الجزء التاسع والعشرون

 

سورة الملك

مقدمة السورة

 

مكية في قول الجميع. وتسمى الواقية والمنجية. وهي ثلاثون آية.

روى الترمذي عن ابن عباس قال: ضرب رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة « الملك » حتى ختمها، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة « الملك » حتى ختمها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر ) . قال: حديث حسن غريب. وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وددت أن « تبارك الذي بيده الملك » في قلب كل مؤمن ) ذكره الثعلبي. وعن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن سورة من كتاب الله ما هي إلا ثلاثون آية شفعت لرجل حتى أخرجته من النار يوم القيامة وأدخلته الجنة وهي سورة « تبارك » ) . خرجه الترمذي بمعناه، وقال فيه: حديث حسن. وقال ابن مسعود: إذا وضع الميت في قبره فيؤتى من قبل رجليه، فيقال: ليس لكم عليه سبيل، فإنه كان يقوم بسوره « الملك » على قدميه. ثم يؤتى من قبل رأسه، فيقول لسانه: ليس لكم عليه سبيل، إنه كان يقرأ بي سورة « الملك » ثم قال: هي المانعة من عذاب الله، وهي في التوراة سورة « الملك » من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطيب. وروي أن من قرأها كل ليلة لم يضره الفتان.

 

الآية: 1 ( تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير )

 

قوله تعالى: « تبارك » تفاعل من البركة وقد تقدم. وقال الحسن: تقدس. وقيل دام. فهو الدائم الذي لا أول لوجوده ولا آخر لدوامه. « الذي بيده الملك » أي ملك السموات والأرض في الدنيا والآخرة. وقال ابن عباس: بيده الملك يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويحيي ويميت، ويغني ويفقر، ويعطي ويمنع. وقال محمد بن إسحاق: له ملك النبوة التي أعز بها من اتبعه وذل بها من خالفه. « وهو على كل شيء قدير » من إنعام وانتقام.

 

الآية: 2 ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور )

 

قوله تعالى: « الذي خلق الموت والحياة » قيل: المعنى خلقكم للموت والحياة؛ يعني للموت في الدنيا والحياة في الآخرة وقدم الوت على الحياة؛ لأن الموت إلى القهر أقرب؛ كما قدم البنات على البنين فقال: « يهب لمن يشاء إناثا » [ الشورى: 49 ] . وقيل: قدمه لأنه أقدم؛ لأن الأشياء في الابتداء كانت في حكم الموت كالنطفة والتراب ونحوه. وقال قتادة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله تعالى أذل بني آدم بالموت وجعل الدنيا دار حياة ثم دار موت وجعل الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء ) . وعن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لولا ثلاث ما طأطأ ابن آدم رأسه الفقر والمرض والموت وإنه مع ذلك لو ثاب ) .

 

قدم الموت على الحياة، لأن أقوى الناس داعيا إلى العمل من نصب موته بين عينيه؛ فقدم لأنه فيما يرجع إلى الغرض المسوق له الآية أهم قال العلماء: الموت ليس بعدم محض ولا فناء صرف، وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته، وحيلولة ببنهما، وتبدل حال وانتقال من دار إلى دار. والحياة عكس ذلك. وحكي عن ابن عباس والكلبي ومقاتل: أن الموت والحياة جسمان، فجعل الموت في هيئة كبش لا يمر بشيء ولا يجد ريحه إلا مات، وخلق الحياة على صورة فرس أنثى بلقاء - وهي التي كان جبريل والأنبياء عليهم السلام يركبونها - خطوتها مد البصر، فوق الحمار ودون البغل، لا تمر بشيء يجد ريحها إلا حيي، ولا تطأ على شيء إلا حيي. وهي التي أخذ السامري من أثرها فألقاه على العجل فحيي. حكاه الثعلبي والقشيري عن ابن عباس. والماوردي معناه عن مقاتل والكلبي.

قلت: وفي التنزيل « قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم » ، [ السجدة: 11 ] ، « ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة » [ الأنفال: 50 ] ثم « توفته رسلنا » [ الأنعام: 61 ] ، ثم قال: « الله يتوفى الأنفس حين موتها » [ الزمر: 42 ] . فالوسائط ملائكة مكرمون صلوات الله عليهم. وهو سبحانه المميت على الحقيقة، وإنما يمثل الموت بالكبش في الآخرة ويذبح على الصراط؛ حسب ما ورد به الخبر الصحيح. وما ذكر عن ابن عباس يحتاج إلى خبر صحيح يقطع العذر. والله أعلم. وعن مقاتل أيضا: خلق الموت؛ يعني النطفة والعلقة والمضغة، وخلق الحياة؛ يعني خلق إنسانا ونفخ فيه الروح فصار إنسانا.

قلت: وهذا قول حسن؛ يدل عليه قوله تعالى « ليبلوكم أيكم أحسن عملا » وتقدم الكلام فيه في سورة « الكهف » . وقال السدي في قوله تعالى: « الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا » أي أكثركم للموت ذكرا وأحسن استعدادا، ومنه أشد خوفا وحذرا. وقال ابن عمر: تلا النبي صلى الله عليه وسلم « تبارك الذي بيده الملك - حتى بلغ - أيكم أحسن عملا » فقال: ( أورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله ) . وقيل: معنى « ليبلوكم » ليعاملكم معاملة المختبر؛ أي ليبلو العبد بموت من يعز عليه ليبين صبره، وبالحياة ليبين شكره. وقيل: خلق الله الموت للبعث والجزاء، وخلق الحياة للابتلاء. فاللام في « ليبلوكم » تتعلق بخلق الحياة لا بخلق الموت؛ ذكره الزجاج. وقال الفراء والزجاج أيضا: لم تقع البلوى على « أي » لأن فيما بين البلوى و « أي » إضمار فعل؛ كما تقول: بلوتكم لأنظر أيكم أطوع. ومثله قوله تعالى: « سلهم أيهم بذلك زعيم » [ القلم: 40 ] أي سلهم ثم انظر أيهم. « فأيكم » رفع بالابتداء و « أحسن » خبره. والمعنى: ليبلوكم فيعلم أو فينظر أيكم أحسن عملا. « وهو العزيز » في أنتقامه ممن عصاه. « الغفور » لمن تاب.

 

الآية: 3 ( الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور )

 

قوله تعالى: « الذي خلق سبع سماوات طباقا » أي بعضها فوق بعض. والملتزق منها أطرافها؛ كذا روي عن ابن عباس. و « طباقا » نعت « لسبع » فهو وصف بالمصدر. وقيل: مصدر بمعنى المطابقة؛ أي خلق سبع سموات وطبقها تطبيقا أو مطابقة. أو على طوبقت طباقا. وقال سيبويه: نصب « طباقا » لأنه مفعول ثان.

قلت: فيكون « خلق » بمعنى جعل وصير. وطباق جمع طبق؛ مثل جمل وجمال. وقيل: جمع طبقة. وقال أبان بن تغلب: سمعت بعض الأعراب يذم رجلا فقال: شره طباق، وخيره غير باق. ويجوز في غير القرآن سبع سموات طباق؛ بالخفض على النعت لسموات. ونظيره « وسبع سنبلات خضر » [ يوسف: 46 ] .

 

قوله تعالى: « ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت » قراءة حمزة والكسائي « من تفوت » بغير ألف مشددة. وهي قراءة ابن مسعود وأصحابه. الباقون « من تفاوت » بألف. وهما لغتان مثل التعاهد والتعهد، والتحمل والتحامل، والتظهر والتظاهر، وتصاغر وتصغر، وتضاعف وتضعف، وتباعد وتبعد؛ كله بمعنى. واختار أبو عبيد « من تفوت » واحتج بحديث عبدالرحمن بن أبي بكر: « أمثلي يتفوت عليه في بناته » ! النحاس: وهذا أمر مردود على أبي عبيد، لأن يتفوت يفتات: بهم. « وتفاوت » في الآية أشبه. كما يقال تباين يقال: تفاوت الأمر إذا تباين وتباعد؛ أي فات بضعها بعضا. ألا ترى أن قبله قوله تعالى: « الذي خلق سبع سموات طباقا » . والمعنى: ما ترى في خلق الرحمن من اعوجاج ولا تناقض ولا تباين - بل هي مستقيمة مستوية دالة على خالقها - وإن اختلفت صوره وصفاته. وقيل: المراد بذلك السموات خاصة؛ أي ما ترى في خلق السموات من عيب. وأصله من الفوت، وهو أن يفوت شيء شيئا فيقع الخلل لقلة استوائها؛ يدل عليه قول ابن عباس رضي الله عنه: من تفرق. وقال أبو عبيدة: يقال: تفوت الشيء أي فات. ثم أمر بأن ينظروا في خلقه ليعتبروا به فيتفكروا في قدرته: فقال: « فارجع البصر هل ترى من فطور » أي أردد طرفك إلى السماء. ويقال: قلب البصر في السماء. ويقال: اجهد بالنظر إلى السماء. والمعنى متقارب. وإنما قال: « فأرجع » بالفاء وليس قبله فعل مذكور؛ لأنه قال: « ما ترى » . والمعنى أنظر ثم أرجع البصر هل ترى من فطور؛ قاله قتادة. والفطور: الشقوق، عن مجاهد والضحاك. وقال قتادة: من خلل. السدي: من خروق. ابن عباس: من وهن. وأصله من التفطر والانفطار وهو الانشقاق. قال الشاعر:

بنى لكم بلا عمد سماء وزينها فما فيها فطور

وقال آخر:

شققت القلب ثم ذررت فيه هواك فليم فالتأم الفطور

تغلغل حيث لم يبلغ شراب ولا سكر ولم يبلغ سرور

 

الآية: 4 ( ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير )

 

قوله تعالى: « ثم ارجع البصر كرتين » « كرتين » في موضع المصدر؛ لأن معناه رجعتين، أي مرة بعد أخرى. وإنما أمر بالنظر مرتين لأن الإنسان إذا نظر في الشيء مرة لا يرى عيبه ما لم ينظر إليه مرة أخرى. فأخبر تعالى أنه وإن نظر في السماء مرتين لا يرى فيها عيبا بل يتحير بالنظر إليها؛ فذلك قوله تعالى: « ينقلب إليك البصر خاسئا » أي خاشعا صاغرا متباعدا عن أن يرى شيئا من ذلك. يقال: خسأت الكلب أي أبعدته وطردته. وخسأ الكلب بنفسه، يتعدى ولا يتعدى. وانخسأ الكلب أيضا. وخسأ بصره خسأ وخسوءا أي سدر، ومنه قوله تعالى: « ينقلب إليك البصر خاسئا » وقال ابن عباس: الخاسئ الذي لم ير ما يهوى. « وهو حسير » أي قد بلغ الغاية في الإعياء. فهو بمعنى فاعل؛ من الحسور الذي هو الإعياء. ويجوز أن يكون مفعولا من حسره بعد الشيء، وهو معنى قول ابن عباس. ومنه قول الشاعر:

من مد طرفا إلى ما فوق غايته ارتد خسان منه الطرف قد حسرا

يقال: قد حسر بصره يحسر حسورا، أي كل وانقطع نظره من طول مدى وما أشبه ذلك، فهو حسير ومحسور أيضا. قال:

نظرت إليها بالمحصب من منى فعاد إلي الطرف وهو حسير

وقال آخر يصف ناقة:

فشطرها نظر العينين محسور

نصب « شطرها » على الظرف، أي نحوها. وقال آخر:

والخيل شعث ما تزال جيادها حسرى تغادر بالطريق سخالها

وقيل: إنه النادم. ومنه قول الشاعر:

ما أنا اليوم على شيء خلايا بنة القين تولى بحسر

المراد « بكرتين » ها هنا التكثير. والدليل على ذلك: « ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير » وذلك دليل على كثرة النظر.

 

الآيات: 5 - 6 ( ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير، وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير )

 

قوله تعالى: « ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح » جمع مصباح وهو السراج. وتسمى الكواكب مصابيح لإضاءتها. « وجعلناها رجوما للشياطين » أي جعلنا شهبها؛ فحذف المضاف. دليلة « إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب » [ الصافات: 10 ] . وعلى هذا فالمصابيح لا تزول ولا يرجم بها. وقيل: إن الضمير راجع إلى المصابيح على أن الرجم من أنفس الكواكب، ولا يسقط الكوكب نفسه إنما ينفصل منه شيء يرجم به من غير أن ينقص ضوءه ولا صورته. قال أبو علي جوابا لمن قال: كيف تكون زينة وهي رجوم لا تبقى. قال المهدوي: وهذا على أن يكون الاستراق من موضع الكواكب. والتقدير الأول على أن يكون الاستراق من الهوى الذي هو دون موضع الكواكب. القشيري: وأمثل من قول أبي علي أن نقول: هي زينة قبل أن يرجم بها الشياطين. والرجوم جمع رجم؛ وهو مصدر سمي به ما يرجم به. قال قتادة: خلق الله تعالى النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها في البر والبحر والأوقات. فمن تأول فيها غير ذلك فقد تكلف ما لا علم له به، وتعدى وظلم. وقال محمد بن كعب: والله ما لأحد من أهل الأرض في السماء نجم، ولكنهم يتخذون الكهانة سبيلا ويتخذون النجوم علة. « وأعتدنا لهم عذاب السعير » أي أعتدنا للشياطين أشد الحريق؛ يقال: سعرت النار فهي مسعورة وسعير؛ مثل مقتولة وقتيل. « وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير » .

 

الآية: 7 ( إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور )

 

قوله تعالى: « إذا ألقوا فيها » يعني الكفار. « سمعوا لها شهيقا » أي صوتا. قال ابن عباس: الشهيق لجهنم عند إلقاء الكفار فيها؛ تشهق إليهم شهقة البغلة للشعير، ثم تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف. وقيل: الشهيق من الكفار عند إلقائهم في النار قاله عطاء. والشهيق في الصدر، والزفير في الحلق. وقد مضى في سورة « هود » . « وهي تفور » أي تغلي؛ ومنه قول حسان:

تركتم قدركم لا شيء فيها وقدر القوم حامية تفور

قال مجاهد: تفور بهم كما يفور الحب القليل في الماء الكثير. وقال ابن عباس: تغلي بهم على المرجل؛ وهذا من شدة لهب النار من شدة الغضب؛ كما تقول فلان يفور غيظا.

 

الآيات: 8 - 11 ( تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير، قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير، وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير، فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير )

 

قوله تعالى: « تكاد تميز من الغيظ » يعني تتقطع وينفصل بعضها من بعض؛ قاله سعيد بن جبير. وقال ابن عباس والضحاك وابن زيد: تتفرق. « من الغيظ » من شدة الغيظ على أعداء الله تعالى. وقيل: « من الغيظ » من الغليان. وأصل « تميز » تتميز. « كلما ألقي فيها فوج » أي جماعة من الكفار. « سألهم خزنتها » على جهة التوبيخ والتقريع « ألم يأتكم نذير » أي رسول في الدنيا ينذركم هذا اليوم حتى تحذروا.

 

قوله تعالى: « قالوا بلى قد جاءنا نذير » أنذرنا وخوفنا. « فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء » أي على ألسنتكم. « إن أنتم » يا معشر الرسل. « إلا في ضلال كبير » اعترفوا بتكذيب الرسل، ثم اعترفوا بجهلهم فقالوا وهم في النار: « لو كنا نسمع » من النذر - يعني الرسل - ما جاؤوا به « أو نعقل » عنهم. قال ابن عباس: لو كنا نسمع الهدى أو نعقله، أو لو كنا نسمع سماع من يعي ويفكر، أو نعقل عقل من يميز وينظر. ودل هذا على أن الكافر لم يعط من العقل شيئا. وقد مضى في « الطور » بيانه والحمد لله. « ما كنا في أصحاب السعير » يعني ما كنا من أهل النار. وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لقد ندم الفاجر يوم القيامة قالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فقال الله تعالى: » فاعترفوا بذنبهم « أي بتكذيبهم الرسل. والذنب ها هنا بمعنى الجمع؛ لأن فيه معنى الفعل. يقال: خرج عطاء الناس أي أعطيتهم. » فسحقا لأصحاب السعير « أي فبعدا لهم من رحمة الله. وقال سعيد بن جبير وأبو صالح: هو واد في جهنم يقال له السحق. وقرأ الكسائي وأبو جعفر » فسحقا « بضم الحاء، ورويت عن علي. الباقون بإسكانها، وهما لغتان مثل السحت والرعب. الزجاج: وهو منصوب على المصدر؛ أي أسحقهم الله سحقا؛ أي باعدهم بعدا. قال امرؤ القيس: »

يجول بأطراف البلاد مغربا وتسحقه ريح الصبا كل مسحق

وقال أبو علي: القياس إسحاقا؛ فجاء المصدر على الحذف؛ كما قيل:

وإن أهلك فذلك كان قدري

أي تقديري. وقيل: إن قوله تعالى: « إن أنتم إلا في ضلال كبير » من قول خزنة جهنم لأهلها.

 

الآية: 12 ( إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير )

 

قوله تعالى: « إن الذين يخشون ربهم بالغيب » نظيره: « من خشي الرحمن بالغيب » [ ق: 33 ] وقد مضى الكلام فيه. أي يخافون الله ويخافون عذابه الذي هو بالغيب؛ وهو عذاب يوم القيامة. « لهم مغفرة » لذنوبهم « وأجر كبير » وهو الجنة.

 

الآيات: 13 - 14 ( وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير )

 

قوله تعالى: « وأسروا قولكم أو اجهروا به » اللفظ لفظ الأمر والمراد به الخبر؛ يعني إن أخفيتم كلامكم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم أو جهرتم به « فإنه عليم بذات الصدور » يعني بما في القلوب من الخير والشر. ابن عباس: نزلت في المشركين كانوا ينالون من النبي صلى الله عليه وسلم فيخبره جبريل عليه السلام؛ فقال بعضهم لبعض: أسروا قولكم كي لا يسمع رب محمد؛ فنزلت: « وأسروا قولكم أو أجهروا به » . يعني: أسروا قولكم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل في سائر الأقوال. أو أجهروا به؛ أعلنوه. « إنه عليم بذات الصدور » ذات الصدور ما فيها؛ كما يسمى ولد المرأة وهو جنين « ذا بطنها » . ثم قال: « ألا يعلم من خلق » يعني ألا يعلم السر من خلق السر. يقول أنا خلقت السر في القلب أفلا أكون عالما بما في قلوب العباد. وقال أهل المعاني: إن شئت جعلت « من » اسما للخالق جل وعز؛ ويكون المعنى: ألا يعلم الخالق خلقه. وإن شئت جعلته اسما للمخلوق، والمعنى: ألا يعلم الله من خلق. ولا بد أن يكون الخالق عالما بما خلقه وما يخلقه. قال ابن المسيب: بينما رجل واقف بالليل في شجر كثير وقد عصفت الريح فوقع في نفس الرجل: أترى الله يعلم ما يسقط من هذا الورق؟ فنودي من جانب الغيضة بصوت عظيم: ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير. وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني: من أسماء صفات الذات ما هو للعلم؛ منها « العليم » ومعناه تعميم جميع المعلومات. ومنها « الخبير » ويختص بأن يعلم ما يكون قبل أن يكون. ومنها « الحكيم » ويختص بأن يعلم دقائق الأوصاف. ومنها « الشهيد » ويختص بأن يعلم الغائب والحاضر ومعناه أن لا يغيب عنه شيء، ومنها الحافظ ويختص بأنه لا ينسى. ومنها « المحصي » ويختص بأنه لا تشغله الكثرة عن العلم؛ مثل ضوء النور واشتداد الريح وتساقط الأوراق؛ فيعلم عند ذلك أجزاء الحركات في كل ورقة. وكيف لا يعلم وهو الذي يخلق! وقد قال: « ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير » .

 

الآية: 15 ( هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور )

 

قوله تعالى: « هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا » أي سهلة تستقرون عليها. والذلول المنقاد الذي يذل لك والمصدر الذل وهو اللين والانقياد. أي لم يجعل الأرض بحيث يمتنع المشي فيها بالحزونة والغلظة. وقيل: أي ثبتها بالجبال لئلا تزول بأهلها؛ ولو كانت تتكفأ متماثلة لما كانت منقادة لنا. وقيل: أشار إلى التمكن من الزرع والغرس وشق العيون والأنهار وحفر الآبار. « فامشوا في مناكبها » هو أمر إباحة، وفيه إظهار الأمتنان. وقيل: هو خبر بلفظ الأمر؛ أي لكي تمشوا في أطرافها ونواحيها وآكامها وجبالها. وقال ابن عباس وقتادة وبشير بن كعب: « في مناكبها » في جبالها. وروي أن بشير بن كعب كانت له سرية فقال لها: إن أخبرتني ما مناكب الأرض فأنت حرة؟ فقالت: مناكبها جبالها. فصارت حرة، فأراد أن يتزوجها فسأل أبا الدرداء فقال: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. مجاهد: في أطرافها. وعنه أيضا: في طرقها وفجاجها. وقاله السدي والحسن. وقال الكلبي: في جوانبها. ومنكبا الرجل: جانباه. وأصل المنكب الجانب؛ ومنه منكب الرجل. والريح النكباء. وتنكب فلان عن فلان. يقول: أمشوا حيث أردتم فقد جعلتها لكم ذلولا لا تمتنع. وحكى قتادة عن أبي الجلد: أن الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ؛ فللسودان أثنا عشر ألف، وللروم ثمانية آلاف، وللفرس ثلاثة آلاف، وللعرب ألف. « وكلوا من رزقه » أي مما أحله لكم؛ قاله الحسن. وقيل: مما أتيته لكم. « وإليه النشور » المرجع. وقيل: معناه أن الذي خلق السماء لا تفاوت فيها، والأرض ذلولا قادر على أن ينشركم.

 

الآية: 16 ( أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور )

 

قوله تعالى: « أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض » قال ابن عباس: أأمنتم عذاب من في السماء إن عصيتموه. وقيل: تقديره أأمنتم من في السماء قدرته وسلطانه وعرشه ومملكته. وخص السماء وإن عم ملكه تنبيها على أن الإله الذي تنفذ قدرته في السماء لا من يعظمونه في الأرض. وقيل: هو إشارة إلى الملائكة. وقيل: إلى جبريل وهو الملك الموكل بالعذاب.

قلت: ويحتمل أن يكون المعنى: أأمنتم خالق من في السماء أن يخسف بكم الأرض كما خسفها بقارون. « فإذا هي تمور » أي تذهب وتجيء. والمور: الاضطراب بالذهاب والمجيء. قال الشاعر:

رمين فأقصدن القلوب ولن ترى دما مائرا إلا جرى في الحيازم

جمع حيزوم وهو وسط الصدر. وإذا خسف بإنسان دارت به الأرض فهو المور. وقال المحققون: أمنتم من فوق السماء؛ كقول: « فسيحوا في الأرض » [ التوبة: 2 ] أي فوقها لا بالمماسة والتحيز لكن بالقهر والتدبير. وقيل: معناه أمنتم من على السماء؛ كقوله تعالى: « ولأصلبنكم في جذوع النخل » [ طه: 71 ] أي عليها. ومعناه أنه مديرها ومالكها؛ كما يقال: فلان على العراق والحجاز؛ أي وإليها وأميرها. والأخبار في هذا الباب كثيرة صحيحة منتشرة، مشيرة إلى العلو؛ لا يدفعها إلا ملحد أو جاهل معاند. والمراد بها توقيره وتنزيهه عن السفل والتحت. ووصفه بالعلو والعظمة لا بالأماكن والجهات والحدود لأنها صفات الأجسام. وإنما ترفع الأيدي بالدعاء إلى السماء لأن السماء مهبط الوحي، ومنزل القطر، ومحل القدس، ومعدن المطهرين من الملائكة، وإليها ترفع أعمال العباد، وفوقها عرشه وجنته؛ كما جعل الله الكعبة قبلة للدعاء والصلاة، ولأنه خلق الأمكنة وهو غير محتاج إليها، وكان في أزله قبل خلق المكان والزمان. ولا مكان له ولا زمان. وهو الآن على ما عليه كان. وقرأ قنبل عن ابن كثير « النشور وامنتم » بقلب الهمزة الأولى واوا وتخفيف الثانية. وقرأ الكوفيون والبصريون وأهل الشام سوى أبي عمرو وهشام بالتخفيف في الهمزتين، وخفف الباقون. وقد تقدم جميعه.

 

الآية: 17 ( أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير )

 

قوله تعالى: « أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا » أي حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل. وقيل: ريح فيها حجارة وحصباء. وقيل: سحاب فيه حجارة. « فستعلمون كيف نذير » أي إنذاري. وقيل: النذير بمعنى المنذر. يعني محمدا صلي الله عليه وسلم فستعلمون صدقه وعاقبة تكذيبكم.

 

الآية: 18 ( ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير )

 

قوله تعالى: « ولقد كذب الذين من قبلهم » يعني كفار الأمم؛ كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين وأصحاب الرس وقوم فرعون « فكيف كان نكير » أي إنكاري وقد تقدم. وأثبت ورش الياء في « نذيري، ونكيري » في الوصل. وأثبتها يعقوب في الحالين. وحذف الباقون اتباعا للمصحف.

 

الآية: 19 ( أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير )

 

قوله تعالى: « أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات » أي كما ذلل الأرض للآدمي ذلل الهواء للطيور. و « صافات » أي باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها؛ لأنهن إذا بسطنها صففن قوائمها صفا. « ويقبضن » أي يضربن بها جنوبهن. قال أبو جعفر النحاس: يقال للطائر إذا بسط جناحيه: صاف، وإذا ضمهما فأصابا جنبه: قابض؛ لأنه يقبضهما. قال أبو خراش: يبادر جنح الليل فهو موائل يحث الجناح بالتبسط والقبض وقيل: ويقبض أجنحتهن بعد بسطها إذا وقفن من الطيران. وهو معطوف على « صافات » عطف المضارع على اسم الفاعل؛ كما عطف اسم الفاعل على المضارع في قول الشاعر: بات يعشيها بعضب باتر يقصد في أسوقها وجائر « ما يمسكهن » أي ما يمسك الطير في الجو وهي تطير إلا الله عز وجل. « إنه بكل شيء بصير » .

 

الآية: 20 ( أم من هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور )

 

قوله تعالى: « أمن هذا الذي هو جند لكم » قال ابن عباس: حزب ومنعة لكم. « ينصركم من دون الرحمن » فيدفع عنكم ما أراد بكم إن عصيتموه. ولفظ الجند يوحد؛ ولهذا قال: « هذا الذي هو جند لكم » وهو استفهام إنكار؛ أي لا جند لكم يدفع عنكم عذاب الله « من دون الرحمن » أي من سوى الرحمن. « إن الكافرون إلا في غرور » من الشياطين؛ تغرهم بأن لا عذاب ولا حساب.

 

الآية: 21 ( أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور )

 

قوله تعالى: « أمن هذا الذي يرزقكم » أي يعطيكم منافع الدنيا. وقيل المطر من آلهتكم. « إن أمسك رزقه » يعني الله تعالى رزقه. « بل لجوا » أي تمادوا وأصروا. « في عتو » طغيان « ونفور » عن الحق.

 

الآية: 22 ( أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أم من يمشي سويا على صراط مستقيم )

 

قوله تعالى: « أفمن يمشي مكبا على وجهه » ضرب الله مثلا للمؤمن والكافر « مكبا » أي منكسا رأسه لا ينظر أمامه ولا يمينه ولا شماله؛ فهو لا يأمن من العثور والانكباب على وجهه. كمن يمشي سويا معتدلا ناظرا ما بين يديه وعن يمينه وعن شماله. قال ابن عباس: هذا في الدنيا؛ ويجوز أن يريد به الأعمى الذي لا يهتدي إلى الطريق فيعتسف؛ فلا يزال ينكب على وجهه. وأنه ليس كالرجل السوي الصحيح البصير الماشي في الطريق المهتدى له. وقال قتادة: هو الكافر أكب على معاصي الله في الدنيا فحشره الله يوم القيامة على وجهه. وقال ابن عباس والكلبي: عنى بالذي يمشى مكبا على وجهه أبا جهل، وبالذي يمشي سويا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل أبو بكر. وقيل حمزة. وقيل عمار ابن ياسر؛ قاله عكرمة. وقيل: هو عام في الكافر والمؤمن؛ أي أن الكافر لا يدري أعلى حق هو أم على باطل. أي أهذا الكافر أهدى أو المسلم الذي يمشي سويا معتدلا يبصر للطريق وهو « على صراط مستقيم » وهو الإسلام. ويقال: أكب الرجل على وجهه؛ فيما لا يتعدى بالألف. فإذا تعدى قيل: كبه الله لوجهه؛ بغير ألف.

 

الآية: 23 ( قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون )

 

قوله تعالى: « قل هو الذي أنشأكم » أمر نبيه أن يعرفهم قبح شركهم مع اعترافهم بأن الله خلقهم. « وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة » يعني القلوب « قليلا ما تشكرون » أي لا تشكرون هذه النعم، ولا توحدون الله تعالى. تقول: قلما أفعل كذا؛ أي لا أفعله.

 

الآيات: 24 - 25 ( قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون، ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين )

 

قوله تعالى: « قل هو الذي ذرأكم في الأرض » أي خلقكم في الأرض؛ قال ابن عباس. وقيل: نشركم فيها وفرقكم على ظهرها؛ قاله ابن شجرة. « وإليه تحشرون » حتى يجازي كلا بعمله. « ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين » أي متى يوم القيامة ومتى هذا العذاب الذي تعدوننا به وهذا استهزاء منهم. وقد تقدم.

 

الآية: 26 ( قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين )

 

قوله تعالى: « قل إنما العلم عند الله » أي قل لهم يا محمد علم وقت قيام الساعة عند الله فلا يعلمه غيره. نظيره: « قل إنما علمها عند ربي » [ الأعراف: 187 ] الآية. « وإنما أنا نذير مبين » أي مخوف ومعلم لكم.

 

الآية: 27 ( فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل هذا الذي كنتم به تدعون )

 

قوله تعالى: « فلما رأوه زلفة » مصدر بمعنى مزدلفا أي قريبا؛ قال مجاهد. الحسن عيانا. وأكثر المفسرين على أن المعنى: فلما رأوه يعني العذاب، وهو عذاب الآخرة. وقال مجاهد: يعني عذاب بدر. وقيل: أي رأوا ما وعدوا من الحشر قريبا منهم. ودل عليه « تحشرون » . وقال ابن عباس: لما رأوا عملهم السيئ قريبا. « سيئت وجوه الذين كفروا » أي فعل بها السوء. وقال الزجاج: تبين فيها السوء أي ساءهم ذلك العذاب وظهر على وجوههم سمة تدل على كفرهم؛ كقوله تعالى: « يوم تبيض وجوه وتسود وجوه » [ آل عمران: 106 ] . وقرأ نافع وابن محيصن وابن عامر والكسائي « سئت » بإشمام الضم. وكسر الباقون بغير إشمام طلبا للخفة. ومن ضم لاحظ الأصل. « وقيل هذا الذي كنتم به تدعون » قال الفراء: « تدعون » تفتعلون من الدعاء وهو قول أكثر العلماء أي تتمنون وتسألون. وقال ابن عباس: تكذبون؛ وتأويله: هذا الذي كنتم من أجله تدعون الأباطيل والأحاديث؛ قاله الزجاج. وقراءة العامة « تدعون » بالتشديد، وتأويله ما ذكرناه. وقرأ قتادة وابن أبي إسحاق والضحاك ويعقوب « تدعون » مخففة. قال قتادة: هو قولهم « ربنا عجل لنا قطنا » [ ص: 16 ] . وقال الضحاك: هو قولهم « اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء » [ الأنفال: 32 ] الآية. وقال أبو العباس: « تدعون » تستعجلون؛ يقال: دعوت بكذا إذا طلبته؛ وادعيت افتعلت منه. النحاس: « تدعون وتدعون » بمعنى واحد؛ كما يقال: قدر وأقتدر، وعدى واعتدى؛ إلا أن في « أفتعل » معنى شيء بعد شيء، و « فعل » يقع على القليل والكثير.

 

الآية: 28 ( قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم )

 

قوله تعالى: « قل أرأيتم إن أهلكني الله » أي قل لهم يا محمد - يريد مشركي مكة، وكانوا يتمنون موت محمد صلى الله عليه وسلم؛ كما قال تعالى: « أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون » [ الطور: 30 ] - أرأيتم إن متنا أو رحمنا فأخرت آجالنا فمن يجيركم من عذاب الله؛ فلا حاجة بكم إلى التربص بنا ولا إلى استعجال قيام الساعة. وأسكن الياء في « أهلكني » ابن محيصن والمسيبي وشيبة والأعمش وحمزة. وفتحها الباقون. وكلهم فتح الياء في « ومن معي » إلا أهل الكوفة فإنهم سكنوها. وفتحها حفص كالجماعة.

 

الآية: 29 ( قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين )

 

قوله تعالى: « قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون » قرأ الكسائي بالياء على الخبر؛ ورواه عن علي. الباقون بالتاء على الخطاب. وهو تهديد لهم. ويقال: لم أخر مفعول « آمنا » وقدم مفعول « توكلنا » فيقال: لوقوع « آمنا » تعريضا بالكافرين حين ورد عقيب ذكرهم. كأنه قيل: آمنا ولم نكفر كما كفرتم. ثم قال « وعليه توكلنا » خصوصا لم نتكل على ما أنتم متكلون عليه من رجالكم وأموالكم؛ قاله الزمخشري.

 

الآية: 30 ( قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين )

 

قوله تعالى: « قل أرأيتم » يا معشر قريش « إن أصبح ماؤكم غورا » أي غائرا ذاهبا في الأرض لا تناله الدلاء. وكان ماؤهم من بئرين: بئر زمزم وبئر ميمون. « فمن يأتيكم بماء معين » أي جار؛ قاله قتادة والضحاك. فلا بد لهم من أن يقولوا لا يأتينا به إلا الله؛ فقل لهم لم تشركون به من لا يقدر على أن يأتيكم. يقال: غار الماء يغور غورا؛ أي نضب. والغور: الغائر؛ وصف بالمصدر للمبالغة؛ كما تقول: رجل عدل ورضا. وقد مضى في سورة « الكهف » ومضى القول في المعنى في سورة « المؤمنون » والحمد لله. وعن ابن عباس: « بماء معين » أي ظاهر تراه العيون؛ فهو مفعول. وقيل: هو من معن الماء أي كثر؛ فهو على هذا فعيل. وعن ابن عباس أيضا: أن المعنى فمن يأتيكم بماء عذب. والله أعلم.

 

سورة القلم

مقدمة السورة

 

مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس وقتادة: من أولها إلى قوله تعالى: « سنسمه على الخرطوم » [ القلم: 16 ] مكي. ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى: « أكبر لو كانوا يعلمون » [ القلم: 33 ] مدني. ومن بعد ذلك إلى قوله: « يكتبون » [ القلم: 47 ] مكي. ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى: « من الصالحين » [ القلم: 50 ] مدني، وما بقي مكي؛ قاله الماوردي.

 

الآيات: 1 - 3 ( ن والقلم وما يسطرون، ما أنت بنعمة ربك بمجنون، وإن لك لأجرا غير ممنون )

 

قوله تعالى: « ن والقلم » أدغم النون الثانية في هجائها في الواو أبو بكر والمفضل وهبيرة وورش وابن محيصن وابن عامر والكسائي ويعقوب. والباقون بالإظهار. وقرأ عيسى بن عمر بفتحها؛ كأنه أضمر فعلا. وقرأ ابن عباس ونصر وابن أبي إسحاق بكسرها على إضمار حرف، القسم. وقرأ هارون ومحمد بن السميقع بضمها على البناء. واختلف في تأويله؛ فروى معاوية بن قرة عن أبيه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ن لوح من نور ) . وروى ثابت البناني أن « ن » الدواة. وقاله الحسن وقتادة. وروى الوليد بن مسلم قال: حدثنا مالك بن أنس عن سمي مولى أبي بكر عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( أول ما خلق الله القلم ثم خلق النون وهي الدواة وذلك قوله تعالى: « ن والقلم » ثم قال له اكتب قال: وما أكتب قال: ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل أو أجل أو رزق أو أثر فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة - قال - ثم ختم فم القلم فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة. ثم خلق العقل فقال الجبار ما خلقت خلقا أعجب إلي منك وعزتي وجلالي لأكملنك فيمن أحببت ولأنقصنك فيمن أبغضت ) قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أكمل الناس عقلا أطوعهم لله وأعملهم بطاعته ) . وعن مجاهد قال: « ن » الحوت الذي تحت الأرض السابعة. قال: « والقلم » الذي كتب به الذكر. وكذا قال مقاتل ومرة الهمداني وعطاء الخراساني والسدي والكلبي: إن النون هو الحوت الذي عليه الأرضون. وروى أبو ظبيان عن ابن عباس قال: أول ما خلق الله القلم فجرى بما هو كائن، ثم رفع بخار الماء فخلق منه السماء، ثم خلق النون فبسط الأرض على ظهره، فمادت الأرض فأثبتت بالجبال، وإن الجبال لتفخر على الأرض. ثم قرأ ابن عباس « ن والقلم » الآية. وقال الكلبي ومقاتل: اسمه البهموت. قال الراجز:

مالي أراكم كلكم سكوتا والله ربي خلق البهموتا

وقال أبو اليقظان والواقدي: ليوثا. وقال كعب: لوثوثا. وقال: بلهموثا. وقال كعب: إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرضون فوسوس في قلبه، وقال: أتدري ما على ظهرك يا لوثوثا من الدواب والشجر والأرضين وغيرها، لو لفظتهم ألقيتهم عن ظهرك أجمع؛ فهم ليوثا أن يفعل ذلك، فبعث الله إليه دابة فدخلت منخره ووصلت إلى دماغه، فضج الحوت إلى الله عز وجل منها فأذن الله لها فخرجت. قال كعب: فوالله إنه لينظر إليها وتنظر إليه إن هم بشيء من ذلك عادت كما كانت. وقال الضحاك عن ابن عباس: إن « ن » آخر حروف من حروف الرحمن. قال: الر، وحم، ون؛ الرحمن تعالى متقطعة. وقال ابن زيد: هو قسم أقسم تعالى به. وقال ابن كيسان: هو فاتحة السورة. وقيل: اسم السورة. وقال عطاء وأبو العالية: هو أفتتاح اسمه نصير ونور وناصر. وقال محمد بن كعب: أقسم الله تعالى بنصره للمؤمنين؛ وهو حق. بيانه قوله تعالى: « وكان حقا علينا نصر المؤمنين » [ الروم: 47 ] وقال جعفر الصادق: هو نهر من أنهار الجنة يقال له نون. وقيل: هو المعروف من حروف المعجم، لأنه لو كان غير ذلك لكان معربا؛ وهو اختيار القشيري أبو نصر عبدالرحيم في تفسيره. قال: لأن « ن » حرف لم يعرب، فلو كان كلمة تامة أعرب كما أعرب القلم، فهو إذا حرف هجاء كما في سائر مفاتيح السور. وعلى هذا قيل: هو اسم السورة، أي هذه السورة « ن » . ثم قال: « والقلم » أقسم بالقلم لما فيه من البيان كاللسان؛ وهو واقع على كل قلم مما يكتب به من في السماء ومن في الأرض؛ ومنه قول أبي الفتح البستي:

إذا أقسم الأبطال يوما بسيفهم وعدوه مما يكسب المجد والكرم

كفى قلم الكتاب عزا ورفعة مدى الدهر أن الله أقسم بالقلم

وللشعراء في تفضيل القلم على السيف أبيات كثيرة؛ ما ذكرناه أعلاها. وقال ابن عباس: هذا قسم بالقلم الذي خلقه الله؛ فأمره فجرى بكتابة جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة. قال: وهو قلم من نور طوله كما بين السماء والأرض. ويقال. خلق الله القلم ثم نظر إليه فأنشق نصفين؛ فقال: أجر؛ فقال: يا رب بم أجري؟ قال بما هو كائن إلى يوم القيامة؛ فجرى على اللوح المحفوظ. وقال الوليد بن عبادة بن الصامت: أوصاني أبي عند موته فقال: يا بني، اتق الله، وأعلم أنك لن تتقي ولن تبلغ العلم حتى تؤمن بالله وحده، والقدر خيره وشره، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن أول ما خلق الله القلم فقال له أكتب فقال يا رب وما أكتب فقال أكتب القدر فجرى القلم في تلك الساعة بما كان وما هو كائن إلى الأبد ) وقال ابن عباس: أول ما خلق الله القلم فأمره أن يكتب ما هو كائن؛ فكتب فيما كتب « تبت يدا أبي لهب » [ المسد: 1 ] . وقال قتادة: القلم نعمة من الله تعالى على عباده. قال غيره: فخلق الله القلم الأول فكتب ما يكون في الذكر ووضعه عنده فوق عرشه، ثم خلق القلم الثاني ليكتب به في الأرض؛ على ما يأتي بيانه في سورة « اقرأ باسم ربك » [ العلق: 1 ] .

 

قوله تعالى: « وما يسطرون » أي وما يكتبون. يريد الملائكة يكتبون أعمال بني آدم؛ قاله ابن عباس: وقيل: وما يكتبون أي الناس ويتفاهمون به. وقال ابن عباس: ومعنى « وما يسطرون » وما يعلمون. و « ما » موصولة أو مصدرية؛ أي ومسطوراتهم أو وسطرهم، ويراد به كل من يسطر أو الحفظة؛ على الخلاف. « ما أنت بنعمة ربك بمجنون » هذا جواب القسم وهو نفي، وكان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم إنه مجنون، به شيطان. وهو قولهم: « يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون » [ الحجر: 6 ] فأنزل الله تعالى ردا عليهم وتكذيبا لقولهم { ما أنت بنعمة ربك بمجنون « أي برحمة ربك. والنعمة ها هنا الرحمة. ويحتمل ثانيا - أن النعمة ها هنا قسم؛ وتقديره: ما أنت ونعمة ربك بمجنون؛ لأن الواو والباء من حروف القسم. وقيل هو كما تقول: ما أنت بمجنون، والحمد لله. وقيل: معناه ما أنت بمجنون، والنعمة لربك؛ كقولهم: سبحانك اللهم وبحمدك؛ أي والحمد لله. ومنه قول لبيد: »

وأفردت في الدنيا بفقد عشيرتي وفارقني جار بأربد نافع

أي وهو أربد. وقال النابغة:

لم يحرموا حسن الغذاء وأمهم طفحت عليك بناتق مذكار

أي هو ناتق. والباء في « بنعمة ربك » متعلقة « بمجنون » منفيا؛ كما يتعلق بغافل مثبتا. كما في قولك: أنت بنعمة ربك غافل. ومحله النصب على الحال؛ كأنه قال: ما أنت بمجنون منعما عليك بذلك. « وإن لك لأجرا » أي ثوابا على ما تحملت من أثقال النبوة. « غير ممنون » أي غير مقطوع ولا منقوص؛ يقال: مننت الحبل إذا قطعته. وحبل منين إذا كان غير متين. قال الشاعر:

غُبْسا كواسب لا يُمَنّ طعامها

أي لا يقطع. وقال مجاهد: « غير ممنون » محسوب. الحسن: « غير ممنون » غير مكدر بالمن. الضحاك: أجرا بغير عمل. وقيل: غير مقدر وهو التفضل؛ لأن الجزاء مقدر والتفضل غير مقدر؛ ذكره الماوردي، وهو معنى قول مجاهد.

 

الآية: 4 ( وإنك لعلى خلق عظيم )

 

قوله تعالى: « وإنك لعلى خلق عظيم » قال ابن عباس ومجاهد: على خلق، على دين عظيم من الأديان، ليس دين أحب إلى الله تعالى ولا أرضى عنده منه. وفي صحيح مسلم عن عائشة: أن خلقه كان القرآن. وقال علي رضي الله عنه وعطية: هو أدب القرآن. وقيل: هو رفقه بأمته وإكرامه إياهم. وقال قتادة: هو ما كان يأتمر به من أمر الله وينتهي عنه مما نهى الله عنه. وقيل: أي إنك على طبع كريم. الماوردي: وهو الظاهر. وحقيقة الخلق في اللغة: هو ما يأخذ به الإنسان نفسه من الأدب يسمى خلقا؛ لأنه يصير كالخلقة فيه. وأما ما طبع عليه من الأدب فهو الخيم ( بالكسر ) : السجية والطبيعة، لا واحد له من لفظه. وخيم: اسم جبل. فيكون الخلق الطبع المتكلف. والخيم الطبع الغريزي. وقد أوضح الأعشى ذلك في شعره فقال:

وإذا ذو الفضول ضن على المولى وعادت لخيمها الأخلاق

أي رجعت الأخلاق إلى طبائعها.

قلت: ما ذكرته عن عائشة في صحيح مسلم أصح الأقوال. وسئلت أيضا عن خلقه عليه السلام؛ فقرأت « قد أفلح المؤمنون » [ المؤمنون: 1 ] إلى عشر آيات، وقالت: ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دعاه أحد من الصحابة ولا من أهل بيته إلا قال لبيك، ولذلك قال الله تعالى « وإنك لعلى خلق عظيم » . ولم يذكر خلق محمود إلا وكان للنبي صلى الله عليه وسلم منه الحظ الأوفر. وقال الجنيد: سمي خلقه عظيما لأنه لم تكن له همة سوى الله تعالى. وقيل سمي خلقه عظيما لاجتماع مكارم الأخلاق فيه؛ يدل عليه قوله عليه السلام: ( إن الله بعثني لأتمم مكارم الأخلاق ) . وقيل: لأنه أمتثل تأديب الله تعالى إياه بقوله تعالى: « خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين » [ الأعراف: 199 ] . وقد روي عنه عليه السلام أنه قال: ( أدبني ربي تأديبا حسنا إذ قال: « خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين » [ الأعراف: 199 ] فلما قبلت ذلك منه قال: « إنك لعلى خلق عظيم » .

 

روى الترمذي عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن ) . قال حديث حسن صحيح. وعن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء ) . قال: حديث حسن صحيح. وعنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصلاة والصوم ) . قال: حديث غريب من هذا الوجه. وعن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: ( تقوى الله وحسن الخلق ) . وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال: ( الفم والفرج ) قال: هذا حديث صحيح غريب. وعن عبدالله بن المبارك أنه وصف حسن الخلق فقال: هو بسط الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى. وعن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا - قال - وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون ) . قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: ( المتكبرون ) . قال: وفي الباب عن أبي هريرة وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.

 

الآيات: 5 - 7 ( فستبصر ويبصرون، بأيكم المفتون، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين )

 

قوله تعالى: « فستبصر ويبصرون » قال ابن عباس: معناه فستعلم ويعلمون يوم القيامة. وقيل: فسترى ويرون يوم القيامة حين يتبين الحق والباطل. « بأيكم المفتون » الباء زائدة؛ أي فستبصر ويبصرون أيكم المفتون. أي الذي فتن بالجنون؛ كقوله تعالى: « تنبت بالدهن » [ المؤمنون: 20 ] و « يشرب بها عباد الله » [ الإنسان: 6 ] . وهذا قول قتادة وأبي عبيد والأخفش. وقال الراجز: نحن بنو جعدة أصحاب الفلج نضرب بالسيف ونرجو بالفرج وقيل: الباء ليست بزائدة؛ والمعنى: « بأيكم المفتون » أي الفتنة. وهو مصدر على وزن المفعول، ويكون معناه الفتون؛ كما قالوا: ما لفلان مجلود ولا معقول؛ أي عقل ولا جلادة. وقاله الحسن والضحاك وابن عباس. وقال الراعي:

حتى إذا لم يتركوا لعظامه لحما ولا لفؤاده معقولا

أي عقلا. وقيل في الكلام تقدير حذف مضاف؛ والمعنى: بأيكم فتنة المفتون. وقال الفراء: الباء بمعنى في؛ أي فستبصر ويبصرون في أي الفريقين المجنون؛ أبالفرقة التي أنت فيها من المؤمنين أم بالفرقة الأخرى. والمفتون: المجنون الذي فتنه الشيطان. وقيل: المفتون المعذب. من قول العرب: فتنت الذهب بالنار إذا حميته. ومنه قوله تعالى: « يوم هم على النار يفتنون » [ الذاريات: 13 ] أي يعذبون.

ومعظم السورة نزلت في الوليد بن المغيرة وأبي جهل. وقيل: المفتون هو الشيطان؛ لأنه مفتون في دينه. وكانوا يقولون: إن به شيطانا، وعنوا بالمجنون هذا؛ فقال الله تعالى: فسيعلمون غدا بأيهم المجنون؛ أي الشيطان الذي يحصل من مسه الجنون واختلاط العقل. « إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله » أي إن الله هو العالم بمن حاد عن دينه. « وهو أعلم بالمهتدين » أي الذين هم على الهدى فيجازي كلا غدا بعمله.

 

الآية: 8 ( فلا تطع المكذبين )

 

نهاه عن ممايلة المشركين؛ وكانوا يدعونه إلى أن يكف عنهم ليكفوا عنه، فبين الله تعالى أن ممايلتهم كفر. وقال تعالى: « ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا » [ الإسراء: 74 ] . وقيل: أي فلا تطع المكذبين فيما دعوك إليه من دينهم الخبيث. نزلت في مشركي قريش حين دعوه إلى دين آبائه.

 

الآية: 9 ( ودوا لو تدهن فيدهنون )

 

قال ابن عباس وعطية والضحاك والسدي: ودوا لو تكفر فيتمادون على كفرهم. وعن ابن عباس أيضا: ودوا لو ترخص لهم فيرخصون لك. وقال الفراء والكلبي: لو تلين فيلينون لك. والادهان: التليين لمن لا ينبغي له التليين؛ قاله الفراء. وقال مجاهد: المعنى ودوا لو ركنت إليهم وتركت الحق فيمالئونك. وقال الربيع بن أنس: ودوا لو تكذب فيكذبون. وقال قتادة: ودوا لو تذهب عن هذا الأمر فيذهبون معك. الحسن: ودوا لو تصانعهم في دينك فيصانعونك في دينهم. وعنه أيضا: ودوا لو ترفض بعض أمرك فيرفضون بعض أمرهم. زيد بن أسلم: لو تنافق وترائي فينافقون ويراؤون. وقيل: ودوا لو تضعف فيضعفون؛ قال أبو جعفر. وقيل: ودوا لو تداهن في دينك فيداهنون في أديانهم؛ قاله القتبي. وعنه: طلبوا منه أن يعبد ألهتهم مدة ويعبدوا إلهه مدة. فهذه آثنا عشر قولا. ابن العربي: ذكر المفسرون فيها نحو عشرة أقوال كلها دعاوى على اللغة والمعنى. أمثلها قولهم: ودوا لو تكذب فيكذبون، ودوا لو تكفر فيكفرون.

قلت: كلها إن شاء الله تعالى صحيحة على مقتضى اللغة والمعنى؛ فإن الادهان: اللين والمصانعة. وقيل: مجاملة العدو ممايلته. وقيل: المقاربة في الكلام والتليين في القول. قال الشاعر:

لبعض الغشم أحزم في أمور تنوبك من مداهنة العدو

وقال المفضل: النفاق وترك المناصحة. فهي على هذا الوجه مذمومة، وعلى الوجه الأول غير مذمومة، وكل شيء منها لم يكن. قال المبرد: يقال أدهن في دينه وداهن في أمره؛ أي خان فيه وأظهر خلاف ما يضمر. وقال قوم: داهنت بمعنى واريت، وأدهنت بمعنى غششت؛ قال الجوهري. وقال: « فيدهنون » فساقه على العطف، ولو جاء به جواب النهي لقال فيدهنوا. وإنما أراد: إن تمنوا لو فعلت فيفعلون مثل فعلك؛ عطفا لا جزاء عليه ولا مكافأة، وإنما هو تمثيل وتنظير.

 

الآيات: 10 - 13 ( ولا تطع كل حلاف مهين، هماز مشاء بنميم، مناع للخير معتد أثيم، عتل بعد ذلك زنيم )

 

يعني الأخنس بن شريق؛ في قول الشعبي والسدي وابن إسحاق. وقيل: الأسود بن عبد يغوث، أو عبدالرحمن بن الأسود؛ قاله مجاهد. وقيل: الوليد بن المغيرة، عرض على النبي صلى الله عليه وسلم مالا وحلف أن يعطيه إن رجع عن دينه؛ قال مقاتل. وقال ابن عباس: هو أبو جهل بن هشام. والحلاف: الكثير الحلف. والمهين: الضعيف القلب؛ عن مجاهد. ابن عباس: الكذاب. والكذاب مهين. وقيل: المكثار في الشر؛ قاله الحسن وقتادة. وقال الكلبي: المهين الفاجر العاجز. وقيل: معناه الحقير عند الله. وقال ابن شجرة: إنه الذليل. الرماني: المهين الوضيع لإكثاره من القبيح. وهو فعيل من المهانة بمعنى القلة. وهي هنا القلة في الرأي والتمييز. أو هو فعيل بمعنى مفعل؛ والمعنى مهان. « هماز » قال ابن زيد: الهماز الذي يهمز الناس بيده ويضربهم. واللماز باللسان. وقال الحسن: هو الذي يهمز ناحية في المجلس؛ كقوله تعالى: « همزة » . [ الهمزة: 1 ] . وقيل: الهماز الذي يذكر الناس في وجوههم. واللماز الذي يذكرهم في مغيبهم؛ قاله أبو العالية وعطاء بن أبي رباح والحسن أيضا. وقال مقاتل ضد هذا الكلام: إن الهمزة الذي يغتاب بالغيبة. واللمزة الذي يغتاب في الوجه. وقال مرة: هما سواء. وهو القتات الطعان للمرء إذا غاب. ونحوه عن ابن عباس وقتادة. قال الشاعر:

تدلي بود إذا لاقيتني كذبا وإن أغب فأنت الهامز اللمزة

« مشاء بنميم » أي يمشي بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم. يقال: نم ينم نما ونميما ونميمة؛ أي يمشي ويسعى بالفساد. وفي صحيح مسلم عن حذيفة أنه بلغه أن رجلا ينم الحديث، فقال حذيفة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا يدخل الجنة نمام ) . وقال الشاعر:

ومولى كبيت النمل لا خير عنده لمولاه إلا سعيه بنميم

قال الفراء: هما لغتان. وقيل: النميم جمع نميمة. « مناع للخير » أي للمال أن ينفق في وجوهه. وقال ابن عباس: يمنع عن الإسلام ولده وعشيرته. وقال الحسن: يقول لهم من دخل منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبدا. « معتد » أي على الناس في الظلم متجاوز للحد، صاحب باطل. « أثيم » أي ذي إثم، ومعناه أثوم، فهو فعيل بمعنى فعول. « عتل بعد ذلك زنيم » العتل الجافي الشديد في كفره. وقال الكلبي والفراء: هو الشديد الخصومة بالباطل. وقيل: إنه الذي يعتل الناس فيجرهم إلى حبس أو عذاب. مأخوذ من العتل وهو الجر؛ ومنه قوله تعالى: « خذوه فاعتلوه » [ الدخان: 47 ] . وفي الصحاح: وعتلت الرجل أعتله وأعتله إذا جذبته جذبا عنيفا. ورجل معتل ( بالكسر ) . وقال يصف فرسا:

نفرعه فرعا ولسنا نعتله

قال ابن السكيت: عتله وعتنه، باللام والنون جميعا. والعتل الغليظ الجافي. والعتل أيضا: الرمح الغليظ. ورجل عتل ( بالكسر ) بين العتل؛ أي سريع إلى الشر. ويقال: لا أنعتل معك؛ أي لا أبرح مكاني. وقال عبيد بن عمير: العتل الأكول الشروب القوي الشديد يوضع في الميزان فلا يزن شعيرة؛ يدفع الملك من أولئك في جهنم بالدفعة الواحدة سبعين ألفا. وقال علي بن أبي طالب والحسن: العتل الفاحش السيئ الخلق. وقال معمر: هو الفاحش اللئيم. قال الشاعر:

بعُتُلّ من الرجال زنيم غير ذي نجدة وغير كريم

وفي صحيح مسلم عن حارثة بن وهب سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ألا أخبركم بأهل الجنة - قالوا بلى قال - كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره. ألا أخبركم بأهل النار - قالوا بلى قال - كل عتل جواظ مستكبر ) . وفي رواية عنه ( كل جواظ زنيم متكبر ) . الجواظ: قيل هو الجموع المنوع. وقيل الكثير اللحم المختال في مشيته. وذكر الماوردي عن شهر بن حوشب عن عبدالرحمن بن غنم، ورواه ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يدخل الجنة جواظ ولا جعظري ولا العتل الزنيم ) . فقال رجل: ما الجواظ وما الجعظري وما العتل الزنيم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الجواظ الذي جمع ومنع. والجعظري الغليظ. والعتل الزنيم الشديد الخلق الرحيب الجوف المصحح الأكول الشروب الواجد للطعام الظلوم للناس ) . وذكره الثعلبي عن شداد بن أوس: ( لا يدخل الجنة جواظ ولا جعظري ولا عتل زنيم ) سمعتهن من النبي صلى الله عليه وسلم قلت: وما الجواظ؟ قال: الجماع المناع. قلت: وما الجعظري؟ قال: الفظ الغليظ. قلت: وما العتل الزنيم؟ قال: الرحيب الجوف الوثير الخلق الأكول الشروب الغشوم الظلوم.

قلت: فهذا التفسير من النبي صلى الله عليه وسلم في العتل قد أربى على أقوال المفسرين. ووقع في كتاب أبي داود في تفسير الجواظ أنه الفظ الغليظ. ذكره من حديث حارثة بن وهب الخزاعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يدخل الجنة الجواظ ولا الجعظري ) قال: والجواظ الفظ الغليظ. ففيه تفسيران مرفوعان حسب ما ذكرناه أولا. وقد قيل: إنه الجافي القلب. وعن زيد بن أسلم في قوله تعالى: « عتل بعد ذلك زنيم » قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( تبكي السماء من رجل أصح الله جسمه ورحب جوفه وأعطاه من الدنيا بعضا فكان للناس ظلوما فذلك العتل الزنيم. وتبكي السماء من الشيخ الزاني ما تكاد الأرض تقله ) . والزنيم الملصق بالقوم الدعي؛ عن ابن عباس وغيره. قال الشاعر: زنيم تداعاه الرجال زيادة كما زيد في عرض الأديم الأكارع وعن ابن عباس أيضا: أنه رجل من قريش كانت له زنمة كزنمة الشاة. وروى عنه ابن جبير. أنه الذي يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها. وقال عكرمة: هو اللئيم الذي يعرف بلؤمه كما تعرف الشاة بزنمتها. وقيل: إنه الذي يعرف بالأبنة. وهو مروي عن ابن عباس أيضا. وعنه أنه الظلوم. فهذه ستة أقوال. وقال مجاهد: زنيم كانت له ستة أصابع في يده، في كل إبهام له إصبع زائدة. وعنه أيضا وسعيد بن المسيب وعكرمة: هو ولد الزنى الملحق في النسب بالقوم. وكان الوليد دعيا في قريش ليس من سنخهم؛ ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة من مولده. قال الشاعر:

زنيم ليس يعرف من أبوه بغي الأم ذو حسب لئيم

وقال حسان:

وأنت زنيم نيط في آل هاشم كما نيط خلف الراكب القدح الفرد

قلت: وهذا هو القول الأول بعينه. وعن علي رضي الله تعالى عنه أنه الذي لا أصل له؛ والمعنى واحد. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يدخل الجنة ولد زنى ولا ولده ولا ولد ولده ) . وقال عبدالله بن عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أولاد الزنى يحشرون يوم القيامة في صورة القردة والخنازير ) . وقالت ميمونة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنى فإذا فشا فيهم ولد الزنى أوشك أن يعمهم الله بعقاب ) . وقال عكرمة: إذا كثر ولد الزنى قحط المطر.

قلت: أما الحديث الأول والثاني فما أظن لهما سندا يصح، وأما حديث ميمونة وما قاله عكرمة ففي صحيح مسلم عن زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوما فزعا محمرا وجهه يقول: ( لا إله إلا الله. ويل للعرب من شر قد اقترب. فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه ) وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها. قالت فقلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: ( نعم إذا كثر الخبث ) خرجه البخاري. وكثرة الخبث ظهور الزنى وأولاد الزنى؛ كذا فسره العلماء. وقول عكرمة « قحط المطر » تبيين لما يكون به الهلاك. وهذا يحتاج إلى توقيف، وهو أعلم من أين قاله. ومعظم المفسرين على أن هذا نزل في الوليد بن المغيرة، وكان يطعم أهل منى حيسا ثلاثة أيام، وينادي ألا لا يوقدن أحد تحت برمة، ألا لا يدخنن أحد بكراع، ألا ومن أراد الحيس فليأت الوليد بن المغيرة. وكان ينفق في الحجة الواحدة عشرين ألفا وأكثر. ولا يعطي المسكين درهما واحدا فقيل: « مناع للخير » . وفيه نزل: « وويل للمشركين. الذين لا يؤتون الزكاة » [ فصلت: 6 ] . وقال محمد بن إسحاق: نزلت في الأخنس بن شريق، لأنه حليف ملحق في بني زهرة، فلذلك سمي زنيما. وقال ابن عباس: في هذه الآية نعت، فلم يعرف حتى قتل فعرف، وكان له زنمة في عنقه معلقة يعرف بها. وقال مُرَّة الهمداني: إنما ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة.

 

الآيات: 14 - 15 ( أن كان ذا مال وبنين، إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين )

 

قوله تعالى: « أن كان ذا مال وبنين » قرأ أبو جعفر وابن عامر وأبو حيوة والمغيرة والأعرج « آن كان » بهمزة واحدة ممدودة على الاستفهام. وقرأ المفضل وأبو بكر وحمزة « أأن كان » بهمزتين محققتين. وقرأ الباقون بهمزة واحدة على الخبر؛ فمن قرأ بهمزة مطولة أو بهمزتين محققتين فهو استفهام والمراد به التوبيخ، ويحسن له أن يقف على « زنيم » ، ويبتدئ « أن كان » على معنى ألأن كان ذا مال وبنين تطيعه. ويجوز أن يكون التقدير: ألأن كان ذا مال وبنين يقول إذا تتلى عليه آياتنا: أساطير الأولين ويجوز أن يكون التقدير: ألأن كان ذا مال وبنين يكفر ويستكبر. ودل عليه ما تقدم من الكلام فصار كالمذكور بعد الاستفهام. ومن قرأ « أن كان » بغير استفهام فهو مفعول من أجله والعامل فيه فعل مضمر، والتقدير: يكفر لأن كان ذا مال وبنين. ودل على هذا الفعل: « إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين » ولا يعمل في « أن » : « تتلى » ولا « قال » لأن ما بعد « إذا » لا يعمل فيما قبلها؛ لأن « إذا » تضاف إلى الجمل التي بعدها، ولا يعمل المضاف إليه فيما قبل المضاف. و « قال » جواب الجزاء ولا يعمل فيما قبل الجزاء؛ إذا حكم العامل أن يكون قبل المعمول فيه، وحكم الجواب أن يكون بعد الشرط فيصير مقدما مؤخرا في حال. ويجوز أن يكون المعنى لا تطعه لأن كان ذا يسار وعدد. قال ابن الأنباري: ومن قرأ بلا استفهام لم يحسن أن يقف على « زنيم » لأن المعنى لأن كان وبأن كان، « فأن » متعلقة بما قبلها. قال غيره: يجوز أن يتعلق بقوله: « مشاء بنميم » والتقدير يمشي بنميم لأن كان ذا مال وبنين. وأجاز أبو علي أن يتعلق « بعتل » . وأساطير الأولين: أباطيلهم وترهاتهم وخرافاتهم. وقد تقدم.

 

الآية: 16 ( سنسمه على الخرطوم )

 

قوله تعالى: « سنسمه » قال ابن عباس: معنى « سنسمه » سنخطمه بالسيف. قال: وقد خطم الذي نزلت فيه يوم بدر بالسيف؛ فلم يزل مخطوما إلى أن مات. وقال قتادة: سنسمه يوم القيامة على أنفه سمة يعرف بها؛ يقال: وسمته وسما وسمة إذا أثرت فيه بسمة وكي. وقد قال تعالى: « يوم تبيض وجوه وتسود وجوه » [ آل عمران: 106 ] فهذه علامة ظاهرة. وقال تعالى: « ونحشر المجرمين يومئذ زرقا » [ طه: 102 ] وهذه علامة أخرى ظاهرة. فأفادت هذه الآية علامة ثالثة وهي الوسم على الأنف بالنار؛ وهذا كقوله تعالى: « يعرف المجرمون بسيماهم » [ الرحمن: 41 ] قاله الكلبي وغيره. وقال أبو العالية ومجاهد: « سنسمه على الخرطوم » أي على أنفه، ونسود وجهه في الآخرة فيعرف بسواد وجهه. والخرطوم: الأنف من الإنسان. ومن السباع: موضع الشفة. وخراطيم القوم: ساداتهم. قال الفراء: وإن كان الخرطوم قد خص بالسمة فإنه في معنى الوجه؛ لأن بعض الشيء يعبر به عن الكل. وقال الطبري: نبين أمره تبيانا واضحا حتى يعرفوه فلا يخفى عليهم كما لا تخفى السمة على الخراطيم. وقيل: المعنى سنلحق به عارا وسبة حتى يكون كمن وسم على أنفه. قال القتبي: تقول العرب للرجل يسب سبة سوء قبيحة باقية: قد وسم ميسم سوء؛ أي الصق به عار لا يفارقه؛ كما أن السمة لا يمحى أثرها. قال جرير:

لما وضعت على الفرزدق ميسمي وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل

أراد به الهجاء. قال: وهذا كله نزل في الوليد بن المغيرة. ولا نعلم أن الله تعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغه منه؛ فألحقه به عارا لا يفارقه في الدنيا والآخرة؛ كالوسم على الخرطوم. وقيل: هو ما ابتلاه الله به في الدنيا في نفسه وماله وأهله من سوء وذل وصغار؛ قاله ابن بحر. واستشهد بقول الأعشى:

فدعها وما يغنيك وأعمد لغيرها بشعرك وأعلب أنف من أنت واسم

وقال النضر بن شميل: المعنى سنحده على شرب الخمر، والخرطوم: الخمر، وجمعه خراطيم، قال الشاعر:

تظل يومك في لهو وفي طرب وأنت بالليل شرَّاب الخراطيم

قال الراجز:

صهباء خرطوما عقارا قرقفا

وقال آخر:

أبا حاضر من يزن يعرف زناؤه ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكرا

 

قال ابن العربي: « كان الوسم في الوجه لذي المعصية قديما عند الناس، حتى أنه روي - كما تقدم - أن اليهود لما أهملوا رجم الزاني اعتاضوا منه بالضرب وتحميم الوجه؛ وهذا وضع باطل. ومن الوسم الصحيح في الوجه: ما رأى العلماء من تسويد وجه شاهد الزور، علامة على قبح المعصية وتشديدا لمن يتعاطاها لغيره ممن يرجى تجنبه بما يرجى من عقوبة شاهد الزور وشهرته؛ فقد كان عزيزا بقول الحق وقد صار مهينا بالمعصية. وأعظم الإهانة إهانة الوجه. وكذلك كانت الاستهانة به في طاعة الله سببا لخيرة الأبد والتحريم له على النار؛ فإن الله تعالى قد حرم على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود؛ حسب ما ثبت في الصحيح.»

 

الآيات: 17 - 19 ( إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين، ولا يستثنون، فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون )

 

قوله تعالى: « إنا بلوناهم » يريد أهل مكة. والابتلاء الاختبار. والمعنى أعطيناهم أموالا ليشكروا لا ليبطروا؛ فلما بطروا وعادوا محمدا صلي الله عليه وسلم ابتليناهم بالجوع والقحط كما بلونا أهل الجنة المعروف خبرها عندهم. وذلك أنها كانت بأرض اليمن بالقرب منهم على فراسخ من صنعاء - ويقال بفرسخين - وكانت لرجل يؤدي حق الله تعالى منها؛ فلما مات صارت إلى ولده، فمنعوا الناس خيرها وبخلوا بحق الله فيها؛ فأهلكها الله من حيث لم يمكنهم دفع ما حل بها. قال الكلبي: كان بينهم وبين صنعاء فرسخان؛ ابتلاهم الله بأن أحرق جنتهم. وقيل: هي جنة بضوران، وضوران على فرسخ من صنعاء، وكان أصحاب هذه الجنة بعد رفع عيسى عليه السلام بيسير - وكانوا بخلاء - فكانوا يجدون التمر ليلا من أجل المساكين، وكانوا أرادوا حصاد زرعها وقالوا: لا يدخلها اليوم عليكم مسكين، فغدوا عليها فإذا هي قد اقتلعت من أصلها فأصبحت كالصريم؛ أي كالليل. ويقال أيضا للنهار صريم. فإن كان أراد الليل فلا سواد موضعها. وكأنهم وجدوا موضعها حمأة. وإن كان أراد بالصريم النهار فلذهاب الشجر والزرع ونقاء الأرض منه. وكان الطائف الذي طاف عليها جبريل عليه السلام فاقتلعها. فيقال: إنه طاف بها حول البيت ثم وضعها حيث مدينة الطائف اليوم؛ ولذلك سميت الطائف. وليس في أرض الحجاز بلدة فيها الشجر والأعناب والماء غيرها. وقال البكري في المعجم: سميت الطائف لأن رجلا من الصدف يقال له الدمون، بنى حائطا وقال: قد بنيت لكم طائفا حول بلدكم؛ فسميت الطائف. والله أعلم.

 

قال بعض العلماء: على من حصد زرعا أو جد ثمرة أن يواسي منها من حضره؛ وذلك معنى قوله: « وآتوا حقه يوم حصاده » [ الأنعام: 141 ] وأنه غير الزكاة على ما تقدم في « الأنعام » بيانه. وقال بعضهم: وعليه ترك ما أخطأه الحاصدون. وكان بعض العباد يتحرون أقواتهم من هذا. وروي أنه نهي عن الحصاد بالليل. فقيل: إنه لما ينقطع عن المساكين في ذلك من الرفق. وتأول من قال هذا الآية التي في سورة « ن والقلم » . قيل: إنما نهي عن ذلك خشية الحيات وهوام الأرض.

قلت: الأول أصح؛ والثاني حسن. وإنما قلنا الأول أصح لأن العقوبة كانت بسبب، ما أرادوه من منع المساكين كما ذكر الله تعالى. روى أسباط عن السدي قال: كان قوم باليمن وكان أبوهم رجلا صالحا، وكان إذا بلغ ثماره أتاه المساكين فما يمنعهم من دخولها وأن يأكلوا منها ويتزودوا؛ فلما مات قال بنوه بعضهم لبعض: علام نعطي أموالنا هؤلاء المساكين! تعالوا فلندلج فنصر منها قبل أن يعلم المساكين؛ ولم يستثنوا؛ فانطلقوا وبعضهم يقول لبعض خفتا: لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين؛ فذلك قوله تعالى: « إذ أقسموا » يعني حلفوا فيما بينهم « ليصر منها مصبحين » يعني لنجذنها وقت الصبح قبل أن تخرج المساكين؛ ولا يستثنون؛ يعني لم يقولوا إن شاء الله. وقال ابن عباس: كانت تلك الجنة دون صنعاء بفرسخين، غرسها رجل من أهل الصلاح وكان له ثلاثة بنين، وكان للمساكين كل ما تعداه المنجل فلم يجذه من الكرم، فإذا طرح على البساط فكل شيء سقط عن البساط فهو أيضا للمساكين، فإذا حصدوا زرعهم فكل شيء تعداه المنجل فهو للمساكين، فإذا درسوا كان لهم كل شيء انتثر؛ فكان أبوهم يتصدق منها على المساكين، وكان يعيش في ذلك في حياة أبيهم اليتامى والأرامل والمساكين، فلما مات أبوهم فعلوا ما ذكر الله عنهم. فقالوا: قل المال وكثر العيال؛ فتحالفوا بينهم ليغدون غدوة قبل خروج الناس ثم ليصر منها ولا تعرف المساكين. وهو قوله: « إذ أقسموا » أي حلفوا « ليصر منها » ليقطعن ثمر نخيلهم إذا أصبحوا بسدفة من الليل لئلا ينتبه المساكين لهم. والصرم القطع. يقال: صرم العذق عن النخلة. وأصرم النخل أي حان وقت صرامه. مثل أركب المهر وأحصد الزرع، أي حان ركوبه وحصاده.

 

قوله تعالى: « ولا يستثنون » أي ولم يقولوا إن شاء الله. وقال مجاهد: كان حرثهم عنبا ولم يقولوا إن شاء الله. وقال أبو صالح: كان استثناؤهم قولهم سبحان الله ربنا. وقيل: معنى « ولا يستثنون » أي لا يستثنون حق المساكين؛ قاله عكرمة. فجاؤوها ليلا فرأوا الجنة مسودة قد طاف عليها طائف من ربك وهم نائمون. قيل: الطائف جبريل عليه السلام؛ على ما تقدم ذكره. وقال ابن عباس: أمر من ربك. وقال قتادة: عذاب من ربك. ابن جريج: عتق من نار خرج من وادي جهنم. والطائف لا يكون إلا بالليل؛ قاله الفراء.

قلت: في هذه الآية دليل على أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان؛ لأنهم عزموا على أن يفعلوا فعوقبوا قبل فعلهم. ونظير هذه الآية قوله تعالى: « ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم » [ الحج: 25 ] . وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار ) قيل: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: ( إنه كان حريصا على قتل صاحبه ) . وقد مضى مبينا في سورة « آل عمران » عند قوله تعالى: « ولم يصروا على ما فعلوا » [ آل عمران: 135 ] .

