم الجمعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه أو ادخر له مثله يوم القيامة أو صرف عنه من السوء مثله وإنه خير الأيام عند الله وإن أهل الجنة يسمونه يوم المزيد ) . وذكر الحديث. وذكر ابن المبارك ويحيى بن سلام قالا: حدثنا المسعودي عن المنهال بن عمرو عن أبى عبيده بن عبدالله بن عتبة عن ابن مسعود قال: تسارعوا إلى الجمعة فإن الله تبارك وتعالى يبرز لأهل الجنة كل يوم جمعة في كثيب من كافور أبيض، فيكونون منه في القرب - قال ابن المبارك - على قدر تسارعهم إلى الجمعة في الدنيا. وقال يحيى بن سلام: كمسارعتهم إلى الجمعة في الدنيا. وزاد فيحدث لهم من الكرامة شيئا لم يكونوا رأوه قبل ذلك. قال يحيى: وسمعت غير المسعودي يزيد فيه: وهو قوله تعالى: « ولدينا مزيد » [ ق: 35 ] .

قلت: قوله « في كثيب » يريد أهل الجنة. أي وهم على كثيب؛ كما روى الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن أهل الجنة ينظرون إلى ربهم في كل جمعة على كثيب من كافور لا يرى طرفاه وفيه نهر جار حافتاه المسك عليه جوار يقرأن القرآن بأحسن أصوات سمعها الأولون والآخرون فإذا انصرفوا إلى منازلهم أخذ كل رجل بيد ما شاء منهن ثم يمرون على قناطر من لؤلؤ إلى منازلهم فلولا أن الله يهديهم إلى منازلهم ما اهتدوا إليها لما يحدث الله لهم في كل جمعة ) ذكره يحيى بن سلام. وعن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ليلة أسري بي رأيت تحت العرش سبعين مدينة كل مدينة مثل مدائنكم هذه سبعين مرة مملوءة من الملائكة يسبحون الله ويقدسونه ويقولون في تسبيحهم اللهم اغفر لمن شهد الجمعة اللهم اغفر لمن اغتسل يوم الجمعة ) ذكره الثعلبي. وخرج القاضي الشريف أبو الحسن علي بن عبدالله بن إبراهيم الهاشمي العيسوي من ولد عيسى بن علي بن عبدالله بن عباس رضي الله عنه بإسناد صحيح عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله عز وجل يبعث الأيام يوم القيامة على هيئتها ويبعث الجمعة زهراء منيرة أهلها يحفون بها كالعروس تهدى إلى كريمها تضيء لهم يمشون في ضوئها، ألوانهم كالثلج بياضا، وريحهم يسطع كالمسك، يخوضون في جبال الكافور، ينظر إليهم الثقلان ما يطرقون تعجبا يدخلون الجنة لا يخالطهم أحد إلا المؤذنون المحتسبون ) . وفي سنن ابن ماجة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال ( الجمعة إلى الجمعة كفاره ما بينهما ما لم تغش الكبائر ) خرجه مسلم بمعناه.

وعن أوس بن أوس الثقفي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من غسل يوم الجمعة واغتسل وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها ) . وعن جابر بن عبدالله قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس توبوا إلى الله قبل أن تموتوا. وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا. وصلوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له وكثرة الصدقة في السر والعلانية ترزقوا وتنصروا وتؤجروا. واعلموا أن الله قد فرض عليكم الجمعة في مقامي هذا في شهري هذا في عامي هذا إلى يوم القيامة فمن تركها في حياتي أو بعد مماتي وله إمام عادل أو جائر استخفافا بها أو جحودا لها فلا جمع الله شمله ولا بارك له في أمره. ألا ولا صلاة له ولا زكاة له ولا حج له. ألا ولا صوم له ولا بر له حتى يتوب فمن تاب تاب الله عليه. ألا لا تؤمن امرأة رجلا ولا يؤم أعرابي مهاجرا ولا يؤم فاجر مؤمنا إلا أن يقهره سلطان يخاف سيفه أو سوطه ) . وقال ميمون بن أبي شيبة: أردت الجمعة مع الحجاج فتهيأت للذهاب، ثم قلت: أين اذهب أصلي خلف هذا الفاجر؟ فقلت مرة: أذهب، ومرة لا أذهب، ثم أجمع رأيي على الذهاب، فناداني مناد من جانب البيت « يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع » [ الجمعة: 9 ] .

 

قوله تعالى: « قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة » فيه وجهان: أحدهما: ما عند الله من ثواب صلاتكم خير من لذة لهوكم وفائدة تجارتكم. الثاني: ما عند الله من رزقكم الذي قسمه لكم خير مما أصبتموه من لهوكم وتجارتكم. وقرأ أبو رجاء العطاردي: « قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة للذين آمنوا » . « والله خير الرازقين » فمنه فاطلبوا، واستعينوا بطاعته على نيل ما عنده من خيري الدنيا والآخرة.

 

سورة المنافقون

 

الآية: 1 ( إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون )

 

قوله تعالى: « إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله » روى البخاري عن زيد بن أرقم قال: كنت مع عمي فسمعت عبدالله بن أبي ابن سلول يقول: « لا تنفقوا علي من عند رسول الله حتى ينفضوا » . وقال: « لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل » فذكرت ذلك لعمي فذكر عمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبدالله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا؛ فصدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني. فأصابني هم لم يصبني مثله، فجلست في بيتي فأنزل الله عز وجل: « إذا جاءك المنافقون - إلى قوله - هم الذين يقولون لا تنفقوا علي من عند رسول الله - إلى قوله - ليخرجن الأعز منها الأذل » فأرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ( إن الله قد صدقك ) خرجه الترمذي قال: هذا حديث حسن صحيح. وفي الترمذي عن زيد بن أرقم قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان معنا أناس من الأعراب فكنا نبدر الماء، وكان الأعراب يسبقونا إليه فيسبق الأعرابي أصحابه فيملأ الحوض ويجعل حول حجارة، ويجعل النطع عليه حتى تجيء أصحابه. قال.: فأتى رجل من الأنصار أعرابيا فأرخى زمام ناقته لتشرب فأبى أن يدعه، فانتزع حجرا فغاض الماء؛ فرفع الأعرابي خشبة فضرب بها رأس الأنصاري فشجه، فأتى عبدالله بن أبي رأس المنافقين فأخبره - وكان من أصحابه - فغضب عبدالله بن أبي ثم قال: لا تنفقوا علي من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله - يعني الأعراب - وكانوا يحضرون رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الطعام؛ فقال عبدالله: إذا انفضوا من عند محمد فأتوا محمدا بالطعام، فليأكل هو ومن عنده. ثم قال لأصحابه: لئن رجعتم إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال زيد: وأنا ردف عمي فسمعت عبدالله بن أبي فأخبرت عمي، فانطلق فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف وجحد. قال: فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني. قال: فجاء عمي إلي فقال: ما أردت إلى أن مقتك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبك والمنافقون. قال: فوقع علي من جرأتهم ما لم يقع على أحد. قال: فبينما أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر قد خففت برأسي من الهم إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرك أذني وضحك في وجهي؛ فما كان يسرني أن لي بها الخلد في الدنيا. ثم إن أبا بكر لحقني فقال: ما قال لك رسول اله صلى الله عليه وسلم قلت: ما قال شيئا إلا أنه عرك أذني وضحك في وجهي؛ فقال أبشر! ثم لحقني عمر فقلت له مثل قولي لأبي بكر. فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقين. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وسئل حذيفة بن اليمان عن المنافق، فقال: الذي يصف الإسلام ولا يعمل به. وهو اليوم شر منهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا يكتمونه وهم اليوم يظهرونه.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان ) . وعن عبدالله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر ) . أخبر عليه السلام أن من جمع هذه الخصال كان منافقا، وخبره صدق. وروي عن الحسن أنه ذكر له هذا الحديث فقال: إن بني يعقوب حدثوا فكذبوا ووعدوا فأخلفوا واؤتمنوا فخانوا. إنما هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الإنذار للمسلمين، والتحذير لهم أن يعتادوا هذه الخصال؛ شفقا أن تقضي بهم إلى النفاق. وليس المعنى: أن من بدرت منه هذه الخصال من غير اختيار واعتياد أنه منافق. وقد مضى في سورة « التوبة » القول في هذا مستوفى والحمد لله. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( المؤمن إذا حدث صدق وإذا وعد أنجز وإذا ائتمن وفى ) . والمعنى: المؤمن الكامل إذا حدث صدق. والله اعلم.

 

قوله تعالى: « قالوا نشهد إنك لرسول الله » قيل: معنى « نشهد » نحلف. فعبر عن الحلف بالشهادة؛ لأن كل واحد من الحلف والشهادة إثبات لأمر مغيب؛ ومنه قول قيس بن ذريح.

وأشهد عند الله أني أحبها فهذا لها عندي فما عندها ليا

ويحتمل أن يكون ذلك محمولا على ظاهره أنهم يشهدون أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم اعترافا بالإيمان ونفيا للنفاق عن أنفسهم، وهو الأشبه. « والله يعلم إنك لرسوله » كما قالوه بألسنتهم. « والله يشهد إن المنافقين لكاذبون » أي فيما أظهروا من شهادتهم وحلفهم بألسنتهم. وقال الفراء: « والله يشهد إن المنافقين لكاذبون » بضمائرهم، فالتكذيب راجع إلى الضمائر. وهذا يدل على أن الإيمان تصديق القلب، وعلى أن الكلام الحقيقي كلام القلب. ومن قال شيئا واعتقد خلافه فهو كاذب. وقد مضى هذا المعنى في أول « البقرة » مستوفى وقيل: أكذبهم الله في أيمانهم وهو قوله تعالى: « يحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم » [ التوبة: 56 ] .

 

الآية: 2 ( اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون )

 

قوله تعالى: « اتخذوا أيمانهم جنة » أي سترة. وليس يرجع إلى قوله « نشهد إنك لرسول الله » وإنما يرجع إلى سبب الآية التي نزلت عليه، حسب ما ذكره البخاري والترمذي عن ابن أبي أنه حلف ما قال وقد قال. وقال الضحاك: يعني حلفهم بالله « إنهم لمنكم » وقيل: يعني بأيمانهم ما أخبر الرب عنهم في سورة « التوبة » إذ قال: « يحلفون بالله ما قالوا » [ التوبة: 74 ] .

 

من قال أقسم بالله أو أشهد بالله أو أعزم بالله أو أحلف بالله، أو أقسمت بالله أو أشهدت بالله أو أعزمت بالله أو أحلفت بالله، فقال في ذلك كله « بالله » فلا خلاف أنها يمين. وكذلك عند مالك وأصحابه إن قال: أقسم أو أشهد أو أعزم أو أحلف، ولم يقل « بالله » ، إذا أراد « بالله » . وإن لم يرد « بالله » فليس بيمين. وحكاه الكيا عن الشافعي، قال الشافعي: إذا قال أشهد بالله ونوى اليمين كان يمينا. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لو قال أشهد بالله لقد كان كذا كان يمينا، ولو قال أشهد لقد كان كذا دون النية كان يمينا لهذه الآية، لأن الله تعالى ذكر منهم الشهادة ثم قال: « اتخذوا أيمانهم جنة » . وعند الشافعي لا يكون ذلك يمينا وإن نوى اليمين، لأن قوله تعالى: « اتخذوا أيمانهم جنة » ليس يرجع إلى قوله: « قالوا نشهد » وإنما يرجع إلى ما في « التوبة » من قوله تعالى: « يحلفون بالله ما قالوا » [ التوبة: 74 ] .

 

قوله تعالى: « فصدوا عن سبيل الله » أي أعرضوا، وهو من الصدود. أو صرفوا المؤمنين عن إقامة حكم الله عليهم من القتل والسبي وأخذ الأموال، فهو من الصد، أو منعوا الناس عن الجهاد بأن يتخلفوا ويفتدي بهم غيرهم. وقيل: فصدوا اليهود والمشركين عن الدخول في الإسلام، بأن يقولوا ها نحن كافرون بهم، ولو كان محمد حقا لعرف هذا منا، ولجعلنا نكالا. فبين الله أن حالهم لا يخفي عليه، ولكن حكمه أن من أظهر الإيمان أجرى عليه في الظاهر حكم الإيمان. « إنهم ساء ما كانوا يعملون » أي بئست أعمالهم الخبيئة من نفاقهم وأيمانهم الكاذبة وصدهم عن سبيل الله أعمالا.

 

الآية: 3 ( ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون )

 

قوله تعالى: « ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا » هذا إعلام من الله تعالى بأن المنافق كافر. أي أقروا باللسان ثم كفروا بالقلب. وقيل: نزلت الآية في قوم آمنوا ثم أرتدوا « فطبع على قلوبهم » أي ختم عليها بالكفر « فهم لا يفقهون » الإيمان ولا الخير. وقرأ زيد بن علي « فطبع الله على قلوبهم » .

 

الآية: 4 ( وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون )

 

قوله تعالى: « وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم » أي هيئاتهم ومناظرهم. « وإن يقولوا تسمع لقولهم » يعني عبدالله بن أبي. قال ابن عباس: كان عبدالله بن أبي وسيما جسيما صحيحا صبيحا ذلق اللسان، فإذا قال سمع النبي صلى الله عليه وسلم مقالته. وصفه الله بتمام الصورة وحسن الإبانة. وقال الكلبي: المراد ابن أبى وجد بن قيس ومعتب بن قشير، كانت لهم أجسام ومنظر وفصاحة. وفي صحيح مسلم: « كأنهم خشب مسندة » قال: كانوا رجالا أجمل شيء كأنهم خشب مسندة، شبههم بخشب مسندة إلى الحائط لا يسمعون ولا يعقلون، أشباح بلا أرواح وأجسام بلا أحلام. وقيل: شبههم بالخشب التي قد تآكلت فهي مسندة بغيرها لا يعلم ما في بطنها. وقرأ قنبل وأبو عمرو والكسائي « خشْب » بإسكان الشين. وهي قراءة البراء بن عازب واختيار أبي عبيد، لأن واحدتها خشبة. كما تقول: بدنة وبدن، وليس في اللغة فعلة يجمع على فعل. ويلزم من ثقلها أن تقول: البدن، فتقرأ « والبدن » . وذكر اليزيدي أنه جماع الخشباء، كقول عز وجل: « وحدائق غلبا » واحدتها حديقة غلباء. وقرأ الباقون بالتثقيل وهي رواية البزي عن ابن كثير وعياش عن أبي عمرو، وأكثر الروايات عن عاصم. واختاره أبو حاتم، كأنه جمع خشاب وخشب، نحو ثمرة وثمار ثمر. وإن شئت جمعت خشبة على خشبة كما قالوا: بدنة وبدن وبدن. وقد روي عن ابن المسيب فتح الخاء والشين في « خشب » . قال سيبويه: خشبة وخشب، مثل بدنة وبدن، قال: ومثله بغير هاء أسد وأسد، ووثن ووثن وتقرأ خشب وهو جمع الجمع، خشبة وخشاب وخشب، مثل ثمرة وثمار وثمر. والإسناد الإمالة، تقول: أسندت الشيء أي أملته. و « مسندة » للتكثير؛ أي استندوا إلى الأيمان بحقن دمائهم.

 

قوله تعالى: « يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو » أي كل أهل صيحة عليهم هم العدو. فـ « هم العدو » في موضع المفعول الثاني على أن الكلام لا ضمير فيه. يصفهم بالجبن والخور. قال مقاتل والسدي: أي إذا نادى مناد في العسكر أن انفلتت دابة أو أنشدت ضالة ظنوا أنهم المرادون؛ لما في قلوبهم من الرعب. كما قال الشاعر وهو الأخطل:

ما زلت تحسب كل شيء بعدهم خيلا تكر عليهم ورجالا

وقيل: « يحسبون كل صيحة عليهم هم » العدو « كلام ضميره فيه لا يفتقر إلى ما بعد؛ وتقديره: يحسبون كل صيحة عليهم أنهم قد فطن بهم وعلم بنفاقهم؛ لأن للريبة خوفا. ثم استأنف الله خطاب نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: » هم العدو « وهذا معنى قول الضحاك وقيل: يحسبون كل صيحة يسمعونها في المسجد أنها عليهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر فيها بقتلهم؛ فهم أبدا وجلون من أن ينزل الله فيهم أمرا يبيح به دماءهم، ويهتك به أستارهم. وفي هذا المعنى قول الشاعر: »

فلو أنها عصفورة لحسبتها مسومة تدعو عبيدا وأزنما

بطن من بني، يربوع. ثم وصفهم الله بقوله: « هم العدو فاحذرهم » حكاه عبدالرحمن بن أبي حاتم. وفي قوله تعالى: وجهان: أحدهما: فاحذر أن تثق بقولهم أو تميل إلى كلامهم. الثاني: فاحذر ممايلتهم لأعدائك وتخذيلهم لأصحابك.

 

قوله تعالى: « قاتلهم الله » أي لعنهم الله قال ابن عباس وأبو مالك. وهي كلمة ذم وتوبيخ. وقد تقول العرب: قاتله الله ما أشعره! يضعونه موضع التعجب. وقيل: معنى « قاتلهم الله » أي أحلهم محل من قاتله عدو قاهر؛ لأن الله تعالى قاهر لكل معاند. حكاه ابن عيسى. « أنى يؤفكون » أي يكذبون؛ قاله ابن عباس. قتادة: معناه يعدلون عن الحق. الحسن: معناه يصرفون عن الرشد. وقيل: معناه كيف تضل عقولهم عن هذا مع وضوح الدلائل؛ وهو من الإفك وهو الصرف. و « أن » بمعنى كيف؛ وقد تقدم.

 

الآية: 5 ( وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون )

 

قوله تعالى: « وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله » لما نزل القرآن بصفتهم مشى إليهم عشائرهم وقالوا: افتضحتم بالنفاق فتوبوا إلى رسول الله من النفاق، واطلبوا أن يستغفر لكم. فلووا رؤوسهم؛ أي حركوها استهزاء وإباء؛ قال ابن عباس. وعنه أنه كان لعبدالله بن أبي موقف في كل سبب يحض على طاعة الله وطاعة رسوله؛ فقيل له: وما ينفعك ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم غضبان: فأته يستغفر لك؛ فأبى وقال: لا أذهب إليه. وسبب نزول هذه الآيات أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا بني المصطلق على ماء يقال لـ « المريسيع » من ناحية « قديد » إلى الساحل، فأزدحم أجير لعمر يقال له: « جهجاه » مع حليف لعبدالله بن أبي يقال له: « سنان » على ماء « بالمشلل » ؛ فصرخ جهجاه بالمهاجرين، وصرخ سنان بالأنصار؛ فلطم جهجاه سنانا فقال عبدالله بن أبي: أوقد فعلوها! والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز - يعني أبيا - الأذل؛ يعني محمدا صلى الله عليه وسلم. ثم قال لقومه: كفوا طعامكم عن هذا الرجل، ولا تنفقوا على من عنده حتى ينفضوا ويتركوه. فقال زيد بن أرقم - وهو من رهط عبدالله - أنت والله الذليل المنتقص في قومك؛ ومحمد صلى الله عليه وسلم في عز من الرحمن ومودة من المسلمين، والله لا أحبك بعد كلامك هذا أبدا. فقال عبدالله: اسكت إنما كنت ألعب. فأخبر زيد النبي صلى الله عليه وسلم بقول: فأقسم بالله ما فعل ولا قال؛ فعذره النبي صلى الله عليه وسلم. قال زيد: فوجدت في نفسي ولا مني الناس؛ فنزلت سورة النافقين في تصديق زيد وتكذيب عبدالله. فقيل لعبدالله: قد نزلت فيك آيات شديدة فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر لك؛ فألوى برأسه، فنزلت الآيات. خرجه البخاري ومسلم والترمذي بمعناه. وقد تقدم أول السورة. وقيل: « يستغفر لكم » يستتبكم من النفاق؛ لأن التوبة استغفار.

 

قوله تعالى: « ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون » أي يعرضون عن الرسول متكبرين عن الإيمان. وقرأ نافع « لووا » بالتخفيف. وشدد الباقون؛ واختاره أبو عبيد وقال: هو فعل لجماعة. النحاس: وغلط في هذا؛ لأنه نزل في عبدالله بن أبي لما قيل له: تعال يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم حرك رأسه استهزاء. فإن قيل: كيف أخبر عنه بفعل الجماعة؟ قيل له: العرب تفعل هذا إذا كنت عن الإنسان. أنشد سيبويه لحسان:

ظننتم بأن يخفي الذي قد صنعتم وفينا رسول عنده الوحي واضعه

وإنما خاطب حسان ابن الأبيرق في شيء سرقه بمكة. وقصته مشهورة. وقد يجوز أن يخبر عنه وعمن فعل فعله. وقيل: قال ابن أبي لما لوى رأسه: أمرتموني أن أومن فقد آمنت، وأن أعطي زكاة مالي فقد أعطيت؛ فما بقي إلا أن أسجد لمحمد.

 

الآية: 6 ( سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين )

 

قوله تعالى: « سواء عليهم أاستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم » يعني كل ذلك سواء، لا ينفع استغفارك شيئا؛ لأن الله لا يغفر لهم. نظيره: « سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون » [ البقرة: 6 ] ، « سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين » [ الشعراء: 136 ] . وقد تقدم. « إن الله لا يهدي القوم الفاسقين » أي من سبق في علم الله أنه يموت فاسقا.

 

الآية: 7 ( هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون )

 

قوله تعالى: « هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا »

ذكرنا سبب النزول فيما تقدم. وابن أبي قال: لا تنفقوا علي من عند محمد حتى ينفضوا؛ حتى يتفرقوا عنه. فاعلمهم الله سبحانه أن خزائن السموات والأرض له، ينفق كيف يشاء. قال رجل لحاتم الأصم: من أين تأكل؟ فقال: « ولله خزائن السموات والأرض » . وقال الجنيد: خزائن السموات الغيوب، وخزائن الأرض القلوب؛ فهو علام الغيوب ومقلب القلوب. وكان الشبلي يقول: « ولله خزائن السموات والأرض » فأين تذهبون. « ولكن المنافقين لا يفقهون » أنه إذا أراد أمرا يسره.

