الجزء الثلاثون

 

 

سورة عم

 

الآيات: 1 - 5 ( عم يتساءلون، عن النبأ العظيم، الذي هم فيه مختلفون، كلا سيعلمون، ثم كلا سيعلمون )

 

قوله تعالى: « عم » لفظ استفهام؛ ولذلك سقطت منها ألف « ما » ، ليتميز الخبر عن الاستفهام. وكذلك ( فيم، ومم ) إذا استفهمت. والمعنى عن أي شيء يسأل بعضهم بعضا. وقال الزجاج: أصل « عم » عن ما فأدغمت النون في الميم، لأنها تشاركها في الغنة. والضمير في « يتساءلون » لقريش. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: كانت قريش تجلس لما نزل القرآن فتتحدث فيما بينها فمنهم المصدق ومنهم المكذب به فنزلت « عم يتساءلون » ؟ وقيل: « عم » بمعنى: فيم يتشدد المشركون ويختصمون.

 

قوله تعالى: « عن النبأ العظيم » أي يتساءلون « عن النبأ العظيم » فعن ليس تتعلق بـ « يتساءلون » الذي في التلاوة؛ لأنه كان يلزم دخول حرف الاستفهام فيكون « عن النبأ العظيم » كقولك: كم مالك أثلاثون أم أربعون؟ فوجب لما ذكرناه من امتناع تعلقه « بيتساءلون » الذي في التلاوة، وإنما يتعلق بيتساءلون آخر مضمر. وحسن ذلك لتقدم يتساءلون؛ قال المهدوي. وذكر بعض أهل العلم أن الاستفهام في قوله: « عن » مكرر إلا أنه مضمر، كأنه قال عم يتساءلون أعن النبأ العظيم؟ فعلى هذا يكون متصلا بالآية الأولى. و « النبأ العظيم » أي الخبر الكبير.

 

قوله تعالى: « الذي هم فيه مختلفون » أي يخالف فيه بعضهم بعضا، فيصدق واحد ويكذب آخر؛ فروى أبو صالح عن ابن عباس قال: هو القرآن؛ دليله قوله: « قل هو نبأ عظيم. أنتم عنه معرضون » فالقرآن نبأ وخبر وقصص، وهو نبأ عظيم الشأن.

وروى سعيد عن قتادة قال: هو البعث بعد الموت صار الناس فيه رجلين: مصدق ومكذب. وقيل: أمر النبي صلى الله عليه وسلم. وروي الضحاك عن ابن عباس قال: وذلك أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء كثيرة، فأخبره الله جل ثناؤه باختلافهم، ثم هددهم فقال: « كلا سيعلمون » أي سيعلمون عاقبة القرآن، أو سيعلمون البعث: أحق هو أم باطل. و « كلا » رد عليهم في إنكارهم البعث أو تكذيبهم القرآن، فيوقف عليها. ويجوز أن يكون بمعنى حقا أو « ألا » فيبدأ بها. والأظهر أن سؤالهم إنما كان عن البعث؛ قال بعض علمائنا: والذي يدل عليه قوله عز وجل: « إن يوم الفصل كان ميقاتا » [ النبأ: 17 ] يدل على أنهم كانوا يتساءلون عن البعث. « ثم كلا سيعلمون » أي حقا ليعلمن صدق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن ومما ذكره لهم من البعث بعد الموت. وقال الضحاك: « كلا سيعلمون » يعني الكافرين عاقبة تكذيبهم. « ثم كلا سيعلمون » يعني المؤمنين عاقبة تصديقهم. وقيل: بالعكس أيضا. وقال الحسن: هو وعيد بعد وعيد. وقراءة العامة فيهما بالياء على الخبر؛ لقوله تعالى: « يتساءلون » وقوله: « هم فيه مختلفون » . وقرأ الحسن وأبو العالية ومالك بن دينار بالتاء فيهما.

 

الآيات: 6 - 16 ( ألم نجعل الأرض مهادا، والجبال أوتادا، وخلقناكم أزواجا، وجعلنا نومكم سباتا، وجعلنا الليل لباسا، وجعلنا النهار معاشا، وبنينا فوقكم سبعا شدادا، وجعلنا سراجا وهاجا، وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا، لنخرج به حبا ونباتا، وجنات ألفافا )

 

قوله تعالى: « ألم نجعل الأرض مهادا » دلهم على قدرته على البعث؛ أي قدرتنا على إيجاد هذه الأمور أعظم من قدرتنا على الإعادة. والمهاد: الوطاء والفراش. وقد قال تعالى: « الذي جعل لكم الأرض فراشا » [ البقرة: 22 ] وقرئ « مهدا » . ومعناه أنها لهم كالمهد للصبي وهو ما يمهد له فينوم عليه « والجبال أوتادا » أي لتسكن ولا تتكفأ ولا تميل بأهلها. « وخلقناكم أزواجا » أي أصنافا: ذكرا وأنثى. وقيل: ألوانا. وقيل: يدخل في هذا كل زوج من قبيح وحسن، وطويل وقصير؛ لتختلف الأحوال فيقع الاعتبار، فيشكر الفاضل ويصبر المفضول. « وجعلنا نومكم سباتا » « جعلنا » معناه صيرنا؛ ولذلك تعدت إلى مفعولين. « سباتا » المفعول الثاني، أي راحة لأبدانكم، ومنه يوم السبت أي يوم الراحة؛ أي قيل لبني إسرائيل: استريحوا في هذا اليوم، فلا تعملوا فيه شيئا. وأنكر ابن الأنباري هذا وقال: لا يقال للراحة سبات. وقيل: أصله التمدد؛ يقال: سبتت المرأة شعرها: إذا حلته وأرسلته، فالسبات كالمد، ورجل مسبوت الخلق: أي ممدود. وإذا أراد الرجل أن يستريح تمدد، فسميت الراحة سبتا. وقيل: أصله القطع؛ يقال: سبت شعره سبتا: حلقه؛ وكأنه إذا نام انقطع عن الناس وعن الاشتغال، فالسبات يشبه الموت، إلا أنه لم تفارقه الروح. ويقال: سير سبت: أي سهل لين؛ قال الشاعر:

ومطوية الأقراب أما نهارها فسبت وأما ليلها فذميل

« وجعلنا الليل لباسا » أي تلبسكم ظلمته وتغشاكم؛ قال الطبري. وقال ابن جبير والسدي: أي سكنا لكم. « وجعلنا النهار معاشا » فيه إضمار، أي وقت معاش، أي متصرفا لطلب المعاش وهو كل ما معاش به من المطعم والمشرب وغير ذلك فـ « معاشا » على هذا اسم زمان، ليكون الثاني هو الأول. ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى العيش على تقدير حذف المضاف. « وبنينا فوقكم سبعا شدادا » أي سبع سموات محكمات؛ أي محكمة الخلق وثيقة البنيان. « وجعلنا سراجا وهاجا » أي وقادا وهي الشمس. وجعل هنا بمعنى خلق؛ لأنها تعدت لمفعول واحد والوهاج الذي له وهج؛ يقال: وهج يهج وهجا ووهجا ووهجانا. ويقال للجوهر إذا تلألأ توهج. وقال ابن عباس: وهاجا منيرا متلألئا. « وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا » قال مجاهد وقتادة: والمعصرات الرياح. وقاله ابن عباس: كأنها تعصر السحاب. وعن ابن عباس أيضا: أنها السحاب. وقال سفيان والربيع وأبو العالية والضحاك: أي السحائب التي تنعصر بالماء ولما تمطر بعد، كالمرأة المعصر التي قددنا حيضها ولم تحض، قال أبو النجم:

تمشي الهوينى مائلا خمارها قد أعصرت أوقد دنا إعصارها

وقال آخر:

فكان مجني دون من كنت أتقي ثلاث شخوص كاعبان ومعصر

وقال آخر:

وذي أشر كالأقحوان يزينه ذهاب الصبا والمعصرات الروائح

فالرياح تسمى معصرات؛ يقال: أعصرت الريح تعصر إعصارا: إذا أثارت العجاج، وهي الإعصار، والسحب أيضا تسمى المعصرات لأنها تمطر. وقال قتادة أيضا: المعصرات السماء، النحاس: هذه الأقوال صحاح؛ يقال للرياح التي تأتي بالمطر معصرات، والرياح تلقح السحاب، فيكون المطر، والمطر ينزل من الريح على هذا. ويجوز أن تكون الأقوال واحدة، ويكون المعنى وأنزلنا من ذوات الرياح المعصرات « ماء ثجاجا » وأصح الأقوال أن المعصرات؛ السحاب. كذا المعروف أن الغيث منها، ولو كان ( بالمعصرات ) لكان الريح أولى. وفي الصحاح: والمعصرات السحائب تعتصر بالمطر. وأعصر القوم أي أمطروا؛ ومنه قرأ بعضهم « وفيه يعصرون » والمعصر: الجارية أول ما أدركت وحاضت؛ يقال: قد أعصرت كأنها دخلت عصر شبابها أو بلغته؛ قال الراجز:

جارية بسفوان دارها تمشي الهوينى ساقطا خمارها

قد أعصرت أو قد دنا إعصارها

والجمع: معاصر، ويقال: هي التي قاربت الحيض؛ لأن الإعصار في الجارية كالمراهقة في الغلام. سمعته من أبي الغوث الأعرابي. قال غيره: والمعصر السحابة التي حان لها أن تمطر؛ يقال أجن الزرع فهو مجن: أي صار إلى أن يجن، وكذلك السحاب إذا صار إلى أن يمطر فقد أعصر. وقال المبرد: يقال سحاب معصر أي ممسك للماء، ويعتصر منه شيء بعد شيء، ومنه العصر بالتحريك للملجأ الذي يلجأ إليه، والعصرة بالضم أيضا الملجأ. وقد مضى هذا المعنى في سورة « يوسف » والحمد لله. وقال أبو زبيد:

صاديا يستغيث غير مغاث ولقد كان عصرة المنجود

ومنه المعصر للجارية التي قد قربت من البلوغ يقال لها معصر؛ لأنها تحبس في البيت، فيكون البيت لها عصرا. وفي قراءة ابن عباس وعكرمة « وأنزلنا بالمعصرات » . والذي في المصاحف « من المعصرات » قال أبي بن كعب والحسن وابن جبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان: « من المعصرات » أي من السموات. « ماء ثجاجا » صبابا متتابعا؛ عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. يقال: ثججت دمه فأنا أثجه ثجا، وقد ثج الدم يثج ثجوجا، وكذلك الماء، فهو لازم ومتعد. والثجاج في الآية المنصب. وقال الزجاج: أي الضباب، وهو متعد كأنه يثج: نفسه أي يصب. وقال عبيد بن الأبرص:

فثج أعلاه ثم ارتج أسفله وضاق ذرعا بحمل الماء منصاح

وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الحج المبرور فقال: [ العج والثج ] فالعج: رفع الصوت بالتلبية، والثج: إراقة الدماء وذبح الهدايا. وقال ابن زيد: ثجاجا كثيرا. والمعنى واحد.

 

قوله تعالى: « لنخرج به » أي بذلك الماء « حبا » كالحنطة والشعير وغير ذلك

« ونباتا » من الأب، وهو ما تأكله الدواب من الحشيش. « وجنات » أي بساتين

« ألفاقا » أي ملتفة بعضها ببعض لتشعب أغصانها، ولا واحد له كالأوزاع والأخياف. وقيل: واحد الألفاف لف بالكسر ولف بالضم. ذكره الكسائي، قال:

جنة لُفٌّ وعيشٌ مغدِق وندامى كلهم بيض زُهُرْ

وعنه أيضا وأبي عبيدة: لفيف كشريف وأشراف. وقيل: هو جمع الجمع. حكاه الكسائي. يقال: جنة لفاء ونبت لف والجمع لف بضم اللام مثل حمر، ثم يجمع اللف ألفافا. الزمخشري : ولو قيل جمع ملتفة بتقدير حذف الزوائد لكان وجيها. ويقال: شجرة لفاء وشجر لف وامرأة لفاء: أي غليظة الساق مجتمعة اللحم. وقيل: التقدير: ونخرج به جنات ألفافا، فحذف لدلالة الكلام عليه. ثم هذا الالتفاف والانضمام معناه أن الأشجار في البساتين تكون متقاربة، فالأغصان من كل شجرة متقاربة لقوتها.

 

الآيات: 17 - 20 ( إن يوم الفصل كان ميقاتا، يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا، وفتحت السماء فكانت أبوابا، وسيرت الجبال فكانت سرابا )

 

قوله تعالى: « إن يوم الفصل كان ميقاتا » أي وقتا ومجمعا وميعادا للأولين والآخرين، لما وعد الله من الجزاء والثواب. وسمي يوم الفصل لأن الله تعالى يفصل فيه بين خلقه. « يوم ينفخ في الصور » أي للبعث « فتأتون » أي إلى موضع العرض.

« أفواجا » أي أمما، كل أمة مع إمامهم. وقيل: زمرا وجماعات. الواحد: فوج. ونصب يوما بدلا من اليوم الأول. وروي من حديث معاذ بن جبل قلت: يا رسول الله! أرأيت قول الله تعالى: « يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا » فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا معاذ [ بن جبل ] لقد سألت عن أمر عظيم ) ثم أرسل عينيه باكيا، ثم قال: ( يحشر عشرة أصناف من أمتي أشتاتا قد ميزهم الله تعالى من جماعات المسلمين، وبدل صورهم، فمنهم على صورة القردة وبعضهم على صورة الخنازير وبعضهم منكسون: أرجلهم أعلاهم، ووجوههم يسحبون عليها، وبعضهم عمي يتردون، وبعضهم صم بكم لا يعقلون، وبعضهم يمضغون ألسنتهم، فهي مدلاة على صدورهم، يسيل القيح من أفواههم لعابا، يتقذرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلبون على جذوع من النار، وبعضهم أشد نتنا من الجيف، وبعضهم ملبسون جلابيب سابغة من القطران لاصقة بجلودهم؛ فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس - يعني النمام - وأما الذين على صورة الخنازير، فأهل السحت والحرام والمكس. وأما المنكسون رؤوسهم ووجوههم، فأكلة الربا، والعمي: من يجور في الحكم، والصم البكم: الذين يعجبون بأعمالهم. والذين يمضغون ألسنتهم: فالعلماء والقصاص الذين يخالف قولهم فعلهم. والمقطعة أيديهم وأرجلهم: فالذين يؤذون الجيران. والمصلبون على جذوع النار: فالسعاة بالناس إلى السلطان والذين هم أشد نتنا من الجيف فالذين يتمتعون بالشهوات واللذات، ويمنعون حق الله من أموالهم. والذين يلبسون الجلابيب: فأهل الكبر والفخر والخيلاء ) .

 

قوله تعالى: « وفتحت السماء فكانت أبوابا » أي لنزول الملائكة؛ كما قال تعالى: « ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا » [ الفرقان: 25 ] . وقيل: تقطعت، فكانت قطعا كالأبواب فانتصاب الأبواب على هذا التأويل بحذف الكاف. وقيل: التقدير فكانت ذات أبواب؛ لأنها تصير كلها أبوابا. وقيل: أبوابها طرقها. وقيل: تنحل وتتناثر، حتى تصير فيها أبواب. وقيل: إن لكل عبد بابين في السماء: بابا لعمله، وبابا لرزقه، فإذا قامت القيامة انفتحت الأبواب. وفي حديث الإسراء: ( ثم عرج بنا إلى السماء فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا ) . « وسيرت الجبال فكانت سرابا » أي لا شيء كما أن السراب كذلك: يظنه الرائي ماء وليس بماء.

وقيل: « سيرت » نسفت من أصولها. وقيل: أزيلت عن مواضعها.

 

الآيات: 21 - 30 ( إن جهنم كانت مرصادا، للطاغين مآبا، لابثين فيها أحقابا، لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا، إلا حميما وغساقا، جزاء وفاقا، إنهم كانوا لا يرجون حسابا، وكذبوا بآياتنا كذابا، وكل شيء أحصيناه كتابا، فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا )

 

قوله تعالى: « إن جهنم كانت مرصادا » مفعال من الرصد والرصد: كل شيء كان أمامك. قال الحسن: إن على النار رصدا، لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز عليه، فمن جاء بجواز جاز، ومن لم يجيء بجواز حبس. وعن سفيان رضي الله عنه قال: عليها ثلاث قناطر. وقيل « مرصادا » ذات أرصاد على النسب؛ أي ترصد من يمر بها. وقال مقاتل: محبسا. وقيل: طريقا وممرا، فلا سبيل إلى الجنة حتى يقطع جهنم.

وفي الصحاح: والمرصاد: الطريق. وذكر القشيري: أن المرصاد المكان الذي يرصد فيه الواحد العدو، نحو المضمار: الموضع الذي تضمر فيه الخيل. أي هي معدة لهم؛ فالمرصاد بمعنى المحل؛ فالملائكة يرصدون الكفار حتى ينزلوا بجهنم. وذكر الماوردي عن أبي سنان أنها بمعنى راصدة، تجازيهم بأفعالهم. وفي الصحاح: الراصد الشيء: الراقب له؛ تقول: رصده يرصده رصدا ورصدا، والترصد: الترقب. والمرصد: موضع الرصد. الأصمعي: رصدته أرصده: ترقبته، وأرصدته: أعددت له. والكسائي: مثله.

قلت: فجهنم معدة مترصدة، متفعل من الرصد وهو الترقب؛ أي هي متطلعة لمن يأتي. والمرصاد مفعال من أبنية المبالغة كالمعطار والمغيار، فكأنه يكثر من جهنم انتظار الكفار.

« للطاغين مآبا » بدل من قوله: « مرصادا » والمآب: المرجع، أي مرجعا يرجعون إليها؛ يقال: آب يؤوب أوبة: إذا رجع. وقال قتادة: مأوى ومنزلا. والمراد بالطاغين من طغى في دينه بالكفر، أو في دنياه بالظلم.

 

قوله تعالى: « لابثين فيها أحقابا » أي ماكثين في النار ما دامت الأحقاب، وهي لا تنقطع، فكلما مضى حقب جاء حقب. والحقب بضمتين: الدهر والأحقاب الدهور. والحقبة بالكسر: السنة؛ والجمع حقب؛ قال متمم بن نويرة التميمي:

وكنا كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا

فلما تفرقنا كأني ومالكا لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

والحقب بالضم والسكون: ثمانون سنة. وقيل: أكثر من ذلك وأقل، على ما يأتي، والجمع: أحقاب. والمعنى في الآية؛ [ لابثين ] فيها أحقاب الآخرة التي لا نهاية لها؛ فحذف الآخرة لدلالة الكلام عليه؛ إذ في الكلام ذكر الآخرة وهو كما يقال أيام الآخرة؛ أي أيام بعد أيام إلى غير نهاية، وإنما كان يدل على التوقيت لو قال خمسة أحقاب أو عشرة أحقاب. ونحوه وذكر الأحقاب لأن الحقب كان أبعد شيء عندهم، فتكلم بما تذهب إليه أوهامهم ويعرفونها، وهي كناية عن التأبيد، أي يمكثون فيها أبدا. وقيل: ذكر الأحقاب دون الأيام؛ لأن الأحقاب أهول في القلوب، وأدل على الخلود. والمعنى متقارب؛ وهذا الخلود في حق المشركين. ويمكن حمل الآية على العصاة الذين يخرجون من النار بعد أحقاب. وقيل: الأحقاب وقت لشربهم الحميم والغساق، فإذا انقضت فيكون لهم نوع آخر من العقاب؛ ولهذا قال: « لابثين فيها أحقابا. لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا. إلا حميما وغساقا » . و « لابثين » اسم فاعل من لبث، ويقويه أن المصدر منه اللبث بالإسكان، كالشرب. وقرأ حمزة والكسائي « لبثين » بغير ألف وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد، وهما لغتان؛ يقال: رجل لابث ولبث، مثل طمع وطامع، وفره وفاره. ويقال: هو لبث بمكان كذا: أي قد صار اللبث شأنه، فشبه بما هو خلقة في الإنسان نحو حذر وفرق؛ لأن باب فعل إنما هو لما يكون خلقة في الشيء في الأغلب، وليس كذلك اسم الفاعل من لابث.