 

الآيات: 20 - 22 ( فأصبحت كالصريم، فتنادوا مصبحين، أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين )

 

قوله تعالى: « فأصبحت كالصريم » أي كالليل المظلم؛ عن ابن عباس والفراء وغيرهما. قال الشاعر:

تطاول ليلك الجون البهيم فما ينجاب عن صبح صريم

أي احترقت فصارت كالليل الأسود. وعن ابن عباس أيضا: كالرماد الأسود. قال: الصريم الرماد الأسود بلغة خزيمة. الثوري: كالزرع المحصود. فالصريم بمعنى المصروم أي المقطوع ما فيه. وقال الحسن: صرم عنها الخير أي قطع؛ فالصريم مفعول أيضا. وقال المؤرج: أي كالرملة أنصرمت من معظم الرمل. يقال: صريمة وصرائم؛ فالرملة لا تنبت شيئا ينتفع به. وقال الأخفش: أي كالصبح أنصرم من الليل. وقال المبرد: أي كالنهار؛ فلا شيء فيها. قال شمر: الصريم الليل والصريم النهار؛ أي ينصرم هذا عن ذاك وذاك عن هذا. وقيل: سمي الليل صريما لأنه يقطع بظلمته عن التصرف؛ ولهذا يكون فعيل بمعنى فاعل. قال القشيري: وفي هذا نظر؛ لأن النهار يسمى صريما ولا يقطع عن تصرف. « فتنادوا مصبحين » ينادي بعضهم بعضا ليقطعن ثمر نخيلهم إذا أصبحوا بسدفة من الليل لئلا ينتبه المساكين « أن اغدوا على حرثكم » عازمين على الصرام والجداد. قال قتادة: حاصدين زرعكم. وقال الكلبي: ما كان في جنتهم من زرع ولا نخيل. فتحالفوا بينهم ليغدون غدوة قبل خروج الناس ثم ليصرمنها ولا تعرف المساكين.

 

الآيات: 23 - 25 ( فانطلقوا وهم يتخافتون، أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين، وغدوا على حرد قادرين )

 

قوله تعالى: « فانطلقوا وهم يتخافتون » أي يتسارون؛ أي يخفون كلامهم ويسرونه لئلا يعلم بهم أحد؛ قاله عطاء وقتادة. وهو من خفت يخفت إذا سكن ولم يبين. كما قال دريد بن الصمة:

وإني لم أهلك سلالا ولم أمت خفاتا وكلا ظنه بي عودي

وقيل: يخفون أنفسهم من الناس حتى لا يروهم. وكان أبوهم يخبر الفقراء والمساكين فيحضروا وقت الحصاد والصرام. « وغدوا على حرد قادرين » أي على قصد وقدرة في أنفسهم ويظنون أنهم تمكنوا من مرادهم. قال معناه ابن عباس وغيره. والحرد القصد. حرَد يحرِد ( بالكسر ) حردا قصد. تقول: حردْتُ حردَك؛ أي قصدت قصدك. ومنه قول الراجز:

أقبل سيل جاء من عند الله يحرد حرد الجنة المُغِلَّة

أنشده النحاس:

قد جاء سيل جاء من أمر الله يحرد حرد الجنة المغلة

قال البرد: المغلة ذات الغلة. وقال غيره: المِغلة التي يجري الماء في غللها أي في أصولها. ومنه تغللت بالغالية. ومنه تغليت، أبدل من اللام ياء. ومن قال تغلفت فمعناه عنده جعلتها غلافا. وقال قتادة ومجاهد: « على حرد » أي على جد. الحسن: على حاجة وفاقة. وقال أبو عبيدة والقتيبي: على حرد على منع؛ من قولهم حاردت الإبل حرادا أي قلت ألبانها. والحرود من النوق القليلة الدر. وحاردت السنة قل مطرها وخيرها. وقال السدي وسفيان: « على حرد » على غضب. والحرد الغضب. قال أبو نصر أحمد بن حاتم صاحب الأصمعي: وهو مخفف؛ وأنشد شعراً:

إذا جياد الخيل جاءت تردي مملوءة من غضب وحرد

وقال ابن السكيت: وقد يحرك؛ تقول منه: حرد ( بالكسر ) حردا، فهو حارد وحردان. ومنه قيل: أسد حارد، وليوث حوارد. وقيل: « على حرد » على انفراد. يقال: حرد يحرد حرودا؛ أي تنحى عن قومه ونزل منفردا ولم يخالطهم. وقال أبو زيد: رجل حريد من قوم حرداء. وقد حرد يحرد حرودا؛ إذا ترك قومه وتحول عنهم. وكوكب حريد؛ أي معتزل عن الكواكب. قال الأصمعي: رجل حريد؛ أي فريد وحيد. قال والمنحرد المنفرد في لغة هذيل. وأنشد لأبي ذؤيب:

كأنه كوكب في الجو منحرد

ورواه أبو عمرو بالجيم، وفسره: منفرد. قال: وهو سهيل. وقال الأزهري: حرد اسم قريتهم. السدي: اسم جنتهم؛ وفيه لغتان: حرد وحرد. وقرأ العامة بالإسكان. وقرأ أبو العالية وابن السميقع بالفتح؛ وهما لغتان. ومعنى « قادرين » قد قدروا أموهم وبنوا عليه؛ قاله الفراء. وقال قتادة: قادرين على جنتهم عند أنفسهم. وقال الشعبي: « قادرين » يعني على المساكين. وقيل: معناه من الوجود؛ أي منعوا وهم واجدون.

 

الآيات: 26 - 27 ( فلما رأوها قالوا إنا لضالون، بل نحن محرومون )

 

قوله تعالى: « فلما رأوها قالوا إنا لضالون » أي لما رأوها محترقة لا شيء فيها قد صارت كالليل الأسود ينظرون إليها كالرماد، أنكروها وشكوا فيها. وقال بعضهم لبعض: « إنا لضالون » أي ضللنا الطريق إلى جنتنا؛ قاله قتادة. وقيل: أي إنا لضالون عن الصواب في غدونا وعلى نية منع المساكين؛ فلذلك عوقبنا. « بل نحن محرومون » أي حرمنا جنتنا بما صنعنا. روى أسباط عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إياكم والمعاصي إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقا كان هيء له - ثم تلا - « فطاف عليها طائف من ربك » [ القلم: 19 ] ) الآيتين.

 

الآيات: 28 - 32 ( قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون، قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين، فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون، قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين، عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون )

 

قوله تعالى: « قال أوسطهم » أي أمثلهم وأعدلهم وأعقلهم. « ألم أقل لكم لولا تسبحون » أي هلا تستثنون. وكان استثناؤهم تسبيحا؛ قال مجاهد وغيره. وهذا يدل على أن هذا الأوسط كان أمرهم بالاستثناء فلم يطيعوه. قال أبو صالح: كان استثناؤهم سبحان الله. فقال لهم: هلا تسبحون الله؛ أي تقولون سبحان الله وتشكرونه على ما أعطاكم. قال النحاس: أصل التسبيح التنزيه لله عز وجل؛ فجعل مجاهد التسبيح في موضع إن شاء الله؛ لأن المعنى تنزيه الله عز وجل أن يكون شيء إلا بمشيئته. وقيل: هلا تستغفرونه من فعلكم وتتوبون إليه من خبث نيتكم؛ فإن أوسطهم قال لهم حين عزموا على ذلك وذكرهم انتقامه من المجرمين « قالوا سبحان ربنا » اعترفوا بالمعصية ونزهوا الله عن أن يكون ظالما فيما فعل. قال ابن عباس في قولهم: « سبحان ربنا » أي نستغفر الله من ذنبنا. « إنا كنا ظالمين » لأنفسنا في منعنا المساكين. « فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون » أي يلوم هذا هذا في القسم ومنع المساكين، ويقول: بل أنت أشرت علينا بهذا. « قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين » أي عاصين بمنع حق الفقراء وترك الاستثناء. وقال ابن كيسان: طغينا نعم الله فلم نشكرها كما شكرها آباؤنا من قبل. « عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها » تعاقدوا وقالوا: إن أبدلنا الله خيرا منها لنصنعن كما صنعت آباؤنا؛ فدعوا الله وتضرعوا فأبدلهم الله من ليلتهم ما هو خير منها، وأمر جبريل أن يقتلع تلك الجنة المحترقة فيجعلها بزغر من أرض الشام، ويأخذ من الشام جنة فيجعلها مكانها. وقال ابن مسعود: إن القوم أخلصوا وعرف الله منهم صدقهم فأبدلهم جنة يقال لها الحيوان، فيها عنب يحمل البغل منها عنقودا واحدا. وقال اليماني أبو خالد: دخلت تلك الجنة فرأيت كل عنقود منها كالرجل الأسود القائم. وقال الحسن: قول أهل الجنة « إنا إلى ربنا راغبون » لا أدري إيمانا كان ذلك منهم أو على حد ما يكون من المشركين إذا أصابتهم الشدة؛ فيوقف في كونهم مؤمنين. وسئل قتادة عن أصحاب الجنة: أهم من أهل الجنة أم من أهل النار؟ فقال: لقد كلفتني تعبا. والمعظم يقولون: إنهم تابوا وأخلصوا؛ حكاه القشيري. وقراءة العامة « يبدلنا » بالتخفيف. وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو بالتشديد، وهما لغتان. وقيل: التبديل تغيير الشيء أو تغيير حاله وعين الشيء قائم. والإبدال رفع الشيء ووضع آخر مكانه. وقد مضى في سورة « النساء » القول في هذا.

 

الآية: 33 ( كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون )

 

قوله تعالى: « كذلك العذاب » أي عذاب الدنيا وهلاك الأموال؛ عن ابن زيد. وقيل: إن هذا وعظ لأهل مكة بالرجوع إلى الله لما ابتلاهم بالجدب لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، أي كفعلنا بهم نفعل بمن تعدى حدودنا في الدنيا « ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون » وقال ابن عباس: هذا مثل لأهل مكة حين خرجوا إلى بدر وحلفوا ليقتلن محمدا صلي الله عليه وسلم وأصحابه، وليرجعن إلى مكة حتى يطوفوا بالبيت ويشربوا الخمر، وتضرب القينات على رؤوسهم؛ فأخلف الله ظنهم وأسروا وقتلوا وانهزموا كأهل هذه الجنة لما خرجوا عازمين على الصرام فخابوا. ثم قيل: إن الحق الذي منعه أهل الجنة المساكين يحتمل أنه كان واجبا عليهم، ويحتمل أنه كان تطوعا؛ والأول أظهر، والله أعلم. وقيل: السورة مكية؛ فبعد حمل الآية على ما أصاب أهل مكة من القحط، وعلى قتال بدر.

 

الآيات: 34 - 39 ( إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم، أفنجعل المسلمين كالمجرمين، ما لكم كيف تحكمون، أم لكم كتاب فيه تدرسون، إن لكم فيه لما تخيرون، أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون )

 

قوله تعالى: « إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم » تقدم القول فيه؛ أي إن للمتقين في الآخرة جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص، لا يشوبه ما ينغصه كما يشوب جنات الدنيا. وكان صناديد قريش يرون وفور حظهم من الدنيا وقلة حظوظ المسلمين منها؛ فإذا سمعوا بحديث الآخرة وما وعد الله المؤمنين قالوا: إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد ومن معه لم يكن حالنا وحالهم إلا مثل ما هي في الدنيا، وإلا لم يزيدوا علينا ولم يفضلونا، وأقصى أمرهم أن يساوونا. فقال: « أفنجعل المسلمين كالمجرمين » أي كالكفار. وقال ابن عباس وغيره: قالت كفار مكة: إنا نعطى في الآخرة خيرا مما تعطون؛ فنزلت « أفنجعل المسلمين كالمجرمين » ثم وبخهم فقال: « ما لكم كيف تحكمون » هذا الحكم الأعوج؛ كأن أمر الجزاء مفوض إليكم حتى تحكموا فيه بما شئتم أن لكم من الخير ما للمسلمين. « أم لكم كتاب فيه تدرسون » أي لكم كتاب تجدون فيه المطيع كالعاصي. « إن لكم فيه لما تخيرون » تختارون وتشتهون. والمعنى: أن لكم ( بالفتح ) ولكنه كسر لدخول اللام؛ تقول علمت أنك عاقل ( بالفتح ) ، وعلمت إنك لعاقل ( بالكسر ) . فالعامل في « إن لكم فيه لما تخيرون » « تدرسون » في المعنى. ومنعت اللام من فتح « إن » . وقيل: تم الكلام عند قوله: « تدرسون » ثم ابتدأ فقال: « إن لكم قيه لما تخيرون » أي إن لكم في هذا الكتاب إذا ما تخيرون؛ أي ليس لكم ذلك. والكناية في « فيه » الأولى والثانية راجعة إلى الكتاب.

 

قوله تعالى: « أم لكم أيمان علينا » أي عهود ومواثيق. « بالغة إلى يوم القيامة » مؤكدة. والبالغة المؤكدة بالله تعالى. أي أم لكم عهود على الله تعالى استوثقتم بها في أن يدخلكم الجنة. « إن لكم لما تحكمون » كسرت « إن » لدخول اللام في الخبر. وهي من صلة « إيمان » ، والموضع النصب ولكن كسرت لأجل اللام؛ تقول: حلفت إن لك لكذا. وقيل: تم الكلام عند قوله: « إلى يوم القيامة » ثم قال: « إن لكم لما تحكمون » إذا؛ أي ليس الأمر كذلك. وقرأ ابن هرمز « أين لكم فيه لما تخيرون » « أين لكم لما تحكمون » ؛ بالاستفهام فيهما جميعا. وقرأ الحسن البصري « بالغة » بالنصب على الحال؛ إما من الضمير في « لكم » لأنه خبر عن « إيمان » ففيه ضمير منه. وإما من الضمير في « علينا » إن قدرت « علينا » وصفا للإيمان لا متعلقا بنفس الإيمان؛ لأن فيه ضميرا منه، كما يكون إذا كان خبرا عنه. ويجوز أن يكون حالا من « إيمان » وإن كانت نكرة، كما أجازوا نصب « حقا » على الحال من « متاع » في قوله تعالى: « متاع بالمعروف حقا على المتقين » [ البقرة: 241 ] . وقرأ العامة « بالغة » بالرفع نعت لـ « أيمان » .

 

الآيات: 40 - 41 ( سلهم أيهم بذلك زعيم، أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين )

 

قوله تعالى: « سلهم أيهم بذلك زعيم » أي سل يا محمد هؤلاء المتقولين علي: أيهم كفيل بما تقدم ذكره. وهو أن لهم من الخير ما للمسلمين. والزعيم: الكفيل والضمين؛ قال ابن عباس وقتادة. وقال ابن كيسان: الزعيم هنا القائم بالحجة والدعوى. وقال الحسن: الزعيم الرسول. « أم لهم شركاء » أي ألهمزه والميم صلة. « شركاء » أي شهداء. « فليأتوا بشركائهم » يشهدون على ما زعموا. « إن كانوا صادقين » في دعواهم. وقيل: أي فليأتوا بشركائهم إن أمكنهم؛ فهو أمر معناه التعجيز.

الآية [ 42 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات: 42 - 43 ( يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون، خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون )

 

قوله تعالى: « يوم يكشف عن ساق » يجوز أن يكون العامل في « يوم » « فليأتوا » أي فليأتوا بشركائهم يوم يكشف عن ساق ليشفع الشركاء لهم. ويجوز أن ينتصب بإضمار فعل، أي اذكر يوم يكشف عن ساق؛ فيوقف على « صادقين » ولا يوقف عليه على التقدير الأول. وقرئ « يوم نكشف » بالنون. « وقرأ » ابن عباس « يوم تكشف عن ساق » بتاء مسمى الفاعل؛ أي تكشف الشدة أو القيامة. عن ساقها؛ كقولهم: شمرت الحرب عن ساقها. قال الشاعر:

فتى الحرب إن عضت به الحرب عضها وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا

وقال الراجز:

قد كشفت عن ساقها فشدوا وجدت الحرب بكم فجدوا

وقال آخر:

عجبت من نفسي ومن إشفاقها ومن طراد الطير عن أرزاقها

في سَنة قد كشفت عن ساقها حمراء تبري اللحم عن عراقها

وقال آخر: كشفت لهم عن ساقها وبدا من الشر الصراح وعن ابن عباس أيضا والحسن وأبي العالية « تكشف » بتاء غير مسمى الفاعل. وهذه القراءة راجعة إلى معنى « يكشف » وكأنه قال: يوم تكشف القيامة عن شدة. وقرئ « يوم تكشف » بالتاء المضمومة وكسر الشين؛ من أكشف إذا دخل في الكشف. ومنه: أكشف الرجل فهو مكشف؛ إذا انقلبت شفته العليا. وذكر ابن المبارك قال: أخبرنا أسامة بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: « يوم يكشف عن ساق » قال: عن كرب وشدة. أخبرنا ابن جريج عن مجاهد قال: شدة الأمر وجده. وقال مجاهد: قال ابن عباس هي أشد ساعة في يوم القيامة. وقال أبو عبيدة: إذا اشتد الحرب والأمر قيل: كشف الأمر عن ساقه. والأصل فيه أن من وقع في شيء يحتاج فيه إلى الجد شمر عن ساقه؛ فاستعير الساق والكشف عنها في موضع الشدة. وقيل: ساق الشيء أصله الذي به قوامه؛ كساق الشجرة وساق الإنسان. أي يوم يكشف عن أصل الأمر فتظهر حقائق الأمور وأصلها. وقيل: يكشف عن ساق جهنم. وقيل: عن ساق العرش. وقيل: يريد وقت أقتراب الأجل وضعف البدن؛ أي يكشف المريض عن ساقه ليبصر ضعفه، ويدعوه المؤذن إلى الصلاة فلا يمكنه أن يقوم ويخرج. فأما ما روي أن الله يكشف عن ساقه فإنه عز وجل يتعالى عن الأعضاء والتبعيض وأن يكشف ويتغطى. ومعناه أن يكشف عن العظيم من أمره. وقيل: يكشف عن نوره عز وجل.

وروى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: « عن ساق » قال: ( يكشف عن نور عظيم يخرون له سجدا ) . وقال أبو الليث السمرقندي في تفسيره: حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا ابن منيع قال حدثنا هدبة قال حدثنا حماد ابن سلمة عن عدي بن زيد عن عمارة القرشي عن أبي بردة عن أبي موسى قال حدثني أبي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا كان يوم القيامة مثل لكل قوم ما كانوا يعبدون في الدنيا فيذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون ويبقى أهل التوحد فيقال لهم ما تنتظرون وقد ذهب الناس فيقولون إن لنا ربا كنا نعبده في الدنيا ولم نره - قال - وتعرفونه إذا رأيتموه فيقولون نعم فيقال فكيف تعرفونه ولم تروه قالوا إنه لا شبيه له فيكشف لهم الحجاب فينظرون إلى الله تعالى فيخرون له سجدا وتبقى أقوام ظهورهم مثل صياصي البقر فينظرون إلى الله تعالى فيريدون السجود فلا يستطيعون فذلك قوله تعالى: « يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون » فيقول الله تعالى عبادي أرفعوا رؤوسكم فقد جعلت بدل كل رجل منكم رجلا من اليهود والنصارى في النار ) . قال أبو بردة: فحدثت بهذا الحديث عمر بن عبدالعزيز فقال: الله الذي لا إله إلا هو لقد حدثك أبوك بهذا الحديث؟ فحلف له ثلاثة أيمان؛ فقال عمر: ما سمعت في أهل التوحيد حديثا هو أحب إلي من هذا. وقال قيس بن السكن: حدث عبدالله بن مسعود عند عمر بن الخطاب فقال: إذا كان يوم القيامة قام الناس لرب العالمين أربعين عاما شاخصة أبصارهم إلى السماء، حفاة عراة يلجمهم العرق، فلا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم أربعين عاما، ثم ينادي مناد: أيها الناس، أليس عدلا من ربكم الذي خلقكم وصوركم وأماتكم وأحياكم ثم عبدتم غيره أن يولي كل قوم ما تولوا؟ قالوا: نعم. قال: فيرفع لكل قوم ما كانوا يعبدون من دون الله فيتبعونها حتى تقذفهم في النار، فيبقى المسلمون والمنافقون فيقال لهم: ألا تذهبون قد ذهب الناس؟ فيقولون حتى يأتينا ربنا؛ فيقال لهم: أو تعرفونه؟ فيقولون: إن اعترف لنا عرفناه. قال فعند ذلك يكشف عن ساق ويتجلى لهم فيخر من كان يعبده مخلصا ساجدا، ويبقى المنافقون لا يستطيعون كأن في ظهورهم السفافيد، فيذهب بهم إلى النار، ويدخل هؤلاء الجنة؛ فذلك قوله تعالى: « ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون » .

 

قوله تعالى: « خاشعة أبصارهم » أي ذليلة متواضعة؛ ونصبها على الحال. « ترهقهم ذلة » وذلك أن المؤمنين يرفعون رؤوسهم ووجوههم أشد بياضا من الثلج. وتسود وجوه المنافقين والكافرين حتى ترجع أشد سوادا من القار.

قلت: معنى حديث أبي موسى وابن مسعود ثابت في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري وغيره.

« وقد كانوا يدعون إلى السجود » أي في الدنيا. « وهم سالمون » معافون أصحاء. قال إبراهيم التيمي: أي يدعون بالأذان والإقامة فيأبونه. وقال سعيد بن جبير: كانوا يسمعون حي على الفلاح فلا يجيبون. وقال كعب الأحبار: والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعات. وقيل: أي بالتكليف الموجه عليهم في الشرع؛ والمعنى متقارب. وقد مضى في سورة « البقرة » الكلام في وجوب صلاة الجماعة. وكان الربيع بن خيثم قد فلج وكان يهادى بين الرجلين إلى المسجد؛ فقيل: يا أبا يزيد، لو صليت في بيتك لكانت لك رخصة. فقال: من سمع حي على الفلاح فليجب ولو حبوا. وقيل لسعيد بن المسيب: إن طارقا يريد قتلك فتغيب. فقال: أبحيث لا يقدر الله علي؟ فقيل له: اجلس في بيتك. فقال: أسمع حي على الفلاح، فلا أجيب!

 

الآيات: 44 - 45 ( فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون، وأملي لهم إن كيدي متين )

 

قوله تعالى: « فذرني » أي دعني. « ومن يكذب » « من » مفعول معه أو معطوف على ضمير المتكلم. « بهذا الحديث » يعني القرآن؛ قاله السدي. وقيل: يوم القيامة. وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي فأنا أجازيهم وأنتقم منهم. « سنستدرجهم من حيث لا يعلمون » معناه سنأخذهم على غفلة وهم لا يعرفون؛ فعذبوا يوم بدر. وقال سفيان الثوري: نسبغ عليهم النعم وننسيهم الشكر. وقال الحسن: كم مستدرج بالإحسان إليه، وكم مفتون بالثناء عليه، وكم مغرور بالستر عليه. وقال أبو روق: أي كلما أحدثوا خطيئة جددنا لهم نعمة وأنسيناهم الاستغفار. وقال ابن عباس: سنمكر بهم. وقيل: هو أن نأخذهم قليلا ولا نباغتهم. وفي حديث ( أن رجلا من بني إسرائيل قال يا رب كم أعصيك وأنت لا تعاقبني - قال - فأوحى الله إلى نبي زمانهم أن قل له كم من عقوبة لي عليك وأنت لا تشعر. إن جمود عينيك وقساوة قلبك استدراج مني وعقوبة لو عقلت ) . والاستدراج: ترك المعاجلة. وأصله النقل من حال إلى حال كالتدرج. ومنه قيل درجة؛ وهي منزلة بعد منزلة. واستدرج فلان فلانا؛ أي استخرج ما عنده قليلا. ويقال: درجه إلى كذا واستدرجه بمعنى؛ أي أدناه منه على التدريج فتدرج هو.

 

قوله تعالى: « وأملي لهم » أي أمهلهم وأطيل لهم المدة. والملاوة: المدة من الدهر. وأملى الله له أي أطال له. والملوان: الليل والنهار. وقيل: « وأملي لهم » أي لا أعاجلهم بالموت؛ والمعنى واحد. وقد مضى في « الأعراف » بيان هذا. « إن كيدي متين » أي إن عذابي لقوي شديد فلا يفوتني أحد.

 

الآية: 46 ( أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون )

 

عاد الكلام إلى ما تقدم من قوله تعالى: « أم لهم شركاء » [ القلم: 41 ] . أي أم تلتمس منهم ثوابا على ما تدعوهم إليه من الإيمان بالله؟ فهم من غرامة ذلك مثقلون لما يشق عليهم من بذل المال؛ أي ليس عليهم كلفة، بل يستولون بمتابعتك على خزائن الأرض ويصلون إلى جنات النعيم.

 

الآية: 47 ( أم عندهم الغيب فهم يكتبون )

 

قوله تعالى: « أم عندهم الغيب » أي علم ما غاب عنهم. « فهم يكتبون » وقيل: أينزل عليهم الوحي بهذا الذي يقولون. وعن ابن عباس: الغيب هنا اللوح المحفوظ فهم يكتبون مما فيه يخاصمونك به، ويكتبون أنهم أفضل منكم، وأنهم لا يعاقبون. وقيل: « يكتبون » يحكمون لأنفسهم بما يريدون.

 

الآية: 48 ( فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم )

 

قوله تعالى: « فاصبر لحكم ربك » أي لقضاء ربك. والحكم هنا القضاء. وقيل: فأصبر على ما حكم به عليك ربك من تبليغ الرسالة. وقال ابن بحر: فأصبر لنصر ربك. قال قتادة: أي لا تعجل ولا تغاضب فلا بد من نصرك. وقيل: إنه منسوخ بآية السيف. « ولا تكن كصاحب الحوت » يعني يونس عليه السلام. أي لا تكن مثله في الغضب والضجر والعجلة. وقال قتادة: إن الله تعالى يعزي نبيه صلي الله عليه وسلم ويأمره بالصبر ولا يعجل كما عجل صاحب الحوت؛ وقد مضى خبره في سورة « يونس، والأنبياء، والصافات » والفرق بين إضافة ذي وصاحب في سورة « يونس » فلا معنى للإعادة. « إذ نادى » أي حين دعا في بطن الحوت فقال: « لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين » [ الأنبياء: 87 ] . « وهو مكظوم » أي مملوء غما. وقيل: كربا. الأول قول ابن عباس ومجاهد. والثاني قول عطاء وأبي مالك. قال الماوردي: والفرق بينهما أن الغم في القلب، والكرب في الأنفاس. وقيل: مكظوم محبوس. والكظم الحبس؛ ومنه قولهم: فلان كظم غيظه، أي حبس غضبه؛ قال ابن بحر. وقيل: إنه المأخوذ بكظمه وهو مجرى النفس؛ قاله المبرد. وقد مضى هذا وغيره في « يوسف » .

 

الآيات: 49 - 50 ( لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم، فاجتباه ربه فجعله من الصالحين )

 

قوله تعالى: « لولا أن تداركه نعمة من ربه » قراءة العامة « تداركه » . وقرأ ابن هرمز والحسن « تداركه » بتشديد الدال؛ وهو مضارع أدغمت التاء منه في الدال. وهو على تقدير حكاية الحال؛ كأنه قال: لولا أن كان يقال فيه تتداركه نعمة. ابن عباس وابن مسعود: « تداركته » وهو خلاف المرسوم. و « تداركه » فعل ماض مذكر حمل على معنى النعمة؛ لأن تأنيث النعمة غير حقيقي. و « تداركته » على لفظها. واختلف في معنى النعمة هنا؛ فقيل النبوة؛ قال الضحاك. وقيل عبادته إلتي سلفت؛ قاله ابن جبير. وقيل: نداؤه « لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين » [ الأنبياء: 87 ] ؛ قاله ابن زيد. وقيل: نعمة الله عليه إخراجه من بطن الحوت؛ قال ابن بحر. وقيل: أي رحمة من ربه؛ فرحمه وتاب عليه. « لنبذ بالعراء وهو مذموم » أي لنبذ مذموما ولكنه نبذ سقيما غير مذموم. ومعنى « مذموم » في قول ابن عباس: مليم. قال بكر بن عبدالله: مذنب. وقيل: « مذموم » مبعد من كل، خير. والعراء: الأرض الواسعة الفضاء التي ليس فيها جبل ولا شجر يستر. وقيل: ولولا فضل الله عليه لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة، ثم نبذ بعراء القيامة مذموما. يدل عليه قوله تعالى: « فلولا أنه كان من المسبحين. للبث في بطنه إلى يوم يبعثون » [ الصافات: 143 ] . « فاجتباه ربه » أي اصطفاه واختاره. « فجعله من الصالحين » قال ابن عباس: رد الله إليه الوحي، وشفعه في نفسه وفي قومه، وقبل توبته، وجعله من الصالحين بأن أرسله إلى مائة ألف أو يزيدون.

 

الآية: 51 ( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون )

 

قوله تعالى: « وإن يكاد الذين كفروا » « » إن « هي المخففة من الثقيلة. » ليزلقونك « أي يعتانونك. » بأبصارهم « أخبر بشدة عداوتهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأرادوا أن يصيبوه بالعين فنظر إليه قوم من قريش وقالوا: ما رأينا مثله ولا مثل حججه. وقيل: كانت العين في بني أسد، حتى إن البقرة السمينة أو الناقة السمينة تمر بأحدهم فيعاينها ثم يقول: يا جارية، خذي المكتل والدرهم فأتينا بلحم هذه الناقة، فما تبرح حتى تقع للموت فتنحر. وقال الكلبي: كان رجل من العرب يمكث لا يأكل شيئا يومين أو ثلاثة، ثم يرفع جانب الخباء فتمر به الإبل أو الغنم فيقول: لم أر كاليوم إبلا ولا غنما أحسن من هذه فما تذهب إلا قليلا حتى تسقط منها طائفة هالكة. فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعين فأجابهم؛ فلما مر النبي صلى الله عليه ويلم أنشد: »

قد كان قومك يحسبونك سيدا وإخال أنك سيد معيون

فعصم الله نبيه صلي الله عليه وسلم ونزلت: « وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك » . وذكر نحوه الماوردي. وأن العرب كانت إذا أراد أحدهم أن يصيب أحدا - يعني في نفسه وماله - تجوع ثلاثة أيام، ثم يتعرض لنفسه وماله فيقول: تالله ما رأيت أقوى منه ولا أشجع ولا أكثر منه ولا أحسن؛ فيصيبه بعينه فيهلك هو ومال؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال القشيري: وفي هذا نظر؛ لأن الإصابة بالعين إنما تكون مع الاستحسان والإعجاب لا مع الكراهية والبغض؛ ولهذا قال: « ويقولون إنه لمجنون » أي ينسبونك إلى الجنون إذا رأوك تقرأ القرآن.

قلت: أقوال المفسرين واللغويين تدل على ما ذكرنا، وأن مرادهم بالنظر إليه قتله. ولا يمنع كراهة الشيء من أن يصاب بالعين عداوة حتى يهلك. وقرأ ابن عباس وابن مسعود والأعمش وأبو وائل ومجاهد « ليزلقونك » أي ليهلكونك. وهذه قراءة على التفسير، من زهقت نفسه وأزهقها. وقرأ أهل المدينة « ليزلقونك » بفتح الياء. وضمها الباقون؛ وهما لغتان بمعنى؛ يقال: زلقه يزلقه وأزلقه يزلقه إزلاقا إذا نحاه وأبعده. وزلق رأسه يزلقه زلقا إذا حلقه. وكذلك أزلقه وزلقه تزليقا. ورجل زلق وزملق - مثال هدبد - وزمالق وزملق - بتشديد الميم - وهو الذي ينزل قبل أن يجامع؛ حكاه الجوهري وغيره. فمعنى الكلمة إذا التنحية والإزالة؛ وذلك لا يكون في حق النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهلاكه وموته. قال الهروي: أراد ليعتانونك بعيونهم فيزيلونك عن مقامك الذي أقامك الله فيه عداوة لك. وقال ابن عباس: ينفذونك بأبصارهم؛ يقال: زلق السهم وزهق إذا نفذ؛ وهو قول مجاهد. أي ينفذونك من شدة نظرهم. وقال الكلبي: يصرعونك. وعنه أيضا والسدي وسعيد بن جبير: يصرفونك عما أنت عليه من تبليغ الرسالة. وقال العوفي: يرمونك. وقال المؤرج: يزيلونك. وقال النضر بن شميل والأخفش: يفتنونك. وقال عبدالعزيز بن يحيى: ينظرون إليك نظرا شزرا بتحديق شديد. وقال ابن زيد: ليمسونك. وقال جعفر الصادق: ليأكلونك. وقال الحسن وابن كيسان: ليقتلونك. وهذا كما يقال: صرعني بطرفه، وقتلني بعينه. قال الشاعر:

ترميك مزلقة العيون بطرفها وتكل عنك نصال نبل الرامي

وقال آخر:

يتفارضون إذا التقوا في مجلس نظرا يزل مواطئ الأقدام

وقيل: المعنى أنهم ينظرون إليك بالعداوة حتى كادوا يسقطونك. وهذا كله راجع إلى ما ذكرنا، وأن المعنى الجامع: يصيبونك بالعين. والله أعلم.

 

الآية: 52 ( وما هو إلا ذكر للعالمين )

 

أي وما القرآن إلا ذكر للعالمين. وقيل: أي وما محمد إلا ذكر للعالمين يتذكرون به. وقيل: معناه شرف؛ أي القرآن. كما قال تعالى: « وإنه لذكر لك ولقومك » [ الزخرف: 44 ] والنبي صلى الله عليه وسلم شرف للعالمين أيضا. شرفوا باتباعه والإيمان به صلى الله عليه وسلم.

 

سورة الحاقة

مقدمة السورة

 

روى أبو الزاهرية عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من قرأ إحدى عشرة آية من سورة الحاقة أجير من فتنة الدجال. ومن قرأها كانت له نورا يوم القيامة من فوق رأسه إلى قدمه ) .

 

الآيات: 1 - 3 ( الحاقة، ما الحاقة، وما أدراك ما الحاقة )

 

قوله تعالى: « الحاقة. ما الحاقة » يريد القيامة؛ سميت بذلك لأن الأمور تُحَقّ فيها؛ قاله الطبري. كأنه جعلها من باب « ليل نائم » . وقيل: سميت حاقة لأنها تكون من غير شك. وقيل: سميت بذلك لأنها أحقت لأقوام الجنة، وأحقت لأقوام النار. وقيل: سميت بذلك لأن فيها يصير كل إنسان حقيقا بجزاء عمله. وقال الأزهري: يقال حاققته فحققته أحقه؛ أي غالبته فغلبته. فالقيامة حاقة لأنها تحق كل محاق في دين الله بالباطل؛ أي كل مخاصم. وفي الصحاح: وحاقه أي خاصمه وادعى كل واحد منهما الحق؛ فإذا غلبه قيل حقه. ويقال للرجل إذا خاصم في صغار الأشياء: إنه لنزق الحقاق. ويقال: مال فيه حق ولا حقاق؛ أي خصومة. والتحاق التخاصم. والاحتقاق: الاختصام. والحاقة والحقة والحق ثلاث لغات بمعنى. وقال الكسائي والمورج: الحاقة يوم الحق. وتقول العرب: لما عرف الحقة مني هرب. والحاقة الأولى رفع بالابتداء، والخبر المبتدأ الثاني وخبره وهو « ما الحاقة » لأن معناها ما هي. واللفظ استفهام، معناه التعظيم والتفخيم لشأنها؛ كما تقول: زيد ما زيد على التعظيم لشأنه. « وما أدراك ما الحاقة » استفهام أيضا؛ أي أي شيء أعلمك ما ذلك اليوم. والنبي صلى الله عليه وسلم كان عالما بالقيامة ولكن بالصفة فقيل تفخيما لشأنها: وما أدراك ما هي؛ كأنك لست تعلمها إذ لم تعاينها. وقال يحيى بن سلام: بلغني أن كل شيء في القرآن « وما أدراك » فقد أدراه إياه وعلمه. وكل شيء قال: « وما يدريك » فهو مما لم يعلمه. وقال سفيان بن عيينة: كل شيء قال فيه: « وما أدراك » فأنه أخبر به، وكل شيء قال فيه: « وما يدريك » فإنه لم يخبر به.

 

الآية: 4 ( كذبت ثمود وعاد بالقارعة )

 

ذكر من كذب بالقيامة. والقارعة القيامة؛ سميت بذلك لأنها تقرع الناس بأهوالها. يقال: أصابتهم قوارع الدهر؛ أي أهواله وشدائده. ونعوذ بالله من قوارع فلان ولواذعه وقوارص لسانه؛ جمع قارصة وهي الكلمة المؤذية. وقوارع القرآن: الآيات التي يقرؤها الإنسان إذا فزع من الجن أو الإنس، نحو آية الكرسي؛ كأنها تقرع الشيطان. وقيل: القارعة مأخوذة من القرعة في رفع قوم وحط آخرين؛ قاله المبرد. وقيل: عنى بالقارعة العذاب الذي نزل بهم في الدنيا؛ وكان نبيهم يخوفهم بذلك فيكذبونه. وثمود قوم صالح؛ وكانت منازلهم بالحجر فيما بين الشام والحجاز. قال محمد بن إسحاق: وهو وادي القرى؛ وكانوا عربا. وأما عاد فقوم هود؛ وكانت منازلهم بالأحقاف. والأحقاف: الرمل بين عمان إلى حضر موت واليمن كله؛ وكانوا عربا ذوي خلق وبسطة؛ ذكره محمد بن إسحاق. وقد تقدم.

 

الآية: 5 ( فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية )

 

فيه إضمار؛ أي بالفعلة الطاغية. وقال قتادة: أي بالصيحة الطاغية؛ أي المجاوزة للحد؛ أي لحد الصيحات من الهول. كما قال: « إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر » [ القمر: 31 ] . والطغيان: مجاوزة الحد؛ ومنه: « إنا لما طغى الماء » [ الحاقة: 11 ] أي جاوز الحد. وقال الكلبي: بالطاغية بالصاعقة. وقال مجاهد: بالذنوب. وقال الحسن: بالطغيان؛ فهي مصدر كالكاذبة والعاقبة والعافية. أي أهلكوا بطغيانهم وكفرهم. وقيل: إن الطاغية عاقر الناقة؛ قاله ابن زيد. أي أهلكوا بما أقدم عليه طاغيتهم من عقر الناقة، وكان واحدا، وإنما هلك الجميع لأنهم رضوا بفعله ومالؤوه. وقيل له طاغية كما يقال: فلان راوية الشعر، وداهية وعلامة ونسابة.

 

الآيات: 6 - 7 ( وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية، سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية )

 

قوله تعالى: « وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر » أي باردة تحرق ببردها كإحراق النار؛ مأخوذ من الصر وهو البرد؛ قال الضحاك. وقيل: إنها الشديدة الصوت. وقال مجاهد: الشديدة السموم. « عاتية » أي عتت على خزانها فلم تطعهم، ولم يطيقوها من شدة هبوبا؛ غضبت لغضب الله. وقيل: عتت على عاد فقهرتهم. روى سفيان الثوري عن موسى بن المسيب عن شهر بن حوشب عن بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما أرسل الله من نسمة من ريح إلا بمكيال ولا قطرة من ماء إلا بمكيال إلا يوم عاد ويوم نوح فإن الماء يوم نوح طغى على الخزان فلم يكن لهم عليه. سبيل - ثم قرأ - « إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية » والريح لما كان يوم عاد عتت على الخزان فلم يكن لهم عليها سبيل - ثم قرأ - « بريح صرصر عاتية » ) . « سخرها عليهم » أي أرسلها وسلطها عليهم. والتسخير: استعمال الشيء بالاقتدار. « سبع ليال وثمانية أيام حسوما » أي متتابعة لا تفر ولا تنقطع؛ عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما. قال الفراء: الحسوم التباع، من حسم الداء إذا كوي صاحبه، لأنه يكوى بالمكواة ثم يتابع ذلك عليه. قال عبدالعزيز بن زرارة الكلابي:

ففرق بين بينهم زمان تتابع فيه أعوام حسوم

وقال المبرد: هو من قولك حسمت الشيء إذا قطعته وفصلته عن غيره. وقيل: الحسم الاستئصال. ويقال للسيف حسام؛ لأنه يحسم العدو عما يريده من بلوغ عداوته. وقال الشاعر:

حسام إذا قمت معتضدا به كفى العود منه البدء ليس بمعضد

والمعنى أنها حسمتهم، أي قطعتهم وأذهبتهم. فهي القاطعة بعذاب الاستئصال. قال ابن زيد: حسمتهم فلم تبق منهم أحدا. وعنه أنها حسمت الليالي والأيام حتى استوعبتها. لأنها بدأت طلوع الشمس من أول يوم وانقطعت غروب الشمس من آخر يوم. وقال الليث: الحسوم الشؤم. ويقال: هذه ليالي الحسوم، أي تحسم الخير عن أهلها، وقال في الصحاح. وقال عكرمة والربيع بن أنس: مشائيم، دليله قوله تعالى: « في أيام نحسات » [ فصلت: 16 ] . عطية العوفي: « حسوما » أي حسمت الخير عن أهلها. واختلف في أولها، فقيل: غداة يوم الأحد، قاله السدي. وقيل: غداة يوم الجمعة، قال الربيع بن أنس. وقيل: غداة يوم الأربعاء، قاله يحيى بن سلام ووهب بن منبه. قال وهب: وهذه الأيام هي التي تسميها العرب أيام العجوز، ذات برد وريح شديدة، وكان أولها يوم الأربعاء وأخرها يوم الأربعاء؛ ونسبت إلى العجوز لأن عجوزا من عاد دخلت سربا فتبعتها الريح فقتلتها في اليوم الثامن. وقيل: سميت أيام العجوز لأنها وقعت في عجز الشتاء. وهي في آذار من أشهر السريانيين. ولها أسام مشهورة، وفيها يقول الشاعر وهو ابن أحمر:

كُسِع الشتاء بسبعة غبرِ أيام شهلتنا من الشهر

فإذا انقضت أيامها ومضت صِنٌّ وصَنَّبْـر مع الوبر

وبآمر وأخيه مؤتمر ومعَلِّل وبمطفئ الجمر

ذهب الشتاء موليا عجلا وأتتك واقدة من النجْر

و « حسوما » نصب على الحال. وقيل على المصدر. قال الزجاج: أي تحسمهم حسوما أي تفنيهم، وهو مصدر مؤكد. ويجوز أن يكون مفعولا له؛ أي سخرها عليهم هذه المدة للاستئصال؛ أي لقطعهم واستئصالهم. ويجوز أن يكون جمع حاسم. وقرأ السدي « حسوما » بالفتح، حالا من الريح؛ أي سخرها عليهم مستأصلة.

 

قوله تعالى: « فترى القوم فيها » أي في تلك الليالي والأيام. « صرعى » جمع صريع؛ يعني موتى. وقيل: « فيها » أي في الريح. « كأنهم أعجاز » أي أصول. « نخل خاوية » أي بالية؛ قاله أبو الطفيل. وقيل: خالية الأجواف لا شيء فيها. والنخل يذكر ويؤنث. وقد قال تعالى في موضع آخر: « كأنهم أعجاز نخل منقعر » [ القمر: 20 ] فيحتمل أنهم شبهوا بالنخل التي صرعت من أصلها، وهو إخبار عن عظم أجسامهم. ويحتمل أن يكون المراد به الأصول دون الجذوع؛ أي إن الريح قد قطعتهم حتى صاروا كأصول النخل خاوية أي الريح كانت تدخل أجوافهم فتصرعهم كالنخلة الخاوية الجوف. وقال ابن شجرة: كانت الريح تدخل في أفواههم فتخرج ما في أجوافهم من الحشو من أدبارهم، فصاروا كالنخل الخاوية. وقال يحيى بن سلام؛ إنما قال « خاوية » لأن أبدانهم خوت من أرواحهم مثل النخل الخاوية. ويحتمل أن يكون المعنى كأنهم أعجاز نخل خاوية عن أصولها من البقاع؛ كما قال تعالى: « فتلك بيوتهم خاوية » [ النمل: 52 ] أي خربة لا سكان فيها. ويحتمل الخاوية بمعنى البالية كما ذكرنا؛ لأنها إذا بليت خلت أجوافها. فشبهوا بعد أن هلكوا بالنخل الخاوية.

 

الآية: 8 ( فهل ترى لهم من باقية )

 

أي من فرقة باقية أو نفس باقية. وقيل: من بقية. وقيل: من بقاء. فاعلة بمعنى المصدر؛ نحو العاقبة والعافية. ويجوز أن يكون أسما؛ أي هل تجد لهم أحدا باقيا. وقال ابن جريج: كانوا سبع ليال وثمانية أيام أحياء في عذاب الله من الريح، فلما أمسوا في اليوم الثامن ماتوا، فاحتملتهم الريح فألقتهم في البحر ذلك قوله عز وجل: « فهل ترى لهم من باقية » ، وقوله عز وجل: « فأصبحوا » لا يرى إلا مساكنهم « [ الأحقاف: 25 ] .»

 

الآية: 9 ( وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة )

 

قوله تعالى: « وجاء فرعون ومن قبله » قرأ أبو عمرو والكسائي « ومن قبله » بكسر القاف وفتح الباء؛ أي ومن معه وتبعه من جنوده. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم اعتبارا بقراءة عبدالله وأبي « ومن معه » . وقرأ أبو موسى الأشعري « ومن تلقاءه » . الباقون « قبله » بفتح القاف وسكون الباء؛ أي ومن تقدمه من القرون الخالية والأمم الماضية. « والمؤتفكات » أي أهل قرى لوط. وقراءة العامة بالألف. وقرأ الحسن والجحدري « والمؤتفكة » على التوحيد. قال قتادة: إنما سميت قرى قوم لوط « مؤتفكات » لأنها ائتفكت بهم، أي انقلبت. وذكر الطبري عن محمد بن كعب القرظي قال: خمس قريات: صبعة وصعرة وعمرة ودوما وسدوم؛ وهي القرية العظمى. « بالخاطئة » أي بالفعلة الخاطئة وهي المعصية والكفر. وقال مجاهد: بالخطايا التي كانوا يفعلونها. وقال الجرجاني: أي بالخطأ العظيم؛ فالخاطئة مصدر.

 

الآية: 10 ( فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية )

 

قوله تعالى: « فعصوا رسول ربهم » قال الكلبي: هو موسى. وقيل: هو لوط لأنه أقرب. وقيل: عنى موسى ولوطا عليهما السلام؛ كما قال تعالى: « فقولا إنا رسول رب العالمين » [ الشعراء: 16 ] . وقيل: « رسول » بمعنى رسالة. وقد يعبر عن الرسالة بالرسول؛ قال الشاعر:

لقد كذب الواشون ما بحت عندهم بسر ولا أرسلتهم برسول

« فأخذهم أخذة رابية » أي عالية زائدة على الأخذات وعلى عذاب الأمم. ومنه الربا إذا أخذ في الذهب والفضة أكثر مما أعطى. يقال: ربا الشيء يربو أي زاد وتضاعف. وقال مجاهد: شديدة. كأنه أراد زائدة في الشدة.

 

الآيات: 11 - 12 ( إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية، لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية )

 

قوله تعالى: « إنا لما طغى الماء » أي ارتفع وعلا. وقال علي رضي الله عنه: طغى على خزانه من الملائكة غضبا لربه فلم يقدروا على حبسه. قال قتادة: زاد على كل شيء خمسة عشر ذراعا. وقال ابن عباس: طغى الماء زمن نوح على خزانه فكثر عليهم فلم يدروا كم خرج. وليس من الماء قطرة تنزل قبله ولا بعده إلا بكيل معلوم غير ذلك اليوم. وقد مضى هذا مرفوعا أول السورة. والمقصود من قصص هذه الأمم وذكر ما حل بهم من العذاب: زجر هذه الأمة عن الاقتداء بهم في معصية الرسول. ثم من عليهم بأن جعلهم ذرية من نجا من الغرق بقوله: « حملناكم » أي حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم. « في الجارية » أي في السفن الجارية. والمحمول في الجارية نوح وأولاده، وكل من على وجه الأرض من نسل أولئك.

 

قوله تعالى: « لنجعلها لكم تذكرة » يعني سفينة نوح عليه الصلاة والسلام. جعلها الله تذكرة وعظة لهذه الأمة حتى أدركها أوائلهم؛ في قول قتادة. قال ابن جريج: كانت ألواحها على الجودي. والمعنى: أبقيت لكم تلك الخشبات حتى تذكروا ما حل بقوم نوح، وإنجاء الله آباءكم؛ وكم من سفينة هلكت وصارت ترابا ولم يبق منها شيء. وقيل: لنجعل تلك الفعلة من إغراق قوم نوح وإنجاء من آمن معه موعظة لكم؛ ولهذا قال الله تعالى: « وتعيها أذن واعية » أي تحفظها وتسمعها أذن حافظة لما جاء من عند الله. والسفينة لا توصف بهذا. قال الزجاج: ويقال وعيت كذا أي حفظته في نفسي، أعيه وعيا. ووعيت العلم، ووعيت ما قلت؛ كله بمعنى. وأوعيت المتاع في الوعاء. قال الزجاج: يقال لكل ما حفظته في غير نفسك: « أوعيته » بالألف، ولما حفظته في نفسك « وعيته » بغير ألف. وقرأ طلحة وحميد والأعرج « وتعيها » بإسكان العين؛ تشبيها بقول: « أرنا » [ البقرة: 128 ] . واختلف فيها عن عاصم وابن كثير. الباقون بكسر العين؛ ونظير قوله تعالى: « وتعيها أذن واعية » ، « إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب » [ ق: 37 ] . وقال قتادة: الأذن الواعية أذن عقلت عن الله تعالى، وانتفعت بما سمعت من كتاب الله عز وجل. وروى مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند نزول هذه الآية: ( سألت ربي أن يجعلها أذن علي ) . قال مكحول: فكان علي رضي الله عنه يقول ما سمعت من رسول صلي الله عليه وسلم شيئا قط فنسيته إلا وحفظته. ذكره الماوردي. وعن الحسن نحوه ذكره الثعلبي قال: لما نزلت « وتعيها أذن واعية » قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( سألت ربي أن يجعلها أذنك يا علي ) قال علي: فوالله ما نسيت شيئا بعد، وما كان لي أن أنسى. وقال أبو برزة الأسلمي قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: ( يا علي إن الله أمرني أن أدنيك ولا أقصيك وأن أعلمك وأن تعي وحقٌّ على الله أن تَعِيَ ) .

 

الآية: 13 ( فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة )

 

قال ابن عباس: هي النفخة الأولى لقيام الساعة، فلم يبق أحد إلا مات. وجاز تذكير « نفخ » لأن تأنيث النفخة غير حقيقي. وقيل: إن هذه النفخة هي الأخيرة. وقال: « نفخة واحدة » أي لا تثنى. قال الأخفش: ووقع الفعل على النفخة إذ لم يكن قبلها اسم مرفوع فقيل: نفخة. ويجوز « نفخة » نصبا على المصدر. وبها قرأ أبو السمال. أو يقال: اقتصر على الإخبار عن الفعل كما تقول: ضرب ضربا. وقال الزجاج: « في الصور » يقوم مقام ما لم يسم فاعله.

 

الآية: 14 ( وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة )

 

قوله تعالى: « وحملت الأرض والجبال » قراءة العامة بتخفيف الميم؛ أي رفعت من أماكنها. « فدكتا » أي فتتا وكسرتا. « دكة واحدة » لا يجوز في « دكة » إلا النصب لارتفاع الضمير في « دكتا » . وقال الفراء: لم يقل فدككن لأنه جعل الجبال كلها كالجملة الواحدة، والأرض كالجملة الواحدة. ومثله: « أن السموات والأرض كانتا رتقا » [ الأنبياء: 30 ] ولم يقل كن. وهذا الدك كالزلزلة؛ كما قال تعالى: « إذا زلزلت الأرض زلزالها » [ الزلزلة: 1 ] . وقيل: « دكتا » أي بسطتا بسطة واحدة؛ ومنه أندك سنام البعير إذا انفرش في ظهره. وقد مضى في سورة « الأعراف » القول فيه. وقرأ عبدالحميد عن ابن عامر « وحملت الأرض والجبال » بالتشديد على إسناد الفعل إلى المفعول الثاني. كانه في الأصل وحملت قدرتنا أو ملكا من ملائكتنا الأرض والجبال؛ ثم أسند الفعل إلى المفعول الثاني فبني له. ولو جيء بالمفعول الأول لأسند الفعل إليه؛ فكأنه قال: وحملت قدرتنا الأرض. وقد يجوز بناؤه للثاني على وجه القلب فيقال: حُمِّلَت الأرضُ الملَك؛ كقولك: أُلبِس زيدٌ الجبة، وأُلبِست الجبةُ زيداً.

 

الآيات: 15 - 17 ( فيومئذ وقعت الواقعة، وانشقت السماء فهي يومئذ واهية، والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية )

 

قوله تعالى: « فيومئذ وقعت الواقعة » أي قامت القيامة. « وانشقت السماء » أي أنصدعت وتفطرت. وقيل: تنشق لنزول ما فيها من الملائكة؛ دليله قوله تعالى: « ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا » [ الفرقان: 25 ] وقد تقدم. « فهي يومئذ واهية » أي ضعيفة. يقال: وهي البناء يهي وهيا فهو واه إذا ضعف جدا. ويقال: كلام واه؛ أي ضعيف. فقيل: إنها تصير بعد صلابتها بمنزلة الصوف في الوهي ويكون ذلك لنزول الملائكة كما ذكرنا. وقيل: لهول يوم القيامة. وقيل: « واهية » أي متخرقة؛ قال ابن شجرة. مأخوذ من قولهم: وهى السقاء إذا تخرق. ومن أمثالهم:

خل سبيل من وهى سقاؤه ومن أهريق بالفلاة ماؤه

أي من كان ضعيف العقل لا يحفظ نفسه. « والملك » يعني الملائكة؛ اسم للجنس. « على أرجائها » أي على أطرافها حين تنشق؛ لأن السماء مكانهم؛ عن ابن عباس. الماوردي: ولعله قول مجاهد وقتادة. وحكاه الثعلبي عن الضحاك، قال: على أطرافها مما لم ينشق منها. يريد أن السماء مكان الملائكة فإذا انشقت صاروا في أطرافها. وقال سعيد بن جبير: المعنى والملك على حافات الدنيا؛ أي ينزلون إلى الأرض ويحرسون أطرافها. وقيل: إذا صارت السماء قطعا تقف الملائكة على تلك القطع التي ليست متشققة في أنفسها. وقيل: إن الناس إذا رأوا جهنم هالتهم؛ فيندوا كما تند الإبل، فلا يأتون قطرا من أقطار الأرض إلا رأوا ملائكة فيرجعون من حيث جاؤوا. وقيل: « على أرجائها » ينتظرون ما يؤمرون به في أهل النار من السوق إليها، وفي أهل الجنة من التحية والكرامة. وهذا كله راجع إلى معنى قول ابن جبير. ويدل عليه: « ونزل الملائكة تنزيلا » [ الفرقان: 25 ] وقوله تعالى: « يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض » [ الرحمن: 33 ] على ما بيناه هناك. والأرجاء النواحي والأقطار بلغة هذيل، واحدها رجا مقصور، وتثنيته رجوان؛ مثل عصا وعصوان. قال الشاعر:

فلا يرمى بي الرجوان أني أقل القوم من يغني مكاني

ويقال ذلك لحرف البئر والقبر.

 

قوله تعالى: « ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية » قال ابن عباس: ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله. وقال ابن زيد: هم ثمانية أملاك. وعن الحسن: الله أعلم كم هم، ثمانية أم ثمانية آلاف. وعن النبي صلى الله عليه وسلم ( أن حملة العرش اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله تعالى بأربعة آخرين فكانوا ثمانية ) . ذكره الثعلبي. وخرجه الماوردي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يحمله اليوم أربعة وهم يوم القيامة ثمانية ) . وقال العباس بن عبدالملك: هم ثمانية أملاك على صورة الأوعال. ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحديث ( إن لكل ملك منهم أربعة أوجه وجه رجل ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر وكل وجه منها يسأل الله الرزق لذلك الجنس ) . ولما أنشد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم قول أمية بن أبي الصلت:

رجل وثور تحت رجل يمينه والنسر للأخرى وليث مرصد

والشمس تطلع كل آخر ليلة حمراء يصبح لونها يتورد

ليست بطالعة لهم في رسلها إلا معذبة وإلا تجلد

قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( صدق ) . وفي الخبر ( أن فوق السماء السابعة ثمانية أو عال بين أظلافهن وركبهن مثل ما بين سماء إلى سماء وفوق ظهورهن العرش ) . ذكره القشيري وخرجه الترمذي من حديث العباس ابن عبدالمطلب. وقد مضى في سورة « البقرة » بكماله. وذكر نحوه الثعلبي ولفظه. وفي حديث مرفوع ( أن حملة العرش ثمانية أملاك على صورة الأوعال ما بين أظلافها إلى ركبها مسيرة سبعين عاما للطائر المسرع ) . وفي تفسير الكلبي: ثمانية أجزاء من تسعة أجزاء من الملائكة. وعنه: ثمانية أجزاء من عشرة أجزاء من الملائكة. ثم ذكر عدة الملائكة بما يطول ذكره. حكى الأول عنه الثعلبي والثاني القشيري. وقال الماوردي عن ابن عباس: ثمانية أجزاء من تسعة وهم الكروبيون. والمعنى ينزل بالعرش. ثم إضافة العرش إلى الله تعالى كإضافة البيت، وليس البيت للسكنى، فكذلك العرش. ومعنى: « فوقهم » أي فوق رؤوسهم. قال السدي: العرش تحمله الملائكة الحملة فوقهم ولا يحمل حملة العرش إلا الله. وقيل: « فوقهم » أي إن حملة العرش فوق الملائكة الذين في السماء على أرجائها. وقيل: « فوقهم » أي فوق أهل القيامة.

 

الآية: 18 ( يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية )

 

قوله تعالى: « يومئذ تعرضون » أي، على الله؛ دليله: « وعرضوا على ربك صفا » وليس ذلك عرضا يعلم به ما لم يكن عالما به، بل معناه الحساب وتقرير الأعمال عليهم للمجازاة. وروى الحسن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان فجدال ومعاذير وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله ) . خرجه الترمذي قال: ولا يصح من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة. « لا تخفى منكم خافية » أي هو عالم بكل شي من أعمالكم. « فخافية » على هذا بمعنى خفية، كانوا يخفونها من أعمالهم؛ قاله ابن شجرة. وقيل: لا يخفى عليه إنسان؛ أي لا يبقى إنسان لا يحاسب. وقال عبدالله بن عمرو بن العاص: لا يخفى المؤمن من الكافر ولا البر من الفاجر. وقيل: لا تستتر منكم عورة؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يحشر الناس حفاة عراة ) . وقرأ الكوفيون إلا عاصما « لا يخفى » بالياء؛ لأن تأنيث الخافية غير حقيقي؛ نحو قوله تعالى: « وأخذ الذين ظلموا الصيحة » [ هود: 67 ] واختاره أبو عبيد؛ لأنه قد حال بين الفعل وبين الاسم المؤنث الجار والمجرور. الباقون بالتاء. واختاره أبو حاتم لتأنيث الخافية.

 

الآيات: 19 - 27 ( فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه، إني ظننت أني ملاق حسابيه، فهو في عيشة راضية، في جنة عالية، قطوفها دانية، كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية، وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه، ولم أدر ما حسابيه، يا ليتها كانت القاضية )

 

قوله تعالى: « فأما من أوتي كتابه بيمينه » إعطاء الكتاب باليمين دليل على النجاة. وقال ابن عباس: أول من يعطى كتابه بيمينه من هذه الأمة عمر بن الخطاب، وله شعاع كشعاع الشمس. قيل له: فأين أبو بكر؟ فقال هيهات هيهات! زفته الملائكة إلى الجنة. ذكره الثعلبي. وقد ذكرناه مرفوعا من حديث زيد بن ثابت بلفظه ومعناه في كتاب « التذكرة » . والحمد لله. « فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه » أي يقول ذلك ثقة بالإسلام وسرورا بنجاته؛ لأن اليمين عند العرب من دلائل الفرح، والشمال من دلائل الغم. قال الشاعر:

أبيني أفي يمنى يديك جعلتني فأفرح أم صيرتني في شمالك

ومعنى: « هاؤم » تعالوا؛ قاله ابن زيد. وقال مقاتل: هلم. وقيل: أي خذوا؛ ومنه الخبر في الربا ( إلا هاء وهاء ) أي يقول كل واحد لصاحبه: خذ. قال ابن السكيت والكسائي: العرب تقول هاء يا رجل اقرأ، وللاثنين هاؤما يا رجلان، وهاؤم يا رجال، وللمرة هاء ( بكسر الهمزة ) وهاؤما وهاؤمن. والأصل هاكم فأبدلت الهمزة من الكاف؛ قال القتيبي. وقيل: إن « هاؤم » كلمة وضعت لإجابة الداعي عند النشاط والفرح. روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ناداه أعرابي بصوت عال فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم « هاؤم » يطول صوته. « وكتابيه » منصوب بـ « هاؤم » عند الكوفيين. وعند البصريين بـ « اقرؤوا » لأنه أقرب العاملين. والأصل « كتابي » فأدخلت الهاء لتبين فتحة الياء، وكان الهاء للوقف، وكذلك في أخواته: « حسابيه » ، وماليه، وسلطانيه « وفي القارعة » ماهيه « . وقراءة العامة بالهاء فيهن في الوقف والوصل معا؛ لأنهن وقعن في المصحف بالهاء فلا تترك. واختار أبو عبيد أن يتعمد الوقف عليها ليوافق اللغة في إلحاق الهاء في السكت ويوافق الخط. وقرأ ابن محيصن ومجاهد وحميد ويعقوب بحذف الهاء في الوصل وإثباتها في الوقف فيهن جمع. ووافقهم حمزة في » ماليه وسلطانيه « ، و » ماهيه « في القارعة. وجملة هذه الحروف سبعة. واختار أبو حاتم قراءة يعقوب ومن معه إتباعا للغة. ومن قرأهن في الوصل بالهاء فهو على نية الوقف.»

 

قوله تعالى: « إني ظننت » أي أيقنت وعلمت، عن ابن عباس وغيره. وقيل: أي إني ظننت أن يؤاخذني الله بسيئاتي عذبني فقد تفضل علي بعفوه ولم يؤاخذني بها. قال الضحاك: كل ظن في القرآن من المؤمن فهو يقين. ومن الكافر فهو شك. وقال مجاهد: ظن الآخرة يقين، وظن الدنيا شك. وقال الحسن في هذ الآية: إن المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل وإن المنافق أساء الظن بربه فأساء العمل. « أني ملاق حسابي » أي في الآخرة ولم أنكر البعث؛ يعني أنه ما نجا إلا بخوفه من يوم الحساب، لأنه تيقن أن الله يحاسبه فعمل للآخرة. « فهو في عيشة راضية » أي في عيش يرضاه لا مكروه فيه. وقال أبو عبيدة والفراء: « راضية » أي مرضية؛ كقولك: ماء دافق؛ أي مدفوق. وقيل: ذات رضا؛ أي يرضى بها صاحبها. مثل لابن وتامر؛ أي صاحب اللبن والتمر. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنهم يعيشون فلا يموتون أبدا ويصحون فلا يمرضون أبدا وينعمون فلا يرون بؤسا أبدا ويشبون فلا يهرمون أبدا ) . « في جنة عالية » أي عظيمة في النفوس. « قطوفها دانية » أي قريبة التناول، يتناولها القائم والقاعد والمضطجع على ما يأتي بيانه في سورة « الإنسان » . والقطوف جمع قطف ( بكسر القاف ) وهو ما يقطف من الثمار. والقطف ( بالفتح ) المصدر. والقطاف ( بالفتح والكسر ) وقت القطف. « كلوا واشربوا » أي يقال لهم ذلك. « هنيئا » لا تكدير فيه ولا تنغيص. « بما أسلفتم » قدمتم من الأعمال الصالحة. « في الأيام الخالية » أي في الدنيا. وقال: « كلوا » بعد قوله: « فهو في عيشة راضية » لقوله: « فأما من أوتي » و « من » يتضمن معنى الجمع.

وذكر الضحاك أن هذه الآية نزلت في أبي سلمة عبدالله بن عبد الأسد المخزومي؛ وقاله مقاتل. والآية التي تليها في أخيه الأسود بن عبد الأسد؛ في قول ابن عباس والضحاك أيضا؛ قال الثعلبي. ويكون هذا الرجل وأخوه سبب نزول هذه الآيات. ويعم المعنى جميع أهل الشقاوة وأهل السعادة؛ يدل عليه قوله تعالى: « كلوا وأشربوا » . وقد قيل: إن المراد بذلك كل من كان متبوعا في الخير والشر. فإذا كان الرجل رأسا في الخير، يدعو إليه ويأمر به ويكثر تبعه عليه، دعي باسمه واسم أبيه فيتقدم حتى إذا دنا أخرج له كتاب أبيض بخط أبيض، في باطنه السيئات وفي ظاهره الحسنات فيبدأ بالسيئات فيقرأها فيشفق ويصفر وجهه ويتغير لونه فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه « هذه سيئاتك وقد غفرت لك » فيفرح عند ذلك فرحا شديدا، ثم يقلب كتابه فيقرأ حسناته فلا يزداد إلا فرحا؛ حتى إذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه « هذه حسناتك قد ضوعفت لك » فيبيض وجهه ويؤتى بتاج فيوضع على رأسه، ويكسى حلتين، ويحلى كل مفصل منه ويطول ستين ذراعا وهي قامة آدم عليه السلام؛ ويقال له: انطلق إلى أصحابك فأخبرهم وبشرهم أن لكل إنسان منهم مثل هذا. فإذا أدبر قال: هاؤم اقرؤوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه. قال الله تعالى: « فهو في عيشة راضية » أي مرضية قد رضيها « في جنة عالية » في السماء « قطوفها » ثمارها وعناقيدها. « دانية » أدنيت منهم. فيقول لأصحابه: هل تعرفوني؟ فيقولون: قد غمرتك كرامة، من أنت؟ فيقول: أنا فلان بن فلان أبشر كل رجل منكم بمثل هذا. « كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية » أي قدمتم في أيام الدنيا. وإذا كان الرجل رأسا في الشر، يدعو إليه ويأمر به فيكثر تبعه عليه، نودي باسمه واسم أبيه فيتقدم إلى حسابه، فيخرج له كتاب أسود بخط أسود في باطنه الحسنات وفي ظاهره السيئات، فيبدأ بالحسنات فيقرأها ويظن أنه سينجو، فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه « هذه حسناتك وقد ردت عليك » فيسود وجهه ويعلوه الحزن ويقنط من الخير، ثم يقلب كتابه فيقرأ سيئاته فلا يزداد إلا حزنا، ولا يزداد وجهه إلا سوادا، فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه « هذه سيئاتك وقد ضوعفت عليك » أي يضاعف عليه العذاب. ليس المعنى أنه يزاد عليه ما لم يعمل - قال - فيعظم للنار وتزرق عيناه ويسود وجهه، ويكسى سرابيل القطران ويقال له: انطلق إلى أصحابك وأخبرهم أن لكل إنسان منهم مثل هذا؛ ينطلق وهو يقول: « يا ليتني لم أوت كتابيه. ولم أدر ما حسابيه. يا ليتها كانت القاضية » يتمنى الموت.

 

الآيات: 28 - 34 ( ما أغنى عني ماليه، هلك عني سلطانيه، خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلوه، ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه، إنه كان لا يؤمن بالله العظيم، ولا يحض على طعام المسكين )

 

قوله تعالى: « هلك عني سلطانيه » تفسير ابن عباس: هلكت عنه حجتي. وهو قول مجاهد وعكرمة والسدي والضحاك. وقال ابن زيد: يعني سلطانيه في الدنيا الذي هو الملك. وكان هذا الرجل مطاعا في أصحابه؛ قال الله تعالى « خذوه فغلوه » قيل: يبتدره مائة ألف ملك ثم تجمع يده إلى عنقه وهو قوله عز وجل: « فغلوه » أي شدوه بالأغلال « ثم الجحيم صلوه » أي اجعلوه يصلى الجحيم « ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا » الله أعلم بأي ذراع، قاله الحسن. وقال ابن عباس: سبعون ذراعا بذراع الملك. وقال نوف: كل ذراع سبعون باعا، وكل باع أبعد ما بينك وبين مكة. وكان في رحبة الكوفة. وقال مقاتل: لو أن حلقة منها وضعت على ذروة جبل لذاب كما يذوب الرصاص. وقال كعب: إن حلقة من السلسلة التي قال الله تعالى ذرعها سبعون ذراعا - أن حلقة منها - مثل جميع حديد الدنيا. « فاسلكوه » قال سفيان: بلغنا أنها تدخل في دبره حتى تخرج من فيه. وقاله مقاتل. والمعنى ثم أسلكوا فيه سلسلة. وقيل: تدخل عنقه فيها ثم يجربها. وجاء في الخبر: أنها تدخل من دبره وتخرج من منخريه. وفي خبر آخر: تدخل من فيه وتخرج من دبره، فينادي أصحابه هل تعرفوني؟ فيقولون لا، ولكن قد نرى ما بك من الخزي فمن أنت؟ فينادي أصحابه أنا فلان بن فلان، لكل إنسان منكم مثل هذا.

قلت: وهذا التفسير أصح ما قيل في هذه الآية، يدل عليه قوله تعالى: « يوم ندعو كل أناس بإمامهم » [ الإسراء: 71 ] . وفي الباب حديث أبي هريرة بمعناه خرجه الترمذي. وقد ذكرناه في سورة « الإسراء » فتأمله هناك. « إنه كان لا يؤمن بالله العظيم، ولا يحض على طعام المسكين » أي على الإطعام، كما يوضع العطاء موضع الإعطاء. قال الشاعر:

أكفرا بعد رد الموت عني وبعد عطائك المائة الرتاعا

أراد بعد إعطائك. فبين أنه عذب على ترك الإطعام وعلى الأم بالبخل، كما عذب بسبب الكفر. والحض: التحريض والحث. وأصل « طعام » أن يكون منصوبا بالمصدر المقدر. والطعام عبارة عن العين، وأضيف للمسكين للملابسة التي بينهما. ومن أعمل الطعام كما يعمل الإطعام فموضع المسكين نصب. والتقدير على إطعام المطعم المسكين؛ فحذف الفاعل وأضيف المصدر إلى المفعول.

 

الآيات: 35 - 37 ( فليس له اليوم هاهنا حميم، ولا طعام إلا من غسلين، لا يأكله إلا الخاطئون )

 

قوله تعالى: « فليس له اليوم هاهنا حميم » خبر « ليس » قوله: « له » ولا يكون الخبر قوله: « ها هنا » لأن المعنى يصير: ليس ها هنا طعام إلا من غسلين، ولا يصح ذلك؛ لأن ثم طعاما غيره. و « ها هنا » متعلق بما في « له » من معنى الفعل. والحميم ها هنا القريب. أي ليس له قريب يرق له ويدفع عنه. وهو مأخوذ من الحميم وهو الماء الحار؛ كأنه الصديق الذي يرق ويحترق قلبه له. والغسلين فعلين من الغسل؛ فكأنه ينغسل من أبدانهم، وهو صديد أهل النار السائل من جروحهم وفروجهم؛ عن ابن عباس. وقال الضحاك والربيع بن أنس: هو شجر يأكله أهل النار. والغسل ( بالكسر ) : ما يغسل به الرأس من خطمي وغيره. الأخفش: ومنه الغسلين، وهو ما أنغسل من لحوم أهل النار ودمائهم. وزيد فيه الياء والنون كما زيد في عفرين. وقال قتادة: هو شر الطعام وأبشعه. ابن زيد: لا يعلم ما هو ولا الزقوم. وقال في موضع آخر: « ليس لهم طعام إلا من ضريع » [ الغاشية: 6 ] يجوز أن يكون الضريع من الغسلين. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير؛ والمعنى فليس له اليوم ها هنا حميم إلا من غسلين. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير؛ والمعنى فليس له اليوم ها هنا حميم إلا من غسلين؛ ويكون الماء الحار. « ولا طعام » أي وليس لهم طعام ينتفعون به. « لا يأكله إلا الخاطئون » أي المذنبون. وقال ابن عباس: يعني المشركين. وقرئ « الخاطيون » بإبدال الهمزة ياء، و « الخاطون » بطرحها. وعن ابن عباس: ما الخاطون كلنا نخطو. وروى أبو الأسود الدؤلي: ما الخاطون؟ إنما هو الخاطئون. ما الصابون إنما هو الصابئون. ويجوز أن يراد الذي يتخطون الحق إلى الباطل ويتعدون حدود الله عز وجل.

 

الآيات: 38 - 40 ( فلا أقسم بما تبصرون، وما لا تبصرون، إنه لقول رسول كريم )

 

قوله تعالى: « فلا أقسم بما تبصرون. وما لا تبصرون » المعنى أقسم بالأشياء كلها ما ترون منها وما لا ترون. و « لا » صلة. وقيل: هو رد لكلام سبق؛ أي ليس الأمر كما يقوله المشركون. وقال مقاتل: سبب ذلك أن الوليد بن المغيرة قال: إن محمدا ساحر. وقال أبو جهل: شاعر. وقال عقبة: كاهن؛ فقال الله عز وجل: « فلا أقسم » أي أقسم. وقيل: « لا » ها هنا نفي للقسم، أي لا يحتاج في هذا إلى قسم لوضوح الحق في ذلك، وعلى هذا فجوابه كجواب القسم. « إنه » يعني القرآن « لقول رسول كريم » يريد جبريل، قاله الحسن والكلبي ومقاتل. دليله: « إنه لقول رسول كريم. ذي قوة عند ذي العرش » [ التكوير:20 ] . وقال الكلبي أيضا والقتبي: الرسول ها هنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لقوله: « وما هو بقول شاعر » وليس القرآن قول الرسول صلي الله عليه وسلم، إنما هو من قول الله عز وجل ونسب القول إلى الرسول لأنه تاليه ومبلغه والعامل به، كقولنا: هذا قول مالك.