 

الآية: 8 ( يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون )

 

القائل ابن أبي كما تقدم. وقيل: إنه لما قال: « ليخرجن الأعز منها الأذل » ورجع إلى المدينة لم يلبث إلا أياما يسيرة حتى مات؛ فاستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألبسه قميصه؛ فنزلت هذه الآية: « لن يغفر الله لهم » . وقد مضى بيانه هذا كله في سورة « التوبة » مستوفى. وروي أن عبدالله بن عبدالله بن أبي بن سلول قال لأبيه: والذي لا إله إلا هو لا تدخل المدينة حتى تقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأعز وأنا الأذل؛ فقاله. توهموا أن العزة بكثرة الأموال والأتباع؛ فبين الله أن العزة والمنعة والقوة لله.

 

الآية: 9 ( يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون )

 

حذر المؤمنين أخلاق المنافقين؛ أي لا تشتغلوا بأموالكم كما فعل المنافقون إذ قالوا - للشح بأموالهم - : لا تنفقوا على من عند رسول الله. « عن ذكر الله » أي عن الحج والزكاة. وقيل: عن قراءة القرآن. وقيل: عن إدامة الذكر. وقيل: عن الصلوات الخمس؛ قاله الضحاك. وقال الحسن: جمع الفرائض؛ كأنه قال عن طاعة الله. وقيل: هو خطاب للمنافقين؛ أي آمنتم بالقول فآمنوا بالقلب. « ومن يفعل ذلك » أي من يشتغل بالمال والولد عن طاعة ربه « فأولئك هم الخاسرون » .

 

الآيات: 10 - 11 ( وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين، ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون )

 

قوله تعالى: « وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت » يدل على وجوب تعجيل أداء الزكاة، ولا يجوز تأخيرها أصلا. وكذلك سائر العبادات إذا تعين وقتها. « فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين » سأل الرجعة إلى الدنيا ليعمل صالحا. وروى الترمذي عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس قال: من كان له مال يبلغه حج بيت ربه أو تجب عليه فيه زكاة فلم يفعل، سأل الرجعة عند الموت. فقال رجل: يا ابن عباس، اتق الله، إنما سأل الرجعة الكفار. فقال: سأتلو عليك بذلك قرانا: « يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون. وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين إلى قوله والله خبير بما تعملون » قال: فما يوجب الزكاة؟ قال: إذا بلغ المال مائتين فصاعدا. قال: فما يوجب الحج؟ قال: الزاد والراحلة.

قلت: ذكره الحليمي أبو عبدالله الحسين بن الحسن في كتاب ( منهاج الدين ) مرفوعا فقال: وقال ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من كان عنده مال يبلغه الحج... ) الحديث؛ فذكره. وقد تقدم في « آل عمران » لفظه.

 

قال ابن العربي: أخذ ابن عباس بعموم الآية في إنفاق الواجب خاصة دون النفل؛ فأما تفسيره بالزكاة فصحيح كله عموما وتقديرا بالمائتين. وأما القول في الحج ففيه إشكال؛ لأنا إن قلنا: إن الحج على التراخي ففي المعصية في الموت قبل الحج خلاف بين العلماء؛ فلا تخرج الآية عليه. وإن قلنا: إن الحج على الفور فالآية في العموم صحيح؛ لأن من وجب عليه الحج فلم يؤده لقي من الله ما يود أنه رجع ليأتي بما ترك من العبادات. وأما تقدير الأمر بالزاد والراحلة ففي ذلك خلاف مشهور بين العلماء. وليس لكلام ابن عباس فيه مدخل؛ لأجل أن الرجعة والوعيد لا يدخل في المسائل المجتهد فيها ولا المختلف عليها، وإنما يدخل في المتفق عليه. والصحيح تناوله للواجب من الإنفاق كيف تصرف بالإجماع أو بنص القرآن؛ لأجل أن ما عدا ذلك لا يتطرق إليه تحقيق الوعيد.

 

قوله تعالى: « لولا » أي هلا؛ فيكون استفهاما. وقيل: « لا » صلة؛ فيكون الكلام بمعنى التمني. « فأصدق » نصب على جواب التمني بالفاء. « وأكون » عطف على « فأصدق » وهي قراءة ابن عمرو وابن محيصن ومجاهد. وقرأ الباقون « وأكن » بالجزم عطفا على موضع الفاء؛ لأن قوله: « فأصدق » لو لم تكن الفاء لكان مجزوما؛ أي أصدق. ومثله: « من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم » [ الأعراف: 186 ] فيمن جزم. قال ابن عباس: هذه الآية أشد على أهل التوحيد؛ لأنه لا يتمنى الرجوع في الدنيا أو التأخير فيها أحد له عند الله خير في الآخرة.

قلت: إلا الشهيد فإنه يتمنى الرجوع حتى يقتل، لما يرى من الكرامة. « والله خبير بما تعملون » من خير وشر. وقراءة العامة بالتاء على الخطاب. وقرأ أبو بكر عن عاصم والسلمي بالياء؛ على الخبر عمن مات وقال هذه المقالة.

 

سورة التغابن

مقدمة السورة

 

مدنية في قول الأكثرين. وقال الضحاك: مكية. وقال الكلبي: هي مكية ومدنية. وهي ثماني عشرة آية. وعن ابن عباس أن « سورة التغابن » نزلت بمكة؛ إلا آيات من آخرها نزلت بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي، شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده، فأنزل الله عز وجل: « يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم » [ التغابن: 14 ] إلى آخر السورة. وعن عبدالله بن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما من مولود يولد إلا وفي تشابيك رأسه مكتوب خمس آيات من فاتحة « سورة التغابن » .

 

الآية: 1 ( يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير )

 

تقدم في غير موضع.

 

الآية: 2 ( هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير )

 

قال ابن عباس: إن الله خلق بني آدم مؤمنا وكافرا، ويعيدهم في يوم القيامة مؤمنا وكافرا. وروى أبو سعيد الخدري قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم عشية فذكر شيئا مما يكون فقال: ( يولد الناس على طبقات شتى. يولد الرجل مؤمنا ويعيش مؤمنا ويموت مؤمنا. ويولد الرجل كافرا ويعيش كافرا ويموت كافرا. ويولد الرجل مؤمنا ويعيش مؤمنا ويموت كافرا. ويولد الرجل كافرا ويعيش كافرا ويموت مؤمنا ) . وقال ابن مسعود: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( خلق الله فرعون في بطن أمه كافرا وخلق يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنا ) . وفي الصحيح من حديث ابن مسعود: ( وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها ) . خرجه البخاري والترمذي وليس فيه ذكر الباع.

وفي صحيح مسلم عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار. وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة ) . قال علماؤنا: والمعنى تعلق العلم الأزلي بكل معلوم؛ فيجري ما علم وأراد وحكم. فقد يريد إيمان شخص على عموم الأحوال، وقد يريده إلى وقت معلوم. وكذلك الكفر. وقيل في الكلام محذوف: فمنكم مؤمن ومنكم كافر ومنكم فاسق؛ فحذف لما في الكلام من الدلالة عليه؛ قاله الحسن. وقال غيره: لا حذف فيه؛ لأن المقصود ذكر الطرفين. وقال جماعة من أهل العلم: إن الله خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا. قالوا: وتمام الكلام « هو الذي خلقكم » . ثم وصفهم فقال: « فمنكم كافر ومنكم مؤمن » كقوله تعالى: « والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه » [ النور: 45 ] الآية. قالوا: فالله خلقهم؛ والمشي فعلهم. واختاره الحسين بن الفضل، قال: لو خلقهم مؤمنين وكافرين لما وصفهم بفعلهم في قوله « فمنكم كافر ومنكم مؤمن » . واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام: ( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ) الحديث. وقد مضى في « الروم » مستوفى. قال الضحاك: فمنكم كافر في السر مؤمن في العلانية كالمنافق، ومنكم مؤمن في السر كافر في العلانية كعمار وذويه. وقال عطاء بن أبي رباج: فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكواكب؛ يعني في شأن الأنواء. وقال الزجاج - وهو أحسن الأقوال، والذي عليه الأئمة والجمهور من الأمة - : إن الله خلق الكافر، وكفره فعل له وكسب؛ مع أن الله خالق الكفر. وخلق المؤمن، وإيمانه فعل له وكسب؛ مع أن الله خالق الإيمان. والكافر يكفر ويختار الكفر بعد خلق الله إياه؛ لأن الله تعالى قدر ذلك عليه وعلمه منه. ولا يجوز أن يوجد من كل واحد منهما غير الذي قدر عليه وعلمه منه؛ لأن وجود خلاف المقدور عجز، ووجود خلاف المعلوم جعل، ولا يليقان بالله تعالى. وفي هذا سلامة من الجبر والقدر؛ كما قال الشاعر:

يا ناظرا في الدين ما الأمر لا قدرٌ صحَّ ولا جبْر

وقال سيلان: قدم أعرابي البصرة فقيل له: ما تقول في القدر؟ فقال: أمر تغالت فيه الظنون، واختلف فيه المختلفون؛ فالواجب أن نرد ما أشكل علينا من حكمه إلى ما سبق من علمه.

 

الآية: 3 ( خلق السماوات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير )

 

قوله تعالى: « خلق السماوات والأرض بالحق » تقدم في غير موضع؛ أي خلقها حقا يقينا لا ريب فيه. وقيل: الباء بمعنى اللام أي خلقها للحق وهو أن يجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. « وصوركم فأحسن صوركم » يعني آدم عليه السلام، خلقه بيده كرامة، له؛ قاله مقاتل. الثاني: جميع الخلائق. وقد مضى معنى التصوير، وأنه التخطيط والتشكيل. فإن قيل: كيف أحسن صورهم؟ قيل له: جعلهم أحسن الحيوان كله وأبهاه صورة بدليل أن الإنسان لا يتمنى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور. ومن حسن صورته أنه خلق منتصبا غير منكب؛ كما قال عز وجل: « لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم » [ التين: 4 ] على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. « وإليه المصير » أي المرجع؛ فيجازي كلا بعمله.

 

الآية: 4 ( يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور )

 

تقدم في غير موضع. فهو عالم الغيب والشهادة، لا يخفى عليه شيء.

 

الآية: 5 ( ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم )

 

قوله تعالى: « ألم يأتكم » الخطاب لقريش أي ألم يأتكم خبر كفار الأمم الماضية. « فذاقوا وبال أمرهم » أي عوقبوا. « ولهم » في الآخرة « عذاب أليم » أي موجع. وقد تقدم.

 

الآية: 6 ( ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد )

 

قوله تعالى: « ذلك » أي هذا العذاب لهم بكفرهم بالرسل تأتيهم « بالبينات » أي بالدلائل الواضحة. « فقالوا أبشر يهدوننا » أنكروا أن يكون الرسول من البشر. وارتفع « أبشر » على الابتداء. وقيل: بإضمار فعل، والجمع على معنى بشر؛ ولهذا قال: « يهدوننا » ولم يقل يهدينا. وقد يأتي الواحد بمعنى الجمع فيكون اسما للجنس؛ وواحده إنسان لا واحد له من لفظه. وقد يأتي الجمع بمعنى الواحد؛ نحو قوله تعالى: « ما هذا بشرا » [ يوسف: 31 ] . « فكفروا وتولوا » أي بهذا القول؛ إذ قالوه استصغارا ولم يعلموا أن الله يبعث من يشاء إلى عباده. وقيل: كفروا بالرسل وتولوا عن البرهان وأعرضوا عن الإيمان والموعظة. « واستغنى الله » أي بسلطانه عن طاعة عباده؛ قاله مقاتل. وقيل: استغنى الله بما أظهره لهم من البرهان وأوضحه لهم من البيان، عن زيادة تدعو إلى الرشد وتقود إلى الهداية.

 

الآية: 7 ( زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير )

 

قوله تعالى: « زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا » أي ظنوا. الزعم هو القول بالظن. وقال شريح: لكل شيء كنية وكنية الكذب زعموا. قيل: نزلت في العاص بن وائل السهمي مع خباب حسب ما تقدم بيانه في آخر سورة « مريم » ، ثم عمت كل كافر. « قل » يا محمد « بلى وربي لتبعثن » أي لتخرجن من قبوركم أحياء. « ثم لتنبؤن » لتخبرن. « بما عملتم » أي بأعمالكم. « وذلك على الله يسير » إذ الإعادة أسهل من الابتداء.

 

الآية: 8 ( فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير )

 

قوله تعالى: « فآمنوا بالله ورسوله » أمرهم بالإيمان بعد أن عرفهم قيام الساعة. « والنور الذي أنزلنا » وهو القرآن، وهو نور يهتدي به من ظلمة الضلال. « والله بما تعملون خبير » .

 

الآية: 9 ( يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم )

 

قوله تعالى: « يوم يجمعكم ليوم الجمع » العامل في « يوم » « لتنبؤن » أو « خبير » لما فيه من معنى الوعد؛ كأنه قال: والله يعاقبكم يوم يجمعكم. أو بإضمار اذكر. والغبن: النقص. يقال: غبنه غبنا إذا أخذ الشيء منه بدون قيمته. وقراءة العامة « يجمعكم » بالياء؛ لقوله تعالى: « والله بما تعلمون خبير » فاخبر. ولذكر اسم الله أولا. وقرأ نصر وابن أبي إسحاق والجحدري ويعقوب وسلام « نجمعكم » بالنون؛ اعتبارا بقوله: « والنور الذي أنزلنا » . ويوم الجمع يوم يجمع الله الأولين والآخرين والإنس والجن وأهل السماء وأهل الأرض. وقيل: هو يوم يجمع الله بين كل عبد وعمله. وقيل: لأنه يجمع فيه بين الظالم والمظلوم. وقيل: لأنه يجمع فيه بين كل نبي وأمته. وقيل: لأنه يجمع فيه بين ثواب أهل الطاعات وعقاب أهل المعاصي. « ذلك يوم التغابن » أي يوم القيامة. قال:

وما أرتجي بالعيش في دار فرقة ألا إنما الراحات يوم التغابن

وسمى يوم القيامة يوم التغابن؛ لأنه غبن فيه أهل الجنة أهل النار. أي أن أهل الجنة أخذوا الجنة، وأخذ أهل النار النار على طريق المبادلة؛ فوقع الغبن لأجل مبادلتهم الخير بالشر، والجيد بالرديء، والنعيم بالعذاب. يقال: غبنت فلانا إذا بايعته أو شاريته فكان النقص عليه والغلبة لك. وكذا أهل الجنة وأهل النار؛ على ما يأتي بيانه. ويقال: غبنت الثوب وخبنته إذا طال عن مقدارك فخطت منه شيئا؛ فهو نقصان أيضا. والمغابن: ما انثنى من الخلق نحو الإبطين والفخذين. قال المفسرون: فالمغبون من غبن أهله ومنازله في الجنة. ويظهر يومئذ غبن كل كافر بترك الإيمان، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان وتضييعه الأيام. قال الزجاج: ويغبن من ارتفعت منزلته في الجنة من كان دون منزلته.

 

فإن قيل: فأي معاملة وقعت بينهما حتى يقع الغبن فيها. قيل له: هو تمثيل الغبن في الشراء والبيع؛ كما قال تعالى: « أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى » [ البقرة: 16 ] . ولما ذكر أن الكفار اشتروا الضلالة بالهدى وما ربحوا في تجارتهم بل خسروا، وذكر أيضا أنهم غبنوا؛ وذلك أن أهل الجنة اشتروا الآخرة بترك الدنيا، واشترى أهل النار الدنيا بترك الآخرة. وهذا نوع مبادلة اتساعا ومجازا. وقد فرق الله سبحانه وتعالى الخلق فريقين: فريقا للجنة وفريقا للنار. ومنازل الكل موضوعة في الجنة والنار. فقد يسبق الخذلان على العبد - كما بيناه في هذه السورة وغيرها - فيكون من أهل النار، فيحصل الموفق على منزل المخذول ومنزل الموفق في النار للمخذول؛ فكأنه وقع التبادل فحصل التغابن. والأمثال موضوعة للبيان في حكم اللغة والقرآن. وذلك كله مجموع من نشر الآثار وقد جاءت مفرقة في هذا الكتاب. وقد يخبر عن هذا التبادل بالوراثة كما بيناه في « قد أفلح المؤمنون » [ المؤمنون: 1 ] والله اعلم. وقد يقع التغابن في غير ذلك اليوم على ما يأتي بيانه بعد؛ ولكنه أراد التغابن الذي لا جبران لنهايته. وقال الحسن وقتادة: بلغنا أن التغابن في ثلاثة أصناف: رجل علم علما فعلمه وضيعه هو ولم يعمل به فشقي به، وعمل به من تعلمه منه فنجا به. ورجل اكتسب مالا من وجوه يسأل عنها وشح عليه، وفرط في طاعة ربه بسببه،، ولم يعمل فيه خيرا، وتركه لوارث لا حساب عليه فيه؛ فعمل ذلك الوارث فيه بطاعة ربه. ورجل كان له عبد فعمل العبد بطاعة ربه فسعد، وعمل السيد بمعصية وبه فشقي. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الله تعالى يقيم الرجل والمرأة يوم القيامة بين يديه فيقول الله تعالى لهما قولا فما أنتما بقائلين فيقول الرجل يا رب أوجبت نفقتها علي فتعسفتها من حلال وحرام وهؤلاء الخصوم يطلبون ذلك ولم يبق لي ما أوفي به فتقول المرأة يا رب وما عسى أن أقول اكتسبه حراما وأكلته حلالا وعصاك في مرضاتي ولم أرض له بذلك فبعدا له وسحقا فيقول الله تعالى قد صدقت فيؤمر به إلى النار ويؤمر بها إلى الجنة فتطلع عليه من طبقات الجنة وتقول له غبناك غبناك سعدنا بما شقيت أنت به ) فذلك يوم التغابن.

 

قال ابن العربي: استدل علماؤنا بقوله تعالى: « ذلك يوم التغابن » على أنه لا يجوز الغبن في المعاملة الدنيوية؛ لأن الله تعالى خصص التغابن بيوم القيامة فقال: « ذلك يوم التغابن » وهذا الاختصاص يفيد أنه لا غبن في الدنيا؛ فكل من اطلع على غبن في مبيع فإنه مردود إذا زاد على الثلث. واختاره البغداديون واحتجوا عليه بوجوه: منها قوله صلى الله عليه وسلم لحبان بن منقذ: ( إذا بايعت فقل لا خلابة ولك الخيار ثلاثا ) . وهذا فيه نظر طويل بيناه في مسائل الخلاف. نكتته أن الغبن في الدنيا ممنوع بإجماع في حكم الدين؛ إذ هو من باب الخداع المحرم شرعا في كل ملة، لكن اليسير منه لا يمكن الاحتراز عنه لأحد، فمضى في البيوع؛ إذ لو حكمنا برده ما نفذ بيع أبدا؛ لأنه لا يخلو منه، حتى إذا كان كثيرا أمكن الاحتراز منه فوجب الرد به. والفرق بين القليل والكثير أصل في الشريعة معلوم، فقدر علماؤنا الثلث لهذا الحد؛ إذ رأوه في الوصية وغيرها. ويكون معنى الآية على هذا: ذلك يوم التغابن الجائز مطلقا من غير تفصيل. أو ذلك يوم التغابن الذي لا يستدرك أبدا؛ لأن تغابن الدنيا يستدرك بوجهين: إما برد في بعض الأحوال، وإما بربح في بيع آخر وسلعة أخرى. فأما من خسر الجنة فلا درك له أبدا. وقد قال بعض علماء الصوفية: إن اله كتب الغبن على الخلق أجمعين، فلا يلقى أحد ربه إلا مغبونا، لأنه لا يمكنه الاستيفاء للعمل حتى يحصل له استيفاء الثواب. وفي الأثر قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يلقى الله أحد إلا نادما إن كان مسيئا إن لم يحسن، وإن كان محسنا إن لم يزدد ) .

 

قوله تعالى: « ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته وندخله جنات » قرأ نافع وابن عامر بالنون فيهما، والباقون بالياء.

 

الآية: 10 ( والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير )

 

قوله تعالى: « والذين كفروا وكذبوا بآياتنا » يعني القرآن « أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير » لما ذكر ما للمؤمنين ذكر ما للكافرين؛ كما تقدم في غير موضع.

 

الآية: 11 ( ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم )

 

قوله تعالى: « ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله » أي بإرادته وقضائه. وقال الفراء: يريد إلا بأمر الله. وقيل: إلا بعلم الله. وقيل: سبب نزولها إن الكفار قالوا: لو كان ما عليه المسلمون حقا لصانهم الله عن المصائب في الدنيا؛ فبين الله تعالى أن ما أصاب من مصيبة في نفس أو مال أو قول أو فعل، يقتضي هما أو يوجب عقابا عاجلا أو آجلا فبعلم الله وقضائه.

 

قوله تعالى: « ومن يؤمن بالله » أي يصدق ويعلم أنه لا يصيبه مصيبة إلا بإذن الله. « يهد قلبه » للصبر والرضا. وقيل: يثبته على الإيمان. وقال أبو عثمان الجيزي: من صح إيمانه يهد الله قلبه لاتباع السنة. وقيل: « ومن يؤمن بالله يهد قلبه » عند المصيبة فيقول: « إنا لله وإنا إليه راجعون » [ البقرة: 156 ] ؛ قاله ابن جبير. وقال ابن عباس: هو أن يجعل الله في قلبه اليقين ليعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه. وقال الكلبي: هو إذا أبتلي صبر، وإذا أنعم عليه شكر، وإذا ظلم غفر. وقيل: يهد طبه إلى نيل الثواب في الجنة. وقراءة العامة « يهد » بفتح الياء وكسر الدال؛ لذكر اسم الله أولا. وقرأ السلمي وقتادة « يهد قلبه » بضم الياء وفتح الدال على الفعل المجهول ورفع الباء؛ لأنه اسم فعل لم يسم فاعله.

وقرأ طلحة بن مصرف والأعرج « نهد » بنون على التعظيم « قلبه » بالنصب. وقرأ عكرمة « يهدأ قلبه » بهمزة ساكنة ورفع الباء، أي يسكن ويطمئن. وقرأ مثله مالك بن دينار، إلا أنه لين الهمزة. « والله بكل شيء عليم » لا يخفى عليه تسليم من انقاد وسلم لأمره، ولا كراهة من كرهه.

 

الآيات: 12 - 13 ( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين، الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون )

 

أي هونوا على أنفسكم المصائب، واشتغلوا بطاعة الله، واعملوا بكتابه، وأطيعوا الرسول في العمل بسنته؛ فإن توليتم عن الطاعة فليس على الرسول إلا التبليغ.