والحقب: ثمانون سنة في قول ابن عمر وابن محيصن وأبي هريرة، والسنة ثلثمائة يوم وستون يوما، واليوم ألف سنة من أيام الدنيا، قاله ابن عباس. وروي ابن عمر هذا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال أبو هريرة: والسنة ثلثمائة يوم وستون يوما كل يوم مثل أيام الدنيا. وعن ابن عمر أيضا: الحقب: أربعون سنة. السدي: سبعون سنة. وقيل: إنه ألف شهر. رواه أبو أمامة مرفوعا. بشير بن كعب: ثلاثمائة سنة. الحسن: الأحقاب لا يدري أحدكم هي، ولكن ذكروا أنها مائة حقب، والحقب الواحد منها سبعون ألف سنة، اليوم منها كألف سنة مما تعدون. وعن أبي أمامة أيضا، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الحُقُب الواحد ثلاثون ألف سنة ) ذكره المهدوي. والأول الماوردي. وقال قطرب: هو الدهر الطويل غير المحدود.

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( والله لا يخرج من النار من دخلها حتى يكون فيها أحقابا، الحقب بضع وثمانون سنة، والسنة ثلثمائة وستون يوما، كل يوم ألف سنة مما تعدون؛ فلا يتكلن أحدكم على أن يخرج من النار ) . ذكره الثعلبي. القُرظي: الأحقاب: ثلاثة وأربعون، حقبا كل حقب سبعون خريفا، كل خريف سبعمائة سنة، كل سنة ثلثمائة وستون يوما، كل يوم ألف سنة.

قلت: هذه أقوال متعارضة، والتحديد في الآية للخلود، يحتاج إلى توقيف يقطع العذر، وليس ذلك بثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإنما المعنى - والله أعلم - ما ذكرناه أولا؛ أي لابثين فيها أزمانا ودهورا، كلما مضى زمن يعقبه زمن، ودهر يعقبه دهر، هكذا أبد الآبدين من غير انقطاع. وقال ابن كيسان: معنى « لابثين فيها أحقابا » لا غاية لها انتهاء، فكأنه قال أبدا. وقال ابن زيد ومقاتل: إنها منسوخة بقوله تعالى: « فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا » يعني أن العدد قد انقطع، والخلود قد حصل.

قلت: وهذا بعيد؛ لأنه خبر، وقد قال تعالى: « ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط » [ الأعراف: 40 ] على ما تقدم. هذا في حق الكفار، فأما العصاة الموحدون فصحيح ويكون النسخ بمعنى التخصيص. والله أعلم. وقيل: المعنى « لابثين فيها أحقابا » أي في الأرض؛ إذ قد تقدم ذكرها ويكون الضمير في « لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا » لجهنم. وقيل: واحد الأحقاب حقب وحقبة؛ قال:

فإن تنأ عنها حقبة لا تلاقها فأنت بما أحدثته بالمجرب

وقال الكميت:

مر لها بعد حقبة حقب

 

قوله تعالى: « لا يذوقون فيها » أي في الأحقاب « بردا ولا شرابا » البرد: النوم في قول أبي عبيدة وغيره؛ قال الشاعر:

ولو شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نُقاخا ولا بردا

وقاله مجاهد والسدي والكسائي والفضل بن خالد وأبو معاذ النحوي؛ وأنشدوا قول الكندي:

بردت مراشفها علي فصدني عنها وعن تقبيلها البرد

يعني النوم. والعرب تقول: منع البرد البرد، يعني: أذهب البرد النوم.

قلت: وقد جاء الحديث أنه عليه الصلاة والسلام سئل هل في الجنة نوم. فقال: ( لا؛ النوم أخو الموت، والجنة لا موت فيها ) فكذلك النار؛ وقد قال تعالى: « لا يقضى عليهم فيموتوا » [ فاطر: 36 ] وقال ابن عباس: البرد: برد الشراب. وعنه أيضا: البرد النوم: والشراب الماء. وقال الزجاج: أي لا يذوقون فيها برد ريح، ولا ظل، ولا نوم. فجعل البرد برد كل شيء له راحة، وهذا برد ينفعهم، فأما الزمهرير فهو برد يتأذون به، فلا ينفعهم، فلهم منه من العذاب ما الله أعلم به. وقال الحسن وعطاء وابن زيد: بردا: أي روحا وراحة؛ قال الشاعر:

فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ولا الفيء أوقات العشي تذوق

 

قوله تعالى: « لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا » جملة في موضع الحال من الطاغين، أو نعت للأحقاب؛ فالأحقاب ظرف زمان، والعامل فيه « لابثين » أو « لبثين » على تعدية فعل. « إلا حميما وغساقا » استثناء منقطع في قول من جعل البرد النوم، ومن جعله من البرودة كان بدلا منه. والحميم: الماء الحار؛ قاله أبو عبيدة. وقال ابن زيد: الحميم: دموع أعينهم، تجمع في حياض ثم يسقونه. قال النحاس: أصل الحميم: الماء الحار، ومنه اشتق الحمام، ومنه الحمى، ومنه « وظل من يحموم » : إنما يراد به النهاية في الحر. والغساق: صديد أهل النار وقيحهم. وقيل الزمهرير. وقرأ حمزة والكسائي بتشديد السين، وقد مضى في « ص » القول فيه. « جزاء وفاقا » أي موافقا لأعمالهم. عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما؛ فالوفاق بمعنى الموافقة كالقتال بمعنى المقاتلة. و « جزاء » نصب على المصدر، أي جازيناهم جزاء وافق أعمالهم؛ قال الفراء والأخفش. وقال الفراء أيضا: هو جمع الوفق، والوفق واللفق واحد. وقال مقاتل. وافق العذاب الذنب، فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النار. وقال الحسن وعكرمة: كانت أعمالهم سيئة، فأتاهم الله بما يسوءهم. « إنهم كانوا لا يرجون » أي لا يخافون « حسابا » أي محاسبة على أعمالهم. وقيل: معناه لا يرجون ثواب حساب. الزجاج: أي إنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث فيرجون حسابهم. « وكذبوا بآياتنا كذابا » أي بما جاءت به الأنبياء. وقيل: بما أنزلنا من الكتب. وقراءة العامة « كذابا » بتشديد الذال، وكسر الكاف، على كذب، أي كذبوا تكذيبا كبيرا. قال الفراء: هي لغة يمانية فسيحة؛ يقولون: كذبت [ به ] كذابا، وخرقت القميص خراقا؛ وكل فعل في وزن ( فعل ) فمصدره فعال مشدد في لغتهم؛ وأنشد بعض الكلابيين:

لقد طال ما ثبطتني عن صحابتي وعن حوج قضاؤها من شفائنا

وقرأ علي رضي الله عنه « كذابا » بالتخفيف وهو مصدر أيضا. وقال أبو علي: التخفيف والتشديد جميعا: مصدر المكاذبة، كقول الأعشى:

فصدقتها وكذبتها والمرء ينفعه كذابه

أبو الفتح: جاءا جميعا مصدر كذب وكذب جميعا. الزمخشري: « كذابا » بالتخفيف مصدر كذب؛ بدليل قوله:

فصدقتها وكذبتها والمرء ينفعه كذابه

وهو مثل قوله: « أنبتكم من الأرض نباتا » [ نوح: 17 ] يعني وكذبوا بآياتنا أفكذبوا كذابا. أو تنصبه بـ « كذبوا » . لأنه يتضمن معنى كذبوا؛ لأن كل مكذب بالحق كاذب؛ لأنهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين، وكان المسلمون عندهم كاذبين، فبينهم مكاذبة. وقرأ ابن عمر « كذابا » بضم الكاف والتشديد، جمع كاذب؛ قاله أبو حاتم. ونصبه على الحال الزمخشري. وقد يكون الكذاب: بمعنى الواحد البليغ في الكذب، يقال: رجل كذاب، كقولك حسان وبخال، فيجعله صفة لمصدر « كذبوا » أي تكذيبا كذابا مفرطا كذبه. وفي الصحاح: وقوله تعالى: « وكذبوا بآياتنا كذابا » وهو أحد مصادر المشدد؛ لأن مصدره قد يجيء على ( تفعيل ) مثل التكليم وعلى ( فعال ) كذاب وعلى ( تفعلة ) مثل توصية، وعلى ( مفعل ) ؛ « ومزقناهم كل ممزق » . « وكل شيء أحصيناه كتابا » « كل » نصب بإضمار فعل يدل عليه « أحصيناه » أي وأحصينا كل شيء أحصيناه. وقرأ أبو السمال « وكل شيء » بالرفع على الابتداء.

« كتابا » نصب على المصدر؛ لأن معنى أحصينا: كتبنا، أي كتبناه كتابا. ثم قيل: أراد به العلم، فإن ما كتب كان أبعد من النسيان. وقيل: أي كتبناه في اللوح المحفوظ لتعرفه الملائكة. وقيل: أراد ما كتب على العباد من أعمالهم. فهذه كتابة صدرت عن الملائكة الموكلين بالعباد بأمر الله تعالى إياهم بالكتابة؛ دليله قوله تعالى: « وإن عليكم لحافظين. كراما كاتبين » [ الانفطار: 10 ] . « فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا » قال أبو برزة: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أشد آية في القرآن؟ فقال: قوله تعالى: « فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا » أي « كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها » [ النساء: 56 ] و « كلما خبت زدناهم سعيرا » [ الإسراء: 97 ] .

 

الآيات: 31 - 36 ( إن للمتقين مفازا، حدائق وأعنابا، وكواعب أترابا، وكأسا دهاقا، لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا، جزاء من ربك عطاء حسابا )

 

قوله تعالى: « إن للمتقين مفازا » ذكر جزاء من اتقى مخالفة أمر الله « مفازا » موضع فوز ونجاة وخلاص مما فيه أهل النار. ولذلك قيل للفلاة إذا قل ماؤها: مفازة، تفاؤلا بالخلاص منها. « حدائق وأعنابا » هذا تفسير الفوز. وقيل: « إن للمتقين مفازا » إن للمتقين حدائق؛ جمع حديقة، وهي البستان المحوط عليه؛ يقال أحدق به: أي أحاط. والأعناب: جمع عنب، أي كروم أعناب، فحذف. « وكواعب أترابا » كواعب: جمع كاعب وهي الناهد؛ يقال: كَعَبت الجارية تكعَب كُعوبا، وكعَّبت تُكَعِّب تكعيبا، ونهدت تنهد نهودا. وقال الضحاك: ككواعب العذارى؛ ومنه قول قيس بن عاصم:

وكم من حصان قد حوينا كريمة ومن كاعب لم تدر ما البؤس معصر

والأتراب: الأقران في السن. وقد مضى في سورة « الواقعة » الواحد: ترب. « وكأسا دهاقا » قال الحسن وقتادة وابن زيد وابن عباس: مترعة مملوءة؛ يقال: أدهقت الكأس: أي ملأتها، وكأس دهاق أي ممتلئة؛ قال:

ألا فاسقني صِرفا سقاني الساقي من مائها بكأسك الدهاق

وقال خداش بن زهير:

أتانا عامر يبغي قِرانا فأترعنا له كأسا دهاقا

وقال سعد بن جبير وعكرمة ومجاهد وابن عباس أيضا: متتابعة، يتبع بعضها بعضا؛ ومنه ادهقت الحجارة أدهاقا، وهو شدة تلازمها ودخول بعضها في بعض؛ فالمتتابع كالمتداخل. وعن عكرمة أيضا وزيد بن أسلم: صافية؛ قال الشاعر:

لأنت إلى الفؤاد أحب قربا من الصادي إلى كأس دهاق

وهو جمع دهق، وهو خشبتان [ يغمز ] بهما [ الساق ] . والمراد بالكأس الخمر، فالتقدير: خمرا ذات دهاق، أي عصرت وصفيت؛ قاله القشيري. وفي الصحاح: وأدهقت الماء: أي أفرغته إفراغا شديدا: قال أبو عمرو: والدهق - بالتحريك: ضرب من العذاب. وهو بالفارسية دأشكنجه. المبرد: والمدهوق: المعذب بجميع العذاب الذي لا فرجة فيه. ابن الأعرابي: دهقت الشيء كسرته وقطعته، وكذلك دهدقته: وأنشد لحجر بن خالد:

ندهدق بضع اللحم للباع والندى وبعضهم تغلي بذم مناقعه

ودهمقته بزيادة الميم: مثله. وقال الأصمعي: الدهمقة: لين الطعام وطيبه ورقته، وكذلك كل شيء لين؛ ومنه حديث عمر: لو شئت أن يدهمق لي لفعلت، ولكن الله عاب قوما فقال: « أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها » [ الأحقاف: 20 ] .

 

قوله تعالى: « لا يسمعون فيها » أي في الجنة « لغوا ولا كذابا » اللغو: الباطل، وهو ما يلغى من الكلام ويطرح؛ ومنه الحديث: ( إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت ) وذلك أن أهل الجنة إذا شربوا لم تتغير عقولهم، ولم يتكلموا بلغو؛ بخلاف أهل الدنيا. « ولا كذابا » تقدم، أي لا يكذب بعضهم بعضا، ولا يسمعون كذبا. وقرأ الكسائي « كذابا » بالتخفيف من كذبت كذابا أي لا يتكاذبون في الجنة. وقيل: هما مصدران للتكذيب، وإنما خففها ها هنا لأنها ليست مقيدة بفعل يصير مصدرا له، وشدد قوله: « وكذبوا بآياتنا كذابا » لأن كذبوا يقيد المصدر بالكذاب. « جزاء من ربك » نصب على المصدر. لأن المعنى جزاهم بما تقدم ذكره، جزاءه وكذلك « عطاء » لأن معنى أعطاهم وجزاهم واحد. أي أعطاهم عطاء. « حسابا » أي كثيرا، قاله قتادة؛ يقال: أحسبت فلانا: أي كثرت له العطاء حتى قاله حسبي. قال:

ونقفي وليد الحي إن كان جائعا ونحسبه إن كان ليس بجائع

وقال القتبي: ونرى أصل هذا أن يعطيه حتى يقول حسبي. وقال الزجاج: « حسابا » أي ما يكفيهم. وقاله الأخفش. يقال: أحسبني كذا: أي كفاني. وقال الكلبي: حاسبهم فأعطاهم بالحسنة عشرا. مجاهد: حسابا لما عملوا، فالحساب بمعنى العد. أي بقدر ما وجب له في وعد الرب، فإنه وعد للحسنة عشرا، ووعد لقوم بسبعمائة ضعف، وقد وعد لقوم جزاء لا نهاية له ولا مقدارا؛ كما قال تعالى: « إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب » [ الزمر: 10 ] . وقرأ أبو هاشم « عطاء حسابا » بفتح الحاء، وتشديد السين، على وزن فعال أي كفافا؛ قال الأصمعي: تقول العرب: حسبت الرجل بالتشديد: إذا أكرمته؛ وأنشد قول الشاعر:

إذا أتاه ضيفه يحسِّبه

وقرأ ابن عباس. « حسانا » بالنون.

 

الآيات: 37 - 40 ( رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا، يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا، ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا، إنا أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا )

 

قوله تعالى: « رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن » قرأ ابن مسعود ونافع وأبو عمرو وابن كثير وزيد عن يعقوب، والمفضل عن عاصم: « رب » بالرفع على الاستئناف، « الرحمن » خبره. أو بمعنى: هو رب السموات، ويكون « الرحمن » مبتدأ ثانيا. وقرأ ابن عامر ويعقوب وابن محيصن كلاهما بالخفض، نعتا لقوله: « جزاء من ربك » أي جزاء من ربك رب السموات الرحمن. وقرأ ابن عباس وعاصم وحمزة والكسائي: « رب السموات » خفضا على النعت، « الرحمن » رفعا على الابتداء، أي هو الرحمن. واختاره أبو عبيد وقال: هذا أعدلها؛ خفض « رب » لقربه من قوله: « من ربك » فيكون نعتا له، ورفع « الرحمن » لبعده منه، على الاستئناف، وخبره « لا يملكون منه خطابا » أي لا يملكون أن يسألوه إلا فيما أذن لهم فيه. وقال الكسائي: « لا يملكون منه خطابا » بالشفاعة إلا بإذنه. وقيل: الخطاب: الكلام؛ أي لا يملكون أن يخاطبوا الرب سبحانه إلا بإذنه؛ دليله: « لا تكلم نفس إلا بإذنه » [ هود: 105 ] .

وقيل: أراد الكفار « لا يملكون منه خطابا » ، فأما المؤمنون فيشفعون. قلت: بعد أن يؤذن لهم؛ لقوله تعالى: « من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه » وقوله تعالى: « يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا » [ طه: 109 ] .

 

قوله تعالى: « يوم يقوم الروح والملائكة صفا » « يوم » نصب على الظرف؛ أي يوم لا يملكون منه خطابا يوم يقوم الروح. واختلف في الروح على أقوال ثمانية: الأول: أنه ملك من الملائكة. قال ابن عباس: ما خلق الله مخلوقا بعد العرش أعظم منه، فإذا كان يوم القيامة قام هو وحده صفا وقامت الملائكة كلهم صفا، فيكون عظم خلقه مثل صفوفهم. ونحو منه عن ابن مسعود؛ قال: الروح ملك أعظم من السموات السبع، ومن الأرضين السبع، ومن الجبال. وهو حيال السماء الرابعة، يسبح الله كل يوم اثنتي عشرة ألف تسبيحة؛ يخلق الله من كل تسبيحة ملكا، فيجيء يوم القيامة وحده صفا، وسائر الملائكة صفا.

الثاني: أنه جبريل عليه السلام. قاله الشعبي والضحاك وسعيد بن جبير. وعن ابن عباس: إن عن يمين العرش نهرا من نور، مثل السموات السبع، والأرضين السبع، والبحار السبع، يدخل جبريل كل يوم فيه سحرا فيغتسل، فيزداد نورا على نوره، وجمالا على جماله، وعظما على عظمه، ثم ينتفض فيخلق الله من كل قطرة تقع من ريشه سبعين ألف ملك، يدخل منهم كل يوم سبعون ألفا البيت المعمور، والكعبة سبعون ألفا لا يعودون إليهما إلى يوم القيامة. وقال وهب: إن جبريل عليه السلام واقف بين يدي الله تعالى ترعد فرائصه؛ يخلق الله تعالى من كل رعدة مائة ألف ملك، فالملائكة صفوف بين يدي الله تعالى منكسة رؤوسهم، فإذا أذن الله لهم في الكلام قالوا: لا إله إلا أنت؛ وهو قوله تعالى: « يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن » في الكلام « وقال صوابا » يعني قوله: « لا إله إلا أنت » .