 

الآيات: 41 - 42 ( وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون، ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون )

 

قوله تعالى: « وما هو بقول شاعر » لأنه مباين لصنوف الشعر كلها. « ولا بقول كاهن » لأنه ورد بسب الشياطين وشتمهم فلا ينزلون شيئا على من يسبهم. و « ما » زائدة في قوله: « قليلا ما تؤمنون » ، « قليلا ما تتذكرون » ؛ والمعنى: قليلا تؤمنون وقليلا تذكرون. وذلك القليل من إيمانهم هو أنهم إذا سئلوا من خلقهم قالوا: الله. ولا يجوز أن تكون « ما » مع الفعل مصدرا وتنصب « قليلا » بما بعد « ما » ، لما فيه من تقديم الصلة على الموصول؛ لأن ما عمل فيه المصدر من صلة المصدر. وقرأ ابن محيصن وابن كثير وابن عامر ويعقوب « ما يؤمنون » ، و « يذكرون » بالياء. الباقون بالتاء لأن الخطاب قبله وبعده. أما قبله فقوله: « تبصرون » وأما بعده: « فما منكم » الآية.

 

الآية: 43 ( تنزيل من رب العالمين )

 

قوله تعالى: « تنزيل » أي هو تنزيل. « من رب العالمين » وهو عطف على قوله: « إنه لقول رسول كريم » [ الحاقة: 40 ] ، أي إنه لقوله رسول كريم، وهو تنزيل من رب العالمين.

 

الآيات: 44 - 46 ( ولو تقول علينا بعض الأقاويل، لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين )

 

قوله تعالى: « ولو تقول علينا بعض الأقاويل » « تقول » أي تكلف وأتى بقول من قبل نفسه. وقرئ « ولو تقول » على البناء للمفعول. « لأخذنا منه باليمين » أي بالقوة والقدرة، أي لأخذناه بالقوة. و « من » صلة زائدة. وعبر عن القوة والقدرة باليمين لأن قوة كل شيء في ميامنه، قاله القتبي. وهو معنى قول ابن عباس ومجاهد. ومنه قول الشماخ:

إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين

أي بالقوة. عرابة اسم رجل من الأنصار من الأوس. وقال آخر:

ولما رأيت الشمس أشرق نورها تناولت منها حاجتي بيميني

وقال السدي والحكم: « باليمين » بالحق. قال:

تلقاها عرابة باليمين

أي بالاستحقاق. وقال الحسن: لقطعنا يده اليمين. وقيل: المعنى لقبضنا بيمينه عن التصرف؛ قاله نفطويه. وقال أبو جعفر الطبري: إن هذا الكلام خرج مخرج الإذلال على عادة الناس في الأخذ بيد من يعاقب. كما يقول السلطان لمن يريد هوانه: خذوا يديه. أي لأمرنا بالأخذ بيده وبالغنا في عقابه. « ثم لقطعنا منه الوتين » يعني نياط القلب؛ أي لأهلكناه. وهو عرق يتعلق به القلب إذا انقطع مات صاحبه؛ قال ابن عباس وأكثر الناس. قال: إذا بلغتني وحملت رحلي عرابة فأشرقي بدم الوتين وقال مجاهد: هو حبل القلب الذي في الظهر وهو النخاع؛ فإذا انقطع بطلت القوى ومات صاحبه. والموتون الذي قطع وتينه. وقال محمد بن كعب: إنه القلب ومراقه وما يليه. قال الكلبي: إنه عرق بين العلباء والحلقوم. والعلباء: عصب العنق. وهما علباوان بينهما ينبت العرق. وقال عكرمة: إن الوتين إذا قطع لا إن جاع عرف، ولا إن شبع عرف.

 

الآيات: 47 - 48 ( فما منكم من أحد عنه حاجزين، وإنه لتذكرة للمتقين )

 

قوله تعالى: « فما منكم من أحد عنه حاجزين » « ما » نفي و « أحد » في معنى الجمع، فلذلك نعته بالجمع؛ أي فما منكم قوم يحجزون عنه كقوله تعالى: « لا نفرق بين أحد من رسله » [ البقرة: 285 ] هذا جمع، لأن « بين » لا تقع إلا على اثنين فما زاد. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لم تحل الغنائم لأحد سود الرؤوس قبلكم ) . لفظه واحد ومعناه الجمع. و « من » زائدة. والحجز: المنع. و « حاجزين » يجوز أن يكون صفة لأحد على المعنى كما ذكرنا؛ فيكون في موضع جر. والخبر « منكم » . ويجوز أن يكون منصوبا على أنه خبر و « منكم » ملغى، ويكون متعلقا « بحاجزين » . ولا يمنع الفصل به من انتصاب الخبر في هذا؛ كما لم يمتنع الفصل به في « إن فيك زيدا راغب » . « وإنه » يعني القرآن « لتذكرة للمتقين » أي للخائفين الذين يخشون الله. ونظيره: « فيه هدى للمتقين » [ البقرة: 2 ] على ما بيناه أول سورة البقرة. وقيل: المراد محمد صلى الله عليه وسلم، أي هو تذكرة ورحمة ونجاة.

 

الآيات: 49 - 52 ( وإنا لنعلم أن منكم مكذبين، وإنه لحسرة على الكافرين، وإنه لحق اليقين، فسبح باسم ربك العظيم )

 

قوله تعالى: « وإنا لنعلم أن منكم مكذبين » قال الربيع: بالقرآن. « وإنه لحسرة » يعني التكذيب. والحسرة: الندامة. وقيل: أي وإن القرآن لحسرة على الكافرين يوم القيامة إذا رأوا ثواب من آمن به. وقيل: هي حسرتهم في الدنيا حين لم يقدروا على معارضته عند تحديهم أن يأتوا بسورة مثله. « وإنه لحق اليقين » يعني أن القرآن العظيم تنزيل من الله عزو جل؛ فهو لحق اليقين. وقيل: أي حقا يقينا ليكونن ذلك حسرة عليهم يوم القيامة. فعلى هذا « وإنه لحسرة » أي لتحسر؛ فهو مصدر بمعنى التحسر، فيجوز تذكيره. وقال ابن عباس: إنما هو كقولك: لعين اليقين ومحض اليقين. ولو كان اليقين نعتا لم يجز أن يضاف إليه؛ كما لا تقول: هذا رجل الظريف. وقيل: أضافه إلى نفسه لاختلاف اللفظين. « فسبح باسم ربك العظيم » أي فصل لربك؛ قال ابن عباس. وقيل: أي نزه الله عن السوء والنقائص.

 

سورة المعارج

مقدمة السورة

 

وهي مكية باتفاق. وهي أربع وأربعون آية.

 

الآيات: 1 - 4 ( سأل سائل بعذاب واقع، للكافرين ليس له دافع، من الله ذي المعارج، تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة )

 

قوله تعالى: « سأل سائل بعذاب واقع » قرأ نافع وابن عامر « سال سايل » بغير همزة. الباقون بالهمز. فمن همز فهو من السؤال. والباء يجوز أن تكون زائدة، ويجوز أن تكون بمعنى عن. والسؤال بمعنى الدعاء؛ أي دعا داع بعذاب؛ عن ابن عباس وغيره. يقال: دعا على فلان بالويل، ودعا عليه بالعذاب. ويقال: دعوت زيدا؛ أي ألتمست إحضاره. أي التمس ملتمس عذابا للكافرين؛ وهو واقع بهم لا محالة يوم القيامة. وعلى هذا فالباء زائدة؛ كقوله تعالى: « تنبت بالدهن » [ المؤمنون: 20 ] ، وقوله. « وهزي إليك بجذع النخلة » [ مريم: 25 ] فهي تأكيد. أي سأل سائل عذابا واقعا. « للكافرين » أي على الكافرين. وهو النضر بن الحارث حيث قال: « اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم » [ الأنفال: 32 ] فنزل سؤاله، وقتل يوم بدر صبرا هو وعقبة بن أبي معيط؛ لم يقتل صبرا غيرهما؛ قاله ابن عباس ومجاهد. وقيل: إن السائل هنا هو الحارث بن النعمان الفهري. وذلك أنه لما بلغه قول النبي صلى الله عليه وسلم في علي رضي الله عنه: ( من كنت مولاه فعلي مولاه ) ركب ناقته فجاء حتى أناخ راحلته بالأبطح ثم قال: يا محمد، أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلناه منك، وأن نصلي خمسا فقبلناه منك، ونزكي أموالنا فقبلناه منك، وأن نصوم شهر رمضان في كل عام فقبلناه منك، وأن نحج فقبلناه منك، ثم لم ترض بهذا حتى فضلت ابن عمك علينا! أفهذا شيء منك أم من الله؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( والله الذي لا إله إلا هو ما هو إلا من الله ) فولى الحارث وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. فوالله ما وصل إلى ناقته حتى رماه الله بحجر فوقع على دماغه فخرج من دبره فقتله؛ فنزلت: « سأل سائل بعذاب واقع » الآية. وقيل: إن السائل هنا أبو جهل وهو القائل لذلك، قال الربيع. وقيل: إنه قول جماعة من كفار قريش. وقيل: هو نوح عليه السلام سأل العذاب على الكافرين. وقيل: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم أي دعا عليه السلام بالعقاب وطلب أن يوقعه الله بالكفار؛ وهو واقع بهم لا محالة. وأمتد الكلام إلى قوله تعالى: « فاصبر صبرا جميلا » [ المعارج: 5 ] أي لا تستعجل فإنه قريب. وإذا كانت الباء بمعنى عن - وهو قول قتادة - فكأن سائلا سأل عن العذاب بمن يقع أو متى يقع. قال الله تعالى: « فاسأل به خبيرا » [ الفرقان: 59 ] أي سل عنه. وقال علقمة:

فإن تسألوني بالنساء فإنني بصير بأدواء النساء طبيب

أي عن النساء. ويقال: خرجنا نسأل عن فلان وبفلان. فالمعنى سألوا بمن يقع العذاب ولمن يكون فقال الله: « للكافرين » . قال أبو علي وغيره: وإذا كان من السؤال فأصله أن يتعدى إلى مفعولين ويجوز الاقتصار على أحدهما. وإذا اقتصر على أحدهما جاز أن يتعدى إليه بحرف جر؛ فيكون التقدير سأل سائل النبي صلى الله عليه وسلم أو المسلمين بعذاب أو عن عذاب. ومن قرأ بغير همز فله وجهان: أحدهما: أنه لغة في السؤال وهي لغة قريش؛ تقول العرب: سال يسال؛ مثل نال ينال وخاف يخاف. والثاني: أن يكون من السيلان؛ ويؤيده قراءة ابن عباس « سال سيل » . قال عبدالرحمن بن زيد: سال واد من أودية جهنم يقال له: سائل؛ وقول زيد بن ثابت. قال الثعلبي: والأول أحسن؛ كقول الأعشى في تخفيف الهمزة:

سالتاني الطلاق إذ رأتاني قل مالي قد جئتماني بنكر

وفي الصحاح: قال الأخفش: يقال خرجنا نسأل عن فلان وبفلان. وقد تخفف همزته فيقال: سال يسال. وقال:

ومرهق سال إمتاعا بِأُصْدَته لم يستعن وحوامي الموت تغشاه

المرهق: الذي أدرك ليقتل. والأصدة بالضم: قميص صغير يلبس تحت الثوب. المهدوي: من قرأ « سال » جاز أن يكون خفف الهمزة بإبدالها ألفا، وهو البدل على غير قياس. وجاز أن تكون الألف منقلبة عن واو على لغة من قال: سلت أسال؛ كخفت أخاف. النحاس: حكى سيبويه سلت أسال؛ مثل خفت أخاف؛ بمعنى سألت. وأنشد:

سالت هذيلٌ رسول الله فاحشة ضلت هذيل بما سالت ولم تصب

ويقال: هما يتساولان. المهدوي: وجاز أن تكون مبدلة من ياء، من سال يسيل. ويكون سايل واديا في جهنم؛ فهمزة سايل على القول الأول أصلية، وعلى الثاني بدل من واو، وعلى الثالث بدل من ياء. القشيري: وسائل مهموز؛ لأنه إن كان من سأل بالهمز فهو مهموز، وإن كان من غير الهمز كان مهموزا أيضا؛ نحو قائل وخائف؛ لأن العين اعتل في الفعل واعتل في اسم الفاعل أيضا. ولم يكن الاعتلال بالحذف لخوف الالتباس، فكان بالقلب إلى الهمزة، ولك تخفيف الهمزة حتى تكون بين بين. « واقع » أي يقع بالكفار بين أنه من الله ذي المعارج. وقال الحسن: أنزل الله تعالى: « سأل سائل بعذاب واقع » فقال لمن هو؟ فقال للكافرين؛ فاللام في الكافرين متعلقة « بواقع » . وقال الفراء: التقدير بعذاب للكافرين واقع؛ فالواقع من نعت العذاب واللام دخلت للعذاب لا للواقع، أي هذا العذاب للكافرين في الآخرة لا يدفعه عنهم أحد. وقيل إن اللام بمعنى على، والمعنى: واقع على الكافرين. وروي أنها في قراءة أبي كذلك. وقيل: بمعنى عن؛ أي ليس له دافع عن الكافرين من الله. أي ذلك العذاب من الله ذي المعارج أي ذي العلو والدرجات الفواضل والنعم؛ قاله ابن عباس وقتادة فالمعارج مراتب إنعامه على الخلق وقيل ذي العظمة والعلاء وقال مجاهد: هي معارج السماء. وقيل: هي معارج الملائكة؛ لأن الملائكة تعرج إلى السماء فوصف نفسه بذلك. وقيل: المعارج الغرف؛ أي إنه ذو الغرف، أي جعل لأوليائه في الجنة غرفا. وقرأ عبدالله « ذي المعاريج » بالياء. يقال: معرج ومعراج ومعارج ومعاريج؛ مثل مفتاح ومفاتيح. والمعارج الدرجات؛ ومنه: « ومعارج عليها يظهرون » [ الزخرف: 33 ] .

 

قوله تعالى: « تعرج الملائكة والروح » أي تصعد في المعارج التي جعلها الله لهم. وقرأ ابن مسعود وأصحابه والسلمي والكسائي « يعرج » بالياء على إرادة الجمع؛ ولقوله: اذكروا الملائكة ولا تؤنثوهم. وقرأ الباقون بالتاء على إرادة الجماعة. « والروح » جبريل عليه السلام؛ قال ابن عباس. دليله قوله تعالى: « نزل به الروح الأمين » [ الشعراء: 193 ] . وقيل: هو ملك آخر عظيم الخلقة. وقال أبو صالح: إنه خلق من خلق الله كهيئة الناس وليس بالناس. قال قبيصة بن ذؤيب: إنه روح الميت حين يقبض. « إليه » أي إلى المكان الذي هو محلهم وهو في السماء؛ لأنها محل بره وكرامته. وقيل: هو كقول إبراهيم « إني ذاهب إلى ربي » [ الصافات: 99 ] . أي إلى الموضع الذي أمرني به. وقيل: « إليه » أي إلى عرشه. « في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة » قال وهب والكلبي ومحمد بن إسحاق: أي عروج الملائكة إلى المكان الذي هو محلهم في وقت كان مقداره على غيرهم لو صعد خمسين ألف سنة. وقال وهب أيضا: ما بين أسفل الأرض إلى العرش مسيرة خمسين ألف سنة. وهو قول مجاهد. وجمع بين هذة الآية وبين قوله: « في يوم كان مقداره ألف سنة » في سورة السجدة، فقال: « في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة » من منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى منتهى أمره من فوق السموات خمسون ألف سنة. وقوله تعالى في ( آلم تنزيل ) : « في يوم كان مقداره ألف سنة » [ السجدة: 5 ] يعني بذلك نزول الأمر من سماء الدنيا إلى الأرض، ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد فذلك مقدار ألف سنة لأن ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام. وعن مجاهد أيضا والحكم وعكرمة: هو مدة عمر الدنيا من أول ما خلقت إلى آخر ما بقي خمسون ألف سنة. لا يدري أحدكم مضى ولا كم بقي إلا الله عز وجل. وقيل: المراد يوم القيامة، أي مقدار الحكم فيه لو تولاه مخلوق خمسون ألف سنة، قاله عكرمة أيضا والكلبي ومحمد بن كعب. يقول سبحانه وتعالى وأنا أفرغ منه في ساعة. وقال الحسن: هو يوم القيامة، ولكن يوم القيامة لا نفاد له فالمراد ذكر موقفهم للحساب فهو في خمسين ألف سنة من سني الدنيا، ثم حينئذ يستقر أهل الدارين في الدارين. وقال يمان: هو يوم القيامة، فيه خمسون موطنا كل موطن ألف سنة. وقال ابن عباس: هو يوم القيامة، جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة، ثم يدخلون النار للاستقرار.

قلت: وهذا القول أحسن ما قيل في الآية إن شاء الله، بدليل ما رواه قاسم بن أصبغ من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة » . فقلت: ما أطول هذا! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده إنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة المكتوبة يصليها في الدنيا ) . واستدل النحاس على صحة هذا القول بما رواه سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما من رجل لم يؤد زكاة مال إلا جعل شجاعا من نار تكوى به جبهته وظهره وجنباه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي الله بين الناس ) . قال: فهذا يدل على أنه يوم القيامة. وقال إبراهيم التيمي: ما قدر ذلك اليوم على المؤمن إلا قدر ما بين الظهر والعصر. وروي هذا المعنى مرفوعا من حديث معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يحاسبكم الله تعالى بمقدار ما بين الصلاتين ولذلك سمى نفسه سريع الحساب وأسرع الحاسبين ) . ذكره الماوردي. وقبل: بل يكون الفراغ لنصف يوم، كقوله تعالى: « أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا » [ الفرقان: 24 ] . وهذا على قدر فهم الخلائق، وإلا فلا يشغله شأن عن شأن. وكما يرزقهم في ساعة كذا يحاسبهم في لحظة، قال الله تعالى: « ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة » [ لقمان: 28 ] . وعن ابن عباس أيضا أنه سماها هذه الآية وعن قوله تعالى: « في يوم كان مقداره ألف سنة » [ السجدة: 5 ] فقال: أيام سماها الله عز وجل هو أعلم بها كيف تكون، وأكره أن أقول فيها ما لا أعلم. وقيل: معنى ذكر خمسين ألف سنة تمثيل، وهو تعريف طول مدة القيامة في الموقف، وما يلقى الناس فيه من الشدائد. والعرب تصف أيام الشدة بالطول، وأيام الفرح بالقصر؛ قال الشاعر:

ويوم كظل الرمح قصر طوله دم الزق عنا واصطفاق المزاهر

وقيل: في الكلام تقديم وتأخير؛ والمعنى: سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له من الله دافع، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة تعرج الملائكة والروح إليه. وهذا القول هو معنى ما أخترناه، والموفق الإله.

 

الآيات: 5 - 7 ( فاصبر صبرا جميلا، إنهم يرونه بعيدا، ونراه قريبا )

 

قوله تعالى: « فاصبر صبرا جميلا » أي على أذى قومك. والصبر الجميل: هو الذي لا جزع فيه ولا شكوى لغير الله. وقيل: هو أن يكون صاحب المصيبة في القوم لا يدرى من هو. والمعنى متقارب. وقال ابن زيد: هي منسوخة بآية السيف. « إنهم يرونه بعيدا » يريد أهل مكة يرون العذاب بالنار بعيدا؛ أي غير كائن. « ونراه قريبا » لأن ما هو آت فهو قريب. وقال الأعمش: يرون البعث بعيدا لأنهم لا يؤمنون به كأنهم يستبعدونه على جهة الإحالة. كما تقول لمن تناظره: هذا بعيد لا يكون وقيل: أي يرون هذا اليوم بعيدا « ونراه » أي نعلمه؛ لأن الرؤية إنما تتعلق بالموجود. وهو كقولك: الشافعي يرى في هذه المسألة كذا وكذا.

 

الآيات: 8 - 10 ( يوم تكون السماء كالمهل، وتكون الجبال كالعهن، ولا يسأل حميم حميما )

 

قوله تعالى: « يوم تكون السماء كالمهل » العامل في « يوم » « واقع » ؛ تقديره يقع بهم العذاب يوم. وقيل: « نراه » أو « يبصرونهم » أو يكون بدلا من قريب. والمهل: دردي الزيت وعكره؛ في قول ابن عباس وغيره. وقال ابن مسعود: ما أذيب من الرصاص والنحاس والفضة. وقال مجاهد: « كالمهل » كقيح من دم وصديد. وقد مضى في سورة « الدخان » ، و « الكهف » القول فيه. « وتكون الجبال كالعهن » أي كالصوف المصبوغ. ولا يقال للصوف عهن إلا أن يكون مصبوغا. وقال الحسن: « وتكون الجبال كالعهن » وهو الصوف الأحمر، وهو أضعف الصوف. ومنه قول زهير:

كأن فتات العهن في كل منزل نزلن به حب الفنا لم يحطم

الفتات القطع. والعهن الصوف الأحمر؛ واحده عهنة. وقيل: العهن الصوف ذو الألوان؛ فشبه الجبال به في تلونها ألوانا. والمعنى: أنها تلين بعد الشدة، وتتفرق بعد الاجتماع. وقيل: أول ما تتغير الجبال تصير رملا مهيلا، ثم عهنا منفوشا، ثم هباء منبثا. « ولا يسأل حميم حميما » أي عن شأنه لشغل كل إنسان بنفسه، قال قتادة. كما قال تعالى: « لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه » [ عبس: 37 ] . وقيل: لا يسأل حميم عن حميم، فحذف الجار ووصل الفعل. وقراءة العامة « يسأل » بفتح الياء. وقرأ شيبة والبزي عن عاصم « ولا يسأل بالضم على ما لم يسم فاعله، أي لا يسأل حميم عن حميمه ولا ذو قرابة عن قرابته، بل كل إنسان يسأل عن عمله. نظيره: » كل نفس بما كسبت رهينة « [ المدثر: 38 ] .»

 

الآيات: 11 - 14 ( يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه، وصاحبته وأخيه، وفصيلته التي تؤويه، ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه )

 

قوله تعالى: « يبصرونهم » أي يرونهم. وليس في القيامة مخلوق إلا وهو نصب عين صاحبه من الجن والإنس. فيبصر الرجل أباه وأخاه وقرابته وعشيرته ولا يسأله ولا يكلمه؛ لاشتغالهم بأنفسهم. وقال ابن عباس: يتعارفون ساعة ثم لا يتعارفون بعد تلك الساعة. وفي بعض الأخبار: أن أهل القيامة يفرون من المعارف مخافة المظالم. وقال ابن عباس أيضا: « يبصرونهم » يبصر بعضهم بعضا فيتعارفون ثم يفر بعضهم من بعض. فالضمير في « يبصرونهم » على هذا للكفار، والميم للأقرباء. وقال مجاهد: المعنى يبصر الله المؤمنين الكفار في يوم القيامة؛ فالضمير في يبصرونهم « للمؤمنين، والهاء والميم للكفار. ابن زيد: المعنى يبصر الله الكفار في النار الذين أضلوهم في الدنيا؛ فالضمير في « يبصرونهم » للتابعين، والهاء والميم للمتبوعين. وقيل: إنه يبصر المظلوم ظالمه والمقتول قاتله. وقيل: « يبصرونهم » يرجع إلى الملائكة؛ أي يعرفون أحوال الناس فيسوقون كل فريق إلى ما يليق بهم. وتم الكلام عند قوله: « يبصرونهم » . ثم قال: » يود المجرم « أي يتمنى الكافر. » لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه « يعني من عذاب جهنم بأعز من كان عليه في الدنيا من أقاربه فلا يقدر. ثم ذكرهم فقال: » ببنيه، وصاحبته « زوجته » وأخيه، وفصيلته « أي عشيرته. » التي تؤويه « تنصره؛ قاله مجاهد وابن زيد. وقال مالك: أمه التي تربيه. حكاه الماوردي ورواه عنه أشهب. وقال أبو عبيدة: الفصيلة دون القبيلة. وقال ثعلب: هم آباؤه الأدنون. وقال المبرد: الفصيلة القطعة من أعضاء الجسد، وهي دون القبيلة. وسميت عترة الرجل فصيلته تشبيها بالبعض منه. وقد مضى في سورة » الحجرات « القول في القبيلة وغيرها.»

وهنا مسألة، وهي: إذا حبس على فصيلته أو أوصى لها فمن أدعى العموم حمله على العشيرة، ومن أدعى الخصوص حمله على الآباء؛ الأدنى فالأدنى. والأول أكثر في النطق. والله أعلم. ومعنى: « تؤويه » تضمه وتؤمنه من خوف إن كان به. « ومن في الأرض جميعا » أي ويود لو فدي بهم لافتدى « ثم ينجيه » أي يخلصه ذلك الفداء. فلا بد من هذا الإضمار، كقوله: « وإنه لفسق » [ الأنعام: 121 ] أي وإن أكله لفسق. وقيل: « يود المجرم » يقتضي جوابا بالفاء؛ كقوله: « ودوا لو تدهن فيدهنون » [ القلم: 9 ] . والجواب في هذه الآية « ثم ينجيه » لأنها من حروف العطف؛ أي يود المجرم لو يفتدى فينجيه الافتداء.

 

الآيات: 15 - 18 ( كلا إنها لظى، نزاعة للشوى، تدعوا من أدبر وتولى، وجمع فأوعى )

 

قوله تعالى: « كلا » تقدم القول في « كلا » وأنها تكون بمعنى حقا، وبمعنى لا. وهي هنا تحتمل الأمرين؛ فإذا كانت بمعنى حقا كان تمام الكلام « ينجيه » . وإذا كانت بمعنى لا كان تمام الكلام عليها؛ أي ليس ينجيه من عذاب الله الافتداء ثم قال: « إنها لظى » أي هي جهنم؛ أي تتلظى نيرانها؛ كقوله تعالى: « فأنذرتكم نارا تلظى » [ الليل: 14 ] واشتقاق لظى من التلظي. والتظاء النار التهابها، وتلظيها تلهبها. وقيل: كان أصلها « لظظ » أي ما دامت لدوام عذابها؛ فقلبت إحدى الظاءين ألفا فبقيت لظى. وقيل: هي الدركة الثانية من طبقات جهنم. وهي اسم مؤنث معرفة فلا ينصرف. « نزاعة للشوى » قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم في رواية أبي بكر عنه والأعمش وأبو عمرو وحمزة والكسائي « نزاعة » بالرفع. وروى أبو عمرو عن عاصم « نزاعة » بالنصب. فمن رفع فله خمسة أوجه: أحدها أن تجعل « لظى » خبر « إن » وترفع « نزاعة » بإضمار هي؛ فمن هذا الوجه يحسن الوقف على « لظى » . والوجه الثاني أن تكون « لظى » و « نزاعة » خبران لإن. كما تقول إنه خلق مخاصم. والوجه الثالث أن تكون « نزاعة » بدلا من « لظى » و « لظى » خبر « إن » . والوجه الرابع أن يكون « لظى » بدلا من اسم « إن » و « نزاعة » خبر « إن » . والمعنى: أن القصة والخبر لظى نزاعة للشوى ومن نصب « نزاعة » حسن له أن يقف على « لظى » وينصب « نزاعة » على القطع من « لظى » إذ كانت نكرة متصلة بمعرفة. ويجوز نصبها على الحال المؤكدة؛ كما قال: « وهو الحق مصدقا » [ البقرة: 91 ] . ويجوز أن تنصب على معنى أنها تتلظى نزاعة؛ أي في حال نزعها للشوى. والعامل فيها ما دل عليه الكلام من معنى التلظي. ويجوز أن يكون حالا؛ على أنه حال للمكذبين بخبرها. ويجوز نصبها عل القطع؛ كما تقول: مررت بزيد العاقل الفاضل. فهذه خمسة أوجه للنصب أيضا. والشوى. جمع شواة وهي جلدة الرأس. قال الأعشى:

قالت قُـتَيلة مالَه قد جللت شيبا شواته

وقال آخر:

لأصبحت هدتك الحوادث هدة لها فشواة الرأس باد قتيرها

القتير: الشيب. وفي الصحاح: « والشوى: جمع شواة وهي جلدة الرأس » . والشوى: اليدان والرجلان والرأس من الآدميين، وكل ما ليس مقتلا. يقال: رماه فأشواه إذا لم يصب المقتل. قال الهذلي:

فإن من القول التي لا شوى لها إذا زل عن ظهر اللسان انفلاتها

يقول: إن من القول كلمة لا تشوي ولكن تقتل. قال الأعشى:

قالت قتيلة ماله قد جللت شيبا شواته

قال أبو عبيد: أنشدها أبو الخطاب الأخفش أبا عمرو بن العلاء فقال له: « صحفت! إنما هو سراته؛ أي نواحيه فسكت أبو الخطاب ثم قال لنا: بل هو صحف، إنما هو شواته » . وشوى الفرس: قوائمه؛ لأنه يقال: عبل الشوى، ولا يكون هذا للرأس؛ لأنهم وصفوا الخيل بإسالة الخدين وعتق الوجه وهو رقته. والشوى: رذال المال. والشوى: هو الشيء الهين اليسير. وقال ثابت البناني والحسن: « نزاعة للشوى » أي لمكارم وجهه. أبو العالية: لمحاسن وجهه. قتادة: لمكارم خلقته وأطرافه. وقال الضحاك: تفري اللحم والجلد عن العظم حتى لا تترك منه شيئا. وقال الكسائي: هي المفاصل. وقال بعض الأئمة: هي القوائم والجلود. قال امرؤ القيس:

سليم الشظى عبل الشوى شنج النسا له حجبات مشرفات على الفال

وقال أبو صالح: أطراف اليدين والرجلين. قال الشاعر:

إذا نظرت عرفت الفخر منها وعينيها ولم تعرف شواها

يعني أطرافها. وقال الحسن أيضا: الشوى الهام. « تدعو من أدبر وتولى » أي تدعو لظى من أدبر في الدنيا عن طاعة الله وتولى عن الإيمان. ودعاؤها أن تقول: إلي يا مشرك، إلي يا كافر. وقال ابن عباس: تدعو الكافرين والمنافقين بأسمائهم بلسان فصيح: إلي يا كافر، إلي يا منافق؛ ثم تلتقطهم كما يلتقط الطير الحب. وقال ثعلب: « تدعو » أي تهلك. تقول العرب: دعاك الله؛ أي أهلكك الله. وقال الخليل: إنه ليس كالدعاء « تعالوا » ولكن دعوتها إياهم تمكنها من تعذيبهم. وقيل: الداعي خزنة جهنم؛ أضيف دعاؤهم إليها. وقيل هو ضرب مثل؛ أي إن مصير من أدبر وتولى إليها؛ فكأنها الداعية لهم. ومثله قول الشاعر:

ولقد هبطنا الواديين فواديا يدعو الأنيس به العضيض الأبكم

العضيض الأبكم: الذباب. وهو لا يدعو وإنما طنينه نبه عليه فدعا إليه.

قلت: القول الأول هو الحقيقة؛ حسب ما تقدم بيانه بآي القرآن والأخبار الصحيحة. القشيري: ودعاء لظى بخلق الحياة فيها حين تدعو، وخوارق العادة غدا كثيرة. « وجمع فأوعى » أي جمع المال فجعله في وعائه ومنع منه حق الله تعالى؛ فكان جموعا منوعا. قال الحكم: كان عبدالله بن عكيم لا يربط كيسه ويقول سمعت الله يقول: « وجمع فأوعى » .

 

الآيات: 19 - 21 ( إن الإنسان خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا )

 

قوله تعالى: « إن الإنسان خلق هلوعا » يعني الكافر؛ عن الضحاك. والهلع في اللغة: أشد الحرص وأسوأ الجزع وأفحشه. وكذلك قال قتادة ومجاهد وغيرهما. وقد هلع ( بالكسر ) يهلع فهو هليع وهلوع؛ على التكثير. والمعنى أنه لا يصبر على خير ولا شر حتى يفعل فيهما ما لا ينبغي. عكرمة: هو الضجور. الضحاك: هو الذي لا يشبع. والمنوع: هو الذي إذا أصاب المال منع منه حق الله تعالى. وقال ابن كيسان: خلق الله الإنسان يحب ما يسره ويرضيه، ويهرب مما يكرهه ويسخطه، ثم تعبده الله بإنفاق ما يحب والصبر على ما يكره. وقال أبو عبيدة: الهلوع هو الذي إذا مسه الخير لم يشكر، وإذا مسه الضر لم يصبر؛ قاله ثعلب. وقال ثعلب أيضا: قد فسر الله الهلوع، وهو الذي إذا ناله الشر أظهر شدة الجزع، وإذا ناله الخير بخل به ومنعه الناس. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( شر ما أعطي العبد شح هالع وجبن خالع ) . والعرب تقول: ناقة هلواعة وهلواع؛ إذا كانت سريعة السير خفيفة. قال:

صكّاء ذِعْلِبة إذا استدبرتها حرج إذا استقبلتها هِلواع

الذعلب والذعلبة الناقة السريعة. و « جزوعا » و « منوعا » نعتان لهلوع. على أن ينوي بهما التقديم قبل « إذا » . وقيل: هو خبر كان مضمرة.

 

الآيات: 22 - 28 ( إلا المصلين، الذين هم على صلاتهم دائمون، والذين في أموالهم حق معلوم، للسائل والمحروم، والذين يصدقون بيوم الدين، والذين هم من عذاب ربهم مشفقون، إن عذاب ربهم غير مأمون )

 

قوله تعالى: « إلا المصلين » دل على أن ما قبله في الكفار؛ فالإنسان اسم جنس بدليل الاستثناء الذي يعقبه كقوله تعالى: « إن الإنسان لفي خسر. إلا الذين آمنوا » [ العصر: 3 ] . النخعي: المراد بالمصلين الذي يؤدون الصلاة المكتوبة. ابن مسعود: الذين يصلونها لوقتها، فأما تركها فكفر. وقيل: هم الصحابة. وقيل: هم المؤمنون عامة، فإنهم يغلبون فرط الجزع بثقتهم بربهم ويقينهم. « الذين هم على صلاتهم دائمون » أي على مواقيتها. وقال عقبة بن عامر: هم الذين إذا صلوا لم يلتفتوا يمينا ولا شمالا. والدائم الساكن، ومنه: نهي عن البول في الماء الدائم، أي الساكن. وقال ابن جريج والحسن: هم الذين يكثرون فعل التطوع منها. « والذين في أموالهم حق معلوم » يريد الزكاة المفروضة، قاله قتادة وابن سيرين. وقال مجاهد: سوى الزكاة. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: صلة رحم وحمل كل. والأول أصح؛ لأنه وصف الحق بأنه معلوم، وسوى الزكاة ليس بمعلوم، إنما هو على قدر الحاجة، وذلك يقل ويكثر. « للسائل والمحروم » « تقدم في » الذاريات « . » والذين يصدقون بيوم الدين « أي بيوم الجزاء وهو يوم القيامة. وقد مضى في سورة » الفاتحة « القول فيه. » والذين هم من عذاب ربهم مشفقون « أي خائفون. » إن عذاب ربهم غير مأمون « قال ابن عباس: لمن أشرك أو كذب أنبياءه. وقيل: لا يأمنه أحد، بل الواجب على كل أحد أن يخافه ويشفق منه.»

 

الآيات: 29 - 35 ( والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون، والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون، والذين هم بشهاداتهم قائمون، والذين هم على صلاتهم يحافظون، أولئك في جنات مكرمون )

 

قوله تعالى: « والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون » « تقدم القول فيه. » والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون « » تقدم. « والذين هم بشهاداتهم قائمون » على من كانت عليه من قريب أو بعيد، يقومون بها عند الحاكم ولا يكتمونها ولا يغيرونها. وقد مضى القول في الشهادة وأحكامها في سورة « البقرة » . وقال ابن عباس: « بشهاداتهم » أن الله واحد لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله. وقرئ « لأمانتهم » على التوحيد. وهي قراءة ابن كثير وابن محيصن. فالأمانة اسم جنس، فيدخل فيها أمانات الدين، فإن الشرائع أمانات ائتمن الله عليها عباده. ويدخل فيها أمانات الناس من الودائع؛ وقد مضى هذا كله مستوفى في سورة « النساء » . وقرأ عباس الدوري عن أبي عمرو ويعقوب « بشهاداتهم » جمعا. الباقون « بشهادتهم » على التوحيد، لأنها تؤدي عن الجمع. والمصدر قد يفرد وإن أضيف إلى جمع، كقوله تعالى: « إن أنكر الأصوات لصوت الحمير » . [ لقمان: 19 ] وقال الفراء: ويدل على أنها « بشهادتهم » توحيدا قوله تعالى: « وأقيموا الشهادة لله » [ الطلاق: 2 ] .

 

قوله تعالى: « والذين هم على صلاتهم يحافظون » قال قتادة: على وضوئها وركوعها وسجودها. وقال ابن جريج: التطوع. وقد مضى في سورة « المؤمنون » . فالدوام خلاف المحافظة. فدوامهم عليها أن يحافظوا على أدائها لا يخلون بها ولا يشتغلون عنها بشيء من الشواغل، ومحافظتهم عليها أن يراعوا إسباغ الوضوء لها ومواقيتها، ويقيموا أركانها، ويكملوها بسننها وآدابها، ويجفظوها من الإحباط باقتراب المأثم. فالدوام يرجع إلى نفس الصلوات والمحافظة إلى أحوالها. « أولئك في جنات مكرمون » أي أكرمهم الله فيها بأنواع الكرامات.

 

الآيات: 36 - 39 ( فمال الذين كفروا قبلك مهطعين، عن اليمين وعن الشمال عزين، أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم، كلا إنا خلقناهم مما يعلمون )

 

قوله تعالى: « فمال الذين كفروا قبلك مهطعين » قال الأخفش: مسرعين. قال:

بمكة أهلها ولقد أراهم إليه مهطعين إلى السماع

والمعنى: ما بالهم يسرعون إليك ويجلسون حواليك ولا يعملون بما تأمرهم. وقيل: أي ما بالهم مسرعين في التكذيب لك. وقيل: أي ما بال الذين كفروا يسرعون إلى السماع منك ليعيبوك ويستهزؤوا بك. وقال عطية: مهطعين: معرضين. الكلبي: ناظرين إليك تعجبا. وقال قتادة: عامدين. والمعنى متقارب؛ أي ما بالهم مسرعين عليك، مادين أعناقهم، مدمني النظر إليك. وذلك من نظر العدو. وهو منصوب على الحال. نزلت في جمع من المنافقين المستهزئين، كانوا يحضرونه - عليه السلام - ولا يؤمنون به. و « قبلك » أي نحوك. « عن اليمين وعن الشمال عزين » أي عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وشماله حلقا حلقا وجماعات. والعزين: جماعات في تفرقة، قاله أبو عبيدة. ومنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج على أصحابه فرأهم حلقا فقال: ( مالي أراكم عزين ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها - قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصفوف الأول ويتراصون في الصف ) خرجه مسلم وغيره. وقال الشاعر:

ترانا عنده والليل داج على أبوابه حلقا عزينا

أي متفرقين. وقال الراعي:

أخليفة الرحمن إن عشيرتي أمسى سراتهم إليك عزينا

أي متفرقين. وقال آخر:

كأن الجماجم من وقعها خناطيل يهوين شتى عزينا

أي متفرقين. وقال آخر:

فلما أن أتين على أُضاخٍ ضرحن حصاه أشتاتا عزينا

وقال الكميت:

ونحن وجندل باغ تركنا كتائب جندل شتى عزينا

وقال عنترة:

وقرن قد تركت لذي ولي عليه الطير كالعصب العزين

وواحد عزين عزة، جمع بالواو والنون ليكون ذلك عوضا مما حذف منها. وأصلها عزهة، فاعتلت كما اعتلت سنة فيمن جعل أصلها سنهة. وقيل: أصلها عزوة، من عزاه يعزوه إذا أضافه إلى غيره. فكل واحد من الجماعات مضافة إلى الأخرى، والمحذوف منها الواو. وفي الصحاح: « والعزة الفرقة من الناس، والهاء عوض من الياء، والجمع عزى - على فعل - وعزون وعزون أيضا بالضم، ولم يقولوا عزات كما قالوا ثبات » . قال الأصمعي: يقال في الدار عزون، أي أصناف من الناس. و « عن اليمين وعن الشمال » متعلق « بمهطعين » ويجوز أن يتعلق « بعزين » على حد قولك: أخذته عن زيد. « أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم » قال المفسرون: كان المشركون يجتمعون حول النبي صلى الله عليه وسلم ويستمعون كلامه فيكذبونه ويكذبون عليه، ويستهزئون بأصحابه ويقولون: لئن دخل هؤلاء الجنة لندخلنها قبلهم، ولئن أعطوا منها شيئا لنعطين أكثر منه؛ فنزلت: « أيطعم » الآية. وقيل: كان المستهزئون خمسة أرهط. وقرأ الحسن طلحة بن مصرف والأعرج « أن يدخل » بفتح الياء وضم الخاء مسمى الفاعل. ورواه المفضل عن عاصم. الباقون « أن يدخل » على الفعل المجهول. « كلا » لا يدخلونها. « إنا خلقناهم مما يعلمون » ثم ابتدأ فقال: « إنا خلقناهم مما يعلمون » أي إنهم يعلمون أنهم مخلوقون من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة؛ كما خلق سائر جنسهم. فليس لهم فضل يستوجبون به الجنة، وإنما تستوجب بالإيمان والعمل الصالح ورحمة الله تعالى. وقيل: كانوا يستهزئون بفقراء المسلمين ويتكبرون عليهم. فقال: « إنا خلقناهم مما يعلمون » من القذر، فلا يليق بهم هذا التكبر. وقال قتادة في هذه الآية: إنما خلقت يا ابن آدم من قذر فاتق الله. وروي أن مطرف بن عبدالله بن الشخير رأى المهلب بن أبي صفرة يتبختر في مطرف خز وجبة خز فقال له: يا عبدالله، ما هذه المشية التي يبغضها الله؟ فقال له: أتعرفني؟ قال نعم، أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة. فمضى المهلب وترك مشيته. نظم الكلام محمود الوراق فقال:

عجبت من معجب بصورته وكان في الأصل نطفة مذره

وهو غدا بعد حسن صورته يصير في اللحد جيفة قذره

وهو على تيهه ونخوته ما بين ثوبيه يحمل العذره

وقال آخر:

هل في ابن آدم غير الرأس مكرمة وهو بخمس من الأوساخ مضروب

أنف يسيل وأذن ريحها سَهِك والعين مُرْمَصة والثغر ملهوب

يا ابن التراب ومأكول التراب غدا قصر فإنك مأكول ومشروب

وقيل: معناه من أجل ما يعلمون؛ وهو الأمر والنهي والثواب والعقاب. كقول الشاعر وهو الأعشى:

أأزمعت من آل ليلى ابتكارا وشطت على ذي هوى أن تزارا

أي من أجل ليلى.

 

الآيات: 40 - 41 ( فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون، على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين )

 

قوله تعالى: « فلا أقسم » أي أقسم. و « لا » صلة. « برب المشارق والمغارب » هي مشارق الشمس ومغاربها. وقد مضى الكلام فيها. وقرأ أبو حيوة وابن محيصن وحميد « برب المشرق والمغرب » على التوحيد. « إنا لقادرون. على أن نبدل خيرا منهم » يقول: نقدر على إهلاكهم والذهاب بهم والمجيء بخير منهم في الفضل والطوع والمال. « وما نحن بمسبوقين » أي لا يفوتنا شيء ولا يعجزنا أمر نريده.

 

الآية: 42 ( فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون )

 

أي اتركهم يخوضوا في باطلهم ويلعبوا في دنياهم؛ على جهة الوعيد. واشتغل أنت بما أمرت به ولا يعظمن عليك شركهم؛ فإن لهم يوما يلقون فيه ما وعدوا. وقرأ ابن محيصن ومجاهد وحميد « حتى يلقوا يومهم الذي يوعدون » . وهذه الآية منسوخة بآية السيف.

 

الآية: 43 ( يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون )

 

قوله تعالى: « يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب » « يوم » بدل من « يومهم » الذي قبله، وقراءة العامة « يخرجون » بفتح الياء وضم الراء على أنه مسمى الفاعل. وقرأ السلمي والمغيرة والأعشى عن عاصم « يخرجون » بضم الياء وفتح الراء على الفعل المجهول. والأجداث: القبور؛ وأحدها جدث. وقد مضى في سورة « يس » . « سراعا » حين يسمعون الصيحة الآخرة إلى إجابة الداعي؛ وهو نصب على الحال « كأنهم إلى نصب يوفضون » قراءة العامة بفتح النون وجزم الصاد. وقرأ ابن عامر وحفص بضم النون والصاد. وقرأ عمرو بن ميمون وأبو رجاء وغيرهما بضم النون وإسكان الصاد. والنصب والنصب لغتان مثل الضعف، والضعف. الجوهري: والنصب ما نصب فعبد من دون الله، وكذلك النصب بالضم؛ وقد يحرك. قال الأعشى:

وذا النصب المنصوب لا تنسكنه لعافية والله ربك فاعبدا

أراد « فأعبدن » فوقف بالألف؛ كما تقول: رأيت زيدا. والجمع الأنصاب. وقوله: « وذا النصب » بمعنى إياك وذا النصب. والنصب الشر والبلاء؛ ومنه قوله تعالى: « أني مسني الشيطان بنصب وعذاب » [ ص: 41 ] . وقال الأخفش والفراء: النصب جمع النصب مثل رهن ورهن، والأنصاب جمع نصب؛ فهو جمع الجمع. وقيل: النصب والأنصاب واحد. وقيل: النصب جمع نصاب، هو حجر أو صنم يذبح عليه؛ ومنه قوله تعالى: « وما ذبح على النصب » [ المائدة: 3 ] . وقد قيل: نصب ونصب ونصب معنى واحد؛ كما قيل عمر وعمر وعمر. ذكره النحاس. قال ابن عباس: « إلى نصب » إلى غاية، وهي التي تنصب إليها بصرك. وقال الكلبي: إلى شيء منصوب؛ علم أو راية. وقال الحسن: كانوا يبتدرون إذا طلعت الشمس إلى نصبهم التي كانوا يعبدونها من دون الله لا يلوي أولهم على آخرهم.

 

قوله تعالى: « يوفضون » يسرعون والإيفاض الإسراع. قال الشاعر:

فوارس ذبيان تحت الحديـ ـد كالجن يوفضن من عبقر

عبقر: موضع تزعم العرب أنه من أرض الجن. قال لبيد:

كهول وشبان كجنة عبقر

وقال الليث: وفضت الإبل تفض وفضا؛ وأوفضها صاحبها. فالإيفاض متعد، والذي في الآية لازم. يقال: وفض وأوفض واستوفض بمعنى أسرع.

 

الآية: 44 ( خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون )

 

قوله تعالى: « خاشعة أبصارهم » أي ذليلة خاضعة، لا يرفعونها لما يتوقعونه من عذاب الله. « ترهقهم ذلة » أي يغشاهم الهوان. قال قتادة: هو سواد الوجوه. والرهق: الغشيان؛ ومنه غلام مراهق إذا غشي الاحتلام. رهقه ( بالكسر ) يرهقه رهقا أي غشيه؛ ومنه قوله تعالى: « ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة » [ يونس: 26 ] . « ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون » أي يوعدونه في الدنيا أن لهم فيه العذاب. وأخرج الخبر بلفظ الماضي لأن ما وعد الله به يكون ولا محالة.

 

سورة نوح

مقدمة السورة

 

مكية، وهي ثمان وعشرون آية.

 

الآية: 1 ( إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم )

 

قوله تعالى: « إنا أرسلنا نوحا إلى قومه » قد مضى القول في « الأعراف » أن نوحا عليه السلام أول رسول أرسل. ورواه قتادة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أول رسول أرسل نوح وأرسل إلى جميع أهل الأرض ) . فلذلك لما كفروا أغرق الله أهل الأرض جميعا. وهو نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس بن يرد بن مهلايل بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم عليه السلام. قال وهب: كلهم مؤمنون. أرسل إلى قومه وهو ابن خمسين سنة. وقال ابن عباس: ابن أربعين سنة. وقال عبدالله بن شداد: بعث وهو ابن ثلاثمائة وخمسين سنة. وقد مضى في سورة « العنكبوت » القول فيه. والحمد لله. « أن أنذر قومك » أي بأن أنذر قومك؛ فموضع « أن » نصب بإسقاط الخافض. وقيل: موضعها جر لقوة خدمتها مع « أن » . ويجوز « أن » بمعنى المفسرة فلا يكون لها موضع من الإعراب؛ لأن في الإرسال معنى الأمر، فلا حاجة إلى إضمار الباء. وقراءة عبدالله « انذر قومك » بغير « أن » بمعنى قلنا له أنذر قومك. وقد تقدم معنى الإنذار في أول « البقرة » . « من قبل أن يأتيهم عذاب أليم » النار في الآخرة. وقال الكلبي: هو ما نزل عليهم من الطوفان. وقيل: أي أنذرهم العذاب الأليم على الجملة إن لم يؤمنوا. فكان يدعو قومه وينذرهم فلا يرى منهم مجيبا؛ وكانوا يضربونه حتى يغشى عليه فيقول ( رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) . وقد مضى هذا مستوفى في سورة « العنكبوت » والحمد لله.

 

الآيات: 2 - 4 ( قال يا قوم إني لكم نذير مبين، أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون، يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون )

 

قوله تعالى: « قال ياقوم إني لكم نذير » أي مخوف. « مبين » أي مظهر لكم بلسانكم الذي تعرفونه. « أن اعبدوا الله واتقوه » و « أن » المفسرة على ما تقدم في « أن أنذر » . « اعبدوا » أي وحدوا. واتقوا: خافوا. « وأطيعون » أي فيما آمركم به، فإني رسول الله إليكم. « يغفر لكم من ذنوبكم » جزم « يغفر » بجواب الأمر. و « من » صلة زائدة. ومعنى الكلام يغفر لكم ذنوبكم، قاله السدي. وقيل: لا يصح كونها زائدة؛ لأن « من » لا تزاد في الواجب، وإنما هي هنا للتبعيض، وهو بعض الذنوب، وهو ما لا يتعلق بحقوق المخلوقين. وقيل: هي لبيان الجنس. وفيه بعد، إذ لم يتقدم جنس يليق به. وقال زيد بن أسلم: المعنى يخرجكم من ذنوبكم. ابن شجرة: المعنى يغفر لكم من ذنوبكم ما استغفرتموه منها « ويؤخركم إلى أجل مسمى » قال ابن عباس: أي ينسئ في أعماركم. ومعناه أن الله تعالى كان قضى قبل خلقهم أنهم إن آمنوا بارك في أعمارهم، وإن لم يؤمنوا عوجلوا بالعذاب. وقال مقاتل: يؤخركم إلى منتهى آجالكم في عافية؛ فلا يعاقبكم بالقحط وغيره. فالمعنى على هذا يؤخركم من العقوبات ( الشدائد إلى آجالكم. وقال: الزجاج أي يؤخركم عن العذاب فتموتوا غير موتة المستأصلين بالعذاب. وعلى هذا قيل: « أجل مسمى » عندكم تعرفونه، لا يميتكم غرقا ولا حرقا ولا قتلا؛ ذكره الفراء. وعلى القول الأول « أجل مسمى » عند الله. « إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر » أي إذا جاء الموت لا يؤخر بعذاب كان أو بغير عذاب. وأضاف الأجل إليه سبحانه لأنه الذي أثبته. وقد يضاف إلى القوم، كقوله تعالى: « فإذا جاء أجلهم » [ النحل: 61 ] لأنه مضروب لهم. « لو » بمعنى « إن » أي إن كنتم تعلمون. وقال الحسن: معناه لو كنتم تعلمون لعلمتم أن أجل الله إذا جاءكم لم يؤخر.

 

الآيات: 5 - 6 ( قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا، فلم يزدهم دعائي إلا فرارا )

 

قوله تعالى: « قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا » أي سرا وجهرا. وقيل: أي واصلت الدعاء. « فلم يزدهم دعائي إلا فرارا » أي تباعدا من الإيمان. وقراءة العامة بفتح الياء من « دعائي » وأسكنها الكوفيون ويعقوب والدوري عن أبي عمرو.

 

الآية: 7 ( وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا )

 

قوله تعالى: « وإني كلما دعوتهم » أي إلى سبب المغفرة، وهي الإيمان بك والطاعة لك. « جعلوا أصابعهم في آذانهم » لئلا يسمعوا دعائي « واستغشوا ثيابهم » أي غطوا بها وجوههم لئلا يروه. وقال ابن عباس: جعلوا ثيابهم على رؤوسهم لئلا يسمعوا كلامه. فاستغشاء الثياب إذا زيادة في سد الآذان حتى لا يسمعوا، أو لتنكيرهم أنفسهم حتى يسكت أو ليعرفوه إعراضهم عنه. وقيل: هو كناية عن العداوة. يقال: لبس لي فلان ثياب العداوة. « وأصروا » أي على الكفر فلم يتوبوا. « واستكبروا » عن قبول الحق؛ لأنهم قالوا: « أنؤمن لك واتبعك الأرذلون » [ الشعراء: 111 ] . « استكبارا » تفخيم.

 

الآيات: 8 - 9 ( ثم إني دعوتهم جهارا، ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا )

 

قوله تعالى: « ثم إني دعوتهم جهارا » أي مظهرا لهم الدعوة. وهو منصوب « بدعوتهم » نصب المصدر؛ لأن الدعاء أحد نوعيه الجهار، فنصب به نصب القرفصاء بقعد؛ لكونها أحد أنواع القعود، أو لأنه أراد « بدعوتهم » جاهرتهم. ويجوز أن يكون صفة لمصدر دعا؛ أي دعاء جهارا؛ أي مجاهرا به. ويكون مصدرا في موضع الحال؛ أي دعوتهم مجاهرا لهم بالدعوة. « ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا » أي لم أبق مجهودا. وقال مجاهد: معنى أعلنت: صحت، « وأسررت لهم إسرارا » . بالدعاء عن بعضهم من بعض. وقيل: « أسررت لهم » أتيتهم في منازلهم. وكل هذا من نوح عليه السلام مبالغة في الدعاء لهم، وتلطف في الاستدعاء. وفتح الياء من « إني أعلنت لهم » الحرميون وأبو عمرو. وأسكن الباقون.

الآية [ 10 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات: 10 - 12 ( فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا، يرسل السماء عليكم مدرارا، ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا )

 

قوله تعالى: « فقلت استغفروا ربكم » أي سلوه المغفرة من ذنوبكم السالفة بإخلاص الإيمان. « إنه كان غفارا » وهذا منه ترغيب في التوبة. وقد روى حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الاستغفار ممحاة للذنوب ) . وقال الفضيل: يقول العبد أستغفر الله؛ وتفسيرها أقلني. « يرسل السماء عليكم مدرارا » أي يرسل ماء السماء؛ ففيه إضمار. وقيل: السماء المطر؛ أي يرسل المطر. قال الشاعر:

إذا سقط السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا

و « مدرارا » ذا غيث كثير. وجزم « يرسل » جوابا للأمر. وقال مقاتل: لما كذبوا نوحا زمانا طويلا حبس الله عنهم المطر، وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة؛ فهلكت مواشيهم وزروعهم، فصاروا إلى نوح عليه السلام واستغاثوا به. فقال « استغفروا ربكم إنه كان غفارا » أي لم يزل كذلك لمن أناب إليه. ثم قال ترغيبا في الإيمان: « يرسل السماء عليكم مدرارا. ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لهم جنات ويجعل لكم أنهارا » . قال قتادة: علم نبي الله صلي الله عليه وسلم أنهم أهل حرص على الدنيا فقال: ( هلموا إلى طاعة الله فإن في طاعة الله درك الدنيا والآخرة ) .

 

في هذه الآية والتي في « هود » دليل على أن الاستغفار يستنزل به الرزق والأمطار. قال الشعبي: خرج عمر يستسقي فلم يزد على الاستغفار حتى رجع، فأمطروا فقالوا: ما رأيناك استسقيت؟ فقال: لقد طلبت المطر بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر؛ ثم قرأ: « استغفروا ربكم إنه كان غفارا. يرسل السماء عليكم مدرارا » . وقال الأوزاعي: خرج الناس يستسقون، فقام فيهم بلال بن سعد فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: اللهم إنا سمعناك تقول: « ما على المحسنين من سبيل » التوبة: 91 ] وقد أقررنا بالإساءة، فهل تكون مغفرتك إلا لمثلنا؟! اللهم اغفر لنا وأرحمنا واسقنا! فرفع يديه ورفعوا أيديهم فسقوا. وقال ابن صبيح: شكا رجل إلى الحسن الجدوبة فقال له: استغفر الله. وشكا آخر إليه الفقر فقال له: استغفر الله. وقال له آخر. ادع الله أن يرزقني ولدا؛ فقال له: استغفر الله. وشكا إليه آخر جفاف بستانه؛ فقال له: استغفر الله. فقلنا له في ذلك؟ فقال: ما قلت من عندي شيئا؛ إن الله تعالى يقول في سورة « نوح » : « استغفروا ربكم إنه كان غفارا. يرسل السماء عليكم مدرارا. ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا » . وقد مضى في سورة « آل عمران » كيفية الاستغفار، وإن ذلك يكون عن إخلاص وإقلاع من الذنوب. وهو الأصل في الإجابة.

 

الآيات: 13 - 14 ( ما لكم لا ترجون لله وقارا، وقد خلقكم أطوارا )

 

قيل: الرجاء هنا بمعنى الخوف؛ أي مالكم لا تخافون لله عظمة وقدرة على أحدكم بالعقوبة. أي أي عذر لكم في ترك الخوف من الله. وقال سعيد بن جبير وأبو العالية وعطاء بن أبي رباح: ما لكم لا ترجون لله ثوابا ولا تخافون له عقابا. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: مالكم لا تخشون لله عقابا وترجون منه ثوابا. وقال الوالبي والعوفي عنه: مالكم لا تعلمون لله عظمة. وقال ابن عباس أيضا ومجاهد: مالكم لا ترون لله عظمة. وعن مجاهد والضحاك: مالكم لا تبالون لله عظمة. قال قطرب: هذه لغة حجازية. وهذيل وخزاعة ومضر يقولون: لم أرج: لم أبال. والوقار: العظمة. والتوقير: التعظيم. وقال قتادة: مالكم لا ترجون لله عاقبة؛ كأن المعنى مالكم لا ترجون لله عاقبة الإيمان. وقال ابن كيسان: مالكم لا ترجون في عبادة الله وطاعته أن يثيبكم على توقيركم خيرا. وقال ابن زيد: مالكم لا تؤدون لله طاعة. وقال الحسن: مالكم لا تعرفون لله حقا ولا تشكرون له نعمة. وقيل: مالكم لا توحدون الله؛ لأن من عظمه فقد وحده. وقيل: إن الوقار الثبات لله عز وجل؛ ومنه قوله تعالى: « وقرن في بيوتكن » [ الأحزاب: 33 ] أي اثبتن. ومعناه مالكم لا تثبتون وحدانية الله تعالى وأنه إلهكم لا إله لكم سواه؛ قال ابن بحر. ثم دلهم على ذلك فقال: « وقد خلقكم أطوارا » أي جعل لكم في أنفسكم آية تدل على توحيده. قال ابن عباس: « أطوارا » يعني نطفة ثم علقة ثم مضغة؛ أي طورا بعد طور إلى تمام الخلق، كما ذكر في سورة « المؤمنون » . والطور في اللغة: المرة؛ أي من فعل هذا وقدر عليه فهو أحق أن تعظموه. وقيل: « أطوارا » صبيانا، ثم شبابا، ثم شيوخا وضعفاء، ثم أقوياء. وقيل: أطوارا أي أنواعا: صحيحا وسقيما، وبصيرا وضريرا، وغنيا وفقيرا. وقيل: إن « أطوارا » أختلافهم في الأخلاق والأفعال.

 

الآيات: 15 - 16 ( ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا، وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا )

 

قوله تعالى: « ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا » ذكر لهم دليلا آخر؛ أي ألم تعلموا أن الذي قدر على هذا، فهو الذي يجب أن يعبد ومعنى « طباقا » بعضها فوق بعض، كل سماء مطبقة على الأخرى كالقباب؛ قاله ابن عباس والسدي. وقال الحسن: خلق الله سبع سموات طباقا على سبع أرضين، بين كل أرض وأرض، وسماء وسماء خلق وأمر. وقوله: « ألم تروا » على جهة الإخبار لا المعاينة؛ كما تقول: ألم ترني كيف صنعت بفلان كذا. وطباقا « نصب على أنه مصدر؛ أي مطابقة طباقا. أو حال بمعنى ذات طباق؛ فحذف ذات وأقام طباقا مقامه. » وجعل القمر فيهن نورا « أي في سماء الدنيا؛ كما يقال: أتاني بنو تميم وأتيت بني تميم والمراد بعضهم؛ قاله الأخفش. قال ابن كيسان: إذا كان في إحداهن فهو فيهن. وقال قطرب: » فيهن « بمعنى معهن؛ وقاله الكلبي. أي خلق الشمس والقمر مع خلق السموات والأرض. وقال جلة أهل اللغة في قول امرئ القيس: »

وهل ينعمن من كان أخر عهده ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال

« في » بمعنى مع. النحاس: وسألت أبا الحسن بن كيسان عن هذه الآية فقال: جواب النحويين أنه إذا جعله في إحداهن فقد جعله فيهن؛ كما تقول: أعطني الثياب المعلمة وإن كنت إنما أعلمت أحدها. وجواب آخر: أنه يروى أن وجه القمر إلى السماء، وإذا كان إلى داخلها فهو متصل بالسموات، ومعنى « نورا » أي لأهل الأرض؛ قاله السدي. وقال عطاء: نورا لأهل السماء والأرض. وقال ابن عباس وابن عمر: وجهه يضيء لأهل الأرض وظهره يضيء لأهل السماء. « وجعل الشمس سراجا » يعني مصباحا لأهل الأرض ليتوصلوا إلى التصرف لمعايشهم. وفي إضاءتها لأهل السماء القولان الأولان حكاه الماوردي. وحكى القشيري عن ابن عباس أن الشمس وجهها في السموات وقفاها في الأرض. وقيل: على العكس. وقيل لعبدالله بن عمر: ما بال الشمس تقلينا أحيانا وتبرد علينا أحيانا؟ فقال: إنها في الصيف في السماء الرابعة، وفي الشتاء في السماء السابعة عند عرش الرحمن؛ ولو كانت في السماء الدنيا لما قام لها شيء.

 

الآيات: 17 - 18 ( والله أنبتكم من الأرض نباتا، ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا )

 

يعني آدم عليه السلام خلقه من أديم الأرض كلها؛ قاله ابن جريج. وقد مضى في سورة « الأنعام والبقرة » بيان ذلك. وقال خالد بن معدان: خلق الإنسان من طين؛ فإنما تلين القلوب في الشتاء. و « نباتا » مصدر على غير المصدر؛ لأن مصدره أنبت إنباتا، فجعل الاسم الذي هو النبات في موضع المصدر. وقد مضى بيانه في سورة « آل عمران » وغيرها. وقيل: هو مصدر محمول على المعنى؛ لأن معنى: « أنبتكم » جعلكم تنبتون نباتا؛ قال الخليل والزجاج. وقيل: أي أنبت لكم من الأرض النبات. « فنباتا » على هذا نصب على المصدر الصريح. والأول أظهر. وقال ابن جريج: أنبتهم في الأرض بالكبر بعد الصغر وبالطول بعد القصر. « ثم يعيدكم فيها » أي عند موتكم بالدفن. « ويخرجكم إخراجا » بالنشور للبعث يوم القيامة.

 

الآيات: 19 - 20 ( والله جعل لكم الأرض بساطا، لتسلكوا منها سبلا فجاجا )

 

قوله تعالى: « والله جعل لكم الأرض بساطا » أي مبسوطة. « لتسلكوا منها سبلا فجاجا » السبل: الطرق. والفجاج جمع فج، وهو الطريق الواسعة؛ قاله الفراء. وقيل: الفج المسلك بين الجبلين. وقد مضى في سورتي « الأنبياء والحج » .

 

الآية: 21 ( قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا )

 

شكاهم إلى الله تعالى، وأنهم عصوه ولم يتبعوه فيما أمرهم به من الإيمان. وقال أهل التفسير: لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما داعيا لهم وهم على كفرهم وعصيانهم. قال ابن عباس: رجا نوح عليه السلام الأبناء بعد الآباء؛ فيأتي بهم الولد بعد الولد حتى بلغوا سبع قرون، ثم دعا عليهم بعد الإياس منهم، وعاش بعد الطوفان ستين عاما حتى كثر الناس وفشوا. قال الحسن: كان قوم نوح يزرعون في الشهر مرتين؛ حكاه الماوردي. « واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا » يعني كبراءهم وأغنياءهم الذين لم يزدهم كفرهم وأموالهم وأولادهم إلا ضلالا في الدنيا وهلاكا في الآخرة. وقرأ أهل المدنية والشام وعاصم « وولده » بفتح الواو واللام. الباقون « ولده » بضم الواو وسكون اللام وهي لغة في الولد. ويجوز أن يكون جمعا للولد، كالفلك فإنه واحد وجمع. وقد تقدم.

 

الآية: 22 ( ومكروا مكرا كبارا )

 

أي كبيرا عظيما. يقال: كبير وكبار وكبار، مثل عجيب وعجاب وعجاب بمعنى، ومثله طويل وطوال وطوال. يقال: رجل حسن وحسان، وجميل وجمال، وقراء للقارئ، ووضاء للوضيء. وأنشد ابن السكيت:

بيضاء تصطاد القلوب وتستبي بالحسن قلب المسلم القُرّاء

وقال آخر:

والمرء يلحقه بفتيان الندى خلق الكريم وليس بالوضاء

وقال المبرد: « كبارا » ( بالتشديد ) للمبالغة. وقرأ ابن محيصن وحميد ومجاهد « كبارا » بالتخفيف. واختلف في مكرهم ما هو؟ فقيل: تحريشهم سفلتهم على قتل نوح. وقيل: هو تعزيرهم الناس بما أوتوا من الدنيا والولد؛ حتى قالت الضعفة: لولا أنهم على الحق لما أوتوا هذه النعم. وقال الكلبي: هو ما جحلوه لله من الصاحبة والولد. وقيل: مكرهم كفرهم. وقال مقاتل: هو قول كبرائهم لأتباعهم: « لا تذرن ألهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا » .

 

الآيات: 23 - 24 ( وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا، وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلا ضلالا )

 

قال ابن عباس وغيره: هي أصنام وصور، كان قوم نوح يعبدونها ثم عبدتها العرب وهذا قول الجمهور. وقيل: إنها للعرب لم يعبدها غيرهم. وكانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم؛ فلذلك خصوها بالذكر بعد قوله تعالى: « لا تذرن آلهتكم » . ويكون معنى الكلام كما قال قوم نوح لأتباعهم: « لا تذرن ألهتكم » قالت العرب لأولادهم وقومهم: لا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا؛ ثم عاد بالذكر بعد ذلك إلى قوم نوح عليه السلام. وعلى القول الأول، الكلام كله منسوق في قوم نوح. وقال عروة بن الزبير وغيره: اشتكى آدم عليه السلام وعنده بنوه: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر. وكان ود أكبرهم وأبرهم به. قال محمد بن كعب: كان لآدم عليه السلام خمس بنين: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر؛ وكانوا عبادا فمات واحد منهم فحزنوا عليه؛ فقال الشيطان: أنا أصور لكم مثله إذا نظرتم إليه ذكرتموه. قالوا: أفعل. فصوره في المسجد من صفر ورصاص. ثم مات آخر، فصوره حتى ماتوا كلهم فصورهم. وتنقصت الأشياء كما تتنقص اليوم إلى أن تركوا عبادة الله تعالى بعد حين. فقال لهم الشيطان: مالكم لا تعبدون شيئا؟ قالوا: وما نعبد؟ قال: آلهتكم وآلهة آبائكم، ألا ترون في مصلاكم. فعبدوها من دون الله؛ حتى بعث الله نوحا فقالوا: { لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا « الآية. وقال محمد بن كعب أيضا ومحمد بن قيس: بل كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح، وكان لهم تبع يقتدون بهم، فلما ماتوا زين لهم إبليس أن يصوروا صورهم ليتذكروا بها اجتهادهم، وليتسلوا بالنظر إليها؛ فصورهم. فلما ماتوا هم وجاء آخرون قالوا: ليت شعرنا هذه الصور ما كان آباؤنا يصنعون بها؟ فجاءهم الشيطان فقال: كان آباؤكم يعبدونها فترحمهم وتسقيهم المطر. فعبدوها فابتدئ عبادة الأوثان من ذلك الوقت.»

قلت: وبهذا المعنى فسر ما جاء في صحيح مسلم من حديث عائشة: أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة تسمى مارية، فيها تصاوير لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة ) . وذكر الثعلبي عن ابن عباس قال: هذه الأصنام أسماء رجال صالحين من قوم نوح؛ فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن أنصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم تذكروهم بها؛ ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت من دون الله. وذكر أيضا عن ابن عباس: أن نوحا عليه السلام، كان يحرس جسد آدم عليه السلام على جبل بالهند، فيمنع الكافرين أن يطوفوا بقبره؛ فقال لهم الشيطان: إن هؤلاء يفخرون عليكم ويزعمون أنهم بنو آدم دونكم، وإنما هو جسد، وأنا أصور لكم مثله تطوفون به؛ فصور لهم هذه الأصنام الخمسة وحملهم على عبادتها. فلما كان أيام الطوفان دفنها الطين والتراب والماء؛ فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطان لمشركي العرب. قال الماوردي: فأما ود فهو أول صنم معبود، سمي ودا لودهم له؛ وكان بعد قوم نوح لكلب بدومة الجندل؛ في قول ابن عباس وعطاء ومقاتل. وفيه يقول شاعرهم:

حياك ود فإنا لا يحل لنا لهو النساء وإن الدين قد عزما

وأما سواع فكان لهذيل بساحل البحر؛ في قولهم.

وأما يغوث فكان لغطيف من مراد بالجوف من سبأ؛ في قول قتادة. وقال المهدوي. لمراد ثم لغطفان. الثعلبي: وأخذت أعلى وأنعم - وهما من طيء - وأهل جرش من مذحج يغوث فذهبوا به إلى مراد فعبدوه زمانا. ثم إن بني ناجية أرادوا نزعه من أعلى وأنعم، ففروا به إلى الحصين أخي بن الحارث بن كعب من خزاعة. وقال أبو عثمان النهدي: رأيت يغوث وكان من رصاص، وكانوا يحملونه على جمل أحرد، ويسيرون معه ولا يهيجونه حتى يكون هو الذي يبرك، فإذا برك نزلوا وقالوا: قد رضي لكم المنزل؛ فيضربون عليه بناء ينزلون حوله.

وأما يعوق فكان لهمدان ببلخع؛ في قول عكرمة وقتادة وعطاء. ذكره الماوردي. وقال الثعلبي: وأما يعوق فكان لكهلان من سبأ، ثم توارثه بنوه؛ الأكبر فالأكبر حتى صار إلى همدان. وفيه يقول مالك بن نمط الهمداني:

يريش الله في الدنيا ويبري ولا يبري يعوق ولا يريش

وأما نسر فكان لذي الكلاع من حمير؛ في قول قتادة، ونحوه عن مقاتل. وقال الواقدي: كان ود على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة نسر من الطير؛ فالله أعلم. وقرأ نافع « ولا تذرن ودا » بضم الواو. وفتحها الباقون. قال الليث: ود ( بفتح الواو ) صنم كان لقوم نوح. وود ( بالضم ) صنم لقريش؛ وبه سمي عمرو بن ود. وفي الصحاح: والود ( بالفتح ) الوتد في لغة أهل، نجد؛ كأنهم سكنوا التاء وأدغموها في الدال. والود في قول امرئ القيس:

تظهر الود إذا ما أشجذت وتواريه إذا ما تعتكر

قال ابن دريد: هو اسم جبل: وود صنم كان لقوم نوح عليه السلام ثم صار لكلب وكان بدومة الجندل؛ ومنه سموه عبد ود وقال: « لا تذرن آلهتكم » ثم قال: « ولا تذرون ودا ولا سواعا » الآية. خصها بالذكر؛ لقوله تعالى: « وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح » [ الأحزاب: 7 ] . « وقد أضلوا كثيرا » هذا من قول نوح؛ أي أضل كبراؤهم كثيرا من أتباعهم؛ فهو عطف على قوله: « ومكروا مكرا كبارا » . وقيل: إن الأصنام « أضلوا كثيرا » أي ضل بسببها كثير؛ نظيره قول إبراهيم: « رب إنهن أضللن كثيرا من الناس » [ إبراهيم: 36 ] فأجرى عليهم وصف ما يعقل؛ لاعتقاد الكفار فيهم ذلك. « ولا تزد الظالمين إلا ضلالا » أي عذابا؛ قاله ابن بحر. واستشهد بقوله تعالى: « إن المجرمين في ضلال وسعر » [ القمر: 47 ] . وقيل إلا خسرانا. وقيل إلا فتنة بالمال والولد. وهو محتمل.

 

الآية: 25 ( مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا )

 

قوله تعالى: « مما خطيئاتهم أغرقوا » « ما » صلة مؤكدة؛ والمعنى من خطاياهم وقال الفراء: المعنى من أجل خطاياهم؛ فأدت « ما » هذا المعنى. قال: و « ما » تدل على المجازاة. وقراءة أبي عمرو « خطاياهم » على جمع التكسير؛ الواحدة خطية. وكان الأصل في الجمع خطائي على فعائل؛ فلما اجتمعت الهمزتان قلبت الثانية ياء، لأن قبلها كسرة ثم استثقلت والجمع ثقيل، وهو معتل مع ذلك؛ فقلبت الياء ألفا ثم قلبت الهمزة الأولى ياء لخفائها بين الألفين. الباقون « خطيئاتهم » على جمع السلامة. قال أبو عمرو: قوم كفروا ألف سنة فلم يكن لهم إلا خطيات؛ يريد أن الخطايا أكثر من الخطيات. وقال قوم: خطايا وخطيات واحد؛ جمعان مستعملان في الكثرة والقلة؛ واستدلوا بقوله تعالى: « ما نفدت كلمات الله » [ لقمان: 27 ] وقال الشاعر:

لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

وقرئ « خطيئاتهم » و « خطياتهم » بقلب الهمزة ياء وإدغامها. وعن الجحدري وعمرو بن عبيد والأعمش وأبي حيوة وأشهب العقيلي « خطيئتهم » على التوحيد، والمراد الشرك. « فأدخلوا نارا » أي بعد إغراقهم. قال القشيري: وهذا يدل على عذاب القبر. ومنكروه يقولون: صاروا مستحقين دخول النار، أو عرض عليهم أماكنهم من النار؛ كما قال تعالى: « النار يعرضون عليها غدوا وعشيا » [ غافر: 46 ] . وقيل: أشاروا إلى ما في الخبر من قوله: ( البحر نار في نار ) . وروى أبو روق عن الضحاك في قوله تعالى: « أغرقوا فأدخلوا نارا » قال: يعني عذبوا بالنار في الدنيا مع الغرق في الدنيا في حالة واحدة؛ كانوا يغرقون في جانب ويحترقون في الماء من جانب. ذكره الثعلبي قال: أنشدنا أبو القاسم الحبيبي قال أنشدنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن رميح قال أنشدني أبو بكر بن الأنباري:

الخلق مجتمع طورا ومفترق والحادثات فنون ذات أطوار

لا تعجبن لأضداد إن اجتمعت فالله يجمع بين الماء والنار

« فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا » أي من يدفع عنهم العذاب.