 

الآية: 14 ( يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم )

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم » قال ابن عباس: نزلت هذه الآية بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي؛ شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده؛ فنزلت. ذكره النحاس. وحكاه الطبري عن عطاء بن يسار قال: نزلت سورة « التغابن » كلها بمكة إلا هؤلاء الآيات: « يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم » نزلت في عوف بن مالك الأشجعي كان ذا أهل وولد، وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه فقالوا: إلى من تدعنا؟ فيرق فيقيم؛ فنزلت: « يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم » الآية كلها بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي. وبقية الآيات إلى آخر السورة بالمدينة. وروى الترمذي عن ابن عباس - وسأله رجل عن هذه الآية « يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروه » - قال: هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم رأوا الناس قد فقهوا في الدين هموا أن يعاقبوهم؛ فأنزل الله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم » الآية. هذا حديث حسن صحيح.

 

قال القاضي أبو بكر بن العربي: هذا يبين وجه العداوة؛ فان العدو لم يكن عدوا لذاته وإنما كان عدوا بفعله. فإذا فعل الزوج والولد فعل العدو كان عدوا، ولا فعل أقبح من الحيلولة بين العبد وبين الطاعة. وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الشيطان قعد لابن آدم في طريق الإيمان فقال له أتؤمن وتذر دينك ودين آبائك فخالفه فآمن ثم قعد له على طريق الهجرة فقال له أتهاجر وتترك مالك وأهلك فخالفه فهاجر ثم قعد له على طريق الجهاد فقال له أتجاهد فتقتل نفسك فتنكح نساؤك ويقسم مالك فخالفه فجاهد فقتل، فحق على الله أن يدخله الجنة ) . وقعود الشيطان يكون بوجهين: أحدهما: يكون بالوسوسة. والثاني: بأن يحمل على ما يريد من ذلك الزوج والولد والصاحب؛ قال الله تعالى: « وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم » [ فصلت: 25 ] . وفي حكمة عيسى عليه السلام: من اتخذ أهلا ومالا وولدا كان للدنيا عبدا. وفي صحيح الحديث بيان أدنى من ذلك في حال العبد؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة تعس عبد القطيفة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش ) . ولا دناءة أعظم من عبادة الدينار والدرهم، ولا همة أخس من همة ترتفع بثوب جديد.

 

كما أن الرجل يكون له ولده وزوجه عدوا كذلك المرأة يكون لها زوجها وولدها عدوا بهذا المعنى بعينه. وعموم قوله: « من أزواجكم » يدخل فيه الذكر والأنثى لدخولهما في كل آية. والله اعلم.

 

قوله تعالى: « فاحذروهم » معناه على أنفسكم. والحذر على النفس يكون بوجهين: إما لضرر في البدن، وإما لضرر في الدين. وضرر البدن يتعلق بالدنيا، وضرر الدين يتعلق بالآخرة. فحذر الله سبحانه العبد من ذلك وأنذره به. « وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم » روى الطبري عن عكرمة في قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم » قال: كان الرجل يريد أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيقول له أهله: أين تذهب وتدعنا؟ قال: فإذا أسلم وفقه قال: لأرجعن إلى الذين كانوا ينهون عن هذا الأمر، فلأفعلن ولأفعلن؛ قال: فأنزل الله عز وجل: « وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم » . وقال مجاهد في قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم » قال: ما عادوهم في الدنيا ولكن حملتهم مودتهم على أن أخذوا لهم الحرام فاعطوه إياهم. والآية عامة في كل معصية يرتكبها الإنسان بسبب الأهل والولد. وخصوص السبب لا يمنع عموم الحكم.

 

الآية: 15 ( إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم )

 

قوله تعالى: « إنما أموالكم وأولادكم فتنة » أي بلاء واختبار يحملكم على كسب المحرم ومنع حق الله تعالى فلا تطيعوهم في معصية الله. وفي الحديث: ( يؤتى برجل يوم القيامة فيقال أكل عياله حسناته ) . وعن بعض السلف: العيال سوس الطاعات. وقال القتيبي: « فتنة » أي إغرام؛ يقال: فتن الرجل بالمرأة أي شغف بها. وقيل: « فتنة » محنة. ومنه قول الشاعر:

لقد فتن الناس في دينهم وخلَّى ابن عفان شرا طويلا

وقال ابن مسعود: لا يقولن أحدكم اللهم اعصمني من الفتنة؛ فإنه ليس أحد منكم يرجع إلى مال وأهل وولد إلا وهو مشتمل على فتنة؛ ولكن ليقل: اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن. وقال الحسن في قوله تعالى: « إن من أزواجكم » : أدخل « من » للتبعيض؛ لأن كلهم ليسوا بأعداء. ولم يذكر « من » في قوله تعالى: « إنما أموالكم وأولادكم فتنة » لأنهما لا يخلوان من الفتنة واشتغال القلب بهما. روى الترمذي وغيره عن عبدالله بن بريدة عن أبيه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب؛ فجاء الحسن والحسين - عليهما السلام - وعليهما قميصان أحمران، يمشيان ويعثران؛ فنزل صلى الله عليه وسلم فحملهما بين يديه، ثم قال: ( صدق الله عز وجل إنما أموالكم وأولادكم فتنة. نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما ) ثم أخذ في خطبته. « والله عنده أجر عظيم » يعني الجنة، فهي الغاية، ولا أجر أعظم منها في قول المفسرين. وفي الصحيحين واللفظ للبحاري - عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك فيقول هل رضيتم فيقولون وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك قالوا يا رب وأي شيء أفضل من ذلك فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا ) . ولا شك في أن الرضا غاية الآمال. وأنشد الصوفية في تحقيق ذلك:

امتحن الله به خلقه فالنار والجنة في قبضته

فهجره أعظم من ناره ووصله أطيب من جنته

 

الآيات: 16 - 17 ( فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون، إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم )

 

قوله تعالى: « فاتقوا الله ما استطعتم » ذهب جماعة من أهل التأويل إلى أن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى: « اتقوا الله حق تقاته » [ آل عمران: 102 ] منهم قتادة والربيع بن أنس والسدي وابن زيد. ذكر الطبري: وحدثني يونس بن عبدالأعلى قال أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته » [ آل عمران: 102 ] قال: جاء أمر شديد، قالوا: ومن يعرف قدر هذا أو يبلغه؟ فلما عرف الله أنه قد اشتد ذلك عليهم نسخها عنهم وجاء بهذه الآية الأخرى فقال: « اتقوا الله ما استطعتم » . وقيل: هي محكمة لا نسخ فيها. وقال ابن عباس: قوله تعالى: « اتقوا الله حق تقاته » [ آل عمران: 102 ] إنها لم تنسخ، ولكن حق تقاته أن يجاهد لله حق جهاده، ولا يأخذه في الله لومة لائم، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم. وقد تقدم.

 

فإن قيل: فإذا كانت هذه الآية محكمة غير منسوخة فما وجه قوله في سورة التغابن: « فاتقوا الله ما استطعتم » وكيف يجوز اجتماع الأمر باتقاء الله حق تقاته، والأمر باتقائه ما استطعنا. والأمر باتقائه حق تقاته إيجاب القرآن بغير خصوص ولا وصل بشرط، والأمر باتقائه ما استطعنا أمر باتقائه موصولا بشرط. قيل له: قوله: « فاتقوا الله ما استطعتم » بمعزل مما دل عليه قوله تعالى: « اتقوا الله حق تقاته » [ آل عمران: 102 ] وإنما عنى بقوله: « فاتقوا الله ما استطعتم » فاتقوا الله أيها الناس وراقبوه فيما جعل فتنة لكم من أموالكم وأولادكم أن تغلبكم فتنتهم، وتصدكم عن الواجب لله عليكم من الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإسلام؛ فتتركوا الهجرة ما استطعتم؛ بمعنى وأنتم للهجرة مستطيعين. وذلك أن الله جل ثناؤه قد كان عذر من لم يقدر على الهجرة بتركها بقوله تعالى: « إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم » إلى قوله « فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم » [ النساء: 97 ] . فأخبر أنه قد عفا عمن لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا بالإقامة في دار الشرك؛ فكذلك معنى قوله: « فاتقوا الله ما استطعتم » في الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام أن تتركوها بفتنة أموالكم وأولادكم. ومما يدل على صحة هذا أن قوله: « فاتقوا الله ما استطعتم » عقيب قوله: « يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم » .

ولا خلاف بين السلف من أهل العلم بتأويل القرآن أن هذه الآيات نزلت بسبب قوم كفار تأخروا عن الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام بتثبيط أولادهم إياهم عن ذلك؛ حسب ما تقدم. وهذا كله اختيار الطبري. وقيل: « فاتقوا الله ما استطعتم » فيما تطوع به من نافلة أو صدقة؛ فإنه لما نزل قوله تعالى: « اتقوا الله حق تقاته » [ آل عمران: 102 ] اشتد على القوم فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم، فأنزل الله تعالى تخفيفا عنهم: « فاتقوا الله ما استطعتم » فنسخت الأولى؛ قاله ابن جبير. قال الماوردي: ويحتمل إن لم يثبت هذا النقل أن المكره على المعصية غير مؤاخذ بها؛ لأنه لا يستطيع اتقاءها.

 

قوله تعالى: « واسمعوا وأطيعوا » أي اسمعوا ما توعظون به وأطيعوا فيما تؤمرون به وتنهون عنه. وقال مقاتل: اسمعوا « أي اصغوا إلى ما ينزل عليكم من كتاب الله؛ وهو الأصل في السماع. » وأطيعوا « لرسوله فيما أمركم أو نهاكم. وقال قتادة: عليهما بويع النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة. وقيل: » واسمعوا « أي اقبلوا ما تسمعون؛ وعبر عنه بالسماع لأنه فائدته.»

قلت: وقد تغلغل في هذه الآية الحجاج حين تلاها وقصرها على عبدالملك بن مروان فقال: « فاتقوا الله ما استطعم واسمعوا وأطيعوا » هي لعبدالملك بن مروان أمين الله وخليفته، ليس فيها مثنوية، والله لو أمرت رجلا أن يخرج ن باب المسجد فخرج من غيره لحل لي دمه. وكذب في تأويلها بل هي للنبي صلى الله عليه وسلم أولا ثم لأولي الأمر من بعده. دليله « أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم » [ النساء: 59 ] .

 

قوله تعالى: « وأنفقوا » قيل: هو الزكاة؛ قاله ابن عباس. وقيل: هو النفقة في النفل. وقال الضحاك: هو النفقة في الجهاد. وقال الحسن: هو نفقة الرجل لنفسه. قال ابن العربي: وإنما أوقع قائل هذا قوله: « لأنفسكم » وخفي عليه أن نفقة النفل والفرض في الصدقة هي نفقة الرجل على نفسه؛ قال الله تعالى: « إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها » . [ الإسراء: 7 ] . وكل ما يفعله الرجل من خير فإنما هو لنفسه. والصحيح أنها عامة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فال له رجل: عندي دينار؟ قال: ( أنفقه على نفسك ) قال: عندي آخر؟ قال: ( أنفقه على عيالك ) قال: عندي آخر؟ قال: ( أنفقه على ولدك ) قال: عندي آخر؟ قال: ( تصدق به ) فبدأ بالنفس والأهل والولد وجعل الصدقة بعد ذلك. وهو الأصل في الشرع.

 

قوله تعالى: « خيرا لأنفسكم » « خيرا » نصب بفعل مضمر عند سيبويه؛ دل عليه « وأنفقوا » كأنه قال: ايتوا في الإنفاق خيرا لأنفسكم، أو قدموا خيرا لأنفسكم من أموالكم. وهو عند الكسائي والقراء نعت لمصدر محذوف؛ أي أنفقوا إنفاقا خيرا لأنفسكم. وهو عند أبي عبيدة خبر كان مضمرة؛ أي يكن خيرا لكم. ومن جعل الخير المال فهو منصوب بـ « أنفقوا » . « ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون » تقدم الكلام فيه. وكذا « إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم » تقدم الكلام فيه. « ويغفر لكم والله شكور حليم » تقدم معنى الشكر في « البقرة » . والحليم: الذي لا يعجل.

 

الآية: 18 ( عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم )

 

قوله تعالى: « عالم الغيب والشهادة » أي ما غاب وحضر. وهو « العزيز » أي الغالب القاهر. فهو من صفات الأفعال، ومنه قوله عز وجل: « تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم » [ الجاثية: 2 ] . أي من الله القاهر المحكم خالق الأشياء. وقال الخطابي: وقد يكون بمعنى نفاسة القدر، يقال منه: عز يعز ( بكسر العين ) فيتناول معنى العزيز على هذا أنه لا يعادل شيء وأنه لا مثل له. والله اعلم. « الحكيم » في تدبير خلقه. وقال ابن الأنباري: « الحكيم » هو المحكم لخلق الأشياء، صرف عن مفعل إلى فعيل، ومنه قوله عز وجل: « الر تلك آيات الكتاب الحكيم » [ يونس: 1 ] معناه المحكم، فصرف عن مفعل إلى فعيل. والله اعلم.

 

سورة الطلاق

مقدمة السورة

 

مدنية في قول الجميع. وهي إحدى عشرة آية، أو اثنتا عشرة آية.

 

الآية: 1 ( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا )

 

قوله تعالى: « يا أيها النبي إذا طلقتم النساء » الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، خوطب بلفظ الجماعة تعظيما وتفخيما. وفي سنن ابن ماجة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة رضي الله عنها ثم راجعها. وروى قتادة عن أنس قال: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة رضي الله عنها فأتت أهلها، فأنزل الله تعالى عليه: « يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن » . وقيل له: راجعها فإنها قوامة صوامة، وهي من أزواجك في الجنة. ذكره الماوردي والقشيري والثعلبي. زاد القشيري: ونزل في خروجها إلى أهلها قوله تعالى: « لا تخرجوهن، من بيوتهن » . وقال الكلبي: سبب نزول هذه الآية غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على حفصة، لما أسر إليها حديثا فأظهرته لعائشة فطلقها تطليقة، فنزلت الآية. وقال السدي: نزلت في عبدالله بن عمر، طلق امرأته حائضا تطليقة واحدة فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر وتحيض ثم تطهر، فإذا أراد أن يطلقها فليطلقها حين تطهر من قبل أن يجامعها. فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء. وقد قيل: أن رجالا فعلوا مثل ما فعل عبدالله بن عمر، منهم عبدالله بن عمرو بن العاص، وعمرو بن سعد بن العاص، وعتبة بن غزوان، فنزلت الآية فيهم. قال ابن العربي: وهذا كله وإن لم يكن صحيحا فالقول الأول أمثل. والأصح فيه أنه بيان لشرع مبتدأ. وقد قيل: إنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته. وغاير بين اللفظين من حاضر وغائب وذلك لغة فصيحة، كما قال: « حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة » [ يونس: 22 ] . تقديره: يا أيها النبي قل لهم إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن. وهذا هو قولهم،: إن الخطاب له وحده والمعنى له وللمؤمنين. وإذا أراد الله بالخطاب المؤمنين لاطفه بقول: « يا أيها النبي » . فإذا كان الخطاب باللفظ والمعنى جميعا له قال: « يا أيها الرسول » .

قلت: ويدل على صحة هذا القول نزول العدة في أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية. ففي كتاب أبي داود عنها أنها طلقت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن للمطلقة عدة، فأنزل الله تعالى حين طلقت أسماء بالعدة للطلاق، فكانت أول من أنزل فيها العدة للطلاق. وقيل: المراد به نداء النبي صلى الله عليه وسلم تعظيما، ثم ابتدأ فقال: « إذا طلقتم النساء » ؛ كقوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام » [ المائدة: 90 ] الآية. فذكر المؤمنين على معنى تقديمهم وتكريمهم؛ ثم افتتح فقال: « إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام » الآية.

 

روى الثعلبي من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن من أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق ) . وعن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تزوجوا ولا تطلقوا فإن الطلاق يهتز منه العرش ) . وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تطلقوا النساء إلا من ريبة فإن الله عز وجل لا يحب الذواقين ولا الذواقات ) . وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما حلف بالطلاق ولا استحلف به إلا منافق ) . أسند جميعه الثعلبي رحمه الله في كتابه. وروى الدارقطني قال: حدثنا أبو العباس محمد بن موسى بن علي الدولابي ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا الحسن بن عرفة قال حدثنا إسماعيل بن عياش عن حميد بن مالك اللخمي عن مكحول عن معاذ بن جبل قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا معاذ ما خلق الله شيئا على وجه الأرض أحب إليه من العتاق ولا خلق الله شيئا على وجه الأرض أبغض من الطلاق. فإذا قال الرجل لمملوكه أنت حر إن شاء الله فهو حر ولا استئناء له وإذا قال الرجل لامرأته أنت طالق إن شاء الله فله استثناؤه ولا طلاق عليه ) . حدثنا محمد بن موسى بن علي قال: حدثنا حميد بن الربيع قال حدثنا يزيد بن هارون حدثنا إسماعيل بن عياش بإسناده نحوه. قال حميد: قال لي يزيد بن هارون: وأي حديث لو كان حميد بن مالك معروفا؟ قلت: هو جدي. قال يزيد: سررتني سررتني! الآن صار حديثا. حدثنا عثمان بن أحمد الدقاق قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن سنين حدثنا عمر بن إبراهيم بن خالد حدثنا حميد بن مالك اللخمي حدثنا مكحول عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق فمن طلق واستثنى فله ثنياه ) . قال ابن المنذر: اختلفوا في الاستثناء في الطلاق والعتق؛ فقالت طائفة: ذلك جائز. وروينا هذا القول عن طاوس. وبه قال حماد الكوفي والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي. ولا يجوز الاستثناء في الطلاق في قول مالك والأوزاعي. وهذا قول قتادة في الطلاق خاصة. قال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول.

 

روى الدارقطني من حديث عبدالرزاق أخبرني عمي وهب بن نافع قال سمعت عكرمة يحدث عن ابن عباس يقول: الطلاق على أربعة وجوه: وجهان حلالان ووجهان حرامان؛ فأما الحلال فأن يطلقها طاهرا عن غير جماع وأن اطلقها حاملا مستبينا حملها. وأما الحرام فأن يطلقها وهي حائض، أو يطلقها حين يجامعها، لا تدري اشتمل الرحم على ولد أم لا.

 

قوله تعالى: « فطلقوهن لعدتهن » في كتاب أبي داود عن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية أنها طلقت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن للمطلقة عدة، فأنزل الله سبحانه حين طلقت أسماء بالعدة للطلاق؛ فكانت أول من أنزل فيها العدة للطلاق. وقد تقدم. قوله تعالى: « لعدتهن » يقتضي أنهن اللاتي دخل بهن من الأزواج؛ لأن غير المدخول بهن خرجن بقوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها » [ الأحزاب: 49 ] .

 

من طلق في طهر لم يجامع فيه نفذ طلاقه وأصاب السنة. وإن طلقها حائضا نفذ طلاقه وأخطأ السنة. وقال سعيد بن المسيب في أخرى: لا يقع الطلاق في الحيض لأنه خلاف السنة. وإليه ذهبت الشيعة. وفي الصحيحين - واللفظ للدارقطني - عن عبدالله بن عمر قال: طلقت امرأتي وهي حائض؛ فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( ليراجعها ثم ليمسكها حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها فيها فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا من حيضتها قبل أن يمسها فذلك الطلاق للعدة كما أمر الله ) . وكان عبدالله بن عمر طلقها تطليقة، فحسبت من طلاقها وراجعها عبدالله بن عمر كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم. في رواية عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( هي واحدة ) . وهذا نص. وهو يرد على الشيعة قولهم.

 

عن عبدالله بن مسعود قال: طلاق السنة أن يطلقها في كل طهر تطليقة؛ فإذا كان آخر ذلك فتلك العدة التي أمر الله تعالى بها. رواه الدارقطني عن الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبدالله. قال علماؤنا: طلاق السنة ما جمع شروطا سبعة: وهو أن يطلقها واحدة، وهي ممن تحيض، طاهرا، لم يمسها في ذلك الطهر، ولا تقدمه طلاق في حيض، ولا تبعه طلاق في طهر يتلوه، وخلا عن العوض. وهذه الشروط السبعة من حديث ابن عمر المتقدم. وقال الشافعي: طلاق السنة أن يطلقها في كل طهر خاصة، ولو طلقها ثلاثا في طهر لم يكن بدعة. وقال أبو حنيفة: طلاق السنة أن يطلقها في كل طهر طلقة. وقال الشعبي: يجوز أن يطلقها في طهر جامعها فيه. فعلماؤنا قالوا: يطلقها واحدة في طهر لم يمس فيه، ولا تبعه طلاق في عدة، ولا يكون الظهر تاليا لحيض وقع فيه الطلاق؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( مرة فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق. فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء ) . وتعلق الإمام الشافعي بظاهر قوله تعالى: « فطلقوهن لعدتهن » وهذا عام في كل طلاق كان واحدة أو اثنتين أو أكثر. وإنما راعى الله سبحانه الزمان في هذه الآية ولم يعتبر العدد. وكذلك حديث ابن عمر لأن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الوقت لا العدد. قال ابن العربي: « وهذه غفلة عن الحديث الصحيح؛ فإنه قال: ( مرة فليراجعها ) وهذا يدفع الثلاث. وفي الحديث أنه قال: أرأيت لو طلقها ثلاثا؟ قال حرمت عليك وبانت منك بمعصية. وقال أبو حنيفة: ظاهر الآية يدل على أن الطلاق الثلاث والواحدة سواء. وهو مذهب الشافعي لولا قوله بعد ذلك: » لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا « . وهذا يبطل دخول الثلاث تحت الآية. وكذلك قال أكثر العلماء؛ وهو بديع لهم. وأما مالك فلم يخف عليه إطلاق الآية كما قالوا، ولكن الحديث فسرها كما قلنا. وأما قول الشعبي: إنه يجوز طلاق في طهر جامعها فيه، فيرده حديث ابن عمر بنصه ومعناه. أما نصه فقد قدمناه، وأما معناه فلأنه إذا منع من طلاق الحائض لعدم الاعتداد به، فالطهر المجامع فيه أولى بالمنع؛ لأنه يسقط الاعتداد به مخافة شغل الرحم وبالحيض التالي له.»