الثالث: روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ الروح في هذه الآية جند من جنود الله تعالى، ليسوا ملائكة، لهم رؤوس وأيد وأرجل، يأكلون الطعام ] . ثم قرأ « يوم يقوم الروح والملائكة صفا » فإن هؤلاء جند، وهؤلاء جند. وهذا قول أبي صالح ومجاهد. وعلى هذا هم خلق على صورة بني آدم، كالناس وليسوا بناس. الرابع: أنهم أشراف الملائكة؛ قاله مقاتل بن حيان. الخامس: أنهم حفظة على الملائكة؛ قال ابن أبي نجيح. السادس: أنهم بنو آدم، قاله الحسن وقتادة. فالمعنى ذوو الروح. وقال العوفي والقرظي: هذا مما كان يكتمه ابن عباس؛ قال: الروح: خلق من خلق الله على صور بني آدم، وما نزل ملك من السماء إلا ومعه واحد من الروح. السابع: أرواح بني آدم تقوم صفا، فتقوم الملائكة صفا، وذلك بين النفختين، قبل أن ترد إلى الأجساد؛ قال عطية. الثامن: أنه القرآن؛ قاله زيد بن أسلم.

وقرأ « وكذلك أوحينا إليك روح له من أمرنا » . و « صفا » : مصدر أي يقومون صفوفا. والمصدر ينبئ عن الواحد والجمع، كالعدل، والصوم. ويقال ليوم العيد: يوم الصف. وقال في موضع آخر: « وجاء ربك والملك صفا صفا » [ الفجر: 22 ] هذا يدل على الصفوف، وهذا حين العرض والحساب. قال معناه القتبي وغيره. وقيل: يقوم الروح صفا، والملائكة صفا، فهم صفان. وقيل: يقوم الكل صفا واحدا. « لا يتكلمون » أي لا يشفعون « إلا من أذن له الرحمن » في الشفاعة « وقال صوابا » يعني حقا؛ قاله الضحاك ومجاهد. وقال أبو صالح: لا إله إلا الله. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: يشفعون لمن قال لا إله إلا الله. وأصل الصواب. السداد من القول والفعل، وهو من أصاب يصيب إصابة؛ كالجواب من أجاب يجيب إجابة. وقيل: « لا يتكلمون » يعني الملائكة والروح الذين قاموا صفا، لا يتكلمون هيبة وإجلالا « إلا من أذن له الرحمن » في الشفاعة وهم قد قالوا صوابا، وأنهم يوحدون الله تعالى ويسبحونه. وقال الحسن: إن الروح يقول يوم القيامة: لا يدخل أحد الجنة إلا بالرحمة، ولا النار إلا بالعمل. وهو معنى قوله تعالى: « وقال صوابا » .

 

قوله تعالى: « ذلك اليوم الحق » أي الكائن الواقع « فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا » أي مرجعا بالعمل الصالح؛ كأنه إذا عمل خيرا رده إلى الله عز وجل، وإذا عمل شرا عده منه. وينظر إلى هذا المعنى قوله عليه السلام: [ والخير كله بيديك، والشر ليس إليك ] . وقال قتادة: « مآبا » : سبيلا.

 

قوله تعالى: « إنا أنذرناكم عذابا قريبا » يخاطب كفار قريش ومشركي العرب؛ لأنهم قالوا: لا نبعث. والعذاب عذاب الآخرة، وكل ما هو آت فهو قريب، وقد قال تعالى: « كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها » [ النازعات: 46 ] قال معناه الكلبي وغيره. وقال قتادة: عقوبة الدنيا؛ لأنها أقرب العذابين. قال مقاتل: هي قتل قريش ببدر. والأظهر أنه عذاب الآخرة، وهو الموت والقيامة؛ لأن من مات فقد قامت قيامته، فإن كان من أهل الجنة رأى مقعده من الجنة، وإن كان من أهل النار رأى الخزي والهوان؛ ولهذا قال تعالى: « يوم ينظر المرء ما قدمت يداه » بين وقت ذلك العذاب؛ أي أنذرناكم عذابا قريبا في ذلك اليوم، وهو يوم ينظر المرء ما قدمت يداه، أي يراه، وقيل: ينظر إلى ما قدمت فحذف إلى. والمرء ها هنا المؤمن في قول الحسن؛ أي يجد لنفسه عملا، فأما الكافر فلا يجد لنفسه عملا، فيتمنى أن يكون ترابا. ولما قال: « ويقول الكافر » علم أنه أراد بالمرء المؤمن. وقيل: المرء ها هنا: أبي خلف وعقبة بن أبي معيط. « ويقول الكافر » أبو جهل. وقيل: هو عام في كل أحد وإنسان يرى في ذلك اليوم جزاء ما كسب. وقال مقاتل: نزلت قوله: « يوم ينظر المرء ما قدمت يداه » في أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي: « ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا » : في أخيه الأسود بن عبد الأسد. وقال الثعلبي: سمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: الكافر: ها هنا إبليس وذلك أنه عاب آدم بأنه خلق من تراب، وافتخر بأنه خلق من نار، فإذا عاين يوم القيامة ما فيه آدم وبنوه من الثواب والراحة، والرحمة، ورأى ما هو فيه من الشدة والعذاب، تمنى أنه يكون بمكان آدم، فيقول: « يا ليتني كنت ترابا » قال: ورأيته في بعض التفاسير للقشيري أبي نصر. وقيل: أي يقول إبليس يا ليتني خلقت من التراب ولم أقل أنا خير من آدم. وعن ابن عمر: إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم، وحشر الدواب والبهائم والوحوش، ثم يوضع القصاص بين البهائم، حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء بنطحتها، فإذا فرغ من القصاص بينها قيل لها: كوني ترابا، فعند ذلك يقول الكافر: « يا ليتني كنت ترابا » . ونحوه عن أبي هريرة وعبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم. وقد ذكرناه في كتاب « التذكرة، بأحوال الموتى وأمور الآخرة » ، مجودا والحمد لله. ذكر أبو جعفر النحاس: حدثنا أحمد بن محمد بن نافع، قال حدثنا سلمة بن شبيب، قال حدثنا عبدالرازق، قال حدثنا معمر، قال أخبرني جعفر بن برقان الجزري، عن يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة، قال: إن الله تعالى يحشر الخلق كلهم من دابة وطائر وإنسان، ثم يقال للبهائم والطير كوني ترابا، فعند ذلك « يقول الكافر: يا ليتني كنت ترابا » . وقال قوم: « يا ليتني كنت ترابا » : أي لم أبعث، كما قال: « يا ليتني لم أوت كتابيه » . وقال أبو الزناد: إذا قضي بين الناس، وأمر بأهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، قيل لسائر الأمم ولمؤمني الجن: عودوا ترابا، فيعودون ترابا، فعند ذلك يقول الكافر حين يراهم « يا ليتني كنت ترابا » . وقال ليث بن أبي سليم: مؤمنوا الجن يعودون ترابا. وقال عمر بن عبدالعزيز والزهري والكلبي ومجاهد: مؤمنوا الجنة حول الجنة في ربض ورحاب وليسوا فيها. وهذا أصح، وقد مضى في سورة « الرحمن » بيان هذا، وأنهم مكلفون: يثابون ويعاقبون، فهم كبني آدم، والله أعلم بالصواب.

 

سورة النازعات

 

الآيات: 1 - 14 ( والنازعات غرقا، والناشطات نشطا، والسابحات سبحا، فالسابقات سبقا، فالمدبرات أمرا، يوم ترجف الراجفة، تتبعها الرادفة، قلوب يومئذ واجفة، أبصارها خاشعة، يقولون أئنا لمردودون في الحافرة، أئذا كنا عظاما نخرة، قالوا تلك إذا كرة خاسرة، فإنما هي زجرة واحدة، فإذا هم بالساهرة )

 

قوله تعالى: « والنازعات غرقا » أقسم سبحانه بهذه الأشياء التي ذكرها، على أن القيامة حق. و « النازعات » : الملائكة التي تنزع أرواح الكفار؛ قاله علي رضي الله عنه، وكذا قال ابن مسعود وابن عباس ومسروق ومجاهد: هي الملائكة تنزع نفوس بين آدم. قال ابن مسعود: يريد أنفس الكفار ينزعها ملك الموت من أجسادهم، من تحت كل شعرة، ومن تحت الأظافير وأصول القدمين نزعا كالسفود ينزع من الصوف الرطب، يغرقها، أي يرجعها في أجسادهم، ثم ينزعها فهذا عمله بالكفار. وقاله ابن عباس. وقال سعيد بن جبير: نزعت أرواحهم، ثم غرقت، ثم حرقت؛ ثم قذف بها في النار. وقيل: يرى الكافر نفسه في وقت النزع كأنها تغرق. وقال السدي: و « النازعات » هي النفوس حين تغرق في الصدور. مجاهد: هي الموت ينزع النفوس. الحسن وقتادة: هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق؛ أي تذهب، من قولهم: نزع إليه أي ذهب، أو من قولهم: نزعت الخيل أي جرت. « غرقا » أي إنها تغرق وتغيب وتطلع من أفق إلى أفق آخر. وقاله أبو عبيدة وابن كيسان والأخفش. وقيل: النازعات القسي تنزع بالسهام؛ قاله عطاء وعكرمة. و « غرقا » بمعنى إغراقا؛ وإغراق النازع في القوس أن يبلغ غاية المد، حتى ينتهي إلى النصل. يقال: أغرق في القوس أي استوفي مدها، وذلك بأن تنتهي إلى العقب الذي عند النصف الملفوف عليه. والاستغراق الاستيعاب. ويقال لقشرة البيضة الداخلة: « غِرقِئ » . وقيل: هم الغزاة الرماة.

قلت: هو والذي قبله سواء؛ لأنه إذا أقسم بالقسي فالمراد النازعون بها تعظيما لها؛ وهو مثل قوله تعالى: « والعاديات ضبحا » [ العاديات: 1 ] والله أعلم. وأراد بالإغراق: المبالغة في النزع وهو سائر في جميع وجوه تأويلها. وقيل: هي الوحش تنزع من الكلأ وتنفر. حكاه يحيى ابن سلام. ومعنى « غرقا » أي إبعادا في النزع.

 

قوله تعالى: « والناشطات نشطا » قال ابن عباس: يعني الملائكة تنشط نفس المؤمن فتقبضها كما ينشط العقال من يد البعير: إذا حل عنه. وحكى هذا القول الفراء ثم قال: والذي سمعت من العرب أن يقولوا أنشطت وكأنما أنشط من عقال. وربطها نشطها والرابط الناشط، وإذا ربطت الحبل في يد البعير فقد نشطته، فأنت ناشط، وإذا حللته فقد أنشطته وأنت منشط. وعن ابن عباس أيضا: هي أنفس المؤمنين عند الموت تنشط للخروج؛ وذلك أنه ما من مؤمن [ يحضره الموت ] إلا وتعرض عليه الجنة قبل أن يموت، فيرى فيها ما أعد الله له من أزواجه وأهله من الحور العين، فهم يدعونه إليها، فنفسه إليهم نشطة أن تخرج فتأتيهم. وعنه أيضا قال: يعني أنفس الكفار والمنافقين تنشط كما ينشط العقب، الذي يعقب به السهم. والعقب بالتحريك: العصب الذي تعمل منه الأوتار، الواحدة عقبة؛ تقول منه: عقب السهم والقدح والقوس عقبا : إذا لوى شيئا منه عليه. والنشط: الجذب بسرعة، ومنه الأنشوطة: عقدة يسهل أنحلالها إذا جذبت مثل عقدة التكة. وقال أبو زيد: نشطت الحجل أنشطة نشطا: عقدته بأنشوطة، وأنشطته أي حللته، وأنشطت الحبل أي مددته حتى ينحل. وقال الفراء: أنشط العقال أي حل، ونشط: أي ربط الحبل في يديه. وقال الليث: أنشطته بأنشوطة وأنشوطتين أي أوثقته، وأنشطت العقال: أي مددت أنشوطته فانحلت. قال: ويقال نشط بمعنى أنشط، لغتان بمعنى؛ وعليه يصح قول ابن عباس المذكور أولا. وعنه أيضا: الناشطات الملائكة لنشاطها، تذهب وتجيء بأمر الله حيثما كان. وعنه أيضا وعن علي رضي الله عنهما: هي الملائكة تنشط أرواح الكفار، ما بين الجلد والأظفار، حتى تخرجها من أجوافهم نشطا بالكرب والغم، كما تنشط الصوف من سفود الحديد، وهي من النشط بمعنى الجذب؛ يقال: نشطت الدلو أنشطها بالكسر، وأنشطها بالضم: أي نزعتها.

قال الأصمعي: بئر أنشاط: أي قريبة القعر، تخرج الدلو منها بجذبة واحدة. وبئر نشوط؛ قال: وهي التي لا يخرج منها الدلو حتى تنشط كثيرا. وقال مجاهد: هو الموت ينشط نفس الإنسان. السدي: هي النفوس حين تنشط من القدمين. وقيل: النازعات: أيدي الغزاة أو أنفسهم، تنزع القسي بإغراق السهام، وهي التي تنشط الأوهاق. عكرمة وعطاء: هي الأوهاق تنشط السهام. وعن عطاء أيضا وقتادة والحسن والأخفش: هي النجوم تنشط من أفق إلى أفق: أي تذهب. وكذا في الصحاح. « والناشطات نشطا » يمني النجوم من برج إلى برج، كالثور الناشط من بلد إلى بلد. والهموم تنشط بصاحبها؛ قال هميان بن قحافة:

أمست همومي تنشط المناشطا الشام بي طورا وطورا واسطا

أبو عبيدة وعطاء أيضا: الناشطات: هي الوحش حين تنشط من بلد إلى بلد، كما أن الهموم تنشط الإنسان من بلد إلى بلد؛ وأنشد قول هميان:

أمست همومي... ( البيت ) .

وقيل: « والنازعات » للكافرين « والناشطات » للمؤمنين، فالملائكة يجذبون روح المؤمن برفق، والنزع جذب :شدة، والنشط جذب برفق. وقيل: هما جميعا للكفار والآيتان بعدهما للمؤمنين عند فراق الدنيا.

 

قوله تعالى: « والسابحات سبحا » قال علي رضي الله عنه: هي الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين. الكلبي: هي الملائكة تقبض أرواح المؤمنين، كالذي يسبح في الماء، فأحيانا ينغمس وأحيانا يرتفع، يسلونها سلا رفيقا بسهولة، ثم يدعونها حتى تستريح. وقال مجاهد وأبو صالح: هي الملائكة ينزلون من السماء مسرعين لأم الله، كما يقال للفرس الجواد سابح: إذا أسرع في جريه. وعن مجاهد أيضا: الملائكة تسبح في نزولها وصعودها. وعنه أيضا: السابحات: الموت يسبح في أنفس بني آدم. وقيل: هي الخيل الغزاة؛ قال عنترة:

والخيل تعلم حين تسـ ـبح في حياض الموت سبحا

وقال امرؤ القيس:

مسح إذا ما السابحات على الونى أثرن غبارا بالكديد المركل

قتادة والحسن: هي النجوم تسبح في أفلاكها، وكذا الشمس والقمر؛ قال الله تعالى: « كل في فلك يسبحون » . عطاء: هي السفن تسبح في الماء. ابن عباس: السابحات أرواح المؤمنين تسبح شوقا إلى لقاء الله ورحمته حين تخرج.

 

قوله تعالى: « فالسابقات سبقا » قال علي رضي الله عنه: هي الملائكة تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء عليهم السلام. وقاله مسروق ومجاهد. وعن مجاهد أيضا وأبي روق: هي الملائكة سبقت ابن آدم بالخير والعمل الصالح. وقيل: تسبق بني آدم إلى العمل الصالح فتكتبه. وعن مجاهد أيضا: الموت يسبق الإنسان. مقاتل: هي الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة. ابن مسعود: هي أنفس المؤمنين تسبق، إلى الملائكة الذين يقبضونها وقد عاينت السرور، شوقا إلى لقاء الله تعالى ورحمته. ونحو عن الربيع، قال: هي النفوس تسبق بالخروج عند الموت. وقال قتادة والحسن ومعمر: هي النجوم يسبق بعضها بعضا في السير. عطاء: هي الخيل التي تسبق إلى الجهاد. وقيل: يحتمل أن تكون السابقات ما تسبق من الأرواح قبل الأجساد إلى جنة أو نار؛ قال الماوردي. وقال الجرجاني: ذكر « فالسابقات » بالفاء لأنها مشتقة من التي قبلها؛ أي واللائي يسبحن فيسبقن، تقول: قام فذهب؛ فهذا يوجب أن يكون القيام سببا للذهاب، ولو قلت: قام وذهب، لم يكن القيام سببا للذهاب.

 

قوله تعالى: « فالمدبرات أمرا » قال القشيري: أجمعوا على أن المراد الملائكة. وقال الماوردي: فيه قولان: أحدهما الملائكة؛ قال الجمهور. والقول الثاني هي الكواكب السبعة. حكاه خالد بن معدان عن معاذ بن جبل. وفي تدبيرها الأمر وجهان: أحدهما تدبير طلوعها وأفولها. الثاني تدبيرها ما قضاه الله تعالى فيها من تقلب الأحوال. وحكى هذا القول أيضا القشيري في تفسيره، وأن الله تعالى علق كثيرا من تدبير أم العالم بحركات النجوم، فأضيف التدبير إليها وإن كان من الله، كما يسمى الشيء باسم ما يجاوره. وعلى أن المراد بالمدبرات الملائكة، فتدبيرها نزولها بالحلال والحرام وتفصيله؛ قاله ابن عباس وقتادة وغيرهما. وهو إلى الله جل ثناؤه، ولكن لما نزلت الملائكة به سميت بذلك؛ كما قال عز وجل: « نزل به الروح الأمين » [ الشعراء: 193 ] . وكما قال تعالى: « فإنه نزله على قلبك » [ البقرة: 97 ] . يعني جبريل نزله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل هو الذي أنزل.

وروى عطاء عن ابن عباس: « فالمدبرات أمرا » : الملائكة وكلت بتدبير أحوال الأرض في الرياح والأمطار وغير ذلك. قال عبدالرحمن بن ساباط: تدبير أم الدنيا إلى أربعة؛ جبريل وميكائيل وملك الموت واسمه عزرائيل وإسرافيل، فأما جبريل فموكل بالرياح والجنود، وأما ميكائيل فموكل بالقطر والنبات، وأما ملك الموت فموكل بقبض الأنفس في البر والبحر، وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم، وليس من الملائكة أقرب من إسرافيل، وبينه وبين العرش مسيرة خمسمائة عام. وقيل: أي وكلوا بأمور عرفهم الله بها. ومن أول السورة إلى هنا قسم أقسم الله به، ولله أن يقسم بما شاء من خلقه، وليس لنا ذلك إلا به عز وجل. وجواب القسم مضمر، كأنه قال: والنازعات وكذا وكذا لتبعثن ولتحاسبن. أضمر لمعرفة السامعين بالمعنى؛ قاله الفراء. ويدل عليه قوله تعالى: « أئذا كنا عظاما نخرة » ألست ترى أنه كالجواب لقولهم: « أئذا كنا عظاما نخرة » نبعث؟ فاكتفى بقول: « أئذا كنا عظاما نخرة » ؟ وقال قوم: وقع القسم على قوله: « إن في ذلك لعبرة لمن يخشى » [ النازعات: 26 ] وهذا اختيار الترمذي بن علي. أي فيما قصصت من ذكر يوم القيامة وذكر موسى وفرعون « لعبرة لمن يخشى » ولكن وقع القسم على ما في السورة مذكورا ظاهرا بارزا أحرى وأقمن من أن يؤتي بشيء ليس بمذكور فيما قال ابن الأنباري : وهذا قبيح، لأن الكلام قد طال فيما بينهما. وقيل : جواب القسم « هل أتاك حديث موسى » لأن المعنى قد أتاك.