 

الآيات: 26 - 27 ( وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا )

 

قوله تعالى: « وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين » دعا عليهم حين يئس من أتباعهم إياه. وقال قتادة: دعا عليهم بعد أن أوحى الله إليه: « أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن » [ هود: 36 ] فأجاب الله دعوته وأغرق أمته؛ وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( اللهم منزل الكتاب سريع الحساب وهازم الأحزاب أهزمهم وزلزلهم ) . وقيل: سبب دعائه أن رجلا من قومه حمل ولدا صغيرا على كتفه فمر بنوح فقال: ( احذر هذا فإنه يضلك ) . فقال: يا أبت أنزلني؛ فأنزله فرماه فشجه؛ فحينئذ غضب ودعا عليهم. وقال محمد بن كعب ومقاتل والربيع وعطية وابن زيد: إنما قال هذا حينما أخرج الله كل مؤمن من أصلابهم وأرحام نسائهم. وأعقم أرحام النساء وأصلاب الرجال قبل العذاب بسبعين سنة. وقيل: بأربعين. قال قتادة: ولم يكن فيهم صبي وقت العذاب. وقال الحسن وأبو العالية: لو أهلك الله أطفالهم معهم كان عذابا من الله لهم وعدلا فيهم؛ ولكن الله أهلك أطفالهم وذريتهم بغير عذاب، ثم أهلكهم بالعذاب؛ بدليل قوله تعالى: « وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم » [ الفرقان: 37 ] .

 

قال ابن العربي: « دعا نوح على الكافرين أجمعين، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم على من تحزب على المؤمنين وألب عليهم. وكان هذا أصلا في الدعاء على الكافرين في الجملة، فأما كافر معين لم تعلم خاتمته فلا يدعى عليه؛ لأن مآله عندنا مجهول، وربما كان عند الله معلوم الخاتمة بالسعادة. وإنما خص النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء عتبة وشيبة وأصحابهما؛ لعلمه بمآلهم وما كشف له من الغطاء عن حالهم. والله أعلم » .

قلت: قد مضت هذه المسألة مجودة في سورة « البقرة » والحمد لله. الثالثة: قال ابن العربي: « إن قيل لم جعل نوح دعوته على قومه سببا لتوقفه عن طلب الشفاعة للخلق من الله في الآخرة؟ قلنا قال الناس في ذلك وجهان: أحدهما: أن تلك الدعوة نشأت عن غضب وقسوة؛ والشفاعة تكون عن رضا ورقة، فخاف أن يعاتب ويقال: دعوت على الكفار بالأمس وتشفع لهم اليوم. الثاني: أنه دعا غضبا بغير نص ولا إذن صريح في ذلك؛ فخاف الدرك فيه يوم القيامة؛ كما قال موسى عليه السلام: ( إني قتلت نفسا لم أومر بقتلها ) . قال: وبهذا أقول » .

قلت: وإن كان لم يؤمر بالدعاء نصا فقد قيل له: « أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن » [ هود: 36 ] . فأعلم عواقبهم فدعا عليهم بالهلاك؛ كما دعا نبينا صلي الله عليه وسلم على شيبة وعتبة ونظرائهم فقال: ( اللهم عليك بهم ) لما أعلم عواقبهم؛ وعلى هذا يكون فيه معنى الأم بالدعاء. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « ديارا » أي من يسكن الديار؛ قاله السدي. وأصله ديوار على فيعال من دار يدور؛ فقلبت الواو ياء وأدغمت إحداهما في الأخرى. مثل القيام؛ أصله قيوام. ولو كان فعالا لكان دوارا. وقال القتبي: أصله من الدار؛ أي نازل بالدار. يقال: ما بالدار ديار؛ أي أحد. وقيل: الديار صاحب الدار.

 

الآية: 28 ( رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا )

 

قوله تعالى: « رب اغفر لي ولوالدي » دعا لنفسه ولوالديه وكانا مؤمنين. وهما: لمك بن متوشلخ وشمخى بنت أنوش؛ ذكره القشيري والثعلبي. وحكى الماوردي في اسم أمه منجل. وقال سعيد بن جبير: أراد بوالديه أباه وجده. وقرأ سعيد بن جبير « لوالدي » بكسر الدال على الواحد. قال الكلبي: كان بينه وبين آدم عشرة آباء كلهم مؤمنون. وقال ابن عباس: لم يكفر لنوح والد فيما بينه وبين آدم عليهما السلام. « ولمن دخل بيتي مؤمنا » أي مسجدي ومصلاي مصليا صدقا بالله. وكان إنما يدخل بيوت الأنبياء من آمن منهم فجعل المسجد سببا للدعاء بالغفرة. وقد قال النبي. صلي الله عليه وسلم: ( الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلي فيه ما لم يحدث فيه تقول اللهم اغفر له اللهم أرحمه ) الحديث. وقد تقدم. وهذا قول ابن عباس: « بيتي » مسجدي؛ حكاه الثعلبي وقاله الضحاك. وعن ابن عباس أيضا: أي ولمن دخل ديني؛ فالبيت بمعنى الدين؛ حكاه القشيري وقاله جويبر. وعن ابن عباس أيضا: يعني صديقي الداخل إلى منزلي؛ حكاه الماوردي. وقيل: أراد داري. وقيل سفينتي. « وللمؤمنين والمؤمنات » عامة إلى يوم القيامة؛ قال الضحاك. وقال الكلبي: من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: من قومه؛ والأول أظهر. « ولا تزد الظالمين » أي الكافرين. « إلا تبارا » إلا هلاكا؛ فهي عامة في كل كافر ومشرك. وقيل: أراد مشركي قومه. والتبار: الهلاك. وقيل: الخسران؛ حكاهما السدي. ومنه قوله تعالى: « إن هؤلاء متبر ما هم فيه » [ الأعراف: 139 ] . وقيل: التبار الدمار؛ والمعنى واحد. والله أعلم بذلك. وهو الموفق للصواب.

 

سورة الجن

 

الآيات: 1 - 3 ( قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا، يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا، وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا )

 

قوله تعالى: « قل أوحي إلي » أي قل يا محمد لأمتك: أوحى الله إلي على لسان جبريل « أنه استمع » إلي « نفر من الجن » وما كان عليه السلام عالما به قبل أن أوحى إليه. هكذا قال ابن عباس وغيره على ما يأتي. وقرأ ابن أبي عبلة « أحِي » على الأصل؛ يقال أوحى إليه ووحى، فقلبت الواو همزة، ومنه قوله تعالى: « وإذا الرسل أقتت » [ المرسلات: 11 ] وهو من القلب المطلق جوازه في كل واو مضمومة. وقد أطلقه المازني في المكسورة أيضا كإشاح وإسادة وإدعاء أخيه ونحوه.

 

واختلف هل رآهم النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ فظاهر القرآن يدل على أنه لم يرهم؛ لقوله تعالى: « استمع » ، وقوله تعالى: « وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن » [ الأحقاف: 29 ] . وفي صحيح مسلم والترمذي عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن وما رآهم، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم؛ فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب! قالوا: ما ذاك إلا من شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء؟ فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها، فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر؛ فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء. فرجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا: « إنا سمعنا قرآنا عجبا. يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا » فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم: « قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن » : رواه الترمذي عن ابن عباس قال: قول الجن لقومهم: « لما قام عبدالله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا » قال: لما رأوه يصلي وأصحابه يصلون بصلاته فيسجدون بسجوده قال: تعجبوا من طواعية أصحابه له، قالوا لقومهم: « لما قام عبدالله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا » [ الجن: 19 ] . قال: هذا حديث حسن صحيح؛ ففي هذا الحديث دليل على أنه عليه السلام لم ير الجن ولكنهم حضروه، وسمعوا قراءته. وفيه دليل على أن الجن كانوا مع الشياطين حين تجسسوا الخبر بسبب الشياطين لما رموا بالشهب. وكان المرميون بالشهب من الجن أيضا.

وقيل لهم شياطين كما قال: « شياطين الإنس والجن » [ الأنعام: 112 ] فإن الشيطان كل متمرد وخارج عن طاعة الله. وفي الترمذي عن ابن عباس قال: كان الجن يصعدون إلى السماء يستمعون إلى الوحي فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا، فأما الكلمة فتكون حقا، وأما ما زادوا فيها، فيكون باطلا. فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم، فذكروا ذلك لإبليس ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك، فقال لهم إبليس: ما هذا الأمر إلا من أمر قد حدث في الأرض! فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يصلي بين جبلين - أراه قال بمكة - فأتوه فأخبروه فقال: هذا الحديث الذي حدث في الأرض. قال: هذا حديث حسن صحيح. فدل هذا الحديث على أن الجن رموا كما رميت الشياطين. وفي رواية السدي: أنهم لما رموا أتوا إبليس فأخبروه بما كان من أمرهم فقال: ايتوني من كل أرض بقبضة من تراب أشمها فأتوه فشم فقال: صاحبكم بمكة. فبعث نفرا من الجن، قيل: كانوا سبعة. وقيل: تسعة منهم زوبعة. وروى عاصم عن زر: أنهم كانوا سبعة نفر؛ ثلاثة من أهل حران وأربعة من أهل نصيبين. وحكى جويبر عن الضحاك: أنهم كانوا تسعة من أهل نصيبين ( قرية باليمن غير التي بالعراق ) . وقيل: إن الجن الذين أتوا مكة جن نصيبين، والذين أتوه بنخلة جن نينوى. وقد مضى بيان هذا في سورة ( الأحقاف ) . قال عكرمة: والسورة التي كان يقرؤها رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اقرأ باسم ربك » [ العلق: 1 ] وقد مضى في سورة « الأحقاف » التعريف باسم النفر من الجن، فلا معنى لإعادة ذلك.

وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الجن ليلة الجن وهو أثبت؛ روى عامر الشعبي قال: سألت علقمة هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا استطير أو اغتيل، قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبح إذا هو يجيء من قبل حراء، فقلنا: يا رسول الله! فقدناك وطلبناك فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم؛ فقال: ( أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن ) فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة، فقال: ( لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما، وكل بعرة علف لدوابكم - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تستنجوا بهما، فإنهما طعام إخوانكم الجن ) قال ابن العربي: وابن مسعود أعرف من ابن عباس؛ لأنه شاهده وابن عباس سمعه وليس الخبر كالمعاينة. وقد قيل: إن الجن أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعتين: إحداهما بمكة وهي التي ذكرها ابن مسعود، والثانية بنخلة وهي التي ذكرها ابن عباس. قال البيهقي: الذي حكاه عبدالله بن عباس إنما هو في أول ما سمعت الجن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وعلمت بحاله، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم كما حكاه، ثم أتاه داعي الجن مرة أخرى فذهب معه وقرأ عليهم القرآن كما حكاه عبدالله بن مسعود قال البيهقي: والأحاديث الصحاح تدل على أن ابن مسعود لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، وإنما سار معه حين انطلق به وبغيره يريه آثار الجن وآثار نيرانهم. قال: وقد روي من غير وجه أنه كان معه ليلتئذ، وقد مضى هذا المعنى في سورة « الأحقاف » والحمد لله. روي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أمرت أن أتلو القرآن على الجن فمن يذهب معي؟ ) فسكتوا، ثم قال الثانية، ثم قال الثالثة، ثم قال عبدالله بن مسعود: أنا أذهب معك يا رسول الله، فانطلق حتى جاء الحجون عند شعب أبي دب فخط علي خطا فقال: ( لا تجاوزه ) ثم مضى إلى الحجون فانحدر عليه أمثال الحجل يحدرون الحجارة بأقدامهم، يمشون يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفها، حتى غشوه فلا أراه، فقمت فأومى إلي بيده أن أجلس، فتلا القرآن فلم يزل صوته يرتفع، ولصقوا بالأرض حتى ما أراهم، فلما انفتل إلي قال: ( أردت أن تأتيني ) ؟ قلت: نعم يا رسول الله. قال: ( ما كان ذلك لك، هؤلاء الجن أتوا يستمعون القرآن، ثم ولوا إلى قومهم منذرين فسألوني الزاد فزودتهم العظم والبعر فلا يستطيبن أحدكم بعظم ولا بعر ) .

قال عكرمة: وكانوا اثني عشر ألفا من جزيرة الموصل. وفي رواية: انطلق بي عليه السلام حتى إذا جئنا المسجد الذي عند حائط عوف خط لي خطا، فأتاه نفر منهم فقال أصحابنا كأنهم رجال الزط وكأن وجوههم المكاكي، فقالوا: ما أنت؟ قال: ( أنا نبي الله ) قالوا: فمن يشهد لك على ذلك؟ قال: ( هذه الشجرة ) فقال: ( يا شجرة ) فجاءت تجر عروقها، لها قعاقع حتى انتصبت بين يديه، فقال: ( على ماذا تشهدين ) قالت: أشهد أنك رسول الله. فرجعت كما جاءت تجر بعروقها الحجارة، لها قعاقع حتى عادت كما كانت.

ثم روى أنه عليه السلام لما فرغ وضع رأسه على حجر ابن مسعود فرقد ثم استيقظ فقال: ( هل من وضوء ) قال: لا، إلا أن معي إداوة فيها نبيذ. فقال: ( هل هو إلا تمر وماء ) فتوضأ منه.

 

قد مضى الكلام في الماء في سورة « الحجر » وما يستنجى به في سورة « براءة » فلا معنى للإعادة.

 

واختلف أهل العلم، في أصل الجن؛ فروى إسماعيل عن الحسن البصري: أن الجن ولد إبليس، والإنس ولد آدم، ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون، وهم شركاء في الثواب والعقاب. فمن كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمنا فهو ولي الله، ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافرا فهو شيطان. وروى الضحاك عن ابن عباس: أن الجن هم ولد الجان وليسوا بشياطين، وهم يؤمنون؛ ومنهم المؤمن ومنهم الكافر، والشياطين هم ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس. واختلفوا في دخول مؤمني الجن الجنة، على حسب الاختلاف في أصلهم. فمن زعم أنهم من الجان لا من ذرية إبليس قال: يدخلون الجنة بإيمانهم. ومن قال: إنهم من ذرية إبليس فلهم فيه قولان: أحدهما: وهو قول الحسن يدخلونها. الثاني: وهو رواية مجاهد لا يدخلونها وإن صرفوا عن النار. حكاه الماوردي. وقد مضى في سورة « الرحمن » عند قوله تعالى: « لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان » [ الرحمن: 56 ] بيان أنهم يدخلونها.

 

قال البيهقي في روايته: وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة فقال: ( لكم كل عظم ) دليل على أنهم يأكلون ويطعمون. وقد أنكر جماعة من كفرة الأطباء والفلاسفة الجن، وقالوا: إنهم بسائط، ولا يصح طعامهم؛ اجتراء على الله وافتراء، والقرآن والسنة ترد عليهم، وليس في المخلوقات بسيط مركب مزدوج، إنما الواحد الواحد سبحانه، وغيره مركب وليس بواحد كيفما تصرف حاله. وليس يمتنع أن يراهم النبي صلى الله عليه وسلم في صورهم كما يرى الملائكة. وأكثر ما يتصورون لنا في صور الحيات؛ ففي الموطأ: أن رجلا حديث عهد بعرس استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار أن يرجع إلى أهله... الحديث، وفيه: فإذا حية عظيمة منطوية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها. وذكر الحديث. وفي الصحيح أنه عليه السلام قال: ( إن لهذه البيوت عوامر، فإذا رأيتم منها شيئا فحرجوا عليها ثلاثا، فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر ) . وقال: ( اذهبوا فادفنوا صاحبكم ) وقد مضى هذا المعنى في سورة « البقرة » وبيان التحريج عليهن. وقد ذهب قوم إلى أن ذلك مخصوص بالمدينة؛ لقوله في الصحيح: ( إن بالمدينة جنا قد أسلموا ) . وهذا لفظ مختص بها فيختص بحكمها. قلنا: هذا يدل على أن غيرها من البيوت مثلها؛ لأنه لم يعلل بحرمة المدينة، فيكون ذلك الحكم مخصوصا بها، وإنما علل بالإسلام، وذلك عام في غيرها، ألا ترى قوله في الحديث مخبرا عن الجن الذي لقي: ( وكانوا من جن الجزيرة ) ؛ وهذا بين يعضده قوله: ( ونهى عن عوامر البيوت ) وهذا عام. وقد مضى في سورة ( البقرة ) القول في هذا فلا معنى للإعادة.

قوله تعالى: « فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا » أي في فصاحة كلامه. وقيل: عجبا في بلاغة مواعظه. وقيل: عجبا في عظم بركته. وقيل: قرآنا عزيزا لا يوجد مثله. وقيل: يعنون عظيما. « يهدي إلى الرشد » أي إلى مراشد الأمور. وقيل: إلى معرفة الله تعالى؛ و « يهدي » في موضع الصفة أي هاديا. « فآمنا به » أي فاهتدينا به وصدقنا أنه من عند الله « ولن نشرك بربنا أحدا » أي لا نرجع إلى إبليس ولا نطيعه؛ لأنه الذي كان بعثهم ليأتوه بالخبر، ثم رمي الجن بالشهب. وقيل لا نتخذ مع الله إلها آخر؛ لأنه المتفرد بالربوبية. وفي هذا تعجيب المؤمنين بذهاب مشركي قريش عما أدركته الجن بتدبرها القرآن. وقوله تعالى: « استمع نفر من الجن » أي استمعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعلموا أن ما يقرؤه كلام الله. ولم يذكر المستمع إليه لدلالة الحال عليه. والنفر الرهط؛ قال الخليل: ما بين ثلاثة إلى عشرة. وقرأ عيسى الثقفي « يهدي إلى الرشد » بفتح الراء والشين.

 

قوله تعالى: « وأنه تعالى جد ربنا » كان علقمة ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي وابن عامر وخلف وحفص والسلمي ينصبون « أن » في جميع السورة في اثني عشر موضعا، وهو: « أنه تعالى جد ربنا » ، « وأنه كان يقول » ، « وأنا ظننا » ، « وأنه كان رجال » ، « وأنهم ظنوا » ، « وأنا لمسنا السماء » ، « وأنا كنا نقعد » ، « وأنا لا ندري » ، « وأنا منا الصالحون » ، « وأنا ظننا أن نعجز الله في الأرض » ، « وأنا لما سمعنا الهدى » ، « وأنا منا المسلمون » عطفا على قوله: « أنه استمع نفر » ، « وأنه استمع » لا يجوز فيه إلا الفتح؛ لأنها في موضع اسم فاعل « أوحي » فما بعده معطوف عليه. وقيل: هو محمول على الهاء في « آمنا به » ، أي و « بأنه تعالى جد ربنا » وجاز ذلك وهو مضمر مجرور لكثرة حرف الجار مع « أن » . وقيل: المعنى أي وصدقنا أنه جد ربنا. وقرأ الباقون كلها بالكسر وهو الصواب، واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم عطفا على قوله: « فقالوا إنا سمعنا » لأنه كله من كلام الجن. وأما أبو جعفر وشيبة فإنهما فتحا ثلاثة مواضع؛ وهي قوله تعالى: « وأنه تعالى جد ربا » ، « وأنه كان يقول » ، « وأنه كان رجال » ، قالا: لأنه من الوحي، وكسرا ما بقي؛ لأنه من كلام الجن. وأما قوله تعالى: « وأنه لما قام عبدالله » [ الجن: 19 ] . فكلهم فتحوا إلا نافعا وشيبة وزر بن حبيش وأبا بكر والمفضل عن عاصم، فإنهم كسروا لا غير. ولا خلاف في فتح همزة « أنه استمع نفر من الجن » ، « وأن لو استقاموا » « وأن المساجد لله » ، « وأن قد أبلغوا » . وكذلك لا خلاف في كسر ما بعد القول؛ نحو قوله تعالى: « فقالوا إنا سمعنا » و « قل إنما أدعوا ربي » [ الجن: 20 ] و « قل إن أدري » [ الجن: 25 ] . و « قل إني لا أملك » [ الجن: 21 ] . وكذلك لا خلاف في كسر ما كان بعد فاء الجزاء؛ نحو قوله تعالى: « فإن له نار جهنم » [ الجن: 23 ] و « فإنه يسلك من بين يديه » [ الجن: 27 ] . لأنه موضع ابتداء.

 

قوله تعالى: « وأنه تعالى جد ربنا » الجد في اللغة: العظمة والجلال؛ ومنه قول أنس: كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جد في عيوننا؛ أي عظم وجل. فمعنى: « جد ربنا » أي عظمته وجلاله؛ قال عكرمة ومجاهد وقتادة. وعن مجاهد أيضا: ذكره. وقال أنس بن مالك والحسن وعكرمة أيضا: غناه. ومنه قيل للحظ جد، ورجل مجدود أي محظوظ؛ وفي الحديث: [ ولا ينفع ذا الجد منك الجد ] قال أبو عبيدة والخليل: أي ذا الغنى، منك الغنى، إنما تنفعه الطاعة. وقال ابن عباس: قدرته. الضحاك: فعله. وقال القرظي والضحاك أيضا: آلاؤه ونعمه على خلقه. وقال أبو عبيدة والأخفش ملكه وسلطانه. وقال السدي: أمره. وقال سعيد بن جبير: « وأنه تعالى جد ربنا » أي تعالى ربنا. وقيل: إنهم عنوا بذلك الجد الذي هو أب الأب، ويكون هذا من قول الجن. وقال محمد بن علي بن الحسين وابنه جعفر الصادق والربيع: ليس لله تعالى جد، وإنما قالته الجن للجهالة، فلم يؤاخذوا به. وقال القشيري: ويجوز إطلاق لفظ الجد في حق الله تعالى؛ إذ لو لم يجز لما ذكر في القرآن، غير أنه لفظ موهم، فتجنبه أولى. وقراءة عكرمة « جد » بكسر الجيم: على ضد الهزل. وكذلك قرأ أبو حيوة ومحمد بن السميقع. ويروى عن ابن السميقع أيضا وأبي الأشهب « جدا ربنا » ، وهو الجدوى والمنفعة. وقرأ عكرمة أيضا « جد » بالتنوين « ربنا » بالرفع على أنه مرفوع، « بتعالى » ، و « جدا » منصوب على التمييز. وعن عكرمة أيضا « جد » بالتنوين والرفع « ربنا » بالرفع على تقدير: تعالى جد جد ربنا؛ فجد الثاني بدل من الأول وحذف وأقيم المضاف إليه مقامه. ومعنى الآية: وأنه تعالى جلال ربنا أن يتخذ صاحبة وولدا للاستئناس بهما والحاجة إليهما، والرب يتعالى عن الأنداد والنظراء.

 

الآيات: 4 - 7 ( وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا، وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا، وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا، وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا )

 

قوله تعالى: « وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا » الهاء في « أنه » للأمر أو الحديث، وفي « كان » اسمها، وما بعدها الخبر. ويجوز أن تكون « كان » زائدة. والسفيه هنا إبليس في قول مجاهد وابن جريج وقتادة. ورواه أبو بردة بن أبي موسى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: المشركون من الجن: قال قتادة: عصاه سفيه الجن كما عصاه سفيه الإنس. والشطط والاشتطاط: الغلو في الكفر. وقال أبو مالك: هو الجور. الكلبي: هو الكذب. وأصله العبد فيعبر به عن الجور لبعده عن العدل، وعن الكذب لبعده عن الصدق؛ قال الشاعر:

بأيه حال حكموا فيك فاشتطوا وما ذاك إلا حيث يممك الوخط

 

قوله تعالى: « وأنا ظننا » أي حسبنا « أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا » ، فلذلك صدقناهم في أن لله صاحبة وولدا، حتى سمعنا القرآن وتبينا به الحق.

وقرأ يعقوب والجحدري وابن أبي إسحاق « أن لن تقول » . وقيل: انقطع الإخبار عن الجن ها هنا فقال الله تعالى: « وأنه كان رجال من الأنس » فمن فتح وجعله من قول الجن ردها إلى قوله: « أنه استمع » [ الجن: 1 ] ، ومن كسر جعلها مبتدأ من قول الله تعالى. والمراد به ما كانوا يفعلونه من قول الرجل إذا نزل بواد: أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه؛ فيبيت في جواره حتى يصبح؛ قال الحسن وابن زيد وغيرهما. قال مقاتل: كان أول من تعوذ بالجن قوم من أهل اليمن، ثم من بني حنيفة، ثم فشا ذلك في العرب، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم. وقال كردم بن أبي السائب: خرجت مع أبي إلى المدينة أول ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل جاء الذئب فحمل حملا من الغنم، فقال الراعي: يا عامر الوادي، [ أنا ] جارك. فنادى مناد يا سرحان أرسله، فأتى الحمل يشتد. وأنزل الله تعالى على رسوله بمكة: « وأنه كان رجال من الإنس. يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا » أي زاد الجن الإنس « رهقا » أي خطيئة وإثما؛ قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. والرهق: الإثم في كلام العرب وغشيان المحارم؛ ورجل رهق إذا كان كذلك؛ ومنه قوله تعالى: « وترهقهم ذلة » [ يونس: 27 ] وقال الأعشى:

لا شيء ينفعني من دون رؤيتها هل يشتفي وامق ما لم يصب رهقا

يعني إثما. وأضيفت الزيادة إلى الجن إذ كانوا سببا لها. وقال مجاهد أيضا: « فزادوهم » أي إن الإنس زادوا الجن طغيانا بهذا التعوذ، حتى قالت الجن: سدنا الإنس والجن. وقال قتادة أيضا وأبو العالية والربيع وابن زيد: ازداد الإنس بهذا فرقا وخوفا من الجن. وقال سعيد بن جبير: كفرا. ولا خفاء أن الاستعاذة بالجن دون الاستعاذة بالله كفر وشرك. وقيل: لا يطلق لفظ الرجال على الجن؛ فالمعنى: وأنه كان رجال من الإنس يعوذون من شر الجن برجال من الإنس، وكان الرجل من الإنس يقول مثلا: أعوذ بحذيفة بن بدر من جن هذا الوادي. قال القشيري: وفي هذا تحكم إذ لا يبعد إطلاق لفظ الرجال على الجن.

 

قوله تعالى: « وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا » هذا من قول الله تعالى للإنس أي وأن الجن ظنوا أن لن يبعث الله الخلق كما ظننتم. الكلبي: المعنى: ظنت الجن كما ظنت الإنس أن لن يبعث الله رسولا إلى خلقه يقيم به الحجة عليهم. وكل هذا توكيد للحجة على قريش؛ أي إذا آمن هؤلاء الجن بمحمد، فأنتم أحق بذلك.

 

الآيات: 8 - 10 ( وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا، وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا، وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا )

 

قوله تعالى: « وأنا لمسنا السماء » هذا من قول الجن؛ أي طلبنا خبرها كما جرت عادتنا « فوجدناها » قد « ملئت حرسا شديدا » أي حفظة، يعني الملائكة. والحرس: جمع حارس « وشهبا » جمع شهاب، وهو انقضاض الكواكب المحرقة لهم عن استراق السمع. وقد مضى القول فيه في سورة « الحجر » « والصافات » . و « وجد » يجوز أن يقدر متعديا إلى مفعولين، فالأول الهاء والألف، و « ملئت » في موضع المفعول الثاني. ويجوز أن يتعدى إلى مفعول واحد ويكون « ملئت » في موضع الحال على إضمار قد. و « حرسا » نصب على المفعول الثاني « بملئت » . و « شديدا » من نعت الحرس، أي ملئت ملائكة شدادا. ووحد الشديد على لفظ الحرس؛ وهو كما يقال: السلف الصالح بمعنى الصالحين، وجمع السلف أسلاف وجمع الحرس أحراس؛ قال:

تجاوزت أحراسا وأهوال معشر

ويجوز أن يكون « حرسا » مصدرا على معنى حرست حراسة شديدة.

 

قوله تعالى: « وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا » « منها » أي من السماء، و « مقاعد » : مواضع يقعد في مثلها لاستماع الأخبار من السماء؛ يعني أن مردة الجن كانوا يفعلون ذلك ليستمعوا من الملائكة أخبار السماء حتى يلقوها إلى الكهنة على ما تقدم بيانه، فحرسها الله تعالى حين بعث رسوله بالشهب المحرقة، فقالت الجن حينئذ: « فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا » يعني بالشهاب: الكوكب المحرق؛ وقد تقدم بيان ذلك. ويقال: لم يكن انقضاض الكواكب إلا بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وهو آية من آياته. واختلف السلف هل كانت الشياطين تقذف قبل المبعث، أو كان ذلك أمرا حدث لمبعث النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال الكلبي وقال قوم: لم تكن تحرس السماء في الفترة بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما وسلامه: خمسمائة عام، وإنما كان من أجل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات كلها، وحرست بالملائكة والشهب.

قلت: ورواه عطية العوفي عن ابن عباس؛ ذكره البيهقي. وقال عبدالله بن عمر: لما كان اليوم الذي نبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم الشياطين، ورموا بالشهب، وقال عبدالملك بن سابور: لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حرست السماء، ورميت الشياطين بالشهب، ومنعت عن الدنو من السماء. وقال نافع بن جبير: كانت الشياطين في الفترة تسمع فلا ترمى، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رميت بالشهب. ونحوه عن أبي بن كعب قال: لم يرم بنجم منذ رفع عيسى حتى نبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرمي بها. وقيل: كان ذلك قبل المبعث، وإنما زادت بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إنذارا بحاله؛ وهو معنى قوله تعالى: « ملئت » أي زيد في حرسها؛ وقال أوس بن حجر وهو جاهلي:

فانقض كالدري يتبعه نقع يثور تخاله طنبا

وهذا قول الأكثرين. وقد أنكر الجاحظ هذا البيت وقال: كل شعر روي فيه فهو مصنوع، وأن الرمي لم يكن قبل المبعث. والقول بالرمي أصح؛ لقوله تعالى: « فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا » . وهذا إخبار عن الجن، أنه زيد في حرس السماء حتى امتلأت منها ومنهم؛ ولما روي عن ابن عباس قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من أصحابه إذ رمي بنجم؛ فقال: [ ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية ] ؟ قالوا: كنا نقول يموت عظيم أو يولد عظيم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ إنها لا ترمى لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا سبحانه وتعالى إذا قضى أمرا في السماء سبح حملة العرش ثم سبح أهل كل سماء، حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء ويستخبر أهل السماء حملة العرش ماذا قال ربكم فيخبرونهم ويخبر أهل كل سماء حتى ينتهي الخبر إلى هذه، فتتخطف الجن فيرمون فما جاؤوا به فهو حق ولكنهم يزيدون فيه ] . وهذا يدل على أن الرجم كان قبل المبعث. وروى الزهري نحوه عن علي بن الحسين عن علي بن أبي طالب عن ابن عباس. وفي آخره قيل للزهري: أكان يرمى في الجاهلية؟ قال: نعم. قلت: أفرأيت قوله سبحانه: « وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا » قال: غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم. ونحوه قال القتبي. قال ابن قتيبة: كان ولكن اشتدت الحراسة بعد المبعث؛ وكانوا من قبل يسترقون ويرمون في بعض الأحوال، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم منعت من ذلك أصلا. وقد تقدم بيان هذا في سورة « الصافات » عند قوله: « ويقذفون من كل جانب. دحورا ولهم عذاب واصب » [ الصافات: 8 - 9 ] قال الحافظ: فلو قال قائل: كيف تتعرض الجن لإحراق نفسها بسبب استماع خبر، بعد أن صار ذلك معلوما لهم؟ فالجواب: أن الله تعالى ينسيهم ذلك حتى تعظم المحنة، كما ينسي إبليس في كل وقت أنه لا يسلم، وأن الله تعالى قال له: « وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين » [ الحجر: 35 ] ولولا هذا لما تحقق التكليف. والرصد: قيل من الملائكة؛ أي ورصدا من الملائكة.

والرصد: الحافظ للشيء والجمع أرصاد، وفي غير هذا الموضع يجوز أن يكون جمعا كالحرس، والواحد: راصد. وقيل: الرصد هو الشهاب، أي شهابا قد أرصد له، ليرجم به؛ فهو فعل بمعنى مفعول كالخبط والنفض.

 

قوله تعالى: « وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض » أي هذا الحرس الذي حرست بهم السماء « أم أراد بهم ربهم رشدا » أي خيرا. قال ابن زيد. قال إبليس لا ندري، هل أراد الله بهذا المنع أن ينزل على أهل الأرض عذابا أو يرسل إليهم رسولا. وقيل: هو من قول الجن فيما بينهم قبل أن يسمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم. أي لا ندري أشر أريد بمن في الأرض بإرسال محمد إليهم، فإنهم يكذبونه ويهلكون بتكذيبه كما هلك من كذب من الأمم، أم أراد أن يؤمنوا فيهتدوا؛ فالشر والرشد على هذا الكفر والإيمان؛ وعلى هذا كان عندهم علم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم، ولما سمعوا قراءته علموا أنهم منعوا من السماء حراسة للوحي. وقيل: لا؛ بل هذا قول قالوه لقومهم بعد أن انصرفوا إليهم منذرين؛ أي لما آمنوا أشفقوا ألا يؤمن كثير من أهل الأرض فقالوا: إنا لا ندري أيكفر أهل الأرض بما آمنا به أم يؤمنون؟

 

الآيات: 11 - 12 ( وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا، وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا )

 

قوله تعالى: « وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك » هذا من قول الجن، أي قال بعضهم لبعض لما دعوا أصحابهم إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وإنا كنا قبل استماع القرآن منا الصالحون ومنا الكافرون. وقيل: « ومنا دون ذلك » أي ومن دون الصالحين في الصلاح، وهو أشبه من حمله على الإيمان والشرك. « كنا طرائق قددا » أي فرقا شتى؛ قال السدي. الضحاك: أديانا مختلفة. قتادة: أهواء متباينة؛ ومنه قول الشاعر:

القابض الباسط الهادي بطاعته في فتنة الناس إذ أهواؤهم قدد

والمعنى: أي لم يكن كل الجن كفارا بل كانوا مختلفين: منهم كفار، ومنهم مؤمنون صلحاء، ومنهم مؤمنون غير صلحاء. وقال المسيب: كنا مسلمين ويهود ونصارى ومجوس. وقال السدي في قوله تعالى: « طرائق قددا » قال: في الجن مثلكم قدرية، ومرجئة، وخوارج، ورافضة، وشيعة، وسنية. وقال قوم: أي وإنا بعد استماع القرآن مختلفون: منا المؤمنون ومنا الكافرون. أي ومنا الصالحون ومنا مؤمنون لم يتناهوا في الصلاح. والأول أحسن؛ لأنه كان في الجن من آمن بموسى وعيسى، وقد أخبر الله عنهم أنهم قالوا: « إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه » [ الأحقاف: 30 ] وهذا يدل على إيمان قوم منهم بالتوراة، وكان هذا مبالغة منهم في دعاء من دعوهم إلى الإيمان. وأيضا لا فائدة في قولهم: نحن الآن منقسمون إلى مؤمن وإلى كافر. والطرائق: جمع الطريقة وهي مذهب الرجل، أي كنا فرقا مختلفة. ويقال: القوم طرائق أي على مذاهب شتى. والقدد: نحو من الطرائق وهو توكيد لها، واحدها: قدة. يقال: لكل طريق قدة، وأصلها من قد السيور، وهو قطعها؛ قال لبيد يرثي أخاه أربد:

لم تبلغ العين كل نهمتها ليلة تمسي الجياد كالقدد

وقال آخر:

ولقد قلت وزيد حاسر يوم ولت خيل عمرو قددا

والقد بالكسر: سير يقد من جلد غير مدبوغ؛ ويقال: ماله قد ولا قحف؛ فالقد: إناء من جلد، والقحف: من خشب.

 

قوله تعالى: « وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض » الظن هنا بمعنى العلم واليقين، وهو خلاف الظن في قوله تعالى: « وأنا ظننا أن لن تقول » [ الجن: 5 ] ، « وأنهم ظنوا » [ الجن: 7 ] أي علمنا بالاستدلال والتفكر في آيات الله، أنا في قبضته وسلطانه، لن نفوته بهرب ولا غيره. و « هربا » مصدر في موضع الحال أي هاربين.

الآية [ 13 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات: 13 - 15 ( وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا، وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا، وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا )

 

قوله تعالى: « وأنا لما سمعنا الهدى » يعني القرآن « آمنا به » وبالله، وصدقنا محمدا صلى الله عليه وسلم على رسالته. وكان صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى الإنس والجن. قال الحسن: بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الإنس والجن، ولم يبعث الله تعالى قط رسولا من الجن، ولا من أهل البادية، ولا من النساء؛ وذلك قوله تعالى: « وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى » [ يوسف: 109 ] وقد تقدم هذا المعنى. وفي الصحيح: [ وبعثت إلى الأحمر والأسود ] أي الإنس والجن.

 

قوله تعالى: « فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا » قال ابن عباس: لا يخاف أن ينقص من حسناته ولا أن يزاد في سيئاته؛ لأن البخس النقصان

والرهق: العدوان وغشيان المحارم؛ قال الأعشى:

لا شيء ينفعني من دون رؤيتها هل يشتفي وامق ما لم يصب رهقا

الوامق: المحب؛ وقد وَمِقَه يمِقه بالكسر أي أحبه، فهو وامق. وهذا قول حكاه الله تعالى عن الجن؛ لقوة إيمانهم وصحة إسلامهم. وقراءة العامة « فلا يخاف » رفعا على تقدير فإنه لا يخاف. وقرأ الأعمش ويحيى وإبراهيم « فلا يخف » جزما على جواب الشرط وإلغاء الفاء.

 

قوله تعالى: « وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون » أي وأنا بعد استماع القرآن مختلفون، فمنا من أسلم ومنا من كفر. والقاسط: الجائر، لأنه عادل عن الحق، والمقسط: العادل؛ لأنه عادل إلى الحق؛ يقال: قسط: أي جار، وأقسط: إذا عدل؛ قال الشاعر:

قوم هم قتلوا ابن هند عنوة عمرا وهم قسطوا على النعمان

« فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا » أي قصدوا طريق الحق وتوخوه ومنه تحرى القبلة « وأما القاسطون » أي الجائرون عن طريق الحق والإيمان « فكانوا لجهنم حطبا »

أي وقودا. وقوله: « فكانوا » أي في علم الله تعالى.

 

الآيات: 16 - 17 ( وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا، لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا )

 

قوله تعالى: « وأن لو استقاموا على الطريقة » هذا من قول الله تعالى. أي لو آمن هؤلاء الكفار لوسعنا عليهم في الدنيا وبسطنا لهم في الرزق. وهذا محمول على الوحي؛ أي أوحى إلي أن لو استقاموا. ذكر ابن بحر: كل ما في هذه السورة من « إن » المكسورة المثقلة فهي حكاية لقول الجن الذين استمعوا القرآن، فرجعوا إلى قومهم منذرين، وكل ما فيها من أن المفتوحة المخففة فهي وحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن الأنباري: ومن كسر الحروف وفتح « وأن لو استقاموا » أضمر يمينا تاما، تأويلها: والله أن لو استقاموا على الطريقة؛ كما يقال في الكلام: والله أن قمت لقمت، ووالله لو قمت قمت؛ قال الشاعر:

أما والله أن لو كنت حرا وما بالحر أنت ولا العتيق

ومن فتح ما قبل المخففة نسقها - أعني الخفيفة - على « أوحي إلي أنه » ، « وأن لو استقاموا » أو على « آمنا به » وبأن لو استقاموا. ويجوز لمن كسر الحروف كلها إلى « أن » المخففة، أن يعطف المخففة على « أوحي إلي » أو على « آمنا به » ، ويستغني عن إضمار اليمين. وقراءة العامة بكسر الواو من « لو » لالتقاء الساكنين، وقرأ ابن وثاب والأعمش بضم الواو. و « ماء غدقا » أي واسعا كثيرا، وكانوا قد حبس عنهم المطر سبع سنين؛ يقال: غدقت العين تغدق، فهي غدقة، إذا كثر ماؤها. وقيل: المراد الخلق كلهم أي « لو استقاموا على الطريقة » طريقة الحق والإيمان والهدى وكانوا مؤمنين مطيعين « لأسقيناهم ماء غدقا » أي كثيرا « لنفتنهم فيه » أي لنختبرهم كيف شكرهم فيه على تلك النعم. وقال عمر في هذه الآية: أينما كان الماء كان المال، وأينما كان المال كانت الفتنة. فمعنى « لأسقيناهم » لوسعنا عليهم في الدنيا؛ وضرب الماء الغدق الكثير لذلك مثلا؛ لأن الخير والرزق كله بالمطر يكون، فأقيم مقامه؛ كقوله تعالى: « ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض » [ الأعراف: 96 ] وقوله تعالى: « ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم » [ المائدة: 66 ] أي بالمطر. والله أعلم. وقال سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والضحاك وقتادة ومقاتل وعطية وعبيد بن عمير والحسن: كان والله أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، ففتحت عليهم كنوز كسرى وقيصر والمقوقس والنجاشي، ففتنوا بها، فوثبوا على إمامهم فقتلوه. يعني عثمان بن عفان.

وقال الكلبي وغيره: « وأن لو استقاموا على الطريقة » التي هم عليها من الكفر فكانوا كلهم كفارا لوسعنا أرزاقهم مكرا بهم واستدراجا لهم، حتى يفتتنوا بها، فنعذبهم بها في الدنيا والآخرة. وهذا قول قال الربيع بن أنس وزيد بن أسلم وابنه والكلبي والثمالي ويمان بن رباب وابن كيسان وأبو مجلز؛ واستدلوا بقوله تعالى: « فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء » [ الأنعام: 44 ] الآية. وقوله تعالى: « ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة » [ الزخرف: 33 ] الآية؛ والأول أشبه؛ لأن الطريقة معرفة بالألف واللام، فالأوجب أن تكون طريقته طريقة الهدى؛ ولأن الاستقامة لا تكون إلا مع الهدى.

وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا ) قالوا: وما زهرة الدنيا؟ قال: ( بركات الأرض ) وذكر الحديث. وقال عليه السلام: ( فوالله ما الفقر أخشى عليكم، وإنما أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم ) .

 

قوله تعالى: « ومن يعرض عن ذكر ربه » يعني القرآن؛ قال ابن زيد. وفي إعراضه عنه وجهان: أحدهما عن القبول، إن قيل إنها في أهل الكفر. الثاني عن العمل، إن قيل إنها في المؤمنين. وقيل: « ومن يعرض عن ذكر ربه » أي لم يشكر نعمه « يسلكه عذابا صعدا » قرأ الكوفيون وعياش عن أبي عمرو « يسلكه » بالياء واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لذكر اسم الله أولا فقال: « ومن يعرض عن ذكر ربه » . الباقون « نسلكه » بالنون. وروي عن مسلم بن جندب ضم النون وكسر اللام. وكذلك قرأ طلحة والأعرج وهما لغتان، سلكه وأسلكه بمعنى؛ أي ندخله. « عذابا صعدا » أي شاقا شديدا. قال ابن عباس: هو جبل، في جهنم. أبو سعيد الخدري: كلما جعلوا أيديهم عليه ذابت. وعن ابن عباس: أن المعنى مشقة من العذاب. وذلك معلوم في اللغة أن الصعد: المشقة، تقول: تصعدني الأمر: إذا شق عليك؛ ومنه قول عمر: ما تصعدني شيء ما تصعدتني خطبة النكاح، أي ما شق علي. وعذاب صعد أي شديد.

والصعد: مصدر صعد؛ يقال: صعد صعدا وصعودا، فوصف به العذاب؛ لأنه يتصعد المعذب أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه. وقال أبو عبيدة: الصعد مصدر؛ أي عذابا ذا صعد، والمشي في الصعود يشق. والصعود: العقبة الكؤود. وقال عكرمة: هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها؛ فإذا انتهى إلى أعلاها حدر إلى جهنم. وقال الكلبي: يكلف الوليد بن المغيرة أن يصعد جبلا في النار من صخرة ملساء، يجذب من أمامه بسلاسل، ويضرب من خلفه بمقامع حتى يبلغ أعلاها، ولا يبلغ في أربعين سنة. فإذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها، ثم يكلف أيضا صعودها، فذلك دأبه أبدا، وهو قوله تعالى: « سأرهقه صعودا » [ المدثر: 17 ] .

 

الآية: 18 ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا )

 

قوله تعالى: « وأن المساجد لله » « أن » بالفتح، قيل: هو مردود إلى قوله تعالى: « قل أوحي إلي » [ الجن: 1 ] أي قل أوحي إلي أن المساجد لله. وقال الخليل: أي ولأن المساجد لله. والمراد البيوت التي تبنيها أهل الملل للعبادة. وقال سعيد بن جبير: قالت الجن كيف لنا أن نأتي المساجد ونشهد معك الصلاة ونحن ناؤون عنك؟ فنزلت: « وأن المساجد لله » أي بنيت لذكر الله وطاعته. وقال الحسن: أراد بها كل البقاع؛ لأن الأرض كلها مسجد للنبي صلى الله عليه وسلم، يقول: ( أينما كنتم فصلوا فأينما صليتم فهو مسجد ) وفي الصحيح: ( وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ) .

وقال سعيد بن المسيب وطلق بن حبيب: أراد بالمساجد الأعضاء التي يسجد عليها العبد، وهي القدمان والركبتان واليدان والوجه؛ يقول: هذه الأعضاء أنعم الله بها عليك، فلا تسجد لغيره بها، فتجحد نعمة الله. قال عطاء: مساجدك: أعضاؤك التي أمرت أن تسجد عليها لا تذللها لغير خالقها. وفي الصحيح عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: الجبهة - وأشار بيده إلى أنفه - واليدين والركبتين وأطراف القدمين ) . وقال العباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب ) . وقيل: المساجد هي الصلوات؛ أي لأن السجود لله. قاله الحسن أيضا. فإن جعلت المساجد المواضع فواحدها مسجد بكسر الجيم، ويقال بالفتح؛ حكاه الفراء. وإن جعلتها الأعضاء فواحدها مسجد بفتح الجيم. وقيل: هو جمع مسجد وهو السجود، يقال: سجدت سجودا ومسجدا، كما تقول: ضربت في الأرض ضربا ومضربا بالفتح: إذا سرت في ابتغاء الرزق. وقال ابن عباس: المساجد هنا مكة التي هي القبلة وسميت مكة المساجد؛ لأن كل أحد يسجد إليها. والقول الأول أظهر هذه الأقوال إن شاء الله، وهو مروى عن ابن عباس رحمه الله.

 

قوله تعالى: « لله » إضافة تشريف وتكريم، ثم خص بالذكر منها البيت العتيق فقال: « وطهر بيتي » [ الحج: 26 ] . وقال عليه السلام: ( لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد ) الحديث خرجه الأئمة. وقد مضى الكلام فيه. وقال عليه السلام: ( صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ) . قال ابن العربي: وقد روى من طريق لا بأس بها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، فإن صلاة فيه خير من مائة صلاة في مسجدي هذا ) ولو صح هذا لكان نصا.

قلت: هو صحيح بنقل العدل عن العدل حسب ما بيناه في سورة « إبراهيم » .

 

المساجد وإن كانت لله ملكا وتشريفا فإنها قد تنسب إلى غيره تعريفا؛ فيقال: مسجد فلان. وفي صحيح الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي أضمرت من الحفياء وأمدها ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق. وتكون هذه الإضافة بحكم المحلية كأنها في قبلتهم، وقد تكون بتحبيسهم، ولا خلاف بين الأمة في تحبيس المساجد والقناطر والمقابر وإن اختلفوا في تحبيس غير ذلك.

مع أن المساجد لله لا يذكر فيها إلا الله فإنه تجوز القسمة فيها للأموال. ويجوز وضع الصدقات فيها على رسم الاشتراك بين المساكين وكل من جاء أكل. ويجوز حبس الغريم فيها، وربط الأسير والنوم فيها، وسكنى المريض فيها، وفتح الباب للجار إليها، وإنشاد الشعر فيها إذا عري عن الباطل. وقد مضى هذا كله مبينا في سورة « التوبة » . و « النور » وغيرهما.

 

قوله تعالى: « فلا تدعوا مع الله أحدا » هذا توبيخ للمشركين في دعائهم مع الله غيره في المسجد الحرام. وقال مجاهد: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله، فأمر الله نبيه والمؤمنين أن يخلصوا لله الدعوة إذا دخلوا المساجد كلها. يقول: فلا تشركوا فيها صنما وغيره مما يعبد. وقيل: المعنى أفردوا المساجد لذكر الله، ولا تتخذوها هزوا ومتجرا ومجلسا، ولا طرقا، ولا تجعلوا لغير الله فيها نصيبا. وفي الصحيح: [ من نشد ضالة في المسجد فقولوا لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا ] وقد مضى في سورة « النور » ما فيه كفاية من أحكام المساجد والحمد لله.

 

روى الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: كان إذا دخل المسجد قدم رجله اليمنى. وقال: [ « وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا » اللهم أنا عبدك وزائرك وعلى كل مزور حق وأنت خير مزور فأسألك برحمتك أن تفك رقبتي من النار ] فإذا خرج من المسجد قدم رجله اليسرى؛ وقال: [ اللهم صب علي الخير صبا ولا تنزع عني صالح ما أعطيتني أبدا ولا تجعل معيشتي كدا، واجعل لي في الأرض جدا ] أي غنى.

 

الآيات: 19 - 21 ( وأنه لما قام عبدالله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا، قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا، قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا )

 

قوله تعالى: « وأنه لما قام عبدالله يدعوه » يجوز الفتح؛ أي أوحى الله إليه أنه. ويجوز الكسر على الاستئناف. و « عبد الله » هنا محمد صلى الله عليه وسلم حين كان يصلي ببطن نخلة ويقرأ القرآن، حسب ما تقدم أول السورة. « يدعوه » أي يعبده. وقال ابن جريج: « يدعوه » أي قام إليهم داعيا إلى الله تعالى. « كادوا يكونون عليه لبدا » قال الزبير بن العوام: هم الجن حين استمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم. أي كاد يركب بعضهم بعضا ازدحاما ويسقطون، حرصا على سماع القرآن. وقيل: كادوا يركبونه حرصا؛ قال الضحاك. ابن عباس: رغبة في سماع الذكر. وروى برد عن مكحول: أن الجن بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة وكانوا سبعين ألفا، وفرغوا من بيعته عند انشقاق الفجر. وعن ابن عباس أيضا: إن هذا من قول الجن لما رجعوا إلى قومهم أخبروهم بما رأوا من طاعة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وائتمامهم به في الركوع والسجود. وقيل: المعنى كاد المشركون يركبون بعضهم بعضا، حردا على النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الحسن وقتادة وابن زيد: يعني « لما قام عبد الله » محمد بالدعوة تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه، وأبى الله إلا أن ينصره ويتم نوره. واختار الطبري أن يكون المعنى: كادت العرب يجتمعون على النبي صلى الله عليه وسلم، ويتظاهرون على إطفاء النور الذي جاء به. وقال مجاهد: قوله « لبدا » جماعات وهو من تلبد الشيء على الشيء أي تجمع؛ ومنه اللبد الذي يفرش لتراكم صوفه، وكل شيء ألصقته إلصاقا شديدا فقد لبدته، وجمع اللبدة لبد مثل قربة وقرب. ويقال للشعر الذي على ظهر الأسد لبدة وجمعها لبد؛ قال زهير:

لدى أسد شاكي السلاح مقذف له لِبَد أظفاره لم تقلَّم

ويقال للجراد الكثير: لبد وفيه أربع لغات وقراءات؛ فتح الباء وكسر اللام، وهي قراءة العامة. وضم اللام وفتح الباء، وهي قراءة مجاهد وابن محيصن وهشام عن أهل الشام، واحدتها لبدة. وبضم اللام والباء، وهي قراءة أبي حيوة ومحمد بن السميقع وأبي الأشهب العقيلي والجحدري واحدها لبد مثل سقف وسقف ورهن ورهن. وبضم اللام وشد الباء وفتحها، وهي قراءة الحسن وأبي العالية والأعرج والجحدري أيضا واحدها لابد؛ مثل راكع وركع، وساجد وسجد. وقيل: اللبد بضم اللام وفتح الباء الشيء الدائم؛ ومنه قيل لنسر لقمان لبد لدوامه وبقائه؛ قال النابغة:

أخنى عليها الذي أخنى على لبد

القشيري: وقرئ « لبدا » بضم اللام والباء، وهو جمع لبيد، وهو الجولق الصغير. وفي الصحاح: [ وقوله تعالى ] « أهلكت مالا لبدا » أي جما.

ويقال أيضا: الناس لبد أي مجتمعون، واللبد أيضا الذي لا يسافر ولا يبرح [ منزله ] . قال الشاعر:

من امرئ ذي سماح لا تزال له بزلاء يعيا بها الجثامة اللبد

ويروى: اللبد. قال أبو عبيد: وهو أشبه.

والبزلاء: الرأي الجيد. وفلان نهاض ببزلاء: إذا كان ممن يقوم بالأمور العظام؛ قال الشاعر:

إني إذا شغلت قوما فروجهم رحب المسالك نهاض ببزلاء

ولبد: آخر نسور لقمان، وهو ينصرف؛ لأنه ليس بمعدول. وتزعم العرب أن لقمان هو الذي بعثته عاد في وفدها إلى الحرم يستسقي لها، فلما أهلكوا خير لقمان بين بقاء سبع بعرات سمر، من أظب عفر، في جبل وعر، لا يمسها القطر؛ أو بقاء سبعة أنسر كلما هلك نسر خلف بعده نسر، فاختار النسور، وكان آخر نسوره يسمى لبدا، وقد ذكرته الشعراء؛ قال النابغة:

أضحت خلاء وأمسى أهلها احتملوا أخنى عليها الذي أخنى على لبد

واللبيد: الجوالق الصغير؛ يقال: ألبدت القربة جعلتها في لبيد. ولبيد: اسم شاعر من بني عامر.

 

قوله تعالى: « قال إنما أدعو ربي » أي قال صلى الله عليه وسلم: « إنما أدعو ربي » « ولا أشرك به أحدا » وكذا قرأ أكثر القراء « قال » على الخبر. وقرأ حمزة وعاصم « قل » على الأمر. وسبب نزولها أن كفار قريش قالوا له: إنك جئت بأمر عظيم وقد عاديت الناس كلهم فارجع عن هذا فنحن نجيرك؛ فنزلت. « قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا » أي لا أقدر أن أدفع عنكم ضرا ولا أسوق لكم خيرا. وقيل: « لا أملك لكم ضرا » أي كفرا « ولا رشدا » أي هدى؛ أي إنما علي التبليغ. وقيل: الضر: العذاب، والرشد النعيم. وهو الأول بعينه. وقيل: الضر الموت، والرشد الحياة.

 

الآيات: 22 - 25 ( قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا، إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا، حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا، قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا )

 

قوله تعالى: « قل إني لن يجيرني من الله أحد » أي لا يدفع عذابه عني أحد إن استحفظته؛ وهذا لأنهم قالوا أترك ما تدعو إليه ونحن نجيرك. وروى أبو الجوزاء عن ابن مسعود قال: انطلقت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن حتى أتى الحجون فخط علي خطا، ثم تقدم إليهم فازدحموا عليه، فقال سيد لهم يقال له وردان: أنا أزجلهم عنك؛ فقال: ( إني لن يجيرني من الله أحد ) ذكره الماوردي. قال: ويحتمل معنيين أحدهما لن يجيرني مع إجارة الله لي أحد. الثاني لن يجيرني مما قدره الله تعالى علي أحد. « ولن أجد من دونه ملتحدا » أي ملتجأ ألجأ إليه؛ قال قتادة. وعنه: نصيرا ومولى. السدي: حرزا. الكلبي: مدخلا في الأرض مثل السرب. وقيل: وليا ولا مولى. وقيل: مذهبا ولا مسلكا. حكاه ابن شجرة، والمعنى واحد؛ ومنه قول الشاعر:

يا لهف نفسي ولهفي غير مجدية عني وما من قضاء الله ملتحد

 

قوله تعالى: « إلا بلاغا من الله ورسالاته » فإن فيه الأمان والنجاة؛ قال الحسن.

وقال قتادة: « إلا بلاغا من الله » فذلك الذي أملكه بتوفيق الله، فأما الكفر والإيمان فلا أملكهما. فعلى هذا يكون مردودا إلى قوله تعالى: « قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا » أي لا أملك لكم إلا أن أبلغكم. وقيل: هو استثناء ومنقطع من قوله: « لا أملك لكم ضرا ولا رشدا » أي إلا أن أبلغكم أي لكن أبلغكم ما أرسلت به؛ قاله الفراء. وقال الزجاج: هو منصوب على البدل من قوله: « ملتحدا » أي « ولن أجد من دونه ملتحدا » إلا أن أبلغ ما يأتيني من الله ورسالاته؛ أي ومن رسالاته التي أمرني بتبليغها. أو إلا أن أبلغ عن الله وأعمل برسالته، فآخذ نفسي بما أمر به غيري.

وقيل هو مصدر، و « لا » بمعنى لم، و « إن » للشرط. والمعنى لن أجد من دونه ملتحدا: أي إن لم أبلغ رسالات ربي بلاغا.

 

قوله تعالى: « ومن يعص الله ورسوله » في التوحيد والعبادة. « فإن له نار جهنم » كسرت إن؛ لأن ما بعد فاء الجزاء موضع ابتداء وقد تقدم. « خالدين فيها » نصب على الحال، وجمع « خالدين » لأن المعنى لكل من فعل ذلك، فوحد أولا للفظ « من » ثم جمع للمعنى. وقوله « أبدا » دليل على أن العصيان هنا هو الشرك. وقيل: هو المعاصي غير الشرك، ويكون معنى « خالدين فيها أبدا » إلا أن أعفو أو تلحقهم شفاعة، ولا محالة إذا خرجوا من الدنيا على الإيمان يلحقهم العفو. وقد مضى هذا المعنى مبينا في سورة « النساء » وغيرها.

 

قوله تعالى: « حتى إذا رأوا ما يوعدون » « حتى » هنا مبتدأ، أي « حتى إذا رأوا ما يوعدون » من عذاب الآخرة، أو ما يوعدون من عذاب الدنيا، وهو القتل ببدر « فسيعلمون » حينئذ « من أضعف ناصرا » أهم أم المؤمنون. « وأقل عددا » معطوف. « قل إن أدري أقريب ما توعدون » يعني قيام الساعة. وقيل: عذاب الدنيا؛ أي لا أدري « فإن » بمعنى « ما » أو « لا » ؛ أي لا يعرف وقت نزول العذاب ووقت قيام الساعة إلا الله؛ فهو غيب لا أعلم منه إلا ما يعرفنيه الله. و « ما » في قوله: « ما يوعدون » : يجوز [ أن يكون مع الفعل مصدرا، ويجوز ] أن تكون بمعنى الذي ويقدر حرف العائد. « أم يجعل له ربي أمدا » أي غاية وأجلا. وقرأ العامة بإسكان الياء من ربي. وقرأ الحرميان وأبو عمرو بالفتح.

 

الآيات: 26 - 27 ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا، إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا )

 

قوله تعالى: « عالم الغيب » « عالم » رفعا نعتا لقوله: « ربي » . وقيل: أي هو « عالم الغيب » والغيب ما غاب عن العباد. وقد تقدم بيانه. « فلا يظهر على غيبه أحدا. إلا من ارتضى من رسول » فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه؛ لأن الرسل مؤيدون بالمعجزات، ومنها الإخبار عن بعض الغائبات؛ وفي التنزيل: « وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم » [ آل عمران: 49 ] . وقال ابن جبير: « إلا من ارتضى من رسول » هو جبريل عليه السلام. وفيه بعد، والأولى أن يكون المعنى: أي لا يظهر على غيبه إلا من ارتضى أي اصطفى للنبوة، فإنه يطلعه على ما يشاء من غيبه: ليكون ذلك دالا على نبوته.

 

قال العلماء رحمة الله عليهم: لما تمدح سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل، فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوتهم. وليس المنجم ومن ضاهاه ممن يضرب بالحصى وينظر في الكتب ويزجر بالطير ممن ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه، بل هو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه. قال بعض العلماء: وليت شعري ما يقول المنجم في سفينة ركب فيها ألف إنسان على اختلاف أحوالهم، وتباين رتبهم، فيهم الملك والسوقة، والعالم والجاهل، والغني والفقير، والكبير والصغير، مع اختلاف طوالعهم، وتباين مواليدهم، ودرجات نجومهم؛ فعمهم حكم الغرق في ساعة واحدة؟ فإن قال المنجم قبحه الله: إنما أغرقهم الطالع الذي ركبوا فيه، فيكون على مقتضى ذلك أن هذا الطالع أبطل أحكام تلك الطوالع كلها على اختلافها عند ولادة كل واحد منهم، وما يقتضيه طالعه المخصوص به، فلا فائدة أبدا في عمل المواليد، ولا دلالة فيها على شقي ولا سعيد، ولم يبق إلا معاندة القرآن العظيم. وفيه استحلال دمه على هذا التنجيم، ولقد أحسن الشاعر حيث قال:

حكم المنجم أن طالعَ مولدي يقضي علي بمِيتة الغَرِق

قل للمنجم صَبحة الطوفان هل ولد الجميع بكوكب الغرق

وقيل لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما أراد لقاء الخوارج: أتلقاهم والقمر في العقرب؟ فقال رضي الله عنه: فأين قمرهم؟ وكان ذلك في آخر الشهر. فانظر إلى هذه الكلمة التي أجاب بها، وما فيها من المبالغة في الرد على من يقول بالتنجيم، والإفحام لكل جاهل يحقق أحكام النجوم. وقال له مسافر بن عوف: يا أمير المؤمنين! لا تسر في هذه الساعة وسر في ثلاث ساعات يمضين من النهار. فقال له علي رضي الله عنه: ولم؟ قال: إنك إن سرت في هذه الساعة أصابك وأصاب أصحابك بلاء وضر شديد، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظفرت وظهرت وأصبت ما طلبت. فقال علي رضي الله عنه: ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم منجم، ولا لنا من بعده - من كلام طويل يحتج فيه بآيات من التنزيل - فمن صدقك في هذا القول لم آمن عليه أن يكون كمن اتخذ من دون الله ندا أو ضدا، اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك. ثم قال للمتكلم: نكذبك ونخالفك ونسير في الساعة التي تنهانا عنها. ثم أقبل على الناس فقال: يا إيها الناس إياكم وتعلم النجوم إلا ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر؛ وإنما المنجم كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار، والله لئن بلغني أنك تنظر في النجوم وتعمل بها لأخلدنك في الحبس ما بقيت وبقيت، ولأحرمنك العطاء ما كان لي سلطان. ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها، ولقي القوم فقتلهم وهي وقعة النهروان الثابتة في الصحيح لمسلم. ثم قال: لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها وظفرنا وظهرنا لقال قائل سار في الساعة التي أمر بها المنجم، ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم منجم ولا لنا من بعده، فتح الله علينا بلاد كسرى وقيصر وسائر البلدان - ثم قال: يا أيها الناس! توكلوا على الله وثقوا به؛ فإنه يكفي ممن سواه.

 

قوله تعالى: « فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا » يعني ملائكة يحفظونه عن أن يقرب منه شيطان؛ فيحفظ الوحي من استراق الشياطين والإلقاء إلى الكهنة. قال الضحاك: ما بعث الله نبيا إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين عن أن يتشبهوا بصورة الملك، فإذا جاءه شيطان في صورة الملك قالوا: هذا شيطان فاحذره. وإن جاءه الملك قالوا: هذا رسول ربك. وقال ابن عباس وابن زيد: « رصدا » أي حفظة يحفظون النبي صلى الله عليه وسلم من أمامه وورائه من الجن والشياطين. قال قتادة وسعيد بن المسيب: هم أربعة من الملائكة حفظة.

وقال الفراء: المراد جبريل؛ كان إذا نزل بالرسالة نزلت معه ملائكة يحفظونه من أن تستمع الجن الوحي، فيلقوه إلى كهنتهم، فيسبقوا الرسول. وقال السدي: « رصدا » أي حفظة يحفظون الوحي، فما جاء من عند الله قالوا: إنه من عند الله، وما ألقاه الشيطان قالوا: إنه من الشيطان. و « رصدا » نصب على المفعول. وفي الصحاح: والرصد القوم يرصدون كالحرس، يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث وربما قالوا أرصادا. والراصد للشيء الراقب له؛ يقال: رصده يرصده رصدا ورصدا. والترصد الترقب والمرصد موضع الرصد.

 

الآية: 28 ( ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا )

 

قوله تعالى: « ليعلم » قال قتادة ومقاتل: أي ليعلم محمد أن الرسل قبله قد أبلغوا الرسالة كما بلغ هو الرسالة. وفيه حذف يتعلق به اللام؛ أي أخبرناه بحفظنا الوحي ليعلم أن الرسل قبله كانوا على مثل حالته من التبليغ بالحق والصدق. وقيل: ليعلم محمد أن قد أبلغ جبريل ومن معه إليه رسالة ربه؛ قال ابن جبير. قال: ولم ينزل الوحي إلا ومعه أربعة حفظة من الملائكة عليهم السلام. وقيل: ليعلم الرسل أن الملائكة بلغوا رسالات ربهم. وقيل: ليعلم الرسول أي رسول كان أن الرسل سواه بلغوا. وقيل: أي ليعلم إبليس أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم سليمة من تخليطه واستراق أصحابه. وقال ابن قتيبة: أي ليعلم الجن أن الرسل قد بلغوا ما نزل عليهم ولم يكونوا هم المبلغين باستراق السمع عليهم. وقال مجاهد: ليعلم من كذب الرسل أن المرسلين قد بلغوا رسالات ربهم. وقراءة الجماعة « ليعلم » بفتح الياء وتأويله ما ذكرناه. وقرأ ابن عباس ومجاهد وحميد ويعقوب بضم الياء أي ليعلم الناس أن الرسل قد أبلغوا. وقال الزجاج: أي ليعلم الله أن رسله قد أبلغوا رسالاته بفتح الياء؛ كقوله تعالى: « ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين » [ آل عمران: 142 ] المعنى ليعلم الله ذلك علم مشاهدة كما علمه غيبا. « وأحاط بما لديهم » أي أحاط علمه بما عندهم، أي بما عند الرسل وما عند الملائكة. وقال ابن جبير: المعنى: ليعلم الرسل أن ربهم قد أحاط علمه بما لديهم، فيبلغوا رسالاته. « وأحصى كل شيء عددا » أي أحاط بعدد كل شيء وعرفه وعلمه فلم يخف عليه منه شيء. و « عددا » نصب على الحال، أي أحصى كل شيء في حال العدد، وإن شئت على المصدر، أي أحصى وعد كل شيء عددا، فيكون مصدر الفعل المحذوف. فهو سبحانه المحصي المحيط العالم الحافظ لكل شيء وقد بينا جميعه في الكتاب الأسنى، في شرح أسماء الله الحسنى. والحمد لله وحده.

 

سورة المزمل

مقدمة السورة

 

( مكية ) وقال ابن عباس وقتادة: إلا آيتين منها: « واصبر على ما يقولون » [ المزمل: 10 ] والتي تليها؛ ذكره الماوردي. وقال الثعلبي: قوله تعالى: « إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى » [ المزمل: 20 ] إلى آخر السورة؛ فإنه نزل بالمدينة.

 

الآيات: 1 - 4 ( يا أيها المزمل، قم الليل إلا قليلا، نصفه أو انقص منه قليلا، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا )

 

قوله تعالى: « يا أيها المزمل » قال الأخفش سعيد: « المزمل » أصله المتزمل؛ فأدغمت التاء في الزاي وكذلك « المدثر » . وقرأ أبي بن كعب على الأصل « المتزمل » و « المتدثر » . وسعيد: « المزمل » . وفي أصل « المزمل » قولان: أحدهما أنه المحتمل؛ يقال: زمل الشيء إذا حمله، ومنه الزاملة؛ لأنها تحمل القماش. الثاني أن المزمل هو المتلفف؛ يقال: تزمل وتدثر بثوبه إذا تغطى. وزمل غيره إذا غطاه، وكل شيء لفف فقد زمل ودثر؛ قال امرؤ القيس:

كبير أناس في بجاد مزمل

قوله تعالى: « يا أيها المزمل » هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه ثلاثة أقوال: الأول قول عكرمة: « يا أيها المزمل » بالنبوة والملتزم للرسالة. وعنه أيضا: يا أيها الذي زمل هذا الأمر أي حمله ثم فتر، وكان يقرأ: « يا أيها المزمَّل » بتخفيف الزاي وفتح الميم وتشديدها على حذف المفعول، وكذلك « المدثر » والمعنى المزمل نفسه والمدثر نفسه، أو الذي زمله غيره. الثاني: « يا أيها المزمل » بالقرآن، قاله ابن عباس. الثالث المزمل بثيابه، قال قتادة وغيره. قال النخعي: كان متزملا بقطيفة. عائشة: بمرط طوله أربعة عشر ذراعا، نصفه علي وأنا نائمة، ونصفه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، والله ما كان خزا ولا قزا ولا مرعزاء ولا إبريسما ولا صوفا، كان سداه شعرا، ولحمته وبرا، ذكره الثعلبي.

قلت: وهذا القول من عائشة يدل على أن السورة مدنية؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبن بها إلا في المدينة. وما ذكر من أنها مكية لا يصح. والله أعلم.

وقال الضحاك: تزمل بثيابه لمنامه. وقيل: بلغه من المشركين سوء قول فيه، فاشتد عليه فتزمل في ثيابه وتدثر، فنزلت: « يا أيها المزمل » [ المزمل: 1 ] و « يا أيها المدثر » [ المدثر: 1 ] . وقيل: كان هذا في ابتداء ما أوحى إليه، فإنه لما سمع قول الملك ونظر إليه أخذته الرعدة فأتى أهله فقال: ( زملوني دثروني ) روي معناه عن ابن عباس. وقالت الحكماء: إنما خاطبه بالمزمل والمدثر في أول الأمر؛ لأنه لم يكن بعد ادثر شيئا من تبليغ الرسالة. قال ابن العربي: واختلف في تأويل: « يا أيها المزمل » فمنهم من حمله على حقيقته، قيل له: يا من تلفف في ثيابه أو في قطيفته قم؛ قال إبراهيم وقتادة. ومنهم من حمله على المجاز، كأنه قيل له: يا من تزمل بالنبوة؛ قاله عكرمة. وإنما يسوغ هذا التفسير لو كانت الميم مفتوحة مشددة بصيغة المفعول الذي لم يسم فاعله، وأما وهو بلفظ الفاعل فهو باطل.

قلت: وقد بينا أنها على حذف المفعول: وقد قرئ بها، فهي صحيحة المعنى. قال: وأما من قال إنه زمل القرآن فهو صحيح في المجاز، لكنه قد قدمنا أنه لا يحتاج إليه.

 

قال السهيلي: ليس المزمل باسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعرف به كما ذهب إليه بعض الناس وعدوه في أسمائه عليه السلام، وإنما المزمل اسم مشتق من حالته التي كان عليها حين الخطاب، وكذلك المدثر. وفي خطابه بهذا الاسم فائدتان: إحداهما الملاطفة؛ فإن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب وترك المعاتبة سموه باسم مشتق من حالته التي هو عليها؛ كقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي حين غاضب فاطمة رضي الله عنهما، فأتاه وهو نائم وقد لصق بجنبه التراب فقال له: ( قم يا أبا تراب ) إشعارا له أنه غير عاتب عليه، وملاطفة له. وكذلك قوله عليه السلام لحذيفة: ( قم يا نومان ) وكان نائما ملاطفة له، وإشعارا لترك العتب والتأنيب. فقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: « يا أيها المزمل قم » فيه تأنيس وملاطفة؛ ليستشعر أنه غير عاتب عليه. والفائدة الثانية: التنبيه لكل متزمل راقد ليله ليتنبه إلى قيام الليل وذكر الله تعالى فيه؛ لأن الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه مع المخاطب كل من عمل ذلك العمل واتصف بتلك الصفة.

 

قوله تعالى: « قم الليل » قراءة العامة بكسر الميم لالتقاء الساكنين. وقرأ أبو السمال بضم الميم إتباعا لضمة القاف. وحكى الفتح لخفته. قال عثمان بن جني: الغرض بهذه الحركة التبليغ بها هربا من التقاء الساكنين، فبأي حركة تحركت فقد وقع الغرض. وهو من الأفعال القاصرة غير المتعدية إلى مفعول، فأما ظرف الزمان والمكان فسائغ فيه، إلا أن ظرف المكان لا يتعدى إليه إلا بواسطة؛ لا تقول: قمت الدار حتى تقول قمت وسط الدار وخارج الدار. وقد قيل: إن « قم » هنا معناه صل؛ عبر به عنه واستعير له حتى صار عرفا بكثرة الاستعمال.