قلت: وقد احتج الشافعي في طلاق الثلاث بكلمة واحدة بما رواه الدارقطني عن سلمة بن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبيه أن عبدالرحمن بن عوف طلق امرأته تماضر بنت الأصبغ الكلبية وهي أم أبي سلمة ثلاث تطليقات في كلمة واحدة؛ فلم يبلغنا أن أحدا من أصحابه عاب ذلك. قال: وحدثنا سلمة بن أبي سلمة عن أبيه أن حفص بن المغيرة طلق امرأته فاطمة بنت قيس على عهد رسول اله صلى الله عليه وسلم ثلاث تطليقات في كلمة؛ فأبانها منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم عاب ذلك عليه. واحتج أيضا بحديث عويمر العجلاني لما لاعن قال: يا رسول الله، هي طالق ثلاث. فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم. وقد انفصل علماؤنا عن هذا أحسن انفصال. بيانه في غير هذا الموضع. وقد ذكرناه في كتاب ( المقتبس من شرح موطأ مالك بن أنس ) . وعن سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين أن من خالف السنة في الطلاق فأوقعه في حيض أو ثلاث لم يقع؛ فشبهوه بمن وكل بطلاق السنة فخالف.

 

قال الجرجاني: اللام في قوله تعالى: « لعدتهن » بمعنى في؛ كقوله تعالى: « هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر » [ الحشر: 2 ] . أي في أول الحشر. فقوله: « لعدتهن » أي في عدتهن؛ أي في الزمان الذي يصلح لعدتهن. وحصل الإجماع على أن الطلاق في الحيض ممنوع وفي الطهر مأذون فيه. ففيه دليل على أن القرء هو الطهر. وقد مضى القول فيه في « البقرة » فإن قيل: معنى « فطلقوهن لعدتهن » أي في قبل عدتهن، أو لقبل عدتهن. وهي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما قال ابن عمر في صحيح مسلم وغيره. فقيل العدة آخر الطهر حتى يكون القرء الحيض، قيل له: هذا هو الدليل الواضح لمالك ومن قال بقوله؛ على أن الأقراء هي الأطهار. ولو كان كما قال الحنفي ومن تبعه لوجب أن يقال: إن من طلق في أول الطهر لا يكون مطلقا لقبل الحيض؛ لأن الحيض لم يقبل بعد. وأيضا إقبال الحيض يكون بدخول الحيض، وبانقضاء الطهر لا يتحقق إقبال الحيض. ولو كان إقبال الشيء إدبار ضده لكان الصائم مفطرا قبل مغيب الشمس؛ إذ الليل يكون مقبلا في إدبار النهار قبل انقضاء النهار. ثم إذا طلق في آخر الطهر فبقية الطهر قرء، ولأن بعض القرء يسمى قرءا لقوله تعالى: « الحج أشهر معلومات » [ البقرة: 197 ] يعني شوالا وذا القعدة وبعض ذي الحجة؛ لقوله تعالى: « فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه » [ البقرة: 203 ] وهو ينفر في بعض اليوم الثاني. وقد مضى هذا كله في « البقرة » مستوفى.

 

قوله تعالى: « وأحصوا العدة » يعني في المدخول بها؛ لأن غير المدخول بها لا عدة عليها، وله أن يراجعها فيما دون الثلاث قبل انقضاء العدة، ويكون بعدها كأحد الخطاب. ولا تحل له في الثلاث إلا بعد زوج. قوله تعالى: « وأحصوا العدة » معناه احفظوها؛ أي احفظوا الوقت الذي وقع فيه الطلاق، حتى إذا انفصل المشروط منه وهو الثلاثة قروء في قوله تعالى: « والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء » [ البقرة: 228 ] حلت للأزواج. وهذا يدل على أن العدة هي الأطهار وليست بالحيض. ويؤكده ويفسره قراءة النبي صلى الله عليه وسلم « لقبل عدتهن » وقبل الشيء بعضه لغة وحقيقة، بخلاف استقباله فإنه يكون غيره.

 

من المخاطب بأمر الإحصاء؟ وفيه ثلاث أقوال: أحدها: أنهم الأزواج. الثاني: أنهم الزوجات. الثالث: أنهم المسلمون. ابن العربي: « والصحيح أن المخاطب بهذا اللفظ الأزواج؛ لأن الضمائر كلها من » طلقتم « و » أحصوا « و » لا تخرجوا « على نظام واحد يرجع إلى الأزواج، ولكن الزوجات داخلة فيه بالإلحاق بالزوج؛ لأن الزوج يحصي ليراجع، وينفق أو يقطع، وليسكن أو يخرج وليلحق نسبه أو يقطع. وهذه كلها أمور مشتركة بينه وبين المرأة، وتنفر

قوله تعالى: » واتقوا الله ربكم « أي لا تعصوه. » لا تخرجوهن من بيوتهن « أي ليس للزوج أن يخرجها من مسكن النكاح ما دامت في العدة، ولا يجوز لها الخروج أيضا لحق الزوج إلا لضرورة ظاهرة، فإن خرجت أثمت ولا تنقطع العدة. والرجعية والمبتوتة في هذا سواء. وهذا لصيانة ماء الرجل. وهذا معنى إضافة البيوت إليهن؛ كقوله تعالى: » واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة « [ الأحزاب: 34 ] ، وقوله تعالى: » وقرن في بيوتكن « [ الأحزاب: 33 ] فهو إضافة إسكان وليس إضافة تمليك. وقوله: » لا تخرجوهن « يقتضي أن يكون حقا في الأزواج. ويقتضي قوله: » ولا يخرجن « أنه حق على الزوجات. وفي صحيح الحديث عن جابر بن عبدالله قال: طلقت خالتي فأرادت أن تجد نخلها فزجرها رجل أن تخرج؛ فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( بلى فجدي نخلك فإنك عسى أن تصدقي أو تفعلي معروفا ) . خرجه مسلم. ففي هدا الحديث دليل لمالك والشافعي وابن حنبل والليث على قولهم: أن المعتدة تخرج بالنهار في حوائجها، وإنما تلزم منزلها بالليل. وسواء عند مالك كانت رجعية أو بائنة. وقال الشافعي في الرجعية: لا تخرج ليلا ولا نهارا، وإنما تخرج نهارا المبتوتة. وقال أبو حنيفة: ذلك في المتوفي عنها زوجها، وأما المطلقة فلا تخرج لا ليلا ولا نهارا. والحديث يرد عليه.»

وفي الصحيحين أن أبا حفص بن عمرو خرج مع علي بن أبي طالب إلى اليمن، فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطلقة كانت بقيت من طلاقها، وأمر لها الحارث بن هشام وعياش بن أبي ربيعة بنفقة؛ فقالا لها: والله مالك من نفقة إلا أن تكوني حاملا. فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له قولهما. فقال: ( لا نفقة لك ) ، فاستأذنته في الانتقال فأذن لها؛ فقالت: أين يا رسول الله؟ فقال: ( إلى ابن أم مكتوم ) ، وكان أعمى تضع ثيابها عنده ولا يراها. فلما مضت عدتها أنكحها النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد. فأرسل إليها مروان قبيصة بن ذؤيب يسألها عن الحديث، فحدثته. فقال مروان: لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة، سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها. فقالت فاطمة حين بلغها قول مروان: فبيني وبينكم القرآن، قال الله عز وجل: « لا تخرجوهن من بيوتهن » الآية، قالت: هذا لمن كانت له رجعة؛ فأي أمر يحدث بعد الثلاث؟ فكيف تقولون: لا نفقة لها إذا لم تكن حاملا، فعلام تحبسونها؟ لفظ مسلم. فبين أن الآية في تحريم الإخراج والخروج إنما هو في الرجعية. وكذلك استدلت فاطمة بأن الآية التي تليها إنما تضمنت النهي عن خروج المطلقة الرجعية؛ لأنها بصدد أن يحدث لمطلقها رأي في أرتجاعها ما دامت في عدتها؛ فكأنها تحت تصرف الزوج في كل وقت. وأما البائن فليس له شيء من ذلك؛ فيجوز لها أن تخرج إذا دعتها إلى ذلك حاجة، أو خافت عورة منزلها؛ كما أباح لها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. وفي مسلم - قالت فاطمة يا رسول الله، زوجي طلقني ثلاثا وأخاف أن يقتحم علي. قال: فأمرها فتحولت.

وفي البخاري عن عائشة أنها كانت في مكان وحش فخيف على ناحيتها؛ فلذلك أرخص النبي صلى الله عليه وسلم لها. وهذا كله يرد على الكوفي قول. وفي حديث فاطمة: أن زوجها أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت من طلاقها؛ فهو حجة لمالك وحجة على الشافعي. وهو أصح من حديث سلمة بن أبي سلمة عن أبيه أن حفص بن المغيرة طلق امرأته ثلاث تطليقات في كلمة؛ على ما تقدم.

 

قوله تعالى: « إلا أن يأتين بفاحشة مبينة » قال ابن عباس وابن عمر والحسن والشعبي ومجاهد: هو الزنى؛ فتخرج ويقام عليها الحد. وعن ابن عباس أيضا والشافعي: أنه البذاء على أحمائها؛ فيحل لهم إخراجها. وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال في فاطمة: تلك امرأة استطالت على أحمائها بلسانها فأمرها عليه السلام أن تنتقل. وفي كتاب أبي داود قال سعيد: تلك امرأة فتنت الناس، إنها كانت لسنة فوضعت على يدي ابن أم مكتوم الأعمى. قال عكرمة: في مصحف أبي « إلا أن يفحشن عليكم » . ويقوي هذا أن محمد بن إبراهيم بن الحارث روي أن عائشة قالت لفاطمة بنت قيس: اتقي الله فإنك تعلمين لم أخرجت؟ وعن ابن عباس أيضا: الفاحشة كل معصية كالزنى والسرقة والبذاء على الأهل. وهو اختيار الطبري. وعن ابن عمر أيضا والسدي: الفاحشة خروجها من بيتها في العدة. وتقدير الآية: إلا أن يأتين بفاحشة مبينة بخروجهن من بيوتهن بغير حق؛ أي لو خرجت كانت عاصية. وقال قتادة: الفاحشة النشوز، وذلك أن يطلقها على النشوز فتتحول عن بيته. قال ابن العربي: أما من قال إنه الخروج للزنى؛ فلا وجه له؛ لأن ذلك الخروج هو خروج القتل والإعدام: وليس ذلك بمستثنى في حلال ولا حرام. وأما من قال: إنه البذاء؛ فهو مفسر في حديث فاطمة بنت قيس. وأما من قال: إنه كل معصية؛ فوهم لأن الغيبة ونحوها من المعاصي لا تبيح الإخراج ولا الخروج. وأما من قال: إنه الخروج بغير حق؛ فهو صحيح. وتقدير الكلام: لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن شرعا إلا أن يخرجن تعديا.

 

قوله تعالى: « وتلك حدود الله » أي هذه الأحكام التي بينها أحكام الله على العباد، وقد منع التجاوز عنها فمن تجاوز فقد ظلم نفسه وأوردها مورد الهلاك. « لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا » الأمر الذي يحدثه الله أن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه؛ فيراجعها. وقال جميع المفسرين: أراد بالأمر هنا الرغبة في الرجعة. ومعنى القول: التحريض على طلاق الواحدة والنهي عن الثلاث؛ فإنه إذا طلق أضر بنفسه عند الندم على الفراق والرغبة في الارتجاع، فلا يجد عند الرجعة سبيلا. وقال مقاتل: « بعد ذلك » أي بعد طلقة أو طلقتين « أمرا » أي المراجعة من غير خلاف.

 

الآيات: 2 - 3 ( فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا، ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا )

 

قوله تعالى: « فإذا بلغن أجلهن » أي قاربن انقضاء العدة؛ كقوله تعالى: « وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن » [ البقرة: 231 ] أي قربن من انقضاء الأجل. « فأمسكوهن بمعروف » يعني المراجعة بالمعروف؛ أي بالرغبة من غير قصد المضارة في الرجعة تطويلا لعدتها. كما تقدم في « البقرة » . « أو فارقوهن بمعروف » أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فيملكن أنفسهن. وفي قوله تعالى: « فإذا بلغن أجلهن » ما يوجب أن يكون القول قول المرأة في انقضاء العدة إذا أدعت ذلك، على ما بيناه في سورة « البقرة » عند قوله تعالى: « ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن » [ البقرة: 228 ] الآية.

 

قوله تعالى: « وأشهدوا » أمر بالإشهاد على الطلاق. وقيل: على الرجعة. والظاهر رجوعه إلى الرجعة لا إلى الطلاق. فإن راجع من غير إشهاد ففي صحة الرجعة قولان للفقهاء. وقيل: المعنى وأشهدوا عند الرجعة والفرقة جميعا. وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة؛ كقوله تعالى: « وأشهدوا إذا تبايعتم » [ البقرة: 282 ] . وعند الشافعي واجب في الرجعة، مندوب إليه في الفرقة. وفائدة الإشهاد ألا يقع بينهما التجاحد، وإلا يتهم في إمساكها، ولئلا يموت أحدهما فيدعي الباقي ثبوت الزوجية ليرث.

 

الإشهاد عند أكثر العلماء على الرجعة ندب. وإذا جامع أو قبل أو باشر يريد بذلك الرجعة، وتكلم بالرجعة يريد به الرجعة فهو مراجع عند مالك، وإن لم يرد بذلك الرجعة فليس بمراجع. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا قبل أو باشر أو لامس بشهوة فهو رجعة. وقالوا: والنظر إلى الفرج رجعة. وقال الشافعي وأبو ثور: إذا تكلم بالرجعة فهو رجعة. وقد قيل: وطؤه مراجعة على كل حال، نواها أو لم ينوها. وروي ذلك عن طائفة من أصحاب مالك. وإليه ذهب الليث. وكان مالك يقول: إذا وطئ ولم ينو الرجعة فهو وطء فاسد؛ ولا يعود لوطئها حتى يستبرئها من مائه الفاسد، وله الرجعة في بقية العدة الأولى، وليس له رجعة في هذا الاستبراء.

 

أوجب الإشهاد في الرجعة أحمد بن حنبل في أحد قوليه، والشافعي كذلك لظاهر الأمر. وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد والشافعي في القول الآخر: إن الرجعة لا تفتقر إلى القبول، فلم تفتقر إلى الإشهاد كسائر الحقوق، وخصوصا حل الظهار بالكفارة. قال ابن العربي: وركب أصحاب الشافعي على وجوب الإشهاد في الرجعة أنه لا يصح أن يقول: كنت راجعت أمس وأنا أشهد اليوم على الإقرار بالرجعة، ومن شرط الرجعة الإشهاد فلا تصح دونه. وهذا فاسد مبني على أن الإشهاد في الرجعة تعبد. ونحن لا نسلم فيها ولا في النكاح بأن نقول: إنه موضع للتوثق، وذلك موجود في الإقرار كما هو موجود في الإنشاء.

 

من ادعى بعد انقضاء العدة أنه راجع امرأته في العدة، فإن صدقته جاز وإن أنكرت حلفت، فإن أقام بينة أنه ارتجعها في العدة ولم تعلم بذلك لم يضره جهلها بذلك، وكانت زوجته، وإن كانت قد تزوجت ولم يدخل بها ثم أقام الأول البينة على رجعتها فعن مالك في ذلك روايتان: إحداهما: أن الأول أحق بها. والأخرى: أن الثاني أحق بها. فإن كان الثاني قد دخل بها فلا سبيل للأول إليها.

 

قوله تعالى: « ذوي عدل منكم » قال الحسن: من المسلمين. وعن قتادة: من أحراركم. وذلك يوجب اختصاص الشهادة على الرجعة بالذكور دون الإناث؛ لأن « ذوي » مذكر. ولذلك قال علماؤنا: لا مدخل للنساء فيما عدا الأموال. وقد مضى ذلك في سورة « البقرة » . « وأقيموا الشهادة لله » أي تقربا إلى الله في إقامة الشهادة على وجهها، إذا مست الحاجة إليها من غير تبديل ولا تغيير. وقد مضى في سورة « البقرة » معناه عند قوله تعالى: « وأقوم للشهادة » [ البقرة: 282 ] . « ذلكم يوعظ به » أي يرضى به. « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر » فأما غير المؤمن فلا ينتفع بهذه المواعظ.

 

قوله تعالى: « ومن يتق الله يجعل له مخرجا » عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عمن طلق ثلاثا أو ألفا هل له من مخرج؟ فتلاها. وقال ابن عباس والشعبي والضحاك: هذا في الطلاق خاصة؛ أي من طلق كما أمره الله يكن له مخرج في الرجعة في العدة، وأن يكون كأحد الخطاب بعد العدة. وعن ابن عباس أيضا « يجعل له مخرجا » ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة. وقيل: المخرج هو أن يقنعه الله بما رزقه؛ قاله علي بن صالح. وقال الكلبي: « ومن يق الله » بالصبر عند المصيبة. « يجعل له مخرجا » من النار إلى الجنة. وقال الحسن: مخرجا مما نهى الله عنه. وقال أبو العالية: مخرجا من كل شدة. الربيع بن خيثم: « يجعل له مخرجا » من كل شيء ضاق على الناس. الحسين بن الفضل: « ومن يتق الله » في أداء الفرائض، « يجعل له مخرجا » من العقوبة. « ويرزقه » الثواب « من حيث لا يحتسب » أي يبارك له فيما آتاه. وقال سهل بن عبدالله: « ومن يتق الله » في أتباع السنة « يجعل له مخرجا » من عقوبة أهل البدع، ويرزقه الجنة من حيث لا يحتسب. وقيل: « ومن يتق الله » في الرزق بقطع العلائق يجعل له مخرجا بالكفاية. وقال عمر بن عثمان الصدفي: « ومن يتق الله » فيقف عند حدوده ويجتنب معاصيه يخرجه من الحرام إلى الحلال، ومن الضيق إلى السعة، ومن النار إلى الجنة. « ويرزقه من حيث لا يحتسب » من حيث لا يرجو. وقال ابن عيينة: هو البركة في الرزق. وقال أبو سعيد الخدري: ومن يبرأ من حوله وقوته بالرجوع إلى الله يجعل له مخرجا مما كلفه بالمعونة له. وتأول ابن مسعود ومسروق الآية على العموم. وقال أبو ذر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنى لأعلم آية لو أخذ بها الناس لكفتهم - ثم تلا - « ومن يق الله يجعل له مخرجا. ويرزقه من حيث لا يحتسب » ) . فما زال يكررها ويعيدها.

وقال ابن عباس: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم « ومن يتق الله يجعل له مخرجا. ويرزقه من حيث لا يحتسب » قال: ( مخرجا من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة ) . وقال أكثر المفسرين فيما ذكر الثعلبي: إنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي. روي الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: جاء عوف بن مالك الأشجعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن ابني أسره العدو وجزعت الأم. وعن جابر بن عبدالله: نزلت في عوف بن مالك الأشجعي أسر المشركون ابنا له يسمى سالما، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه الفاقة وقال: إن العدو أسر ابني وجزعت الأم، فما تأمرني؟ فقال عليه السلام: ( أتق الله وأصبر وآمرك وإياها أن تستكثرا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله ) . فعاد إلى بيته وقال لامرأته: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني وإياك أن نستكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله. فقالت: نعم ما أمرنا به. فجعلا يقولان؛ فغفل العدو عن ابنه، فساق غنمهم وجاء بها إلى أبيه؛ وهي أربعة آلاف شاة. فنزلت الآية، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم تلك الأغنام له. في رواية: أنه جاء وقد أصاب إبلا من العدو وكان فقيرا. قال الكلبي: أصاب خمسين بعيرا. وفي رواية: فأفلت ابنه من الأسر وركب ناقة للقوم، ومر في طريقه بسرح لهم فاستاقه. وقال مقاتل: أصاب غنما ومتاعا فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: أيحل لي أن آكل مما أتى به ابني؟ قال: ( نعم ) . ونزلت: « ومن يتق الله يجعل له مخرجا. ويرزقه من حيث لا يحتسب » . فروي الحسن عن عمران بن الحصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من انقطع إلى الله كفاه الله كل مؤونة ورزقه من حيث لا يحتسب. ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها ) . وقال الزجاج: أي إذا اتقى وآثر الحلال والتصبر على أهله، فتح الله عليه إن كان ذا ضيقة ورزقه من حيث لا يحتسب. وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب ) .

 

قوله تعالى: « ومن يتوكل على الله فهو حسبه » أي من فوض إليه أمره كفاه ما أهمه. وقيل: أي من اتقى الله وجانب المعاصي وتوكل عليه، فله فيما يعطيه في الآخرة من ثوابه كفاية. ولم يرد الدنيا؛ لأن المتوكل قد يصاب في الدنيا وقد يقتل. « إن الله بالغ أمره » قال مسروق: أي قاض أمره فيمن توكل عليه وفيمن لم يتوكل عليه؛ إلا أن من توكل عليه فيكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا. وقراءة العامة « بالغ » منونا. « أمره » نصبا. وقرأ عاصم « بالغ أمره » بالإضافة وحذف التنوين استخفافا. وقرأ المفضل « بالغا أمره » على أن قوله: « قد جعل الله » خبر « إن » و « بالغا » حال. وقرأ داود بن أبي هند « بالغ أمره » بالتنوين ورفع الراء. قال الفراء: أي أمره بالغ. وقيل: « أمره » مرتفع « ببالغ » والمفعول محذوف؛ والتقدير: بالغ أمره ما أراد. « قد جعل الله لكل شيء قدرا » أي لكل شيء من الشدة والرخاء أجلا ينتهي إليه. وقيل تقديرا. وقال السدي: هو قدر الحيض في الأجل والعدة. وقال عبدالله بن رافع: لما نزل قوله تعالى: « ومن يتوكل على الله فهو حسبه » قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فنحن إذا توكلنا عليه نرسل ما كان لنا ولا نحفظه؛ فنزلت: « إن الله بالغ أمره » فيكم وعليكم. وقال الربيع بن خيثم: إن الله تعالى قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه ومن آمن به هداه، ومن أقرضه جازاه، ومن وثق به نجاه، ومن دعاه أجاب له. وتصديق ذلك في كتاب الله: « ومن يؤمن بالله يهد قلبه » [ التغابن: 11 ] . « ومن يتوكل على الله فهو حسبه » [ الطلاق: 3 ] . « إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم » [ التغابن: 17 ] . « ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم » [ آل عمران: 101 ] . « وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان » [ البقرة: 186 ] .