وقيل: الجواب « يوم ترجف الراجفة » على تقدير ليوم ترجف، فحذف اللام. وقيل: فيه تقديم وتأخير، وتقديره يوم ترجف الراجفة وتتبعها الرادفة والنازعات غرقا. وقال السجستاني: يجوز أن يكون هذا من التقديم والتأخير، كأنه قال: فإذا هم بالساهرة والنازعات. ابن الأنباري: وهذا خطأ؛ لأن الفاء لا يفتح بها الكلام، والأول الوجه. وقيل: إنما وقع القسم على أن قلوب أهل النار تجف، وأبصارهم تخشع، فانتصاب « يوم ترجف الراجفة » على هذا المعنى، ولكن لم يقع عليه.

قال الزجاج: أي قلوب واجفة يوم ترجف، وقيل: انتصب بإضمار اذكر و « ترجف » أي تضطرب. والراجفة: أي المضطربة كذا قال عبدالرحمن بن زيد؛ قال: هي الأرض، والرادفة الساعة. مجاهد: الراجفة الزلزلة « تتبعها الرادفة » الصيحة. وعنه أيضا وابن عباس والحسن وقتادة: هما الصيحتان. أي النفختان. أما الأولى فتميت كل شيء بإذن الله تعالى، وأما الثانية فتحيي كل شيء بإذن الله تعالى. وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( بينهما أربعون سنة ) وقال مجاهد أيضا: الرادفة حين تنشق السماء وتحمل الأرض والجبال فتدك دكة واحدة، وذلك بعد الزلزلة.

وقيل: الراجفة تحرك الأرض، والرادفة زلزلة أخرى تفني الأرضين « . فالله أعلم. وقد مضى في آخر » النمل « ما فيه كفاية في النفخ في الصور.»

وأصل الرجفة الحركة، قال الله تعالى: « يوم ترجف الأرض » وليست الرجفة ههنا من الحركة فقظ، بل من قولهم: رجف الرعد يرجف رجفا ورجيفا: أي أظهر الصوت والحركة، ومنه سميت الأراجيف، لاضطراب الأصوات بها، وإفاضة الناس فيها؛ قال:

أبالأراجيف يا ابن اللؤم توعدني وفي الأراجيف خلت اللؤم والخورا

وعن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب ربع الليل قام ثم قال: ( يا أيها الناس أذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه ) . « قلوب يومئذ واجفة » أي خائفة وجلة؛ قاله ابن عباس وعليه عامة المفسرين. وقال السدي: زائلة عن أماكنها. نظيره « إذ القلوب لدى الحناجر » [ غافر: 18 ] .

وقال المؤرج: قلقة مستوفزة، مرتكضة غير ساكنة. وقال المبرد: مضطربة. والمعنى متقارب، والمراد قلوب الكفار؛ يقال وجف القلب يجف وجيفا إذا خفق، كما يقال: وجب يجب وجيبا، ومنه وجيف الفرس والناقة في العدو، والإيجاف حمل الدابة على السير السريع، قال:

بدلن بعد جرة صريفا وبعد طول النفس الوجيفا

و « قلوب » رفع بالابتداء و « واجفة » صفتها. و « أبصارها خاشعة » خبرها؛ مثل قول « ولعبد مؤمن خير من مشرك » [ البقرة: 221 ] . ومعنى « خاشعة » منكسرة ذليلة من هول ما ترى. نظيره: « خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة » [ القلم : 43 ] . والمعنى أبصار أصحابها، فحذف المضاف. « يقولون أئنا لمردودون في الحافرة » أي يقول هؤلاء المكذبون المنكرون للبعث، إذا قيل لهم إنكم تبعثون، قالوا منكرين متعجبين: أنرد بعد موتنا إلى أول الأم، فنعود أحياء كما كنا قبل الموت؟ وهو كقولهم: « أئنا لمبعوثون خلقا جديدا » يقال: رجع فلان في حافرته، وعلى حافرته، أي رجع من حيث جاء؛ قال قتادة. وأنشد ابن الأعرابي:

أحافرة على صلع وشيب معاذ الله من سفه وعار

يقول: أأرجع إلى ما كنت عليه في شبابي من الغزل والصبا بعد أن شبت وصلعت! ويقال: رجع على حافرته: أي الطريق الذي جاء منه. وقولهم في المثل: النقد عند الحافرة. قال يعقوب: أي عند أول كلمة. ويقال: ألتقي القوم فاقتتلوا عند الحافرة. أي عند أول ما التقوا. وقيل: الحافرة العاجلة؛ أي أئنا لمردودون إلى الدنيا فنصبر أحياء كما كنا؟ قال الشاعر:

آليت لا أنساكم فاعلموا حتى يرد الناس في الحافرة

وقيل: الحافرة: الأرض التي تحفر فيها قبورهم، فهي بمعنى المحفورة؛ كقوله تعالى: « ماء دافق » و « عيشة راضية » . والمعنى أثنا لمردودون في قبورنا أحياء. قال مجاهد والخليل والفراء. وقيل: سميت الأرض الحافرة؛ لأنها مستقر الحوافر، كما سميت القدم أرضا؛ لأنها على الأرض. والمعنى أثنا لراجعون بعد الموت إلى الأرض فنمشي على أقدامنا. وقال ابن زيد: الحافرة: النار، وقرأ « تلك إذا كرة خاسرة » . وقال مقاتل وزيد بن أسلم: هي اسم من أسماء النار. وقال ابن عباس: الحافرة في كلام العرب: الدنيا. وقرأ أبو حيوة: « الحفرة » بغير ألف، مقصور من الحافر. وقيل: الحفرة: الأرض المنتنة بأجساد موتاها؛ من قولهم: حفرت أسنانه، إذا ركبها الوسخ من ظاهرها وباطنها. يقال: في أسنانه حفر، وقد حفرت تحفر حفرا، مثل كسر يكسر كسرا إذا فسدت أصولها. وبنو أسد يقولون: في أسنانه حفر بالتحريك. وقد حفرت مثال تعب تعبا، وهي أردا اللغتين؛ قاله في الصحاح.

 

قوله تعالى: « أئذا كنا عظاما نخرة » أي بالية متفتتة. يقال: نخر العظم بالكسر: أي بلي وتفتت؛ يقال: عظام نخرة. وكذا قرأ الجمهور من أهل المدينة ومكة والشام والبصرة، واختاره أبو عبيد؛ لأن الآثار التي تذكر فيها العظام، نظرنا فيها فرأينا نخرة لا ناخرة. وقرأ أبو عمرو وابنه عبدالله وابن عباس وابن مسعود وابن الزبير وحمزة والكسائي وأبو بكر « ناخرة » بألف، واختاره الفراء والطبري وأبو معاذ النحوي؛ لوفاق رؤوس الآي. وفي الصحاح: والناخر من العظام التي تدخل الريح فيه ثم تخرج منه ولها نخير. ويقال: ما بها ناخر، أي ما بها أحد. حكاه يعقوب عن الباهلي.

وقال أبو عمرو بن العلاء: الناخرة التي لم تنخر بعد، أي لم تبل ولا بد أن تنخر. وقيل: الناخر المجوفة. وقيل: هما لغتان بمعنى؛ كذلك تقول العرب: نخر الشيء فهو نخر وناخر؛ كقولهم: طمع فهو طمع وطامع، وحذر وحاذر، وبخل وباخل، وفره وفاره؛ قال الشاعر:

يظل بها الشيخ الذي كان بادنا يدب على عوج له نخرات

عوج: يعني قوائم. وفي بعض التفسير: ناخرة بالألف: بالية، ونخرة: تنخر فيها الريح أي تمر فيها، على عكس الأول؛ قال:

من بعد ما صرت عظاما ناخره

وقال بعضهم: الناخرة: التي أكلت أطرافها وبقيت أوساطها. والنخرة: التي فسدت كلها. قال مجاهد: نخرة أي مرفوتة؛ كما قال تعالى: « عظاما ورفاتا » ونخرة الريح بالضم: شدة هبوبها. والنخرة أيضا والنخرة مثال الهمزة: مقدم أنف الفرس والحمار والخنزير؛ يقال: هشم نخرته: أي أنفه. « قالوا تلك إذا كرة خاسرة » أي رجعة خائبة، كاذبة باطلة، أي ليست كائبة؛ قاله الحسن وغيره. الربيع بن أنس: « خاسرة » على من كذب بها. وقيل: أي هي كرة خسران. والمعنى أهلها خاسرون؛ كما يقال: تجارة رابحة أي يربح صاحبها. ولا شيء أخسر من كرة تقتضي المصير إلى النار.

وقال قتادة ومحمد بن كعب: أي لئن رجعنا أحياء بعد الموت لنحشرن بالنار، وإنما قالوا هذا لأنهم أو عدوا بالنار. والكر: الرجوع؛ يقال: كرة، وكر بنفسه، يتعدى ولا يتعدى. والكرة: المرة، والجمع الكرات.

 

قوله تعالى: « فإنما هي زجرة واحدة » ذكر جل ثناؤه سهولة البعث عليه فقال: « فإنما هي زجرة واحدة » . وروى الضحاك عن ابن عباس قال: نفخة واحدة « فإذا هم » أي الخلائق أجمعون « بالساهرة » أي على وجه الأرض، بعد ما كانوا في بطنها. قال الفراء: سميت بهذا الاسم؛ لأن فيها نوم الحيوان وسهرهم. والعرب تسمي الفلاة ووجه الأرض ساهرة، بمعنى ذات سهو؛ لأنه يسهر فيها خوفا منها، فوصفها بصفة ما فيها؛ واستدل ابن عباس والمفسرون بقول أمية ابن أبي الصلت:

وفيها لحمُ ساهرةٍ وبحر وما فاهوا به لهم مقيم

وقال آخر يوم ذي قار لفرسه:

أقدم محاج إنها الأساوره ولا يهولنك رجل نادره

فإنما قصرك ترب الساهره ثم تعود بعدها في الحافره

من بعد ما صرت عظاما ناخره

وفي الصحاح. ويقال: الساهور: ظل الساهرة، وهي وجه الأرض. ومنه قوله تعالى: « فإذا هم بالساهرة » ، قال أبو كبير الهذلي:

يرتدن ساهرة كان جميمها وعميمها أسداف ليل مظلم

ويقال: الساهور: كالغلاف للقمر يدخل فيه إذا كسف، وأنشدوا قول أمية بن أبي الصلت:

قمر وساهور يسل ويغمد

وأنشدوا الآخر في وصف امرأة:

كأنها عرق سام عند ضاربه أو شقة خرجت من جوف ساهور

يريد شقة القمر. وقيل: الساهرة: هي الأرض البيضاء. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: أرض من فضة لم يعص الله جل ثناؤه عليها قط خلقها حينئذ. وقيل: أرض جددها الله يوم القيامة. وقيل: الساهرة اسم الأرض السابعة يأتي بها الله تعالى فيحاسب عليها الخلائق، وذلك حين تبدل الأرض غير الأرض. وقال الثوري: الساهرة: أرض الشام. وهب بن منبه: جبل بيت المقدس. عثمان بن أبي العاتكة: إنه اسم مكان من الأرض بعينه، بالشام، وهو الصقع الذي بين جبل أريحاء وجبل حسان يمده الله كيف يشاء. قتادة: هي جهنم أي فإذا هؤلاء الكفار في جهنم. وإنما قيل لها ساهرة؛ لأنهم لا ينامون عليها حينئذ. وقيل: الساهرة: بمعنى الصحراء على سفير جهنم؛ أي يوقفون بأرض القيامة، فيدوم السهر حينئذ. ويقال: الساهرة: الأرض البيضاء المستوية سميت بذلك، لأن السراب يجري فيها من قولهم عين ساهرة: جارية الماء، وفي ضدها: نائمة؛ قال الأشعث بن قيس:

وساهرة يضحي السراب مجللا لأقطارها قد جئتها متلثما

أو لأن سالكها لا ينام خوف الهلكة.

الآية [ 15 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات: 15 - 26 ( هل أتاك حديث موسى، إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى، اذهب إلى فرعون إنه طغى، فقل هل لك إلى أن تزكى، وأهديك إلى ربك فتخشى، فأراه الآية الكبرى، فكذب وعصى، ثم أدبر يسعى، فحشر فنادى، فقال أنا ربكم الأعلى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، إن في ذلك لعبرة لمن يخشى )

 

قوله تعالى: « هل أتاك حديث موسى » أي قد جاءك وبلغك « حديث موسى » وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. أي إن فرعون كان أقوى من كفار عصرك، ثم أخذناه، وكذلك هؤلاء. وقيل: « هل » بمعنى « ما » أي ما أتاك، ولكن أخبرت به، فإن فيه عبرة لمن يخشى. وقد مضى من خبر موسى وفرعون في غير موضع ما فيه كفاية. وفي « طوى » ثلاث قراءات: قرأ ابن محيصن وابن عامر والكوفيون « طوى » منونا واختاره أبو عبيد لخفة الاسم. الباقون بغير تنوين؛ لأنه معدول مثل عمر وقثم

قال الفراء: طوى: واد بين المدينة ومصر. قال: وهو معدول عن طاو، كما عدل عمر عن عام. وقرأ الحسن وعكرمة « طوى » بكسر الطاء، وروي عن أبي عمرو، على معنى المقدس مرة بعد مرة؛ قال الزجاج؛ وأنشد:

أعاذل إن اللوم في غير كنهه علي طوى من غيك المتردد

أي هو لوم مكرر علي. وقيل: ضم الطاء وكسرها لغتان، وقد مضى في « طه » القول فيه. « اذهب إلى فرعون » أي ناداه ربه، فحذف، لأن النداء قول؛ فكأنه؛ قال له رب « أذهب إلى فرعون » . « إنه طغى » أي جاوز القدر في العصيان. وروي عن الحسن قال: كان فرعون علجا من همدان. وعن مجاهد قال: كان من أهل إصطخر. وعن الحسن أيضا قال: من أهل أصبهان، يقال له ذو ظفر، طول أربعة أشبار. « فقل هل لك إلى أن تزكى » أي تسلم فتطهر من الذنوب. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: هل لك أن تشهد أن لا إله إلا الله. « وأهديك إلى ربك » أي وأرشدك إلى طاعة ربك « فتخشى » أي تخافه وتتقيه. وقرأ نافع وبن كثير « تزكى » بتشديد الزاي، على إدغام التاء في الزاي لأن أصلها تتزكى. الباقون: « تزكى » بتخفيف الزاي على معنى طرح التاء. وقال أبو عمرو: « تزكى » بالتشديد [ تتصدق بـ ] الصدقة، و « تزكى » يكون زكيا مؤمنا. وإنما دعا فرعون ليكون زكيا مؤمنا. قال: فلهذا اخترنا التخفيف. وقال صخر بن جويرية: لما بعث الله موسى إلى فرعون قال له: « أذهب إلى فرعون » إلى قول « وأهديك إلى ربك فتخشى » ولن يفعل، فقال: يا رب، وكيف أذهب إليه وقد علمت أنه لا يفعل؟ فأوحى الله إليه أن أمض إلى ما أمرتك به، فإن في السماء اثني عشر ألف ملك يطلبون علم القدر، فلم يبلغوه ولا يدركوه. « فأراه الآية الكبرى » أي العلامة العظمى وهي المعجزة وقيل: العصا. وقيل: اليد البيضاء تبرق كالشمس. وروى الضحاك عن ابن عباس: الآية الكبرى قال العصا. الحسن: يده وعصاه. وقيل: فلق البحر. وقيل: الآية: إشارة إلى جميع آياته ومعجزاته. « فكذب » أي كذب نبي الله موسى « وعصى » أي عصى ربه عز وجل. « ثم أدبر يسعى » أي ولى مدبرا معرضا عن الإيمان « يسعى » أي يعمل بالفساد في الأرض. وقيل: يعمل في نكاية موسى. وقيل: « أدبر يسعى » هاربا من الحية. « فحشر » أي جمع أصحابه يمنعوه منها. وقيل: جمع جنوده للقتال والمحاربة، والسحرة للمعارضة. وقيل: حشر الناس للحضور. « فنادى » أي قال لهم بصوت عال « أنا ربكم الأعلى » أي لا رب لكم فوقي. ويروى: إن إبليس تصور لفرعون في صورة الإنس بمصر في الحمام، فأنكره فرعون، فقال له إبليس: ويحك! أما تعرفني؟ قال: لا. قال: وكيف وأنت خلقتني؟ ألست القائل أنا ربكم الأعلى. ذكره الثعلبي في كتاب العرائس. وقال عطاء: كان صنع لهم أصناما صغارا وأمرهم بعبادتها، فقال أنا رب أصنامكم. وقيل: أراد القادة والسادة. هو ربهم، وأولئك، هم أرباب السفلة. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير؛ فنادى فحشر؛ لأن النداء يكون قبل الحشر. « فأخذه الله نكال الآخرة والأولى » أي نكال قوله: « ما علمت لكم من إله غيري » [ القصص: 38 ] وقوله بعد: « أنا ربكم الأعلى » [ النازعات: 24 ] قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة. وكان بين الكلمتين أربعون سنة؛ قال ابن عباس. والمعنى: أمهله في الأولى، ثم أخذه في الآخرة، فعذبه بكلمتيه. وقيل: نكال الأولى: هو أن أغرقه، ونكال الآخرة: العذاب في الآخرة. وقال قتادة وغيره. وقال مجاهد: هو عذاب أول عمره وأخره. وقيل: الآخرة قوله « أنا ربكم الأعلى » والأولى تكذيبه لموسى. عن قتادة أيضا. و « نكال » منصوب على المصدر المؤكد في قول الزجاج؛ لأن معنى أخذه الله: نكل، الله به، فأخرج [ نكال ] مكان مصدر من معناه، لا من لفظه. وقيل: نصب بنزع حرف الصفة. أي فأخذه الله بنكال الآخرة، فلما نزع الخافض نصب. وقال الفراء: أي أخذه الله أخذا نكالا، أي للنكال. والنكال: اسم لما جعل نكالا للغير أي عقوبة له حتى يعتبر به. يقال: نكل فلان بفلان: إذا أثخنه عقوبة. والكلمة من الامتناع، ومنه النكول عن اليمين، والنكل القيد. وقد مضى في سورة « المزمل » والحمد لله. « إن في ذلك لعبرة » أي اعتبارا وعظة. « لمن يخشى » أي يخاف الله عز وجل.

 

الآيات: 27 - 33 ( أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها، رفع سمكها فسواها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها، والأرض بعد ذلك دحاها، أخرج منها ماءها ومرعاها، والجبال أرساها، متاعا لكم ولأنعامكم )

 

قوله تعالى: « أأنتم أشد خلقا » يريد أهل مكة، أي أخلقكم بعد الموت أشد في تقديركم « أم السماء » فمن قدر على السماء قدر على الإعادة؛ كقوله تعالى: « لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس » [ غافر: 57 ] وقوله تعالى: « أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم » [ يس: 81 ] ، فمعنى الكلام التقريع والتوبيخ. ثم وصف السماء فقال: « بناها » أي رفعها فوقكم كالبناء. « رفع سمكها » أي أعلى سقفها في الهواء؛ يقال: سمكت الشيء أي رفعته في الهواء، وسمك الشيء سموكا: ارتفع. وقال الفراء: كل شيء حمل شيئا من البناء وغيره فهو سمك. وبناء مسموك وسنام سامك تامك أي عال، والمسموكات: السموات. ويقال: أسمك في الديم، أي أصعد في الدرجة. « فسواها » أي خلقها خلقا مستويا، لا تفاوت فيه، ولا شقوق، ولا فطور.