« الليل » حد الليل: من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. وقد تقدم بيانه في سورة « البقرة » . واختلف: هل كان قيامه فرضا وحتما، أو كان ندبا وحضا؟ والدلائل تقوي أن قيامه كان حتما وفرضا؛ وذلك أن الندب والحض لا يقع على بعض الليل دون بعض؛ لأن قيامه ليس مخصوصا به وقتا دون وقت. وأيضا فقد جاء التوقيت بذلك عن عائشة وغيرها على ما يأتي. واختلف أيضا: هل كان فرضا على النبي صلى الله عليه وسلم وحده، أو عليه وعلى من كان قبله من الأنبياء، أو عليه وعلى أمته؟ ثلاثة أقوال: الأول: قول سعيد بن جبير لتوجه الخطاب إليه خاصة. الثاني: قول ابن عباس، قال: كان قيام الليل فريضة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الأنبياء قبله. الثالث: قول عائشة وابن عباس أيضا وهو الصحيح؛ كما في صحيح مسلم عن زرارة بن أوفى أن سعد بن هشام بن عامر أراد أن يغزو في سبيل الله... الحديث، وفيه: فقلت لعائشة: أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: ألست تقرأ: « يا أيها المزمل » قلت: بلى! قالت فإن الله عز وجل افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا، وأمسك الله عز وجل خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء، حتى أنزل الله عز وجل في آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة. وذكر الحديث. وذكر وكيع ويعلى قالا: حدثنا مسعر عن سماك الحنفي قال: سمعت ابن عباس يقول لما أنزل أول « يا أيها المزمل » [ المزمل: 1 ] كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان حتى نزل آخرها، وكان بين أولها وآخرها نحو من سنة. وقال سعيد بن جبير: مكث النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عشر سنين يقومون الليل، فنزل بعد عشر سنين: « إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل » [ المزمل: 20 ] فخفف الله عنهم.

 

قوله تعالى: « إلا قليلا » استثناء من الليل، أي صل الليل كله إلا يسيرا منه؛ لأن قيام جميعه على الدوام غير ممكن، فاستثنى منه القليل لراحة الجسد. والقليل من الشيء ما دون النصف؛ فحكي عن وهب بن منبه أنه قال: القليل ما دون المعشار والسدس. وقال الكلبي ومقاتل: الثلث. « نصفه أو انقص منه قليلا » فكان ذلك تخفيفا إذ لم يكن زمان القيام محدودا، فقام الناس حتى ورمت أقدامهم، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: « علم أن لن تحصوه » [ المزمل: 20 ] . وقال الأخفش: « نصفه » أي أو نصفه؛ يقال: أعطه درهما درهمين ثلاثة: يريد: أو درهمين أو ثلاثة. وقال الزجاج: « نصفه » بدل من الليل و « إلا قليلا » استثناء من النصف. والضمير في « منه » و « عليه » للنصف. المعنى: قم نصف الليل أو انقص من النصف قليلا إلى الثلث أو زد عليه قليلا إلى الثلثين؛ فكأنه قال: قم ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه. وقيل: إن « نصفه » بدل من قوله: « قليلا » وكان مخيرا بين ثلاث: بين قيام النصف بتمامه، وبين الناقص منه، وبين قيام الزائد عليه؛ كأن تقدير الكلام: قم الليل إلا نصفه، أو أقل من نصفه، أو أكثر من نصفه. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ينزل الله عز وجل إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يمضى ثلث الليل الأول، فيقول أنا الملك أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له من ذا الذي يسألني فأعطيه من ذا الذي يستغفرني فأغفر له، فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر ) . ونحوه عن أبي هريرة وأبي سعيد جميعا وهو يدل على ترغيب قيام ثلثي الليل. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا مضى شطر الليل - أو ثلثاه - ينزل الله... ) الحديث. رواه من طريقين عن أبي هريرة هكذا على الشك. وقد جاء في كتاب النسائي عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله عز وجل يمهل حتى يمضى شطر الليل الأول، ثم يأمر مناديا يقول: هل من داع يستجاب له؟ هل من مستغفر يغفر له؟ هل من سائل يعطى؟ ) صححه أبو محمد عبدالحق؛ فبين هذا الحديث مع صحته معنى النزول، وأن ذلك يكون عند نصف الليل. وخرج ابن ماجة من حديث ابن شهاب، عن أبي سلمة وأبي عبدالله الأغر، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ينزل ربنا تبارك وتعالى حين يبقى ثلث الليل الآخر كل ليلة فيقول من يسألني فأعطيه؟ من يدعوني فأستجيب له؟ من يستغفرني فأغفر له؟ حتى يطلع الفجر ) . فكانوا يستحبون صلاة آخر الليل على أوله. قال علماؤنا: وبهذا الترتيب انتظم الحديث والقرآن، فإنهما يبصران من مشكاة واحدة. وفي الموطأ وغيره من حديث ابن عباس: بت عند خالتي ميمونة حتى إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل، استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام إلى شن معلق فتوضأ وضوءا خفيفا. وذكر الحديث.

 

اختلف العلماء في الناسخ للأمر بقيام الليل؛ فعن ابن عباس وعائشة أن الناسخ للأمر بقيام الليل قوله تعالى: « إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل » [ المزمل: 20 ] إلى آخر السورة. وقيل قوله تعالى: « علم أن لن تحصوه » [ المزمل: 20 ] .

وعن ابن عباس أيضا: هو منسوخ بقوله تعالى: « علم أن سيكون منكم مرضى » [ المزمل: 20 ] . وعن عائشة أيضا والشافعي ومقاتل وابن كيسان: هو منسوخ بالصلوات الخمس. وقيل الناسخ لذلك قوله تعالى: « فاقرؤوا ما تيسر منه » [ المزمل: 20 ] . قال أبو عبدالرحمن السلمي: لما نزلت: « يا أيها المزمل » قاموا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم، ثم نزل قوله تعالى: « فاقرؤوا ما تيسر منه » [ المزمل: 20 ] .

قال بعض العلماء: وهو فرض نسخ به فرض، كان على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة لفضله؛ كما قال تعالى: « ومن الليل فتهجد به نافلة لك » [ الإسراء: 79 ] .

قلت: القول الأول يعم جميع هذه الأقوال، وقد قال تعالى: « وأقيموا الصلاة » [ المزمل: 20 ] فدخل فيها قول من قال إن الناسخ الصلوات الخمس. وقد ذهب الحسن وابن سيرين إلى أن صلاة الليل فريضة على كل مسلم ولو على قدر حلب شاة. وعن الحسن أيضا أنه قال في هذه الآية: الحمد لله تطوع بعد الفريضة. وهو الصحيح إن شاء الله تعالى؛ لما جاء في قيامه من الترغيب والفضل في القرآن والسنة.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أجعل للنبي صلى الله عليه وسلم حصيرا يصلي عليه من الليل، فتسامع الناس به، فلما رأى جماعتهم كره ذلك، وخشي أن يكتب عليهم قيام الليل، فدخل البيت كالمغضب، فجعلوا يتنحنحون ويتفلون فخرج إليهم فقال: ( أيها الناس اكلفوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل من الثواب، حتى تملوا من العمل، وإن خير العمل أدومه وإن قل ) . فنزلت: « يا أيها المزمل » فكتب عليهم، فأنزل بمنزلة الفريضة، حتى إن كان أحدهم ليربط الحبل فيتعلق به، فمكثوا ثمانية أشهر، فرحمهم الله وأنزل: « إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل » [ المزمل: 20 ] فردهم الله إلى الفريضة، ووضع عنهم قيام الليل إلا ما تطوعوا به.

قلت: حديث عائشة هذا ذكره الثعلبي، ومعناه ثابت في الصحيح إلى قوله: ( وإن قل ) وباقيه يدل على أن قوله تعالى: « يا أيها المزمل » نزل بالمدينة وأنهم مكثوا ثمانية أشهر يقومون. وقد تقدم عنها في صحيح مسلم: حولا. وحكى الماوردي عنها قولا ثالثا وهو ستة عشر شهرا، لم يذكر غيره عنها. وذكر عن ابن عباس أنه كان بين أول المزمل وآخرها سنة؛ قال: فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان فرضا عليه. وفي نسخة عنه قولان: أحدهما: أنه كان فرضه عليه إلى أن قبضه الله تعالى. الثاني: أنه نسخ عنه كما نسخ عن أمته. وفي مدة فرضه إلى أن نسخ قولان: أحدهما: المدة المفروضة على أمته في القولين الماضيين، يريد قول ابن عباس حولا، وقول عائشة ستة عشر شهرا. الثاني: أنها عشر سنين إلى أن خفف عنه بالنسخ زيادة في التكليف، ليميزه بفعل الرسالة؛ قاله ابن جبير.

قلت: هذا خلاف ما ذكره الثعلبي عن سعيد بن جبير حسب ما تقدم فتأمله. وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان في آخر السورة إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « ورتل القرآن ترتيلا » أي لا تعجل بقراءة القرآن بل أقرأه في مهل وبيان مع تدبر المعاني. وقال الضحاك: اقرأه حرفا حرفا. وقال مجاهد: أحب الناس في القراءة إلى الله أعقلهم عنه. والترتيل التنضيد والتنسيق وحسن النظام؛ ومنه ثغر رتل ورتل، بكسر العين وفتحها: إذا كان حسن التنضيد. وتقدم بيانه في مقدمة الكتاب. وروى الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم، مر برجل يقرأ آية ويبكي، فقال: ( ألم تسمعوا إلى قول الله عز وجل: « ورتل القرآن ترتيلا » هذا الترتيل ) . وسمع علقمة رجلا يقرأ قراءة حسنة فقال: لقد رتل القرآن، فداه أبي وأمي، وقال أبو بكر بن طاهر: تدبر في لطائف خطابه، وطالب نفسك بالقيام بأحكامه، وقلبك بفهم معانيه، وسرك بالإقبال عليه. وروى عبدالله بن عمرو قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يؤتى بقارئ القرآن يوم القيامة، فيوقف في أول درج الجنة ويقال له أقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها ) خرجه أبو داود وقد تقدم في أول الكتاب. وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمد صوته بالقراءة مدا.

 

الآية: 5 ( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا )

 

قوله تعالى: « إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا » هو متصل بما فرض من قيام الليل، أي سنلقي عليك بافتراض صلاة الليل قولا ثقيلا يثقل حمله؛ لأن الليل للمنام، فمن أمر بقيام أكثره لم يتهيأ له ذلك إلا بحمل شديد على النفس ومجاهدة للشيطان، فهو أمر يثقل على العبد. وقيل: إنا سنوحي إليك القرآن، وهو قول ثقيل يثقل العمل بشرائعه. قال قتادة: ثقيل والله فرائضه وحدوده. مجاهد: حلاله وحرامه. الحسن: العمل به. أبو العالية: ثقيلا بالوعد والوعيد والحلال والحرام. محمد بن كعب: ثقيلا على المنافقين. وقيل: على الكفار؛ لما فيه من الاحتجاج عليهم، والبيان لضلالتهم وسب آلهتهم، والكشف عما حرفه أهل الكتاب. السدي: ثقيل بمعنى كريم؛ مأخوذ من قولهم: فلان ثقيل علي، أي يكرم علي. الفراء: « ثقيلا » رزينا ليس بالخفيف السفساف لأنه كلام ربنا. وقال الحسين بن الفضل: ثقيلا لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق، ونفس مزينة بالتوحيد. وقال ابن زيد: هو والله ثقيل مبارك، كما ثقل في الدنيا يثقل في الميزان يوم القيامة. وقيل: « ثقيلا » أي ثابتا كثبوت الثقيل في محله، ويكون معناه أنه ثابت الإعجاز، لا يزول إعجازه أبدا. وقيل: هو القرآن نفسه؛ كما جاء في الخبر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها - يعني صدرها - على الأرض، فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرى عنه. وفي الموطأ وغيره أنه عليه السلام سئل: كيف يأتيك الوحي؟ فقال: ( أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول ) . قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا.

قال ابن العربي: وهذا أولى؛ لأنه الحقيقة، وقد جاء: « وما جعل عليكم في الدين من حرج » [ الحج: 78 ] . وقال عليه السلام: « بعثت بالحنيفية السمحة » . وقيل: القول في هذه السورة: هو قول لا إله إلا الله؛ إذ في الخبر: خفيفة على اللسان ثقيلة في الميزان؛ ذكره القشيري.

 

الآيات: 6 - 7 ( إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا، إن لك في النهار سبحا طويلا )

 

قوله تعالى: « إن ناشئة الليل » قال العلماء: ناشئة الليل أي أوقاته وساعاته، لأن أوقاته تنشأ أولا فأولا؛ يقال: نشأ الشيء ينشأ: إذا ابتدأ وأقبل شيئا بعد شيء، فهو ناشئ وأنشأه الله فنشأ، ومنه نشأت السحابة إذا بدأت وأنشأها الله؛ فناشئة: فاعلة من نشأت تنشأ فهي ناشئة، ومنه قوله تعالى: « أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين » [ الزخرف: 18 ] والمراد إن ساعات الليل الناشئة، فاكتفى بالوصف عن الاسم، فالتأنيث للفظ ساعة، لأن كل ساعة تحدث. وقيل: الناشئة مصدر بمعنى ( قيام الليل ) كالخاطئة والكاذبة؛ أي إن نشأة الليل هي أشد وطئا. وقيل: إن ناشئة الليل قيام الليل. قال ابن مسعود: الحبشة يقولون: نشأ أي قام، فلعله أراد أن الكلمة عربية، ولكنها شائعة في كلام الحبشة، غالبة عليهم، وإلا فليس في القرآن ما ليس في لغة العرب. وقد تقدم بيان هذا في مقدمة الكتاب مستوفى.

 

بين تعالى في هذه الآية فضل صلاة الليل على صلاة النهار، وأن الاستكثار من صلاة الليل بالقراءة فيها ما أمكن، أعظم للأجر، وأجلب للثواب. واختلف العلماء في المراد بناشئة الليل؛ فقال ابن عمر وأنس بن مالك: هو ما بين المغرب والعشاء، تمسكا بأن لفظ نشأ يعطي الابتداء، فكان بالأولية أحق؛ ومنه قول الشاعر:

ولولا أن يقال صبا نصيب لقلت بنفسي النشأ الصغار

وكان علي بن الحسين يصلي بين المغرب والعشاء ويقول: هذا ناشئة الليل. وقال عطاء وعكرمة: إنه بدء الليل. وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: هي الليل كله؛ لأنه ينشأ بعد النهار، وهو الذي اختاره مالك بن أنس. قال ابن العربي: وهو الذي يعطيه اللفظ وتقتضيه اللغة. وقالت عائشة وابن عباس أيضا ومجاهد: إنما الناشئة القيام بالليل بعد النوم. ومن قام أول الليل قبل النوم فما قام ناشئة. فقال يمان وابن كيسان: هو القيام من آخر الليل. وقال ابن عباس: كانت صلاتهم أول الليل. وذلك أن الإنسان إذا نام لا يدري متى يستيقظ. وفي الصحاح: وناشئة الليل أول ساعاته. وقال القتبي: إنه ساعات الليل؛ لأنها تنشأ ساعة بعد ساعة. وعن الحسن ومجاهد: هي ما بعد العشاء الآخرة إلى الصبح. وعن الحسن أيضا: ما كان بعد العشاء فهو ناشئة. ويقال: ما ينشأ في الليل من الطاعات؛ حكاه الجوهري.

 

قوله تعالى: « هي أشد وطئا » قرأ أبو العالية وأبو عمرو وابن أبي إسحاق ومجاهد وحميد وابن محيصن وابن عامر والمغيرة وأبو حيوة « وطاء » بكسر الواو وفتح الطاء والمد، واختاره أبو عبيد. الباقون « وطئا » بفتح الواو وسكون الطاء مقصورة، واختاره أبو حاتم؛ من قولك: اشتدت على القوم وطأة سلطانهم. أي ثقل عليهم ما حملهم من المؤن، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( اللهم اشدد وطأتك على مضر ) فالمعنى أنها أثقل على المصلي من ساعات النهار. وذلك أن الليل وقت منام وتودع وإجمام، فمن شغله بالعبادة فقد تحمل المشقة العظيمة. ومن مد فهو مصدر واطأت وطاء ومواطأة أي وافقته. ابن زيد واطأته على الأمر مواطأة: إذا وافقته من الوفاق، وفلان يواطئ اسمه اسمي، وتواطؤوا عليه أي توافقوا؛ فالمعنى أشد موافقة بين القلب والبصر والسمع واللسان؛ لانقطاع الأصوات والحركات؛ قال مجاهد وابن أبي مليكة وغيرهما. وقال ابن عباس بمعناه، أي يواطئ السمع القلب؛ قال الله تعالى: « ليواطئوا عدة ما حرم الله » [ التوبة: 37 ] أي ليوافقوا. وقيل: المعنى أشد مهادا للتصرف في التفكر والتدبر. والوطاء خلاف الغطاء. وقيل: « أشد وطئا » بسكون الطاء وفتح الواو أي أشد ثباتا من النهار؛ فإن الليل يخلو فيه الإنسان بما يعمله، فيكون ذلك أثبت للعمل وأتقى لما يلهي ويشغل القلب. والوطء الثبات، تقول: وطئت الأرض بقدمي. وقال الأخفش: أشد قياما. الفراء: أثبت قراءة وقياما. وعنه: « أشد وطئا » أي أثبت للعمل وأدوم لمن أراد الاستكثار من العبادة، والليل وقت فراغ عن اشتغال المعاش، فعبادته تدوم ولا تنقطع. وقال الكلبي: « أشد وطئا » أي أشد نشاطا للمصلي؛ لأنه في، زمان راحته. وقال عبادة: « أشد وطأ » أي نشاطا للمصلي وأخف، وأثبت للقراءة.

 

قوله تعالى: « وأقوم قيلا » أي القراءة بالليل أقوم منها بالنهار؛ أي أشد استقامة واستمرارا على الصواب؛ لأن الأصوات هادئة، والدنيا ساكنة، فلا يضطرب على المصلي ما يقرؤه. قال قتادة ومجاهد: أي أصوب للقراءة وأثبت للقول؛ لأنه زمان التفهم. وقال أبو علي: « أقوم قيلا » أي أشد استقامة لفراغ البال بالليل. وقيل: أي أعجل إجابة للدعاء. حكاه ابن شجرة. وقال عكرمة: عبادة الليل أتم نشاطا، وأتم إخلاصا، وأكثر بركة. وعن زيد بن أسلم: أجدر أن يتفقه في القرآن. وعن الأعمش قال: قرأ أنس بن مالك « إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأصوب قيلا » فقيل له: « وأقوم قيلا » فقال: أقوم وأصوب وأهيأ: سواء. قال أبو بكر الأنباري: وقد ترامى ببعض هؤلاء الزائغين إلى أن قال: من قرأ بحرف يوافق معنى حرف من القرآن فهو. مصيب، إذا لم يخالف معنى ولم يأت بغير ما أراد الله وقصد له، واحتجوا بقول أنس هذا. وهو قول لا يعرج عليه ولا يلتفت إلى قائله؛ لأنه لو قرأ بألفاظ تخالف ألفاظ القرآن إذا قاربت معانيها واشتملت على عامتها، لجاز أن يقرأ في موضع « الحمد لله رب العالمين » [ الفاتحة: 2 ] : الشكر للباري ملك المخلوقين، ويتسع الأمر في هذا حتى يبطل لفظ جميع القرآن، ويكون التالي له مفتريا على الله عز وجل، كاذبا على رسوله صلى الله عليه وسلم ولا حجة لهم في قول ابن مسعود: نزل القرآن على سبعة أحرف، إنما هو كقول أحدكم: هلم وتعال وأقبل؛ لأن هذا الحديث يوجب أن القراءات المأثورة المنقولة بالأسانيد الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا اختلفت ألفاظها، واتفقت معانيها، كان ذلك فيها بمنزلة الخلاف في هلم، وتعال، وأقبل، فأما ما لم يقرأ به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعوهم رضي الله عنهم، فإنه من أورد حرفا منه في القرآن بهت ومال وخرج من مذهب الصواب. قال أبو بكر: والحديث الذي جعلوه قاعدتهم في هذه الضلالة حديث لا يصح عن أحد من أهل العلم؛ لأنه مبني على رواية الأعمش عن أنس، فهو مقطوع ليس بمتصل فيؤخذ به، من قبل أن الأعمش رأى أنسا ولم يسمع منه.

 

قوله تعالى: « إن لك في النهار سبحا طويلا » قراءة العامة بالحاء غير معجمة؛ أي تصرفا في حوائجك، وإقبالا وإدبارا وذهابا ومجيئا. والسبح: الجري والدوران، ومنه السابح في الماء؛ لتقلبه بيديه ورجليه. وفرس سابح: شديد الجري؛ قال امرؤ القيس:

مسح إذا ما السابحات على الونى أثرن الغبار بالكديد المركل

وقيل: السبح الفراغ؛ أي إن لك فراغا للحاجات بالنهار. وقيل: « إن لك في النهار سبحا » أي نوما، والتسبح التمدد؛ ذكره الخليل. وعن ابن عباس وعطاء: ( سبحا طويلا ) يعني فراغا طويلا لنومك وراحتك، فاجعل ناشئة الليل لعبادتك، وقال الزجاج: إن فاتك في الليل، شيء فلك في النهار فراغ الاستدراك.

وقرأ يحيى بن يعمر وأبو وائل « سبخا » بالخاء المعجمة. قال المهدوي: ومعناه النوم روى ذلك عن القارئين بهذه القراءة. وقيل: معناه الخفة والسعة والاستراحة؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة وقد دعت على سارق ردائها: ( لا تسبخي ( عنه ) بدعائك عليه ) . أي لا تخففي عنه إثمه؛ قال الشاعر:

فسبخ عليك الهم واعلم بأنه إذا قدر الرحمن شيئا فكائن

الأصمعي: يقال سبخ الله عنك الحمى أي خففها. وسبخ الحر: فتر وخف. والتسبيخ النوم الشديد. والتسبيخ أيضا توسيع القطن والكتان والصوف وتنفيشها؛ يقال للمرأة: سبخي قطنك. والسبيخ من القطن ما يسبخ بعد الندف، أي يلف لتغزله المرأة، والقطعة منه سبيخة، وكذلك من الصوف والوبر. ويقال لقطع القطن سبائخ؛ قال الأخطل يصف القناص والكلاب:

فأرسلوهن يذرين التراب كما يذري سبائخ قطن ندف أوتار

وقال ثعلب: السبخ بالخاء التردد والاضطراب، والسبخ أيضا السكون؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الحمى من فيح جهنم، فسبخوها بالماء ) أي سكنوها. وقال أبو عمرو: السبخ:: النوم والفراغ.

قلت: فعلى هذا يكون من الأضداد وتكون بمعنى السبح، بالحاء غير المعجمة.

 

الآية: 8 ( واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا )

 

قوله تعالى: « واذكر اسم ربك » أي ادعه بأسمائه الحسنى، ليحصل لك مع الصلاة محمود العاقبة. وقيل: أي اقصد بعملك وجه ربك، وقال سهل: اقرأ باسم الله الرحمن الرحيم في ابتداء صلاتك توصلك بركة قراءتها إلى ربك، وتقطعك عما سواه. وقيل: اذكر اسم ربك في وعده ووعيده، لتوفر على طاعته وتعدل عن معصيته. وقال الكلبي: صل لربك أي بالنهار.

قلت: وهذا حسن فإنه لما ذكر الليل ذكر النهار؛ إذ هو قسيمه؛ وقد قال الله تعالى: « وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر » [ الفرقان: 62 ] على ما تقدم.

 

قوله تعالى: « وتبتل إليه تبتيلا » التبتل: الانقطاع إلى عبادة الله عز وجل؛ أي انقطع بعبادتك إليه، ولا تشرك به غيره. يقال: بتلت الشيء أي قطعته، ومنه قولهم: طلقها بتة بتلة، وهذه صدقة بتة بتلة؛ أي بائنة منقطعة عن صاحبها،؛ أي قطع ملكه عنها بالكلية؛ ومنه مريم البتول لانقطاعها إلى الله تعالى، ويقال للراهب متبتل؛ لانقطاعه عن الناس، وانفراده بالعبادة، قال:

تضيء الظلام بالعشاء كأنها منارة ممسى راهب متبتل

وفي الحديث النهي عن التبتل، وهو الانقطاع عن الناس والجماعات. وقيل: إن أصله عند العرب التفرد؛ قال ابن عرفة. والأول أقوى لما ذكرنا. ويقال: كيف قال: تبتيلا، ولم يقل تبتلا؟ قيل له: لأن معنى تبتل بتل نفسه، فجيء به على معناه مراعاة لحق الفواصل.

 

قد مضى في ( المائدة ) في تفسير قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم » [ المائدة: 87 ] كراهة لمن تبتل وانقطع وسلك سبيل الرهبانية بما فيه كفاية. قال ابن العربي: وأما اليوم وقد مرجت عهود الناس، وخفت أماناتهم، واستولى الحرام على الحطام، فالعزلة خير من الخلطة، والعزبة أفضل من التأهل، ولكن معنى الآية: انقطع عن الأوثان والأصنام وعن عبادة غير الله، وكذلك قال مجاهد: معناه: أخلص له العبادة، ولم يرد التبتل، فصار التبتل مأمورا به في القرآن، منهيا عنه في السنة، ومتعلق الأمر غير متعلق النهي؛ فلا يتناقضان، وإنما بعث ليبين للناس ما نزل إليهم؛ فالتبتل المأمور به: الانقطاع إلى الله بإخلاص العبادة؛ كما قال تعالى: « وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين » [ البينة: 5 ] والتبتل المنهي عنه: هو سلوك مسلك النصارى في ترك النكاح والترهيب في الصوامع، لكن عند فساد الزمان يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شغف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن.

 

الآيات: 9 - 11 ( رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا، واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا، وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا )

 

قوله تعالى: « رب المشرق والمغرب » قرأ أهل الحرمين وابن محيصن ومجاهد وأبو عمرو وابن أبي إسحاق وحفص « رب » بالرفع على الابتداء والخبر « لا إله إلا هو » . وقيل: على إضمار « هو » . الباقون « رب » بالخفض على نعت الرب تعالى في قوله تعالى: « واذكر اسم ربك » « رب المشرق » ومن علم أنه رب المشارق والمغارب انقطع بعمله وأمله إليه. « فاتخذه وكيلا » أي قائما بأمورك. وقيل: كفيلا بما وعدك.

 

قوله تعالى: « واصبر على ما يقولون » أي من الأذى والسب والاستهزاء، ولا تجزع من قولهم، ولا تمتنع من دعائهم. « واهجرهم هجرا جميلا » أي لا تتعرض لهم، ولا تشتغل بمكافأتهم، فإن في ذلك ترك الدعاء إلى الله. وكان هذا قبل الأمر بالقتال، ثم أمر بعد بقتالهم وقتلهم، فنسخت آية القتال ما كان قبلها من الترك؛ قاله قتادة وغيره. وقال أبو الدرداء: إنا لنكشر في وجوه ( أقوام ) ونضحك إليهم وإن قلوبنا لتقليهم أو لتلعنهم.

 

قوله تعالى: « وذرني والمكذبين » أي أرض بي لعقابهم. نزلت في صناديد قريش ورؤساء مكة من المستهزئين. وقال مقاتل: نزلت في المطعمين يوم بدر وهم عشرة. وقد تقدم ذكرهم في « الأنفال » . وقال يحيى بن سلام: إنهم بنو المغيرة. وقال سعيد بن جبير أخبرت أنهم اثنا عشر رجلا. « أولي النعمة » أي أولي الغنى والترفه واللذة في الدنيا « ومهلهم قليلا » يعني إلى مدة آجالهم. قالت عائشة رضي الله عنها: لما نزلت هذه الآية لم يكن إلا يسيرا حتى وقعت وقعة بدر. وقيل: « ومهلهم قليلا » يعني إلى مدة الدنيا.

 

الآيات: 12 - 14 ( إن لدينا أنكالا وجحيما، وطعاما ذا غصة وعذابا أليما، يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا )

 

قوله تعالى: « إن لدينا أنكالا وجحيما » الأنكال: القيود. عن الحسن ومجاهد وغيرهما. واحدها نكل، وهو ما منع الإنسان من الحركة. وقيل: سمى نكلا، لأنه ينكل به. قال الشعبي: أترون أن الله تعالى جعل الأنكال في أرجل أهل النار خشية أن يهربوا؟ لا والله! ولكنهم إذا أرادوا أن يرتفعوا استفلت بهم.

وقال الكلبي: الأنكال: الأغلال، والأول أعرف في اللغة؛ ومنه قول الخنساء:

دعاك فقطعت أنكاله وقد كن قبلك لا تقطع

وقيل: إنه أنواع العذاب الشديد؛ قاله مقاتل. وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله يحب النكل على النكل ) بالتحريك، قال الجوهري. قيل: وما النكل؟ قال: ( الرجل القوي المجرب، على الفرس القوي المجرب ) ذكره الماوردي قال: ومن ذلك سمي القيد نكلا لقوته، وكذلك، الغل، وكل عذاب قوي فاشتد، والجحيم النار المؤججة. « وطعاما ذا غصة » أي غير سائغ؛ يأخذ بالحلق، لا هو نازل ولا هو خارج، وهو الغسلين والزقوم والضريع؛ قاله ابن عباس. وعنه أيضا: انه شوك يدخل الحلق، فلا ينزل ولا يخرج. وقال الزجاج: أي طعامهم الضريع؛ كما قال: « ليس لهم طعام إلا من ضريع » [ الغاشية: 6 ] وهو شوك كالعوسج. وقال مجاهد: هو الزقوم، كما قال: « إن شجرة الزقوم طعام الأثيم » [ الدخان:43 - 44 ] . والمعنى واحد. وقال حمران بن أعين: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم ( إن لدينا أنكالا وجحيما. وطعاما ذا غصة ) فصعق. وقال خليد بن حسان: أمسى الحسن عندنا صائما، فأتيته بطعام فعرضت له هذه الآية « إن لدينا أنكالا وجحيما. وطعاما » فقال: أرفع طعامك. فلما كانت الثانية أتيته بطعام فعرضت له هذه الآية، فقال: ارفعوه. ومثله في الثالثة؛ فانطلق ابنه إلى ثابت البناني ويزيد الضبي ويحيى البكاء فحدثهم، فجاؤوه فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق. والغصة: الشجا، وهو ما ينشب في الحلق من عظم أو غيره. وجمعها غصص. والغصص بالفتح مصدر قولك: غصصت يا رجل تغص، فأنت غاص بالطعام وغصان، وأغصصته أنا، والمنزل غاص بالقوم أي ممتلئ بهم.

 

قوله تعالى: « يوم ترجف الأرض والجبال » أي تتحرك وتضطرب بمن عليها. وانتصب « يوم » على الظرف أي ينكل بهم ويعذبون « يوم ترجف الأرض » . وقيل: بنزع الخافض؛ يعني هذه العقوبة في يوم ترجف الأرض والجبال. وقيل: العامل « ذرني » أي وذرني والمكذبين يوم ترجف الأرض والجبال. « وكانت الجبال كثيبا مهيلا » أي وتكون. والكثيب الرمل المجتمع - قال حسان:

عرفت ديار زينب بالكثيب كخط الوحي في الورق القشيب

والمهيل: الذي يمر تحت الأرجل. قال الضحاك والكلبي: المهيل: هو الذي إذا وطئته بالقدم زل من تحتها، وإذا أخذت أسفله انهال. وقال ابن عباس: « مهيلا » أي رملا سائلا متناثرا وأصله مهيول وهو مفعول من قولك: هلت عليه التراب أهيله هيلا: إذا صببته. يقال: مهيل ومهيول، ومكيل ومكيول، ومدين ومديون، ومعين ومعيون؛ قال الشاعر:

قد كان قومك يحسبونك سيدا وإدخال أنك سيد معيون

وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنهم شكوا إليه الجدوبة؛ فقال: ( أتكيلون أم تهيلون ) قالوا: نهيل. قال: ( كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه ) . وأهلت الدقيق لغة في هلت فهو مهال ومهيل. وإنما حذفت الواو، لأن الياء تثقل فيها الضمة، فحذفت فسكنت هي والواو فحذفت الواو لالتقاء الساكنين.

 

الآيات: 15 - 19 ( إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا، فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا، فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا، السماء منفطر به كان وعده مفعولا، إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا )

 

قوله تعالى: « إنا أرسلنا إليكم رسولا » يريد النبي صلى الله عليه وسلم أرسله إلى قريش « كما أرسلنا إلى فرعون رسولا » وهو موسى « فعصى فرعون الرسول » أي كذب به ولم يؤمن. قال مقاتل: ذكر موسى وفرعون؛ لأن أهل مكة ازدروا محمدا صلى الله عليه وسلم واستخفوا به؛ لأنه ولد فيهم، كما أن فرعون أزدرى موسى؛ لأنه رباه ونشأ فيما بينهم، كما قال تعالى: « ألم نربك فينا وليدا » [ الشعراء:18 ] .

قال المهدوي: ودخلت الألف واللام في الرسول لتقدم ذكره؛ ولذلك اختير في أول الكتب سلام عليكم، وفي آخرها السلام عليكم. « وبيلا » أي ثقيلا شديدا. وضرب وبيل وعذاب وبيل: أي شديد؛ قال ابن عباس ومجاهد. ومنه مطر وابل أي شديد؛ قال الأخفش. وقال الزجاج: أي ثقيلا غليظا.

ومنه قيل للمطر وابل. وقيل: مهلكا ( والمعنى عاقبناه عقوبة غليظة ) قال:

أكلت بنيك أكل الضب حتى وجدت مرارة الكلأ الوبيل

واستوبل فلان كذا: أي لم يحمد عاقبته. وماء وبيل: أي وخيم غير مريء، وكلأ مستوبل وطعام وبيل ومستوبل: إذا لم يمرئ ولم يستمرأ، قال زهير:

فقضوا منايا بينهم ثم أصدروا إلى كلأ مستوبل متوخم

وقالت الخنساء:

لقد أكلت بجيلة يوم لاقت فوارس مالك أكلا وبيلا

والوبيل أيضا: العصا الضخمة؛ قال:

لو أصبح في يمنى يدي زمامها وفي كفي الأخرى وبيل تحاذره

وكذلك الموبل بكسر الباء، والموبلة أيضا: الحزمة من الحطب، وكذلك الوبيل، قال طرفة:

عقيلة شيخ كالوبيل يلندد

 

قوله تعالى: « فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا » هو توبيخ وتقريع، أي كيف تتقون العذاب إن كفرتم. وفيه تقديم وتأخير، أي كيف تتقون يوما يجعل الولدان شيبا إن كفرتم. وكذا قراءة عبدالله وعطية.

قال الحسن: أي بأي صلاة تتقون العذاب؟ بأي صوم تتقون العذاب؟ وفيه إضمار، أي كيف تتقون عذاب يوم. وقال قتادة: والله ما يتقى من كفر بالله ذلك اليوم بشيء. و « يوما » مفعول بـ « تتقون » على هذه القراءة وليس بظرف، وإن قدر الكفر بمعنى الجحود كان اليوم مفعول « كفرتم » . وقال بعض المفسرين: وقف التمام على قوله: ( كفرتم ) والابتداء ( يوما ) يذهب إلى أن اليوم مفعول « يجعل » والفعل لله عز وجل، وكأنه قال: يجعل الله الولدان شيبا في يوم. قال ابن الأنباري؛ وهذا لا يصلح؛ لأن اليوم هو الذي يفعل هذا من شدة هوله. المهدوي: والضمير في « يجعل » يجوز أن يكون لله عز وجل، ويجوز أن يكون لليوم، وإذا كان لليوم صلح أن يكون صفة له، ولا يصلح ذلك إذا كان الضمير لله عز وجل إلا مع تقدير حذف؛ كأنه قال: يوما يجعل الله الولدان فيه شيبا. ابن الأنباري: ومنهم من نصب اليوم « بكفرتم » وهذا قبيح؛ لأن اليوم إذا علق بـ « كفرتم » احتاج إلى صفة؛ أي كفرتم بيوم. فإن احتج محتج بأن الصفة قد تحذف وينصب ما بعدها، احتججنا عليه بقراءة عبدالله « فكيف تتقون يوما » .

قلت: هذه القراءة ليست متواترة، وإنما جاءت على وجه التفسير. وإذا كان الكفر بمعنى الجحود فـ « يوما » مفعول صريح من غير صفة ولا حذفها؛ أي فكيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة والجزاء. وقرأ أبو السمال قعنب « فكيف تتقون » بكسر النون على الإضافة. و « الولدان » الصبيان. وقال السدي: هم أولاد الزنا. وقيل: أولاد المشركين. والعموم أصح؛ أي يشيب فيه الضمير من غير كبر. وذلك حين يقال: ( يا آدم قم فابعث بعث النار ) . على ما تقدم في أول سورة « الحج » . قال القشيري: ثم إن أهل الجنة يغير الله أحوالهم وأوصافهم على ما يريد.

وقيل: هذا ضرب مثل لشدة ذلك اليوم وهو مجاز؛ لأن يوم القيامة لا يكون فيه ولدان ولكن معناه أن هيبة ذلك اليوم بحال لو كان فيه هناك صبي لشاب رأسه من الهيبة. ويقال: هذا وقت الفزع، وقيل أن ينفخ في الصور نفخة الصعق، فالله أعلم. الزمخشري: وقد مر بي في بعض الكتب أن رجلا أمسى فاحم الشعر كحنك الغراب، فأصبح وهو أبيض الرأس واللحية كالثغامة، فقال: أريت القيامة والجنة والنار في المنام، ورأيت الناس يقادون في السلاسل إلى النار، فمن هول ذلك أصبحت كما ترون. ويجوز أن يوصف اليوم بالطول، وأن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة والشيب.

 

قوله تعالى: « السماء منفطر به » أي متشققة لشدته. ومعنى « به » أي فيه؛ أي في ذلك اليوم لهوله. هذا أحسن ما قيل فيه. ويقال: مثقلة به إثقالا يؤدي إلى انفطارها لعظمته عليها وخشيتها من وقوعه، كقوله تعالى: « ثقلت في السموات والأرض » [ الأعراف: 187 ] . وقيل: « به » أي له، أي لذلك اليوم؛ يقال: فعلت كذا بحرمتك ولحرمتك، والباء واللام وفي: متقاربة في مثل هذا الموضع؛ قال الله تعالى: « ونضع الموازين القسط ليوم القيامة » [ الأنبياء: 47 ] أي في يوم القيامة. وقيل: « به » أي بالأمر أي السماء منفطر بما يجعل الولدان شيبا. وقيل: منفطر بالله، أي بأمره، وقال أبو عمرو بن العلاء: لم يقل منفطرة؛ لأن مجازها السقف؛ تقول: هذا سماء البيت؛ قال الشاعر:

فلو رفع السماء إليه قوما لحقنا بالسماء وبالسحاب

وفي التنزيل: « وجعلنا السماء سقفا محفوظا » [ الأنبياء: 32 ] . وقال الفراء: السماء يذكر ويؤنث. وقال أبو علي: هو من باب الجراد المنتشر، والشجر الأخضر، و « أعجاز نخل منقعر » [ القمر: 20 ] . وقال أبو علي أيضا: أي السماء ذات انفطار؛ كقولهم: امرأة مرضع، أي ذات إرضاع، فجرى على طريق النسب. « كان وعده » أي بالقيامة والحساب والجزاء « مفعولا » كائنا لا شك فيه ولا خلف. وقال مقاتل: كان وعده بأن يظهر دينه على الدين كله.

 

قوله تعالى: « إن هذه تذكرة » يريد هذه السورة أو الآيات عظة. وقيل: آيات القرآن، إذ هو كالسورة الواحدة. « فمن شاء اتخذ إلى ربه » أي من أراد أن يؤمن ويتخذ بذلك إلى ربه « سبيلا » أي طريقا إلى رضاه ورحمته فليرغب، فقد أمكن له؛ لأنه أظهر له الحجج والدلائل. ثم قيل: نسخت بآية السيف، وكذلك قوله تعالى: « فمن شاء ذكره » [ المدثر: 55 ] قال الثعلبي: والأشبه أنه غير منسوخ.

 

الآية: 20 ( إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرؤوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم )

 

قوله تعالى: « إن ربك يعلم أنك تقوم » هذه الآية تفسير لقوله تعالى: « قم الليل إلا قليلا. نصفه أو انقص منه قليلا. أو زد عليه » [ المزمل: 4 ] كما تقدم، وهي الناسخة لفرضية قيام الليل كما تقدم. « تقوم » معناه تصلي و « أدنى » أي أقل. وقرأ ابن السميقع وأبو حيوة وهشام عن أهل الشام « ثلثي » بإسكان اللام. « ونصفه وثلثه » بالخفض قراءة العامة عطفا على « ثلثي » ؛ المعنى: تقوم أدنى من ثلثي الليل ومن نصفه وثلثه. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ كقوله تعالى: « علم أن لن تحصوه » فكيف يقومون نصفه أو ثلثه وهم لا يحصونه. وقرأ ابن كثير والكوفيون « ونصفه وثلثه » بالنصب عطفا على « أدنى » التقدير: تقوم أدنى من ثلثي الليل وتقوم نصفه وثلثه. قال الفراء: وهو أشبه بالصواب؛ لأنه قال أقل من الثلثين، ثم ذكر نفس القلة لا أقل من القلة. القشيري: وعلى هذه القراءة يحتمل أنهم كانوا يصيبون الثلث والنصف؛ لخفة القيام عليهم بذلك القدر، وكانوا يزيدون، وفي الزيادة إصابة المقصود، فأما الثلثان فكان يثقل عليهم قيامه فلا يصيبونه، وينقصون منه. ويحتمل أنهم أمروا بقيام نصف الليل، ورخص لهم في الزيادة والنقصان، فكانوا ينتهون في الزيادة إلى قريب من الثلثين، وفي النصف إلى الثلث. ويحتمل أنهم قدر لهم النصف وأنقص إلى الثلث، والزيادة إلى الثلثين، وكان فيهم من يفي بذلك، وفيهم من يترك ذلك إلى أن نسخ عنهم. وقال قوم: إنما افترض الله عليهم الربع، وكانوا ينقصون من الربع. وهذا القول تحكم.

 

قوله تعالى: « والله يقدر الليل والنهار » أي يعلم مقادير الليل والنهار على حقائقها، وأنتم تعلمون بالتحري والاجتهاد الذي يقع فيه الخطأ. « علم أن لن تحصوه » أي لن تطيقوا معرفة حقائق ذلك والقيام به. وقيل: أي لن تطيقوا قيام الليل. والأول أصح؛ فإن قيام الليل ما فرض كله قط. قال مقاتل وغيره: لما نزلت: « قم الليل إلا قليلا. نصفه أو انقص منه قليلا. أو زد عليه » [ المزمل: 4 ] شق ذلك عليهم، وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل من ثلثه، فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطئ، فانتقخت أقدامهم، وانتقعت ألوانهم، فرحمهم الله وخفف عنهم؛ فقال تعالى: « علم أن لن تحصوه » و « أن » مخففة من الثقيلة؛ أي علم أنكم لن تحصوه؛ لأنكم إن زدتم ثقل عليكم، واحتجتم إلى تكليف ما ليس فرضا، وإن نقصتم شق ذلك عليكم.

 

قوله تعالى: « فتاب عليكم » أي فعاد عليكم بالعفو، وهذا يدل على أنه كان فيهم في ترك بعض ما أمر به. وقيل: أي فتاب عليكم من فرض القيام إذ عجزتم. وأصل التوبة الرجوع كما تقدم؛ فالمعنى رجع لكم من تثقيل إلى تخفيف، ومن عسر إلى يسر. وإنما أمروا بحفظ الأوقات على طريق التحري، فخفف عنهم ذلك التحري. وقيل: معنى « والله يقدر الليل والنهار » يخلقهما مقدرين؛ كقوله تعالى: « وخلق كل شيء فقدره تقديرا » [ الفرقان: 2 ] . ابن العربي: تقدير الخلقة لا يتعلق به حكم، وإنما يربط الله به ما يشاء من وظائف، التكليف.

 

قوله تعالى: « فاقرؤوا ما تيسر من القرآن » فيه قولان: أحدهما أن المراد نفس القراءة؛ أي فاقرؤوا فيما تصلونه بالليل ما خف عليكم. قال السدي: مائة آية. الحسن: من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن. وقال كعب: من قرأ في ليلة مائة آية كتب من القانتين. وقال سعيد: خمسون آية.

قلت: قول كعب أصح؛ لقول عليه السلام: ( من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين ) خرجه أبو داود الطيالسي في مسنده من حديث عبدالله بن عمرو. وقد ذكرناه في مقدمة الكتاب والحمد لله. القول الثاني: « فاقرؤوا ما تيسر منه » أي فصلوا ما تيسر عليكم، والصلاة تسمى قرآنا؛ كقوله تعالى: « وقرآن الفجر » أي صلاة الفجر. ابن العربي: وهو الأصح؛ لأنه عن الصلاة أخبر، وإليها يرجع القول.

قلت: الأول أصح حملا للخطاب على ظاهر اللفظ، والقول الثاني مجاز؛ فإنه من تسمية الشيء ببعض ما هو من أعماله.

 

قال بعض العلماء: قوله تعالى: « فاقرؤوا ما تيسر منه » نسخ قيام الليل ونصفه، والنقصان من النصف والزيادة عليه. ثم احتمل قول الله عز وجل: « فاقرؤوا ما تيسر منه » معنيين أحدهما أن يكون فرضا ثانيا؛ لأنه أزيل به فرض غيره. والآخر أن يكون فرضا منسوخا أزيل بغيره كما أزيل به غيره؛ وذلك لقوله تعالى: « ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا » [ الإسراء: 79 ] فاحتمل قوله تعالى: « ومن الليل فتهجد به نافلة لك » [ الإسراء: 79 ] أي يتهجد بغير الذي فرض عليه مما تيسر منه. قال الشافعي: فكان الواجب طلب الاستدلال بالسنة على أحد المعنيين، فوجدنا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على أن لا واجب من الصلاة إلا الخمس.

 

قال القشيري أبو نصر: والمشهور أن نسخ قيام الليل كان في حق الأمة، وبقيت الفريضة في حق النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: نسخ التقدير بمقدار، وبقي أصل الوجوب؛ كقوله تعالى: « فما استيسر من الهدي » [ البقرة: 196 ] فالهدي لا بد منه، كذلك لم يكن بده من صلاة الليل، ولكن فوض قدره إلى اختيار المصلي، وعلى هذا فقد قال قوم: فرض قيام الليل بالقليل باق؛ وهو مذهب الحسن. وقال قوم: نسخ بالكلية، فلا تجب صلاة الليل أصلا؛ وهو مذهب الشافعي. ولعل الفريضة التي بقيت في حق النبي صلى الله عليه وسلم هي هذا، وهو قيامه، ومقداره مفوض إلى خيرته. وإذا ثبت أن القيام ليس فرضا فقوله تعالى: « فاقرؤوا ما تيسر منه » معناه أقرؤوا إن تيسر عليكم ذلك، وصلوا إن شئتم. وصار قوم إلى أن النسخ بالكلية تقرر في حق النبي صلى الله عليه وسلم أيضا، فما كانت صلاة الليل واجبة عليه. وقوله: « نافلة لك » [ الإسراء: 79 ] محمول على حقيقة النفل. ومن قال: نسخ المقدار وبقي أصل وجوب قيام الليل ثم نسخ، فهذا النسخ الثاني وقع ببيان مواقيت الصلاة؛ كقوله تعالى: « أقم الصلاة لدلوك الشمس » [ الإسراء: 78 ] ، وقوله: « فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون » [ الروم: 17 ] ، ما في الخبر من أن الزيادة على الصلوات الخمس تطوع. وقيل: وقع النسخ بقوله تعالى: « ومن الليل فتهجد به نافلة لك » [ الإسراء: 79 ] والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وللأمة، كما أن فرضية الصلاة وإن خوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: « يا أيها المزمل. قم الليل » [ المزمل: 1 ] كانت عامة له ولغيره. وقد قيل: إن فريضة الله امتدت إلى ما بعد الهجرة، ونسخت بالمدينة؛ لقوله تعالى: « علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله » ، وإنما فرض القتال بالمدينة؛ فعلى هذا بيان المواقيت جرى بمكة، فقيام الليل نسخ بقوله تعالى: « ومن الليل فتهجد به نافلة لك » [ الإسراء: 79 ] . وقال ابن عباس: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم نسخ قول الله تعالى: « إن ربك يعلم أنك تقوم » وجوب صلاة الليل.

 

قوله تعالى: « علم أن سيكون منكم مرضى » الآية؛ بين سبحانه علة تخفيف قيام الليل، فإن الخلق منهم المريض، ويشق عليهم قيام الليل، ويشق عليهم أن تفوتهم الصلاة، والمسافر في التجارات قد لا يطيق قيام الليل، والمجاهد كذلك، فخفف الله عن الكل لأجل هؤلاء. و « أن » في « أن سيكون » مخففة من الثقيلة؛ أي علم أنه سيكون.

 

سوى الله تعالى في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحلال للنفقة على نفسه وعياله، والإحسان والإفضال، فكان هذا دليلا على أن كسب المال بمنزلة الجهاد؛ لأنه جمعه مع الجهاد في سبيل الله. وروى إبراهيم عن علقمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما من جالب يجلب طعاما من بلد إلى بلد فيبيعه بسعر يومه إلا كانت منزلته عند الله منزلة الشهداء ) ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: « وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله » وقال ابن مسعود: أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا، فباعه بسعر يومه كان له عند الله منزلة الشهداء. وقرأ « وآخرون يضربون في الأرض » الآية. وقال ابن عمر: ما خلق الله موتة أموتها بعد الموت في سبيل الله أحب إلي من الموت بين شعبتي رحلي، ابتغى من فضل الله ضاربا في الأرض. وقال طاوس: الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله. وعن بعض السلف أنه كان بواسط، فجهز سفينة حنطة إلى البصرة، وكتب إلى وكيله: بع الطعام يوم تدخل البصرة، ولا تؤخره إلى غد، فوافق سعة في السعر؛ فقال التجار للوكيل: إن أخرته جمعة ربحت فيه أضعافه، فأخره جمعة فربح فيه أمثاله، فكتب إلى صاحبه بذلك، فكتب إليه صاحب الطعام: يا هذا! إنا كنا قنعنا بربح يسير مع سلامة ديننا، وقد جنيت علينا جناية، فإذا أتاك كتابي هذا فخذ المال وتصدق به على فقراء البصرة، وليتني أنجو من الاحتكار كفافا لا علي ولا لي. ويروى أن غلاما من أهل مكة كان ملازما للمسجد، فافتقده ابن عمر، فمشى إلى بيته، فقالت أمه: هو على طعام له يبيعه؛ فلقيه فقال له: يا بني! ما لك وللطعام؟ فهلا إبلا، فهلا بقرا، فهلا غنما! إن صاحب الطعام يحب المحل، وصاحب الماشية يحب الغيث.

 

قوله تعالى: « فاقرؤوا ما تيسر منه » أي صلوا ما أمكن؛ فأوجب الله من صلاة الليل ما تيسر، ثم نسخ ذلك بإيجاب الصلوات الخمس على ما تقدم. قال ابن العربي وقد قال قوم: إن فرض قيام الليل سن في ركعتين من هذه الآية؛ قال البخاري وغيره، وعقد بابا ذكر فيه حديث ( يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة مكانها: عليك ليل طويل فارقد. فإن استيقظ فذكر الله أنحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى أنحلت عقده كلها، فأصبح نشيطا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان ) وذكر حديث سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم الرؤيا قال: ( أما الذي يثلغ رأسه بالحجر فإنه يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة ) . وحديث عبدالله بن مسعود قال: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل ينام الليل كله فقال: ( ذلك رجل بال الشيطان في أذنيه ) فقال ابن العربي: فهذه أحاديث مقتضية حمل مطلق الصلاة على المكتوبة؛ فيحمل المطلق على المقيد لاحتماله له، وتسقط الدعوى ممن عينه لقيام الليل. وفي الصحيح واللفظ للبخاري: قال عبدالله بن عمرو: وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا عبدالله لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل ) ولو كان فرضا ما أقره النبي صلى الله عليه وسلم عليه، ولا أخبر بمثل هذا الخبر عنه، بل كان يذمه غاية الذم، وفي الصحيح عن عبدالله بن عمر قال: كان الرجل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصها على النبي صلى الله عليه وسلم، وكنت غلاما شابا عزبا، وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا لها قرنان، وإذا فيها ناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار. قال: ولقينا ملك آخر، فقال لي: لم ترع. فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ( نعم الرجل عبدالله لو كان يصلي من الليل ) فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلا؛ فلو كان ترك القيام معصية لما قال له الملك: لم ترع. والله أعلم.

 

إذا ثبت أن قيام الليل ليس بفرض، وأن قوله: « فاقرؤوا ما تيسر من القرآن » ، « فاقرؤوا ما تيسر منه » محمول على ظاهره من القراءة في الصلاة فاختلف العلماء في قدر ما يلزمه أن يقرأ به في الصلاة؛ فقال مالك والشافعي: فاتحة الكتاب لا يجزئ العدول عنها، ولا الاقتصار على بعضها، وقدره أبو حنيفة بآية واحدة، من أي القرآن كانت. وعنه ثلاث آيات؛ لأنها أقل سورة. ذكر القول الأول الماوردي والثاني ابن العربي. ولصحيح ما ذهب إليه مالك والشافعي، على ما بيناه في سورة « الفاتحة » أول الكتاب والحمد لله. وقيل: إن المراد به قراءة القرآن في غير الصلاة؛ قال الماوردي: فعلى هذا يكون مطلق هذا الأمر محمولا على الوجوب، أو على الاستحباب دون الوجوب. وهذا قول الأكثرين؛ لأنه لو وجب عليه أن يقرأ لوجب عليه أن يحفظه. الثاني أنه محمول على الوجوب؛ ليقف بقراءته على إعجازه، وما فيه من دلائل التوحيد وبعث الرسل، ولا يلزمه إذا قرأه وعرف إعجازه ودلائل التوحيد منه أن يحفظه؛ لأن حفظ القرآن من القرب المستحبة دون الواجبة. وفي قدر ما تضمنه هذا الأمر من القراءة خمسة أقوال: أحدها جميع القرآن؛ لأن الله تعالى يسره على عباده؛ قاله الضحاك. الثاني ثلث القرآن؛ حكاه جويبر. الثالث مائتا آية؛ قال السدي. الرابع مائة آية؛ قال ابن عباس. الخامس ثلاث آيات كأقصر سورة؛ قاله أبو خالد الكناني.

 

قوله تعالى: « وأقيموا الصلاة » يعني المفروضة وهي الخمس لوقتها. « وآتوا الزكاة » الواجبة في أموالكم؛ قال عكرمة وقتادة. وقال الحارث العكلي: صدقة الفطر لأن زكاة الأموال وجبت بعد ذلك. وقيل: صدقة التطوع. وقيل: كل أفعال الخير.

وقال ابن عباس: طاعة الله والإخلاص له.

 

قوله تعالى: « وأقرضوا الله قرضا حسنا » القرض الحسن ما قصد به وجه الله تعالى خالصا من المال الطيب. وقد مضى في سورة « الحديد » بيانه. وقال زيد بن أسلم: القرض الحسن النفقة على الأهل. وقال عمر بن الخطاب: هو النفقة في سبيل الله.

 

قوله تعالى: « وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله » وروي عن عمر بن الخطاب أنه اتخذ حيسا - يعني تمرا بلبن - فجاءه مسكين فأخذه ودفعه إليه. فقال بعضهم: ما يدري هذا المسكين ما هذا؟ فقال عمر: لكن رب المسكين يدري ما هو وكأنه تأول: « وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا » أي مما تركتم وخلفتم، ومن الشح والتقصير. « وأعظم أجرا » قال أبو هريرة: الجنة؛ ويحتمل أن يكون أعظم أجرا؛ لإعطائه بالحسنة عشرا. ونصب « خيرا وأعظم » على المفعول الثاني « لتجدوه » و « هو » : فضل عند البصريين، وعماد في قول الكوفيين، لا محل له من الإعراب. و « أجرا » تمييز. « واستغفروا الله » أي سلوه المغفرة لذنوبكم « إن الله غفور » لما كان قبل التوبة « رحيم » لكم بعدها؛ قاله سعيد بن جبير. ختمت السورة.

 

سورة المدثر

 

الآيات: 1 - 4 ( يا أيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبر، وثيابك فطهر )

 

قوله تعالى: « يا أيها المدثر » أي يا ذا الذي قد تدثر بثيابه، أي تغشى بها ونام، وأصله المتدثر فأدغمت التاء في الدال لتجانسهما. وقرأ أبي « المتدثر » على الأصل.

وقال مقاتل: معظم هذه السورة في الوليد بن المغيرة. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحدث - قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي - قال في حديثه: ( فبينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالسا على كرسي بين السماء والأرض ) . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فجئثت منه فرقا، فرجعت فقلت زملوني زملوني، فدثروني، فأنزل الله تعالى: « يا أيها المدثر. قم فأنذر. وربك فكبر. وثيابك فطهر. والرجز فاهجر » ) في رواية - قبل أن تفرض الصلاة - وهي الأوثان قال: ( ثم تتابع الوحي ) . خرجه الترمذي أيضا وقال: حديث حسن صحيح. قال مسلم: وحدثنا زهير بن حرب، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: حدثنا الأوزاعي قال: سمعت يحيى يقول: سألت أبا سلمة: أي القرآن أنزل قبل؟ قال: « يا أيها المدثر » فقلت: أو « أقرأ » . فقال: سألت جابر بن عبدالله أي القرآن أنزل قبل؟ قال: « يا أيها المدثر » فقلت: أو « أقرأ » فقال جابر: أحدثكم ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ( جاورت بحراء شهرا، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت بطن الوادي، فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فلم أرا أحدا، ثم نوديت فنظرت فلم أر أحدا، ثم نوديت فرفعت رأسي فإذا هو على العرش في الهواء - يعني جبريل صلى الله عليه وسلم فأخذتني رجفة شديدة، فأتيت خديجة فقلت دثروني، فدثروني فصبوا علي ماء، فأنزل الله عز وجل: « يا أيها المدثر. قم فأنذر. وربك فكبر وثيابك فطهر » ) خرجه البخاري وقال فيه: ( فأتيت خديجة فقلت دثروني وصبوا علي ماء باردا، فدثروني وصبوا علي ماء باردا فنزلت: « يا أيها المدثر. قم فأنذر. وربك فكبر. وثيابك فطهر. والرجز فاهجر. ولا تمنن تستكثر » ) . ابن العربي: وقد قال بعض المفسرين إنه جرى على النبي صلى الله عليه وسلم من عقبة ( بن ربيعة ) أمر، فرجع إلى منزله مغموما، فقلق واضطجع، فنزلت: « يا أيها المدثر » وهذا باطل. وقال القشيري أبو نصر: وقيل بلغه قول كفار مكة أنت ساحر، فوجد من ذلك غما وحم، فتدثر بثيابه، فقال الله تعالى: « قم فانذر » أي لا تفكر في قولهم، وبلغهم الرسالة.

وقيل: اجتمع أبو لهب وأبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وأمية بن خلف والعاص بن وائل ومطعم بن عدي وقالوا: قد اجتمعت وفود العرب في أيام الحج، وهم يتساءلون عن أمر محمد، وقد اختلفتم في الإخبار عنه؛ فمن قائل يقول مجنون، وآخر يقول كاهن، وآخر يقول شاعر، وتعلم العرب أن هذا كله لا يجتمع في رجل واحد، فسموا محمدا باسم واحد يجتمعون عليه، وتسميه العرب به، فقام منهم رجل فقال: شاعر؛ فقال الوليد: سمعت كلام ابن الأبرص، وأمية بن أبي الصلت، وما يشبه كلام محمد كلام واحد منهما؛ فقالوا: كاهن. فقال: الكاهن يصدق ويكذب وما كذب محمد قط؛ فقام آخر فقال: مجنون؛ فقال الوليد: المجنون يخنق الناس وما خنق محمد قط. وانصرف الوليد إلى بيته، فقالوا: صبأ الوليد بن المغيرة؛ فدخل عليه أبو جهل وقال: مالك يا أبا عبد شمس! هذه قريش تجمع لك شيئا يعطونكه، زعموا أنك قد احتجت وصبأت. فقال الوليد: ما لي إلى ذلك حاجة، ولكني فكرت في محمد، فقلت: ما يكون من الساحر؟ فقيل: يفرق بين الأب وابنه، وبين الأخ وأخيه، وبين المرأة وزوجها، فقلت: إنه ساحر. شاع هذا في الناس وصاحوا يقولون: إن محمدا ساحر. ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته محزونا فتدثر بقطيفة، ونزلت: « يا أيها المدثر » . وقال عكرمة: معنى « يا أيها المدثر » أي المدثر بالنبوة وأثقالها. ابن العربي: وهذا مجاز بعيد؛ لأنه لم يكن تنبأ بعد. وعلى أنها أول القرآن لم يكن تمكن منها بعد أن كانت ثاني ما نزل.

 

قوله تعالى: « يا أيها المدثر » : ملاطفة في الخطاب من الكريم إلى الحبيب إذ ناداه بحاله، وعبر عنه بصفته، ولم يقل يا محمد ويا فلان، ليستشعر اللين والملاطفة من ربه كما تقدم في سورة « المزمل » . ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي إذ نام في المسجد: ( قم أبا تراب ) وكان خرج مغاضبا لفاطمة رضي الله عنها فسقط رداؤه وأصابه ترابه؛ خرجه مسلم. ومثله قوله عليه الصلاة والسلام لحذيفة ليلة الخندق: ( قم يا نومان ) وقد تقدم. « قم فأنذر » أي خوف أهل مكة وحذرهم العذاب إن لم يسلموا. وقيل: الإنذار هنا إعلامهم بنبوته؛ لأنه مقدمة الرسالة. وقيل: هو دعاؤهم إلى التوحيد؛ لأنه المقصود بها. وقال الفراء: قم فصل وأمر بالصلاة. « وربك فكبر » أي سيدك ومالكك ومصلح أمرك فعظم، وصفه بأنه أكبر من أن يكون له صاحبة أو ولد. وفي حديث أنهم قالوا: بم تفتتح الصلاة؟ فنزلت: « وربك فكبر » أي وصفه بأنه أكبر. قال ابن العربي: وهذا القول وإن كان يقتضي بعمومه تكبير الصلاة، فإنه مراد به التكبير والتقديس والتنزيه، لخلع الأنداد والأصنام دونه، ولا تتخذ وليا غيره، ولا تعبد سواه، ولا ترى لغيره فعلا إلا له، ولا نعمة إلا منه. وقد روي أن أبا سفيان قال يوم أحد: اعل هبل؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( قولوا الله أعلى وأجل ) وقد صار هذا اللفظ بعرف الشرع في تكبير العبادات كلها أذانا وصلاة وذكرا بقوله: « الله أكبر » وحمل عليه لفظ النبي صلى الله عليه وسلم الوارد على الإطلاق في موارد؛ منها قوله: ( تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم ) والشرع يقتضي بعرفه ما يقتضي بعمومه، ومن موارده أوقات الإهلال بالذبائح لله تخليصا له من الشرك، وإعلانا باسمه في النسك، وإفرادا لما شرع منه لأمره بالسفك.

قلت: قد تقدم في أول سورة « البقرة » أن هذا اللفظ « الله أكبر » هو المتعبد به في الصلاة، المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي التفسير: أنه لما نزل قوله تعالى: « وربك فكبر » قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ( الله أكبر ) فكبرت خديجة، وعلمت أنه الوحي من الله تعالى؛ ذكره القشيري.

 

الفاء في قوله تعالى: « وربك فكبر » دخلت على معنى جواب الجزاء كما دخلت في ( فأنذر ) أي قم فأنذر وقم فكبر ربك؛ قاله الزجاج. وقال ابن جني: هو كقولك زيدا فاضرب؛ أي زيدا اضرب، فالفاء زائدة.

 

قوله تعالى: « وثيابك فطهر » فيه ثمانية أقوال: أحدهما أن المراد بالثياب العمل. الثاني القلب. الثالث النفس. الرابع الجسم. الخامس الأهل. السادس الخلق. السابع الدين. الثامن الثياب الملبوسات على الظاهر. فمن ذهب إلى القول الأول قال: تأويل الآية وعملك فأصلح؛ قال مجاهد وابن زيد. وروى منصور عن أبي رزين قال: يقول وعملك فأصلح؛ قال: وإذا كان الرجل خبيث العمل قالوا إن فلانا خبيث الثياب، وإذا كان حسن العمل قالوا إن فلانا طاهر الثياب؛ ونحوه عن السدي. ومنه قول الشاعر:

لا هم إن عامر بن جهم أو ذم حجا في ثياب دسم

ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يحشر المرء في ثوبيه اللذين مات عليهما ) يعني عمله الصالح والطالح؛ ذكره الماوردي. ومن ذهب إلى القول الثاني قال: إن تأويل الآية وقلبك فطهر؛ قاله ابن عباس وسعيد بن جبير؛ دليله قول امرئ القيس:

فسُلِّي ثيابي من ثيابك تنسل

أي قلبي من قلبك. قال الماوردي: ولهم في تأويل الآية وجهان: أحدهما: معناه وقلبك فطهر من الإثم والمعاصي؛ قاله ابن عباس وقتادة. الثاني: وقلبك فطهر من الغدر؛ أي لا تغدر فتكون دنس الثياب. وهذا مروي عن ابن عباس، واستشهد بقول غيلان بن سلمة الثقفي:

فإني بحمد الله لا ثوب فاجر لبست ولا من غدرة أتقنع

ومن ذهب إلى القول الثالث قال: تأويل الآية ونفسك فطهر؛ أي من الذنوب. والعرب تكني عن النفس بالثياب؛ قاله ابن عباس. ومنه قول عنترة:

فشككت بالرمح الطويل ثيابه ليس الكريم على القنا بمحرم

وقال امرؤ القيس:

فسلي ثيابي من ثيابك تنسل

وقال:

ثياب بني عوف طهارى نقية وأوجههم بيض المسافر غران

أي أنفس بني عوف. ومن ذهب إلى القول الرابع قال: تأويل الآية وجسمك فطهر؛ أي عن المعاصي الظاهرة. ومما جاء عن العرب في الكناية عن الجسم بالثياب قول ليلى، وذكرت إبلا:

رموها بأثياب خفاف فلا ترى لها شبها إلا النعام المنفرا

أي ركبوها فرموها بأنفسهم.

ومن ذهب إلى القول الخامس قال: تأويل الآية وأهلك فطهرهم من الخطايا بالوعظ والتأديب؛ والعرب تسمي الأهل ثوبا ولباسا وإزارا؛ قال الله تعالى: « هن لباس لكم وأنتم لباس لهن » [ البقرة: 187 ] . الماوردي: ولهم في تأويل الآية وجهان: أحدهما: معناه ونساءك فطهر، باختيار المؤمنات العفائف. الثاني: الاستمتاع بهن في القبل دون الدبر، في الطهر لا في الحيض. حكاه ابن بحر. ومن ذهب إلى القول السادس قال: تأويل الآية وخلقك فحسن قاله الحسن والقرظي؛ لأن خلق الإنسان مشتمل على أحواله اشتمال ثيابه على نفسه. وقال الشاعر:

ويحيى لا يلام بسوء خلق ويحيى طاهر الأثواب حر

أي حسن الأخلاق. ومن ذهب إلى القول السابع قال: تأويل الآية ودينك فطهر. وفي الصحيحين عنه عليه السلام قال: ( ورأيت الناس وعليهم ثياب، منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك، ورأيت عمر بن الخطاب وعليه إزار يجره ) . قالوا: يا رسول الله فما أولت ذلك؟ قال: الدين. وروى ابن وهب عن مالك أنه قال: ما يعجبني أن أقرأ القرآن إلا في الصلاة والمساجد لا في الطريق، قال الله تعالى: « وثيابك فطهر » يريد مالك أنه كنى عن الثياب بالدين. وقد روى عبدالله بن نافع عن أبي بكر بن عبدالعزيز بن عبدالله بن عمر بن الخطاب عن مالك بن أنس في قوله تعالى: « وثيابك فطهر » أي لا تلبسها على غدرة؛ ومنه قول أبي كبشة:

ثياب بني عوف طهارى نقية وأوجههم بيض المسافر غران

يعني بطهارة ثيابهم: سلامتهم من الدناءات، ويعني بغرة وجوههم تنزيههم عن المحرمات، أو جمالهم في الخلقة أو كليهما؛ قال ابن العربي. وقال سفيان بن عيينة: لا تلبس ثيابك على كذب ولا جور ولا غدر ولا إثم؛ قاله عكرمة. ومنه قول الشاعر:

أو ذم حجا في ثياب دسم

أي قد دنسها بالمعاصي. وقال النابغة:

رقاق النعال طيب حجزاتهم يُحَيون بالريحان يوم السباسب

ومن ذهب إلى القول الثامن قال: إن المراد بها الثياب الملبوسات، فلهم في تأويله أربعة أوجه: أحدهما: معناه وثيابك فأنق؛ ومنه قول امرئ القيس:

ثياب بني عوف طهارى نقية

الثاني: وثيابك فشمر وقصر، فإن تقصير الثياب أبعد من النجاسة، فإذا انجرت على الأرض لم يؤمن أن يصيبها ما ينجسها، قال الزجاج وطاوس. الثالث: « وثيابك فطهر » من النجاسة بالماء؛ قال محمد بن سيرين وابن زيد والفقهاء. الرابع: لا تلبس ثيابك إلا من كسب حلال لتكون مطهرة من الحرام. وعن ابن عباس: لا تكن ثيابك التي تلبس من مكسب غير طاهر. ابن العربي وذكر بعض ما ذكرناه: ليس بممتنع أن تحمل الآية على عموم المراد فيها بالحقيقة والمجاز، وإذا حملناها على الثياب المعلومة الطاهرة فهي تتناول معنيين: أحدهما: تقصير الأذيال؛ لأنها إذا أرسلت تدنست، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لغلام من الأنصار وقد رأى ذيله مسترخيا: ارفع إزارك فإنه أتقى وأنقى وأبقى. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه، لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين، ما كان أسفل من ذلك ففي النار ) فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الغاية في لباس الإزار الكعب وتوعد ما تحته بالنار، فما بال رجال يرسلون أذيالهم، ويطيلون ثيابهم، ثم يتكلفون رفعها بأيديهم، وهذه حالة الكبر، وقائدة العجب، ( وأشد ما في الأمر أنهم يعصون وينجسون ويلحقون أنفسهم ) بمن لم يجعل الله معه غيره ولا ألحق به سواه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء ) ولفظ الصحيح: ( من جر إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة ) . قال أبو بكر: يا رسول الله! إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لست ممن يصنعه خيلاء ) فعم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي، واستثنى الصديق، فأراد الأدنياء إلحاق أنفسهم بالرفعاء، وليس ذلك لهم.

والمعنى الثاني: غسلها من النجاسة وهو ظاهر منها، صحيح فيها. المهدوي: وبه استدل بعض العلماء على وجوب طهارة الثوب؛ قال ابن سيرين وابن زيد: لا تصل إلا في ثوب طاهر. واحتج بها الشافعي على وجوب طهارة الثوب. وليست عند مالك وأهل المدينة بفرض، وكذلك طهارة البدن، ويدل على ذلك الإجماع على جواز الصلاة بالاستجمار من غير غسل. وقد مضى هذا القول في سورة « التوبة » مستوفى.

 

الآية: 5 ( والرجز فاهجر )

 

قوله تعالى: « والرجز فاهجر » قال مجاهد وعكرمة: يعني الأوثان؛ دليله قوله تعالى: « فاجتنبوا الرجس من الأوثان » [ الحج: 30 ] . قاله ابن عباس وابن زيد. وعن ابن عباس أيضا: والمأثم فاهجر؛ أي فاترك. وكذا روى مغيرة عن إبراهيم النخعي قال: الرجز الإثم. وقال قتادة: الرجز: إساف ونائلة، صنمان كانا عند البيت. وقيل: الرجز العذاب، على تقدير حذف المضاف؛ المعنى: وعمل الرجز فاهجر، أو العمل المؤدي إلى العذاب. وأصل الرجز العذاب، قال الله تعالى: « لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك » [ الأعراف: 134 ] . وقال تعالى: « فأرسلنا عليهم رجزا من السماء » [ الأعراف: 162 ] . فسميت الأوثان رجزا؛ لأنها تؤدي إلى العذاب. وقراءة العامة « الرجز » بكسر الراء. وقرأ الحسن وعكرمة ومجاهد وابن محيصن وحفص عن عاصم « والرجز » بضم الراء وهما لغتان مثل الذكر والذكر. وقال أبو العالية والربيع والكسائي: الرجز بالضم: الصنم، وبالكسر: النجاسة والمعصية. وقال الكسائي أيضا: بالضم: الوثن، وبالكسر: العذاب. وقال السدي: الرجز ينصب الراء: الوعيد.

 

الآية: 6 ( ولا تمنن تستكثر )

 

قوله تعالى: « ولا تمنن تستكثر » فيه أحد عشر تأويلا؛ الأول: لا تمنن على ربك بما تتحمله من أثقال النبوة، كالذي يستكثر ما يتحمله بسبب الغير. الثاني: لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها؛ قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة. قال الضحاك: هذا حرمه الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مأمور بأشرف الآداب وأجل الأخلاق، وأباحه لأمته؛ وقال مجاهد. الثالث: عن مجاهد أيضا لا تضعف أن تستكثر من الخير؛ من قولك حبل منين إذا كان ضعيفا؛ ودليله قراءة ابن مسعود « ولا تمنن تستكثر من الخير » . الرابع: عن مجاهد أيضا والربيع: لا تعظم عملك في عينك أن تستكثر من الخير، فإنه مما أنعم الله عليك. قال ابن كيسان: لا تستكثر عملك فتراه من نفسك، إنما عملك منة من الله عليك؛ إذ جعل الله لك سبيلا إلى عبادته. الخامس: قال الحسن: لا تمنن على الله بعملك فتستكثره. السادس: لا تمنن بالنبوة والقرآن على الناس فتأخذ منهم أجرا تستكثر به. السابع: قال القرظي: لا تعط مالك مصانعة. الثامن: قال زيد بن أسلم: إذا أعطيت عطية فأعطها لربك. التاسع: لا تقل دعوت فلم يستجب لي. العاشر: لا تعمل طاعة وتطلب ثوابها، ولكن اصبر حتى يكون الله هو الذي يثيبك عليها. الحادي عشر: لا تفعل الخير لترائي به الناس.