 

الآيات: 4 - 5 ( واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا، ذلك أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا )

 

قوله تعالى: « واللائي يئسن من المحيض من نسائكم » لما بين أمر الطلاق والرجعة في التي تحيض، وكانوا قد عرفوا عدة ذوات الأقراء، عرفهم في هذه السورة عدة التي لا ترى الدم وقال أبو عثمان عمر بن سالم: لما نزلت عدة النساء في سورة « البقرة » في المطلقة والمتوفى عنها زوجها قال أبي بن كعب: يا رسول الله، إن ناسا يقولون قد بقي من النساء من لم يذكر فيهن شيء: الصغار وذوات الحمل، فنزلت: « واللائي يئسن » الآية. وقال مقاتل: لما ذكر قوله تعالى: « والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء » [ البقرة: 228 ] قال خلاد بن النعمان: يا رسول الله، فما عدة التي لم تحض، وعدة التي انقطع حيضها، وعدة الحبلى؟ فنزلت: « واللائي يئسن من المحيض من نسائكم » يعني قعدن عن المحيض. وقيل: إن معاذ بن جبل سأل عن عدة الكبيرة التي يئست؛ فنزلت الآية. والله أعلم. وقال مجاهد: الآية واردة في المستحاضة لا تدري دم حيض هو أو دم علة.

 

قوله تعالى: « إن ارتبتم » أي شككتم، وقيل تيقنتم. وهو من الأضداد؛ يكون شكا ويقينا كالظن. واختيار الطبري أن يكون المعنى: إن شككتم فلم تدروا ما الحكم فيهن. وقال الزجاج: إن ارتبتم في حيضها وقد انقطع عنها الحيض وكانت ممن يحيض مثلها. القشيري: وفي هذا نظر؛ لأنا إذا شككنا هل بلغت سن اليأس لم نقل عدتها ثلاثة أشهر. والمعتبر في سن اليأس في قول؛ أقصى عادة امرأة في العالم، وفي قوله: غالب نساء عشيرة المرأة. وقال مجاهد: قوله « إن ارتبتم » للمخاطبين؛ يعني إن لم تعلموا كم عدة اليائسة والتي لم تحض فالعدة هذه. وقيل: المعنى إن ارتبتم أن الدم الذي يظهر منها من أجل كبر أو من الحيض المعهود أو من الاستحاضة فالعدة ثلاثة أشهر. وقال عكرمة وقتادة: من الريبة المرأة المستحاضة التي لا يستقيم لها الحيض؛ تحيض في أول الشهر مرارا وفي الأشهر مرة. وقيل: إنه متصل بأول السورة. والمعنى: لا تخرجوهن من بيوتهن إن ارتبتم في انقضاء العدة. وهو أصح ما قيل فيه.

 

المرتابة في عدتها لا تنكح حتى تستبرئ نفسها من ريبتها ولا تخرج من العدة إلا بارتفاع الريبة. وقد قيل في المرتابة التي ترفعها حيضتها وهي لا تدري ما ترفعها: إنها تنتظر سنة من يوم طلقها زوجها؛ منها تسعة أشهر استبراء، وثلاثة عدة. فإن طلقها فحاضت حيضة أو حيضتين ثم ارتفع عنها بغير يأس منها انتظرت تسعة أشهر، ثم ثلاثة من يوم طهرت من حيضتها ثم حلت للأزواج. وهذا قاله الشافعي بالعراق. فعلى قياس هذا القول تقيم الحرة المتوفى عنها زوجها المستبرأة بعد التسعة أشهر أربعة أشهر وعشرا، والأمة شهرين وخمس ليال بعد التسعة الأشهر. وروي عن الشافعي أيضا أن أقراءها على ما كانت حتى تبلغ سن اليائسات. وهو قول النخعي والثوري وغيرهما، وحكاه أبو عبيد عن أهل العراق.

فإن كانت المرأة شابة استؤني بها هل هي حامل أم لا؛ فإن استبان حملها فإن أجلها وضعه. وإن لم يستبن فقال مالك: عدة التي ارتفع حيضها وهي شابة سنة. وبه قال أحمد وإسحاق ورووه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره. وأهل العراق يرون أن عدتها ثلاث حيض بعد ما كانت حاضت مرة واحدة في عمرها، وإن مكثت عشرين سنة، إلا أن تبلغ من الكبر مبلغا تيأس فيه من الحيض فتكون عدتها بعد الإياس ثلاثة أشهر. قال الثعلبي: وهذا الأصح من مذهب الشافعي وعليه جمهور العلماء. وروي ذلك عن ابن مسعود وأصحابه. قال الكيا. وهو الحق؛ لأن الله تعالى جعل عدة الآيسة ثلاثة أشهر؛ والمرتابة ليست آيسة.

 

وأما من تأخر حيضها لمرض؛ فقال مالك وابن القاسم وعبدالله بن أصبغ: تعتد تسعة أشهر ثم ثلاثة. وقال أشهب: هي كالمرضع بعد الفطام بالحيض أو بالسنة. وقد طلق حبان بن منقذ. امرأته وهي ترضع؛ فمكثت سنة لا تحيض لأجل الرضاع، ثم مرض حبان فخاف أن ترثه فخاصمها إلى عثمان وعنده علي وزيد، فقالا: نرى أن ترثه؛ لأنها ليست من القواعد ولا من الصغار؛ فمات حبان فورثته واعتدت عدة الوفاة.

 

ولو تأخر الحيض لغير مرض ولا رضاع فإنها تنتظر سنة لا حيض فيها، تسعة أشهر ثم ثلاثة؛ على ما ذكرناه. فتحل ما لم ترتب بحمل؛ فإن أرتابت بحمل أقامت أربعة أعوام، أو خمسة، أو سبعة؛ على اختلاف الروايات عن علمائنا. ومشهورها خمسة أعوام؛ فإن تجاوزتها حلت. وقال أشهب: لا تحل أبدا حتى تنقطع عنها الريبة. قال ابن العربي: وهو الصحيح؛ لأنه إذا جاز أن يبقى الولد في بطنها خمسة أعوام جاز أن يبقى عشرة وأكثر من ذلك. وقد روي عن مالك مثله.

 

وأما التي جهل حيضها بالاستحاضة ففيها ثلاثة أقوال: قال ابن المسيب: تعتد سنة. وهو قول الليث. قال الليث: عدة المطلقة وعدة المتوفى عنها زوجها إذا كانت مستحاضة سنه. وهو مشهور قول علمائنا؛ سواء علمت دم حيضها من دم استحاضتها، وميزت ذلك أو لم تميزه، عدتها في ذلك كله عند مالك في تحصيل مذهبه سنة؛ منها تسعة أشهر استبراء وثلاثة عدة. وقال الشافعي في أحد أقواله: عدتها ثلاثة أشهر. وهو قول جماعة من التابعين والمتأخرين من القرويين. ابن العربي: وهو الصحيح عندي. وقال أبو عمر: المستحاضة إذا كان دمها ينفصل فعلمت إقبال حيضتها أو إدبارها أعتدت ثلاثة قروء. وهذا أصح في النظر، وأثبت في القياس والأثر.

 

قوله تعالى: « واللائي لم يحضن » يعني الصغيرة فعدتهن ثلاثة أشهر؛ فأضمر الخبر. وإنما كانت عدتها بالأشهر لعدم الأقراء فيها عادة، والأحكام إنما أجراها الله تعالى على العادات؛ فهي تعتد بالأشهر. فإذا رأت الدم في زمن احتماله عند النساء أنتقلت إلى الدم لوجود الأصل، وإذا وجد الأصل لم يبق للبدل حكم؛ كما أن المسنة إذا اعتدت بالدم ثم ارتفع عادت إلى الأشهر. وهذا إجماع.

 

قوله تعالى: « وأولات الأحمال أجلهن » وضع الحمل، وإن كان ظاهرا في المطلقة لأنه عليها عطف وإليها رجع عقب الكلام؛ فإنه في المتوفى عنها زوجها كذلك؛ لعموم الآية وحديث سبعة. وقد مضى في « البقرة » القول فيه مستوفى.

إذا وضعت المرأة ما وضعت من علقة أو مضغة حلت. وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا تحل إلا بما يكون ولدا. وقد مضى القول فيه في سورة « البقرة » وسورة « الرعد » والحمد لله.

 

قوله تعالى: « ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا » قال الضحاك: أي من يتقه في طلاق السنة يجعل له من أمره يسرا في الرجعة. مقاتل: ومن يتق الله في أجتناب معاصيه يجعل له من أمره يسرا في توفيقه للطاعة. « ذلك أمر الله » أي الذي ذكر من الأحكام أمر الله أنزله إليكم وبينه لكم. « ومن يتق الله » أي يعمل بطاعته. « يكفر عنه سيئاته » من الصلاة إلى الصلاة، ومن الجمعة إلى الجمعة. « ويعظم له أجرا » أي في الآخرة.

 

الآية: 6 ( أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى )

 

قوله تعالى: « أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم » قال أشهب عن مالك: يخرج عنها إذا طلقها ويتركها في المنزل؛ لقوله تعالى: « أسكنوهن » . فلو كان معها ما قال أسكنوهن. وقال ابن نافع: قال مالك في قول الله تعالى: « أسكنوهن من حيث سكنتم » يعني المطلقات اللائي بن من أزواجهن فلا رجعة لهم عليهن وليست حاملا، فلها السكنى ولا نفقة لها ولا كسوة، لأنها بائن منه، لا يتوارثان ولا رجعة له عليها. وإن كانت حاملا فلها النفقة والكسوة والمسكن حتى تنقضي عدتها. أما من لم تبن منهن فإنهن نساؤهم يتوارثون، ولا يخرجن إلا أن يأذن لهن أزواجهن ماكن في عدتهن، ولم يؤمروا بالسكنى لهن لأن ذلك لازم لأزواجهن مع نفقتهن وكسوتهن، حوامل كن أو غير حوامل. وإنما أمر الله بالسكنى للائي بن من أزواجهن مع نفقتهن، قال الله تعالى: « وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن » فجعل عز وجل للحوامل اللائي قد بن من أزواجهن السكنى والنفقة. قال ابن العربي: وبسط ذلك وتحقيقه أن الله سبحانه لما ذكر السكنى أطلقها لكل مطلقة، فلما ذكر النفقة قيدها بالحمل، فدل على أن المطلقة البائن لا نفقة لها. وهي مسألة عظيمة فد مهدنا سبلها قرآنا وسنة ومعنى في مسائل الخلاف. وهذا مأخذها من القرآن.

قلت: اختلف العلماء في المطلقة ثلاثا على ثلاثة أقوال، فمذهب مالك والشافعي: أن لها السكنى ولا نفقة لها. ومذهب أبي حنيفة وأصحابه: أن لها السكنى والنفقة. ومذهب أحمد وإسحاق وأبي ثور: أن لا نفقة لها ولا سكنى، على حديث فاطمة بنت قيس، قالت: دخلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعي أخو زوجي فقلت: إن زوجي طلقني وإن هذا يزعم أن ليس لي سكنى ولا نفقة؟ قال: ( بل لك السكنى ولك النفقة ) . قال: إن زوجها طلقها ثلاثا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنما السكنى والنفقة على من له عليها الرجعة ) . فلما قدمت الكوفة طلبني الأسود بن يزيد ليسألني عن ذلك، وإن أصحاب عبدالله يقولون: إن لها السكنى والنفقة. خرجه الدارقطني. ولفظ مسلم عنها: أنه طلقها زوجها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أنفق عليها نفقة دون، فلما رأت ذلك قالت: والله لأعلمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان لى نفقة أخذت الذي يصلحني وإن لم تكن لي نفقة لم آخذ شيئا. قالت: فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( لا نفقة لك ولا سكنى ) . وذكر الدارقطني عن الأسود قال: قال عمر لما بلغه قول فاطمة بنت قيس: لا نجيز في المسلمين قول امرأة. وكان يجعل للمطلقة ثلاثا السكنى والنفقة. وعن الشعبي قال: لقيني الأسود بن يزيد فقال. يا شعبي، أتق الله وأرجع عن حديث فاطمة بنت قيس؛ فإن عمر كان يجعل لها السكنى والنفقة. قلت: لا أرجع عن شيء حدثتني به فاطمة بنت قيس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قلت: ما أحسن هذا. وقد قال قتادة وابن أبي ليلى: لا سكنى إلا للرجعية؛ لقوله تعالى: « لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا » [ الطلاق: 1 ] ، وقوله تعالى: « اسكنوهن » راجع إلى ما قبله، وهي المطلقة الرجعية. والله أعلم. ولأن السكنى تابعة للنفقة وجارية مجراها؛ فلما لم تجب للمبتوتة نفقة لم يجب لها سكنى. وحجة أبي حنيفة أن للمبتوتة النفقة قوله تعالى: « ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن » وترك النفقة من أكبر الأضرار. وفي إنكار عمر على فاطمة قولها ما يبين هذا، ولأنها معتدة تستحق السكنى عن طلاق فكانت لها النفقة كالرجعية، ولأنها محبوسة عليه لحقه فاستحقت النفقة كالزوجة. ودليل مالك قوله تعالى: « وإن كن أولات حمل » الآية. على ما تقدم بيانه. وقد قيل: إن الله تعالى ذكر المطلقة الرجعية وأحكامها أول الآية إلى قوله: « ذوي عدل منكم » [ الطلاق: 2 ] ثم ذكر بعد ذلك حكما يعم المطلقات كلهن من تعديد الأشهر وغير ذلك. وهو عام في كل مطلقة؛ فرجع ما بعد ذلك من الأحكام إلى كل مطلقة.

 

قوله تعالى: « من وُجدكم » أي من سعتكم؛ يقال وجدت في المال أجد وجدا ووجدا ووجدا وجدة. والوجد: الغنى والمقدرة. وقراءة العامة بضم الواو. وقرأ الأعرج والزهري بفتحها، ويعقوب بكسرها. وكلها لغات فيها. « ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن » قال مجاهد: في المسكن. مقاتل: في النفقة؛ وهو قول أبي حنيفة. وعن أبي الضحى: هو أن يطلقها فإذا بقي يومان من عدتها راجعها ثم طلقها.

 

قوله تعالى: « وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن » لا خلاف بين العلماء في وجوب النفقة والسكنى للحامل المطلقة ثلاثا أو أقل منهن حتى تضع حملها. فأما الحامل المتوفى عنها زوجها فقال علي وابن عمر وابن مسعود وشريح والنخعي والشعبي وحماد وابن أبي ليلى وسفيان والضحاك: ينفق عليها من جميع المال حتى تضع. وقال ابن عباس وابن الزبير وجابر بن عبدالله ومالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم: لا ينفق عليها إلا من نصيبها. وقد مضى في « البقرة » بيانه.

 

قوله تعالى: « فإن أرضعن لكم » - يعني المطلقات - أولادكم منهن فعلى الآباء أن يعطوهن أجرة إرضاعهن. وللرجل أن يستأجر امرأته للرضاع كما يستأجر أجنبية ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه الاستئجار إذا كان الولد منهن ما لم يبن. ويجوز عند الشافعي. وتقدم القول في الرضاع في « البقرة » و « النساء » مستوفى ولله الحمد.

 

قوله تعالى: « وأتمروا بينكم بمعروف » هو خطاب للأزواج والزوجات؛ أي وليقبل بعضكم من بعض ما أمره به من المعروف الجميل. والجميل منها إرضاع الولد من غير أجرة. والجميل منه توفير الأجرة عليها للإرضاع. وقيل: ائتمروا في رضاع الولد فيما بينكم بمعروف حتى لا يلحق الولد إضرار. وقيل: هو الكسوة والدثار. وقيل: معناه لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده.

 

قوله تعالى: « وإن تعاسرتم » أي في أجرة الرضاع فأبى الزوج أن يعطي الأم رضاعها وأبت الأم أن ترضعه فليس له إكراهها؛ وليستأجر مرضعة غير أمه. وقيل: معناه وإن تضايقتم وتشاكستم فليسترضع لولده غيرها؛ وهو خبر في معنى الأمر. وقال الضحاك: إن أبت الأم أن ترضع استأجر لولده أخرى، فإن لم يقبل أجبرت أمه على الرضاع بالأجر. وقد اختلف العلماء فيمن يجب عليه رضاع الولد على ثلاثة أقوال: قال علماؤنا: رضاع الولد على الزوجة ما دامت الزوجية؛ إلا لشرفها وموضعها فعلى الأب رضاعه يومئذ في ماله. الثاني: قال أبو حنيفة: لا يجب على الأم بحال. الثالث: يجب عليها في كل حال.

 

فإن طلقها فلا يلزمها رضاعه إلا أن يكون غير قابل ثدي غيرها فيلزمها حينئذ الإرضاع. فإن اختلفا في الأجر فإن دعت إلى أجر مثلها وامتنع الأب إلا تبرعا فالأم أولى بأجر المثل إذا لم يجد الأب متبرعا. وإن دعا الأب إلى أجر المثل وامتنعت الأم لتطلب شططا فالأب أولى به. فإن أعسر الأب بأجرتها أخذت جبرا برضاع ولدها.

 

الآية: 7 ( لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا )

 

قوله تعالى: « لينفق » أي لينفق الزوج على زوجته وعلى ولده الصغير على قدر وسعه حتى يوسع عليهما إذا كان موسعا عليه. ومن كان فقيرا فعلى قدر ذلك. فتقدر النفقة بحسب الحالة من المنفق والحاجة من المنفق عليه بالاجتهاد على مجرى حياة العادة؛ فينظر المفتي إلى قدر حاجة المنفق، عليه ثم ينظر إلى حالة المنفق، فإن احتملت الحالة أمضاها عليه، فإن اقتصرت حالته على حاجة المنفق عليه ردها إلى قدر احتماله. وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه وأصحابه: النفقة مقدرة محددة، ولا اجتهاد لحاكم ولا لمفت فيها. وتقديرها هو بحال الزوج وحده من يسره وعسره، ولا يعتبر بحالها وكفايتها. قالوا: فيجب لابنة الخليفة ما يجب لابنة الحارس. فإن كان الزوج موسرا لزمه مدان، وإن كان متوسطا فمد ونصف، وإن كان معسرا فمد. واستدلوا بقوله تعالى: « لينفق ذو سعة من سعته » الآية. فجعل الاعتبار بالزوج في اليسر والعسر دونها؛ ولأن الاعتبار بكفايتها لا سبيل إلى علمه للحاكم ولا لغيره؛ فيؤدي إلى الخصومة؛ لأن الزوج يدعي أنها تلتمس فوق كفايتها، وهي تزعم أن الذي تطلب قدر كفايتها؛ فجعلناها مقدرة قطعا للخصومة. والأصل في هذا عندهم قوله تعالى: « لينفق ذو سعة من سعته » - كما ذكرنا - وقوله: « على الموسع قدره وعلى المقتر قدره » [ البقرة: 236 ] . والجواب أن هذه الآية لا تعطي أكثر من فرق بين نفقة الغني والفقير، وإنها تختلف بعسر الزوج ويسره. وهذا مسلم. فأما إنه لا اعتبار بحال الزوجة على وجهه فليس فيه، وقد قال الله تعالى: « وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف » [ البقرة: 233 ] وذلك يقتضي تعلق المعروف في حقهما؛ لأنه لم يخص في ذلك واحدا منهما. وليس من المعروف أن يكون كفاية الغنية مثل نفقة الفقيرة؛ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهند: ( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ) . فأحالها على الكفاية حين علم السعة من حال أبي سفيان الواجب عليه بطلبها، ولم يقل لها لا اعتبار بكفايتك وأن الواجب لك شيء مقدر، بل ردها إلى ما يعلمه من قدر كفايتها ولم يعلقه بمقدار معلوم. ثم ما ذكروه من التحديد يحتاج إلى توقيف؛ والآية لا تقتضيه.

 

روي أن عمر رضي الله عنه فرض للمنفوس مائة درهم، وفرض له عثمان خمسين درهما. ابن العربي: « وأحتمل أن يكون هذا الاختلاف بحسب اختلاف السنين أو بحسب حال القدر في التسعير لثمن القوت والملبس، وقد روي محمد بن هلال المزني قال: حدثني أبي وجدتي أنها كانت ترد على عثمان ففقدها فقال لأهله: ما لي لا أرى فلانة؟ فقالت امرأته: يا أمير المؤمنين، ولدت الليلة؛ فبعث إليها بخمسين درهما وشقيقة سبلانية. ثم قال: هذا عطاء ابنك وهذه كسوته، فإذا مرت له سنة رفعناه إلى مائة. وقد أتي علي رضي الله عنه بمنبوذ ففرض له مائة. قال ابن العربي: ( هذا الفرض قبل الفطام مما اختلف فيه العلماء؛ فمنهم من رآه مستحبا لأنه داخل في حكم الآية، ومنهم من رآه واجبا لما تجدد من حاجته وعرض من مؤنته؛ وبه أقول. ولكن يختلف قدره بحاله عند الولادة وبحاله عند الفطام. وقد روي سفيان بن وهب أن عمر أخذ المد بيد والقسط بيد فقال: إني فرضت لكل نفس مسلمة في كل شهر مدي حنطة وقسطي خل وقسطي زيت. زاد غيره: وقال إنا قد أجرينا لكم أعطياتكم وأرزاقكم في كل شهر، فمن انتقصها فعل الله به كذا وكذا؛ فدعا عليه. قال أبو الدرداء: كم سنة راشدة مهدية قد سنها عمر رضي الله عنه في أمة محمد صلى الله عليه وسلم! والمد والقسط كيلان شاميان في الطعام والإدام؛ وقد درسا بعرف آخر. فأما المد فدرس إلى الكيلجة. وأما القسط فدرس إلى الكيل، ولكن التقدير فيه عندنا ربعان في الطعام وثمنان في الإدام. وأما الكسوة فبقدر العادة قميص وسراويل وجبة في الشتاء وكساء وإزار وحصير. وهذا الأصل، ويتزيد بحسب الأحوال والعادة » .