 

قوله تعالى: « وأغطش ليلها » أي جعله مظلما؛ غطش الليل وأغطشه الله؛ كقولك: ظلم [ الليل ] وأظلمه الله. ويقال أيضا: أغطش الليل بنفسه. وأغطشه الله كما يقال: أظلم الليل، وأظلمه الله. والغطش والغبش: الظلمة. ورجل أغطش: أي أعمى، أو شبيه به، وقد غطش، والمرأة غطشاء؛ ويقال: ليلة غطشاء، وليل أغطشى وفلاة غطشى لا يهتدى لها؛ قال الأعشى:

ويهماء بالليل غطشى الفلا ة يؤنسني صوت فيادها

وقال الأعشى أيضا:

عقرت لهم موهنا ناقتي وغامرهم مدلهم غطش

يعني بغامرهم ليلهم، لأنه غمرهم بسواده. وأضاف الليل إلى السماء لأن الليل يكون بغروب الشمس، والشمس مضاف إلى السماء، ويقال: نجوم الليل، لأن ظهورها بالليل.

 

قوله تعالى: « وأخرج ضحاها » أي أبرز نهارها وضوءها وشمسها. وأضاف الضحا إلى السماء كما أضاف إليها الليل؛ لأن فيها سبب الظلام والضياء وهو غروب الشمس وطلوعها. « والأرض بعد ذلك دحاها » أي بسطها. وهذا يشير إلى كون الأرض بعد السماء. وقد مضى القول فيه في أول « البقرة » عند قوله تعالى: « هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا، ثم استوى إلى السماء » [ البقرة: 29 ] مستوفى.

والعرب تقول: دحوت الشيء أدحوه دحوا: إذا بسطته. ويقال لعش النعامة أُدحِي؛ لأنه مبسوط على وجه الأرض. وقال أمية بن أبي الصلت:

وبث الخلق فيها إذ دحاها فهم قطانها حتى التنادي

وأنشد المبرد:

دحاها فلما رآها استوت على الماء أرسى عليها الجبالا

وقيل: دحاها سواها؛ ومنه قول زيد بن عمرو:

وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخرا ثقالا

دحاها فلما استوت شدها بأيد وأرسى عليها الجبالا

وعن ابن عباس: خلق الله الكعبة ووضعها على الماء على أربعة أركان، قبل أن يخلق الدنيا بألف عام، ثم دحيت الأرض من تحت البيت. وذكر بعض أهل العلم أن « بعد » في موضع « مع » كأنه قال: والأرض مع ذلك دحاها؛ كما قال تعالى: « عتل بعد ذلك زنيم » [ القلم: 13 ] . ومنه قولهم: أنت أحمق وأنت بعد هذا سيء الخلق، قال الشاعر:

فقلت لها عني إليك فإنني حرام وإني بعد ذاك لبيب

أي مع ذلك لبيب. وقيل: بعد: بمعنى قبل؛ كقوله تعالى: « ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر » [ الأنبياء: 105 ] أي من قبل الفرقان، قال أبو خراش الهذلي:

حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا خراش وبعض الشر أهون من بعض

وزعموا أن خراشا نجا قبل عروة. وقيل: « دحاها » : حرثها وشقها. قال ابن زيد. وقيل: دحاها مهدها للأقوات. والمعنى متقارب وقراءة العامة « والأرض » بالنصب، أي دحا الأرض. وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون « والأرض » بالرفع، على الابتداء؛ لرجوع الهاء. ويقال: دحا يدحو دحوا ودحى يدحى دحيا؛ كقولهم: طغى يطغي ويطغو ، وطغي يطغي، ومحا يمحو ويمحي، ولحى العود يلحى ويلحو، فمن قال: يدحو قال دحوت ومن قال يدحى قال دحيت « أخرج منها » أي أخرج من الأرض « ماءها » أي العيون المتفجرة بالماء. « ومرعاها » أي النبات الذي يرعى. وقال القتبي: دل بشيئين على جميع ما أخرجه من الأرض قوتا ومتاعا للأنام من العشب والشجر والحب والتمر والعصف والحطب واللباس والنار والملح؛ لأن النار من العيدان والملح من الماء. « والجبال أرساها » قراءة العامة « والجبال » بالنصب، أي وأرسى الجبال

« أرساها » يعني: أثبتها فيها أوتادا لها. وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون وعمرو بن عبيد ونصر بن عاصم « والجبال » بالرفع على الابتداء. ويقال: هلا أدخل حرف العطف على « أخرج » فيقال: « إنه حال بإضمار قد؛ كقوله تعالى: » حصرت صدورهم « [ النساء: 90 ] . » متاعا لكم « أي منفعة لكم » ولأنعامكم « من الإبل والبقر والغنم. و » متاعا « نصب على المصدر من غير اللفظ؛ لأن معنى » أخرج منها ماءها ومرعاها « أمتع بذلك. وقيل: نصب بإسقاط حرف الصفة تقديره لتتمتعوا به متاعا.»

 

الآيات: 34 - 36 ( فإذا جاءت الطامة الكبرى، يوم يتذكر الإنسان ما سعى، وبرزت الجحيم لمن يرى )

 

قوله تعالى: « فإذا جاءت الطامة الكبرى » أي الداهية العظمى، وهي النفخة الثانية، التي يكون معها البعث، قال ابن عباس في رواية الضحاك عنه، وهو قول الحسن. وعن ابن عباس أيضا والضحاك: أنها القيامة؛ سميت بذلك لأنها تطم على كل شيء، فتعم ما سواها لعظم هولها؛ أي تقلبه. وفي أمثالهم:

جرى الوادي فطمَّ على القريِّ

المبرد: الطامة عند العرب الداهية التي لا تستطاع، وإنما أخذت فيما أحسب من قولهم: طم الفرس طميما إذا استفرغ جهده في الجري، وطم الماء إذا ملأ النهر كله. غيره: هي مأخوذة من طم السيل الركية أي دفنها، والطم: الدفن والعلو. وقال القاسم بن الوليد الهمداني: الطامة الكبري حين يساق أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار. وهو معنى قول مجاهد: وقال سفيان: هي الساعة التي يسلم فيها أهل النار إلى الزبانية. أي الداهية التي طمت وعظمت؛ قال:

إن بعض الحب يعمي ويصم وكذاك البغض أدهى وأطم

« يوم يتذكر الإنسان ما سعى » أي ما عمل من خير أو شر. « وبرزت الجحيم » أي ظهرت. « لمن يرى » قال ابن عباس: يكشف عنها فيراها تتلظى كل ذي بصر. وقيل: المراد الكافر لأنه الذي يرى النار بما فيها من أصناف العذاب. وقيل: يراها المؤمن ليعرف قدر النعمة ويصلي الكافر بالنار. وجواب « فإذا جاءت الطامة » محذوف أي إذا جاءت الطامة دخل أهل النار النار وأهل الجنة الجنة. وقرأ مالك بن دينار: « وبرزت الجحيم » . عكرمة: وغيره: « لمن ترى » بالتاء، أي لمن تراه الجحيم، أو لمن تراه أنت يا محمد. والخطاب له عليه السلام، والمراد به الناس.

 

الآيات: 37 - 41 ( فأما من طغى، وآثر الحياة الدنيا، فإن الجحيم هي المأوى، وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى )

 

قوله تعالى: « فأما من طغى. وآثر الحياة الدنيا » أي تجاوز الحد في العصيان. قيل: نزلت في النضر وابنه الحارث، وهي عامة في كل كافر أثر الحياة الدنيا على الآخرة.

وروى عن يحيى بن أبي كثير قال: من اتخذ من طعام واحد ثلاثة ألوان فقد طغى. وروى جويبر عن الضحاك قال: قال حذيفة: أخوف ما أخاف على هذه الأمة أن يؤثروا ما يرون على ما يعلمون. ويروى أنه وجد في الكتب: إن الله جل ثناؤه قال « لا يؤثر عبد لي دنياه على آخرته، إلا بثثت عليه همومه وضيعته، ثم لا أبالي في أيها هلك » . « فإن الجحيم هي المأوى » أي مأواه. والألف واللام بدل من الهاء.

 

قوله تعالى: « وأما من خاف مقام ربه » أي حذر مقامه بين يدي ربه. وقال الربيع: مقامه يوم الحساب. وكان قتادة يقول: إن لله عز وجل مقاما قد خافه المؤمنون. وقال مجاهد: هو خوفه في الدنيا من الله عز وجل عند مواقعة الذنب فيقلع. نظيره: « ولمن خاف مقام ربه جنتان » [ الرحمن : 46 ] . « ونهى النفس عن الهوى » أي زجرها عن المعاصي والمحارم. وقال سهل: ترك الهوى مفتاح الجنة؛ لقوله عز وجل: « وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى » قال عبدالله بن مسعود: أنتم في زمان يقود الحق الهوى، وسيأتي زمان يقود الهوى الحق فنعوذ بالله من ذلك الزمان. « فإن الجنة هي المأوى » أي المنزل. والآيتان نزلتا في مصعب بن عمير وأخيه عامر بن عمير؛ فروى الضحاك عن ابن عباس قال: أما من طغى فهو أخ لمصعب بن عمير أسر يوم بدر، فأخذته الأنصار فقالوا: من أنت؟ قال: أنا أخو مصعب بن عمير، فلم يشدوه في الوثاق، وأكرموه وبيتوه عندهم، فلما أصبحوا حدثوا مصعب بن عمير حديثه؛ فقال: ما هو لي بأخ، شدوا أسيركم، فإن أمه أكثر أهل البطحاء حليا ومالا. فأوثقوه حتى بعثت أمه في فدائه. « وأما من خاف مقام ربه » فمصعب بن عمير، وقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه يوم أحد حين تفرق الناس عنه، حتى نفذت المشاقص في جوفه. وهي السهام، فلما رأه رسول الله صلى الله عليه وسلم متشحطا في دمه قال: ( عند الله أحتسبك ) وقال لأصحابه: ( لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما وإن شراك نعليه من ذهب ) . وقيل: إن مصعب بن عمير قتل أخاه عامرا يوم بدر. وعن ابن عباس أيضا قال: نزلت هذه الآية في رجلين: أبي جهل بن هشام المخزومي ومصعب بن عمير العبدري. وقال السدي: نزلت هذه الآية « وأما من خاف مقام ربه » في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وذلك أن أبا بكر كان له غلام يأتيه بطعام، وكان يسأله من أين أتيت بهذا، فأتاه يوما بطعام فلم يسأل وأكله، فقال له غلامه: لم لا تسألني اليوم؟ فقال: نسيت، فمن أين لك هذا الطعام. فقال: تكهنت لقوم في الجاهلية فأعطونيه. فتقايأه من ساعته وقال: يا رب ما بقي في العروق فأنت حبسته فنزلت: « وأما من خاف مقام ربه » . وقال الكلبي: نزلت في من هم بمعصية وقدر عليها في خلوة ثم تركها من خوف الله. ونحوه عن ابن عباس. يعني من خاف عند المعصية مقامه بين يدي الله، فانتهى عنها. والله أعلم.

 

الآيات: 42 - 46 ( يسألونك عن الساعة أيان مرساها، فيم أنت من ذكراها، إلى ربك منتهاها، إنما أنت منذر من يخشاها، كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها )

 

قوله تعالى: « يسألونك عن الساعة أيان مرساها » قاله ابن عباس: سأل مشركو مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم متى تكون الساعة استهزاء، فأنزل الله عز وجل الآية. وقال عروة بن الزبير في قوله تعالى: « فيم أنت من ذكراها » ؟ لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة، حتى نزلت هذه الآية « إلى ربك منتهاها » . ومعنى « مرساها » أي قيامها. قال الفراء: رسوها قيامها كرسو السفينة. وقال أبو عبيدة: أي منتهاها، ومرسى السفينة حيث، تنتهي. وهو قول ابن عباس. الربيع بن أنس: متى زمانها. والمعنى متقارب. وقد مضى في « الأعراف » بيان ذلك. وعن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تقوم الساعة إلا بغضبة يغضبها ربك ) . « فيم أنت من ذكراها » أي في أي شيء أن يا محمد من ذكر القيامة والسؤال عنها؟ وليس لك السؤال عنها. وهذا معنى ما رواه الزهري عن عروة بن الزبير قال: لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة حتى نزلت: « فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها » أي منتهى علمها؛ فكأنه عليه السلام لما أكثروا عليه سأل الله أن يعرفه ذلك، فقيل له: لا تسأل، فلست في شيء من ذلك. ويجوز أن يكون إنكارا على المشركين في مسألتهم له؛ أي فيم أنت من ذلك حتى يسألونك بيانه، ولست ممن يعلمه. روي معناه عن ابن عباس. والذكرى بمعنى الذكر.

 

قوله تعالى: « إلى ربك منتهاها » أي منتهى علمها، فلا يوجد عند غيره علم الساعة؛ وهو كقوله تعالى: « قل إنما علمها عند ربي » [ الأعراف : 187 ] وقوله تعالى: « إن الله عنده علم الساعة » [ لقمان: 34 ] . « إنما أنت منذر من يخشاها » أي مخوف؛ وخص الإنذار بمن يخشى، لأنهم المنتفعون به، وإن كان منذرا لكل مكلف؛ وهو كقوله تعالى: « إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب » [ يس: 11 ] .

وقراءة العامة « منذر » بالإضافة غير منون؛ طلب التخفيف، وإلا فأصله التنوين؛ لأنه للمستقبل وإنما لا ينون في الماضي. قال الفراء: يجوز التنوين وتركه؛ كقوله تعالى: « بالغ أمره » [ الطلاق: 3 ] ، و « بالغ أمره » و « موهن كيد الكافرين » [ الأنفال: 18 ] و « موهن كيد الكافرين » والتنوين هو الأصل، وبه قرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج وابن محيصن وحميد وعياش عن أبي عمرو « منذر » منونا، وتكون في موضع نصب، والمعنى نصب، إنما ينتفع بإنذارك من يخشى الساعة. وقال أبو علي: يجوز أن تكون الإضافة للماضي، نحو ضارب زيد أمس؛ لأنه قد فعل الإنذار، الآية رد على من قال: أحوال الآخرة غير محسوسة، وإنما هي راحة الروح أو تألمها من غير حس. « كأنهم يوم يرونها » يعني الكفار يرون الساعة « لم يلبثوا » أي في دنياهم، « إلا عشية » أي قدر عشية « أو ضحاها » أي أو قدر الضحا الذي يلي تلك العشية، والمراد تقليل مدة الدنيا، كما قال تعالى: « لم يلبثوا إلا ساعة من نهار » [ الأحقاف: 35 ] . وروى الضحاك عن ابن عباس: كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا يوما واحدا. وقيل: « لم يلبثوا » في قبورهم « إلا عشية أو ضحاها » ، وذلك أنهم استقصروا مدة لبثهم في القبور لما عاينوا من الهول. وقال الفراء: يقول القائل: وهل للعشية ضحا؟ وإنما الضحا لصدر النهار، ولكن أضيف الضحا إلى العشية، وهو اليوم الذي يكون فيه على عادة العرب؛ يقولون: آتيك الغداة أوعشيتها، وآتيك العشية أو غداتها، فتكون العشية في معنى آخر النهار، والغداة في معنى أول النهار؛ قال: وأنشدني بعض بني عقيل:

نحن صبحنا عامرا في دارها جردا تعادي طرفي نهارها

عشية الهلال أو سرارها

أراد: عشية الهلال، أو سرار العشية، فهو أشد من آتيك الغداة أو عشيها.

 

سورة عبس

 

الآيات: 1 - 4 ( عبس وتولى، أن جاءه الأعمى، وما يدريك لعله يزكى، أو يذكر فتنفعه الذكرى )

 

« عبس » أي كلح بوجهه؛ يقال: عبس وبسر. وقد تقدم. « وتولى » أي أعرض بوجهه « أن جاءه » « أن » في موضع نصب لأنه مفعول له، المعنى لأن جاءه الأعمى، أي الذي لا يبصر بعينيه. فروى أهل التفسير أجمع أن قوما من أشراف قريش كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد طمع في إسلامهم، فأقبل عبدالله بن أم مكتوم، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطع عبدالله عليه كلامه، فأعرض عنه، ففيه نزلت هذه الآية. قال مالك: إن هشام بن عروة حدثه عن عروة، أنه قال: نزلت « عبس وتولى » في ابن أم مكتوم؛ جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: يا محمد استدنني، وعند النبي صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه ويقبل على الآخر، ويقول: [ يا فلان، هل ترى بما أقول بأسا ] ؟ فيقول: [ لا والدمي ما أرى بما تقول بأسا ] ؛ فأنزل الله: « عبس وتولى » . وفي الترمذي مسندا قال: حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي، حدثني أبي، قال هذا ما عرضنا على هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، قالت: نزلت « عبس وتولى » في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل، يقول: يا رسول الله أرشدني، وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنه، ويقبل على الآخر، ويقول: [ أترى بما أقول بأسا ] فيقول: لا؛ ففي هذا نزلت؛ قال: هذا حديث غريب.

 

الآية عتاب من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في إعراضه وتوليه عن عبدالله بن أم مكتوم. ويقال: عمرو بن أم مكتوم، واسم أم مكتوم عاتكة بنت عامر بن مخزوم، وعمرو هذا: هو ابن قيس بن زائدة بن الأصم، وهو ابن خال خديجة رضي الله عنها. وكان قد تشاغل عنه برجل من عظماء المشركين، يقال كان الوليد بن المغيرة. قال ابن العربي: أما قول علمائنا إنه الوليد بن المغيرة فقد قال آخرون إنه أمية بن خلف والعباس وهذا كله باطل وجهل من المفسرين الذين لم يتحققوا الدين، ذلك أن أمية بن خلف والوليد كانا بمكة وابن أم مكتوم كان بالمدينة، ما حضر معهما ولا حضرا معه، وكان موتهما كافرين، أحدهما قبل الهجرة، والآخر ببدر، ولم يقصد قط أمية المدينة، ولا حضر عنده مفردا، ولا مع أحد.

 

أقبل ابن أم مكتوم والنبي صلى الله عليه وسلم مشتغل بمن حضره من وجوه قريش يدعوهم إلى الله تعالى، وقد قوي طمعه في إسلامهم وكان في إسلامهم إسلام من وراءهم من قومهم، فجاء ابن أم مكتوم وهو أعمى فقال: يا رسول الله علمني مما علمك الله، وجعل يناديه ويكثر النداء، ولا يدري أنه مشتغل بغيره، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقطعه كلامه، وقال في نفسه: يقول هؤلاء: إنما أتباعه العميان والسفلة والعبيد؛ فعبس وأعرض عنه، فنزلت الآية. قال الثوري: فكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا رأى ابن أم مكتوم يبسط له رداءه ويقول: ( مرحبا بمن عاتبني فيه ربي ) . ويقول: ( هل من حاجة ) ؟ واستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين غزاهما. قال أنس: فرأيته يوم القادسية راكبا وعليه درع ومعه راية سوداء.

 

قال علماؤنا: ما فعله ابن أم مكتوم كان من سوء الأدب لو كان عالما بأن النبي صلى الله عليه وسلم مشغول بغيره، وأنه يرجو إسلامهم، ولكن الله تبارك وتعالى عاتبه حتى لا تنكسر قلوب أهل الصفة؛ أو ليعلم أن المؤمن الفقير خير من الغني، وكان النظر إلى المؤمن أولى وإن كان فقيرا أصلح وأولى من الأمر الآخر، وهو الإقبال على الأغنياء طمعا في إيمانهم، وإن كان ذلك أيضا نوعا من المصلحة، وعلى هذا يخرج قوله تعالى: « ما كان لنبي أن يكون له أسرى » [ الأنفال: 67 ] الآية على ما تقدم. وقيل: إنما قصد النبي صلى الله عليه وسلم تأليف الرجل، ثقة بما كان في قلب ابن مكتوم من الإيمان؛ كما قال: ( إني لأصل الرجل وغيره أحب إلي منه، مخافة أن يكبه الله في النار على وجهه ) .