 

هذه الأقوال وإن كانت مرادة فأظهرها قول ابن عباس: لا تعط لتأخذ أكثر مما أعطيت من المال؛ يقال: مننت فلانا كذا أي أعطيته. ويقال للعطية المنة؛ فكأنه أمر بأن تكون عطاياه لله، لا لارتقاب ثواب من الخلق عليها؛ لأنه عليه السلام ما كان يجمع الدنيا، ولهذا قال: [ ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم ] . وكان ما يفضل من نفقة عياله مصروفا إلى مصالح المسلمين؛ ولهذا لم يورث؛ لأنه كان لا يملك لنفسه الادخار والاقتناء، وقد عصمه الله تعالى عن الرغبة في شيء من الدنيا؛ ولذلك حرمت عليه الصدقة وأبيحت له الهدية، فكان يقبلها ويثيب عليها. وقال: [ لو دعيت إلى كراع لأجبت ولو أهدي إلي ذراع لقبلت ] ابن العربي: وكان يقبلها سنة ولا يستكثرها شرعة، وإذا كان لا يعطي عطية يستكثر بها فالأغنياء أولى بالاجتناب؛ لأنها باب من أبواب المذلة، وكذلك قول من قال: إن معناها لا تعطي عطية تنتظر ثوابها، فإن الانتظار تعلق بالأطماع، وذلك في حيزه بحكم الامتناع، وقد قال الله تعالى له: « ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى » [ طه: 131 ] . وذلك جائز لسائر الخلق؛ لأنه من متاع الدنيا، وطلب الكسب والتكاثر بها. وأما من قال أراد به العمل أي لا تمنن بعملك على الله فتستكثره فهو صحيح؛ فإن ابن آدم لو أطاع الله عمره من غير فتور لما بلغ لنعم الله بعض الشكر.

 

قوله تعالى: « ولا تمنن » قراءة العامة بإظهار التضعيف. وقرأ أبو السمال العدوي وأشهب العقيلي والحسن « ولا تمن » مدغمة مفتوحة. « تستكثر » : قراءة العامة بالرفع وهو في معنى الحال، تقول: جاء زيد يركض أي راكضا؛ أي لا تعط شيئا مقدرا أن تأخذ بدله ما هو أكثر منه. وقرأ الحسن بالجزم على جواب النهي وهو رديء؛ لأنه ليس بجواب. ويجوز أن يكون بدلا من « تمنن » كأنه قال: لا تستكثر. وأنكره أبو حاتم وقال: لأن المن ليس بالاستكثار فيبدل منه. ويحتمل أن يكون سكن تخفيفا كعضد. أو أن يعتبر حال الوقف. وقرأ الأعمش ويحيى « تستكثر » بالنصب، توهم لام كي، كأنه قال: ولا تمنن لتستكثر. وقيل: هو بإضمار « أن » كقوله:

( ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى )

ويؤيده قراءة ابن مسعود « ولا تمنن أن تستكثر » . قال الكسائي: فإذا حذف « أن » رفع وكان المعنى واحدا. وقد يكون المن بمعنى التعداد على المنعم عليه بالنعم، فيرجع إلى القول الثاني:، ويعضده قوله تعالى: « لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى » [ البقرة: 264 ] وقد يكون مرادا في هذه الآية. والله أعلم.

 

الآية: 7 ( ولربك فاصبر )

 

قوله تعالى: « ولربك فاصبر » أي ولسيدك ومالكك فاصبر على أداء فرائضه وعبادته. وقال مجاهد: على ما أوذيت. وقال ابن زيد: حملت أمرا عظيما؛ محاربة العرب والعجم، فاصبر عليه لله. وقيل: فاصبر تحت موارد القضاء لأجل الله تعالى.

وقيل: فاصبر على البلوى؛ لأنه يمتحن أولياءه وأصفياءه. وقيل: على أوامره ونواهيه. وقيل: على فراق الأهل والأوطان.

 

الآيات: 8 - 10 ( فإذا نقر في الناقور، فذلك يومئذ يوم عسير، على الكافرين غير يسير )

 

قوله تعالى: « فإذا نقر في الناقور » إذا نفخ في الصور. والناقور: فاعول من النقر، كأنه الذي من شأنه أن ينقر فيه للتصويت، والنقر في كلام العرب: الصوت؛ ومنه قول امرئ القيس:

أخفضه بالنقر لما علوته ويرفع طرفا غير خاف غضيض

وهم يقولون: نقر باسم الرجل إذ دعاه مختص له بدعائه. وقال مجاهد وغيره: هو كهيئة البوق، ويعني به النفخة الثانية. وقيل: الأولى؛ لأنها أول الشدة الهائلة العامة. وقد مضى الكلام في هذا مستوفى في « النمل » و « الأنعام » وفي كتاب « التذكرة » ، والحمد لله. وعن أبي حبان قال: أمنا زرارة بن أوفى فلما بلغ « فإذا نقر في الناقور » خر ميتا. « فذلك يومئذ يوم عسير » أي فذلك اليوم يوم شديد « على الكافرين » أي على من كفر بالله وبأنبيائه صلى الله عليهم « غير يسير » أي، غير سهل ولا هين؛ وذلك أن عقدهم لا تنحل إلا إلى عقدة أشد منها، بخلاف المؤمنين الموحدين المذنبين فإنها تنحل إلى ما هو أخف منها حتى يدخلوا الجنة برحمة الله تعالى. و « يومئذ » نصب، على تقدير فذلك يوم عسير يومئذ. وقيل: جر بتقدير حرف جر، مجازه: فذلك في يومئذ. وقيل: يجوز أن يكون رفعا إلا أنه بني على الفتح لإضافته إلى غير متمكن.

 

الآيات: 11 - 17 ( ذرني ومن خلقت وحيدا، وجعلت له مالا ممدودا، وبنين شهودا، ومهدت له تمهيدا، ثم يطمع أن أزيد، كلا إنه كان لآياتنا عنيدا، سأرهقه صعودا )

 

قوله تعالى: « ذرني ومن خلقت وحيدا » « ذرني » أي دعني؛ وهي كلمة وعيد وتهديد. « ومن خلقت » أي دعني والذي خلقته وحيدا؛ فـ « وحيدا » على هذا حال من ضمير المفعول المحذوف، أي خلقته وحده، لا مال له ولا ولد، ثم أعطيته بعد ذلك ما أعطيته. والمفسرون على أنه الوليد بن المغيرة المخزومي، وإن كان الناس خلقوا مثل خلقه. وإنما خص بالذكر لاختصاصه بكفر النعمة وإيذاء الرسول عليه السلام، وكان يسمى الوحيد في قومه. قال ابن عباس: كان الوليد يقول: أنا الوحيد بن الوحيد، ليس لي في العرب نظير، ولا لأبي المغيرة نظير، وكان يسمى الوحيد؛ فقال الله تعالى: « ذرني ومن خلقت » بزعمه « وحيدا » لا أن الله تعالى صدقه بأنه وحيد. وقال قوم: إن قوله تعالى: « وحيدا » يرجع إلى الرب تعالى على معنيين: أحدهما: ذرني وحدي معه فأنا أجزيك في الانتقام منه عن كل منتقم. والثاني: أني أنفردت بخلقه ولم يشركني فيه أحد، فأنا أهلكه ولا أحتاج إلى ناصر في إهلاكه؛ « فوحيدا » على هذا حال من ضمير الفاعل، وهو التاء في « خلقت » والأول قول مجاهد، أي خلقته وحيدا في بطن أمه لا مال له ولا ولد، فأنعمت عليه فكفر؛ فقوله: « وحيدا » على هذا يرجع إلى الوليد، أي لم يكن له شيء فملكته. وقيل: أراد بذلك ليدله على أنه يبعث وحيدا كما خلق وحيدا. وقيل: الوحيد الذي لا يعرف أبوه، وكان الوليد معروفا بأنه دعي، كما ذكرنا في قوله تعالى: « عتل بعد ذلك زنيم » [ القلم: 13 ] وهو في صفة الوليد أيضا.

 

قوله تعالى: « وجعلت له مالا ممدودا » أي خولته وأعطيته مالا ممدودا، وهو ما كان للوليد بين مكة والطائف من الإبل والحجور والنعم والجنان والعبيد والجواري، كذا كان ابن عباس يقول: وقال مجاهد: غلة ألف دينار، قال سعيد بن جبير وابن عباس أيضا. وقال قتادة: ستة آلاف دينار. وقال سفيان الثوري وقتادة: أربعة آلاف دينار. الثوري أيضا: ألف ألف دينار. مقاتل: كان له بستان لا ينقطع خيره شتاء ولا صيفا. وقال عمر رضى الله عنه: « وجعلت له مالا ممدودا » غلة شهر بشهر. النعمان بن سالم: أرضا يزرع فيها. القشيري: والأظهر أنه إشارة إلى ما لا ينقطع رزقه، بل يتوالى كالزرع والضرع والتجارة.

 

قوله تعالى: « وبنين شهودا » أي حضورا لا يغيبون عنه في تصرف. قال مجاهد وقتادة: كانوا عشرة. وقيل: اثنا عشر؛ قال السدي والضحاك. قال الضحاك: سبعة ولدوا بمكة وخمسة ولدوا بالطائف. وقال سعيد بن جبير: كانوا ثلاثة عشر ولدا. مقاتل: كانوا سبعة كلهم رجال، اسلم منهم ثلاثة: خالد وهشام والوليد بن الوليد. قال: فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك. وقيل: شهودا، أي إذا ذكر ذكروا معه؛ قاله ابن عباس. وقيل: شهودا، أي قد صاروا مثله في شهود ما كان يشهده، والقيام بما كان يباشره. والأول قول السدي، أي حاضرين مكة لا يظعنون عنه في تجارة ولا يغيبون.

 

قوله تعالى: « ومهدت له تمهيدا » أي بسطت له في العيش بسطا، حتى أقام ببلدته مطمئنا مترفها يرجع إلى رأيه. والتمهيد عند العرب: التوطئة والتهيئة؛ ومنه مهد الصبي. وقال ابن عباس: « ومهدت له تمهيدا » أي وسعت له ما بين اليمن والشام وقاله مجاهد. وعن مجاهد أيضا في « ومهدت له تمهيدا » أنه المال بعضه فوق بعض كما يمهد الفراش.

 

قوله تعالى: « ثم يطمع أن أزيد » أي ثم إن الوليد يطمع بعد هذا كله أن أزيده في المال والولد. وقال الحسن وغيره: أي ثم يطمع أن أدخله الجنة، وكان الوليد يقول: إن كان محمد صادقا فما خلقت الجنة إلا لي؛ فقال الله تعالى ردا عليه وتكذيبا له: « كلا » أي لست أزيده، فلم يزل يرى النقصان في ماله وولده حتى هلك. و « ثم » في قوله تعالى: « ثم يطمع » ليست بثم التي للنسق ولكنها تعجيب، وهي كقوله تعالى: « وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ) [ الأنعام: 1 ] وذلك كما تقول: أعطيتك ثم أنت تجفوني؛ كالمتعجب من ذلك. وقيل يطمع أن أترك ذلك في عقبه؛ وذلك أنه كان يقول: إن محمدا مبتور؛ أي أبتر وينقطع ذكره بموته. وكان يظن أن ما رزق لا ينقطع بموته. وقيل: أي ثم يطمع أن أنصره على كفره. و « كلا » قطع للرجاء عما كان يطمع فيه من الزيادة؛ فيكون متصلا بالكلام الأول. »

وقيل: « كلا » بمعنى حقا ويكون ابتداء « إنه » يعني الوليد « كان لآياتنا عنيدا » أي معاندا للنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به؛ يقال: عاند فهو عنيد مثل جالس فهو جليس؛ قال مجاهد. وعند يعند بالكسر أي خالف ورد الحق وهو يعرفه فهو عنيد وعاند. والعاند: البعير الذي يحور عن الطريق ويعدل عن القصد والجمع عند مثل راكع وركع؛ وأنشد أبو عبيدة قول الحارثي:

إذا ركبت فاجعلاني وسطا إني كبير لا أطيق العندا

وقال أبو صالح: « عنيدا » معناه مباعدا؛ قال الشاعر:

أرانا على حال تفرق بيننا نوى غربة إن الفراق عنود

قتادة: جاحدا. مقاتل: معرضا. ابن عباس: جحودا. وقيل: إنه المجاهر بعدوانه.

وعن مجاهد أيضا قال: مجانبا للحق معاندا له معرضا عنه. والمعنى كله متقارب. والعرب تقول: عند الرجل إذا عتا وجاوز قدره. والعنود من الإبل: الذي لا يخالط الإبل، إنما هو في ناحية. ورجل عنود إذا كان يحل وحده لا يخالط الناس والعنيد من التجبر. وعرق عاند: إذا لم يرقأ دمه. كل هذا قياس واحد وقد مضى في سورة « إبراهيم » . وجمع العنيد عند، مثل رغيف ورغف.

 

قوله تعالى: « سأرهقه » أي سأكلفه. وكان ابن عباس يقول: سألجئه؛ والإرهاق في كلام العرب: أن يحمل الإنسان على الشيء. « صعودا » ( الصعود: جبل من نار يتصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوي كذلك فيه أبدا ) رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، خرجه الترمذي وقال فيه حديث غريب. وروى عطية عن أبي سعيد قال: صخرة في جهنم إذا وضعوا عليها أيديهم ذابت فإذا رفعوها عادت، قال: فيبلغ أعلاها في أربعين سنة يجذب من أمامه بسلاسل ويضرب من خلفه بمقامع، حتى إذا بلغ أعلاها رمى به إلى أسفلها، فذلك دأبه أبدا. وقد مضى هذا المعنى في سورة « قل أوحي » [ الجن: 1 ] وفي التفسير: أنه صخرة ملساء يكلف صعودها فإذا صار في أعلاها حدر في جهنم، فيقوم يهوي ألف عام من قبل أن يبلغ قرار جهنم، يحترق في كل يوم سبعين مرة ثم يعاد خلقا جديدا. وقال ابن عباس: المعنى سأكلفه مشقة من العذاب لا راحة له فيه ونحوه عن الحسن وقتادة. وقيل: إنه تصاعد نفسه للنزع وإن لم يتعقبه موت، ليعذب من داخل جسده كما يعذب من خارجه.

 

الآيات: 18 - 25 ( إنه فكر وقدر، فقتل كيف قدر، ثم قتل كيف قدر، ثم نظر، ثم عبس وبسر، ثم أدبر واستكبر، فقال إن هذا إلا سحر يؤثر، إن هذا إلا قول البشر )

 

قوله تعالى: « إنه فكر وقدر » يعني الوليد فكر في شأن النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن و « قدر » أي هيأ الكلام في نفسه، والعرب تقول: قدرت الشيء إذا هيأته، وذلك أنه لما نزل: « حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم » [ غافر: 1 ] إلى قوله: « إليه المصير » سمعه الوليد يقرؤها فقال: والله لقد سمعت منه كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وما يقول هذا بشر. فقالت قريش: صبا الوليد لتصبون قريش كلها. وكان يقال للوليد ريحانة قريش؛ فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه. فمضى إليه حزينا؟ فقال له: مالي أراك حزينا. فقال له: ومالي لا أحزن وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك بها على كبر سنك ويزعمون أنك زينت كلام محمد، وتدخل على ابن أبي كبشة وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهما؛ فغضب الوليد وتكبر، وقال: أنا أحتاج إلى كسر محمد وصاحبه، فأنتم تعرفون قدر مالي، واللات والعزى ما بي حاجة إلى ذلك، وإنما أنتم تزعمون أن محمدا مجنون، فهل رأيتموه قط يخنق؟ قالوا: لا والله، قال: وتزعمون أنه شاعر، فهل رأيتموه نطق بشعر قط؟ قالوا: لا والله. قال: فتزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه كذبا قط؟ قالوا: لا والله. قال: فتزعمون أنه كاهن فهل رأيتموه تكهن قط، ولقد رأينا للكهنة أسجاعا وتخالجا فهل رأيتموه كذلك؟ قالوا: لا والله. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمى الصادق الأمين من كثرة صدقه. فقالت قريش للوليد: فما هو؟ ففكر في نفسه، ثم نظر، ثم عبس، فقال ما هو إلا ساحر! أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه؟ فذلك قوله تعالى: « إنه فكر » أي في أمر محمد والقرآن « وقدر » في نفسه ماذا يمكنه أن يقول فيهما. « فقتل » أي لعن. وكان بعض أهل التأويل يقول: معناها فقهر وغلب، وكل مذلل مقتل؛ قال الشاعر:

وما ذرفت عيناك إلا لتقدحي بسهميك في أعشار قلب مقتل

وقال الزهري: عذب؛ وهو من باب الدعاء. « كيف قدر » قال ناس: « كيف » تعجيب؛ كما يقال للرجل تتعجب من صنيعه: كيف فعلت هذا؟ وذلك كقوله: « انظر كيف ضربوا لك الأمثال » [ الإسراء: 48 ] . « ثم قتل » أي لعن لعنا بعد لعن. وقيل: فقتل بضرب من العقوبة، ثم قتل بضرب آخر من العقوبة « كيف قدر » أي على أي حال قدر. « ثم نظر » بأي شيء يرد الحق ويدفعه. « ثم عبس » أي قطب بين عينيه في وجوه المؤمنين؛ وذلك أنه لما حمل قريشا على ما حملهم عليه من القول في محمد صلى الله عليه وسلم بأنه ساحر، مر على جماعة من المسلمين، فدعوه إلى الإسلام، فعبس في وجوههم.. قيل: عبس وبسر على النبي صلى الله عليه وسلم حين دعاه. والعبس مخففا مصدر عبس يعبس عبسا وعبوسا: إذا قطب. والعبس ما يتعلق بأذناب الإبل من أبعارها وأبوالها؛ قال أبو النجم:

كأن في أذنابهن الشول من عبس الصيف قرون الأيل

 

قوله تعالى: « وبسر » أي كلح وجهه وتغير لونه؛ قال قتادة والسدي؛ ومنه قول بشر بن أبي خازم:

صبحنا تميما غداة الجفار بشهباء ملمومة باسره

وقال آخر:

وقد رابني منها صدود رأيته وإعراضها عن حاجتي وبسورها

وقيل: إن ظهور العبوس في الوجه بعد المحاورة، وظهور البسور في الوجه قبل المحاورة. وقال قوم: « بسر » وقف لا يتقدم ولا يتأخر. قالوا: وكذلك يقول أهل اليمن إذا وقف المركب، فلم يجيء ولم يذهب: قد بسر المركب، وأبسر أي وقف وقد أبسرنا. والعرب تقول: وجه باسر بين البسور: إذا تغير واسود. « ثم أدبر » أي ولى وأعرض ذاهبا إلى أهله. « واستكبر » أي تعظم عن أن يؤمن. وقيل: أدبر عن الإيمان واستكبر حين دعي إليه. « فقال إن هذا » أي ما هذا الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم « إلا سحر يؤثر » أي يأثره عن غيره. والسحر: الخديعة. وقد تقدم بيانه في سورة ( البقرة ) . وقال قوم: السحر: إظهار الباطل في صورة الحق. والأثره: مصدر قولك: أثرت الحديث آثره إذا ذكرته عن غيرك؛ ومنه قيل: حديث مأثور: أي ينقله خلف عن سلف؛ قال امرؤ القيس:

ولو عن نثا غيره جاءني وجرح اللسان كجرح اليد

لقلت من القول ما لا يزا ل يؤثر عني يد المسند

يريد: آخر الدهر، وقال الأعشى:

إن الذي فيه تماريتما بين للسامع والآثر

ويروى: بين. « إن هذا إلا قول البشر » أي ما هذا إلا كلام المخلوقين، يختدع به القلوب كما تختدع بالسحر، قال السدي: يعنون أنه من قول سيار عبد لبني الحضرمي، كان يجالس النبي صلى الله عليه وسلم، فنسبوه إلى أنه تعلم منه ذلك.

وقيل: أراد أنه تلقنه من أهل بابل. وقيل: عن مسيلمة. وقيل: عن عدي الحضرمي الكاهن. وقيل: إنما تلقنه ممن ادعى النبوة قبله، فنسج على منوالهم. قال أبو سعيد الضرير: إن هذا إلا أمر سحر يؤثر؛ أي يورث.

 

الآيات: 26 - 29 ( سأصليه سقر، وما أدراك ما سقر، لا تبقي ولا تذر، لواحة للبشر )

 

أي سأدخله سقر كي يصلى حرها. وإنما سميت سقر من سقرته الشمس: إذا أذابته ولوحته، وأحرقت جلدة وجهه. ولا ينصرف للتعريف والتأنيث. قال ابن عباس: هي الطبق السادس من جهنم. وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ سأل موسى ربه فقال: أي رب، أي عبادك أفقر؟ قال صاحب سقر ] ذكره الثعلبي: « وما أدراك ما سقر » ؟ هذه مبالغة في وصفها؛ أي وما أعلمك أي شيء هي؟ وهي كلمة تعظيم، ثم فسر حالها فقال: « لا تبقي ولا تذر » أي لا تترك لهم عظما ولا لحما ولا دما إلا أحرقته. وقيل: لا تبقي منهم شيئا ثم يعادون خلقا جديدا، فلا تذر أن تعاود إحراقهم هكذا أبدا. وقال مجاهد: لا تبقى من فيها حيا ولا تذره ميتا، تحرقهم كلما جددوا. وقال السدي: لا تبقي لهم لحما ولا تذر لهم عظما « لواحة للبشر » أي مغيرة من لاحه إذا غيره. وقراءة العامة « لواحة » بالرفع نعت لـ « سقر » في قوله تعالى: « وما أدراك ما سقر » . وقرأ عطية العوفي ونصر بن عاصم وعيسى بن عمر « لواحة » بالنصب على الاختصاص، للتهويل. وقال أبو رزين: تلفح وجوههم لفحة تدعها أشد سوادا من الليل؛ وقاله مجاهد. والعرب تقول: لاحه البرد والحر والسقم والحزن: إذا غيره، ومنه قول الشاعر:

تقول ما لا حك يا مسافر يا ابنة عمي لاحني الهواجر

وقال آخر:

وتعجب هند أن رأتني شاحبا تقول لشيء لوحته السمائم

وقال رؤبة بن العجاج:

لوح منه بعد بدن وسنق تلويحك الضامر يطوى للسبق

وقيل: إن اللوح شدة العطش؛ يقال: لاحة العطش ولوحه أي غيره. والمعنى أنها معطشة للبشر أي لأهلها؛ قاله الأخفش؛ وأنشد:

سقتني على لوح من الماء شربة سقاها بها الله الرهام الغواديا

يعني باللوح شدة العطش، والتاح أي عطش، والرهام جمع رهمة بالكسر وهي المطرة الضعيفة وأرهمت السحابة أتت بالرهام. وقال ابن عباس: « لواحة » أي تلوح للبشر من مسيرة خمسمائة عام. الحسن وابن كيسان: تلوح لهم جهنم حتى يروها عيانا. نظيره: « وبرزت الجحيم للغاوين » [ الشعراء: 91 ] وفي البشر وجهان: أحدهما: أنه الإنس من أهل النار؛ قاله الأخفش والأكثرون. الثاني: أنه جمع بشرة، وهي جلدة الإنسان الظاهرة؛ قال مجاهد وقتادة، وجمع البشر أبشار، وهذا على التفسير الأول، وأما على تفسير ابن عباس فلا يستقيم فيه إلا الناس لا الجلود؛ لأنه من لاح الشيء يلوح، إذا لمع.

 

الآيات: 30 - 31 ( عليها تسعة عشر، وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر )

 

قوله تعالى: « عليها تسعة عشر » أي على سقر تسعه عشر من الملائكة يلقون فيها أهلها. ثم قيل: على جملة النار تسعة عشر من الملائكة هم خزنتها؛ مالك وثمانية عشر ملكا. ويحتمل أن تكون التسعة عشر نقيبا، ويحتمل أن يكون تسعة عشر ملكا بأعيانهم. وعلى هذا أكثر المفسرين. الثعلبي: ولا ينكر هذا، فإذا كان ملك واحد يقبض أرواح جميع الخلائق كان أحرى أن يكون تسعة عشر على عذاب بعض الخلائق. وقال ابن جريج: نعت النبي صلى الله عليه وسلم خزنة جهنم فقال: [ فكأن أعينهم البرق، وكأن أفواههم الصياصي، يجرون أشعارهم، لأحدهم من القوة مثل قوة الثقلين، يسوق أحدهم الأمة وعلى رقبته جبل، فيرميهم في النار، ويرمي فوقهم الجبل ] .

قلت: وذكر ابن المبارك قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن الأزرق بن قيس، عن رجل من بني تميم قال: كنا عند أبي العوام، فقرأ هذه الآية: « وما أدراك ما سقر. لا تبقى ولا تذر. لواحة للبشر. عليها تسعة عشر » فقال ما تسعة عشر؟ تسعة عشر ألف ملك، أو تسعة عشر ملكا؟ قال: قلت: لا بل تسعة عشر ملكا. فقال: وأنى تعلم ذلك؟ فقلت: لقول الله عز وجل: « وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا » قال: صدقت هم تسعة عشر ملكا، بيد كل ملك منهم مرزبة لها شعبتان، فيضرب الضربة فيهوي بها في النار سبعين ألفا. وعن عمرو بن دينار: كل واحد منهم يدفع بالدفعة الواحدة في جهنم أكثر من ربيعة ومضر. خرج الترمذي عن جابر بن عبدالله. قال: قال ناس من اليهود لأناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم؟ قالوا: لا ندري حتى نسأل نبينا. فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد غلب أصحابك اليوم؛ فقال: ( وماذا غلبوا ) ؟ قال: سألهم يهود: هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم؟ قال: ( فماذا قالوا ) قال: قالوا لا ندري حتى نسأل نبينا. قال: ( أفغلب قوم سئلوا عما لا يعلمون، فقالوا لا نعلم حتى نسأل نبينا؟ لكنهم قد سألوا نبيهم فقالوا أرنا الله جهرة، علي بأعداء الله! إني سائلهم عن تربة الجنة وهي الدرمك ) . فلما جاؤوا قالوا: يا أبا القاسم كم عدد خزنة جهنم؟ قال: ( هكذا وهكذا ) في مرة عشرة وفي مرة تسعة. قالوا: نعم. قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما تربة الجنة ) قال: فسكتوا هنيهة ثم قالوا: أخبزة يا أبا القاسم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الخبز من الدرمك ) . قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه من حديث مجالد عن الشعبي عن جابر. وذكر ابن وهب قال: حدثنا عبدالرحمن بن زيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خزنة جهنم: [ ما بين منكبي أحدهم كما بين المشرق والمغرب ] .

وقال ابن عباس: ما بين منكبي الواحد منهم مسيرة سنة، وقوة الواحد منهم أن يضرب بالمقمع فيدفع بتلك الضربة سبعين ألف إنسان في قعر جهنم.

قلت: والصحيح إن شاء الله أن هؤلاء التسعة عشر، هم الرؤساء والنقباء، وأما جملتهم فالعبارة تعجز عنها؛ كما قال الله تعالى: « وما يعلم جنود ربك إلا هو » وقد ثبت في الصحيح عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها ) . وقال ابن عباس وقتادة والضحاك: لما نزل: « عليها تسعة عشر » قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم! أسمع بن أبي كبشة يخبركم أن خزنة جهنم تسعة عشر، وأنتم الدهم - أي العدد - والشجعان، فيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم! قال السدي: فقال أبو الأسود بن كلدة الجمحي: لا يهولنكم التسعة عشر، أنا أدفع بمنكبي الأيمن عشرة من الملائكة، وبمنكبي الأيسر التسعة، ثم تمرون إلى الجنة؛ يقولها مستهزئا. في رواية: أن الحرث بن كلدة قال أنا أكفيكم سبعة عشر، واكفوني أنتم اثنين. وقيل: إن أبا جهل قال أفيعجز كل مائة منكم أن يبطشوا بواحد منهم، ثم تخرجون من النار؟ فنزل قوله تعالى: « وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة » أي لم نجعلهم رجالا فتتعاطون مغالبتهم. وقيل: جعلهم ملائكة لأنهم خلاف جنس المعذبين من الجن والإنس، فلا يأخذهم ما يأخذ المجانس من الرأفة والرقة، ولا يستروحون إليهم؛ ولأنهم أقوم خلق الله بحق الله وبالغضب له، فتؤمن هوادتهم؛ ولأنهم أشد خلق الله بأسا وأقواهم بطشا. « وما جعلنا عدتهم إلا فتنة » أي بلية. وروي عن ابن عباس من غير وجه قال: ضلالة للذين كفروا، يريد أبا جهل وذويه. وقيل: إلا عذابا، كما قال تعالى: « يوم هم على النار يفتنون. ذوقوا فتنتكم » [ الذاريات: 14 ] . أي جعلنا ذلك سبب كفرهم وسبب العذاب. وفي « تسعة عشر » سبع قراءات: قراءة العامة « تسعة عشر » . وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وطلحة بن سليمان « تسعة عشر » بإسكان العين. وعن ابن عباس « تسعة عشر » بضم الهاء. وعن أنس بن مالك « تسعة وعشر » وعنه أيضا « تسعة وعشر » . وعنه أيضا « تسعة أعشر » ذكرها المهدوي وقال: من قرأ « تسعة عشر » أسكن العين لتوالي الحركات. ومن قرأ « تسعة وعشر » جاء به على الأصل قبل التركيب، وعطف عشرا على تسعة، وحذف التنوين لكثرة الاستعمال، وأسكن الراء من عشر على نية السكوت عليها. ومن قرأ « تسعة عشر » فكأنه من التداخل؛ كأنه أراد العطف وترك التركيب، فرفع هاء التأنيث، ثم راجع البناء وأسكن. وأما « تسعة أعشر » : فغير معروف، وقد أنكرها أبو حاتم. وكذلك « تسعة وعشر » لأنها محمولة على « تسعة أعشر » والواو بدل من الهمزة، وليس لذلك وجه عند النحويين. الزمخشري: وقرئ: « تسعة أعشر » جمع عشير، مثل يمين وأيمن.

 

قوله تعالى: « ليستيقن الذين أوتوا الكتاب » أي ليوقن الذين أعطوا التوراة والإنجيل أن عدة خزنة جهنم موافقة لما عندهم؛ قال ابن عباس وقتادة والضحاك ومجاهد وغيرهم. ثم يحتمل أنه يريد الذين آمنوا منهم كعبدالله بن سلام. ويحتمل أنه يريد الكل. ويزداد الذين آمنوا إيمانا « بذلك؛ لأنهم كلما صدقوا بما في كتاب الله آمنوا، ثم ازدادوا إيمانا لتصديقهم بعدد خزنة جهنم. » ولا يرتاب « أي ولا يشك » الذين أوتوا الكتاب « أي أعطوا الكتاب » والمؤمنون « أي المصدقون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في أن عدة خزنة جهنم تسعة عشر. » وليقول الذين في قلوبهم مرض « أي في صدورهم شك ونفاق من منافقي أهل المدينة، الذين ينجمون في مستقبل الزمان بعد الهجرة ولم يكن بمكة نفاق وإنما نجم بالمدينة. وقيل: المعنى؛ أي وليقول المنافقون الذين ينجمون في مستقبل الزمان بعد الهجرة. » والكافرون « أي اليهود والنصارى » ماذا أراد الله بهذا مثلا « يعني بعدد خزنة جهنم. وقال الحسين بن الفضل: السورة مكية ولم يكن بمكة نفاق؛ فالمرض في هذه الآية الخلاف و » الكافرون « أي مشركو العرب. وعلى القول الأول أكثر المفسرين. ويجوز أن يراد بالمرض: الشك والارتياب؛ لأن أهل مكة كان أكثرهم شاكين، وبعضهم قاطعين بالكذب وقوله تعالى إخبارا عنهم: » ماذا أراد الله « أي ما أراد » بهذا « العدد الذي ذكره حديثا، أي ما هذا من الحديث. قال الليث: المثل الحديث؛ ومنه: » مثل الجنة التي وعد المتقون « أي حديثها والخبر عنها » كذلك « أي كإضلال الله أبا جهل وأصحابه المنكرين لخزنة جهنم » يضل الله « أي يخزي ويعمي » من يشاء ويهدي « أي ويرشد » من يشاء « كإرشاد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: » كذلك يضل الله « عن الجنة » من يشاء ويهدي « إليها » من يشاء « . » وما يعلم جنود ربك إلا هو « أي وما يدري عدد ملائكة ربك الذين خلقهم لتعذيب أهل النار » إلا هو « أي إلا الله جل ثناؤه وهذا جواب لأبي جهل حين قال: أما لمحمد من الجنود إلا تسعة عشر! وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم غنائم حنين، فأتاه جبريل فجلس عنده، فأتى ملك فقال: إن ربك يأمرك بكذا وكذا، فخشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون شيطانا، فقال: ( يا جبريل أتعرفه ) ؟ فقال: هو ملك وما كل ملائكة ربك أعرف. وقال الأوزاعي: قال موسى: » يا رب من في السماء؟ قال ملائكتي. قال كم عدتهم يا رب؟ قال: اثني عشر سبطا. قال: كم عدة كل سبط؟ قال: عدد التراب « ذكرهما الثعلبي. وفي الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجدا ) . »

 

قوله تعالى: « وما هي إلا ذكرى للبشر » يعني الدلائل والحجج والقرآن. وقيل: « وما هي » أي وما هذه النار التي هي سقر « إلا ذكري » أي عظة « للبشر » أي للخلق. وقيل: نار الدنيا تذكرة لنار الآخرة. قال الزجاج. وقيل: أي ما هذه العدة « إلا ذكري للبشر » أي ليتذكروا ويعلموا كمال قدرة الله تعالى، وأنه لا يحتاج إلى أعوان وأنصار؛ فالكناية على هذا في قوله تعالى: « وما هي » ترجع إلى الجنود؛ لأنه أقرب مذكور.

الآية [ 32 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات: 32 - 48 ( كلا والقمر، والليل إذ أدبر، والصبح إذا أسفر، إنها لإحدى الكبر، نذيرا للبشر، لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر، كل نفس بما كسبت رهينة، إلا أصحاب اليمين، في جنات يتساءلون، عن المجرمين، ما سلككم في سقر، قالوا لم نك من المصلين، ولم نك نطعم المسكين، وكنا نخوض مع الخائضين، وكنا نكذب بيوم الدين، حتى أتانا اليقين، فما تنفعهم شفاعة الشافعين )

 

قوله تعالى: « كلا والقمر » قال الفراء: « كلا » صلة للقسم، التقدير أي والقمر. وقيل: المعنى حقا والقمر؛ فلا يوقف على هذين التقديرين على « كلا » وأجاز الطبري الوقف عليها، وجعلها ردا للذين زعموا أنهم يقاومون خزنة جهنم؛ أي ليس الأم كما يقول من زعم أنه يقاوم خزنة النار. ثم أقسم على ذلك جل وعز بالقمر وبما بعده، فقال: « والليل إذا أدبر » أي ولى وكذلك « دبر » . وقرأ نافع وحمزة وحفص « إذ أدبر » الباقون « إذا » بألف و « دبر » بغير ألف وهما لغتان بمعنى؛ يقال دبر وأدبر، وكذلك قبل الليل وأقبل. وقد قالوا: أمس الدابر والمدابر؛ قال صخر بن عمرو بن الشريد السلمي:

ولقد قتلناكم ثناء وموحدا وتركت مرة مثل أمس الدابر

ويروي المدبر. وهذا قول الفراء والأخفش.

وقال بعض أهل اللغة: دبر الليل: إذا مضى، وأدبر: أخذ في الإدبار. وقال مجاهد: سألت ابن عباس عن قوله تعالى: « والليل إذا دبر » فسكت حتى إذا دبر قال: يا مجاهد، هذا حين دبر الليل. وقرأ محمد بن السميقع « والليل إذا أدبر » بألفين، وكذلك في مصحف عبدالله وأبي بألفين. وقال قطرب من قرأ « دبر » فيعني أقبل، من قول العرب دبر فلان: إذا جاء من خلفي. قال أبو عمرو: وهي لغة قريش. وقال ابن عباس في رواية عنه: الصواب: « أدبر » ، إنما يدبر ظهر البعير. واختار أبو عبيد: « إذا أدبر » قال: لأنها أكثر موافقة للحروف التي تليه؛ ألا تراه يقول: « والصبح إذا أسفر » ، فكيف يكون أحدهما « إذ » والآخر « إذا » وليس في القرآن قسم تعقبه « إذ » وإنما يتعقبه « إذا » . ومعنى « أسفر » : ضاء. وقراءة العامة « أسفر » بالألف. وقرأ ابن السميقع: « سفر » . وهما لغتان. يقال: سفر وجه فلان وأسفر: إذا أضاء.

وفي الحديث: ( أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر ) أي صلوا صلاة الصبح مسفرين، ويقال: طولوها إلى الإسفار، والإسفار: الإنارة. وأسفر وجهه حسنا أي أشرق، وسفرت المرأة كشفت عن وجهها فهي سافر. ويجوز أن يكون ( من ) سفر الظلام أي كنسه، كما يسفر البيت، أي يكنس؛ ومنه السفير: لما سقط من ورق الشجر وتحات؛ يقال: إنما سمي سفيرا لأن الريح تسفره أي تكنسه. والمسفرة: المكنسة.

 

قوله تعالى: « إنها لإحدى الكبر » جواب القسم؛ أي إن هذه النار « لإحدى الكبر » أي لإحدى الدواهي. وفي تفسير مقاتل « الكبر » : اسم من أسماء النار. وروي عن ابن عباس « إنها » أي إن تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم « لإحدى الكبر » أي لكبيرة من الكبائر. وقيل: أي إن قيام الساعة لإحدى الكبر. والكبر: هي العظائم من العقوبات؛ قال الراجز:

يا ابن المعلى نزلت إحدى الكبر داهية الدهر وصماء الغير

وواحدة ( الكبر ) ، كبرى مثل الصغرى والصغر، والعظمى والعظم. وقرأ العامة ( لإحدى ) وهو اسم بني ابتداء للتأنيث، وليس مبنيا على المذكر؛ نحو عقبى وأخرى، وألفه ألف قطع، لا تذهب في الوصل. وروى جرير بن حازم عن ابن كثير « إنها لحدى الكبر » بحذف الهمزة. « نذيرا للبشر » يريد النار؛ أي أن هذه النار الموصوفة « نذيرا للبشر » فهو نصب على الحال من المضمر في « إنها » قال الزجاج. وذكر؛ لأن معناه معنى العذاب، أو أراد ذات إنذار على معنى النسب؛ كقولهم: امرأة طالق وطاهر. وقال الخليل: النذير: مصدر كالنكير، ولذلك يوصف به المؤنث. وقال الحسن: والله ما أنذر الخلائق بشيء أدهى منها. وقيل: المراد بالنذير محمد صلى الله عليه وسلم؛ أي قم نذيرا للبشر، أي مخوفا لهم « فنذيرا » حال من « قم » في أول السورة حين قال: « قم فأنذر » [ المدثر: 2 ] قال أبو علي الفارسي وابن زيد، وروي عن ابن عباس وأنكره الفراء. ابن الأنباري: وقال بعض المفسرين معناه « يا أيها المدثر قم نذيرا للبشر » . وهذا قبيح؛ لأن الكلام قد طال فيما بينهما. وقيل. هو من صفة الله تعالى. روى أبو معاوية الضرير: حدثنا إسماعيل بن سميع عن أبي رزين « نذيرا للبشر » قال: يقول الله عز وجل: أنا لكم منها نذير فاتقوها. و ( نذيرا ) على هذا نصب على الحال؛ أي « وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة » منذرا بذلك البشر. وقيل: هو حال من « هو » في قوله تعالى: « وما يعلم جنود ربك إلا هو » . وقيل: هو في موضع المصدر، كأنه قال: إنذار للبشر. قال الفراء: يجوز أن يكون النذير بمعنى الإنذار، أي أنذر إنذارا؛ فهو كقوله تعالى: « فكيف كان نذير » أي إنذاري؛ فعلى هذا يكون راجعا إلى أول السورة؛ أي ( قم فأنذر ) أي إنذارا. وقيل: هو منصوب بإضمار فعل. وقرأ ابن أبي عبلة « نذير » بالرفع على إضمار هو. وقيل: أي إن القرآن نذير للبشر، لما تضمنه من الوعد والوعيد.

 

قوله تعالى: « لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر » اللام متعلقة « بنذيرا » ، أي نذيرا لمن شاء منكم أن يتقدم إلى الخير والطاعة، أو يتأخر إلى الشر والمعصية؛ نظيره: « ولقد علمنا المستقدمين منكم » [ الحجر: 24 ] أي في الخير « ولقد علمنا المستأخرين » [ الحجر: 24 ] عنه. قال الحسن: هذا وعيد وتهديد وإن خرج مخرج الخبر؛ كقوله تعالى: « فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر » [ الكهف: 29 ] . وقال بعض أهل التأويل: معناه لمن شاء الله أن يتقدم أو يتأخر، فالمشيئة متصلة بالله جل ثناؤه، والتقديم الإيمان، والتأخير الكفر. وكان ابن عباس يقول: هذا تهديد وإعلام أن من تقدم إلى الطاعة والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم جوزي بثواب لا ينقطع، ومن تأخر عن الطاعة وكذب محمدا صلى الله عليه وسلم عوقب عقابا لا ينقطع.

وقال السدي: « لمن شاء منكم أن يتقدم » إلى النار المتقدم ذكرها، « أو يتأخر » عنها إلى الجنة.

 

قوله تعالى: « كل نفس بما كسبت رهينة » أي مرتهنة بكسبها، مأخوذة بعملها، إما خلصها وإما أوبقها. وليست « رهينة » تأنيث رهين في قوله تعالى: « كل امرئ بما كسب رهين » [ الطور: 21 ] لتأنيث النفس؛ لأنه لو قصدت الصفة لقيل رهين؛ لأن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث. وإنما هو اسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم؛ كأنه قيل: كل نفس بما كسبت رهين؛ ومنه بيت الحماسة:

أبعد الذي بالنعف نعف كويكب رهينة رمس ذي تراب وجندل

كأنه قال رهن رمس. والمعنى: كل نفس رهن بكسبها عند الله غير مفكوك « إلا أصحاب اليمين » فإنهم لا يرتهنون بذنوبهم. واختلف في تعيينهم؛ فقال ابن عباس: الملائكة. علي بن أبي طالب: أولاد المسلمين لم يكتسبوا فيرتهنوا بكسبهم. الضحاك: الذين سبقت لهم من الله الحسنى، ونحوه عن ابن جريج؛ قال: كل نفس بعملها محاسبة « إلا أصحاب اليمين » وهم أهل الجنة، فإنهم لا يحاسبون. وكذا قال مقاتل أيضا: هم أصحاب الجنة الذين كانوا عن يمين آدم يوم الميثاق حين قال الله لهم: هؤلاء في الجنة ولا أبالي. وقال الحسن وابن كيسان: هم المسلمون المخلصون ليسوا بمرتهنين؛ لأنهم أدوا ما كان عليهم. وعن أبي ظبيان عن ابن عباس قال: هم المسلمون. وقيل: إلا أصحاب الحق وأهل الإيمان. وقيل: هم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم. وقال أبو جعفر الباقر: نحن وشيعتنا أصحاب اليمين، وكل من أبغضنا أهل البيت فهم المرتهنون. وقال الحكم: هم الذين اختارهم الله لخدمته، فلم يدخلوا في الرهن، لأنهم خدام الله وصفوته وكسبهم لم يضرهم. وقال القاسم: كل نفس مأخوذة بكسبها من خير أو شر، إلا من اعتمد على الفضل والرحمة، دون الكسب والخدمة، فكل من اعتمد على الكسب فهو مرهون، وكل من اعتمد على الفضل فهو غير مأخوذ به. « في جنات » أي في بساتين « يتساءلون » أي يسألون « عن المجرمين » أي المشركين « ما سلككم » أي أدخلكم « في سقر » كما تقول: سلكت الخيط في كذا أي أدخلته فيه. قال الكلبي: فيسأل الرجل من أهل الجنة الرجل من أهل النار باسمه، فيقول له: يا فلان. وفي قراءة عبدالله بن الزبير « يا فلان ما سلكك في سقر » ؟ وعنه قال: قرأ عمر بن الخطاب « يا فلان ما سلككم في سقر » وهي قراءة على التفسير؛ لا أنها قرآن كما زعم من طعن في القرآن؛ قال أبو بكر بن الأنباري.

وقيل: إن المؤمنين يسألون الملائكة عن أقربائهم، فتسأل الملائكة المشركين فيقولون لهم: « ما سلككم في سقر » . قال الفراء: في هذا ما يقوي أن أصحاب اليمين الولدان؛ لأنهم لا يعرفون الذنوب. « قالوا » يعني أهل النار « لم نك من المصلين » أي المؤمنين الذين يصلون. « ولم نك نطعم المسكين » أي لم نك نتصدق. « وكنا نخوض مع الخائضين » أي كنا نخالط أهل الباطل في باطلهم. وقال ابن زيد: نخوض مع الخائضين في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وهو قولهم - لعنهم الله - كاهن، مجنون، شاعر، ساحر. وقال السدي: أي وكنا نكذب مع المكذبين. وقال قتادة: كلما غوى غاو غوينا معه. وقيل معناه: وكنا أتباعا ولم نكن متبوعين. « وكنا نكذب بيوم الدين » أي لم نك نصدق بيوم القيامة، يوم الجزاء والحكم. « حتى أتانا اليقين » أي جاءنا ونزل بنا الموت؛ ومنه قوله تعالى: « واعبد ربك حتى يأتيك اليقين » [ الحجر: 99 ] .

 

قوله تعالى: « فما تنفعهم شفاعة الشافعين » هذا دليل على صحة الشفاعة للمذنبين؛ وذلك أن قوما من أهل التوحيد عذبوا بذنوبهم، ثم شفع فيهم، فرحمهم الله بتوحيدهم والشفاعة، فأخرجوا من النار، وليس للكفار شفيع يشفع فيهم.

وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: يشفع نبيكم صلى الله عليه وسلم رابع أربعة: جبريل، ثم إبراهيم، ثم موسى أو عيسى، ثم نبيكم صلى الله عليه وسلم، ثم الملائكة، ثم النبيون، ثم الصديقون، ثم الشهداء، ويبقى قوم في جهنم، فيقال لهم: « ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين. ولم نك نطعم المسكين » إلى قوله: « فما تنفعهم شفاعة الشافعين » قال عبدالله بن مسعود: فهؤلاء هم الذين يبقون في جهنم؛ وقد ذكرنا إسناده في كتاب ( التذكرة ) .

 

الآيات: 49 - 53 ( فما لهم عن التذكرة معرضين، كأنهم حمر مستنفرة، فرت من قسورة، بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة، كلا بل لا يخافون الآخرة )

 

قوله تعالى: « فما لهم عن التذكرة معرضين » أي فما لأهل مكة أعرضوا وولوا عما جئتم به. وفي تفسير مقاتل: الإعراض عن القرآن من وجهين: أحدهما الجحود والإنكار، والوجه الآخر ترك العمل بما فيه. و « معرضين » نصب على الحال من الهاء والميم في « لهم » وفي اللام معنى الفعل؛ فانتصاب الحال على معنى الفعل. « كأنهم » أي كأن هؤلاء الكفار في فرارهم من محمد صلى الله عليه وسلم « حمر مستنفرة » قال ابن عباس: أراد الحمر الوحشية. وقرأ نافع وابن عامر بفتح الفاء، أي منفرة مذعورة؛ واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. الباقون بالكسر، أي نافرة. يقال. نفرت واستنفرت بمعنى؛ مثل عجبت واستعجبت، وسخرت واستسخرت، وأنشد الفراء:

أمسك حمارك إنه مستنفر في إثر أحمرة عمدن لغرب

 

قوله تعالى: « فرت » أي نفرت وهربت « من قسورة » أي من رماة يرمونها.

وقال بعض أهل اللغة: إن القسورة الرامي، وجمعه القسورة. وكذا قال سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك وابن كيسان: القسورة: هم الرماة والصيادون، ورواه عطاء عن ابن عباس وأبو [ ظبيان ] عن أبي موسى الأشعري. وقيل: إنه الأسد؛ قال أبو هريرة وابن عباس أيضا. ابن عرفة: من العسر بمعنى القهر أي؛ إنه يقهر السباع، والحمر الوحشية تهرب من السباع. وروى أبو جمرة عن ابن عباس قال: ما أعلم القسورة الأسد في لغة أحد من العرب، ولكنها عصب الرجال؛ قال: فالقسورة جمع الرجال، وأنشد:

يا بنت كوني خيرة لخيرة أخوالها الجن وأهل القسورة

وعنه: ركز الناس أي حسهم وأصواتهم. وعنه أيضا: « فرت من قسورة » أي من حبال الصيادين. وعنه أيضا: القسورة بلسان العرب: الأسد، وبلسان الحبشة: الرماة؛ وبلسان فارس: شير، وبلسان النبط: أريا. وقال ابن الأعرابي: القسورة: أول الليل؛ أي فرت من ظلمة الليل. وقاله عكرمة أيضا. وقيل: هو أول سواد الليل، ولا يقال لآخر سواد الليل قسورة. وقال زيد بن أسلم: من رجال أقوياء، وكل شديد عند العرب فهو قسورة وقسور. وقال لبيد بن ربيعة:

إذا ما هتفنا هتفة في ندينا أتانا الرجال العائدون القساور

 

قوله تعالى: « بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة » أي يعطى كتبا مفتوحة؛ وذلك أن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا: يا محمد! ايتنا بكتب من رب العالمين مكتوب فيها: إني قد أرسلت إليكم محمدا، صلى الله عليه وسلم. نظيره: « ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه » [ الإسراء: 93 ] . وقال ابن عباس: كانوا يقولون إن كان محمد صادقا فليصبح عند كل رجل منا صحيفة فيها براءته وأمنه من النار. قال مطر الوراق: أرادوا أن يعطوا بغير عمل. وقال الكلبي: قال المشركون: بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح عند رأسه مكتوبا ذنبه وكفارته، فأتنا بمثل ذلك. وقال مجاهد: أرادوا أن ينزل على كل واحد منهم كتاب فيه من الله عز وجل: إلى فلان بن فلان. وقيل: المعنى أن يذكر بذكر جميل، فجعلت الصحف موضع الذكر مجازا. وقالوا: إذا كانت ذنوب الإنسان تكتب عليه فما بالنا لا نرى ذلك؟ « كلا » أي ليس يكون ذلك. وقيل: حقا. والأول أجود؛ لأنه رد لقولهم. « بل لا يخافون الآخرة » أي لا أعطيهم ما يتمنون لأنهم لا يخافون الآخرة، اغترارا بالدنيا. وقرأ سعيد بن جبير « صحفا منشرة » بسكون الحاء والنون، فأما تسكين الحاء فتخفيف، وأما النون فشاذ. إنما يقال: نشرت الثوب وشبهه ولا يقال أنشرت. ويجوز أن يكون شبه الصحيفة بالميت كأنها ميتة بطيها، فإذا نشرت حييت، فجاء على أنشر الله الميت، كما شبه إحياء الميت بنشر الثوب، فقيل فيه نشر الله الميت، فهي لغة فيه.

 

الآيات: 54 - 56 ( كلا إنه تذكرة، فمن شاء ذكره، وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة )

 

قوله تعالى: « كلا إنه تذكرة » أي حقا إن القرآن عظة. « فمن شاء ذكره » أي اتعظ به. « وما يذكرون » أي وما يتعظون « إلا أن يشاء الله » أي ليس يقدرون على الاتعاظ والتذكر إلا بمشيئة الله ذلك لهم. وقراءة العامة « يذكرون » بالياء واختاره أبو عبيد؛ لقوله تعالى: « كلا بل لا يخافون الآخرة » . وقرأ نافع ويعقوب بالتاء، واختاره أبو حاتم، لأنه أعم واتفقوا على تخفيفها. « هو أهل التقوى وأهل المغفرة » في الترمذي وسنن ابن ماجة عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية: « هو أهل التقوى وأهل المغفرة » قال: [ قال الله تبارك وتعالى أنا أهل أن أتقى فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له ] لفظ الترمذي، وقال فيه: حديث حسن غريب. وفي بعض التفسير: هو أهل المغفرة لمن تاب إليه من الذنوب الكبار، وأهل المغفرة أيضا للذنوب الصغار، باجتناب الذنوب الكبار.

وقال محمد بن نصر: أنا أهل أن يتقيني عبدي، فإن لم يفعل كنت أهلا أن أغفر له [ وأرحمه، وأنا الغفور الرحيم ] .

 

سورة القيامة

 

الآيات: 1 - 6 ( لا أقسم بيوم القيامة، ولا أقسم بالنفس اللوامة، أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه، بلى قادرين على أن نسوي بنانه، بل يريد الإنسان ليفجر أمامه، يسأل أيان يوم القيامة )

 

قوله تعالى: « لا أقسم بيوم القيامة » قيل: إن « لا » صلة، وجاز وقوعها في أول السورة؛ لأن القرآن متصل بعضه ببعض، فهو في حكم كلام واحد؛ ولهذا قد يذكر الشيء في سورة ويجيء جوابه في سورة أخرى؛ كقوله تعالى: « وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون » [ الحجر: 6 ] . وجوابه في سورة أخرى: « ما أنت بنعمة ربك بمجنون » [ القلم: 2 ] . ومعنى الكلام: أقسم بيوم القيامة؛ قال ابن عباس وابن جبير وأبو عبيدة؛ ومثله قول الشاعر:

تذكرت ليلى فاعترتني صبابة فكاد صميم القلب لا يتقطع

وحكى أبو الليث السمرقندي: أجمع المفسرون أن معنى « لا أقسم » : أقسم. واختلفوا في تفسير: « لا » قال بعضهم: « لا » زيادة في الكلام للزينة، ويجري في كلام العرب زيادة ( لا ) كما قال في آية أخرى: « قال ما منعك أن تسجد » [ ص: 75 ] . يعني أن تسجد، وقال بعضهم: « لا » : رد لكلامهم حيث أنكروا البعث، فقال: ليس الأمر كما زعمتم.

قلت: وهذا قول الفراء؛ قال الفراء: وكثير من النحويين يقولون « لا » صلة، ولا يجوز أن يبدأ بجحد ثم يجعل صلة؛ لأن هذا لو كان كذلك لم يعرف خبر فيه جحد من خبر لا جحد فيه، ولكن القرآن جاء بالرد على الذين أنكروا البعث والجنة والنار، فجاء الإقسام بالرد عليهم ( في كثير من الكلام المبتدأ منه وغير المبتدأ ) وذلك كقولهم لا والله لا أفعل « فلا » رد لكلام قد مضى، وذلك كقولك: لا والله إن القيامة لحق، كأنك أكذبت قوما أنكروه. وأنشد غير الفراء لامرئ القيس:

فلا وأبيك ابنة العامري لا يدعي القوم أني أفر

وقال غوية بن سلمى:

ألا نادت أمامة باحتمال لتحزنني فلا بك ما أبالي

وفائدتها توكيد القسم في الرد. قال الفراء: وكان من لا يعرف هذه الجهة يقرأ « لأقسم » بغير ألف؛ كأنها لام تأكيد دخلت على أقسم، وهو صواب؛ لأن العرب تقول: لأقسم بالله وهي قراءة الحسن وابن كثير والزهري وابن هرمز « بيوم القيامة » أي بيوم يقوم الناس فيه لربهم، ولله عز وجل أن يقسم بما شاء. « ولا أقسم بالنفس اللوامة » لا خلاف في هذا بين القراء، وهو أنه أقسم سبحانه بيوم القيامة تعظيما لشأنه ( ولم يقسم بالنفس ) . وعلى قراءة ابن كثير أقسم بالأولى ولم يقسم بالثانية.

وقيل: « ولا أقسم بالنفس اللوامة » رد آخر وابتداء قسم بالنفس اللوامة. قال الثعلبي: والصحيح أنه أقسم بهما جميعا. ومعنى: « بالنفس اللوامة » أي بنفس المؤمن الذي لا تراه إلا يلوم نفسه، يقول: ما أردت بكذا؟ فلا تراه إلا وهو يعاتب نفسه؛ قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم. قال الحسن: هي والله نفس المؤمن، ما يرى المؤمن إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلامى؟ ما أردت بأكلي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ والفاجر لا يحاسب نفسه. وقال مجاهد: هي التي تلوم على ما فات وتندم، فتلوم نفسها على الشر لم فعلته، وعلى الخير لم لا تستكثر منه. وقيل: إنها ذات اللوم.

وقيل: إنها تلوم نفسها بما تلوم عليه غيرها؛ فعلى هذه الوجوه تكون اللوامة بمعنى اللائمة، وهو صفة مدح؛ وعلى هذا يجيء القسم بها سائغا حسنا. وفي بعض التفسير: إنه آدم عليه السلام لم يزل لائما لنفسه على معصيته التي أخرج بها من الجنة. وقيل: اللوامة بمعنى الملومة المذمومة عن ابن عباس أيضا - فهي صفة ذم وهو قول من نفى أن يكون قسما؛ إذ ليس للعاصي خطر يقسم به، فهي كثيرة اللوم. وقال مقاتل: هي نفس الكافر يلوم نفسه، ويتحسر في الآخرة على ما فرط في جنب الله. وقال الفراء: ليس من نفس محسنة أو مسيئة إلا وهي تلوم نفسها؛ فالمحسن يلوم نفسه أن لو كان ازداد إحسانا، والمسيء يلوم نفسه ألا يكون ارعوى عن إساءته.

 

قوله تعالى: « أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه » فنعيدها خلقا جديدا بعد أن صارت رفاتا. قال الزجاج: أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة: ليجمعن العظام للبعث، فهذا جواب القسم. وقال النحاس: جواب القسم محذوف أي لتبعثن؛ ودل عليه قوله تعالى: « أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه » للإحياء والبعث. والإنسان هنا الكافر المكذب للبعث. الآية نزلت في عدي بن ربيعة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: حدثني عن يوم القيامة متى تكون، وكيف أمرها وحالها؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؛ فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد ولم أأمن به، أو يجمع الله العظام؟ ! ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( اللهم اكفني جاري السوء عدي بن ربيعة، والأخنس بن شريق ) . وقيل: نزلت في عدو الله أبي جهل حين أنكر البعث بعد الموت. وذكر العظام والمراد نفسه كلها؛ لأن العظام قالب الخلق. « بلى » وقف حسن ثم تبتدئ « قادرين » . قال سيبويه: على معنى نجمعها قادرين، « فقادرين » حال من الفاعل المضمر في الفعل المحذوف على ما ذكرناه من التقدير. وقيل: المعنى بل نقدر قادرين. قال الفراء: « قادرين » نصب على الخروج من « نجمع » أي نقدر ونقوى « قادرين » على أكثر من ذلك. وقال أيضا: يصلح نصبه على التكرير أي « بلى » فليحسبنا قادرين. وقيل: المضمر ( كنا ) أي كنا قادرين في الابتداء، وقد اعترف به المشركون. وقرأ ابن أبي عبلة وابن السميقع « بلى قادرون » بتأويل نحن قادرون. « على أن نسوي بنانه » البنان عند العرب: الأصابع، واحدها بنانة؛ قال النابغة:

بمخضب رخص كأن بنانه عنم يكاد من اللطافة يعقد

وقال عنترة:

وأن الموت طوع يدي إذا ما وصلت بنانها بالهندواني

فنبه بالبنان على بقية الأعضاء. وأيضا فإنها أصغر العظام، فخصها بالذكر لذلك.

قال القتبي والزجاج: وزعموا أن الله لا يبعث الموتى ولا يقدر على جمع العظام؛ فقال الله تعالى: بلى قادرين على أن نعيد السلاميات على صغرها، ونؤلف بينها حتى تستوي، ومن قدر على هذا فهو على جمع الكبار أقدر. وقال ابن عباس وعامة المفسرين: المعنى « على أن نسوي بنانه » أي نجعل أصابع يديه ورجليه شيئا واحدا كخف البعير، أو كحافر الحمار، أو كظلف الخنزير، ولا يمكنه أن يعمل به شيئا، ولكنا فرقنا أصابعه حتى يأخذ بها ما شاء. وكان الحسن يقول: جعل لك أصابع فأنت تبسطهن، وتقبضهن بهن، ولو شاء الله لجمعهن فلم تتق الأرض إلا بكفيك. وقيل: أي نقدر أن نعيد الإنسان في هيئة البهائم، فكيف في صورته التي كان عليها؛ وهو كقوله تعالى: « وما نحن بمسبوقين. على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون » [ الواقعة:61 ] .

قلت: والتأويل الأول أشبه بمساق الآية. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « بل يريد الإنسان ليفجر أمامه » قال ابن عباس: يعني الكافر يكذب بما أمامه من البعث والحساب. وقال عبدالرحمن بن زيد؛ ودليله: « يسأل أيان يوم القيامة » أي يسأل متى يكون! على وجه الإنكار والتكذيب. فهو لا يقنع بما هو فيه من التكذيب، ولكن يأثم لما بين يديه. ومما يدل على أن الفجور التكذيب ما ذكره القتبي وغيره: أن أعرابيا قصد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وشكا إليه نقب إبله ودبرها، وسأله أن يحمله على غيرها فلم يحمله؛ فقال الأعرابي:

أقسم بالله أبو حفص عمر ما مسها من نقب ولا دبر

فاغفر له اللهم إن كان فجر

يعني إن كان كذبني فيما ذكرت. وعن ابن عباس أيضا: يعجل المعصية ويسوف التوبة. وفي بعض الحديث قال: يقول سوف أتوب ولا يتوب؛ فهو قد أخلف فكذب. وهذا قول مجاهد والحسن وعكرمة والسدي وسعيد بن جبير، يقول: سوف أتوب، سوف أتوب، حتى يأتيه الموت على أشر أحواله. وقال الضحاك: هو الأمل يقول سوف أعيش وأصيب من الدنيا ولا يذكر الموت. وقيل: أي يعزم على المعصية أبدا وإن كان لا يعيش إلا مدة قليلة. فالهاء على هذه الأقوال للإنسان. وقيل: الهاء ليوم القيامة. والمعنى بل يريد الإنسان ليكفر بالحق بين يدي يوم القيامة. والفجور أصله الميل عن الحق. « يسأل أيان يوم القيامة » أي متى يوم القيامة.

 

الآيات: 7 - 13 ( فإذا برق البصر، وخسف القمر، وجمع الشمس والقمر، يقول الإنسان يومئذ أين المفر، كلا لا وزر، إلى ربك يومئذ المستقر، ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر )

 

قوله تعالى: « فإذا برق البصر » قرأ نافع وأبان عن عاصم « برق » بفتح الراء، معناه: لمع بصره من شدة شخوصه، فتراه لا يطرف. قال مجاهد وغيره: هذا عند الموت. وقال الحسن: هذا يوم القيامة. وقال فيه معنى الجواب عما سأل عنه الإنسان كأنه يوم القيامة « إذا برق البصر. وخسف القمر » والباقون بالكسر « برق » ومعناه: تحير فلم يطرف؛ قاله أبو عمرو والزجاج وغيرهما. قال ذو الرمة:

ولو أن لقمان الحكيم تعرضت لعينيه مي سافرا كاد يبرق

الفراء والخليل: « برق » بالكسر: فزع وبهت وتحير. والعرب تقول للإنسان المتحير المبهوت: قد برق فهو برق؛ وأنشد الفراء:

فنفسك فانع ولا تنعني وداو الكلوم ولا تبرق

أي لا تفزع من كثرة الكلوم التي بك. وقيل: برق يبرق بالفتح: شق عينيه وفتحهما. قاله أبو عبيدة؛ وأنشد قول الكلابي:

لما أتاني ابن عمير راغبا أعطيته عيشا صهابا فبرق

أي فتح عينيه. وقيل: إن كسر الراء وفتحها لغتان بمعنى.

 

قوله تعالى: « وخسف القمر » أي ذهب ضوئه. والخسوف في الدنيا إلى انجلاء، بخلاف الآخرة، فإنه لا يعود ضوئه. ويحتمل أن يكون بمعنى غاب؛ ومنه قوله تعالى: « فخسفنا به وبداره الأرض » [ القصص: 81 ] . وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى والأعرج: « وخسف القمر » بضم الخاء وكسر السين يدل عليه « وجمع الشمس والقمر » . وقال أبو حاتم محمد بن إدريس: إذا ذهب بعضه فهو الكسوف، وإذا ذهب كله فهو الخسوف. « وجمع الشمس والقمر » أي جمع بينهما في ذهاب ضوئهما، فلا ضوء للشمس كما لا ضوء للقمر بعد خسوفه؛ قاله الفراء والزجاج.

قال الفراء: ولم يقل جمعت؛ لأن المعنى جمع بينهما. وقال أبو عبيدة: هو على تغليب المذكر. وقال الكسائي: هو محمول على المعنى، كأنه قال الضوءان. المبرد: التأنيث غير حقيقي. وقال ابن عباس وابن مسعود: جمع بينهما أي قرن بينهما في طلوعهما من المغرب أسودين مكورين مظلمين مقرنين كأنهما ثوران عقيران. وقد مضى الحديث بهذا المعنى في آخر سورة « الأنعام » . وفي قراءة عبدالله « وجمع بين الشمس والقمر » وقال عطاء بن يسار: يجمع بينهما يوم القيامة ثم يقذفان في البحر، فيكونان نار الله الكبرى. وقال علي وابن عباس: يجعلان في ( نور ) الحجب. وقد يجمعان في نار جهنم؛ لأنهما قد عبدا من دون الله ولا تكون النار عذابا لهما لأنهما جماد، وإنما يفعل ذلك بهما زيادة في تبكيت الكافرين وحسرتهم. وفي مسند أبي داود الطيالسي، عن يزيد الرقاشي، عن أنس ابن مالك يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الشمس والقمر ثوران عقيران في النار )

وقيل: هذا الجمع أنهما يجتمعان ولا يفترقان، ويقربان من الناس، فيلحقهم العرق لشدة الحر؛ فكأن المعنى يجمع حرهما عليهم. وقيل: يجمع الشمس والقمر، فلا يكون ثم تعاقب ليل ولا نهار.

 

قوله تعالى: « يقول الإنسان يومئذ أين المفر » أي يقول ابن آدم، ويقال: أبو جهل؛ أي أين المهرب؟ قال الشاعر:

أين المفر والكباش تنتطح وأي كبش حاد عنها يفتضح

الماوردي: ويحتمل وجهين: أحدهما « أين المفر » من الله استحياء منه. الثاني « أين المفر » من جهنم حذرا منها. ويحتمل هذا القول من الإنسان وجهين: أحدهما: أن يكون من الكافر خاصة في عرضة القيامة دون المؤمن؛ لثقة المؤمن ببشرى ربه. الثاني: أن يكون من قول المؤمن والكافر عند قيام الساعة لهول ما شاهدوا منها. وقراءة العامة « المفر » بفتح الفاء واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم؛ لأنه مصدر. وقرأ ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة بكسر الفاء مع فتح الميم؛ قال الكسائي: هما لغتان مثل مدب ومدب، ومصح ومصح. وعن الزهري بكسر الميم وفتح الفاء. المهدوي: من فتح الميم والفاء من « المفر » فهو مصدر بمعنى الفرار، ومن فتح الميم وكسر الفاء فهو الموضع الذي يفر إليه. ومن كسر الميم وفتح الفاء فهو الإنسان الجيد الفرار؛ فالمعنى أين الإنسان الجيد الفرار ولن ينجو مع ذلك.

قلت: ومنه قول امرئ القيس:

مكر مفر مقبل مدبر معا

يريد أنه حسن الكر والفر جيده. « كلا » أي لا مفر « فكلا » رد وهو من قول الله تعالى.. ثم فسر هذا الرد فقال: « لا وزر » أي لا ملجأ من النار. وكان ابن مسعود يقول: لا حصن. وكان الحسن يقول: لا جبل. وابن عباس يقول: لا ملجأ. وابن جبير: لا محيص ولا منعة. المعنى في ذلك كله واحد. والوزر في اللغة: ما يلجأ إليه من حصن أو جبل أو غيرهما؛ قال الشاعر:

لعمري ما للفتى من وزر من الموت يدركه والكبر

قال السدي: كانوا في الدنيا إذا فزعوا تحصنوا في الجبال، فقال الله لهم: لا وزر يعصمكم يومئذ مني؛ قال طرفة:

ولقد تعلم بكر أننا فاضلوا الرأي وفي الروع وزر

أي ملجأ للخائف. ويروى: وقر. « إلى ربك يومئذ المستقر » أي المنتهى؛ قال قتادة نظيره: « وأن إلى ربك المنتهى » [ النجم: 42 ] . وقال ابن مسعود: إلى ربك المصير والمرجع. قيل: أي المستقر في الآخرة حيث يقره الله تعالى؛ إذ هو الحاكم بينهم.

وقيل: إن « كلا » من قول الإنسان لنفسه إذا علم أنه ليس له مفر قال لنفسه: « كلا لا وزر. إلى ربك يومئذ المستقر » .

 

قوله تعالى: « ينبأ الإنسان » أي يخبر ابن آدم برا كان أو فاجرا « بما قدم وأخر » : أي بما أسلف من عمل سيء أو صالح، أو أخر من سنة سيئة أو صالحة يعمل بها بعده؛ قاله ابن عباس وابن مسعود. وروى منصور عن مجاهد قال: ينبأ بأول عمله وآخره. وقاله النخعي. وقال ابن عباس أيضا: أي بما قدم من المعصية، وأخر من الطاعة. وهو قول قتادة. وقال ابن زيد: « بما قدم » من أمواله لنفسه « وأخر » : خلف للورثة. وقال الضحاك: ينبأ بما قدم من فرض، وأخر من فرض. قال القشيري: وهذا الإنباء يكون في القيامة عند وزن الأعمال. ويجوز أن يكون عند الموت.

قلت: والأول أظهر؛ لما خرجه ابن ماجة في سننه من حديث الزهري، حدثني أبو عبدالله الأغر عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره، وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته ) وخرجه أبو نعيم الحافظ بمعناه من حديث قتادة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( سبع يجري أجرهن للعبد بعد موته وهو في قبره: من علم علما أو أجرى نهرا أو حفر بئرا أو غرس نخلا أو بنى مسجدا أو ورث مصحفا أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته ) فقوله: ( بعد موته وهو في قبره ) نص على أن ذلك لا يكون عند الموت، وإنما يخبر بجميع ذلك عند وزن عمله، وإن كان يبشر بذلك في قبره. ودل على هذا أيضا قوله الحق: « وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم » [ العنكبوت: 13 ] وقوله تعالى: « ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم » [ النحل: 25 ] وهذا لا يكون إلا في الآخرة بعد وزن الأعمال. والله أعلم.

وفي الصحيح: ( من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ) .

 

الآيات: 14 - 15 ( بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره )

 

قوله تعالى: « بل الإنسان على نفسه بصيرة » قال الأخفش: جعله هو البصيرة، كما تقول للرجل أنت حجة على نفسك. وقال ابن عباس: « بصيرة » أي شاهد، وهو شهود جوارحه عليه: يداه بما بطش بهما، ورجلاه بما مشى عليهما، وعيناه بما أبصر بهما. والبصيرة: الشاهد. وأنشد الفراء:

كأن على ذي العقل عينا بصيرة بمقعده أو منظر هو ناظره

يحاذر حتى يحسب الناس كلهم من الخوف لا تخفى عليهم سرائره

ودليل هذا التأويل من التنزيل قوله تعالى: « يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون » [ النور: 24 ] . وجاء تأنيث البصيرة لأن المراد بالإنسان ها هنا الجوارح، لأنها شاهدة على نفس الإنسان؛ فكأنه قال: بل الجوارح على نفس الإنسان بصيرة؛ قال معناه القتبي وغيره. وناس يقولون: هذه الهاء في قوله: « بصيرة » هي التي يسميها أهل الإعراب هاء المبالغة، كالهاء في قولهم: داهية وعلامة وراوية. وهو قول أبي عبيد. وقيل المراد بالبصيرة الكاتبان اللذان يكتبان ما يكون منه من خير أو شر؛ يدل عليه قوله تعالى: « ولو ألقى معاذيره » فيمن جعل المعاذير الستور. وهو قول السدي والضحاك. وقال بعض أهل التفسير: المعنى بل على الإنسان من نفسه بصيرة؛ أي شاهد فحذف حرف الجر. ويجوز أن يكون « بصيرة » نعتا لاسم مؤنث فيكون تقديره: بل الإنسان على نفسه عين بصيرة؛ وأنشد الفراء:

كأن على ذي العقل عينا بصيرة

وقال الحسن في قوله تعالى: « بل الإنسان على نفسه بصيرة » يعني بصير بعيوب غيره، جاهل بعيوب نفسه. أي ولو أرخى ستوره. والستر بلغة أهل اليمن: معذار؛ قاله الضحاك وقال الشاعر:

ولكنها ضنت بمنزل ساعة علينا وأطت فوقها بالمعاذر

قال الزجاج: المعاذر: الستور، والواحد معذار؛ أي وإن أرخى ستره؛ يريد أن يخفى عمله، فنفسه شاهدة عليه. وقيل: أي ولو اعتذر فقال لم أفعل شيئا، لكان عليه من نفسه من يشهد عليه من جوارحه، فهو وإن اعتذر وجادل عن نفسه، فعليه شاهد يكذب عذره؛ قال مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وعبدالرحمن بن زيد وأبو العالية وعطاء والفراء والسدي أيضا ومقاتل. قال مقاتل: أي لو أدلى بعذر أو حجة لم ينفعه ذلك. نظيره قوله تعالى: « يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم » [ غافر: 52 ] وقوله: « ولا يؤذن لهم فيعتذرون » [ المرسلات: 36 ] فالمعاذير على هذا: مأخوذ من العذر؛ قال الشاعر:

وإياك والأمر الذي إن توسعت موارده ضاقت عليك المصادر

فما حسن أن يعذر المرء نفسه وليس له من سائر الناس عاذر

واعتذر رجل إلى إبراهيم النخعي فقال له: قد عذرتك غير معتذر، إن المعاذير يشوبها الكذب. وقال ابن عباس: « ولو ألقى معاذيره » أي لو تجرد من ثيابه. حكاه الماوردي.