 

هذه الآية أصل في وجوب النفقة للولد على الوالد دون الأم؛ خلافا لمحمد بن المواز يقول: إنها على الأبوين على قدر الميراث. ابن العربي: ولعل محمدا أراد أنها على الأم عند عدم الأب. وفي البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم ( تقول لك المرأة أنفق علي وإلا فطلقني ويقول لك العبد أنفق علي واستعملني ويقول لك ولدك أنفق علي إلى من تكلني ) فقد تعاضد القرآن والسنة وتواردا في شرعة واحدة.

 

قوله تعالى: « لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها » أي لا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغني. « سيجعل الله بعد عسر يسرا » أي بعد الضيق غنى، وبعد الشدة سعة.

 

الآيات: 8 - 11 ( وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا، فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا، أعد الله لهم عذابا شديدا فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا، رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا )

 

قوله تعالى: « وكأين من قرية » لما ذكر الأحكام ذكر وحذر مخالفة الأمر، وذكر عتو قوم وحلول العذاب بهم. وقد مضى القول في « كأين » في « آل عمران » والحمد لله. « عتت عن أمر ربها ورسله » أي عصت؛ يعني القرية والمراد أهلها. « فحاسبناها حسابا شديدا » أي جازيناها بالعذاب في الدنيا « وعذبناها عذابا نكرا » في الآخرة. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير؛ فعذبناها عذابا نكرا في الدنيا بالجوع والقحط والسيف والخسف والمسخ وسائر المصائب، وحاسبناها في الآخرة حسابا شديدا. والنكر: المنكر. وقرئ مخففا ومثقلا؛ وقد مضى في سور « الكهف » . « فذاقت وبال أمرها » أي عاقبة كفرها « وكان عاقبة أمرها خسرا » أي هلاكا في الدنيا بما ذكرنا، والآخرة بجهنم. وجيء بلفظ الماضي كقوله تعالى: « ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار » [ الأعراف: 44 ] ونحو ذلك؛ لأن المنتظر من وعد الله ووعيده ملقى في الحقيقة؛ وما هو كائن فكأن قد. « أعد الله لهم عذابا شديدا » بين ذلك الخسر وأنه عذاب جهنم في الآخرة. « فاتقوا الله يا أولي الألباب » أي العقول. « الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا » بدل من « أولي الألباب » أو نعت لهم؛ أي يا أولي الألباب الذين آمنتم بالله اتقوا الله الذي أنزل عليكم القرآن؛ أي خافوه واعملوا بطاعته وانتهوا عن معاصيه. وقد تقدم.

 

قوله تعالى: « رسولا » قال الزجاج: إنزال الذكر دليل على إضمار أرسل؛ أي أنزل إليكم قرآنا وأرسل رسولا. وقيل: إن المعنى قد أنزل الله إليكم صاحب ذكر رسولا؛ « فرسولا » نعت للذكر على تقدير حذف المضاف. وقيل: إن رسولا معمول للذكر لأنه مصدر؛ والتقدير: قد أنزل الله إليكم أن ذكر رسولا. ويكون ذكره الرسول قوله: « محمد رسول الله » [ الفتح: 29 ] . ويجوز أن يكون « رسولا » بدل من ذكر، على أن يكون « رسولا » بمعنى رسالة، أو على أن يكون على بابه ويكون محمولا على المعنى، كأنه قال: قد أظهر الله لكم ذكرا رسولا، فيكون من باب بدل الشيء من الشيء وهو هو. ويجوز أن ينتصب « رسولا » على الإغراء كأنه قال: اتبعوا رسولا. وقيل: الذكر هنا الشرف، نحو قوله تعالى: « لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم » [ الأنبياء: 10 ] ، وقوله تعالى: « وإنه لذكر لك ولقومك » [ الزخرف: 44 ] ، ثم بين هذا الشرف، فقال: « رسولا » . والأكثر على أن المراد بالرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم. وقال الكلبي: هو جبريل، فيكونان جميعا منزلين. « يتلو عليكم آيات الله » نعت لرسول. و « آيات الله » القرآن. « مبينات » قراءة العامة بفتح الياء؛ أي بينها الله. وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بكسرها، أي يبين لكم ما تحتاجون إليه من الأحكام. والأولى قراءة ابن عباس واختيار أبي عبيد وأبي حاتم، لقوله تعالى: « قد بينا لكم الآيات » [ الحديد: 17 ] .

 

قوله تعالى: « ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات » أي من سبق له ذلك في علم الله. « من الظلمات » أي من الكفر. « إلى النور » الهدى والإيمان. قال ابن عباس: نزلت في مؤمني أهل الكتاب. وأضاف الإخراج إلى الرسول لأن الإيمان يحصل منه بطاعته. « ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا » قرأ نافع وابن عامر بالنون، والباقون بالياء. « قد أحسن الله له رزقا » أي وسع الله له في الجنات.

 

الآية: 12 ( الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما )

 

قوله تعالى: « الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن » دل على كمال قدرته وأنه يقدر على البعث والمحاسبة. ولا خلاف في السموات أنها سبع بعضها فوق بعض؛ دل على ذلك حديث الإسراء وغيره. ثم قال: « ومن الأرض مثلهن » يعني سبعا. واختلف فيهن على قولين: أحدهما: وهو قول الجمهور - أنها سبع أرضين طباقا بعضها فوق بعض، بين كل أرض وأرض مسافة كما بين السماء والسماء، وفي كل أرض سكان من خلق الله. وقال الضحاك: « ومن الأرض مثلهن » أي سبعا من الأرضين، ولكنها مطبقة بعضها على بعض من غير فتوق بخلاف السموات. والأول أصح؛ لأن الأخبار دالة عليه في الترمذي والنسائي وغيرهما. وقد مضى ذلك مبينا في « البقرة » . وقد خرج أبو نعيم قال: حدثنا محمد بن علي بن حبيش قال: حدثنا إسماعيل بن إسحاق السراج، ( ح ) وحدثنا أبو محمد بن حبان قال: حدثنا عبدالله بن محمد بن ناجية قال: حدثنا سويد بن سعيد قال حدثنا حفص بن ميسرة عن موسى بن عقبة عن عطاء بن أبي مروان عن أبيه أن كعبا حلف له بالذي فلق البحر لموسى أن صهيبا حدثه أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم ير قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها: ( اللهم رب السموات السبع وما أظللن ورب الأرضين السبع وما أقللن ورب الشياطين وما أضللن ورب الرياح وما أذرين إنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها ) . قال أبو نعيم: هذا حديث ثابت من حديث موسى بن عقبة تفرد به عن عطاء. روي عنه ابن أبي الزناد وغيره.

وفي صحيح مسلم عن سعيد بن زيد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من أخذ شبرا من الأرض ظلما فأنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين ) ومثله حديث عائشة، وأبين منهما حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يأخذ أحد شبرا من الأرض بغير حقه إلا طوقه الله إلى سبع أرضين يوم القيامة ) . قال الماوردي: وعلى أنها سبع أرضين بعضها فوق بعض تختص دعوة أهل الإسلام بأهل الأرض العليا، ولا تلزم من في غيرها من الأرضين وإن كان فيها من يعقل من خلق مميز. وفي مشاهدتهم السماء واستمدادهم الضوء منها قولان: أحدهما - أنهم يشاهدون السماء من كل جانب من أرضهم ويستمدون الضياء منها. وهذا قول من جعل الأرض مبسوطة. والقول الثاني: أنهم لا يشاهدون السماء، وأن الله تعالى خلق لهم ضياء يستمدونه. وهذا قول من جعل الأرض كالكرة. وفي الآية قول ثالث حكاه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها سبع أرضين منبسطة؛ ليس: بعضها فوق بعض، تفرق بينها البحار وتظل جميعهم السماء. فعلى هذا إن لم يكن لأحد من أهل الأرض وصول إلى أرض أخرى اختصت دعوة الإسلام بأهل هذه الأرض، وإن كان لقوم منهم وصول إلى أرض أخرى احتمل أن تلزمهم دعوة الإسلام عند إمكان الوصول إليهم؛ لأن فصل البحار إذا أمكن سلوكها لا يمنع من لزوم ما عم حكمه، واحتمل ألا تلزمهم دعوة الإسلام لأنها لو لزمتهم لكان النص بها وأردا، ولكان صلى الله عليه وسلم بها مأمورا. والله أعلم ما استأثر بعلمه، وصواب ما أشتبه على خلقه. ثم قال: « يتنزل الأمر بينهن » قال مجاهد: يتنزل الأمر من السموات السبع إلى الأرضين السبع. وقال الحسن: بين كل سماءين أرض وأمر. والأمر هنا الوحي؛ في قول مقاتل وغيره. وعليه فيكون قوله: « بينهن » إشارة إلى بين هذه الأرض العليا التي، هي أدناها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها. وقيل: الأمر القضاء والقدر. وهو قول الأكثرين. فعلى هذا يكون المراد بقوله تعالى: « بينهن » إشارة إلى ما بين الأرض السفلى التي هي أقصاها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها. وقيل: « يتنزل الأمر « بينهن » بحياة بعض وموت بعض وغنى قوم وفقر قوم. وقيل: هو ما يدبر فيهن من عجيب تدبيره؛ فينزل المطر ويخرج النبات ويأتي بالليل والنهار، والصيف والشتاء، ويخلق الحيوانات على اختلاف أنواعها وهيئاتها؛ فينقلهم من حال إلى حال. قال ابن كيسان: وهذا على مجال اللغة وأتساعها؛ كما يقال للموت: أمر الله؛ وللريح والسحاب ونحوها. » لتعلموا أن الله على كل شيء قدير « يعني أن من قدر على هذا الملك العظيم فهو على ما بينهما من خلقه أقدر، ومن العفو والانتقام أمكن؛ وإن استوى كل ذلك، في مقدوره ومكنته. » وأن الله قد أحاط بكل شيء علما « فلا يخرج شيء عن علمه وقدرته. ونصب » علما « على المصدر المؤكد؛ لأن » أحاط « بمعنى علم. وقيل: بمعنى وأن الله أحاط إحاطة علما.»

ختمت السورة بحمد الله وعونه

 

سورة التحريم

مقدمة السورة

 

مدنية في قول الجميع، وهي اثنتا عشرة آية. وتسمى سورة « النبي » .

 

الآية: 1 ( يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم )

 

قوله تعالى: « يا أيها النبي لم تحرمُ ما أحل الله لك » ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي لله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا، قالت فتواطأت أنا وحفصة أن أيتنا ما دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلتقل: إني أجد منك رح مغافير! أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما فقالت له ذلك. فقال: ( بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له ) . فنزل: « لم تحرم ما أحل الله لك - إلى قوله - إن تتوبا: ( لعائشة وحفصة ) ، » وإذ أشر النبي إلى بعض أزواجه حديثا « [ التحريم 30 ] لقوله: ( بل شربت عسلا ) . وعنها أيضا قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل، فكان إذا صلي العصر دار على نسائه فيدنو منهن، فدخل على حفصة فأحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس، فسألت عن ذلك فقيل لي: أهدت لها امرأة من قومها عكة من عسل، فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شربة. فقلت: أما والله لنحتالن له، فذكرت ذلك لسودة وقلت: إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك فقولي له: يا رسول الله، أكلت مغافير؟ فإنه سيقول لك لا. فقولي له: ما هذه الريح؟ - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح - فإنه سيقول لك سقتني حفصة شربة عسل. فقولي له: جرست نحله العُرْفُط. وسأقول ذلك له، وقوليه أنت يا صفية. فلما دخل على سودة - قالت: تقول سودة والله الذي لا إله إلا هو لقى كدت أن أبادئه بالذي قلت لي، وإنه لعلى الباب، فرقا منك. فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله، أكلت مغافير؟ قال: ( لا ) قالت: فما هذه الريح؟ قال: ( سقتني حفصة شربة عسل ) قال: جرست نحله العرفط. فلما دخل علي قلت له مثل ذلك. ثم دخل على صفة فقالت بمثل ذلك. فلما دخل على حفصة قال: يا رسول الله، ألا أسقك منه. قال ( لا حاجة لي به ) قالت: تقول سودة سبحان الله! والله لقد حرمناه. قالت: قلت لها اسكتي. ففي هذه الرواية أن التي شرب عندها العسل حفصة. وفي الأولى زينب. وروي ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه شربه عند سودة. وقد قيل: إنما هي أم سلمة، رواه أسباط عن السدي. وقاله عطاء بن أبي مسلم. ابن العربي: وهذا كله جهل أو تصور بغير علم. فقال باقي نسائه حسدا وغيرة لمن شرب ذلك عندها: إنا لنجد منك ريح المغافير. والمغافير: بقلة أو صمغة متغيرة الرائحة، فيها حلاوة. واحدها مغفور، وجرست: أكلت. والعرفط: نبت له ريح كريح الخمر. وكان عليه السلام يعجبه أن يوجد منه الريح الطيبة أو يجدها، ويكره الريح الخبيثة لمناجاة الملك. فهذا قول.»

وقول آخر - أنه أراد بذلك المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها لأجل أزواجه، قاله ابن عباس وعكرمة. والمرأة أم شريك. وقول ثالث - إن التي حرم مارية القبطية، وكان قد أهداها له المقوقس ملك الإسكندرية. قال ابن إسحاق: هي من كورة أنصنا من بلد يقال له حفن فواقعها في بيت حفصة. روي الدارقطني عن ابن عباس عن عمر قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم ولده مارية في بيت حفصة، فوجدته حفصة معها - وكانت حفصة غابت إلى بيت أبيها - فقالت له: تدخلها بيتي! ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك. فقال لها: ( لا تذكري هذا لعائشة فهي علي حرام إن قربتها ) قالت حفصة: وكيف تحرم عليك وهي جاريتك؟ فحلف لها ألا يقربها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تذكريه لأحد ) . فذكرته لعائشة، فآلى لا يدخل على نسائه شهرا، فاعتزلهن تسعا وعشرين ليلة، فأنزل الله عز وجل « لم تحرم ما أحل الله لك » الآية.

 

أصح هذه الأقوال أولها. وأضعفها أوسطها. قال ابن العربي: « أما ضعفه في السند فلعدم عدالة رواته، وأما ضعفه في معناه فلأن رد النبي صلى الله عليه وسلم للموهوبة ليس تحريما لها، لأن من رد ما وهب له لم يحرم عليه، إنما حقيقة التحريم بعد التحليل. وأما من روي أنه حرم مارية القبطية فهو أمثل في السند وأقرب إلى المعنى، لكنه لم يدون في الصحيح. وروي مرسلا. وقد روي ابن وهب عن مالك عن زيد بن أسلم قال: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أم إبراهيم فقال: ( أنت علي حرام والله لا آتينك ) . فأنزل الله عز وجل في ذلك: » يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك « وروي مثله ابن القاسم عنه. وروي أشهب عن مالك قال: راجعت عمر امرأة من الأنصار في شيء فاقشعر من ذلك وقال: ما كان النساء هكذا! قال: بلى، وقد كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يراجعنه. فأخذ ثوبه فخرج إلى حفصة فقال لها: أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: نعم، ولو أعلم أنك تكره ما فعلت. فلما بلغ عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هجر نساءه قال: رغم أنف حفصة. وإنما الصحيح أنه كان في العسل وأنه شربه عند زينب، وتظاهرت عليه عائشة وحفصة فيه، فجرى ما جرى فحلف ألا يشربه وأسر ذلك. ونزلت الآية في الجميع.»

 

قوله تعالى: « لم تحرم » إن كان النبي صلى الله عليه وسلم حرم ولم يحلف فليس ذلك بيمين عندنا. ولا يحرم قول الرجل: « هذا علي حرام » شيئا حاشا الزوجة. وقال أبو حنيفة: إذا أطلق حمل على المأكول والمشروب دون الملبوس، وكانت يمينا توجب الكفارة. وقال زفر: هو يمين في الكل حتى في الحركة والكون. وعول المخالف على أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم العسل فلزمته الكفارة. وقد قال الله تعالى: « قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم » [ التحريم: 2 ] فسماه يمينا. ودليلنا قول الله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا » [ المائدة: 87 ] ، وقوله تعالى: « قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون » [ يونس: 59 ] . فذم الله المحرم للحلال ولم يوجب عليه كفارة. قال الزجاج: ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله. ولم يجعل لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يحرم إلا ما حرم الله عليه. فمن قال لزوجته أو أمته: أنت علي حرام؛ ولم ينو طلاقا ولا ظهارا فهذا اللفظ يوجب كفارة اليمين. ولو خاطب بهذا اللفظ جمعا من الزوجات والإماء فعليه كفارة واحدة. ولو حرم على نفسه طعاما أو شيئا آخر لم يلزمه بذلك كفارة عند الشافعي ومالك. وتجب بذلك كفارة عند ابن مسعود والثوري وأبي حنيفة.

 

واختلف العلماء في الرجل يقول لزوجته: « أنت علي حرام » على ثمانية عشر قولا: أحدها: لا شيء عليه. وبه قال الشعبي ومسروق وربيعة وأبو سلمة وأصبغ. وهو عندهم كتحريم الماء والطعام؛ قال الله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم » [ المائدة: 87 ] والزوجة من الطيبات ومما أحل الله. وقال تعالى: « ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام » [ النحل: 116 ] . وما لم يحرمه الله فليس لأحد أن يحرمه، ولا أن يصير بتحريمه حراما. ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لما أحله الله هو علي حرام. وإنما امتنع من مارية ليمين تقدمت منه وهو قوله: ( والله لا أقربها بعد اليوم ) فقيل له: لم تحرم ما أحل الله لك؛ أي لم تمتنع منه بسبب اليمين. يعني أقدم عليه وكفر.

ثانيها: أنها يمين يكفرها؛ قال أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعبدالله بن مسعود وابن عباس وعائشة - رضي الله عنهم - والأوزاعي؛ وهو مقتضى الآية. قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: إذا حرم الرجل عليه امرأته فإنما هي يمين يكفرها. وقال ابن عباس: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة؛ يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حرم جاريته فقال الله تعالى: « لم تحرم ما أحل الله لك - إلى قوله تعالى - قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم » فكفر عن يمينه وصير الحرام يمينا. خرجه الدارقطني.

ثالثها: أنها تجب فيها كفارة وليست بيمين؛ قاله ابن مسعود وابن عباس أيضا في إحدى روايتيه، والشافعي في أحد قوليه، وفي هذا القول نظر. والآية ترده على ما يأتي.

رابعها: هي ظهار؛ ففيها كفارة الظهار، قال عثمان وأحمد بن حنبل وإسحاق.

خامسها: أنه إن نوى الظهار وهو ينوي أنها محرمة كتحريم ظهر أمه كان ظهارا. وإن نوى تحريم عينها عليه بغير طلاق تحريما مطلقا وجبت كفارة يمين. وإن لم ينو شيئا فعليه كفارة يمين، قاله الشافعي.

سادسها: أنها طلقة رجعية، قاله عمر بن الخطاب والزهري وعبدالعزيز بن أبي سلمة وابن الماجشون. وسابعها: أنها طلقة بائنة، قاله حماد بن أبي سليمان وزيد بن ثابت. ورواه ابن خويز منداد عن مالك.

ثامنها: أنها ثلات تطليقات، قال علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت أيضا وأبو هريرة.

تاسعها: هي في المدخول بها ثلاث، وينوي في غير المدخول بها، قاله الحسن وعلي بن زيد والحكم. وهو مشهور مذهب مالك.

عاشرها: هي ثلاث؛ ولا ينوي بحال ولا في محل وإن لم يدخل؛ قاله عبدالملك في المبسوط، وبه قال ابن أبي ليلى.

حادي عشرها: هي في التي لم يدخل بها واحدة، وفي التي دخل بها ثلاث؛ قاله أبو مصعب ومحمد بن عبدالحكم.

ثاني عشرها: أنه إن نوى الطلاق أو الظهار كان ما نوى. فإن نوى الطلاق فواحدة بائنة إلا أن ينوي ثلاثا. فإن نوى ثنتين فواحدة. فإن لم ينو شيئا كانت يمينا وكان الرجل موليا من امرأته؛ قاله أبو حنيفة وأصحابه. وبمثله قال زفر؛ إلا أنه قال: إذا نوى اثنتين ألزمناه.

ثالث عشرها: أنه لا تنفعه نية الظهار وإنما يكون طلاقا؛ قاله ابن القاسم.

رابع عشرها: قال يحيى بن عمر: يكون طلاقا؛ فإن أرتجعها لم يجز له وطؤها حتى يكفر كفارة الظهار.

خامس عشرها: إن نوى الطلاق فما أراد من أعداده. وإن نوى واحدة فهي رجعية. وهو قول الشافعي رضي الله عنه. وروي مثله عن أبي بكر وعمر وغيرهم من الصحابة والتابعين.

سادس عشرها: إن نوى ثلاثا فثلاثا، وإن واحدة فواحدة. وإن نوى يمينا فهي يمين. وإن لم ينو شيئا فلا شيء عليه. وهو قول سفيان. وبمثله قال الأوزاعي وأبو ثور؛ إلا أنهما قالا: إن لم ينو شيئا فهي واحدة.

سابع عشرها: له نيته ولا يكون أقل من واحدة؛ قاله ابن شهاب. وإن لم ينو شيئا لم يكن شيء؛ قال ابن العربي. ورأيت لسعيد بن جبير وهو:

الثامن عشر: أن عليه عتق رقبة وإن لم يجعلها ظهارا. ولست أعلم لها وجها ولا يبعد في المقالات عندي.

قلت: قد ذكره الدارقطني في سننه عن ابن عباس فقال: حدثنا الحسين بن إسماعيل قال حدثنا محمد بن منصور قال حدثنا روح قال: حدثنا سفيان الثوري عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه أتاه رجل فقال: إني جعلت امرأتي علي حراما. فقال: كذبت! ليست عليك بحرام؛ ثم تلا « يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك » عليك أغلظ الكفارات: عتق رقبة. وقد قال جماعة من أهل التفسير: إنه لما نزلت هذه الآية كفر عن يمينه بعتق رقبة، وعاد إلى مارية صلى الله عليه وسلم؛ قاله زيد بن أسلم وغيره.