 

قال ابن زيد: إنما عبس النبي صلى الله عليه وسلم لابن أم مكتوم وأعرض عنه؛ لأنه أشار إلى الذي كان يقوده أن يكفه، فدفعه ابن أم مكتوم، وأبي إلا أن يكلم النبي صلى الله عليه وسلم حتى يعلمه، فكان في هذا نوع جفاء منه. ومع هذا أنزل الله في حقه على نبيه صلى الله عليه وسلم: « عبس وتولى » بلفظ الإخبار عن الغائب، تعظيما له ولم يقل: عبست وتوليت. ثم أقبل عليه بمواجهة الخطاب تأنيسا له فقال: « وما يدريك » أي يعلمك « لعله » يعني ابن أم مكتوم « يزكى » بما استدعى منك تعليمه إياه من القرآن والدين، بأن يزداد طهارة في دينه، وزوال ظلمة الجهل عنه. وقيل: الضمير في « لعله » للكافر يعني إنك إذا طمعت في أن يتزكى بالإسلام أو يذكر، فتقربه الذكرى إلى قبول الحق وما يدريك أن ما طمعت فيه كائن. وقرأ الحسن « آأن جاءه الأعمى » بالمد على الاستفهام فـ « أن » متعلقة بفعل محذوف دل عليه « عبس وتولى » التقدير: آأن جاءه أعرض عنه وتولى؟ فيوقف على هذه القراءة على « وتولى » ، ولا يوقف عليه على قراءة الخبر، وهي قراءة العامة.

 

نظير هذه الآية في العتاب قوله تعالى في سورة الأنعام: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي » [ الأنعام: 52 ] وكذلك قول في سورة الكهف: « ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا » [ الكهف: 28 ] وما كان مثله، والله أعلم.

« أو يذكر » يتعظ بما تقول « فتنفعه الذكرى » أي العظة. وقراءة العامة « فتنفعه » بضم العين، عطفا على « يزكى » . وقرأ عاصم وابن أبي إسحاق وعيسى « فتنفعه » نصبا. وهي قراءة السلمي وزر بن حبيش، على جواب لعل، لأنه غير موجب؛ كقوله تعالى: « لعلي أبلغ الأسباب » [ غافر: 36 ] ثم قال: « فاطلع » [ الصافات: 55 ] .

 

الآيات: 5 - 10 ( أما من استغنى، فأنت له تصدى، وما عليك ألا يزكى، وأما من جاءك يسعى، وهو يخشى، فأنت عنه تلهى )

 

قوله تعالى: « أما من استغنى » أي كان ذا ثروة وغنى « فأنت له تصدى » أي تعرض له، وتصغي لكلامه. والتصدي: الإصغاء؛ قال الراعي:

تصدي لو ضاح كأن جبينه سراج الدجي يحني إليه الأساور

وأصله تتصدد من الصد، وهو ما استقبلك، وصار قبالتك؛ يقال: داري صدد داره أي قبالتها، نصب على الظرف. وقيل: من الصدى وهو العطش. أي تتعرض له كما يتعرض العطشان للماء، والمصاداة: المعارضة. وقراءة العامة « تصدى » بالتخفيف، على طرح التاء الثانية تخفيفا. وقرأ نافع وابن محيصن بالتشديد على الإدغام. « وما عليك ألا يزكى » أي لا يهتدي هذا الكافر ولا يؤمن، إنما أنت رسول، ما عليك إلا البلاغ. « وأما من جاءك يسعى » يطلب العلم لله « وهو يخشى » أي يخاف الله. « فأنت عنه تلهى » أي تعرض عنه بوجهك وتشغل بغيره. وأصله تتلهى؛ يقال: لهيت عن الشيء ألهى: أي تشاغلت عنه. والتلهي: التغافل. ولهيتُ عنه وتليتُ: بمعنى.

 

الآيات: 11 - 16 ( كلا إنها تذكرة، فمن شاء ذكره، في صحف مكرمة، مرفوعة مطهرة، بأيدي سفرة، كرام بررة )

 

قوله تعالى: « كلا » كلمة ردع وزجر؛ أي ما الأمر كما تفعل مع الفريقين؛ أي لا تفعل بعدها مثلها: من إقبالك على الغني، وإعراضك عن المؤمن الفقير. والذي جرى من النبي صلى الله عليه وسلم كان ترك الأولى كما تقدم، ولو حمل على صغيرة لم يبعد؛ قاله القشيري. والوقف على « كلا » على هذا الوجه: جائز. ويجوز أن تقف على « تلهي » ثم تبتدئ « كلا » على معنى حقا. « إنها » أي السورة أو آيات القرآن « تذكرة » أي موعظة وتبصرة للخلق « فمن شاء ذكره » أي اتعظ بالقرآن. قال الجُرجاني: « إنها » أي القرآن، والقرآن مذكر إلا أنه لما جعل القرآن تذكرة، أخرجه على لفظ التذكرة، ولو ذكره لجاز؛ كما قال تعالى في موضع آخر: « كلا إنه تذكرة » . ويدل على أنه أراد القرآن قوله: « فمن شاء ذكره » أي كان حافظا له غير ناس؛ وذكر الضمير، لأن التذكرة في معنى الذكر والوعظ. وروى الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: « فمن شاء ذكره » قال من شاء الله تبارك وتعالى ألهمه. ثم أخبر عن جلالته فقال: « في صحف » جمع صحيفة « مكرمة » أي عند الله؛ قاله السدي. الطبري: « مكرمة » في الدين لما فيها من العلم والحكم. وقيل: « مكرمة » لأنها نزل بها كرام الحفظة، أو لأنها نازلة من اللوح المحفوظ. وقيل: « مكرمة » لأنها نزلت من كريم؛ لأن كرامة الكتاب من كرامة صاحبه. وقيل: المراد كتب الأنبياء؛ دليله: « إن هذا لفي الصحف الأولى. صحف إبراهيم وموسى » [ الأعلى:19 ] . « مرفوعة » رفيعة القدر عند الله. وقيل: مرفوعة عنده تبارك وتعالى. وقيل: مرفوعة في السماء السابعة، قاله يحيى بن سلام. الطبري: مرفوعة الذكر والقدر. وقيل: مرفوعة عن الشبه والتناقض. « مطهرة » قال الحسن: من كل دنس. وقيل: مصانة عن أن ينالها الكفار. وهو معنى قول السدي. وعن الحسن أيضا: مطهرة من أن تنزل على المشركين. وقيل: أي القرآن أثبت للملائكة في صحف يقرؤونها فهي مكرمة مرفوعة مطهرة. « بأيدي سفرة » أي الملائكة الذين جعلهم الله سفراء بينه وبين رسله، فهم بررة لم يتدنسوا بمعصية. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: هي مطهرة تجعل التطهير لمن حملها « بأيدي سفرة » قال: كتبة. وقاله مجاهد أيضا. وهم الملائكة الكرام الكاتبون لأعمال العباد في الأسفار، التي هي الكتب، وأحدهم: سافر؛ كقولك: كاتب وكتبة. ويقال: سفرت أي كتبت، والكتاب: هو السفر، وجمعه أسفار.

قال الزجاج: وإنما قيل للكتاب سفر، بكسر السين، وللكاتب سافر؛ لأن معناه أنه يبين الشيء ويوضحه. يقال: أسفر الصبح: إذا أضاء، وسفرت المرأة: إذا كشفت النقاب عن وجهها. قال: ومنه سفرت بين القوم أسفر سفارة: أصلحت بينهم. وقال الفراء، وأنشد:

فما أدع السفارة بين قومي ولا أمشي بغش إن مشيت

والسفير: الرسول والمصلح بين القوم والجمع: سفراء، مثل فقيه وفقهاء. ويقال للوراقين سفراء، بلغة العبرانية. وقال قتادة: السفرة هنا: هم القراء، لأنهم يقرؤون الأسفار. وعنه أيضا كقول ابن عباس. وقال وهب بن منبه: « بأيدي سفرة. كرام بررة » هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن العربي: لقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرة، كراما بررة، ولكن ليسوا بمرادين بهذه الآية، ولا قاربوا المرادين بها، بل هي لفظة مخصوصة بالملائكة عند الإطلاق، ولا يشاركهم فيها سواهم، ولا يدخل معهم في متناولها غيرهم. وروي في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له، مع السفرة الكرام البررة؛ ومثل الذي يقرؤه وهو يتعاهده، وهو عليه شديد، فله أجران ] متفق عليه، واللفظ للبخاري. « كرام » أي كرام على ربهم؛ قال الكلبي. الحسن: كرام عن المعاصي، فهم يرفعون أنفسهم عنها. وروى الضحاك عن ابن عباس في « كرام » قال: يتكرمون أن يكونوا مع ابن آدم إذا خلا بزوجته، أو تبرز لغائطه. وقيل: أي يؤثرون منافع غيرهم على منافع أنفسهم. « بررة » جمع بار مثل كافر وكفرة، وساحر وسحرة، وفاجر وفجرة؛ يقال: بر وبار إذا كان أهلا للصدق، ومنه بر فلان في يمينه: أي صدق، وفلان يبر خالقه ويتبرره: أي يطيعه؛ فمعنى « بررة » مطيعون لله، صادقون لله في أعمالهم. وقد مضى في سورة « الواقعة » قولة تعالى: « إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون. لا يمسه إلا المطهرون » [ الواقعة:79 ] أنهم الكرام البررة في كتاب مكنون. « لا يمسه إلا المطهرون » [ الواقعة: 79 ] أنهم الكرام البررة في هذه السورة.

 

الآيات: 17 - 23 ( قتل الإنسان ما أكفره، من أي شيء خلقه، من نطفة خلقه فقدره، ثم السبيل يسره، ثم أماته فأقبره، ثم إذا شاء أنشره، كلا لما يقض ما أمره )

 

قوله تعالى: « قتل الإنسان ما أكفره » ؟ « قتل » أي لعن. وقيل: عذب. والإنسان الكافر. روى الأعمش عن مجاهد قال: ما كان في القرآن « قتل الإنسان » فإنما عني به الكافر. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: نزلت في عتبة بن أبي لهب، وكان قد أمن، فلما نزلت « والنجم » آرتد، وقال: أمنت بالقرآن كله إلا النجم، فأنزل الله جل ثناؤه فيه « قتل الإنسان » أي لعن عتبة حيث كفر بالقرآن، ودعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: [ اللهم سلط عليه كلبك أسد الغاضرة ] فخرج من فوره بتجارة إلى الشام، فلما انتهى إلى الغاضرة تذكر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل لمن معه ألف دينار إن هو أصبح حيا، فجعلوه في وسط الرفقة، وجعلوا المتاع حول، فبينما هم على ذلك أقبل الأسد، فلما دنا من الرحال وثب، فإذا هو فوقه فمزقه، وقد كان أبوه ندبه وبكى وقال: ما قال محمد شيئا قط إلا كان. وروى أبو صالح عن ابن عباس « ما أكفره » : أي شيء أكفره؟ وقيل: « ما » تعجب؛ وعادة العرب إذا تعجبوا من شيء قالوا: قاتله الله ما أحسنه! وأخزاه الله ما أظلمه؛ والمعنى: اعجبوا من كفر الإنسان لجميع ما ذكرنا بعد هذا. وقيل: ما أكفره بالله ونعمه مع معرفته بكثرة إحسانه إليه على التعجب أيضا؛ قال ابن جريج: أي ما أشد كفره! وقيل: « ما » استفهام أي أي شيء دعاه إلى الكفر؛ فهو استفهام توبيخ. و « ما » تحتمل التعجب، وتحتمل معنى أي، فتكون استفهاما.

 

قوله تعالى: « من أي شيء خلقه » أي من أي شيء خلق الله هذا الكافر فيتكبر؟ أي اعجبوا لخلقه. « من نطفة » أي من ماء يسير مهين جماد « خلقه » فلم يغلط في نفسه؟! قال الحسن: كيف يتكبر من خرج من سبيل البول مرتين. « فقدره » في بطن أمه. كذا روى الضحاك عن ابن عباس: أي قدر يديه ورجليه وعينيه وسائر آرابه، وحسنا ودميما، وقصيرا وطويلا، وشقيا وسعيدا. وقيل: « فقدره » أي فسواه كما قال: « أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا » . وقال: « الذي خلقك فسواك » . وقيل: « فقدره » أطوارا أي من حال إلى حال؛ نطفة ثم علقة، إلى أن تم خلقه. « ثم السبيل يسره » قال ابن عباس في رواية عطاء وقتادة والسدي ومقاتل: يسره للخروج من بطن أمه. مجاهد: يسره لطريق الخير والشر؛ أي بين له ذلك. دليله: « إنا هديناه السبيل » و « هديناه النجدين » . وقاله الحسن وعطاء وابن عباس أيضا في رواية أبي صالح عنه. وعن مجاهد أيضا قال: سبيل الشقاء والسعادة. ابن زيد: سبيل الإسلام. وقال أبو بكر بن طاهر يسر على كل أحد ما خلقه له وقدره عليه؛ دليله قوله عليه السلام: [ اعملوا فكل ميسر لما خلق له ] .

 

قوله تعالى: « ثم أماته فأقبره » أي جعل له قبرا يواري فيه إكراما، ولم يجعله مما يلقي على وجه الأرض تأكله الطير والعوافي؛ قال الفراء. وقال أبو عبيدة: « أقبره » : جعل له قبرا، وأمر أن يقبر. قال أبو عبيدة: ولما قتل عمر بن هبيرة صالح بن عبدالرحمن، قالت بنو تميم ودخلوا عليه: أقبرنا صالحا؛ فقال: دونكموه. وقال: « أقبره » ولم يقل قبره؛ لأن القابر هو الدافن بيده، قال الأعشى:

لو أسندت ميتا إلى نحرها عاش ولم ينقل إلى قابر

يقال: قبرت الميت: إذا دفنته، وأقبره الله: أي صيره بحيث يقبر، وجعل له قبرا؛ تقول العرب: بترت ذنب البعير، وأبتره الله، وعضبت قرن الثور، وأعضبه الله، وطردت فلانا، والله أطرده، أي صيره طريدا. « ثم إذا شاء أنشره » أي أحياه بعد موته. وقراءة العامة « أنشره » بالألف. وروى أبو حيوة عن نافع وشعيب بن أبي حمزة « شاء نشره » بغير ألف، لغتان فصيحتان بمعنى؛ يقال: أنشر الله الميت ونشره؛ قال الأعشى:

حتى يقول الناس مما رأوا يا عجبا للميت الناشر

 

قوله تعالى: « كلا لما يقض ما أمره » قال مجاهد وقتادة: « لما يقض » : لا يقضي أحد ما أمر به. وكان ابن عباس يقول: « لما يقض ما أمره » لم يف بالميثاق الذي أخذ عليه في صلب آدم. ثم قيل: « كلا » ردع وزجر، أي ليس الأمر: كما يقول الكافر؛ فإن الكافر إذا أخبر بالنشور قال: « ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى » [ فصلت: 50 ] ربما يقول قد قضيت ما أمرت به. فقال: كلا لم يقض شيئا بل هو كافر بي وبرسولي. وقال الحسن: أي حقا لم يقض: أي لم يعمل بما أمر به. و « ما » في قوله: « لما » عماد للكلام؛ كقوله تعالى: « فبما رحمة من الله » [ آل عمران: 159 ] وقول: « عما قليل ليصبحن نادمين » [ المؤمنون: 40 ] . وقال الإمام ابن فورَك: أي: كلا لما يقض الله لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان، بل أمره بما لم يقض له. ابن الأنباري: الوقف على « كلا » قبيح، والوقف على « أمره » و « نشره » جيد؛ فـ « كلا » على هذا بمعنى حقا.

 

الآيات: 24 - 32 ( فلينظر الإنسان إلى طعامه، أنا صببنا الماء صبا، ثم شققنا الأرض شقا، فأنبتنا فيها حبا، وعنبا وقضبا، وزيتونا ونخلا، وحدائق غلبا، وفاكهة وأبا، متاعا لكم ولأنعامكم )

 

قوله تعالى: « فلينظر الإنسان إلى طعامه » لما ذكر جل ثناؤه ابتداء خلق الإنسان، ذكر ما يسر من رزقه؛ أي فلينظر كيف خلق الله طعامه. وهذا النظر نظر القلب بالفكر؛ أي ليتدبر كيف خلق الله طعامه الذي هو قوام حياته، وكيف هيأ له أسباب المعاش، ليستعد بها للمعاد. وروي عن الحسن ومجاهد قالا: « فلينظر الإنسان إلى طعامه » أي إلى مدخله ومخرجه. وروى ابن أبي خيثمة عن الضحاك بن سفيان الكلابي قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا ضحاك ما طعامك ) قلت: يا رسول الله! اللحم واللبن؛ قال: ( ثم يصير إلى ماذا ) قلت إلى ما قد علمته؛ قال: ( فإن الله ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلا للدنيا ) . وقال أبي بن كعب: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ إن مطعم ابن آدم جعل مثلا للدنيا وإن قزحه وملحه فانظر إلى ما يصير ] . وقال أبو الوليد: سألت ابن عمر عن الرجل يدخل الخلاء فينظر ما يخرج منه؛ قال: يأتيه الملك فيقول أنظر ما بخلت به إلى ما صار؟

 

قوله تعالى: « أنا صببنا الماء صبا » قراءة العامة « إناء » بالكسر، على الاستئناف، وقرأ الكوفيون ورويس عن يعقوب « أنا » بفتح الهمزة، فـ « أنا » في موضع خفض على الترجمة عن الطعام، فهو بدل منه؛ كأنه قال: « فلينظر الإنسان إلى طعامه » إلى « أنا صببنا » فلا يحسن الوقف على « طعامه » من هذه القراءة. وكذلك إن رفعت « أنا » بإضمار هو أنا صببنا؛ لأنها في حال رفعها مترجمة عن الطعام. وقيل: المعنى: لأنا صببنا الماء، فأخرجنا به الطعام، أي كذلك كان. وقرأ الحسين بن علي « أني » فقال، بمعنى كيف؟ فمن أخذ بهذه القراءة قال: الوقف على « طعامه » تام. ويقال: معنى « أني » أين، إلا أن فيها كناية عن الوجوه؛ وتأويلها: من أي وجه صببنا الماء؛ قال الكميت:

أني، ومن أين آبك الطرب من حيث لا صبوة ولا ريب

« صببنا الماء صبا » : يعني الغيث والأمطار. « ثم شققنا الأرض شقا » أي بالنبات « فأنبتنا فيها حبا » أي قمحا وشعيرا وسلتا وسائر ما يقصد ويدخر « وعنبا وقضبا » وهو القت والعلف، عن الحسن: سمو، بذلك لأنه يقضب أي يقطع بعد ظهوره مرة بعد مرة. قال القتبي وثعلب: وأهل مكة يسمون القت القضب. وقال ابن عباس: هو الرطب لأنه يقضب من النخل: ولأنه ذكر العنب قبله. وعنه أيضا: أنه الفصفصة وهو القت الرطب. وقال الخليل: القضب الفِصْفِصْة الرطبة. وقيل: بالسين، فإذا يبست فهو قت. قال: والقضب: اسم يقع على ما يقضب من أغصان الشجرة، ليتخذ منها سهام أو قسي. ويقال: قضبا،يعني جميع ما يقضب، مثل القت والكراث وسائر البقول التي تقطع فينبت أصلها. وفي الصحاح: والقضة والقضب الرطبة، وهي الإسفست بالفارسية، والموضع الذي ينبت فيه مقضبة. « وزيتونا » وهي شجرة الزيتون « ونخلا » يعني النخيل « وحدائق » أي بساتين وأحدها حديقة. قال الكلبي: وكل شيء أحيط عليه من نخيل أو شجر فهو حداقة، وما لم يحط عليه فليس بحديقة. « غلبا » عظاما شجرها؛ يقال: شجرة غلباء، ويقال للأسد: الأغلب؛ لأنه مصمت العنق، لا يلتفت إلا جميعا؛ قال العجاج:

ما زلت يوم البين ألوي صَلَبي والرأس حتى صرت مثل الأغلب

ورجل أغلب بين الغلب إذا كان غليظ الرقبة. والأصل في الوصف بالغلب: الرقاب فاستعير؛ قال قال عمرو بن معدي كرب:

يمشي بها غُلب الرقاب كأنهم بزل كُسِين من الكحيل جِلالا

وحديقة غلباء: ملتفة وحدائق غلب. وأغلولب العشب: بلغ وألتف البعض بالبعض.