قلت: والأظهر أنه الإدلاء بالحجة والاعتذار من الذنب؛ ومنه قول النابغة:

ها إن ذي عذرة إلا تكن نفعت فإن صاحبها مشارك الكند

والدليل على هذا قوله تعالى في الكفار « والله ربنا ما كنا مشركين » [ الأنعام: 23 ] وقوله تعالى في المنافقين: « يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم » [ المجادلة: 18 ] . وفي الصحيح أنه يقول: ( يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسولك، وصليت وصمت وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع ) الحديث. وقد تقدم في « حم السجدة » وغيرها. والمعاذير والمعاذر: جمع معذرة؛ ويقال: عذرته فيما صنع أعذره عذرا وعذرا، والاسم المعذرة والعذري؛ قال الشاعر:

إني حددت ولا عذرى لمحدود

وكذلك العذرة وهي مثل الركبة والجلسة؛ قال النابغة:

ها إن تا عذرة إلا تكن نفعت فإن صاحبها قد تاه في البلد

 

قال القاضي أبو بكر بن العربي قوله تعالى: « بل الإنسان على نفسه بصيرة. ولو ألقى معاذيره » : فيها دليل على قبول إقرار المرء على نفسه؛ لأنها بشهادة منه عليها؛ قال الله سبحانه وتعالى: « يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون » [ النور: 24 ] ولا خلاف فيه؛ لأنه إخبار على وجه تنتفي التهمة عنه؛ لأن العاقل لا يكذب على نفسه، وهي

وقد قال سبحانه في كتابه الكريم: « وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين » [ آل عمران: 81 ] ثم قال تعالى: « وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا » [ التوبة: 102 ] وهو في الآثار كثير؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها ) . فأما إقرار الغير على الغير بوارث أو دين فقال مالك: الأمر المجتمع عليه عندنا في الرجل يهلك وله بنون، فيقول أحدهم: إن أبي قد أقر أن فلانا ابنه، أن ذلك النسب لا يثبت بشهادة إنسان واحد، ولا يجوز إقرار الذي أقر إلا على نفسه في حصته من مال أبيه، يعطى الذي شهد له قدر الدين الذي يصيبه من المال الذي في يده. قال مالك: وتفسير ذلك أن يهلك الرجل ويترك ابنين ويترك ستمائة دينار، ثم يشهد أحدهما بأن أباه الهالك أقر أن فلانا ابنه، فيكون على الذي شهد للذي استحق مائة دينار، وذلك نصف ميراث المستلحق لو لحق، وإن أقر له الآخر أخذ المائة الأخرى فاستكمل حقه وثبت نسبه. وهو أيضا بمنزلة المرأة تقر بالدين على أبيها أو على زوجها وينكر ذلك الورثة، فعليها أن تدفع إلى الذي أقرت له قدر الذي يصيبها من ذلك الدين لو ثبت على الورثة كلهم، إن كانت امرأة فورثت الثمن دفعت إلى الغريم ثمن دينه، وإن كانت ابنة ورثت النصف دفعت إلى الغريم نصف دينه، على حساب هذا يدفع إليه من أقر له من النساء.

 

لا يصح الإقرار إلا من مكلف، لكن بشرط ألا يكون محجورا عليه؛ لأن الحجر يسقط قوله إن كان لحق نفسه، فإن كان لحق غيره كالمريض كان منه ساقط، ومنه جائز. وبيانه في مسائل الفقه. وللعبد حالتان في الإقرار: إحداهما في ابتدائه، ولا خلاف فيه على الوجه المتقدم. والثانية في انتهائه، وذلك مثل إبهام الإقرار، وله صور كثيرة وأمهاتها ست: الصورة الأولى: أن يقول له عندي شيء، قال الشافعي: لو فسره بتمرة أو كسرة قبل منه. والذي تقتضيه أصولنا أنه لا يقبل إلا فيما له قدر، فإذا فسره به قبل منه وحلف عليه. الصورة الثانية: أن يفسر هذا بخمر أو خنزير أو ما لا يكون مالا في الشريعة: لم يقبل باتفاق ولو ساعده عليه المقر له. الصورة الثالثة: أن يفسره بمختلف فيه مثل جلد الميتة أو سرقين أو كلب، ( فإن الحاكم يحكم عليه في ذلك بما يراه من رد وإمضاء ) فإن رده لم يحكم عليه حاكم آخر غيره بشيء، لأن الحكم قد نفذ بإبطاله، وقال بعض أصحاب الشافعي: يلزم الخمر والخنزير، وهو قول باطل.

وقال أبو حنيفة: إذا قال له علي شيء لم يقبل تفسيره إلا بمكيل أو موزون، لأنه لا يثبت في الذمة بنفسه إلا هما. وهذا ضعيف؛ فإن غيرهما يثبت في الذمة إذا وجب ذلك إجماعا. الصورة الرابعة: إذا قال له: عندي مال قبل تفسيره بما لا يكون مالا في العادة كالدرهم والدرهمين، ما لم يجيء من قرينة الحال ما يحكم عليه بأكثر منه.

الصورة الخامسة: أن يقول له: عندي مال كثير أو عظيم؛ فقال الشافعي: يقبل في الحبة. وقال أبو حنيفة: لا يقبل إلا في نصاب الزكاة. وقال علماؤنا في ذلك أقوالا مختلفة، منها نصاب السرقة والزكاة والدية وأقله عندي نصاب السرقة، لأنه لا يبان عضو المسلم إلا في مال عظيم. وبه قال أكثر الحنفية. ومن يعجب فيتعجب لقول الليث بن سعد: إنه لا يقبل في أقل من اثنين وسبعين درهما. فقيل له: ومن أين تقول ذلك؟ قال: لأن الله تعالى قال: « لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين » [ التوبة: 25 ] وغزواته وسراياه كانت اثنتين وسبعين. وهذا لا يصح؛ لأنه أخرج حنينا منها، وكان حقه أن يقول يقبل في أحد وسبعين، وقد قال الله تعالى: « اذكروا الله ذكرا كثيرا » [ الأحزاب: 41 ] ، وقال: « لا خير في كثير من نجواهم » [ النساء: 114 ] ، وقال: « والعنهم لعنا كبيرا » [ الأحزاب: 68 ] . الصورة السادسة: إذا قال له: عندي عشرة أو مائة وخمسون درهما فإنه يفسرها بما شاء ويقبل منه، فإن قال ألف درهم أو مائة وعبد أو مائة وخمسون درهما فإنه يفسر المبهم ويقبل منه. وبه قال الشافعي: وقال أبو حنيفة: إن عطف على العدد المبهم مكيلا أو موزونا كان تفسيرا؛ كقوله: مائة وخمسون درهما؛ لأن الدرهم تفسير للخمسين، والخمسين تفسير للمائة. وقال ابن خيران الإصطخري من أصحاب الشافعي: الدرهم لا يكون تفسيرا في المائة والخمسين إلا للخمسين خاصة ويفسر هو المائة بما شاء.

 

قوله تعالى: « ولو ألقى معاذيره » ومعناه لو اعتذر بعد الإقرار لم يقبل منه. وقد اختلف العلماء فيمن رجع بعد ما أقر في الحدود التي هي خالص حق الله؛ فقال أكثرهم منهم الشافعي وأبو حنيفة: يقبل رجوعه بعد الإقرار. وقال به مالك في أحد قوليه، وقال في القول الآخر: لا يقبل إلا أن يذكر لرجوعه وجها صحيحا.

والصحيح جواز الرجوع مطلقا؛ لما روى الأئمة منهم البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم رد المقر بالزنى مرارا أربعا كل مرة يعرض عنه، ولما شهد على نفسه أربع مرات دعاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ( أبك جنون ) قال: لا. قال: ( أحصنت ) قال: نعم. وفي حديث البخاري: ( لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت ) . وفي النسائي وأبي داود: حتى قال له في الخامسة ( أجامعتها ) قال: نعم. قال: ( حتى غاب ذلك منك في ذلك منها ) قال: نعم. قال: ( كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر ) . قال: نعم. ثم قال: ( هل تدري ما الزنى ) قال: نعم، أتيت منها حراما مثل ما يأتي الرجل من أهله حلالا. قال: ( فما تريد مني ) ؟ قال: أريد أن تطهرني. قال: فأمر به فرجم. قال الترمذي وأبو داود: فلما وجد مس الحجارة فر يشتد، فضربه رجل بلحى جمل، وضربه الناس حتى مات. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( هلا تركتموه ) وقال أبو داود والنسائي: ليثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما لترك حد فلا. وهذا كله طريق للرجوع وتصريح بقبوله. وفي قوله عليه السلام: ( لعلك قبلت أو غمزت ) إشارة إلى قول مالك: إنه يقبل رجوعه إذا ذكر وجها.

 

وهذا في الحر المالك لأمر نفسه، فأما العبد فإن إقراره لا يخلو من أحد قسمين: إما أن يقر على بدنه، أو على ما في يده وذمته؛ فإن أقر على ما في بدنه فيما فيه عقوبة من القتل فما دونه نفذ ذلك عليه. وقال محمد بن الحسن: لا يقبل ذلك منه؛ لأن بدنه مستغرق لحق السيد، وفي إقراره إتلاف حقوق السيد في بدنه؛ ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: ( من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله، فإن من يبدلنا صفحته نقم عليه الحد ) . المعنى: أن محل العقوبة أصل الخلقة، وهي ( الدمية ) في الآدمية، ولا حق للسيد فيها، وإنما حقه في الوصف والتبع، وهي المالية الطارئة عليه؛ ألا ترى أنه لو أقر بمال لم يقبل، حتى قال أبو حنيفة: إنه لو قال سرقت هذه السلعة أنه لم تقطع يده ويأخذها المقر له. وقال علماؤنا: السلعة للسيد ويتبع العبد بقيمتها إذا عتق؛ لأن مال العبد للسيد إجماعا، فلا يقبل قوله فيه ولا إقراره عليه، لا سيما وأبو حنيفة يقول: إن العبد لا ملك له ولا يصح أن يملك ولا يملك، ونحن وإن قلنا إنه يصح تملكه. ولكن جميع ما في يده لسيده بإجماع على القولين. والله أعلم.

الآية [ 16 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات: 16 - 21 ( لا تحرك به لسانك لتعجل به، إن علينا جمعه وقرآنه، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه، ثم إن علينا بيانه، كلا بل تحبون العاجلة، وتذرون الآخرة )

 

قوله تعالى: « لا تحرك به لسانك لتعجل به » في الترمذي: عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه القرآن يحرك به لسانه، يريد أن يحفظه، فأنزل الله تبارك وتعالى: « لا تحرك به لسانك لتعجل به » قال: فكان يحرك به شفتيه. وحرك سفيان شفتيه. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. ولفظ مسلم عن ابن جبير عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، كان يحرك شفتيه، فقال لي ابن عباس: أنا أحركهما كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما؛ فقال سعيد: أنا أحركهما كما كان ابن عباس يحركهما، فحرك شفتيه؛ فأنزل الله عز وجل: « لا تحرك به لسانك لتعجل به. إن علينا جمعه وقرآنه » قال جمعه في صدرك ثم تقرؤه: « فإذا قرآناه فاتبع قرآنه » قال فاستمع له وأنصت. ثم إن علينا أن نقرأه؛ قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل عليهما السلام استمع، وإذا انطلق جبريل عليه السلام قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما أقرأه؛ خرجه البخاري أيضا. ونظير هذه الآية قوله تعالى: « ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه » [ طه: 114 ] وقد تقدم. وقال عامر الشعبي: إنما كان يعجل بذكره إذا نزل عليه من حبه له، وحلاوته في لسانه، فنهى عن ذلك حتى يجتمع؛ لأن بعضه مرتبط ببعض، وقيل: كان عليه السلام إذا نزل عليه الوحي حرك لسانه مع الوحي مخافة أن ينساه، فنزلت « ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه » [ طه: 114 ] ونزل: « سنقرئك فلا تنسى » [ الأعلى: 6 ] ونزل: « لا تحرك به لسانك » قاله ابن عباس: « وقرآنه » أي وقراءته عليك. والقراءة والقرآن في قول الفراء مصدران. وقال قتادة: « فاتبع قرآنه » أي فاتبع شرائعه وأحكامه. « ثم إن علينا بيانه » أي تفسير ما فيه من الحدود والحلال والحرام؛ قاله قتادة. وقيل: ثم إن علينا بيان ما فيه من الوعد والوعيد وتحقيقهما وقيل: أي إن علينا أن نبينه بلسانك. « كلا » قال ابن عباس: أي إن أبا جهل لا يؤمن بتفسير القرآن وبيانه. وقيل: أي ( كلا ) لا يصلون ولا يذكون يريد كفار مكة. « بل تحبون » أي بل تحبون يا كفار أهل مكة « العاجلة » أي الدار الدنيا والحياة فيها « وتذرون » أي تدعون « الآخرة » والعمل لها. وفي بعض التفسير قال: الآخرة الجنة. وقرأ أهل المدينة والكوفيون « بل تحبون » « وتذرون » بالتاء فيهما على الخطاب واختاره أبو عبيد؛ قال: ولولا الكراهة لخلاف هؤلاء القراء لقرأتها بالياء؛ لذكر الإنسان قبل ذلك. الباقون بالياء على الخبر، وهو اختيار أبي حاتم، فمن قرأ بالياء فردا على قوله تعالى: « ينبأ الإنسان » [ القيامة: 13 ] وهو بمعنى الناس. ومن قرأ بالتاء فعلى أنه واجههم بالتقريع؛ لأن ذلك أبلغ في المقصود؛ نظيره: « إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا » [ الإنسان: 27 ] .

 

الآيات: 22 - 25 ( وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة، ووجوه يومئذ باسرة، تظن أن يفعل بها فاقرة )

 

قوله تعالى: « وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة » الأول من النضرة التي هي الحسن والنعمة. والثاني من النظر أي وجوه المؤمنين مشرقة حسنة ناعمة؛ يقال: نضرهم الله ينضرهم نضرة ونضارة وهو الإشراق والعيش والغنى؛ ومنه الحديث ( نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ) . « إلى ربها » إلى خالقها ومالكها « ناظرة » من النظر أي تنظر إلى ربها؛ على هذا جمهور العلماء. وفي الباب حديث صهيب خرجه مسلم وقد مضى في « يونس » عند قوله تعالى: « للذين أحسنوا الحسنى وزيادة » [ يونس: 26 ] . وكان ابن عمر يقول: أكرم أهل الجنة على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية؛ ثم تلا هذه الآية: « وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة » وروى يزيد النحوي عن عكرمة قال: تنظر إلى ربها نظرا. وكان الحسن يقول: نضرت وجوههم ونظروا إلى ربهم.

وقيل: إن النظر هنا انتظار ما لهم عند الله من الثواب. وروي عن ابن عمر ومجاهد. وقال عكرمة: تنتظر أمر ربها. حكاه الماوردي عن ابن عمر وعكرمة أيضا. وليس معروفا إلا عن مجاهد وحده. واحتجوا بقوله تعالى: « لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار » [ الأنعام: 103 ] وهذا القول ضعيف جدا، خارج عن مقتضى ظاهر الآية والأخبار. وفي الترمذي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ) ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: « وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة » قال هذا حديث غريب. وقد روى عن ابن عمرو ولم يرفعه. وفي صحيح مسلم عن أبي بكر بن عبدالله بن قيس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم جل وعز إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن ) . وروى جرير بن عبدالله قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوسا، فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: ( إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ) . ثم قرأ « وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب » متفق عليه. وخرجه أيضا أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح. وخرج أبو داود عن أبي رزين العقيلي قال: قلت يا رسول الله أكلنا يرى ربه؟ قال ابن معاذ: مخليا به يوم القيامة؟ قال: ( نعم يا أبا رزين ) قال: وما آية ذلك في خلقه؟ قال: ( يا أبا رزين أليس كلكم يرى القمر ) قال ابن معاذ: ليلة البدر مخليا به. قلنا: بلى. قال: ( فالله أعظم ) ( قال ابن معاذ قال ) : ( فإنما هو خلق من خلق الله - يعني القمر - فالله أجل وأعظم ) . وفي كتاب النسائي عن صهيب قال: ( فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر، ولا أقر لأعينهم ) وفي التفسير لأبي إسحاق الثعلبي عن الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ يتجلى ربنا عز وجل حتى ينظروا إلى وجهه، فيخرون له سجدا، فيقول ارفعوا رؤوسكم فليس هذا بيوم عبادة ]

قال الثعلبي: وقول مجاهد إنها بمعنى تنتظر الثواب من ربها ولا يراه شيء من خلقه، فتأويل مدخول، لأن العرب إذا أرادت بالنظر الانتظار قالوا نظرته؛ كما قال تعالى: « هل ينظرون إلا الساعة » [ الزخرف: 66 ] ، « هل ينظرون إلا تأويله » [ الأعراف: 53 ] ، و « ما ينظرون إلا صيحة واحدة » [ يس: 49 ] وإذا أرادت به التفكر والتدبر قالوا: نظرت فيه، فأما إذا كان النظر مقرونا بذكر إلى، وذكر الوجه فلا يكون إلا بمعنى الرؤية والعيان. وقال الأزهري: إن قول مجاهد تنتظر ثواب ربها خطأ؛ لأنه لا يقال نظر إلى كذا بمعنى الانتظار، وإن قول القائل: نظرت إلى فلان ليس إلا رؤية عين، كذلك تقوله العرب؛ لأنهم يقولون نظرت إليه: إذا أرادوا نظر العين، فإذا أرادوا الانتظار قالوا نظرته؛ قال:

فإنكما إن تنظراني ساعة من الدهر تنفعني لدى أم جندب

لما أراد الانتظار قال تنظراني، ولم يقل تنظران إلي؛ وإذا أرادوا نظر العين قالوا: نظرت إليه؛ قال:

نظرت إليها والنجوم كأنها مصابيح رهبان تشب لقفال

وقال آخر:

نظرت إليها بالمحصب من منى ولي نظر لولا التحرج عارم

وقال آخر:

إني إليك لما وعدت لناظر نظر الفقير إلى الغني الموسر

أي إني أنظر إليك بذل؛ لأن نظر الذل والخضوع أرق لقلب المسؤول؛ فأما ما استدلوا به من قوله تعالى: « لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار » [ الأنعام: 103 ] فإنما ذلك في الدنيا. وقد مضى القول فيه في موضعه مستوفى. وقال عطية العوفي: ينظرون إلى الله لا تحيط أبصارهم به من عظمته، ونظره يحيط بها؛ يدل عليه: « لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار » [ الأنعام: 103 ] قال القشيري أبو نصر: وقيل: « إلى » واحد الآلاء: أي نعمه منتظرة وهذا أيضا باطل؛ لأن واحد الآلاء يكتب بالألف لا بالياء، ثم الآلاء: نعمه الدفع، وهم في الجنة لا ينتظرون دفع نقمه عنهم، والمنتظر للشيء متنغص العيش، فلا يوصف أهل الجنة بذلك. وقيل: أضاف النظر إلى الوجه؛ وهو كقوله تعالى: « تجري من تحتها الأنهار » [ المائدة: 119 ] والماء يجري في النهر لا النهر. ثم قد يذكر الوجه بمعنى العين؛ قال الله تعالى: « فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا » [ يوسف: 93 ] أي على عينيه. ثم لا يبعد قلب العادة غدا، حتى يخلق الرؤية والنظر في الوجه؛ وهو كقوله تعالى: « أفمن يمشي مكبا على وجهه » [ الملك: 22 ] ، فقيل: يا رسول الله! كيف يمشون في النار على وجوههم؟ قال: ( الذي أمشاهم على أقدامهم قادر أن يمشيهم على وجوههم ) . « ووجوه يومئذ باسرة » أي وجوه الكفار يوم القيامة كالحة كاسفة عابسة. وفي الصحاح: وبسر الفحل الناقة وابتسرها: إذا ضربها من غير ضبعة. وبسر الرجل وجهه بسورا أي كلح؛ يقال: عبس وبسر. وقال السدي: « باسرة » أي متغيرة والمعنى واحد. « تظن أن يفعل بها فاقرة » أي توقن وتعلم، والفاقرة: الداهية والأمر العظيم؛ يقال: فقرته الفاقرة: أي كسرت فقار ظهره. قال معناه مجاهد وغيره. وقال قتادة: الفاقرة الشر. السدي: الهلاك. ابن عباس وابن زيد: دخول النار. والمعنى متقارب وأصلها الوسم على أنف البعير بحديدة أو نار حتى يخلص إلى العظم؛ قاله الأصمعي. يقال: فقرت أنف البعير: إذا حززته بحديدة ثم جعلت على موضع الحز الجرير وعليه وتر ملوي، لتذلله بذلك وتروضه؛ ومنه قولهم: قد عمل به الفاقرة. وقال النابغة:

أبى لي قبر لا يزال مقابلي وضربة فأس فوق رأسي فاقره

 

الآيات: 26 - 30 ( كلا إذا بلغت التراقي، وقيل من راق، وظن أنه الفراق، والتفت الساق بالساق، إلى ربك يومئذ المساق )

 

قوله تعالى: « كلا إذا بلغت التراقي » « كلا » ردع وزجر؛ أي بعيد أن يؤمن الكافر بيوم القيامة؛ ثم استأنف فقال: « إذا بلغت التراقي » أي بلغت النفس أو الروح التراقي؛ فأخبر عما لم يجر له ذكر، لعلم المخاطب به؛ كقوله تعالى: « حتى توارت بالحجاب » [ ص: 32 ] وقوله تعالى: « فلولا إذا بلغت الحلقوم » [ الواقعة: 83 ] وقد تقدم. وقيل: « كلا » معناه حقا؛ أي حقا أن المساق إلى الله « إذا بلغت التراقي » أي إذا ارتقت النفس إلى التراقي. وكان ابن عباس يقول: إذا بلغت نفس الكافر التراقي. والتراقي جمع ترقوة وهي العظام المكتنفة لنقرة النحر، وهو مقدم الحلق من أعلى الصدر، موضع الحشرجة؛ قال دريد بن الصمة.

ورب عظيمة دافعت عنهم وقد بلغت نفوسهم التراقي

وقد يكنى عن الإشفاء على الموت ببلوغ النفس التراقي، والمقصود تذكيرهم شدة الحال عند نزول الموت.

 

قوله تعالى: « وقيل من راق » اختلف فيه؛ فقيل: هو من الرقية؛ عن ابن عباس وعكرمة وغيرهما. روي سماك عن عكرمة قال: من راق يرقي: أي يشفي. وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس: أي هل من طبيب يشفيه؛ وقال أبو قلابة وقتادة؛ وقال الشاعر:

هل للفتى من بنات الدهر من واق أم هل له من حمام الموت من راق

وكان هذا على وجه الاستبعاد واليأس؛ أي من يقدر أن يرقي من الموت.

وعن ابن عباس أيضا وأبي الجوزاء أنه من رقي يرقى: إذا صعد، والمعنى: من يرقى بروحه إلى السماء؟ أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ وقيل: إن ملك الموت يقول من راق؟ أي من يرقى بهذه النفس؛ وذلك أن نفس الكافر تكره الملائكة قربها، فيقول ملك الموت: يا فلان اصعد بها. وأظهر عاصم وقوم النون في قوله تعالى: « من راق » واللام في قوله: « بل ران » لئلا يشبه مراق وهو بائع المرقة، وبران في تثنية البر. والصحيح ترك الإظهار، وكسرة القاف في « من راق » ، وفتحة النون في « بل ران » تكفي في زوال اللبس. وأمثل مما ذكر: قصد الوقف على « من » و « بل » ، فأظهرهما؛ قاله القشيري.

 

قوله تعالى: « وظن » أي أيقن الإنسان « أنه الفراق » أي فراق الدنيا والأهل والمال والولد، وذلك حين عاين الملائكة. قال الشاعر:

فراق ليس يشبهه فراق قد انقطع الرجاء عن التلاق

« والتفت الساق بالساق » أي فاتصلت الشدة بالشدة؛ شدة آخر الدنيا بشدة أول الآخرة؛ قاله ابن عباس والحسن وغيرهما. وقال الشعبي وغيره: المعنى التفت ساقا الإنسان عند الموت من شدة الكرب. وقال قتادة: أما رأيته إذا أشرف على الموت يضرب إحدى رجليه على الأخرى. وقال سعيد بن المسيب والحسن أيضا: هما ساقا الإنسان إذا التفتا في الكفن. وقال زيد بن أسلم: التفت ساق الكفن بساق الميت. وقال الحسن أيضا: ماتت رجلاه ويبست ساقاه فلم تحملاه، ولقد كان عليهما جوالا. قال النحاس: القول الأول أحسنها. وروى علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس: « والتفت الساق بالساق » قال: آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة، فتلتقي الشدة بالشدة إلا من رحمه الله؛ أي شدة كرب الموت بشدة هول المطلع؛ والدليل على هذا قوله تعالى: « إلى ربك يومئذ المساق » وقال مجاهد: بلاء ببلاء. يقول: تتابعت عليه الشدائد. وقال الضحاك وابن زيد: اجتمع عليه أمران شديدان: الناس يجهزون جسده، والملائكة يجهزون روحه، والعرب لا تذكر الساق إلا في المحن والشدائد العظام؛ ومنه قولهم: قامت الدنيا على ساق، وقامت الحرب على ساق. قال الشاعر:

وقامت الحرب بنا على ساق

وقد مضى هذا المعنى في آخر سورة « ن والقلم » . وقال قوم: الكافر تعذب روحه عند خروج نفسه، فهذه الساق الأولى، ثم يكون بعدهما ساق البعث وشدائده: « إلى ربك » أي إلى خالقك « يومئذ » أي يوم القيامة « المساق » أي المرجع. وفي بعض التفاسير قال: يسوقه ملكه الذي كان يحفظ عليه السيئات. والمساق: المصدر من ساق يسوق، كالمقال من قال يقول.

 

الآيات: 31 - 35 ( فلا صدق ولا صلى، ولكن كذب وتولى، ثم ذهب إلى أهله يتمطى، أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى )

 

قوله تعالى: « فلا صدق ولا صلى » أي لم يصدق أبو جهل ولم يصل. وقيل: يرجع هذا إلى الإنسان في أول السورة، وهو اسم جنس. والأول قول ابن عباس. أي لم يصدق بالرسالة « ولا صلى » ودعا لربه، وصلى على رسوله. وقال قتادة: فلا صدق بكتاب الله، ولا صلى لله. وقيل: ولا صدق بمال له، ذخرا له عند الله، ولا صلى الصلوات التي أمره الله بها. وقيل: فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه. قال الكسائي: « لا » بمعنى لم ولكنه يقرن بغيره؛ تقول العرب: لا عبدالله خارج ولا فلان، ولا تقول: مررت برجل لا محسن حتى يقال ولا مجمل، وقوله تعالى: « فلا اقتحم العقبة » [ البلد: 11 ] ليس من هذا القبيل؛ لأن معناه أفلا أقتحم؛ أي فهلا اقتحم، فحذف ألف الاستفهام. وقال الأخفش: « فلا صدق » أي لم يصدق؛ كقوله: « فلا اقتحم » أي لم يقتحم، ولم يشترط أن يعقبه بشيء آخر، والعرب تقول: لا ذهب، أي لم يذهب، فحرف النفي ينفي الماضي كما ينفي المستقبل؛ ومنه قول زهير:

فلا هو أبداها ولم يتقدم

 

قوله تعالى: « ولكن كذب وتولى » أي كذب بالقرآن وتولى عن الإيمان « ثم ذهب إلى أهله يتمطى » أي يتبختر، افتخارا بذلك؛ قال مجاهد وغيره. مجاهد: المراد به أبو جهل. وقيل: « يتمطى » من المطا وهو الظهر، والمعنى يلوي مطاه. وقيل: أصله يتمطط، وهو التمدد من التكسل والتثاقل، فهو يتثاقل عن الداعي إلى الحق؛ فأبدل من الطاء ياء كراهة التضعيف، والتمطي يدل على قلة الاكتراث، وهو التمدد، كأنه يمد ظهره ويلويه من التبختر. والمطيطة الماء الخاثر في أسفل الحوض؛ لأنه يتمطى أي يتمدد؛ وفي الخبر: ( إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس والروم كان بأسهم بينهم « . والمطيطاء: التبختر ومد اليدين في المشي.»

 

قوله تعالى: « أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى » تهديد بعد تهديد، ووعيد بعد وعيد، أي فهو وعيد أربعة لأربعة؛ كما روي أنها نزلت في أبي جهل الجاهل بربه فقال: « فلا صدق ولا صلى. ولكن كذب وتولى » أي لا صدق رسول الله، ولا وقف بين يدي فصلى، ولكن، كذب رسولي، وتولى عن التصلية بين يدي. فترك التصديق خصلة، والتكذيب خصلة، وترك الصلاة خصلة، والتولي عن الله تعالى خصلة؛ فجاء الوعيد أربعة مقابلة لترك الخصال الأربعة. والله أعلم. لا يقال: فإن قوله: « ثم ذهب إلى أهله يتمطى » خصلة خامسة؛ فإنا نقول: تلك كانت عادته قبل التكذيب والتولي، فأخبر عنها. وذلك بين في قول قتادة على ما نذكره. وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المسجد ذات يوم، فاستقبله أبو جهل على باب المسجد، مما يلي باب بني مخزوم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فهزه أو مرتين ثم قال: ( أولى لك فأولى ) فقال له أبو جهل: أتهددني؟ فوالله إني لأعز أهل الوادي وأكرمه. ونزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال لأبي جهل. وهي كلمة وعيد. قال الشاعر:

فأولى ثم أولى ثم أولى وهل للدر يحلب من مرد

قال قتادة: أقبل أبو جهل بن هشام يتبختر، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيده فقال: [ أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى ] . فقال: ما تستطيع أنت ولا ربك لي شيئا، إني لأعز من بين جبليها. فلما كان يوم بدر أشرف على المسلمين فقال: لا يعبد الله بعد هذا اليوم أبدا. فضرب الله عنقه، وقتله شر قتلة.

وقيل: معناه: الويل لك؛ ومنه قول الخنساء:

هممت بنفسي كل الهموم فأولى لنفسي أولى لها

سأحمل نفسي على آلة فإما عليها وإما لها

الآلة: الحالة، والآلة: السرير أيضا الذي يحمل عليه الميت؛ وعلى هذا التأويل قيل: هو من المقلوب؛ كأنه قيل: أويل، ثم أخر الحرف المعتل، والمعنى: الويل لك حيا، والويل لك ميتا، والويل لك يوم البعث، والويل لك يوم تدخل النار؛ وهذا التكرير كما قال: لك الويلات إنك مرجلي أي لك الويل، ثم الويل، ثم الويل، وضعف هذا القول. وقيل: معناه الذم لك، أولى، من تركه، إلا أنه كثير في الكلام فحذف. وقيل: المعنى أنت أولى وأجدر بهذا العذاب. وقال أبو العباس أحمد بن يحيى: قال الأصمعي « أولى » في كلام العرب معناه مقاربة الهلاك، كأنه يقول: قد وليت الهلاك، قد دانيت الهلاك؛ وأصله من الولي، وهو القرب؛ قال الله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار » [ التوبة: 123 ] أي يقربون منكم؛ وأنشد الأصمعي:

وأولى أن يكون له الولاء

أي قارب أن يكون له؛ وأنشد أيضا:

أولى لمن هاجت له أن يكمدا

أي قد دنا صاحبها [ من ] الكمد. وكان أبو العباس ثعلب يستحسن قول الأصمعي ويقول: ليس أحد يفسر كتفسير الأصمعي. النحاس: العرب تقول أولى لك: كدت تهلك ثم أفلت، وكأن تقديره: أولى لك وأولى بك الهلكة. المهدوي قال: ولا تكون أولى ( أفعل منك ) ، وتكون خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: الوعيد أولى له من غيره؛ لأن أبا زيد قد حكى: أولاة الآن: إذا أوعدوا. فدخول علامة التأنيث دليل على أنه ليس كذلك. و « لك » خبر عن « أولى » . ولم ينصرف « أولى » لأنه صار علما للوعيد، فصار كرجل اسمه أحمد. وقيل: التكرير فيه على معنى ألزم لك على عملك السيء الأول، ثم على الثاني، والثالث، والرابع، كما تقدم.

 

الآيات: 36 - 40 ( أيحسب الإنسان أن يترك سدى، ألم يك نطفة من مني يمنى، ثم كان علقة فخلق فسوى، فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى، أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى )

 

قوله تعالى: « أيحسب الإنسان » أي يظن ابن آدم « أن يترك سدى » أي أن يخلى مهملا، فلا يؤمر ولا ينهى؛ قال ابن زيد ومجاهد، ومنه إبل سدى: ترعى بلا راع.

وقيل: أيحسب أن يترك في قبره كذلك أبدا لا يبعث. وقال الشاعر:

فأقسم بالله جهد اليميــ ــن ما ترك الله شيئا سدى

 

قوله تعالى: « ألم يك نطفة من مني يمنى » أي من قطرة ماء تمنى في الرحم، أي تراق فيه؛ ولذلك سميت ( مني ) لإراقة الدماء. وقد تقدم. والنطفة: الماء القليل؛ يقال: نطف الماء: إذا قطر. أي ألم يك ماء قليلا في صلب الرجل وترائب المرأة.

وقرأ حفص « من مني يمنى » بالياء، وهي قراءة ابن محيصن ومجاهد ويعقوب وعياش عن أبي عمرو، واختاره أبو عبيد لأجل المني. الباقون بالتاء لأجل النطفة، واختاره أبو حاتم. « ثم كان علقة » أي دما بعد النطفة، أي قد رتبه تعالى بهذا كله على خسة قدره. ثم قال: « فخلق » أي فقدر « فسوى » أي فسواه تسوية، وعدله تعديلا، بجعل الروح فيه « فجعل منه » أي من الإنسان. وقيل: من المني. « الزوجين الذكر والأنثى » أي الرجل والمرأة. وقد احتج بهذا من رأى إسقاط الخنثى. وقد مضى في سورة « الشورى » أن هذه الآية وقرينتها إنما خرجتا مخرج الغالب. وقد مضى في أول سورة « النساء » أيضا القول فيه، وذكرنا في آية المواريث حكمه، فلا معنى لإعادته. « أليس ذلك بقادر » أي أليس الذي قدر على خلق هذه النسمة من قطرة من ماء « بقادر على أن يحيي الموتى » أي على أن يعيد هذه الأجسام كهيئتها للبعث بعد البلى.

وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قرأها قال: [ سبحانك اللهم، بلى ] وقال ابن عباس. من قرأ « سبح اسم ربك الأعلى » [ الأعلى: 1 ] إماما كان أوغيره فليقل: « سبحان ربي الأعلى » ومن قرأ « لا أقسم بيوم القيامة » [ القيامة: 1 ] إلى آخرها إماما كان أو غيره فليقل: « سبحانك اللهم بلى » ذكره الثعلبي من حديث أبي إسحاق السبيعي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. ختمت السورة والحمد لله.

 

سورة الإنسان

مقدمة السورة

 

مكية في قول ابن عباس ومقاتل والكلبي. وقال الجمهور: مدنية. وقيل: فيها مكي، من قوله تعالى: « إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا » [ الإنسان: 23 ] إلى آخر السورة، وما تقدمه مدني.

وذكر ابن وهب قال: وحدثنا ابن زيد قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقرأ: « هل أتى على الإنسان حين من الدهر » وقد أنزلت عليه وعنده رجل أسود كان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له عمر بن الخطاب: لا تثقل على النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ( دعه يا ابن الخطاب ) قال: فنزلت عليه هذه السورة وهو عنده، فلما قرأها عليه وبلغ صفة الجنان زفر زفرة فخرجت نفسه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أخرج نفس صاحبكم - أو أخيكم - الشوق إلى الجنة ) وروي عن ابن عمر بخلاف هذا اللفظ، وسيأتي. وقال القشيري: إن هذه السورة نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه. والمقصود من السورة عام. وهكذا القول في كل ما يقال إنه نزل بسبب كذا وكذا.

 

الآيات: 1 - 3 ( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا، إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا، إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا )

 

قوله تعالى: « هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا » « هل » : بمعنى قد؛ قال الكسائي والفراء وأبو عبيدة. وقد حكي عن سيبويه « هل » بمعنى قد. قال الفراء: هل تكون جحدا، وتكون خبرا، فهذا من الخبر؛ لأنك تقول: هل أعطيتك؟ تقرره بأنك أعطيته. والجحد أن تقول: هل يقدر أحد على مثل هذا؟ وقيل: هي بمنزلة الاستفهام، والمعنى: أتى. والإنسان هنا آدم عليه السلام؛ قاله قتادة والثوري وعكرمة والسدي. وروي عن ابن عباس. « حين من الدهر » قال ابن عباس في رواية أبي صالح: أربعون سنة مرت به، قبل أن ينفخ فيه الروح، وهو ملقى بين مكة والطائف وعين ابن عباس أيضا في رواية الضحاك أنه خلق من طين، فأقام أربعين سنة، ثم من حمأ مسنون أربعين سنة، ثم من صلصال أربعين سنة، فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة. وزاد ابن مسعود فقال: أقام وهو من تراب أربعين سنة، فتم خلقه بعد مائة وستين سنة، ثم نفخ فيه الروح. وقيل: الحين المذكور ها هنا: لا يعرف مقداره؛ عن ابن عباس أيضا، حكاه الماوردي. « لم يكن شيئا مذكورا » قال الضحاك عن ابن عباس: لا في السماء ولا في الأرض. وقيل: أي كان جسدا مصورا ترابا وطينا، لا يذكر ولا يعرف، ولا يدرى ما اسمه ولا ما يراد به، ثم نفخ فيه الروح، فصار مذكورا؛ قال الفراء وقطرب وثعلب. وقال يحيى بن سلام: لم يكن شيئا مذكورا في الخلق وإن كان عند الله شيئا مذكورا.

وقيل: ليس هذا الذكر بمعنى الإخبار، فإن إخبار الرب عن الكائنات قديم، بل هذا الذكر بمعنى الخطر والشرف والقدر؛ تقول: فلان مذكور أي له شرف وقدر. وقد قال تعالى: « وإنه لذكر لك ولقومك » [ الزخرف: 44 ] . أي قد أتى على الإنسان حين لم يكن له قدر عند الخليقة. ثم لما عرف الله الملائكة أنه جعل آدم خليفة، وحمله الأمانة التي عجز عنها السموات والأرض والجبال، ظهر فضله على الكل، فصار مذكورا. قال القشيري: وعلى الجملة ما كان مذكورا للخلق، وإن كان مذكورا لله. وحكى محمد بن الجهم عن الفراء: « لم يكن شيئا » قال: كان شيئا ولم يكن مذكورا. وقال قوم: النفي يرجع إلى الشيء؛ أي قد مضى مدد من الدهر وآدم لم يكن شيئا يذكر في الخليقة؛ لأنه آخر ما خلقه من أصناف الخليقة، والمعدوم ليس بشيء حتى يأتي عليه حين. والمعنى: قد مضت عليه أزمنة وما كان آدم شيئا ولا مخلوقا ولا مذكورا لأحد من الخليقة. وهذا معنى قول قتادة ومقاتل: قال قتادة: إنما خلق الإنسان حديثا ما نعلم من خليقة الله جل ثناؤه خليقة كانت بعد الإنسان.

وقال مقاتل: في الكلام تقديم وتأخير، وتقديره: هل أتى حين من الدهر لم يكن الإنسان شيئا مذكورا؛ لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله، ولم يخلق بعده حيوانا.

وقد قيل: « الإنسان » في قوله تعالى « هل أتى على الإنسان حين » عني به الجنس من ذرية آدم، وأن الحين تسعة أشهر، مدة حمل الإنسان في بطن أمه « لم يكن شيئا مذكورا » : إذ كان علقة ومضغة؛ لأنه في هذه الحالة جماد لا خطر له. وقال أبو بكر رضي الله عنه لما قرأ هذه الآية: ليتها تمت فلا نبتلى. أي ليت المدة التي أتت على آدم لم تكن شيئا مذكورا تمت على ذلك، فلا يلد ولا يبتلى أولاده. وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا يقرأ « هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا » فقال ليتها تمت.

 

قوله تعالى: « إنا خلقنا الإنسان » أي ابن آدم من غير خلاف « من نطفة » أي من ماء يقطر وهو المني، وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة؛ كقول عبدالله بن رواحة يعاتب نفسه:

مالي أراك تكرهين الجنة هل أنت إلا نطفة في شنه

وجمعها: نطف ونطاف. « أمشاج » أخلاط. واحدها: مشج ومشيج، مثل خدن وخدين؛ قال: رؤبة:

يطرحن كل معجل نشاج لم يُكس جلدا في دم أمشاج

ويقال: مشجت هذا بهذا أي خلطته، فهو ممشوج ومشيج؛ مثل مخلوط وخليط. وقال المبرد: واحد الأمشاج: مشيج؛ يقال: مشج يمشج: إذا خلط، وهو هنا اختلاط النطفة بالدم؛ قال الشماخ:

طوت أحشاء مرتجة لوقت على مشج سلالته مهين

وقال الفراء: أمشاج: أخلاط ماء الرجل وماء المرأة، والدم والعلقة. ويقال للشيء من هذا إذا خلط: مشيج كقولك خليط، وممشوج كقولك مخلوط. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: الأمشاج: الحمرة في البياض، والبياض في الحمرة. وهذا قول يختاره كثير من أهل اللغة؛ قال الهذلي:

كان الريش والفوقين منه خلاف النصل سيط به مشيج

وعن ابن عباس أيضا قال: يختلط ماء الرجل وهو أبيض غليظ بماء المرأة وهو أصفر رقيق فيخلق منهما الولد، فما كان من عصب وعظم وقوة فهو من ماء الرجل، وما كان من لحم ودم وشعر فهو من ماء المرأة. وقد روي هذا مرفوعا؛ ذكره البزار.

وروي عن ابن مسعود: أمشاجها عروق المضغة. وعنه: ماء الرجل وماء المرأة وهما لونان. وقال مجاهد: نطفة الرجل بيضاء وحمراء ونطفة المرأة خضراء وصفراء. وقال ابن عباس: خلق من ألوان؛ خلق من تراب، ثم من ماء الفرج والرحم، وهي نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظم ثم لحم. ونحوه قال قتادة: هي أطوار الخلق: طور وطور علقة وطور مضغة عظام ثم يكسو العظام لحما؛ كما قال في سورة « المؤمنون » « ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين » [ المؤمنون: 12 ] الآية. وقال ابن السكيت: الأمشاج الأخلاط؛ لأنها ممتزجة من أنواع فخلق الإنسان منها ذا طبائع مختلفة. وقال أهل المعاني: الأمشاج ما جمع وهو في معنى الواحد؛ لأنه نعت للنطفة؛ كما يقال: برمة أعشار وثوب أخلاق. وروي عن أبي أيوب الأنصاري: قال جاء حبر من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أخبرني عن ماء الرجل وماء المرأة؟ فقال: [ ماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق فإذا علا ماء المرأة آنثت وإذا علا ماء الرجل أذكرت ] فقال الحبر: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. وقد مضى هذا القول مستوفى في سورة « البقرة » .

 

قوله تعالى: « نبتليه » أي نختبره. وقيل: نقدر فيه الابتلاء وهو الاختبار. وفيما يختبر به وجهان: أحدهما: نختبره بالخير والشر؛ قال الكلبي. الثاني: نختبر شكره في السراء وصبره في الضراء؛ قال الحسن. وقيل: « نبتليه » نكلفه. وفيه أيضا وجهان: أحدهما: بالعمل بعد الخلق؛ قال مقاتل. الثاني: بالدين ليكون مأمورا بالطاعة ومنهيا عن المعاصي. وروي عن ابن عباس: « نبتليه » : نصرفه خلقا بعد خلق؛ لنبتليه بالخير والشر. وحكى محمد بن الجهم عن الفراء قال: المعنى والله أعلم « فجعلناه سميعا بصيرا » لنبتليه، وهي مقدمة معناها التأخير.

قلت: لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة. وقيل: « جعلناه سميعا بصيرا » : يعني جعلنا له سمعا يسمع به الهدى، وبصرا يبصر به الهدى.

 

قوله تعالى: « إنا هديناه السبيل » أي بينا له وعرفناه طريق الهدى والضلال، والخير والشر ببعث الرسل، فآمن أو كفر؛ كقوله تعالى: « وهديناه النجدين » [ البلد: 10 ] . وقال مجاهد: أي بينا له السبيل إلى الشقاء والسعادة. وقال الضحاك وأبو صالح والسدي: السبيل هنا خروجه من الرحم. وقيل: منافعه ومضاره التي يهتدي إليها بطبعه وكمال عقله. « إما شاكرا وإما كفورا » أي أيهما فعل فقد بينا له. قال الكوفيون: « إن » ها هنا تكون جزاء و « ما » زائدة أي بينا له الطريق إن شكر أو كفر. واختاره الفراء ولم يجزه البصريون؛ إذ لا تدخل « إن » للجزاء على الأسماء إلا أن يضمر بعدها فعل. وقيل: أي هديناه الرشد، أي بينا له سبيل التوحيد بنصب الأدلة عليه؛ ثم إن خلقنا له الهداية اهتدى وآمن، وإن خذلناه كفر. وهو كما تقول: قد نصحت لك، إن شئت فاقبل، وإن شئت فاترك؛ أي فإن شئت، فتحذف الفاء. وكذا « إما شاكرا » والله أعلم. ويقال: هديته السبيل وللسبيل وإلى السبيل. وقد تقدم في « الفاتحة » وغيرها. وجمع بين الشاكر والكفور، ولم يجمع بين الشكور والكفور مع اجتماعهما في معنى المبالغة؛ نفيا للمبالغة في الشكر وإثباتا لها في الكفر؛ لأن شكر الله تعالى لا يؤدى، فانتفت عنه المبالغة، ولم تنتف عن الكفر المبالغة، فقل شكره، لكثرة النعم عليه وكثرة كفره وإن قل مع الإحسان إليه. حكاه الماوردي.

 

الآية: 4 ( إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا )

 

قوله تعالى: « إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا » بين حال الفريقين، وأنه تعبد العقلاء وكلفهم ومكنهم مما أمرهم، فمن كفر فله العقاب، ومن وحد وشكر فله الثواب. والسلاسل: القيود في جهنم طول كل سلسلة سبعون ذراعا كما مضى في « الحاقة » . وقرأ نافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم وهشام عن ابن عامر « سلاسلا » منونا. الباقون بغير تنوين. ووقف قنبل وابن كثير وحمزة بغير ألف. الباقون بالألف. فأما « قوارير » الأول فنونه نافع وابن كثير والكسائي وأبو بكر عن عاصم، ولم ينون الباقون. ووقف فيه يعقوب وحمزة بغير ألف. والباقون بالألف. وأما « قوارير » الثانية فنونه أيضا نافع والكسائي وأبو بكر، ولم ينون الباقون. فمن نون قرأها بالألف، ومن لم ينون أسقط منها الألف، واختار أبو عبيد التنوين في الثلاثة، والوقف بالألف اتباعا لخط المصحف؛ قال: رأيت في مصحف عثمان « سلاسلا » بالألف و « وقواريرا » الأول بالألف، وكان الثاني مكتوبا بالألف فحكت فرأيت أثرها هناك بينا. فمن صرف فله أربع حجج: أحدها: أن الجموع أشبهت الآحاد فجمعت جمع الآحاد، فجعلت في حكم الآحاد فصرفت. الثانية: أن الأخفش حكى عن العرب صرف جميع ما لا ينصرف إلا أفعل منك، وكذا قال الكسائي والفراء: هو على لغة من يجر الأسماء كلها إلا قولهم هو أظرف منك فإنهم لا يجرونه؛ وأنشد ابن الأنباري في ذلك قول عمرو بن كلثوم:

كأن سيوفنا فينا وفيهم مخاريق بأيدي لا عبينا

وقال لبيد:

وجزور أيسار دعوت لحتفها بمغالق متشابه أجسامها

وقال لبيد أيضا:

فضلا وذو كرم يعين على الندى سمح كسوب رغائب غنامها

فصرف مخاريق ومغالق ورغائب، وسبيلها ألا تصرف. والحجة الثالثة: أن يقول نونت قوارير الأول لأنه رأس آية، ورؤوس الآي جاءت بالنون، كقوله جل وعز: « مذكورا » . « سميعا بصيرا » فنونا الأول ليوقف بين رؤوس الآي، ونونا الثاني على الجوار للأول. والحجة الرابعة: اتباع المصاحف، وذلك أنهما جميعا في مصاحف مكة والمدينة والكوفة بالألف. وقد احتج من لم يصرفهن بأن قال: إن كل جمع بعد الألف منه ثلاثة أحرف أو حرفان أو حرف مشدد لم يصرف في معرفة ولا نكرة؛ فالذي بعد الألف منه ثلاثة أحرف قولك: قناديل ودنانير ومناديل، والذي بعد الألف منه حرفان قول الله عز وجل: « لهدمت صوامع » [ الحج: 40 ] لأن بعد الألف منه حرفين، وكذلك قوله: « ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا » [ الحج: 40 ] . والذي بعد الألف منه حرف مشدد شواب ودواب. وقال خلف: سمعت يحيى بن آدم يحدث عن ابن إدريس قال: في المصاحف الأول الحرف الأول بالألف والثاني بغير ألف؛ فهذا حجة لمذهب حمزة. وقال خلف: رأيت في مصحف ينسب إلى قراءة ابن مسعود الأول بالألف والثاني بغير ألف. وأما أفعل منك فلا يقول أحد من العرب في شعره ولا في غيره هو أفعل منك منونا؛ لأن من تقوم مقام الإضافة فلا يجمع بين تنوين وإضافة في حرف؛ لأنهما دليلان من دلائل الأسماء ولا يجمع بين دليلين؛ قال الفراء وغيره.

 

قوله تعالى: « وأغلالا » جمع غل تغل بها أيديهم إلى أعناقهم. وعن جبير بن نفير عن أبي الدرداء كان يقول: ارفعوا هذه الأيدي إلى الله جل ثناؤه قبل أن تغل بالأغلال. قال الحسن: إن الأغلال لم تجعل في أعناق أهل النار؛ لأنهم أعجزوا الرب سبحانه ولكن إذلالا. « وسعيرا » تقدم القول فيه.

الآية [ 5 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات: 5 - 6 ( إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا، عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا " )

 

قوله تعالى: « إن الأبرار يشربون من كأس » الأبرار: أهل الصدق واحدهم بر، وهو من امتثل أمر الله تعالى. وقيل: البر الموحد والأبرار جمع بار مثل شاهد وأشهاد، وقيل: هو جمع بر مثل نهر وأنهار؛ وفي الصحاح: وجمع البر الأبرار، وجمع البار البررة، وفلان يبر خالقه ويتبرره أي يطيعه، والأم برة بولدها. وروى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما سماهم الله جل ثناؤه الأبرار لأنهم بروا الآباء والأبناء، كما أن لوالدك عليك حقا كذلك لولدك عليك حقا ) . وقال الحسن: البر الذي لا يؤذي الذر. وقال قتادة: الأبرار الذين يؤدون حق الله ويوفون بالنذر.

وفي الحديث: ( الأبرار الذين لا يؤذون أحدا ) . « يشربون من كأس » أي من إناء فيه الشراب. قال ابن عباس: يريد الخمر. والكأس في اللغة الإناء فيه الشراب: وإذا لم يكن فيه شراب لم يسم كأسا. قال عمرو بن كلثوم:

صَبْنتِ الكأسَ عنا أمَّ عمرو وكان الكأس مجراها اليمينا

وقال الأصمعي: يقال صبنت عنا الهدية أو ما كان من معروف تصبن صبنا: بمعنى كففت؛ قاله الجوهري. « كان مزاجها » أي شوبها وخلطها، قال حسان:

كأن سبيئة من بيت رأس يكون مزاجها عسل وماء

ومنه مزاج البدن وهو ما يمازجه من الصفراء والسوداء والحرارة والبرودة. « كافورا » قال ابن عباس: هو اسم عين ماء في الجنة، يقال له عين الكافور. أي يمازجه ماء هذه العين التي تسمى كافورا. وقال سعيد عن قتادة: تمزج لهم بالكافور وتختم بالمسك. وقال مجاهد. وقال عكرمة: مزاجها طعمها. وقيل: إنما الكافور في ريحها لا في طعمها. وقيل: أراد كالكافور في بياضه وطيب رائحته وبرده؛ لأن الكافور لا يشرب؛ كقوله تعالى: « حتى إذا جعله نارا » [ الكهف: 96 ] أي كنار. وقال ابن كيسان: طيب بالمسك والكافور والزنجبيل. وقال مقاتل: ليس بكافور الدنيا. ولكن سمى الله ما عنده بما عندكم حتى تهتدي لها القلوب. وقوله: « كان مزاجها » « كان » زائدة أي من كأس مزاجها كافور. « عينا يشرب بها عباد الله » قال الفراء: إن الكافور اسم لعين ماء في الجنة؛ « فعينا » بدل من كافور على هذا. وقيل: بدل من كأس على الموضع. وقيل: هي حال من المضمر في « مزاجها » . وقيل: ( نصب على المدح؛ كما يذكر الرجل فتقول: العاقل اللبيب؛ أي ذكرتم العاقل اللبيب فهو نصب بإضمار أعني. وقيل يشربون عينا. وقال الزجاج المعنى من عين. ويقال: كافور وقافور. والكافور أيضا: وعاء طلع النخل وكذلك الكفرى؛ قاله الأصمعي. وأما قول الراعي:

تكسو المفارق واللبات ذا أرج من قصب معتلف الكافور دراج

فإن الظبي الذي يكون منه المسك إنما يرعى سنبل الطيب فجعله كافورا. « يشرب بها » قال الفراء: يشرب بها ويشربها سواء في المعنى، وكأن يشرب بها يروى بها وينقع؛ وأنشد:

شربن بماء البحر ثم ترفعت متى لجج خضر لهن نئيج

قال: ومثله فلان يتكلم بكلام حسن، ويتكم كلاما حسنا. وقيل: المعنى يشربها والباء زائدة وقيل: الباء بدل « من » تقديره يشرب منها؛ قاله القتبي. « يفجرونها تفجيرا » فيقال: إن الرجل منهم ليمشي في بيوتاته ويصعد إلى قصوره، وبيده قضيب يشير به إلى الماء فيجري معه حيثما دار في منازله على مستوى الأرض في غير أخدود، ويتبعه حيثما صعد إلى أعلى قصوره؛ وذلك قوله تعالى: « عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا » أي يشققونها شقا كما يفجر الرجل النهر ها هنا وها هنا إلى حيث يريد. وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد « يفجرونها تفجيرا » يقودونها حيث شاؤوا وتتبعهم حيثما مالوا مالت معهم. وروى أبو مقاتل عن أبي صالح عن سعد عن أبي سهل عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أربع عيون في الجنة عينان تجريان من تحت العرش إحداهما التي ذكر الله « يفجرونها تفجيرا » [ والأخرى الزنجبيل ] والأخريان نضاختان من فوق العرش إحداهما التي ذكر الله [ عينا فيها تسمى ] « سلسبيلا » والأخرى التسنيم ) ذكره الترمذي الحكيم في « نوادر الأصول » . وقال: فالتسنيم للمقربين خاصة شربا لهم، والكافور للأبرار شربا لهم؛ يمزج للأبرار من التسنيم شرابهم، وأما الزنجبيل والسلسبيل فللإبرار منها مزاج هكذا ذكره في التنزيل وسكت عن ذكر ذلك لمن هي شرب، فما كان للإبرار مزاج فهو للمقربين صرف، وما كان للإبرار صرف فهو لسائر أهل الجنة مزاج. والأبرار هم الصادقون، والمقربون: هم الصديقون.

 

الآيات: 7 - 9 ( يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا، ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا، إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا )

 

قوله تعالى: « يوفون بالنذر » أي لا يخلفون إذا نذروا. وقال معمر عن قتادة: بما فرض الله عليهم من الصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة وغيره من الواجبات. وقال مجاهد وعكرمة: يوفون إذا نذروا في حق الله جل ثناؤه. وقال الفراء والجرجاني: وفي الكلام إضمار؛ أي كانوا يوفون بالنذر في الدنيا. والعرب قد تزيد مرة « كان » وتحذف أخرى. والنذر: حقيقته ما أوجبه المكلف على نفسه من شيء يفعله. وإن شئت قلت في حده: النذر: هو إيجاب المكلف على نفسه من الطاعات ما لو لم يوجبه لم يلزمه. وقال الكلبي: « يوفون بالنذر » أي يتممون العهود والمعنى واحد؛ وقد قال الله تعالى: « ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم » [ الحج: 29 ] أي أعمال نسكهم التي ألزموها أنفسهم بإحرامهم بالحج. وهذا يقوي قول قتادة.

وأن النذر يندرج فيه ما التزمه المرء بإيمانه من امتثال أمر الله؛ قال القشيري.

وروى أشهب عن مالك أنه قال: « يوفون بالنذر » هو نذر العتق والصيام والصلاة.

وروى عنه أبو بكر بن عبدالعزيز قال مالك. « يوفون بالنذر » قال: النذر: هو اليمين.

 

قوله تعالى: « ويخافون » أي يحذرون « يوما » أي يوم القيامة. « كان شره مستطيرا » أي عاليا داهيا فاشيا وهو في اللغة ممتدا؛ والعرب تقول: استطار الصدع في القارورة والزجاجة واستطال: إذا امتد؛ قال الأعشى:

وبانت وقد أسأرت في الفؤاد صدعا على نأيها مستطيرا

ويقال: استطار الحريق: إذا انتشر. واستطار الفجر إذا انتشر الضوء.

وقال حسان:

وهان على سراء بني لؤي حريق بالبويرة مستطير

وكان قتادة يقول: استطار والله شر ذلك اليوم حتى ملأ السموات والأرض.

وقال مقاتل: كان شره فاشيا في السموات فانشقت، وتناثرت الكواكب، وفزعت الملائكة، وفي الأرض نسفت الجبال وغارت المياه.

 

قوله تعالى: « ويطعمون الطعام على حبه » قال ابن عباس ومجاهد: على قلته وحبهم إياه وشهوتهم له. وقال الداراني: على حب الله. وقال الفضيل بن عياض: على حب إطعام الطعام. وكان الربيع بن خيثم إذا جاءه السائل قال: أطعموه سكرا فإن الربيع يحب السكر. « مسكينا » أي ذا مسكنة. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: هو الطواف يسألك مالك « ويتيما » أي من يتامى المسلمين. وروى منصور عن الحسن: أن يتيما كان يحضر طعام ابن عمر، فدعا ذات يوم بطعامه، وطلب اليتيم فلم يجده، وجاءه بعد ما فرغ ابن عمر من طعامه فلم يجد الطعام، فدعا له بسويق وعسل؛ فقال: دونك هذا، فوالله ما غبنت؛ قال الحسن وابن عمر: والله ما غبن.

« وأسيرا » أي الذي يؤسر فيحبس. فروى أبو صالح عن ابن عباس قال: الأسير من أهل الشرك يكون في أيديهم. وقال قتادة. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: الأسير هو المحبوس. وكذا قال سعيد بن جبير وعطاء: هو المسلم يحبس بحق. وعن سعيد بن جبير مثل قول قتادة وابن عباس. قال قتادة: لقد أمر الله بالأسرى أن يحسن إليهم، وأن أسراهم يومئذ لأهل الشرك، وأخوك المسلم أحق أن تطعمه.

وقال عكرمة: الأسير العبد. وقال أبو حمزة الثمالي: الأسير المرأة، يدل عليه قوله عليه السلام: ( استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم ) أي أسيرات. وقال أبو سعيد الخدري: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم « ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا » فقال: ( المسكين الفقير، واليتيم الذي لا أب له، والأسير المملوك والمسجون ) ذكره الثعلبي. وقيل: نسخ إطعام المسكين آية الصدقات؛ وإطعام الأسير ( آية ) السيف؛ قال سعيد بن جبير. وقال غيره: بل هو ثابت الحكم، وإطعام اليتيم والمسكين على التطوع، وإطعام الأسير لحفظ نفسه إلا أن يتخير فيه الإمام. الماوردي: ويحتمل أن يريد بالأسير الناقص العقل؛ لأنه في أسر خبله وجنونه، وأسر المشرك انتقام يقف على رأي الإمام؛ وهذا بر وإحسان. وعن عطاء قال: الأمير من أهل القبلة وغيرهم.

قلت: وكأن هذا القول عام يجمع جميع الأقوال، ويكون إطعام الأسير المشرك قربة إلى الله تعالى، غير أنه من صدقة التطوع، فأما المفروضة فلا. والله أعلم.

ومضى القول في المسكين واليتيم والأسير واشتقاق ذلك من اللغة في « البقرة » مستوفى والحمد لله.

 

قوله تعالى: « إنما نطعمكم لوجه الله » أي يقولون بألسنتهم للمسكين واليتيم والأسير « إنما نطعمكم » في الله جل ثناؤه فزعا من عذابه وطمعا في ثوابه. « لا نريد منكم جزاء ولا شكورا » « لا نريد منكم جزاء » أي مكافأة. « ولا شكورا » أي ولا أن تثنوا علينا بذلك؛ قال ابن عباس: كذلك كانت نياتهم في الدنيا حين أطعموا. وعن سالم عن مجاهد قال: أما إنهم ما تكلموا به ولكن علمه الله جل ثناؤه منهم فأثنى به عليهم؛ ليرغب في ذلك راغب. وقال سعيد بن جبير حكاه عنه القشيري. وقيل: إن هذه الآية نزلت في مطعم بن ورقاء الأنصاري نذر نذرا فوفى به. وقيل: نزلت فيمن تكفل بأسرى بدر وهم سبعة من المهاجرين: أبو بكر وعمر وعلي والزبير وعبدالرحمن بن عوف وسعد وأبو عبيدة رضي الله عنهم؛ ذكره الماوردي. وقال مقاتل: نزلت في رجل من الأنصار أطعم في يوم واحد مسكينا ويتيما وأسيرا. وقال أبو حمزة الثمالي: بلغني أن رجلا قال يا رسول الله أطعمني فإني والله مجهود؛ فقال: ( والذي نفسي بيده ما عندي ما أطعمك ولكن اطلب ) فأتى رجلا من الأنصار وهو يتعشى مع امرأته فسأله؛ وأخبره بقول النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقالت المرأة: اطعمه واسقه. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتيم فقال: يا رسول الله! أطعمني فإني مجهود. فقال: ( ما عندي ما أطعمك ولكن اطلب ) فاستطعم ذلك الأنصاري فقالت المرأة: أطعمه واسقه، فأطعمه. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم أسير فقال: يا رسول الله! أطعمني فإني مجهود. فقال: ( والله ما معي ما أطعمك ولكن اطلب ) فجاء الأنصاري فطلب، فقالت المرأة: أطعمه واسقه. فنزلت: « ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا » ذكره الثعلبي. وقال أهل التفسير: نزلت في علي وفاطمة رضي الله عنهما وجارية لهما اسمها فضة.

قلت: والصحيح أنها نزلت في جميع الأبرار، ومن فعل فعلا حسنا؛ فهي عامة.

وقد ذكر النقاش والثعلبي والقشيري وغير واحد من المفسرين في قصة علي وفاطمة وجاريتهما حديثا لا يصح ولا يثبت، رواه ليث عن مجاهد عن ابن عباس في قوله عز وجل: « يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا. ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا » قال: مرض الحسن والحسين فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعادهما عامة العرب؛ فقالوا: يا أبا الحسن - ورواه جابر الجعفي عن قنبر مولى علي قال: مرض الحسن والحسين حتى عادهما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا أبا الحسن - رجع الحديث إلى حديث ليث بن أبي سليم - لو نذرت عن ولديك شيئا، وكل نذر ليس له وفاء فليس بشيء. فقال رضي الله عنه: إن برأ ولداي صمت لله ثلاثة أيام شكرا. وقالت جارية لهم نوبية: إن برأ سيداي صمت لله ثلاثة أيام شكرا. وقالت فاطمة مثل ذلك. وفي حديث الجعفي فقال الحسن والحسين: علينا مثل ذلك فألبس الغلامان العافية، وليس عند آل محمد قليل ولا كثير، فانطلق علي إلى شمعون بن حاريا الخيبري، وكان يهوديا، فاستقرض منه ثلاثة أصوع من شعير، فجاء به، فوضعه ناحية البيت، فقامت فاطمة إلى صاع فطحنته واختبزته، وصلى علي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه. وفي حديث الجعفي: فقامت الجارية إلى صاع من شعير فخبزت منه خمسة أقراص، لكل واحد منهم قرص، فلما مضى صيامهم الأول وضع بين أيديهم الخبز والملح الجريش؛ إذ أتاهم مسكين، فوقف بالباب وقال: السلام عليكم أهل بيت محمد - في حديث الجعفي - أنا مسكين من مساكين أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنا والله جائع؛ أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة. فسمعه علي رضي الله عنه، فأنشأ يقول:

فاطم ذات الفضل اليقين يا بنت خير الناس أجمعين

أما ترين البائس المسكين قد قام بالباب له حنين

يشكو إلى الله ويستكين يشكو إلينا جائع حزين

كل امرئ بكسبه رهين وفاعل الخيرات يستبين

موعدنا جنة عليين حرمها الله على الضنين

وللبخيل موقف مهين تهوى به النار إلى سجين

شرابه الحميم والغسلين من يفعل الخير يقم سمين

ويدخل الجنة أي حين

فأنشأت فاطمة رضي الله عنها تقول:

أمرك عندي يا ابن عم طاعه ما بي من لؤم ولا وضاعه

غديت في الخبز له صناعه أطعمه ولا أبالي الساعه

أرجو إذا أشبعت ذا المجاعه أن ألحق الأخيار والجماعه

وأدخل الجنة لي شفاعه

فأطعموه الطعام، ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح، فلما أن كان في اليوم الثاني قامت إلى صاع فطحنته واختبزته، وصلى علي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين أيديهم؛ فوقف بالباب يتيم فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، يتيم من أولاد المهاجرين استشهد والدي يوم العقبة. أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة. فسمعه علي فأنشأ يقول:

فاطم بنت السيد الكريم بنت نبي ليس بالزنيم

لقد أتى الله بذي اليتيم من يرحم اليوم يكن رحيم

ويدخل الجنة أي سليم قد حرم الخلد على اللئيم

ألا يجوز الصراط المستقيم يزل في النار إلى الجحيم

شرابه الصديد والحميم

فأنشأت فاطمة رضي الله عنها تقول:

أطعمه اليوم ولا أبالي وأوثر الله على عيالي

أمسوا جياعا وهمُ أشبالي أصغرهم يقتل في القتال

بكر بلا يقتل باغتيال يا ويل للقاتل مع وبال

تهوي به النار إلى سفال وفي يديه الغل والأغلال

كبولة زادت على الأكبال

فأطعموه الطعام ومكثوا يومين وليلتين لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح؛ فلما كانت في اليوم الثالث قامت إلى الصاع الباقي فطحنته واختبزته، وصلى علي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أتى المنزل، فوضع الطعام بين أيديهم؛ إذ أتاهم أسير فوقف بالباب فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، تأسروننا وتشدوننا ولا تطعموننا! أطعموني فإني أسير محمد. فسمعه علي فأنشأ يقول:

فاطم يا بنت النبي أحمد بنت نبي سيد مسود

وسماه الله فهو محمد قد زانه الله بحسن أغيد

هذا أسير للنبي المهتد مثقل في غله مقيد

ينكو إلينا الجوع قد تمدد من يطعم اليوم يجده في غد

عند العلي الواحد الموحد ما يزرع الزارع سوف يحصد

أعطيه لا لا تجعليه أقعد

فأنشأت فاطمة رضي الله تعالى عنها تقول:

لم يبق مما جاء غير صاع قد ذهبت كفي مع الذراع

ابناي والله هما جياع يا رب لا تتركهما ضياع

أبوهما للخير ذو اصطناع يصطنع المعروف بابتداع

عبل الذراعين شديد الباع وما على رأسي من قناع

إلا قناعا نسجه أنساع

فأعطوه الطعام ومكثوا ثلاثة أيام ولياليها لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح، فلما أن كان في اليوم الرابع، وقد قضى الله النذر أخذ بيده اليمنى الحسن، وبيده اليسرى الحسين، وأقبل نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع؛ فلما أبصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ يا أبا الحسن ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم انطلق بنا إلى ابنتي فاطمة ] فانطلقوا إليها وهي في محرابها، وقد لصق بطنها بظهرها، وغارت عيناها من شدة الجوع، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف المجاعة في وجهها بكى وقال: [ واغوثاه يا الله، أهل بيت محمد يموتون جوعا ] فهبط جبريل عليه السلام وقال: السلام عليك، ربك يقرئك السلام يا محمد، خذه هنيئا في أهل بيتك. قال: ( وما أخذ يا جبريل ) فأقرأه « هل أتى على الإنسان حين من الدهر » إلى قوله: « ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا. إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا » قال الترمذي الحكيم أبو عبدالله في نوادر الأصول: فهذا حديث مزوق مزيف، قد تطرف فيه صاحبه حتى تشبه على المستمعين، فالجاهل بهذا الحديث يعض شفتيه تلهفا ألا يكون بهذه الصفة، ولا يعلم أن صاحب هذا الفعل مذموم؛ وقد قال الله تعالى في تنزيله: « ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو » [ البقرة: 219 ] وهو الفضل الذي يفضل عن نفسك وعيالك، وجرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متواترة بأن [ خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى ] . [ وابدأ بنفسك ثم بمن تعول ] وافترض الله على الأزواج نفقة أهاليهم وأولادهم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت ] أفيحسب عاقل أن عليا جهل هذا الأمر حتى أجهد صبيانا صغارا من أبناء خمس أو ست على جوع ثلاثة أيام ولياليهن؟ حتى تضوروا من الجوع، وغارت العيون منهم؛ لخلاء أجوافهم، حتى أبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بهم من الجهد. هب أنه آثر على نفسه هذا السائل، فهل كان يجوز له أن يحمل أهله على ذلك؟! وهب أن أهله سمحت بذلك لعلي فهل جاز له أن يحمل أطفاله على جوع ثلاثة أيام بلياليهن؟! ما يروج مثل هذا إلا على حمقى جهال؛ أبى الله لقلوب متنبهة أن تظن بعلي مثل هذا. وليت شعري من حفظ هذه الأبيات كل ليلة عن علي وفاطمة، وإجابة كل واحد منهما صاحبه، حتى أداه إلى هؤلاء الرواة؟

فهذا وأشباهه من أحاديث أهل السجون فيما أرى بلغني أن قوما يخلدون في السجون فيبقون بلا حيلة، فيكتبون أحاديث في السمر وأشباهه، ومثل هذه الأحاديث مفتعلة، فإذا صارت إلى الجهابذة رموا بها وزيفوها، وما من شيء إلا له آفة ومكيدة، وآفة الدين وكيده أكثر.

 

الآيات: 10 - 11 ( إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا، فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا )

 

قوله تعالى: « إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا » « عبوسا » من صفة اليوم، أي يوما تعبس فيه الوجوه من هوله وشدته، فالمعنى نخاف يوما ذا عبوس. وقال ابن عباس يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل منه عرق كالقطران. وعن ابن عباس: العبوس: الضيق، والقمطرير: الطويل؛ قال الشاعر:

شديدا عبوسا قمطريرا

وقيل: القمطرير الشديد؛ تقول العرب: يوم قمطرير وقماطر وعصيب بمعنى؛ وأنشد الفراء:

بني عمنا هل تذكرون بلاءنا عليكم إذا ما كان يوم قماطر

بضم القاف. وقمطر إذا اشتد. وقال الأخفش: القمطرير: أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء؛ قال الشاعر:

ففروا إذا ما الحرب ثار غبارها ولج بها اليوم العبوس القماطر

وقال الكسائي: يقال اقمطر اليوم وازمهر اقمطرارا وازمهرارا، وهو القمطرير والزمهرير، ويوم مقمطر إذا كان صعبا شديدا؛ قال الهذلي:

بنو الحرب أرضعنا لهم مقمطرة ومن يلق منا ذلك اليوم يهرب

وقال مجاهد: إن العبوس بالشفتين، والقمطرير بالجبهة والحاجبين؛ فجعلها من صفات الوجه المتغير من شدائد ذلك اليوم؛ وأنشد ابن الأعرابي:

يغدو على الصيد يعود منكسر ويقمطر ساعة ويكفهر

وقال أبو عبيدة: يقال رجل قمطرير أي متقبض ما بين العينين. وقال الزجاج: يقال أقمطرت الناقة: إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها، وزمت بأنفها؛ فاشتقه من القطر، وجعل الميم مزيدة. قال أسد بن ناعصة:

واصطليت الحروب في كل يوم باسل الشطر قمطرير الصباح

 

قوله تعالى: « فوقاهم الله » أي دفع عنهم « شر ذلك اليوم » أي بأسه وشدته وعذابه

« ولقاهم » أي أتاهم وأعطاهم حين لقوه أي رأوه « نضرة » أي حسنا « وسرورا » أي حبورا. قال الحسن ومجاهد: « نضرة » في وجوههم « وسرورا » في قلوبهم. وفي النضرة ثلاثة أوجه: أحدها أنها البياض والنقاء؛ قال الضحاك. الثاني الحسن والبهاء؛ قال ابن جبير. الثالث أنها أثر النعمة؛ قال ابن زيد.

 

الآيات: 12 - 14 ( وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا، متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا، ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا )

 

قوله تعالى: « وجزاهم بما صبروا » على الفقر. وقال القرظي: على الصوم. وقال عطاء: على الجوع ثلاثة أيام وهي أيام النذر. وقيل: بصبرهم على طاعة الله، وصبرهم على معصية الله ومحارمه. و « ما » : مصدرية، وهذا على أن الآية نزلت في جميع الأبرار ومن فعل فعلا حسنا. وروى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الصبر فقال: ( الصبر أربعة: أولها الصبر عند الصدمة الأولى، والصبر على أداء الفرائض، والصبر على اجتناب محارم الله، والصبر على المصائب ) . « جنة وحريرا » أي أدخلهم الجنة وألبسهم الحرير. أي يسمى بحرير الدنيا وكذلك الذي في الآخرة [ وفيه ] ما شاء الله عز وجل من الفضل. وقد تقدم: أن من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، وإنما ألبسه من ألبسه في الجنة عوضا عن حبسهم أنفسهم في الدنيا عن الملابس التي حرم الله فيها.