 

قال علماؤنا: سبب الاختلاف في هذا الباب أنه ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم نص ولا ظاهر صحيح يعتمد عليه في هذه المسألة، فتجاذبها العلماء لذلك. فمن تمسك بالبراءة الأصلية فقال: لا حكم، فلا يلزم بها شيء. وأما من قال إنها يمين؛ فقال: سماها الله يمينا. وأما من قال: تجب فيها كفارة وليست بيمين؛ فبناه على أحد أمرين: أحدهما: أنه ظن أن الله تعالى أوجب الكفارة فيها وإن لم تكن يمينا. والثاني: أن معنى اليمين عنده التحريم، فوقعت الكفارة على المعنى. وأما من قال: إنها طلقة رجعية؛ فإنه حمل اللفظ على أقل وجوهه، والرجعية محرمة الوطء كذلك؛ فيحمل اللفظ عليه. وهذا يلزم مالكا، لقوله: إن الرجعية محرمة الوطء. وكذلك وجه من قال: إنها ثلاث، فحمله على أكبر معناه وهو الطلاق الثلاث. وأما من قال: إنه ظهار، فلأنه أقل درجات التحريم، فإنه تحريم لا يرفع النكاح. وأما من قال: إنه طلقة بائنة، فعول على أن الطلاق الرجعي لا يحرم المطلقة، وأن الطلاق البائن يحرمها. وأما قول يحيى بن عمر فإنه احتاط بأن جعله طلاقا، فلما ارتجعها احتاط بأن يلزمه الكفارة. ابن العربي: « وهذا لا يصح، لأنه جمع بين المتضادين، فإنه لا يجتمع ظهار وطلاق في معنى لفظ واحد، فلا وجه للاحتياط فيما لا يصح اجتماعه في الدليل. وأما من قال: إنه ينوى في التي لم يدخل بها، فلأن الواحدة تبينها وتحرمها شرعا إجماعا. وكذلك قال من لم يحكم باعتبار نيته: إن الواحدة تكفي قبل الدخول في التحريم بالإجماع، فيكفي أخذا بالأقل المتفق عليه. وأما من قال: إنه ثلاث فيهما، فلأنه أخذ بالحكم الأعظم، فإنه لو صرح بالثلاث لنفذت في التي لم يدخل بها نفوذها في التي دخل بها. ومن الواجب أن يكون المعنى مثله وهو التحريم » . والله أعلم. وهذا كله في الزوجة. وأما في الأمة فلا يلزم فيها شيء من ذلك، إلا أنه ينوي به العتق عند مالك. وذهب عامة العلماء إلى أن عليه كفارة يمين. ابن العربي. والصحيح أنها طلقة واحدة، لأنه لو ذكر الطلاق لكان أقله وهو الواحدة إلا أن يعدده. كذلك إذا ذكر التحريم يكون أقله إلا أن يقيده بالأكثر، مثل أن يقول أنت علي حرام إلا بعد زوج، فهذا نص على المراد.

قلت: أكثر المفسرين على أن الآية نزلت في حفصة لما خلا النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها بجاريته؛ ذكره الثعلبي. وعلى هذا فكأنه قال: لا يحرم عليك ما حرمته على نفسك ولكن عليك كفارة يمين، وإن كان في تحريم العسل والجارية أيضا. فكأنه قال: لم يحرم عليك ما حرمته، ولكن ضممت إلى التحريم يمينا فكفر عن اليمين. وهذا صحيح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حرم ثم حلف، كما ذكره الدارقطني. وذكر البخاري معناه في قصة العسل عن عبيد بن عمير عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عند زينب بنت جحش عسلا ويمكث عندها، فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل: أكلت مغافير؟ إني لأجد منك ريح مغافير! قال: ( لا ولكن شربت عسلا ولن أعود له وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا ) . يبتغي مرضات أزواجه. فيعني بقوله: ( ولن أعود له على جهة التحريم. وبقوله: ( حلفت ) أي بالله، بدليل أن الله تعالى أنزل عليه عند ذلك معاتبته على ذلك، وحوالته على كفارة اليمين بقوله تعالى: « يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك » يعني العسل المحرم بقوله: ( لن أعود له ) . « تبتغي مرضات أزواجك » أي تفعل ذلك طلبا لرضاهن. « والله غفور رحيم » غفور لما أوجب المعاتبة، رحيم برفع المؤاخذة. وقد قيل: إن ذلك كان ذنبا من الصغائر. والصحيح أنه معاتبة على ترك الأولى، وأنه لم تكن له صغيرة ولا كبيرة.

 

الآية: 2 ( قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم )

 

قوله تعالى: « قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم » تحليل اليمين كفارتها. أي إذا أحببتم استباحة المحلوف عليه، وهو قوله تعالى في سورة « المائدة » : « فكفارته إطعام عشرة مساكين » [ المائدة: 89 ] . ويتحصل من هذا أن من حرم شيئا من المأكول والمشروب لم يحرم عليه عندنا، لأن الكفارة لليمين لا للتحريم على ما بيناه. وأبو حنيفة يراه يمينا في كل شيء، ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرمه، فإذا حرم طعاما فقد حلف على أكله، أو أمة فعلى وطئها، أو زوجة فعلى الإيلاء منها إذا لم يكن له نية، وإن نوى الظهار فظهار، وإن نوى الطلاق فطلاق بائن. وكذلك إن نوى ثنتين أو ثلاثا. وإن قال: نويت الكذب دين فيما بينه وبين الله تعالى. ولا يدين في القضاء بإبطال الإيلاء. وإن قال: كل حلال عليه حرام؛ فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو، وإلا فعلى ما نوى. ولا يراه الشافعي يمينا ولكن سببا في الكفارة في النساء وحدهن. وإن نوى الطلاق فهو رجعي عنده، على ما تقدم بيانه. فإن حلف إلا يأكله حنث ويبر بالكفارة.

فإن حرم أمته أو زوجته فكفارة يمين، كما في صحيح مسلم عن ابن عباس قال: إذا حرم الرجل عليه امرأته، فهي يمين يكفرها. وقال: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.

 

قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم كفر عن يمينه. وعن الحسن: لم يكفر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وكفارة اليمين في هذه السورة إنما أمر بها الأمة. والأول أصح، وأن المراد بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. ثم إن الأمة تقتدي به في ذلك. وقد قدمنا عن زيد بن أسلم أنه عليه السلام كفر بعتق رقبة. وعن مقاتل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق رقبة في تحريم مارية. والله أعلم. وقيل: أي قد فرض الله لكم تحليل ملك اليمين، فبين في قوله تعالى: « ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له » [ الأحزاب: 38 ] أي فيما شرعه له في النساء المحللات. أي حلل لكم ملك الأيمان، فلم تحرم مارية على نفسك مع تحليل الله إياها لك. وقيل: تحلة اليمين الاستثناء، أي فرض الله لكم الاستثناء المخرج عن اليمين. ثم عند قوم يجوز الاستثناء من الأيمان متى شاء وإن تحلل مدة. وعند المعظم لا يجوز إلا متصلا، فكأنه قال: استثن بعد هذا فيما تحلف عليه. وتحلة اليمين تحليلها بالكفارة، والأصل تحللة، فأدغمت. وتفعلة من مصادر فعل؛ كالتسمية والتوصية. فالتحلة تحليل اليمين. فكأن اليمين عقد والكفارة حل. وقيل: التحلة الكفارة؛ أي إنها تحل للجالف ما حرم على نفسه؛ أي إذا كفر صار كمن لم يحلف. « والله مولاكم » وليكم وناصركم بإزالة الحظر فيما تحرمونه على أنفسكم، وبالترخيص لكم في تحليل أيمانكم بالكفارة، وبالثواب على ما تخرجونه في الكفارة.

 

الآية: 3 ( وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير )

 

قوله تعالى: « وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا » أي واذكر إذ أسر النبي إلى حفصة حديثا « يعني تحريم مارية على نفسه واستكتامه إياها ذلك. وقال الكلبي: أسر إليها أن أباك وأبا عائشة يكونان خليفتي على أمتي من بعدي؛ وقال ابن عباس. قال: أسر أمر الخلافة بعده إلى حفصة فذكرته حفصة. روي الدارقطني في سننه عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: « وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا » قال: اطلعت حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم مع أم إبراهيم فقال: ( لا تخبري عائشة ) وقال لها ( إن أباك وأباها سيملكان أو سيليان بعدي فلا تخبري عائشة ) قال: فانطلقت حفصة فأخبرت عائشة فأظهره الله عليه، فعرف بعضه وأعرض عن بعض. قال أعرض عن قوله: ( إن أباك وأباها يكونان بعدي ) . كره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينشر ذلك في الناس. » فلما نبأت به « أي أخبرت به عائشة لمصافاة كانت بينهما، وكانتا متظاهرتين على نساء النبي صلى الله عليه وسلم. » وأظهره الله عليه « أي أطلعه الله على أنها قد نبأت به. وقرأ طلحة بن مصرف » فلما أنبأت « وهما لغتان: أنبأ ونبأ. » عرف بعضه وأعرض عن بعض « عرف حفصة بعض ما أوحي إليه من أنها أخبرت عائشة بما نهاها عن أن تخبرها، وأعرض عن بعض تكرما؛ قاله السدي. وقال الحسن: ما استقصى كريم قط، قال الله تعالى » عرف بعضه وأعرض عن بعض « . وقال مقاتل: يعني أخبرها ببعض ما قالت لعائشة، وهو حديث أم ولده ولم يخبرها ببعض وهو قول حفصة لعائشة: إن أبا بكر وعمر سيملكان بعده. وقراءة العامة » عرف « مشددا، ومعناه ما ذكرناه. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، يدل عليه قوله تعالى: » وأعرض عن بعض « أي لم يعرفها إياه. ولو كانت مخففة لقال في ضده وأنكر بعضا. وقرأ علي وطلحة بن مصرف وأبو عبدالرحمن السلمي والحسن وقتادة والكلبي والكسائي والأعمش عن أبي بكر » عرف « مخففة. قال عطاء: كان أبو عبدالرحمن السلمي إذا قرأ عليه الرجل » عرف « مشددة حصبه بالحجارة. قال الفراء: وتأويل قوله عز وجل: » عرف بعضه « بالتخفيف، أي غضب فيه وجازى عليه؛ وهو كقولك لمن أساء إليك: لأعرفن لك ما فعلت، أي لأجازينك عليه. وجازاها النبي صلى الله عليه وسلم بأن طلقها طلقة واحدة. فقال عمر: لو كان في آل الخطاب خير لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طلقك. فأمره جبريل بمراجعتها وشفع فيها. واعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه شهرا، وقعد في مشربة مارية أم إبراهيم حتى نزلت آية التحريم على ما تقدم. وقيل: هم بطلاقها حتى قال له جبريل: ( لا تطلقها فإنها صوامة قوامة وإنها من نسائك في الجنة ) فلم يطلقها. » فلما نبأها به « أي أخبر حفصة بما أظهره الله عليه. » قالت من أنبأك هذا « يا رسول الله عني. فظنت أن عائشة أخبرته، فقال عليه السلام: » قال نبأني العليم الخبير « أي الذي لا يخفى عليه شيء. و » هذا « سد مسد مفعولي » أنبأ « . و » نبأ « الأول تعدى إلى مفعول، و » نبأ « الثاني تعدى إلى مفعول واحد، لأن نبأ وأنبأ إذا لم يدخلا على المبتدأ والخبر جاز أن يكتفى فيهما بمفعول واحد وبمفعولين، فإذا دخلا على الابتداء والخبر تعدى كل واحد منهما إلى ثلاثة مفعولين. ولم يجز الاقتصار على الاثنين دون الثالث، لأن الثالث هو خبر المبتدأ في الأصل فلا يقتصر دونه، كما لا يقتصر على المبتدأ دون الخبر.»

 

الآية: 4 ( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير )

 

قوله تعالى: « إن تتوبا إلى الله » يعني حفصة وعائشة، حثهما على التوبة على ما كان منهما من الميل إلى خلاف محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. « فقد صغت قلوبكما » أي زاغت ومالت عن الحق. وهو أنهما أحبتا ما كره النبي صلى الله عليه وسلم من اجتناب جاريته واجتناب العسل، وكان عليه السلام يحب العسل والنساء. قال ابن زيد: مالت قلوبهما بأن سرهما أن يحتبس عن أم ولده، فسرهما ما كرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: فقد مالت قلوبكما إلى التوابة. وقال: « فقد صغت قلوبكما » ولم يقل: فقد صغى قلباكما، ومن شأن العرب إذا ذكروا الشيئين، من اثنين جمعوهما، لأنه لا يشكل. وقد مضى هذا المعنى في « المائدة » في قوله تعالى: « فاقطعوا أيديهما » [ المائدة: 38 ] . وقيل: كلما ثبتت الإضافة فيه مع التثنية فلفظ الجمع أليق به، لأنه أمكن وأخف. وليس قوله: « فقد صغت قلوبكما » جزاء للشرط، لأن هذا الصغو كان سابقا، فجواب الشرط محذوف للعلم به. أي إن تتوبا كان خيرا لكما، إذ قد صغت قلوبكما.

 

قوله تعالى: « وإن تظاهرا عليه » أي تتظاهرا وتتعاونا على النبي صلى الله عليه وسلم بالمعصية والإيذاء. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: مكثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له، حتى خرج حاجا فخرجت معه، فلما رجع فكنا ببعض الطريق عدل إلى الأراك لحاجة له، فوقفت حتى فرع، ثم سرت معه فقلت: يا أمير المؤمنين، من اللتان تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه؟ فقال: تلك حفصة وعائشة. قال فقلت له: والله إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا منذ سنة فما أستطيع هيبة لك. قال: فلا تفعل، ما ظننت أن عندي من علم فسلني عنه، فإن كنت أعلمه أخبرتك... وذكر الحديث. « فإن الله هو مولاه » أي وليه وناصره، فلا يضره ذلك التظاهر منهما. « وجبريل وصالح المؤمنين » قال عكرمة وسعيد بن جبير: أبو بكر وعمر، لأنهما أبوا عائشة وحفصة، وقد كانا عونا له عليهما. وقيل: صالح المؤمنين علي رضي الله عنه. وقيل: خيار المؤمنين. وصالح: اسم جنس كقوله تعالى: « والعصر. إن الإنسان لفي خسر » [ العصر: 2 ] ، قاله الطبري. وقيل: « صالح المؤمنين » هم الأنبياء، قال العلاء بن زيادة وقتادة وسفيان. وقال ابن زيد: هم الملائكة. السدي: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: « صالح المؤمنين » ليس لفظ الواحد وإنما هو صالحو المؤمنين: فأضاف الصالحين إلى المؤمنين، وكتب بغير واو على اللفظ لأن لفظ الواحد والجمع واحد فيه. كما جاءت أشياء في المصحف متنوع فيها حكم اللفظ دون وضع الخط.

وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما اعتزل نبي الله صلى الله عليه وسلم نساءه قال دخلت المسجد فإذا الناس ينكتون بالحصى ويقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه - وذلك قبل أن يؤمرن بالحجاب - فقال عمر: فقلت لأعلمن ذلك اليوم، قال فدخلت على عائشة فقلت: يا ابنة أبي بكر، أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقالت: مالي ومالك يا ابن الخطاب! عليك بعيبتك! قال فدخلت على حفصة بنت عمر فقلت لها: يا حفصة، أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم! والله لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحبك، ولولا أنا لطلقك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبكت أشد البكاء، فقلت لها: أين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هو في خزانته في المشربة. فدخلت فإذا أنا برباح غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا على أسكفة المشربة مدل رجليه على نقير من خشب، وهو جذع يرقى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وينحدر. فناديت: يا رباح، استأذن لي عندك على رسول الله، فنظر رباح إلى الغرفة ثم نظر إلي فلم يقل شيئا. ثم قلت: يا رباح، استأذن لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر رباح إلى الغرفة ثم نظر إلي فلم يقل شيئا. ثم رفعت صوتي فقلت: يا رباح، استأذن لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني أظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظن أني جئت من أجل حفصة، والله لئن أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنقها لأضربن عنقها، ورفعت صوتي فأومأ إلي أن اِرْقَه؛ فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على حصير، فجلست فأدنى عليه إزاره وليس عليه غيره؛ وإذا الحصير قد أثر في جنبه، فنظرت ببصري في خزانة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع، ومثلها قرظا في ناحية الغرفة؛ وإذا أفيق معلق - قال - فابتدرت عيناي. قال: ( ما يبكيك يا ابن الخطاب ) ؟ قلت يا نبي الله، ومالي لا أبكى وهذا الحصير قد أثر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى! وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار وأنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفوته، وهذه خزانتك! فقال: ( يا ابن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا ) قلت: بلى. قال: ودخلت عليه حين دخلت وأنا أرى في وجهه الغضب، فقلت: يا رسول الله، ما يشق عليك من شأن النساء؛ فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك. وقلما تكلمت - وأحمد الله - بكلام إلا رجوت أن يكون الله عز وجل يصدق قولي الذي أقول ونزلت هذه الآية، آية التخيير: « عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن » [ التحريم: 5 ] . « وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير » .

وكانت عائشة بنت أبي بكر وحفصة تظاهران على سائر نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: يا رسول الله، أطلقتهن؟ قال: ( لا ) . قلت: يا رسول الله، إني دخلت المسجد والمسلمون ينكتون بالحصى يقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن؟ قال: ( نعم إن شئت ) . فلم أزل أحدثه حتى تحسر الغضب عن وجهه، وحتى كشر فضحك، وكان من أحسن الناس ثغرا. ثم نزل نبي الله صلى الله عليه وسلم ونزلت؛ فنزلت أتشبث بالجذع، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما يمشي على الأرض ما يمسه بيده. فقلت: يا رسول الله، إنما كنت في الغرفة تسعا وعشرين. قال: ( إن الشهر يكون تسعا وعشرين ) فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه. ونزلت هذه الآية: « وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم » [ النساء: 83 ] . فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر؛ وأنزل الله آية التخيير.

 

قوله تعالى: « وجبريل » فيه لغات تقدمت في سورة « البقرة » . ويجوز أن يكون معطوفا على « مولاه » والمعنى: الله وليه وجبريل وليه؛ فلا يوقف على « مولاه » ويوقف على « جبريل » ويكون « وصالح المؤمنين » مبتدأ « والملائكة » معطوفا عليه. و « ظهير » خبرا؛ وهو بمعنى الجمع. وصالح المؤمنين أبو بكر؛ قاله المسيب بن شريك. وقال سعيد بن جبير: عمر. وقال عكرمة: أبو بكر وعمر. وروي شقيق عن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: « فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين » قال: إن صالح المؤمنين أبو بكر وعمر. وقيل: هو علي. عن أسماء بنت عميس قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( « وصالح المؤمنين » علي بن أبي طالب ) . وقيل غير هذا مما تقدم القول فيه. ويجوز أن يكون « وجبريل » مبتدأ وما بعده معطوفا عليه. والخبر ( ( ظهير « وهو بمعنى الجمع أيضا. فيوقف على هذا على « مولاه » . ويجوز أن يكون » جبريل وصالح المؤمنين « معطوفا على « مولاه » فيوقف على » المؤمنين « ويكون » والملائكة بعد ذلك ظهير « ابتداء وخبرا. ومعنى « ظهير » أعوان. وهو بمعنى ظهراء؛ كقوله تعالى: » وحسن أولئك، رفيقا « [ النساء: 69 ] . وقال أبو علي: قد جاء فعيل للكثرة كقوله تعالى: » ولا يسأل حميم حميما. يبصرونهم « [ المعارج:11 ] . وقيل: كان التظاهر منهما في التحكم على النبي صلي اله عليه وسلم في النفقة، ولهذا آلى منهن شهرا واعتزلهن. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله قال: دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم، قال: فأذن لأبي بكر فدخل، ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا - قال - فقال لأقولن شيئا أضحك النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: يا رسول الله، لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها؛ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ( هن حولي كما ترى يسألنني النفقة ) . فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها؛ كلاهما يقول: تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده! فقلن: والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا أبدا ليس عنده. ثم اعتزلهن شهرا أو تسعا وعشرين. ثم نزلت عليه هذه الآية: » يا أيها النبي قل لأزواجك « حتى بلغ » للمحسنات منكن أجرا عظيما « [ الأحزاب: 28 ] الحديث. وقد ذكراه في سورة » الأحزاب « .»

 

الآية: 5 ( عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا )

 

قوله تعالى: « عسى ربه إن طلقكن » قد تقدم في الصحيح أن هذه الآية نزلت على لسان عمر رضي الله عنه. ثم قيل: كل « عسى » في القرآن واجب؛ إلا هذا. وقيل: هو واجب ولكن الله عز وجل علقه بشرط وهو التطليق ولم يطلقهن. « أن يبدله أزواجا خيرا منكن » لأنكن لو كنتن خيرا منهن ما طلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال معناه السدي. وقيل: هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلي الله عليه وسلم، لو طلقهن في الدنيا أن يزوجه في الدنيا نساء خيرا منهن. وقرئ « أن يبدله » بالتشديد والتخفيف. والتبديل والإبدال بمعنى، كالتنزيل والإنزال. والله كان عالما بأنه كان لا يطلقهن، ولكن أخبر عن قدرته، على أنه إن طلقهن أبدله خيرا منهن تخويفا لهن. وهو كقوله تعالى: « وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم » [ محمد: 38 ] . وهو إخبار عن القدرة وتخويف لهم، لا أن في الوجود من هو خير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

قوله تعالى: « مسلمات » يعني مخلصات، قاله سعيد بن جبير. وقيل: معناه مسلمات لأمر الله تعالى وأمر رسوله. « مؤمنات » مصدقات بما أمرن به ونهين عنه. « قانتات » مطيعات. والقنوت: الطاعة. وقد تقدم. « تائبات » أي من ذنوبهن؛ قاله السدي. وقيل: راجحات إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم تاركات لمحاب أنفسهن. « عابدات » أي كثيرات العبادة لله تعالى. وقال ابن عباس: كل عبادة في القرآن فهو التوحيد. « سائحات » صائبات؛ قال ابن عباس والحسن وابن جبير. وقال زيد بن أسلم وابنه عبدالرحمن ويمان: مهاجرات. قال زيد: وليس في أمة محمد صلى الله عليه وسلم سياحة إلا الهجرة. والسياحة الجولان في الأرض. وقال الفراء والقتبي وغيرهما: سمي الصائم سائحا لأن السائح لا زاد معه، وإنما يأكل من حيث يجد الطعام. وقيل: ذاهبات في طاعة الله عز وجل؛ من ساح الماء إذا ذهب. وقد مضى في سورة « التوبة » والحمد لله. « ثيبات وأبكارا » أي منهن ثيب ومنهن بكر. وقيل: إنما سميت الثيب ثيبا لأنها راجعة إلى زوجها إن أقام معها، أو إلى غيره إن فارقها. وقيل: لأنها ثابت إلى بيت أبويها. وهذا أصح؛ لأنه ليس كل ثيب تعود إلى زوج. وأما البكر فهي العذراء؛ سميت بكرا لأنها على أول حالتها التي خلقت بها. وقال الكلبي: أراد بالثيب مثل آسية امرأة فرعون، وبالبكر مثل مريم بنة عمران.