قال ابن عباس: الغلب: جمع أغلب وغلباء وهي الغلاظ. وعنه أيضا الطوال. قتادة وابن زيد: الغلب: النخل الكرام. وعن ابن زيد أيضا وعكرمة: عظام الأوساط والجذوع. مجاهد: ملتفة. « وفاكهة » أي ما تأكله الناس من ثمار الأشجار كالتين والخوخ وغيرهما « وأبا » هو ما تأكله البهائم من العشب، قال ابن عباس والحسن: الأب: كل ما أنبتت الأرض، مما لا يأكله الناس، ما يأكله الآدميون هو الحصيد؛ ومنه قول الشاعر في مدح النبي صلى الله عليه وسلم:

له دعوة ميمونة ريحها الصبا بها ينبت الله الحصيدة والأبا

وقيل: إنما سمي أبا؛ لأنه يؤب أي يوم وينتجع. والأب والأم: أخوان؛ قال:

جذمنا قيس ونجد دارنا ولنا الأب به والمكرع

وقال الضحاك: والأب: كل شيء ينبت على وجه الأرض. وكذا قال أبو رزين: هو النبات. يدل عليه قول ابن عباس قال: الأب: ما تنبت الأرض مما يأكل الناس والأنعام. وعن ابن عباس أيضا وابن أبي طلحة: الأب: الثمار الرطبة. وقال الضحاك: هو التين خاصة. وهو محكي عن ابن عباس أيضا؛ قال الشاعر:

فما لهم مرتع للسوا م والأب عندهم يقدر

الكلبي: هو كل نبات سوى الفاكهة. وقيل: الفاكهة: رطب الثمار، والأب يابسها.

وقال إبراهيم التيمي: سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن تفسير الفاكهة والأب فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت: في كتاب الله ما لا أعلم.

وقال أنس: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ هذه الآية ثم قال: كل هذا قد عرفناه، فما الأب؟ ثم رفع عصا كانت بيده وقال: هذا لعمر الله التكلف، وما عليك يا ابن أم عمر ألا تدري ما الأب؟ ثم قال: اتبعوا ما بين لكم من هذا الكتاب، وما لا فدعوه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( خلقتم من سبع، ورزقتم من سبع، فاسجدوا لله على سبع ) . وإنما أراد بقول: ( خلقتم من سبع ) يعني « من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة » [ الحج: 5 ] الآية، والرزق من سبع، وهو قوله تعالى: « قأنبتنا فيها حبا وعنبا » إلى قوله: « وفاكهة » ثم قال: « وأبا » وهو يدل على أنه ليس برزق لابن آدم، وأنه مما تختص به البهائم. والله أعلم. « متاعا لكم » نصب على المصدر المؤكد، لأن إنبات هذه الأشياء إمتاع لجميع الحيوانات. وهذا ضرب مثل ضربه الله تعالى لبعث الموتى من قبورهم، كنبات الزرع بعد دثوره، كما تقدم بيانه في غير موضع. ويتضمن آمتنانا عليهم بما أنعم به، وقد مضى في غير موضع أيضا.

 

الآيات: 33 - 42 ( فإذا جاءت الصاخة، يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، وجوه يومئذ مسفرة، ضاحكة مستبشرة، ووجوه يومئذ عليها غبرة، ترهقها قترة، أولئك هم الكفرة الفجرة )

 

قوله تعالى: « فإذا جاءت الصاخة » لما ذكر أمر المعاش ذكر أمر المعاد، ليتزودوا له بالأعمال الصالحة، وبالإنفاق مما أمتن به عليهم. والصاخة: الصيحة التي تكون عنها القيامة، وهي النفخة الثانية، تصخ الأسماع: أي تصمها فلا تسمع إلا ما يدعى به للأحياء. وذكر ناس من المفسرين قالوا: تصيخ لها الأسماع، من قولك: أصاخ إلى كذا: أي استمع إليه، ومنه الحديث: ( ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة شفقا من الساعة إلا الجن والإنس ) . وقال الشاعر:

يصيخ للنبأة أسماعه إصاخة المنشد للمنشد

قال بعض العلماء: وهذا يؤخذ على جهة التسليم للقدماء، فأما اللغة فمقتضاها القول الأول، قال الخليل: الصاخة: صيحة تصخ الآذان صخا أي تصمها بشدة وقعتها. وأصل الكلمة في اللغة: الصك الشديد. وقيل: هي مأخوذة من صخه بالحجر: إذا صكه قال الراجز:

يا جارتي هل لك أن تجالدي جلادة كالصك بالجلامد

ومن هذا الباب قول العرب: صختهم الصاخة وباتتهم البائتة، وهي الداهية. الطبري: وأحسبه من صخ فلان فلانا: إذا أصماه. قال ابن العربي: الصاخة التي تورث الصمم، وإنها لمسمعة، وهذا من بديع الفصاحة، حتى لقد قال بعض حديثي الأسنان حديثي الأزمان:

أَصَمَّ بك الناعي وإن كان أسمعا

وقال آخر:

أَضَمَّني سِرُّهم أيام فرقتهم فهل سمعتم بسر يورث الصمما

لعمر الله إن صيحة القيامة لمسمعة تصم عن الدنيا، وتسمع أمور الآخرة.

 

قوله تعالى: « يوم يفر المرء من أخيه » أي يهرب، أي تجيء الصاخة في هذا اليوم الذي يهرب فيه من أخيه؛ أي من موالاة أخيه ومكالمته؛ لأنه لا يتفرغ لذلك، لاشتغاله بنفسه؛ كما قال بعده: « لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه » أي يشغله عن غيره. وقيل: إنما يفر حذرا من مطالبتهم إياه، لما بينهم من التبعات. وقيل: لئلا يروا ما هو فيه من الشدة. وقيل: لعلمه أنهم لا ينفعونه ولا يغنون عنه شيئا؛ كما قال: « يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا » [ الدخان: 41 ] . وقال عبدالله بن طاهر الأبهري: يفر منهم لما تبين له من عجزهم وقلة حيلتهم، إلى من يملك كشف تلك الكروب والهموم عنه، ولو ظهر له ذلك في الدنيا لما اعتمد شيئا سوى ربه تعالى.

وذكر الضحاك عن ابن عباس قال: يفر قابيل من أخيه هابيل، ويفر النبي صلى الله عليه وسلم من أمه، وإبراهيم عليه السلام من أبيه، ونوح عليه السلام من ابنه، ولوط من امرأته، وآدم من سوأة بنيه. وقال الحسن: أول من يفر يوم القيامة من، أبيه: إبراهيم، وأول من يفر من ابنه نوح؛ وأول من يفر من امرأته لوط. قال: فيرون أن هذه الآية نزلت فيهم وهذا فرار التبرؤ. « لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه » . في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: [ يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا ] قلت، يا رسول الله! الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: [ يا عائشة، الأم أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض ] . خرجه الترمذي. عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ يحشرون حفاة عراة غرلا ] فقالت امرأة: أينظر بعضنا، أو يرى بعضنا عورة بعض؟ قال: [ يا فلانة ] « لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه » . قال: حديث حسن صحيح. وقراءة العامة بالغين المعجمة؛ أي حال يشغله عن الأقرباء. وقرأ ابن محيصن وحميد « يعنيه » بفتح الياء، وعين غير معجمة؛ أي يعنيه أمره. وقال القتبي: يعنيه: يصرفه ويصده عن قرابته، ومنه يقال: أعن عني وجهك: أي أصرفه واعن عن السفيه؛ قال خفاف:

سيعنيك حرب بني مالك عن الفحش والجهل في المحفل

 

قوله تعالى: « وجوه يومئذ مسفرة » أي مشرقة مضيئة، قد علمت مالها من الفوز والنعيم، وهي وجوه المؤمنين. « ضاحكة » أي مسرورة فرحة. « مستبشرة » : أي بما آتاها الله من الكرامة. وقال عطاء الخراساني: « مسفرة » من طول ما اغبرت في سبيل الله جل ثناؤه. ذكره أبو نعيم. الضحاك: من آثار الوضوء. ابن عباس: من قيام الليل؛ لما روي في الحديث: [ من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ] يقال: أسفر الصبح إذا أضاء. « ووجوه يومئذ عليها غبرة » أي غبار ودخان « ترهقها » أي تغشاها « قترة » أي كسوف وسواد. كذا قال ابن عباس. وعنه أيضا: ذلة وشدة. والقتر في كلام العرب: الغبار، جمع القترة، عن أبي عبيد؛ وأنشد الفرزدق:

متوج برداء الملك يتبعه موج ترى فوقه الرايات والقترا

وفي الخبر: إن البهائم إذا صارت ترابا يوم القيامة حول ذلك التراب في وجوه الكفار. وقال زيد بن أسلم، القترة: ما ارتفعت إلى السماء، والغبرة: ما انحطت إلى الأرض، والغبار والغبرة: واحد. « أولئك هم الكفرة » جمع كافر « الفجرة » جمع فاجر، وهو الكاذب المفتري على الله تعالى. وقيل: الفاسق؛ [ يقال ] : فجر فجورا: أي فسق، وفجر: أي كذب. وأصله: الميل، والفاجر: المائل. وقد مضى بيانه والكلام فيه. والحمد لله وحده.

 

سورة التكوير

مقدمة السورة

 

وفي الترمذي: عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من سره أن ينظر إلي يوم القيامة [ كأنه رأي عين ] فليقرأ إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت ) . قال: هذا حديث حسن [ غريب ] .

 

الآيات: 1 - 14 ( إذا الشمس كورت، وإذا النجوم انكدرت، وإذا الجبال سيرت، وإذا العشار عطلت، وإذا الوحوش حشرت، وإذا البحار سجرت، وإذا النفوس زوجت، وإذا الموؤودة سئلت، بأي ذنب قتلت، وإذا الصحف نشرت، وإذا السماء كشطت، وإذا الجحيم سعرت، وإذا الجنة أزلفت، علمت نفس ما أحضرت )

 

قوله تعالى: « إذا الشمس كورت » قال ابن عباس: تكويرها: إدخالها في العرش. والحسن: ذهاب ضوئها. وقاله قتادة ومجاهد: وروي عن ابن عباس أيضا. سعيد بن جبير: عورت. أبو عبيدة: كورت مثل تكوير العمامة، تلف فتمحى. وقال الربيع بن خيثم: « كورت رمي بها؛ ومنه: كورته فتكور؛ أي سقط.»

قلت: وأصل التكوير: الجمع، مأخوذ من كار العمامة على رأسه يكورها أي لاثها وجمعها فهي تكور ويمحى ضوءها، ثم يرمى بها في البحر. والله أعلم. وعن أبي صالح: كورت: نكست.

« وإذا النجوم انكدرت » أي تهافتت وتناثرت. وقال أبو عبيدة: أنصبت كما تنصب العقاب إذا انكسرت. قال العجاج يصف صقرا:

أبصر خربان فضاء فانكدر تقضِّيَ البازي إذا البازي كسر

وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يبقى في السماء يومئذ نجم إلا سقط في الأرض، حتى يفزع أهل الأرض السابعة مما لقيت وأصاب العليا ) ، يعني الأرض. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: تساقطت؛ وذلك أنها قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور، وتلك السلاسل بأيدي ملائكة من نور، فإذا جاءت النفخة الأولى مات، من في الأرض ومن في السموات، فتناثرت تلك الكواكب وتساقطت السلاسل من أيدي الملائكة؛ لأنه مات من كان يمسكها. ويحتمل أن يكون انكدارها طمس آثارها. وسميت النجوم نجوما لظهورها في السماء بضوئها. وعن ابن عباس أيضا: انكدرت تغيرت فلم يبق لها ضوء لزوالها عن أماكنها. والمعنى متقارب.

 

قوله تعالى: « وإذا الجبال سيرت » يعني قلعت من الأرض، وسيرت في الهواء؛ وهو مثل قوله تعالى: « ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة » [ الكهف: 47 ] . وقيل: سيرها تحولها عن منزلة الحجارة، فتكون كثيبا مهيلا أي رملا سائلا وتكون كالعهن، وتكون هباء منثورا، وتكون سرابا، مثل السراب الذي ليس بشيء. وعادت الأرض قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمنا. وقد تقدم في غير موضع والحمد لله. « وإذا العشار عطلت » أي النوق الحوامل التي في بطونها أولادها؛ الواحدة عشراء أو التي أتى عليها في الحمل عشرة أشهر، ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع، وبعدما تضع أيضا. ومن عادة العرب أن يسموا الشيء باسمه المتقدم وإن كان قد جاوز ذلك؛ يقول الرجل لفرسه وقد قرح: هاتوا مهري وقربوا مهري، ويسميه بمتقدم اسمه؛ قال عنترة:

لا تذكري مهري وما أطمعته فيكون جلدك مثل جلد الأجرب

وقال أيضا:

وحملت مهري وسطها فمضاها

وإنما خص العشار بالذكر؛ لأنها أعزما تكون على العرب، وليس عطلها أهلها إلا حال القيامة. وهذا على وجه المثل؛ لأن في القيامة لا تكون ناقة عشراء، ولكن أراد به المئل؛ أن هول يوم القيامة بحال لو كان للرجل ناقة عشراء لعطلها واشتغل بنفسه. وقيل: إنهم إذا قاموا من قبورهم، وشاهد بعضهم بعضا، ورأوا الوحوش والدواب محشورة، وفيها عشارهم التي كانت أنفس أموالهم، لم يعبؤوا بها، ولم يهمهم أمرها. وخوطبت العرب بأمر العشار؛ لأن مالها وعيشها أكثره من الإبل. وروى الضحاك عن ابن عباس: عطلت: عطلها أهلها، لاشتغالهم بأنفسهم. وقال الأعشى:

هو الواهب المائة المصطفا ة إما مخاضا وإما عشارا

وقال آخر:

ترى المرء مهجورا إذا قل ماله وبيت الغني يهدي له ويزار

وما ينفع الزوار مال مزورهم إذا سرحت شول له وعشار

يقال: ناقة عشراء، وناقتان عشراوان، نوق عشار وعشراوات، يبدلون من همزة التأنيث واوا. وقد عشرت الناقة تعشبوا: أي صارت عشراء. وقيل: العشار: السحاب يعطل مما يكون فيه وهو الماء فلا يمطر؛ والعرب تشبه السحاب بالحامل. وقيل: الديار تعطل فلا تسكن. وقيل: الأرض التي يعشر زرعها تعطل فلا تزرع. والأول أشهر، وعليه من الناس الأكثر.

 

قوله تعالى: « وإذا الوحوش حشرت » أي جمعت والحشر: الجمع. عن الحسن وقتادة وغيرهما. وقال ابن عباس: حشرها: موتها. رواه عنه عكرمة. وحشر كل شيء: الموت غير الجن والإنس، فإنهما يوافيان يوم القيامة. وعن ابن عباس أيضا قال: يحشر كل شيء حتى الذباب. قال ابن عباس: تحشر الوحوش غدا: أي تجمع حتى يقتص لبعضها من بعض، فيقتص للجماء من القرناء، ثم يقال لها كوني ترابا فتموت. وهذا أصح مما رواه عنه عكرمة، وقد بيناه في كتاب « التذكرة » مستوفى، ومضى في سورة « الأنعام » بعضه. أي إن الوحوش إذا كانت هذه حالها فكيف ببني آدم. وقيل: عني بهذا أنها مع نفرتها اليوم من الناس وتنددها في الصحاري، تنضم غدا إلى الناس من أهوال ذلك اليوم. قال معناه أبي بن كعب.

 

قوله تعالى: « وإذا البحار سجرت » أي ملئت من الماء؛ والعرب تقول: سجرت الحوض أسجره سجرا: إذا ملأته، وهو مسجور والمسجور والساجر في اللغة: الملآن. وروى الربيع بن خيثم: سجرت: فاضت وملئت. وقاله الكلبي ومقاتل والحسن والضحاك. قال ابن أبي زمنين: سجرت: حقيقته ملئت، فيفيض بعضها إلى بعض فتصير شيئا واحدا. وهو معنى قول الحسن. وقيل: أرسل عذبها على مالحها ومالحها على عذبها، حتى امتلأت. عن الضحاك ومجاهد: أي فجرت فصارت بحرا واحدا. القشيري: وذلك بأن يرفع الله الحاجز الذي ذكره في قوله تعالى: « بينهما برزخ لا يبغيان » [ الرحمن: 20 ] ، فإذا رفع ذلك البرزخ تفجرت مياه البحار، فعمت الأرض كلها، وصارت البحار بحرا واحدا. وقيل: صارت بحرا واحدا من الحميم لأهل النار. وعن الحسن أيضا وقتادة وابن حيان: تيبس فلا يبقى من مائها قطرة. القشيري: وهو من سجرت التنور أسجره سجرا: إذا أحميته وإذا سلط عليه الإيقاد نشف ما فيه من الرطوبة وتسير الجبال حينئذ وتصير البحار والأرض كلها بساطا واحدا، بأن يملأ مكان البحار بتراب الجبال. وقال النحاس: وقد تكون الأقوال متفقة؛ يكون تيبس من الماء بعد أن يفيض، بعضها إلى بعض، فتقلب نارا. قلت: ثم سير الجبال حينئذ، كما ذكر القشيري، والله أعلم. وقال ابن زيد وشمر وعطية وسفيان ووهب وأبي وعلي بن أبي طالب وابن عباس في رواية الضحاك عنه: أوقدت فصارت نارا. قال ابن عباس: يكور الله الشمس والقمر والنجوم في البحر، ثم يبعث الله عليها ريحا دبورا، فتنفخه حتى يصير نارا. وكذا في بعض الحديث: ( يأمر الله جل ثناؤه الشمس والقمر والنجوم فينتثرون في البحر، ثم يبعث الله جل ثناؤه الدبور فيسجرها نارا، فتلك نارا، فتلك نار الله الكبرى، التي يعذب بها الكفار ) . قال القشيري: قيل في تفسير قول ابن عباس « سجرت » أوقدت، يحتمل أن تكون جهنم في قعور من البحار، فهي الآن غير مسجورة لقوام الدنيا، فإذا أنقضت الدنيا سجرت، فصارت كلها نارا يدخلها الله أهلها. ويحتمل أن تكون تحت البحر نار، ثم يوقد الله البحر كله فيصير نارا. وفي الخبر: البحر نار. في نار. وقال معاوية بن سعيد: بحر الروم وسط الأرض، أسفله آبار مطبقة بنحاس يسجر نارا يوم القيامة. وقيل: تكون الشمس في البحر، فيكون البحر نارا بحر الشمس. ثم جميع ما في هذه الآيات يجوز أن يكون في الدنيا قبل يوم القيامة ويكون من أشراطها، ويجوز أن يكون يوم القيامة، وما بعد هذه الآيات فيكون في يوم القيامة. قلت: روي عن عبدالله بن عمرو: لا يتوضأ بماء البحر لأنه طبق جهنم. وقال أبي بن كعب: ست آيات من قبل يوم القيامة: بينما الناس في أسواقهم ذهب ضوء الشمس وبدت النجوم فتحيروا ودهشوا، فبينما هم كذلك ينظرون إذ تناثرت النجوم وتساقطت، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض، فتحركت واضطربت واحترقت، فصارت هباء منثورا، ففزعت الإنس إلى الجن والجن إلى الإنس، واختلطت الدواب والوحوش والهوام والطير، وماج بعضها في بعض؛ فذلك قوله تعالى: « وإذا الوحوش حشرت » ثم قالت الجن للإنس: نحن نأتيكم بالخبر، فانطلقوا إلى البحار فإذا هي نار تأجج، فبينما هم كذلك تصدعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلي، وإلى السماء السابعة العليا، فبينما هم كذلك إذ جاءتهم ريح فأماتتهم. وقيل: معنى « سجرت » : هو حمرة مائها، حتى تصير كالدم؛ مأخوذ من قولهم: عين سجراء: أي حمراء. وقرأ ابن كثير « سجرت » وأبو عمرو أيضا، إخبارا عن حالها مرة واحدة. وقرأ الباقون بالتشديد إخبارا عن حالها في تكرير ذلك منها مرة بعد أخرى.