 

قوله تعالى: « متكئين فيها » أي في الجنة؛ ونصب « متكئين » على الحال من الهاء والميم في « جزاهم » والعامل فيها جزى ولا يعمل فيها « صبروا » ؛ لأن الصبر إنما كان في الدنيا والاتكاء في الآخرة. وقال الفراء. وإن شئت جعلت « متكئين » تابعا، كأنه قال جزاهم جنة « متكئين فيها » . « على الأرائك » السرر في الحجال وقد تقدم. وجاءت عن العرب أسماء تحتوي على صفات: أحدها الأريكة لا تكون إلا في حجلة على سرير، ومنها السجل، وهو الدلو الممتلئ ماء، فإذا صفرت لم تسم سجلا، وكذلك الذنوب لا تسمى ذنوبا حتى تملأ، والكأس لا تسمو، كأسا حتى تترع من الخمر. وكذلك الطبق الذي تهدى عليه الهدية مهدى، فإذا كان فارغا قيل طبق أو خوان؛ قال ذو الرمة:

خدود جفت في السير حتى كأنما يباشرن بالمعزاء مس الأرائك

أي الفرش على السرر. « لا يرون فيها شمسا » أي لا يرون في الجنة شدة حر كحر الشمس « ولا زمهريرا » أي ولا بردا مفرطا؛ قال الأعشى:

منعمة طفلة كالمهاة لم تر شمسا ولا زمهريرا

وعن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اشتكت النار إلى ربها عز وجل قالت: يا رب أكل بعضي بعضا، فجعل لها نفسين نفسا في الشتاء ونفسا في الصيف، فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها، وشدة ما تجدون من الحر في الصيف من سمومها ) . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن هواء الجنة سجسج: لا حر ولا برد ) والسجسج: الظل الممتد كما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس. وقال مرة الهمداني: الزمهرير البرد القاطع. وقال مقاتل بن حيان: هو شيء مثل رؤوس الإبر ينزل من السماء في غاية البرد. وقال ابن مسعود: هو لون من العذاب، وهو البرد الشديد، حتى إن أهل النار إذا ألقوا فيه سألوا الله أن يعذبهم بالنار ألف سنة أهون عليهم من عذاب الزمهرير يوما واحدا. قال أبو النجم:

أو كنت ريحا كنت زمهريرا

وقال ثعلب: الزمهرير: القمر بلغة طيي؛ قال شاعرهم:

وليلة ظلامها قد اعتكر قطعتها والزمهرير ما زهر

ويروى: ما ظهر؛ أي لم يطلع القمر. فالمعنى لا يرون فيها شمسا كشمس الدنيا ولا قمرا كقمر الدنيا، أي إنهم في ضياء مستديم، لا ليل فيه ولا نهار؛ لأن ضوء النهار بالشمس، وضوء الليل بالقمر. وقد مضى هذا المعنى مجودا في سورة « مريم » عند قوله تعالى: « ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا » [ مريم: 62 ] . وقال ابن عباس: بينما أهل الجنة في الجنة إذ رأوا نورا ظنوه شمسا قد أشرقت بذلك النور الجنة، فيقولون: قال ربنا: « لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا » فما هذا النور؟ فيقول لهم رضوان: ليست هذه شمس ولا قمر، ولكن هذه فاطمة وعلي ضحكا، فأشرقت الجنان من نور ضحكهما، وفيهما أنزل الله تعالى: « هل أتى على الإنسان » وأنشد:

أنا مولى لفتى أنزل فيه هل أتى

ذاك علي المرتضى وابن عم المصطفى

 

قوله تعالى: « ودانية عليهم ظلالها » أي ظل الأشجار في الجنة قريبة من الأبرار، فهي مظلة عليهم زيادة في نعيمهم وإن كان لا شمس ولا قمر ثم؛ كما أن أمشاطهم الذهب والفضة، وإن كان لا وسخ ولا شعث ثم. ويقال: إن ارتفاع الأشجار في الجنة مقدار مائة عام، فإذا اشتهى ولي الله ثمرتها دانت حتى يتناولها. وانتصبت « دانية » على الحال عطفا على « متكئين » كما تقول: في الدار عبدالله متكئا ومرسلة عليه الحجال. وقيل: انتصبت نعتا للجنة؛ أي وجزاهم جنة دانية، فهي، صفة لموصوف محذوف. وقيل: على موضع « لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا » ويرون دانية، وقيل: على المدح أي دنت دانية. قاله الفراء. « ظلالها » الظلال مرفوعة بدانية، ولو قرئ برفع دانية على أن تكون الظلال مبتدأ ودانية الخبر لجاز، وتكون الجملة في موضع الحال من الهاء والميم في « وجزاهم » وقد قرئ بذلك. وفي قراءة عبدالله « ودانيا عليهم » لتقدم الفعل. وفي حرف أبي « ودان » رفع على الاستئناف « وذللت » أي سخرت لهم « قطوفها » أي ثمارها « تذليلا » أي تسخيرا، فيتناولها القائم والقاعد والمضطجع، لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك؛ قاله قتادة. وقال مجاهد: إن قام أحدا ارتفعت له، وإن جلس تدلت عليه، وإن اضطجع دنت منه فأكل منها. وعنه أيضا: أرض الجنة من ورق، وترابها الزعفران، وطيبها مسك أذفر، وأصول شجرها ذهب وورق، وأفنانها اللؤلؤ والزبرجد والياقوت، والثمر تحت ذلك كله؛ فمن أكل منها قائما لم تؤذه، ومن أكل منها قاعدا لم تؤذه، ومن أكل منها مضطجعا لم تؤذه.

وقال ابن عباس: إذا هم أن يتناول من ثمارها تدلت إليه حتى يتناول منها ما يريد، وتذليل القطوف تسهيل التناول. والقطوف: الثمار، الواحد قطف بكسر القاف، سمي به لأنه يقطف، كما سمي الجنى لأنه يجنى. « تذليلا » تأكيد لما وصف به من الذل؛ كقوله: « ونزلناه تنزيلا » [ الإسراء: 106 ] « وكلم الله موسى تكليما » [ النساء: 164 ] . الماوردي: ويحتمل أن يكون تذليل قطوفها أن تبرز لهم من أكمامها، وتخلص لهم من نواها.

قلت: وفي هذا بعد؛ فقد روى ابن المبارك، قال: أخبرنا سفيان عن حماد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: نخل الجنة: جذوعها زمرد أخضر، وكربها ذهب أحمر، وسعفها كسوة لأهل الجنة، منها مقطعاتهم وحللهم، وثمرها أمثال القلال والدلاء، أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، وألين من الزبد ليس فيه عجم.

قال أبو جعفر النحاس: ويقال المذلل الذي قد ذلله الماء أي أرواه. ويقال المذلل الذي يفيئه أدنى ريح لنعمته، ويقال المذلل المسوى؛ لأن أهل الحجاز يقولون: ذلل نخلك أي سوه، ويقال المذلل القريب المتناول، من قولهم: حائط ذليل أي قصير. قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي حكيناها ذكرها أهل العلم باللغة وقالوها في قول امرئ القيس:

وساق كأنبوب السقي المذلل

 

الآيات: 15 - 18 ( ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا، قوارير من فضة قدروها تقديرا، ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا، عينا فيها تسمى سلسبيلا )

 

قوله تعالى: « ويطاف عليهم بأنية من فضة وأكواب » أي يدور على هؤلاء الأبرار الخدم إذا أرادوا الشراب « بآنية من فضة » قال ابن عباس: ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء؛ أي ما في الجنة أشرف وأعلى وأنقى. ثم لم تنف الأواني الذهبية بل المعنى يسقون في أواني الفضة، وقد يسقون في أواني الذهب. وقد قال تعالى: « يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب » [ الزخرف: 71 ] . وقيل: نبه بذكر الفضة على الذهب؛ كقوله: « سرابيل تقيكم الحر » [ النحل: 81 ] أي والبرد؛ فنبه بذكر أحدهما على الثاني. والأكواب: الكيزان العظام التي لا آذان لها ولا عرى، الواحد منها كوب؛ وقال عدي:

متكئا تقرع أبوابه يسعى عليه العبد بالكوب

وقد مضى في « الزخرف » . « قوارير من فضة » أي في صفاء القوارير وبياض الفضة؛ فصفاؤها صفاء الزجاج وهي من فضة. وقيل: أرض الجنة من فضة، والأواني تتخذ من تربة الأرض التي هي منها. ذكره ابن عباس وقال: ليس في الجنة شيء إلا قد أعطيتم في الدنيا شبهه، إلا القوارير من فضة. وقال: لو أخذت فضة من فضة الدنيا فضربتها حتى تجعلها مثل جناح الذباب لم تر من ورائها الماء، ولكن قوارير الجنة مثل الفضة في صفاء القوارير. « قدروها تقديرا » قراءة العامة بفتح القاف والدال؛ أي قدرها لهم السقاة الذين يطوفون بها عليهم. قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: أتوا بها على قدر ريهم، بغير زيادة ولا نقصان. الكلبى: وذلك ألذ وأشهى؛ والمعنى: قدرتها الملائكة التي تطوف عليهم. وعن ابن عباس أيضا: قدروها على ملء الكف لا تزيد ولا تنقص، حتى لا تؤذيهم بثقل أو بإفراط صغر. وقيل: إن الشاربين قدروا لها مقادير في أنفسهم على ما اشتهوا وقدروا. وقرأ عبيد بن عمير والشعبي وابن سيرين « قدروها » بضم القاف وكسر الدال؛ أي جعلت لهم على قدر إرادتهم. وذكر هذه القراءة المهدوي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما؛ وقال: ومن قرأ « قدروها » فهو راجع إلى معنى القراءة الأخرى، وكأن الأصل قدروا عليها فحذف الجر؛ والمعنى قدرت عليهم؛ وأنشد سيبويه:

آليت حب العراق الدهر آكله والحب يأكله في القرية السوس

وذهب إلى أن المعنى على حب العراق. وقيل: هذا التقدير هو أن الأقداح تطير فتغترف بمقدار شهوة الشارب؛ وذلك قوله تعالى: « قدروها تقديرا » أي لا يفضل عن الري لا ينقص منه، فقد ألهمت الأقداح معرفة مقدار ري المشتهى حتى تغترف بذلك المقدار. ذكر هذا القول الترمذي الحكيم في « نوادر الأصول » .

 

قوله تعالى: « ويسقون فيها كأسا » وهي الخمر في الإناء. « كان مزاجها زنجبيلا » « كان » صلة؛ أي مزاجها زنجبيل، أو كان في حكم الله زنجبيلا. وكانت العرب تستلذ من الشراب ما يمزج بالزنجبيل لطيب رائحته؛ لأنه يحذو اللسان، ويهضم المأكول، فرغبوا في نعيم الآخرة بما اعتقدوه نهاية النعمة والطيب. وقال المسيب عن علس يصف ثغر المرأة:

وكأن طعم الزنجبيل به إذ ذقته وسلافة الخمر

ويروى. الكرم. وقال آخر:،

كأن جنيا من الزنجبيـ ـل بات بفيها وأريا مشورا

ونحوه قول الأعشى:

كأن القرنفل والزنجبيـ ـل باتا بفيها وأريا مشورا

وقال مجاهد: الزنجبيل اسم للعين التي منها مزاج شراب الأبرار. وكذا قال قتادة: والزنجبيل اسم العين التي يشرب بها المقربون صرفا وتمزج لسائر أهل الجنة. وقيل: هي عين في الجنة يوجد فيها طعم الزنجبيل. وقيل: إن فيه معنى الشراب الممزوج بالزنجبيل. والمعنى كأن فيها زنجبيلا. « عينا » بدل من كأس. ويجوز أن ينتصب بإضمار فعل أي يسقون عينا. ويجوز نصبه بإسقاط الخافض أي من عين على ما تقدم في قوله تعالى: « عينا يشرب بها عباد الله » [ الإنسان: 6 ] . « فيها » أي في الجنة

« تسمى سلسبيلا » السلسبيل الشراب اللذيذ، وهو فعليل من السلالة؛ تقول العرب: هذا شراب سلس وسلسال وسلسل وسلسبيل بمعنى؛ أي طيب الطعم لذيذه. وفي الصحاح: وتسلسل الماء في الحلق جرى، وسلسلته أنا صببته فيه، وماء سلسل وسلسال: سهل الدخول في الحلق لعذوبته وصفائه، والسلاسل بالضم مثله.

وقال الزجاج: السلسبيل في اللغة: اسم لما كان في غاية السلاسة؛ فكأن العين سميت بصفتها. وعن مجاهد قال: سلسبيلا: حديدة الجرية تسيل في حلوقهم انسلالا.

ونحوه عن ابن عباس: إنها الحديدة الجري. ذكره الماوردي؛ ومنه قول حسان بن ثابت رضي الله عنه:

يسقون من ورد البريص عليهم بردى يصفق بالرحيق السلسل

وقال أبو العالية ومقاتل: إنما سميت سلسبيلا؛ لأنها تسيل عليهم في الطرق وفي منازلهم، تنبع من أصل العرش من جنة عدن إلى أهل الجنة. وقال قتادة: سلسة منقاد ماؤها حيث شاؤوا. ونحوه عن عكرمة. وقال القفال: أي تلك عين شريفة فسل سبيلا إليها. وروي هذا عن علي رضي الله عنه. وقوله: « تسمى » أي إنها مذكورة عند الملائكة وعند الأبرار وأهل الجنة بهذا الاسم. وصرف سلسبيل؛ لأنه رأس آية؛ كقوله تعالى: « الظنونا » [ الأحزاب: 10 ] و « السبيلا » [ الأحزاب: 67 ] .

 

الآيات: 19 - 22 ( ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا، وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا، عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا، إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا )

 

قوله تعالى: « ويطوف عليهم ولدان مخلدون » بين من الذي يطوف عليهم بالآنية؛ أي ويخدمهم ولدان مخلدون، فإنهم أخف في الخدمة. ثم قال: « مخلدون » أي باقون على ما هم عليه من الشباب والغضاضة والحسن، لا يهرمون ولا يتغيرون، ويكونون على سن واحدة على مر الأزمنة. وقيل: مخلدون لا يموتون. وقيل: مسورون مقرطون؛ أي محلون والتخليد التحلية. وقد تقدم هذا. « إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا » أي ظننتهم من حسنهم وكثرتهم وصفاء ألوانهم: لؤلؤا مفرقا في عرصة المجلس، واللؤلؤ إذا نثر على بساط كان أحسن منه منظوما. وعن المأمون أنه ليلة زفت إليه بوران بنت الحسن بن سهل، وهو على بساط منسوج من ذهب، وقد نثرت عليه نساء دار الخليفة اللؤلؤ، فنظر إليه منثورا على ذلك البساط فاستحسن المنظر وقال: لله در أبي نواس كأنه أبصر هذا حيث يقول:

كأن صغرى وكبرى من فقاقعها حصباء در على أرض من الذهب

وقيل: إنما شبههم بالمنثور؛ لأنهم سراع في الخدمة، بخلاف الحور العين إذ شبههن باللؤلؤ المكنون المخزون؛ لأنهن لا يمتهن بالخدمة.

 

قوله تعالى: « وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا » « ثم » : ظرف مكان أي هناك في الجنة، والعامل في « ثم » معنى « رأيت » أي وإذا رأيت ببصرك « ثم » . وقال الفراء: في الكلام « ما » مضمرة؛ أي وإذا رأيت ما ثم؛ كقوله تعالى: « لقد تقطع بينكم » [ الأنعام: 94 ] أي ما بينكم. وقال الزجاج: « ما » موصولة « بثم » على ما ذكره الفراء، ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة، ولكن « رأيت » يتعدى في المعنى إلى « ثم » والمعنى: إذا رأيت ببصرك « ثم » ويعني « بثم » الجنة، وقد ذكر الفراء هذا أيضا.

والنعيم: سائر ما يتنعم به. والملك الكبير: استئذان الملائكة عليهم؛ قال السدي وغيره. قال الكلبي: هو أن يأتي الرسول من عند الله بكرامة من الكسوة والطعام والشراب والتحف إلى ولي الله وهو في منزله، فيستأذن عليه؛ فذلك الملك العظيم. وقاله مقاتل بن سليمان. وقيل: الملك الكبير: هو أن يكون لأحدهم سبعون حاجبا، حاجبا دون حاجب، فبينما ولي الله فيما هو فيه من اللذة والسرور إذ يستأذن عليه ملك من عند الله، قد أرسله الله بكتاب وهدية وتحفة من رب العالمين لم يرها ذلك الولي في الجنة قط، فيقول للحاجب الخارج: استأذن على ولي الله فإن معي كتابا وهدية من رب العالمين. فيقول هذا الحاجب للحاجب الذي يليه: هذا رسول من رب العالمين، معه كتاب وهدية يستأذن على ولي الله؛ فيستأذن كذلك حتى يبلغ إلى الحاجب الذي يلي ولي الله فيقول له: يا ولي الله! هذا رسول من رب العالمين يستأذن عليك، معه كتاب وتحفة من رب العالمين أفيؤذن له؟ فيقول: نعم! فأذنوا له. فيقول ذلك الحاجب الذي يليه: نعم فأذنوا له. فيقول الذي يليه للآخر كذلك حتى يبلغ الحاجب الآخر. فيقول له: نعم أيها الملك؛ قد أذن لك، فيدخل فيسلم عليه ويقول: السلام يقرئك السلام، وهذه تحفة، وهذا كتاب من رب العالمين إليك. فإذا هو مكتوب عليه: من الحي الذي لا يموت، إلى الحي الذي يموت. فيفتحه فإذا فيه: سلام على عبدي ووليي ورحمتي وبركاتي، يا وليي أما آن لك أن تشتاق إلى رؤية ربك؟ فيستخفه الشوق فيركب البراق فيطير به البراق شوقا إلى زيادة علام الغيوب، فيعطيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وقال سفيان الثوري: بلغنا أن الملك الكبير تسليم الملائكة عليهم؛ دليله قوله تعالى: « والملائكة يدخلون عليهم من كل باب. سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار » [ الرعد: 23 ] وقيل: الملك الكبير كون التيجان على رؤوسهم كما تكون على رأس ملك من الملوك. وقال الترمذي الحكيم: يعني ملك التكوين، فإذا أرادوا شيئا قالوا له كن. وقال أبو بكر الوراق: ملك لا يتعقبه هلك. وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الملك الكبير هو - أن - أدناهم منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألفي عام، يرى أقصاه كما يرى أدناه ) قال: [ وإن أفضلهم منزلة من ينظر في وجه ربه تعالى كل يوم مرتين ] سبحان المنعم.

 

قوله تعالى: « عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق » قرأ نافع وحمزة وابن محيصن « عاليهم » ساكنة الياء، واختاره أبو عبيد أعتبارا بقراءة ابن مسعود وابن وثاب وغيرهما « عاليتهم » وبتفسير ابن عباس: أما رأيت الرجل عليه ثياب يعلوها أفضل منها. الفراء: وهو مرفوع بالابتداء وخبره « ثياب سندس » واسم الفاعل يراد به الجمع. ويجوز في قول الأخفش أن يكون إفراده على أنه اسم فاعل متقدم و « ثياب » مرتفعة به وسدت مسد الخبر، والإضافة فيه في تقدير الانفصال لأنه لم يخص، وابتدئ به لأنه اختص بالإضافة. وقرأ الباقون « عاليهم » بالنصب. وقال الفراء: هو كقولك فوقهم، والعرب تقول: قومك داخل الدار فينصبون داخل على الظرف، لأنه محل. وأنكر الزجاج هذا وقال: هو مما لا نعرفه في الظروف، ولو كان ظرفا لم يجز إسكان الياء. ولكنه بالنصب على الحال من شيئين: أحدهما الهاء والميم في قوله: « يطوف عليهم » أي على الأبرار « ولدان » عاليا الأبرار ثياب سندس؛ أي يطوف عليهم في هذه الحال، والثاني: أن يكون حالا من الولدان؛ أي « إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا » في حال علو الثياب أبدانهم. وقال أبو علي: العامل في الحال إما « لقاهم نضرة وسرورا » وإما « جزاهم بما صبروا » قال: ويجوز أن يكون ظرفا فصرف. المهدوي: ويجوز أن يكون اسم فاعل ظرفا؛ كقولك هو ناحية من الدار، وعلى أن عاليا لما كان بمعنى فوق أجري مجراه فجعل ظرفا. وقرأ ابن محيصن وابن كثير وأبو بكر عن عاصم « خضر » بالجر على نعت السندس « وإستبرق » بالرفع نسقا على الثياب، ومعناه عاليهم [ ثياب ] سندس وإستبرق. وقرأ ابن عامر وأبو عمرو ويعقوب « خضر » رفعا نعتا للثياب « وإستبرق » بالخفض نعتا للسندس، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لجودة معناه؛ لأن الخضر أحسن ما كانت نعتا للثياب فهي مرفوعة، وأحسن ما عطف الإستبرق على السندس عطف جنس على جنس، والمعنى: عاليهم ثياب خضر من سندس وإستبرق، أي من هذين النوعين. وقرأ نافع وحفص كلاهما بالرفع ويكون « خضر » نعتا للثياب؛ لأنهما جميعا بلفظ الجمع « وإستبرق » عطفا على الثياب. وقرأ الأعمش وابن وثاب وحمزة والكسائي كلاهما بالخفض ويكون قوله: « خضر » نعتا للسندس، والسندس اسم جنس، وأجاز الأخفش وصف اسم الجنس بالجمع على استقباح له؛ وتقول: أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض؛ ولكنه مستبعد في الكلام. والمعنى على هذه القراءة: عاليهم ثياب سندس خضر وثياب إستبرق. وكلهم صرف الإستبرق، إلا ابن محيصن، فإنه فتحه ولم يصرفه فقرأ « وإستبرق » نصبا في موضع الجر، على منع الصرف، لأنه أعجمي، وهو غلط؛ لأنه نكرة يدخله حرف التعريف؛ تقول الإستبرق إلا أن يزعم [ ابن محيصن ] أنه قد يجعل علما لهذا الضرب من الثياب. وقرئ « واستبرق » بوصل الهمزة والفتح على أنه سمي باستفعل من البريق، وليس بصحيح أيضا، لأنه معرب مشهور تعريبه، وأن أصله استبرك والسندس: ما رق من الديباج. والإستبرق: ما غلظ منه. وقد تقدم.

 

قوله تعالى: « وحلوا » عطف على « ويطوف » . « أساور من فضة » وفي سورة فاطر « يحلون فيها من أساور من ذهب » وفي سورة الحج « يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا » [ الحج: 23 ] ، فقيل: حلي الرجل الفضة وحلي المرأة الذهب. وقيل: تارة يلبسون الذهب وتارة يلبسون الفضة. وقيل: يجمع في يد أحدهم سواران من ذهب وسواران من فضة وسواران من لؤلؤ، ليجتمع لهم محاسن الجنة؛ قاله سعيد بن المسيب. وقيل: أي لكل قوم ما تميل إليه نفوسهم. « وسقاهم ربهم شرابا طهورا » قال علي رضي الله عنه في قوله تعالى: « وسقاهم ربهم شرابا طهورا » قال: إذا توجه أهل الجنة إلى الجنة مروا بشجرة يخرج من تحت ساقها عينان، فيشربون من إحداهما، فتجري عليهم بنضرة النعيم، فلا تتغير أبشارهم، ولا تتشعث أشعارهم أبدا، ثم يشربون من الأخرى، فيخرج ما في بطونهم من الأذى، ثم تستقبلهم خزنة الجنة فيقولون لهم: « سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدي » [ الزمر: 73 ] . وقال النخعي وأبو قلابة: هو إذا شربوه بعد أكلهم طهرهم، وصار ما أكلوه وما شربوه رشح مسك، وضمرت بطونهم. وقال مقاتل: هو من عين ماء على باب الجنة، تنبع من ساق شجرة، من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غل وغش وحسد، وما كان في جوفه من أذى وقذر. وهذا معنى ما روي عن علي، إلا أنه في قول مقاتل عين واحدة وعليه فيكون فعولا للمبالغة، ولا يكون فيه حجة للحنفي أنه بمعنى الطاهر. وقد مضى بيانه في سورة « الفرقان » والحمد لله. وقال طيب الجمال: صليت خلف سهل بن عبدالله العتمة فقرأ « وسقاهم ربهم شرابا طهورا » وجعل يحرك شفتيه وفمه، كأنه يمص شيئا، فلما فرغ قيل له: أتشرب أم تقرأ؟ فقال: والله لو لم أجد لذته عند قراءته كلذته عند شربه ما قرأته.

 

قوله تعالى: « إن هذا كان لكم جزاء » أي يقال لهم: إنما هذا جزاء لكم أي ثواب. « وكان سعيكم » أي عملكم « مشكورا » أي من قبل الله، وشكره للعبد قبول طاعته، وثناؤه عليه، وإثابته إياه. وروى سعيد عن قتادة قال: غفر لهم الذنب وشكر لهم الحسنى. وقال مجاهد: « مشكورا » أي مقبولا والمعنى متقارب؛ فإنه سبحانه إذا قبل العمل شكره، فإذا شكره أثاب عليه بالجزيل؛ إذ هو سبحانه ذو الفضل العظيم. روي عن ابن عمر: أن رجلا حبشيا قال: يا رسول الله! فضلتم علينا بالصور والألوان والنبوة، أفرأيت إن آمنت بما آمنت به، وعملت بما عملت، أكائن أنا معك في الجنة؟ قال: [ نعم والذي نفسي بيده إنه ليرى بياض الأسود في الجنة وضياؤه من مسيرة ألف عام ] ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ من قال لا إله إلا الله كان له بها عند الله عهد، ومن قال سبحان الله والحمد لله كان له بها عند الله مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة ] ، فقال الرجل: كيف نهلك بعدها يا رسول الله؟ فقال: [ إن الرجل ليأتي يوم القيامة بالعمل لو وضعه على جبل لأثقله. فتجيء النعمة من نعم الله فتكاد أن تستنفد ذلك كله إلا أن يلطف الله برحمته ] . قال: ثم نزلت « هل أتى على الإنسان حين من الدهر » إلى قوله: « وملكا كبيرا » قال الحبشي: يا رسول الله! وإن عيني لترى ما ترى، عيناك في الجنة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( نعم ) فبكى الحبشي حتى فاضت نفسه. وقال ابن عمر: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدليه في حفرته ويقول: « إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا » قلنا: يا رسول الله وما هو؟ قال: [ والذي نفسي بيده لقد أوقفه الله ثم قال أي عبدي لأبيضن وجهك ولأبوئنك من الجنة حيث شئت، فنعم أجر العاملين ] .

الآية [ 23 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات: 23 - 26 ( إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا، فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا، واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا، ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا )

 

قوله تعالى: « إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا » ما افتريته ولا جئت به من عندك، ولا من تلقاء نفسك، فسك، كما يدعيه المشركون. ووجه اتصال هذه الآية بنا قيل أنه سبحانه لما ذكر أصناف الوعد والوعيد، بين أن هذا الكتاب يتضمن ما بالناس حاجة إليه، فليس بسحر ولا كهانة، ولا شعر، وأنه حق. وقال ابن عباس: أنزل القرآن متفرقا: آية بعد آية، ولم ينزل جملة واحدة؛ فلذلك قال « نزلنا » وقد مضى القول في هذا مبينا والحمد لله.

 

قوله تعالى: « فاصبر لحكم ربك » أي لقضاء ربك. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: اصبر على أذى المشركين؛ هكذا قضيت. ثم نسخ بآية القتال. وقيل: أي اصبر لما حكم به عليك من الطاعات، أو انتظر حكم الله إذ وعدك أنه ينصرك عليهم، ولا تستعجل فإنه كائن لا محالة. « ولا تطع منهم آثما أو كفورا » أي ذا إثم

« أو كفورا » أي لا تطع الكفار. فروى معمر عن قتادة قال: قال أبو جهل: إن رأيت محمدا يصلي لأطأن على عنقه. فأنزل الله عز وجل: « ولا تطع منهم آثما أو كفورا » .

ويقال: نزلت في عتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة، وكانا أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضان عليه الأموال والتزويج، على أن يترك ذكر النبوة، ففيهما نزلت: « ولا تطع منهم آثما أو كفورا » . قال مقاتل: الذي عرض التزويج عتبة بن ربيعة؛ قال: إن بناتي من أجمل نساء قريش، فأنا أزوجك ابنتي من غير مهر وارجع عن هذا الأمر. وقال الوليد: إن كنت صنعت ما صنعت لأجل المال، فأنا أعطيك من المال حتى ترضى وارجع عن هذا الأمر؛ فنزلت. ثم قيل: « أو » في قوله تعالى: « آثما أو كفورا » أوكد من الواو؛ لأن الواو إذا قلت: لا تطع زيدا وعمرا فأطاع أحدهما كان غير عاص؛ لأنه أمره ألا يطيع الاثنين، فإذا قال: « لا تطع منهم آثما أو كفورا » « فأو » قد دلت على أن كل واحد منهما أهل أن يعصي؛ كما أنك إذا قلت: لا تخالف الحسن أو ابن سيرين، أو اتبع الحسن أو ابن سيرين فقد قلت: هذان أهل أن يتبعا وكل واحد منهما أهل لأن يتبع؛ قاله الزجاج. وقال الفراء: « أو » هنا بمنزلة « لا » كأنه قال: ولا كفورا؛ قال الشاعر:

لا وجد ثكلى كما وجدت ولا وجد عجول أضلها ربع

أو وجد شيخ أضل ناقته يوم توافى الحجيج فاندفعوا

أراد ولا وجد شيخ. وقيل: الآثم المنافق، والكفور الكافر الذي يظهر الكفر؛ أي لا تطع منهم آثما ولا كفورا. وهو قريب من قول الفراء.

 

قوله تعالى: « واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا » أي صل لربك أول النهار وآخره، ففي أوله صلاة الصبح وفي آخره صلاة الظهر والعصر. « ومن الليل فاسجد له » يعني صلاة المغرب والعشاء الآخرة. « وسبحه ليلا طويلا » يعني التطوع في الليل؛ قاله ابن حبيب. وقال ابن عباس وسفيان: كل تسبيح في القرآن فهو صلاة. وقيل: هو الذكر المطلق سواء كان في الصلاة أو في غيرها وقال ابن زيد وغيره: إن قوله: « وسبحه ليلا طويلا » منسوخ بالصلوات الخمس وقيل: هو ندب. وقيل: هو مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم القول في مثله في سورة « المزمل » وقول ابن حبيب حسن. وجمع الأصيل: الأصائل والأصل؛ كقولك سفائن وسفن؛ قال: ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل وقال في الأصائل، وهو جمع الجمع:

لعمري لأنت البيت أكرم أهله وأقعد في أفيائه بالأصائل

وقد مضى في آخر « الأعراف » مستوفى. ودخلت « من » على الظرف للتبعيض، كما دخلت على المفعول في قوله تعالى: « يغفر لكم ذنوبكم » [ الصف: 12 ] .

 

الآيات: 27 - 28 ( إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا، نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا )

 

قوله تعالى: « إن هؤلاء يحبون العاجلة » توبيخ وتقريع؛ والمراد أهل مكة. والعجلة الدنيا « ويذرون » أي ويدعون « وراءهم » أي بين أيديهم « يوما ثقيلا » أي عسيرا شديدا كما قال: « ثقلت في السموات والأرض » [ الأعراف: 187 ] . أي يتركون الإيمان بيوم القيامة. وقيل: « ورائهم » أي خلفهم، أي ويذرون الآخرة خلف ظهورهم، فلا يعملون لها. وقيل: « نزلت في اليهود فيما كتموه من صفة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته. وحبهم العاجلة: أخذهم الرشا على ما أراد المنافقين؛ لاستبطانهم الكفر وطلب الدنيا. والآية تعم. واليوم الثقيل يوم القيامة. وإنما سمي ثقيلا لشدائده وأهواله. وقيل: للقضاء فيه بين عباده.»

 

قوله تعالى: « نحن خلقناهم » أي من طين. « وشددنا أسرهم » أي خلقهم؛ قال ابن عباس ومجاهد وقتادة ومقاتل وغيرهم. والأسر الخلق؛ قال أبو عبيد: يقال فرس شديد الأسر أي الخلق. ويقال أسره الله جل ثناؤه إذا شدد خلقه؛ قال لبيد:

ساهم الوجه شديد أسره مشرف الحارك محبوك الكتد

وقال الأخطل:

من كل مجتنب شديد أسره سلس القياد تخاله مختالا

وقال أبو هريرة والحسن والربيع: شددنا مفاصلهم وأوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والعصب. وقال مجاهد في تفسير الأسر: هو الشرج، أي إذا خرج الغائط والبول تقبض الموضع. وقال ابن زيد القوة. وقال ابن أحمر يصف فرسا:

يمشي بأوظفة شداد أسرها صم السنابك لا تقي بالجدجد

واشتقاقه من الأسار وهو القد الذي يشد به الأقتاب؛ يقال: أسرت القتب أسرا أي شددته وربطه؛ ويقال: ما أحسن أسر قتبه أي شده وربطه؛ ومنه قولهم: خذه بأسره إذا أرادوا أن يقولوا هو لك كله؛ كأنهم أرادوا تعكيمه وشده لم يفتح ولم ينقص منه شيء. ومنه الأسير، لأنه كان يكتف بالإسار. والكلام خرج مخرج الامتنان عليهم بالنعم حين قابلوها بالمعصية. أي سويت خلقك وأحكمته بالقوي ثم أنت تكفر بي. « وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا » قال ابن عباس: يقول لو نشاء لأهلكناهم وجئنا بأطوع لله منهم. وعنه أيضا: لغيرنا محاسنهم إلى أسمج الصور وأقبحها. كذلك روى الضحاك عنه. والأول رواه عنه أبو صالح.

 

الآيات: 29 - 31 ( إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا، وما تشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما، يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما )

 

قوله تعالى: « إن هذه » أي السورة « تذكرة » أي موعظة « فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا » أي طريقا موصلا إلى طاعته وطلب مرضاته. وقيل: « سبيلا » أي وسيلة. وقيل وجهة وطريقا إلى الجنة. والمعنى واحد. « وما تشاؤون » أي الطاعة والاستقامة واتخاذ السبيل إلى الله « إلا أن يشاء الله » فأخبر أن الأمر إليه سبحانه ليس إليهم، وأنه لا تنفذ مشيئة أحد ولا تتقدم، إلا أن تتقدم مشيئته. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو « وما يشاؤون » بالياء على معنى الخبر عنهم. والباقون بالتاء على معنى المخاطبة لله سبحانه.

وقيل: إن الآية الأولى منسوخة بالثانية. والأشبه أنه ليس بنسخ، بل هو تبيين أن ذلك لا يكون إلا بمشيئته. قال الفراء: « وما تشاؤون إلا أن يشاء الله » جواب لقوله: « فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا » ثم أخبرهم أن الأمر ليس إليهم فقال: « وما تشاؤون » ذلك السبيل « إلا أن يشاء الله » لكم. « إن الله كان عليما » بأعمالكم « حكيما » في أمره ونهيه لكم. وقد مضى في غير موضع. « يدخل من يشاء في رحمته » أي يدخله الجنة راحما له « والظالمين » أي ويعذب الظالمين فنصبه بإضمار يعذب. قال الزجاج: نصب الظالمين لأن قبله منصوب؛ أي يدخل من يشاء في رحمته ويعذب الظالمين أي المشركين ويكون « أعد لهم » تفسيرا لهذا المضمر؛ كما قال الشاعر:

أصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير إن نفرا

والذئب أخشاه إن مررت به وحدي وأخشى الرياح والمطرا

أي أخشى الذئب أخشاه. قال الزجاج: والاختيار النصب وإن جاز الرفع؛ تقول: أعطيت زيدا وعمرا أعددت له برا، فيختار النصب؛ أي وبررت عمرا أو أبر عمرا. وقوله في « الشورى » : « يدخل من يشاء في رحمته والظالمون » [ الشورى: 8 ] ارتفع لأنه لم يذكر بعده فعل يقع عليه فينصب في المعنى؛ فلم يجز العطف على المنصوب قبله فارتفع بالابتداء. وها هنا قوله: « أعد لهم عذابا » يدل على ويعذب، فجاز النصب. وقرأ أبان بن عثمان « والظالمون » رفعا بالابتداء والخبر « أعد لهم » .

« عذابا أليما » أي مؤلما موجعا. وقد تقدم هذا في سورة « البقرة » وغيرها والحمد لله. ختمت السورة.

 

سورة المرسلات

مقدمة السورة

 

مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس وقتادة إلا آية منها، وهي قوله تعالى: « وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون » [ المرسلات: 48 ] مدنية.

وقال ابن مسعود: نزلت « والمرسلات عرفا » على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ونحن معه نسير، حتى أوينا إلى غار بمنى فنزلت، فبينا نحن نتلقاها منه، وإن فاه لرطب بها إذ وثبت حية، فوثبنا عليها لنقتلها فذهبت؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( وقيتم شرها كما وقيت شركم ) . وعن كريب مولى ابن عباس قال: قرأت سورة « والمرسلات عرفا » فسمعتني أم الفضل امرأة العباس، فبكت وقالت: والله يا بني لقد أذكرتني بقراءتك هذه السورة إنها لآخر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في صلاة المغرب. والله أعلم. وهي خمسون آية.

 

الآيات: 1 - 15 ( والمرسلات عرفا، فالعاصفات عصفا، والناشرات نشرا، فالفارقات فرقا، فالملقيات ذكرا، عذرا أو نذرا، إنما توعدون لواقع، فإذا النجوم طمست، وإذا السماء فرجت، وإذا الجبال نسفت، وإذا الرسل أقتت، لأي يوم أجلت، ليوم الفصل، وما أدراك ما يوم الفصل، ويل يومئذ للمكذبين )

 

قوله تعالى: « والمرسلات عرفا » جمهور المفسرين على أن المرسلات الرياح. وروى مسروق عن عبدالله قال: هي الملائكة أرسلت بالمعروف من أمر الله تعالى ونهيه والخبر والوحي. وهو قول أبي هريرة ومقاتل وأبي صالح والكلبي. وقيل: هم الأنبياء أرسلوا بلا إله إلا الله؛ قاله ابن عباس. وقال أبو صالح: إنهم الرسل ترسل بما يعرفون به من المعجزات. وعن ابن عباس وابن مسعود: إنها الرياح؛ كما قال تعالى: « وأرسلنا الرياح » [ الحجر: 22 ] . وقال: « وهو الذي يرسل الرياح » [ الأعراف: 57 ] . ومعنى « عرفا » يتبع بعضها بعضا كعرف الفرس؛ تقول العرب: الناس إلى فلان عرف واحد: إذا توجهوا إليه فأكثروا. وهو نصب على الحال من « والمرسلات » أي والرياح التي أرسلت متتابعة. ويجوز أن تكون مصدرا أي تباعا. ويجوز أن يكون النصب على تقدير حرف الجر، كأنه قال: والمرسلات بالعرف، والمراد الملائكة أو الملائكة والرسل. وقيل: يحتمل أن يكون المراد بالمرسلات السحاب، لما فيها من نعمة ونقمة، عارفة بما أرسلت فيه ومن أرسلت إليه. وقيل: إنها الزواجر والمواعظ. و « عرفا » على هذا التأويل متتابعات كعرف الفرس؛ قال ابن مسعود. وقيل: جاريات؛ قال الحسن؛ يعني في القلوب. وقيل: معروفات في العقول. « فالعاصفات عصفا » الرياح بغير اختلاف؛ قال المهدوي. وعن ابن مسعود: هي الرياح العواصف تأتي بالعصف، وهو ورق الزرع وحطامه؛ كما قال تعالى: « فيرسل عليكم قاصفا » [ الإسراء: 69 ] . وقيل: العاصفات الملائكة الموكلون بالرياح يعصفون بها. وقيل: الملائكة تعصف بروح الكافر؛ يقال: عصف بالشيء أي أباده وأهلكه، وناقة عصوف أي تعصف براكبها، فتمضى كأنها ريح في السرعة، وعصفت الحرب بالقوم أي ذهبت بهم. وقيل: يحتمل أنها الآيات المهلكة كالزلازل والخسوف. « والناشرات نشرا » الملائكة الموكلون بالسحب ينشرونها. وقال ابن مسعود ومجاهد: هي الرياح يرسلها الله تعالى نشرا بين يدي رحمته؛ أي تنشر السحاب للغيث.

وروي ذلك عن أبي صالح. وعنه أيضا: الأمطار؛ لأنها تنشر النبات، فالنشر بمعنى الإحياء؛ يقال: نشر الله الميت وأنشره أي أحياه. وروى عنه السدي: أنها الملائكة تنشر كتب الله عز وجل. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: يريد ما ينشر من الكتب وأعمال بني آدم. الضحاك: إنها الصحف تنشر على الله بأعمال العباد.

وقال الربيع: إنه البعث للقيامة تنشر فيه الأرواح. قال: « والناشرات » بالواو؛ لأنه استئناف قسم آخر. « فالفارقات فرقا » الملائكة تنزل بالفرق بين الحق والباطل؛ قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وأبو صالح. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: ما تفرق الملائكة من الأقوات والأرزاق والآجال. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: الفارقات الرياح تفرق بين السحاب وتبدده. وعن سعيد عن قتادة قال: « الفارقات فرقا » الفرقان، فرق الله فيه بين الحق والباطل والحرام والحلال. وقال الحسن وابن كيسان. وقيل: يعني الرسل فرقوا بين ما أمر الله به ونهى عنه أي بينوا ذلك.

وقيل: السحابات الماطرة تشبيها بالناقة الفارق وهي الحامل التي تخرج وتند في الأرض حين تضع، ونوق فوارق وفرق. [ وربما ] شبهوا السحابة التي تنفرد من السحاب بهذه الناقة؛ قال ذو الرمة:

أو مزنة فارق يجلو غواربها تبوج البرق والظلماء علجوم

« فالملقيات ذكرا » الملائكة بإجماع؛ أي تلقي كتب الله عز وجل إلى الأنبياء عليهم السلام؛ قاله المهدوي. وقيل: هو جبريل وسمي باسم الجمع؛ لأنه كان ينزل بها. وقيل: المراد الرسل يلقون إلى أممهم ما أنزل الله عليهم؛ قال قطرب. وقرأ ابن عباس « فالملقيات » بالتشديد مع فتح القاف؛ وهو كقوله تعالى: « وإنك لتلقى القرآن » [ النمل: 6 ] « عذرا أو نذرا » أي تلقى الوحي إعذارا من الله أو إنذارا إلى خلقه من عذابه؛ قال الفراء. وروى عن أبي صالح قال: يعني الرسل يعذرون وينذرون. وروى سعيد عن قتادة « عذرا » قال: عذرا لله جل ثناؤه إلى خلقه، ونذرا للمؤمنين ينتفعون به ويأخذون به. وروى الضحاك عن ابن عباس. « عذرا » أي ما يلقيه الله جل ثناؤه من معاذير أوليائه وهي التوبة « أو نذرا » ينذر أعداءه. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص « أو نذرا » بإسكان الذال وجميع السبعة على إسكان ذال « عذرا » سوى ما رواه الجعفي والأعشى عن أبي بكر عن عاصم أنه ضم الذال. وروي ذلك عن ابن عباس والحسن وغيرهما. وقرأ إبراهيم التيمي وقتادة « عذرا ونذرا » بالواو العاطفة ولم يجعلا بينهما ألفا. وهما منصوبان على الفاعل له أي للإعذار أو للإنذار. وقيل: على المفعول به، قيل: على البدل من « ذكرا » أي فالملقيات عذرا أو نذرا. وقال أبو علي: يجوز أن يكون العذر والنذر بالثقيل على جمع عاذر وناذر؛ كقوله تعالى: « هذا نذير من النذر الأولى » [ النجم: 56 ] فيكون نصبا على الحال من الإلقاء؛ أي يلقون الذكر في حال العذر والإنذار. أو يكون مفعولا « لذكرا » أي « فالملقيات » أي تذكر « عذرا أو نذرا » . وقال المبرد: هما بالتثقيل جمع والواحد عذير ونذير.

 

قوله تعالى: « إنما توعدون لواقع » هذا جواب ما تقدم من القسم؛ أي ما توعدون من أمر القيامة لواقع بكم ونازل عليكم. ثم بين وقت وقوعه فقال: « فإذا النجوم طمست » أي ذهب ضوؤها ومحي نورها كطمس الكتاب؛ يقال: طمس الشيء إذا درس وطمس فهو مطموس، والريح تطمس الآثار فتكون الريح طامسة والأثر طامسا بمعنى مطموس. « وإذا السماء فرجت » أي فتحت وشقت؛ ومنه قوله تعالى: « وفتحت السماء فكانت أبوابا » [ النبأ: 19 ] . وروى الضحاك عن ابن عباس قال: فرجت للطي. « وإذا الجبال نسفت » أي ذهب بها كلها بسرعة؛ يقال: نسفت الشيء وأنسفته: إذا أخذته كله بسرعة. وكان ابن عباس والكلبي يقول: سويت بالأرض، والعرب تقول: فرس نسوف إذا كان يؤخر الحزام بمرفقيه؛ قال بشر:

نسوف للحزام بمرفقيها

ونسفت الناقة الكلأ: إذا رعته. وقال المبرد: نسفت قلعت من موضعها؛ يقول الرجل للرجل يقتلع رجليه من الأرض: أنسفت رجلاه. وقيل: النسف تفريق الأجزاء حتى تذروها للرياح. ومنه نسف الطعام؛ لأنه يحرك حتى يذهب الريح بعض ما فيه من التبن. « وإذا الرسل أقتت » أي جمعت لوقتها ليوم القيامة، والوقت الأجل الذي يكون عنده الشيء المؤخر إليه؛ فالمعنى: جعل لها وقت وأجل للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم؛ كما قال تعالى: « يوم يجمع الله الرسل » [ المائدة: 109 ] . وقيل: هذا في الدنيا أي جمعت الرسل لميقاتها الذي ضرب لها في إنزال العذاب بمن كذبهم بأن الكفار ممهلون. وإنما تزول الشكوك يوم القيامة. والأول أحسن؛ لأن التوقيت معناه شيء يقع يوم القيامة، كالطمس ونسف الجبال وتشقيق السماء ولا يليق به. التأقيت قبل يوم القيامة. قال أبو علي: أي جعل يوم الدين والفصل لها وقتا. وقيل: أقتت وعدت وأجلت. وقيل: « أقتت » أي أرسلت لأوقات معلومة على ما علمه الله وأراد. والهمزة في « أقتت » بدل من الواو؛ قال الفراء والزجاج. قال الفراء: وكل واو ضمت وكانت ضمتها لازمة جاز أن يبدل منها همزة؛ تقول: صلى القوم إحدانا تريد وحدانا، ويقولون هذه وجوه حسان و [ أجوه ] . وهذا لأن ضمة الواو ثقيلة. ولم يجز البدل في قوله: « ولا تنسوا الفضل بينكم » [ البقرة: 237 ] لأن الضمة غير لازمة.

وقرأ أبو عمرو وحميد والحسن ونصر. وعن عاصم ومجاهد « وقتت » بالواو وتشديد القاف على الأصل. وقال أبو عمرو: وإنما يقرأ « أقتت » من قال في وجوه أجوه. وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج « وقتت » بالواو وتخفيف القاف. وهو فعلت من الوقت ومنه « كتابا موقوتا » . وعن الحسن أيضا: « ووقتت » بواوين، وهو فوعلت من الوقت أيضا مثل عوهدت. ولو قلبت الواو في هاتين القراءتين ألفا لجاز. وقرأ يحيى وأيوب وخالد بن إلياس وسلام « أقتت » بالهمزة والتخفيف؛ لأنها مكتوبة في المصحف بالألف.

 

قوله تعالى: « لأي يوم أجلت » أي أخرت، وهذا تعظيم لذلك اليوم فهو استفهام على التعظيم. أي « ليوم الفصل » أجلت. وروى سعيد عن قتادة قال: يفصل فيه بين الناس بأعمالهم إلى الجنة أو إلى النار. وفي الحديث: [ إذا حشر الناس يوم القيامة قاموا أربعين عاما على رؤوسهم الشمس شاخصة أبصارهم إلى السماء ينتظرون الفصل ] . « وما أدراك ما يوم الفصل » أتبع التعظيم تعظيما؛ أي وما أعلمك ما يوم الفصل؟ « ويل يومئذ للمكذبين » أي عذاب وخزي لمن كذب بالله وبرسله وكتبه وبيوم الفصل فهو وعيد. وكرره في هذه السورة عند كل آية لمن كذب؛ لأنه قسمه بينهم على قدر تكذيبهم، فإن لكل مكذب بشيء عذابا سوى تكذيبه بشيء آخر، ورب شيء كذب به هو أعظم جرما من تكذيبه بغيره؛ لأنه أقبح في تكذيبه، وأعظم في الرد على الله، فإنما يقسم له من الويل على قدر ذلك، وعلى قدر وفاقه وهو قوله: « جزاء وفاقا » . [ النبأ: 26 ] . وروي عن النعمان بن بشير قال: ويل: واد في جهنم فيه ألوان العذاب. وقال ابن عباس وغيره. قال ابن عباس: إذا خبت جهنم أخذ من جمره فألقي عليها فيأكل بعضها بعضا. وروي أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ عرضت علي جهنم فلم أر فيها واديا أعظم من الويل ] وروي أنه مجمع ما يسيل من قيح أهل النار وصديدهم، وإنما يسيل الشيء فيما سفل من الأرض وانفطر، وقد علم العباد في الدنيا أن شر المواضع في الدنيا ما استنقع فيها مياه الأدناس والأقذار والغسالات من الجيف وماء الحمامات؛ فذكر أن ذلك الوادي. مستنقع صديد أهل الكفر والشرك؛ ليعلم ذوو العقول أنه لا شيء أقذر منه قذارة، ولا أنتن منه نتنا، ولا أشد منه مرارة، ولا أشد سوادا منه؛ ثم وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بما تضمن من العذاب، وأنه أعظم واد في جهنم، فذكره الله تعالى في وعيده في هذه السورة.

 

الآيات: 16 - 19 ( ألم نهلك الأولين، ثم نتبعهم الآخرين، كذلك نفعل بالمجرمين، ويل يومئذ للمكذبين )

 

قوله تعالى: « ألم نهلك الأولين » أخبر عن إهلاك الكفار من الأمم الماضين من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم. « ثم نتبعهم الآخرين » أي نلحق الآخرين بالأولين. « كذلك نفعل بالمجرمين » أي مثل ما فعلناه بمن تقدم نفعل بمشركي قريش إما بالسيف، وإما بالهلاك. وقرأ العامة « ثم نتبعهم » بالرفع على الاستئناف، وقرأ الأعرج « نتبعهم » بالجزم عطفا على « نهلك الأولين » كما تقول: ألم تزرني ثم أكرمك. والمراد أنه أهلك قوما بعد قوم على اختلاف أوقات المرسلين. ثم استأنف بقوله: « كذلك نفعل بالمجرمين » يريد من يهلك فيما بعد. ويجوز أن يكون الإسكان تخفيفا من « نتبعهم » لتوالي الحركات. وروي عنه الإسكان للتخفيف. وفي قراءة ابن مسعود « ثم سنتبعهم » والكاف من « كذلك » في موضع نصب، أي مثل ذلك الهلاك نفعله بكل مشرك. ثم قيل: معناه التهويل لهلاكهم في الدنيا اعتبارا. وقيل: هو إخبار بعذابهم في الآخرة.

 

الآيات: 20 - 24 ( ألم نخلقكم من ماء مهين، فجعلناه في قرار مكين، إلى قدر معلوم، فقدرنا فنعم القادرون، ويل يومئذ للمكذبين )

 

قوله تعالى: « ألم نخلقكم من ماء مهين » أي ضعيف حقير وهو النطفة وقد تقدم.

وهذه الآية أصل لمن قال: إن خلق الجنين إنما هو من ماء الرجل وحده. وقد مضى القول فيه. « فجعلناه في قرار مكين » أي في مكان حريز وهو الرحم. « إلى قدر معلوم » قال مجاهد: إلى أن نصوره. وقيل: إلى وقت الولادة. « فقدرنا » وقرأ نافع والكسائي « فقدرنا » بالتشديد. وخفف الباقون، وهما لغتان بمعنى. قاله الكسائي والفراء والقتبي. قال القتبي: قدرنا بمعنى قدرنا مشددة: كما تقول: قدرت كذا وقدرته؛ ومنه قول النبي صلى الله علسه سلم في الهلال: [ إذا غم عليكم فاقدروا له ] أي قدروا له المسير والمنازل. وقال محمد بن الجهم عن الفراء: « فقدرنا » قال: وذكر تشديدها عن علي رضي الله عنه، تخفيفها، قال: ولا يبعد أن يكون المعنى في التشديد والتخفيف واحدا؛ لأن العرب تقول: قدر عليه الموت وقدر: قال الله تعالى: « نحن قدرنا بينكم الموت » [ الواقعة: 60 ] قرئ بالتخفيف، والتشديد، وقدر عليه رزقه وقدر. قال: واحتج الذين خففوا فقالوا؛ لو كانت كذلك لكانت فنعم المقدرون. قال الفراء: وتجمع العرب بين اللغتين؛ قال الله تعالى: « فمهل الكافرين أمهلهم رويدا » [ الطارق: 17 ] قال الأعشى:

وأنكرتني وما كان الذي نكرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا

وروي عن عكرمة « فقدرنا » مخففة من القدرة، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم والكسائي لقوله: « فنعم القادرون » ومن شدد فهو من التقدير، أي فقدرنا الشقي والسعيد فنعم المقدرون. رواه ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: المعنى قدرنا قصيرا أو طويلا. ونحوه عن ابن عباس: قدرنا ملكنا. المهدوي: وهذا التفسير أشبه بقراءة التخفيف.

قلت: هو صحيح فإن عكرمة هو الذي قرأ « فقدرنا » مخففا قال: معناه فملكنا فنعم المالكون، فأفادت الكلمتان معنيين متغايرين؛ أي قدرنا وقت الولادة وأحوال النطفة في التنقيل من حالة إلى حالة حتى صارت بشرا سويا، أو الشقي والسعيد، أو الطويل والقصير، كله على قراءة التشديد. وقيل: هما بمعنى كما ذكرنا.

 

الآيات: 25 - 28 ( ألم نجعل الأرض كفاتا، أحياء وأمواتا، وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا، ويل يومئذ للمكذبين )

 

قوله تعالى: « ألم نجعل الأرض كفاتا » أي ضامة تضم الأحياء على ظهورها والأموات في بطنها. وهذا يدل على وجوب مواراة الميت ودفنه، ودفن شعره وسائر ما يزيله عنه. وقوله عليه السلام: [ قصوا أظافركم وادفنوا قلاماتكم ] وقد مضى. يقال: كفت الشيء أكفته: إذا جمعته وضممته، والكفت: الضم والجمع؛ وأنشد سيبويه:

كرام حين تنكفت الأفاعي إلى أجحارهن من الصقيع

وقال أبو عبيد: « كفاتا » أوعية. ويقال للنحي: كفت وكفيت، لأنه يحوي اللبن ويضمه قال:

فأنت اليوم فوق الأرض حيا وأنت غدا تضمك في كفات

وخرج الشعبي في جنازة فنظر إلى الجبان فقال: هذه كفات الأموات، ثم نظر إلى البيوت فقال: هذه كفات الأحياء.

 

روى عن ربيعة في النباش قال تقطع يده فقيل له: لم قلت ذلك؟ قال. إن الله عز وجل يقول: « ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا » فالأرض حرز. وقد مضى هذا في سورة « المائدة » . وكانوا يسمون بقيع الغرقد كفتة، لأنه مقبرة تضم الموتى، فالأرض تضم الأحياء إلى منازلهم والأموات في قبورهم. وأيضا استقرار الناس على وجه الأرض، ثم اضطجاعهم عليها، انضمام منهم إليها. وقيل: هي كفات للأحياء يعني دفن ما يخرج من الإنسان من الفضلات في الأرض؛ إذ لا ضم في كون الناس عليها، والضم يشير إلى الاحتفاف من جميع الوجوه. وقال الأخفش وأبو عبيدة ومجاهد في أحد قوليه: الأحياء والأموات ترجع إلى الأرض، أي الأرض منقسمة إلى حي وهو الذي ينبت، وإلى ميت وهو الذي لا ينبت. وقال الفراء: انتصب، « أحياء وأمواتا » بوقوع الكفات عليه؛ أي ألم نجعل الأرض كفات أحياء وأموات. فإذا نونت نصبت؛ كقوله تعالى: « أو إطعام في يوم ذي مسغبة. يتيما » [ البلد: 14 ] . وقيل: نصب على الحال من الأرض، أي منها كذا ومنها كذا. وقال الأخفش: « كفاتا » جمع كافتة والأرض يراد بها الجمع فنعتت بالجمع. وقال الخليل: التكفيت: تقليب الشيء ظهرا لبطن أو بطنا لظهر. ويقال: انكفت القوم إلى منازلهم أي انقلبوا. فمعنى الكفات أنهم يتصرفون على ظهرها وينقلبون إليها ويدفنون فيها. « وجعلنا فيها » أي في الأرض « رواسي شامخات » يعني الجبال، والرواسي الثوابت، والشامخات الطوال؛ ومنه يقال: شمخ بأنفه إذا رفعه كبرا. « وأسقيناكم ماء فراتا » أي وجعلنا لكم سقيا. والفرات: الماء العذب يشرب ويسقى منه الزرع. أي خلقنا الجبال وأنزلنا الماء الفرات. وهذه الأمور أعجب من البعث. وفي بعض الحديث قال أبو هريرة: في الأرض من الجنة الفرات والدجلة ونهر الأردن. وفي صحيح مسلم: سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة.

 

الآيات: 29 - 34 ( انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون، انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب، لا ظليل ولا يغني من اللهب، إنها ترمي بشرر كالقصر، كأنه جمالة صفر، ويل يومئذ للمكذبين )

 

قوله تعالى: « انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون » أي يقال للكفار سيروا « إلى ما كنتم به تكذبون » من العذاب يعني النار، فقد شاهدتموها عيانا. « انطلقوا إلى ظل » أي دخان « ذي ثلاث شعب » يعني الدخان الذي يرتفع ثم يتشعب إلى ثلاث شعب. وكذلك شأن الدخان العظيم إذا ارتفع تشعب. ثم وصف الظل فقال: « لا ظليل » أي ليس كالظل الذي يقي حر الشمس « ولا يغني من اللهب » أي لا يدفع من لهب جهنم شيئا. واللهب ما يعلو على النار إذ اضطرمت، من أحمر وأصفر وأخضر. وقيل: إن الشعب الثلاث هي الضريع والزقوم والغسلين؛ قاله الضحاك. وقيل: اللهب ثم الشرر ثم الدخان؛ لأنها ثلاثة أحوال، هي غاية أوصاف النار إذا أضطرمت واشتدت. وقيل: عنق يخرج من النار فيتشعب ثلاث شعب. فأما النور فيقف على رؤوس المؤمنين، وأما الدخان فيقف على رؤوس المنافقين، وأما اللهب الصافي فيقف على رؤوس الكافرين. وقيل: هو الرادق، وهو لسان من نار يحيط بهم، ثم يتشعب منه ثلاث شعب، فتظللهم حتى يفرغ من حسابهم إلى النار. وقيل: هو الظل من يحموم؛ كما قال تعالى: « في سموم وحميم. وظل من يحموم. لا بارد ولا كريم » [ الواقعة: 43 ] على ما تقدم. وفي الحديث: ( إن الشمس تدنو من رؤوس الخلائق وليس عليهم يومئذ لباس ولا لهم أكفان فتلحقهم الشمس وتأخذ بأنفاسهم ومد ذلك اليوم، ثم ينجي الله برحمته من يشاء إلى ظل من ظله فهنالك يقولون: « فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم » [ الطور: 27 ] ويقال للمكذبين: « انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون » من عذاب الله وعقابه « انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب » . فيكون أولياء الله جل ثناؤه في ظل عرشه أو حيث شاء من الظل، إلى أن يفرغ من الحساب ثم يؤمر بكل فريق إلى مستقره من الجنة والنار. ثم وصف النار فقال: « إنها ترمي بشرر كالقصر » الشرر: واحدته شررة. والشرار: واحدته شرارة، وهو ما تطاير من النار في كل جهة، وأصله من شررت الثوب إذا بسطته للشمس ليجف. والقصر البناء العالي. وقراءة العامة « كالقصر » بإسكان الصاد: أي الحصون والمدائن في العظم وهو واحد القصور. قاله ابن عباس وابن مسعود. وهو في معنى الجمع على طريق الجنس. وقيل: القصر جمع قصرة ساكنة الصاد، مثل جمرة، وجمر وتمرة وتمر. والقصرة: الواحدة من جزل الحطب الغليظ.

وفي البخاري عن ابن عباس أيضا: « ترمى بشرر كالقصر » قال كنا نرفع الخشب بقصر ثلاثة أذرع أو أقل، فترفعه للشتاء، فنسميه القصر، وقال سعيد بن جبير والضحاك: هي أصول الشجر والنخل العظام إذا وقع وقطع. وقيل: أعناقه. وقرأ ابن عباس ومجاهد وحميد والسلمي « كالقصر » بفتح الصاد، أراد أعناق النخل. والقصرة العنق، جمعها قصر وقصرات. وقال قتادة: أعناق الإبل. قرأ سعيد بن جبير بكسر القاف وفتح الصاد، وهي أيضا جمع قصرة مثل بدرة وبدر وقصعة وقصع وحلقة وحلق، لحلق الحديد. وقال أبو حاتم: ولعله لغة، كما قالوا حاجة وحوج. وقيل: القصر: الجبل، فشبه الشرر بالقصر في مقاديره، ثم شبهه في لونه بالجمالات الصفر، وهي الإبل السود؛ والعرب تسمي السود من الإبل صفرا؛ قال الشاعر:

تلك خيلي منه وتلك ركابي هن صفر أولادها كالزبيب

أي هن سود. وإنما سميت السود من الإبل صفرا لأنه يشوب سوادها شيء من صفرة؛ كما قيل لبيض الظباء: الأدم؛ لأن بياضها تعلوه كدرة: والشرر إذا تطاير وسقط وفيه بقية من لون النار أشبه شيء بالإبل السود، لما ينوبها من صفرة. وفي شعر عمران بن حطان الخارجي:

دعتهم بأعلى صوتها ورمتهم بمثل الجمال الصفر نزاعة الشوى

وضعف الترمذي هذا القول فقال: وهذا القول محال في اللغة، أن يكون شيء يشوبه شيء قليل، فنسب كله إلى ذلك الشائب، فالعجب لمن قد قال هذا، وقد قال الله تعالى: « جمالات صفر » فلا نعلم شيئا من هذا في اللغة. ووجهه عندنا أن النار خلقت من النور فهي نار مضيئة، فلما خلق الله جهنم وهي موضع النار، حشا ذلك الموضع بتلك النار، وبعث إليها سلطانه وغضبه، فاسودت من سلطانه وازدادت حدة، وصارت أشد سوادا من النار ومن كل شيء سوادا، فإذا كان يوم القيامة وجيء بجهنم في الموقف رمت بشررها على أهل الموقف، غضبا لغضب الله، والشرر هو أسود، لأنه من نار سوداء، فإذا رمت النار بشررها فإنها ترمي الأعداء به، فهن سود من سواد النار، لا يصل ذلك إلى الموحدين؛ لأنهم في سرادق الرحمة قد أحاط بهم في الموقف، وهو الغمام الذي يأتي فيه الرب تبارك وتعالى، ولكن يعاينون ذلك الرمي، فإذا عاينوه نزع الله ذلك السلطان والغضب عنه في رأي العين منهم حتى يروها صفراء؛ ليعلم الموحدون أنهم في رحمة الله لا في سلطانه وغضبه. وكان ابن عباس يقول: الجمالات الصفر: حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض حتى تكون كأوساط الرجال. ذكره البخاري. وكان يقرؤها « جمالات » بضم الجيم، وكذلك قرأ مجاهد وحميد « جمالات » بضم الجيم، وهي الحبال الغلاط، وهي قلوس السفينة أي حبالها. وواحد القلوس: قلس. وعن ابن عباس أيضا على أنها قطع النحاس. والمعروف في الحبل الغليظ جمل بتشديد الميم كما تقدم في « الأعراف » . و « جمالات » بضم الجيم: جمع جمالة بكسر الجيم موحدا، كأنه جمع جمل، نحو حجر وحجارة، وذكر وذكارة، وقرأ يعقوب وابن أبي إسحاق وعيسى والجحدري « جُمالة » بضم الجيم موحدا وهي الشيء العظيم المجموع بعضه إلى بعض. وقرأ حفص وحمزة والكسائي « جمالة » وبقية السبعة « جمالات » قال الفراء: يجوز أن تكون الجمالات جمع جمال كما يقال: رجل ورجال ورجالات. وقيل: شبهها بالجمالات لسرعة سيرها. وقيل: لمتابعة بعضها بعضا. والقصر: واحد القصور. وقصر الظلام: اختلاطه ويقال: أتيته قصرا أي عشيا، فهو مشترك؛ قال:

كأنهم قصرا مصابيح راهب بموزن روى بالسليط ذبالها

مسألة: في هذه الآية دليل على جواز ادخار الحطب والفحم وإن لم يكن من القوت، فإنه من مصالح المرء ومغاني مفاقره. وذلك مما يقتضي النظر أن يكتسبه في غير وقت حاجته؛ ليكون أرخص وحالة وجوده أمكن، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخر القوت في وقت عموم وجوده من كسبه ومال، وكل شيء محمول عليه. وقد بين ابن عباس هذا بقوله: كنا نعمد إلى الخشبة فنقطعها ثلاثة أذرع وفوق ذلك ودونه وندخره للشتاء وكنا نسميه القصر. وهذا أصح ما قيل في ذلك والله أعلم.

 

الآيات: 35 - 37 ( هذا يوم لا ينطقون، ولا يؤذن لهم فيعتذرون، ويل يومئذ للمكذبين )

 

قوله تعالى: « هذا يوم لا ينطقون » أي لا يتكلمون « ولا يؤذن لهم فيعتذرون » أي إن يوم القيامة له مواطن ومواقيت، فهذا من المواقيت التي لا يتكلمون فيها، ولا يؤذن لهم في الاعتذار والتنصل. وعن عكرمة عن ابن عباس قال: سأل ابن الأزرق عن قوله تعالى: « هذا يوم لا ينطقون » و « فلا تسمع إلا همسا » [ طه: 108 ] وقد قال تعالى: « وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون » [ الصافات: 27 ] فقال له: إن الله عز وجل يقول: « وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون » [ الحج: 47 ] فإن لكل مقدار من هذه الأيام لونا من هذه الألوان. وقيل: لا ينطقون بحجة نافعة، ومن نطق بما لا ينفع ولا يفيد فكأنه ما نطق. قال الحسن: لا ينطقون بحجة وإن كانوا ينطقون. وقيل: إن هذا وقت جوابهم « اخسؤوا فيها ولا تكلمون » [ المؤمنون: 108 ] وقد تقدم. وقال أبو عثمان: أسكتتهم رؤية الهيبة وحياء الذنوب. وقال الجنيد: أي عذر لمن أعرض عن منعمه وجحده وكفر أياديه ونعمه؟ و « يوم » بالرفع قراءة العامة على الابتداء والخبر؛ أي تقول الملائكة: « هذا يوم لا ينطقون » ويجوز أن يكون قوله: « انطلقوا » [ المرسلات: 29 ] من قول الملائكة، ثم يقول الله لأوليائه: هذا يوم لا ينطق الكفار. ومعنى اليوم الساعة والوقت. وروى يحيى بن سلطان. عن أبي بكر عن عاصم « هذا يوم لا ينطقون » بالنصب، ورويت عن ابن هرمز وغيره، فجاز أن يكون مبنيا لإضافته إلى الفعل وموضعه رفع. وهذا مذهب الكوفيين. وجاز أن يكون في موضع نصب على أن تكون الإشارة إلى غير اليوم. وهذا مذهب البصريين؛ لأنه إنما بني عندهم إذا أضيف إلى مبني، والفعل ها هنا معرب. وقال الفراء في قوله تعالى: « ولا يؤذن لهم فيعتذرون » الفاء نسق أي عطف على « يؤذن » وأجيز ذلك؛ لأن أواخر الكلام بالنون. ولو قال: فيعتذروا لم يوافق الآيات. وقد قال: « لا يقضى عليهم فيموتوا » [ فاطر: 36 ] بالنصب وكله صواب؛ ومثله: « من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه » [ البقرة: 245 ] بالنصب والرفع.

 

الآيات: 38 - 40 ( هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين، فإن كان لكم كيد فكيدون، ويل يومئذ للمكذبين )

 

قوله تعالى: « هذا يوم الفصل » أي ويقال لهم هذا اليوم الذي يفصل فيه بين الخلائق؛ فيتبين المحق من المبطل. « جمعناكم والأولين » قال ابن عباس: جمع الذين كذبوا محمدا والذين كذبوا النبيين من قبله. رواه عنه الضحاك. « فإن كان لكم كيد » أي حيلة في الخلاص من الهلاك « فكيدوني » أي فاحتالوا لأنفسكم وقاووني ولن تجدوا ذلك. وقيل: أي « فإن كان لكم كيد » أي قدرتم على حرب « فكيدوني » أي حاربوني. كذا روى الضحاك عن ابن عباس. قال: يريد كنتم في الدنيا تحاربون محمدا صلى الله عليه وسلم وتحاربونني فاليوم حاربوني. وقيل: أي إنكم كنتم في الدنيا تعملون بالمعاصي وقد عجزتم الآن عنها وعن الدفع عن أنفسكم. وقيل: إنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون كقول هود: « فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون » [ هود: 55 ] .

 

الآيات: 41 - 45 ( إن المتقين في ظلال وعيون، وفواكه مما يشتهون، كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون، إنا كذلك نجزي المحسنين، ويل يومئذ للمكذبين )

 

قوله تعالى: « إن المتقين في ظلال وعيون » أخبر بما يصير إليه المتقون غدا، والمراد بالظلال ظلال الأشجار وظلال القصور مكان الظل في الشعب الثلاث. وفي سورة يس « هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون » [ يس: 56 ] . « وفواكه مما يشتهون » أي يتمنون. وقراءة العامة « ظلال » . وقرأ الأعرج والزهري وطلحة « ظلل » جمع ظلة يعني في الجنة. « كلوا واشربوا » أي يقال لهم غدا هذا بدل ما يقال للمشركين « فإن كان لكم كيد فكيدون » . فـ « كلوا وأشربوا » في موضع الحال من ضمير « المتقين » في الظرف الذي هو « في ظلال » أي هم مستقرون « في ظلال » مقولا لهم ذلك. « إنا كذلك نجزي المحسنين » أي نثيب الذين أحسنوا في تصديقهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وأعمالهم في الدنيا.

 

الآيات: 46 - 47 ( كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون، ويل يومئذ للمكذبين )

 

قوله تعالى: « كلوا وتمتعوا قليلا » هذا مردود إلى ما تقدم قبل المتقين، وهو وعيد وتهديد وهو حال من « المكذبين » أي الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم: « كلوا وتمتعوا قليلا » . « إنكم مجرمون » أي كافرون. وقيل: مكتسبون فعلا يضركم في الآخرة، من الشرك والمعاصي.

 

الآيات: 48 - 50 ( وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون، ويل يومئذ للمكذبين، فبأي حديث بعده يؤمنون )

 

قوله تعالى: « وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون » أي إذا قيل لهؤلاء المشركين: « اركعوا » أي صلوا « لا يركعون » أي لا يصلون؛ قال مجاهد. وقال مقاتل: نزلت في ثقيف، امتنعوا من الصلاة فنزل ذلك فيهم. قال مقاتل: قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ( أسلموا ) وأمرهم بالصلاة فقالوا: لا ننحني فإنها مسبة علينا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود ) . يذكر أن مالكا رحمه الله دخل المسجد بعد صلاة العصر، وهو ممن لا يرى الركوع بعد العصر، فجلس ولم يركع، فقال له صبي: يا شيخ قم فاركع. فقام فركع ولم يحاجه بما يراه مذهبا، فقيل له في ذلك، فقال: خشيت أن أكون من الذين « إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون » . وقال ابن عباس: إنما يقال لهم هذا في الآخرة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون. قتادة: هذا في الدنيا. ابن العربي: هذه الآية حجة على وجوب الركوع وإنزاله ركنا في الصلاة وقد أنعقد الإجماع عليه، وظن قوم أن هذا إنما يكون في القيامة وليست بدار تكليف فيتوجه فيها أمر يكون عليه ويل وعقاب، وإنما يدعون إلى السجود كشفا لحال الناس في الدنيا، فمن كان لله يسجد يمكن من السجود، ومن كان يسجد رثاء لغيره صار ظهره طبقا واحدا. وقيل: أي إذا قيل لهم اخضعوا للحق لا يخضعون، فهو عام في الصلاة وغيرها وإنما ذكر الصلاة، لأنها أصل الشرائع بعد التوحيد. وقيل: الأمر بالإيمان لأنها لا تصح من غير إيمان.

 

قوله تعالى: « فبأي حديث بعده يؤمنون » أي إن لم يصدقوا بالقرآن الذي هو المعجز والدلالة على صدق الرسول عليه السلام، فبأي شيء يصدقون! وكرر: « ويل يومئذ للمكذبين » لمعنى تكرير التخويف والوعيد. وقيل: ليس بتكرار، لأنه أراد بكل قول منه غير الذي أراد بالآخر؛ كأنه ذكر شيئا فقال: ويل لمن يكذب بهذا، ثم ذكر شيئا آخر فقال: ويل لمن يكذب بهذا، ثم ذكر شيئا آخر فقال: ويل لمن يكذب بهذا. ثم كذلك إلى آخرها. ختمت السورة ولله الحمد.