قلت: وهذا إنما يمشي على قول من قال: إن التبديل وعد من الله لنبيه لو طلقهن في الدنيا زوجه في الآخرة خيرا منهن. والله أعلم.

 

الآية: 6 ( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون )

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا » فيه مسألة واحدة وهي الأمر بوقاية الإنسان نفسه وأهله النار. قال الضحاك: معناه قوا أنفسكم، وأهلوكم فليقوا أنفسهم نارا. وروي علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: قوا أنفسكم وأمروا أهليكم بالذكر والدعاء حتى يقيهم الله بكم. وقال علي رضي الله عنه وقتادة ومجاهد: قوا أنفسكم بأفعالكم وقوا أهليكم بوصيتكم. ابن العربي: وهو الصحيح، والفقه الذي يعطيه العطف الذي يقتضي التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه في معنى الفعل؛ كقوله:

علفتها تبنا وماء باردا

وكقوله:

ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا

فعلى الرجل أن يصلح نفسه بالطاعة، ويصلح أهله إصلاح الراعي للرعية. ففي صحيح الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عنهم والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم ) . وعن هذا عبر الحسن في هذه الآية بقوله: يأمرهم وينهاهم. وقال بعض العلماء لما قال: « قوا أنفسكم » دخل فيه الأولاد؛ لأن الولد بعض منه. كما دخل في قوله تعالى: « ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم » [ النور: 61 ] فلم يفردوا بالذكر إفراد سائر القرابات. فيعلمه الحلال والحرام، ويجنبه المعاصي والآثام، إلى غير ذلك من الأحكام. وقال عليه السلام: ( حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه ويعلمه الكتابة ويزوجه إذا بلغ ) . وقال عليه السلام: ( ما نحل والد ولدا أفضل من أدب حسن ) . وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم ( مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع ) . خرجه جماعة من أهل الحديث. وهذا لفظ أبي داود. وخرج أيضا عن سمرة بن جندب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين فإذا بلغ عشر سنين فأضربوه عليها ) . وكذلك يخبر أهله بوقت الصلاة ووجوب الصيام ووجوب الفطر إذا وجب؛ مستندا في ذلك إلى رؤية الهلال.

وقد روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوتر يقول: ( قومي فأوتري يا عائشة ) . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( رحم الله امرأ قام من الليل فصلى فأيقظ أهله فإن لم تقم رش وجهها بالماء. رحم الله امرأة قامت من الليل تصلى وأيقظت زوجها فإذا لم يقم رشت على وجهه من الماء ) . ومنه قوله صلي الله عليه وسلم: ( أيقظوا صواحب الحجر ) . ويدخل هذا في عموم قوله تعالى: « وتعاونوا على البر والتقوى » [ المائدة: 2 ] . وذكر القشيري أن عمر رضي الله عنه قال لما نزلت هذه الآية: يا رسول الله، نقي أنفسنا، فكيف لنا بأهلينا؟. فقال: ( تنهونهم عما نهاكم الله وتأمرونهم بما أمر الله ) . وقال مقاتل: ذلك حق عليه في نفسه وولده وأهله وعبيده وإمائه. قال الكيا: فعلينا تعليم أولادنا وأهلينا الدين والخير، وما لا يستغنى عنه من الأدب. وهو قوله تعالى: « وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها » [ طه: 132 ] . ونحو قوله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: « وأنذر عشيرتك الأقربين » . [ الشعراء: 214 ] . وفي الحديث: ( مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع ) .

 

قوله تعالى: « وقودها الناس والحجارة » « تقدم في سورة » البقرة « . » عليها ملائكة غلاظ شداد « يعني الملائكة الزبانية غلاط القلوب لا يرحمون إذا استرحموا خلقوا من الغضب، وحبب إليهم عذاب الخلق كما حبب لبني آدم أكل الطعام والشراب. » شداد « أي شداد الأبدان. وقيل: غلاظ الأقوال شداد الأفعال. وقيل غلاظ في أخذهم أهل النار شداد عليهم. يقال: فلان شديد على فلان؛ أي قوي عليه يعذبه بأنواع العذاب. وقيل: أراد بالغلاظ ضخامة أجسامهم، وبالشدة القوة. قال ابن عباس: ما بين منكبي الواحد منهم مسيرة سنة، وقوة الواحد منهم أن يضرب بالمقمع فيدفع بتلك الضربة سبعين ألف إنسان في قعر جهنم. وذكر ابن وهب قال: وحدثنا عبدالرحمن بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خزنة جهنم: ( ما بين منكبي أحدهم كما بين المشرق والمغرب ) .»

 

قوله تعالى: « لا يعصون الله ما أمرهم » أي لا يخالفونه في أمره من زيادة أو نقصان. « ويفعلون ما يؤمرون » أي في وقته، فلا يؤخرونه ولا يقدمونه. وقيل أي لذتهم في أمتثال أمر الله؛ كما أن سرور أهل الجنة في الكون في الجنة؛ ذكره بعض المعتزلة. وعندهم أنه يستحيل التكيف غدا. ولا يخفى معتقد أهل الحق في أن الله يكلف العبد اليوم وغدا، ولا ينكر التكليف في حق الملائكة. ولله أن يفعل ما يشاء.

 

الآية: 7 ( يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون )

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم » فإن عذركم لا ينفع. وهذا النهي لتحقيق اليأس. « إنما تجزون ما كنتم تعملون » في الدنيا. ونظيره: « فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون » [ الروم: 57 ] . وقد تقدم.

 

الآية: 8 ( يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير )

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله » أمر بالتوبة وهي فرض على الأعيان في كل الأحوال وكل الأزمان. وقد تقدم بيانها والقول فيها في « النساء » وغيرها. « توبة نصوحا » اختلفت عبارة العلماء وأرباب القلوب في التوبة النصوح على ثلاثة وعشرين قولا؛ فقيل: هي التي لا عودة بعدها كما لا يعود اللبن إلى الضرع؛ وروي عن عمر وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم. ورفعه معاذ إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقال قتادة: النصوح الصادقة الناصحة. وقيل الخالصة؛ يقال: نصح أي أخلص له القول. وقال الحسن: النصوح أن يبغض الذنب الذي أحبه ويستغفر منه إذا ذكره. وقيل: هي التي لا يثق بقبولها ويكون على وجل منها. وقيل: هي التي لا يحتاج معها إلى توبة.

وقال الكلبي: التوبة النصوح الندم بالقلب، والاستغفار باللسان، والإقلاع عن الذنب، والاطمئنان على أنه لا يعود. وقال سعيد بن جبير: هي التوبة المقبولة؛ ولا تقبل ما لم يكن فيها ثلاثة شروط: خوف ألا تقبل، ورجاء أن تقبل، وإدمان الطاعات. وقال سعيد بن المسيب: توبة تنصحون بها أنفسكم. وقال القرظي: يجمعها أربعة أشياء: الاستغفار باللسان، وإقلاع بالأبدان، وإضمار ترك العود بالجنان، ومهاجرة سيء الخلان. وقال سفيان الثوري: علامة التوبة النصوح أربعة: القلة والعلة والذلة والغربة. وقال الفضيل بن عياض: هو أن يكون الذنب بين عينيه، فلا يزال كأنه ينظر إليه. ونحوه عن ابن السماك: أن تنصب الذنب الذي أقللت فيه الحياء من الله أمام عينك وتستعد لمنتظرك. وقال أبو بكر الوراق: هو أن تضيق عليك الأرض بما رحبت، وتضيق عليك نفسك؛ كالثلاثة الذين خلفوا. وقال أبو بكر الواسطي: هي توبة لا لفقد عوض؛ لأن من أذنب في الدنيا لرفاهية نفسه ثم تاب طلبا لرفاهيتها في الآخرة؛ فتوبته على حفظ نفسه لا لله. وقال أبو بكر الدقاق المصري: التوبة النصوح هي رد المظالم، واستحلال الخصوم، وإدمان الطاعات. وقال رويم: هو أن تكون لله وجها بلا قفا، كما كنت له عند المعصية قفا بلا وجه. وقال ذو النون: علامة التوبة النصوح ثلاث: قلة الكلام، وقلة الطعام، وقلة المنام. وقال شقيق: هو أن يكثر صاحبها لنفسه الملامة، ولا ينفك من الندامة؛ لينجو من آفاتها بالسلامة. وقال سري السقطي: لا تصلح التوبة النصوح إلا بنصيحة النفس والمؤمنين؛ لأن من صحب توبته أحب أن يكون الناس مثله. وقال الجنيد: التوبة النصوح هو أن ينسى الذنب فلا يذكره أبدا؛ لأن من صحت توبته صار محبا لله، ومن أحب الله نسي ما دون الله. وقال ذو الأذنين: هو أن يكون لصاحبها دمع مسفوح، وقلب عن المعاصي جموح. وقال فتح الموصلي: علامتها ثلاث: مخالفة الهوى، وكثرة البكاء، ومكابدة الجوع والظمأ. وقال سهل بن عبدالله التستري: هي التوبة لأهل السنة والجماعة؛ لأن المبتدع لا توبة له؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: ( حجب الله على كل صاحب بدعة أن يتوب ) . وعن حذيفة: بحسب الرجل من الشر أن يتوب من الذنب ثم يعود فيه.

وأصل التوبة النصوح من الخلوص؛ يقال: هذا عسل ناصح إذا خلص من الشمع. وقيل: هي مأخوذة من النصاحة وهي الخياطة. وفي أخذها منها وجهان: أحدهما: لأنها توبة قد أحكمت طاعته وأوثقتها كما يحكم الخياط الثوب بخياطته ويوثقه. والثاني: لأنها قد جمعت بينه وبين أولياء الله وألصقته بهم؛ كما يجمع الخياط الثوب ويلصق بعضه ببعض. وقراءة العامة « نصوحا » بفتح النون، على نعت التوبة، مثل امرأة صبور، أي توبة بالغة في النصح. وقرأ الحسن وخارجة وأبو بكر عن عاصم بالضم؛ وتأويله على هذه القراءة: توبة نصح لأنفسكم. وقيل: يجوز أن يكون « نصوحا » ، جمع نصح، وإن يكون مصدرا، يقال: نصح نصاحة ونصوحا. وقد يتفق فعالة وفعول في المصادر، نحو الذهاب والذهوب. وقال المبرد: أراد توبة ذات نصح، يقال: نصحت نصحا ونصاحة ونصوحا.

 

في الأشياء التي يتاب منها وكيف التوبة منها. قال العلماء: الذنب الذي تكون منه التوبة لا يخلو، إما أن يكون حقا لله أو للآدميين. فإن كان حقا لله كترك صلاة فإن التوبة لا تصح منه حتى ينضم إلى الندم قضاء ما فات منها. وهكذا إن كان ترك صوم أو تفريطا في الزكاة. وإن كان ذلك قتل نفس بغير حق فأن يمكن من القصاص إن كان عليه وكان مطلوبا به. وإن كان قذفا يوجب الحد فيبذل ظهره للجلد إن كان مطلوبا به. فإن عفي عنه كفاه الندم والعزم على ترك العود بالإخلاص. وكذلك إن عفي عنه في القتل بمال فعليه أن يؤديه إن كان واجدا له، قال الله تعالى: « فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان » [ البقرة: 178 ] . وإن كان ذلك حدا من حدود الله كائنا ما كان فإنه إذا تاب إلى الله تعالى بالندم الصحيح سقط عنه. وقد نص الله تعالى على سقوط الحد عن المحاربين إذا تابوا قبل القدرة عليهم. وفي ذلك دليل على أنها لا تسقط عنهم إذا تابوا بعد القدرة عليهم؛ حسب ما تقدم بيانه. وكذلك الشراب والسراق والزناة إذا أصلحوا وتابوا وعرف ذلك منهم، ثم رفعوا إلى الإمام فلا ينبغي له أن يحدهم. وإن رفعوا إليه فقالوا: تبنا، لم يتركوا، وهم في هذه الحالة كالمحاربين إذا غلبوا. هذا مذهب الشافعي. فإن كان الذنب من مظالم العباد فلا تصح التوبة منه إلا برده إلى صاحبه والخروج عنه - عينا كان أو غيره - إن كان قادرا عليه، فإن لم يكن قادرا فالعزم أن يؤديه إذا قدر في أعجل وقت وأسرعه. وإن كان أضر بواحد من المسلمين وذلك الواحد لا يشعر به أو لا يدري من أين أتى، فإنه يزيل ذلك الضرر عنه، ثم يسأله أن يعفو عنه ويستغفر له، فإذا عفا عنه فقد سقط الذنب عنه. وإن أرسل من يسأل ذلك له، فعفا ذلك المظلوم عن ظالمه - عرفه بعينه أو لم يعرفه - فذلك صحيح. وإن أساء رجل إلى رجل بأن فزعه بغير حق، أو غمه أو لطمه، أو صفعه بغير حق، أو ضربه بسوط فآلمه، ثم جاءه مستعفيا نادما على ما كان منه، عازما على ألا يعود، فلم يزل يتذلل له حتى طابت نفسه فعفا عنه، سقط عنه ذلك الذنب. وهكذا إن كان شانه بشتم لا حد فيه.

 

قوله تعالى: « عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم » « عسى » من الله واجبة. وهو معنى قوله عليه السلام: ( التائب من الذنب كمن لا ذنب له ) . و « أن » في موضع رفع اسم عسى.

 

قوله تعالى: « ويدخلكم » معطوف على « يكفر » . وقرأ ابن أبي عبلة « ويدخلكم » مجزوما عطفا على محل عسى أن يكفر. كأنه قيل: توبوا يوجب تكفير سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار. « يوم لا يخزي الله النبي » العامل في « يوم » : « يدخلكم » أو فعل مضمر. ومعنى « يخزي » هنا يعذب، أي لا يعذبه ولا يعذب الذين آمنوا معه. « نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم » « تقدم في سورة » الحديد « . » يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير « قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: هذا دعاء المؤمنين حين أطفأ الله نور المنافقين؛ حسب ما تقدم بيانه في سورة » الحديد « .»

 

الآية: 9 ( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير )

 

قوله تعالى: « يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم » فيه مسألة واحدة: وهو التشديد في دين الله. فأمره أن يجاهد الكفار بالسيف والمواعظ الحسنة والدعاء إلى الله. والمنافقين بالغلظة وإقامة الحجة؛ وأن يعرفهم أحوالهم في الآخرة، وأنهم لا نور لهم يجوزون به الصراط مع المؤمنين. وقال الحسن: أي جاهدهم بإقامة الحدود عليهم؛ فإنهم كانوا يرتكبون موجبات الحدود. وكانت الحدود تقام عليهم. « ومأواهم جهنم » يرجع إلى الصنفين. « وبئس المصير » أي المرجع.

 

الآية: 10 ( ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين )

 

ضرب الله تعالى هذا المثل تنبيها على أنه لا يغني أحد في الآخرة عن قريب ولا نسيب إذا فرق بينهما الدين. وكان اسم امرأة نوح والهة، واسم امرأة لوط والعة؛ قاله مقاتل. وقال الضحاك عن عائشة رضي الله عنها: إن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أن اسم امرأة نوح واغلة واسم امرأة لوط والهة. « فخانتاهما » قال عكرمة والضحاك. بالكفر. وقال سليمان بن رقية والضحاك: بالكفر. وقال سليمان بن رقية عن ابن عباس: كانت امرأة نوح تقول للناس إنه مجنون. وكانت امرأة لوط تخبر بأضيافه. وعنه: ما بغت امرأه نبي قط. وهذا إجماع من المفسرين فيما ذكر القشيري. إنما كانت خيانتهما في الدين وكانتا مشركتين. وقيل: كانتا منافقتين. وقيل: خيانتهما النميمة إذا أوحى الله إليهما شيئا أفشتاه إلى المشركين؛ قاله الضحاك. وقيل: كانت امرأة لوط إذا نزل به ضيف دخنت لتعلم قومها أنه قد نزل به ضيف؛ لما كانوا عليه من إتيان الرجال. « فلم يغنيا عنهما من الله شيئا » أي لم يدفع نوح ولوط مع كرامتهما على الله تعالى عن زوجتيهما - لما عصتا - شيئا من عذاب الله؛ تنبيها بذلك على أن العذاب يدفع بالطاعة لا بالوسيلة. ويقال: إن كفار مكة استهزؤوا وقالوا: إن محمدا صلي الله عليه وسلم يشفع لنا؛ فبين الله تعالى أن شفاعته لا تنفع كفار مكة وإن كانوا أقرباء، كما لا تنفع شفاعة نوح لامرأته وشفاعة لوط لامرأته، مع قربهما لهما لكفرهما. وقيل لهما: « وقيل ادخلا النار مع الداخلين » في الآخرة؛ كما يقال لكفار مكة وغيرهم. ثم قيل: يجوز أن تكون « امرأة نوح » بدلا من قوله: « مثلا » على تقدير حذف المضاف؛ أي ضرب الله مثلا مثل امرأة نوح. ويجوز أن يكونا مفعولين.

 

الآية: 11 ( وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين )

 

قوله تعالى: « وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون » واسمها آسية بنت مزاحم. قال يحيى بن سلام: قوله « ضرب الله مثلا للذين كفروا » مثل ضربه الله يحذر به عائشة وحفصة في المخالفة حين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ضرب لهما مثلا بامرأة فرعون ومريم بنة عمران؛ ترغيبا في التمسك بالطاعة والثبات على الدين. وقيل: هذا حث للمؤمنين على الصبر في الشدة؛ أي لا تكونوا في الصبر عند الشدة أضعف من امرأة فرعون حين صبرت على أذى فرعون. وكانت آسية آمنت بموسى. وقيل: هي عمة موسى آمنت به. قال أبو العالية: اطلع فرعون على إيمان امرأته فخرج على الملأ فقال لهم: ما تعلمون من آسية بنت مزاحم؟ فأثنوا عليها. فقال لهم: إنها تعبد ربا غيري. فقالوا له: أقتلها. فأوتد لها أوتادا وشد يديها ورجليها فقالت: « رب ابن لي عندك بيتا في الجنة » ووافق ذلك حضور فرعون، فضحكت حين رأت بيتها في الجنة. فقال فرعون: ألا تعجبون من جنونها! إنا نعذبها وهي تضحك؛ فقبض روحها. وقال سلمان الفارسي فيما روى عنه عثمان النهدي: كانت تعذب بالشمس، فإذا أذاها حر الشمس أظلتها الملائكة بأجنحتها. وقيل: سمر يديها ورجليها في الشمس ووضع على ظهرها رحى؛ فأطلعها الله. حتى رأت مكانها في الجنة. وقيل: لما قالت: « رب ابن لي عندك بيتا في الجنة » أريت بيتها في الجنة يبنى. وقيل: إنه من درة؛ عن الحسن. ولما قالت: « ونجني » نجاها الله أكرم نجاة، فرفعها إلى الجنة، فهي تأكل وتشرب وتتنعم. « من فرعون وعمله » تعني بالعمل الكفر. وقيل: من عمله من عذابه وظلمه وشماتته. وقال ابن عباس: الجماع. « ونجني من القوم الظالمين » قال الكلبي: أهل مصر. مقاتل: القبط. قال الحسن وابن كيسان: نجاها الله أكرم نجاة، ورفعها إلى الجنة؛ فهي فيها تأكل وتشرب.

 

الآية: 12 ( ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين )

 

قوله تعالى: « ومريم بنة عمران » أي واذكر مريم. وقيل: هو معطوف على امرأة فرعون. والمعنى: وضرب الله مثلا لمريم ابنت عمران وصبرها على أذى اليهود. « التي أحصنت فرجها » أي عن الفواحش. وقال المفسرون: إنه أراد بالفرج هنا الجيب لأنه قال: « فنفخنا فيه من روحنا » وجبريل عليه السلام إنما نفخ في جيبها ولم ينفخ في فرجها. وهي في قراءة أبي « فنفخنا في جيبها من روحنا » . وكل خرق في الثوب يسمى جيبا؛ ومنه قوله تعالى: « وما لها من فروج » [ ق: 6 ] . ويحتمل أن تكون أحصنت فرجها ونفخ الروح في جيبها. ومعنى « فنفخنا » أرسلنا جبريل فنفخ في جيبها « من روحنا » أي روحا من أرواحنا وهي روح عيسى. وقد مضى في آخر سورة « النساء » بيانه مستوفى والحمد لله. « وصدقت بكلمات ربها » قراءة العامة « وصدقت » بالتشديد. وقرأ حميد والأموي « وصدقت » بالتخفيف. « بكلمات ربها » قول جبريل لها: « إنما أنا رسول ربك » [ مريم: 19 ] الآية. وقال مقاتل: يعني بالكلمات عيسى وأنه نبي وعيسى كلمة الله. وقد تقدم. وقرأ الحسن وأبو العالية

 

قوله تعالى: « وكتبه » وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم « وكتبه » جمعا. وعن أبي رجاء « وكتبه » مخفف التاء. والباقون « بكتابه » على التوحيد. والكتاب يراد به الجنس؛ فيكون في معنى كل كتاب أنزل الله تعالى. « وكانت من القانتين » أي من المطيعين. وقيل: من المصلين بين المغرب والعشاء. وإنما لم يقل من القانتات؛ لأنه أراد وكانت من القوم القانتين. ويجوز أن يرجع هذا إلى أهل بيتها؛ فإنهم كانوا مطيعين لله. وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لخديجة وهي تجود بنفسها: « أتكرهين ما قد نزل بك ولقد جعل الله في الكره خيرا فإذا قدمت على ضراتك فأقرئيهن مني السلام مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وكليمة أو قال حكيمة بنت عمران أخت موسى بن عمران ) . فقالت: بالرفاء والبنين يا رسول الله. وروى قتادة عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( حسبك من نساء العالمين أربع مريم بنة عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون بنت مزاحم ) . وقد مضى في ( آل عمران ) الكلام في هذا مستوفى والحمد لله.»