 

قوله تعالى: « وإذا النفوس زوجت » قال النعمان بن بشير: قال النبي صلى الله عليه وسلم « وإذا النفوس زوجت » قال: ( يقرن كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون كعمله ) . وقال عمر بن الخطاب: يقرن الفاجر مع الفاجر، ويقرن الصالح مع الصالح. وقال ابن عباس: ذلك حين يكون الناس أزواجا ثلاثة، السابقون زوج - يعني صنفا - وأصحاب اليمين زوج، وأصحاب الشمال زوج. وعنه أيضا قال: زوجت نفوس المؤمنين بالحور العين، وقرن الكافر بالشياطين، وكذلك المنافقون وعنه أيضا: قرن كل شكل بشكله من أهل الجنة وأهل النار، فيضم المبرز في الطاعة إلى مثله، والمتوسط إلى مثله، وأهل المعصية إلى مثله؛ فالتزويج أن يقرن الشيء بمثله؛ والمعنى: وإذا النفوس قرنت إلى أشكالها في الجنة والنار. وقيل: يضم كل رجل إلى من كان يلزمه من ملك وسلطان، كما قال تعالى: « احشروا الذين ظلموا وأزواجهم » [ الصافات: 22 ] . وقال عبدالرحمن بن زيد: جعلوا أزواجا على أشباه أعمالهم ليس بتزويج، أصحاب اليمين زوج، وأصحاب الشمال زوج، والسابقون زوج؛ وقد قال جل ثناؤه: « احشروا الذين ظلموا وأزواجهم » [ الصافات: 22 ] أي أشكالهم. وقال عكرمة: « وإذا النفوس زوجت » قرنت الأرواح بالأجساد؛ أي ردت إليها. وقال الحسن: ألحق كل امرئ بشيعته: اليهود باليهود، والنصاري بالنصارى، والمجوس بالمجوس، وكل من كان يعبد شيئا من دون الله يلحق بعضهم ببعض، والمنافقون بالمنافقين، والمؤمنون بالمؤمنين. وقيل: يقرن الغاوي بمن أغواه من شيطان أو إنسان، على جهة البغض والعداوة، ويقرن المطيع بمن دعاه إلى الطاعة من الأنبياء والمؤمنين. وقيل: قرنت النفوس بأعمالها، فصارت لاختصاصها به كالتزويج.

 

قوله تعالى: « وإذا الموؤودة سئلت، بأي ذنب قتلت » الموؤودة المقتولة؛ وهي الجارية تدفن وهي حية، سميت بذلك لما يطرح عليها من التراب، فيوءدها أي يثقلها حتى تموت؛ ومنه قوله تعالى: « ولا يؤوده حفظهما » [ البقرة: 255 ] أي لا يثقله؛ وقال متمم بن نويرة:

وموؤودة مقبورة في مفازة بآمتها موسودة لم تمهد

وكانوا يدفنون بناتهم أحياء لخصلتين: إحداهما كانوا يقولون إن الملائكة بنات الله، فألحقوا البنات به. الثانية إما مخافة الحاجة والإملاق، وإما خوفا من السبي والاسترقاق. وقد مضى في سورة « النحل » هذا المعنى، عند قوله تعالى: « أم يدسه في التراب » [ النحل: 59 ] مستوفى. وقد كان ذوو الشرف منهم يمتنعون من هذا، ويمنعون منه، حتى افتخر به الفرزدق، فقال:

ومنا الذي منع الوائدات فأحيا الوئيد فلم يوأَد

يعني جده صعصعة كان يشتريهن من آبائهن. فجاء الإسلام وقد أحيا سبعين موؤودة. وقال ابن عباس: كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت حفرت حفرة، وتمخضت على رأسها، فإن ولدت جارية رمت بها في الحفرة، وردت التراب عليها، وإن ولدت غلاما حبسته، ومنه قوال الراجز: سميتها إذ ولدت تموت والقبر صهر ضامن زميت الزميت الوقور، والزميت مثال الفسيق أوقر من الزميت، وفلان أزمت الناس أي أوقرهم، وما أشد تزمته؛ عن الفراء. وقال قتادة: كانت الجاهلية يقتل أحدهم ابنته، ويغذو كلبه، فعاتبهم الله على ذلك، وتوعدهم بقوله: « وإذا الموؤودة سئلت » قال عمر في قوله تعالى: « وإذا الموؤودة سئلت » قال: جاء قيس بن عاصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني وأدت ثماني بنات كن لي في الجاهلية، قال: ( فأعتق عن كل واحدة منهن رقبة ) قال: يا رسول الله إني صاحب إبل، قال: ( فأهد عن كل واحدة منهن بدنة إن شئت ) .

وقوله تعالى: « سئلت » سؤال الموؤودة سؤال توبيخ لقاتلها، كما يقال للطفل إذا ضرب: لم ضربت؟ وما ذنبك؟ قال الحسن: أراد الله أن يوبخ قاتلها؛ لأنها قتلت بغير ذنب. وقال ابن أسلم: بأي ذنب ضربت، وكانوا يضربونها. وذكر بعض أهل العلم في قوله تعالى: « سئلت » قال: طلبت؛ كأنه يريد كما يطلب بدم القتيل. قال: وهو كقوله: « وكان عهد الله مسؤولا » [ الأحزاب: 15 ] أي مطلوبا. فكأنها طلبت منهم، فقيل أين أولادكم؟ وقرأ الضحاك وأبو الضحا عن جابر بن زيد وأبي صالح « وإذا الموؤودة سألت » فتتعلق الجارية بأبيها، فتقول: بأي ذنب قتلتني؟! فلا يكون له عذر؛ قال ابن عباس وكان يقرأ « وإذا الموؤودة سألت » وكذلك هو في مصحف أبي. وروى عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن المرأة التي تقتل ولدها تأتي يوم القيامة متعلقا ولدها بثدييها، ملطخا بدمائه، فيقول يا رب، هذه أمي، وهذه قتلتني ) . والقول الأول عليه الجمهور، وهو مئل قوله تعالى لعيسى: « أأنت قلت للناس » ، على جهة التوبيخ والتبكيت لهم، فكذلك سؤال الموؤودة توبيخ لوائدها، وهو أبلغ من سؤالها عن قتلها؛ لأن هذا مما لا يصح إلا بذنب، فبأي ذنب كان ذلك، فإذا ظهر أنه لا ذنب لها، كان أعظم في البلية وظهور الحجة على قاتلها. والله أعلم. وقرئ « قتلت » بالتشديد، وفيه دليل بين على أن أطفال المشركين لا يعذبون، وعلى أن التعذيب لا يستحق إلا بذنب.

 

قوله تعالى: « وإذا الصحف نشرت » أي فتحت بعد أن كانت مطوية، والمراد صحف الأعمال التي كتبت الملائكة فيها ما فعل أهلها من خير وشر، تطوي بالموت، وتنشر في يوم القيامة، فيقف كل إنسان على صحيفته، فيعلم ما فيها، فيقول: « مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها » [ الكهف: 49 ] . وروى مرثد بن وداعة قال: إذا كان يوم القيامة تطايرت الصحف من تحت العرش، فتقع صحيفة المؤمن في يده « في جنة عالية » [ الحاقة: 22 ] إلى قوله: « الأيام الخالية » [ الحاقة: 24 ] وتقع صحيفة الكافر في يده « في سموم وحميم » إلى قوله « ولا كريم » [ الواقعة: 42 ] . وروي عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة ) فقلت: يا رسول الله فكيف بالنساء؟ قال: ( شغل الناس يا أم سلمة ) . قلت: وما شغلهم؟ قال: ( نشر الصحف فيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل ) . وقد مضى في سورة « الإسراء » قول أبي الثوار العدوي: هما نشرتان وطية، أما ما حييت يا ابن آدم فصحيفتك المنشورة فأمل فيها ما شئت، فإذا مت طويت، حتى إذا بعثت نشرت « اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا » [ الإسراء: 14 ] . وقال مقاتل: إذا مات المرء طويت صحيفة عمله، فإذا كان يوم القيامة نشرت. وعن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا قرأها قال: إليك يساق الأمر يا ابن آدم. وقرأ نافع وابن عام وعاصم وأبو عمرو « نشرت » مخففة، على نشرت مرة واحدة، لقيام الحجة. الباقون بالتشديد، على تكرار النشر، للمبالغة في تقريع العاصي، وتبشير المطيع. وقيل: لتكرار ذلك من الإنسان والملائكة الشهداء عليه.

 

قوله تعالى: « وإذا السماء كشطت » الكشط: قلع عن شدة التزاق؛ فالسماء تكشط كما يكشط الجلد عن الكبش وغيره والقشط: لغة فيه. وفي قراءة عبدالله « وإذا السماء قشطت » وكشطت البعير كشطا: نزعت جلده ولا يقال سلخته؛ لأن العرب لا تقول في البعير إلا كشطته أو جلدته، وانكشط: أي ذهب؛ فالسماء تنزع من مكانها كما ينزع الغطاء عن الشيء. وقيل: تطوى كما قال تعالى: « يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب » [ الأنبياء: 104 ] فكأن المعنى: قلعت فطويت. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « وإذا الجحيم سعرت » أي أو قدت فأضرمت للكفار وزيد في إحمائها. يقال: سعرت النار وأسعرتها. وقراءة العامة بالتخفيف من السعير. وقرأ نافع وابن ذكوان ورويس بالتشديد لأنها أوقدت مدة بعد مرة. قال قتادة: سعرها غضب الله وخطايا بني آدم. وفي الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أوقد على النار ألف سنة حتى أحمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى أبيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى أسودت، فهي سوداء مظلمة « وروي موقوفا.»

 

قوله تعالى: « وإذا الجنة أزلفت » أي دنت وقربت من المتقين. قال الحسن: إنهم يقربون منها؛ لا أنها تزول عن موضعها. وكان عبدالرحمن بن زيد يقول: زينت: أزلفت؟ والزلفى في كلام العرب: القربة قال الله تعالى: « وأزلفت الجنة للمتقين » [ الشعراء:90 ] ، وتزلف فلان تقرب.

 

قوله تعالى: « علمت نفس ما أحضرت » يعني ما عملت من خير وشر. وهذا جواب « إذا الشمس كورت » وما بعدها. قال عمر رضي الله عنه لهذا أجري الحديث. وروي عن ابن عباس وعمر رضي الله عنهما أنهما قرآها، فلما بلغا « علمت نفس ما أحضرت » قالا لهذا أجريت القصة؛ فالمعنى على هذا إذا الشمس كورت وكانت هذه الأشياء، علمت نفس ما أحضرت من عملها. وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما منكم من أحد إلا وسيكلمه الله ما بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدمه [ وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم ] بين يديه، فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن: يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل ) وقال الحسن: « إذ الشمس كورت » وقع على قوله: « علمت نفس ما أحضرت » كما يقال: إذا نفر زيد نفر عمرو. والقول الأول أصح. وقال ابن زيد عن ابن عباس في قوله تعالى: « إذا الشمس كورت » إلى قوله: « وإذا الجنة أزلفت » اثنتا عشرة خصلة: ستة في الدنيا، وستة في الآخرة؛ وقد بينا الستة الأولى بقول أبي بن كعب.

 

الآيات: 15 - 22 ( فلا أقسم بالخنس، الجوار الكنس، والليل إذا عسعس، والصبح إذا تنفس، إنه لقول رسول كريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين، وما صاحبكم بمجنون )

 

قوله تعالى: « فلا أقسم » أي أقسم، و « لا » زائدة، كما تقدم. « بالخنس، الجوار الكنس » هي الكواكب الخمسة الدراري: زحل والمشتري وعطارد والمريخ والزهرة، فيما ذكر أهل التفسير. والله أعلم. وهو مروي عن علي كرم الله وجهه. وفي تخصيصها بالذكر من بين سائر النجوم وجهان: أحدهما: لأنها تستقبل الشمس؛ قاله بكر بن عبدالله المزني. الثاني: لأنها تقطع المجرة؛ قال ابن عباس. وقال الحسن وقتادة: هي النجوم التي تخنس بالنهار وإذا غربت، وقاله علي رضي الله عنه، قال: هي النجوم تخنس بالنهار، وتظهر بالليل؛ وتكنس في وقت غروبها؛ أي تتأخر عن البصر لخفائها، فلا ترى. وفي الصحاح: « الخنس » : الكواكب كلها. لأنها تخنس في آن قيب، أو لأنها تخنس نهارا. ويقال: هي الكواكب السيارة منها دون الثابتة. وقال الفراء في قوله تعالى: « فلا أقسم بالخنس. الجواري الكنس » : إنها النجوم الخمسة؛ زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد؛ لأنها تخنس في مجراها، وتكنس، أي تستتر كما تكنس الظباء في المغار، وهو الكناس. ويقال: سميت خنسا لتأخرها، لأنها الكواكب المتحيرة التي ترجع وتستقيم، يقال: خنس عنه يحنس بالضم خنوسا: تأخر، وأخنسه غيره: إذا خلفه ومضى عنه. والخنس تأخر الأنف عن الوجه مع ارتفاع قليل في الأرنبة، والرجل أخنس، والمرأة خنساء، والبقر كلها خنس. وقد روي عن عبدالله بن مسعود في قوله تعالى: « فلا أقسم بالخنس » هي بقر الوحش. روى هشيم عن زكريا عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل قال: قال لي عبدالله بن مسعود: إنكم قوم عرب فما الخنس؟ قلت: هي بقر الوحش؛ قال: وأنا أرى ذلك. وقال إبراهيم وجابر بن عبدالله. وروي عن ابن عباس: إنما أقسم الله ببقر الوحش. وروى عنه عكرمة قال: « الخنس » : البقر و « الكنس » : هي الظباء، فهي خنس إذا رأين الإنسان خنسن وأنقبضن وتأخرن ودخلن كناسهن. القشيري: وقيل على هذا « الخنس » من الخنس في الأنف، وهو تأخرن الأرنبة وقصر القصبة، وأنوف البقر والظباء خنس. والأصح الحمل على النجوم، لذكر الليل والصبح بعد هذا، فذكر النجوم أليق بذلك.

قلت: لله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته من حيوان وجماد، وإن لم يعلم وجه الحكمة في ذلك. وقد جاء عن ابن مسعود وجابر بن عبدالله وهما صحابيان والنخعي أنها بقر الوحش. وعن ابن عباس وسعيد بن جبير أنها الظباء. وعن الحجاج بن منذر قال: سألت جابر بن زيد عن الجواري الكنس، فقال: الظباء والبقر، فلا يبعد أن يكون المراد النجوم. وقد قيل: إنها الملائكة؛ حكاه الماوردي. والكنس الغيب؛ مأخوذة من الكناس، وهو كناس الوحش الذي يختفي فيه. قال أوس بن حجر:

ألم تر أن الله أنزل مزنه وغفر الظباء في الكناس تقمع

وقال طرفة:

كأن كناسي ضالة يكنفانها وأطرقسي تحت صلب مؤيد

وقيل: الكنوس أن تأوي إلى مكانسها، وهي المواضع التي تأوي إليها الوحوش والظباء. قال الأعشى في ذلك:

فلما أتينا الحي أتلع أنس كما أتلعت تحت المكانس ربرب

يقال: تلع. النهار ارتفع وأتلعت الظبية من كناسها: أي سمت بجيدها. وقال أمرو القيس:

تعشى قليلا ثم أنحى ظلوفه يثير التراب عن مبيت ومكنس

والكنس: جمع كانس وكانسة، وكذا الخنس جمع خانس وخانسة. والجواري: جمع جارية من جرى يجري. « والليل إذا عسعس » قال الفراء: أجمع المفسرون على أن معنى عسعس أدبر؛حكاه الجوهري. وقال بعض أصحابنا: إنه دنا من أوله وأظلم وكذلك السحاب إذا دنا من الأرض. المهدوي: « والليل إذا عسعس » أدبر بظلامه؛ عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وروي عنهما أيضا وعن الحسن وغيره: أقبل بظلامه. زيد بن أسلم: « عسعس » ذهب. الفراء: العرب تقول عسعس وسعسع إذا لم يبق منه إلا اليسير. الخليل وغيره: عسعس الليل إذا أقبل أو أدبر. المبرد: هو من الأضداد، والمعنيان يرجعان إلى شيء واحد، وهو ابتداء الظلام في أوله، وإدباره في آخره؛ وقال علقمة بن قرط:

حتى إذا الصبح لها تنفسا وأنجاب عنها ليلها وعسعسا

وقال روبة:

يا هند ما أسرع ما تسعسعا من بعد ما كان فتى سرعرعا

وهذه حجة الفراء. وقال امرؤ القيس:

عسعس حتى لو يشاء ادَّنا كان لنا من ناره مقبس

فهذا يدل على الدنو. وقال الحسن ومجاهد: عسعس: أظلم، قال الشاعر:

حتى إذا ما ليلهن عسعسا ركبن من حد الظلام حندسا

الماوردي: وأصل العس الامتلاء؛ ومنه قيل للقدح الكبير عس لامتلائه بما فيه، فأطلق على إقبال الليل لابتداء امتلائه؛ وأطلق على إدباره لانتهاء امتلائه على ظلامه؛ لاستكمال امتلائه به. وأما قول امرئ القيس.

ألما على الربع القديم بعسعسا

فموضع بالبادية. وعسعس أيضا اسم رجل؛ قال الرجز:

وعسعس نعم الفتى تبياه

أي تعتمده. ويقال للذئب العسعس والعسعاس والعساس؛ لأنه يعس بالليل ويطلب. ويقال للقنافذ العساعس لكثرة ترددها بالليل. قال أبو عمرو: والتعسعس الشم، وأنشد:

كمنخر الذنب إذا تعسعسا

والتعسعس أيضا: طلب الصيد [ بالليل ] .

 

قوله تعالى: « والصبح إذا تنفس » أي امتد حتى يصير نهارا واضحا؛ يقال للنهار إذا زاد: تنفس. وكذلك الموج إذا نضح الماء. ومعن التنفس: خروج النسيم من الجوف. وقيل: « إذا تنفس » أي انشق وانفلق؛ ومنه تنفست القوس أي تصدعت. « إنه لقول رسول كريم » هذا جواب القسم. والرسول الكريم جبريل؛ قال الحسن وقتادة والضحاك. والمعنى « إنه لقول رسول » عن الله « كريم » على الله. وأضاف الكلام إلى جبريل عليه السلام، ثم عداه عنه بقول « تنزيل من رب العالمين » [ الواقعة: 80 ] ليعلم أهل التحقيق في التصديق، أن الكلام لله عز وجل. وقيل: هو محمد عليه الصلاة والسلام « ذي قوة » من جعله جبريل فقوته ظاهرة فروى الضحاك عن ابن عباس قال: من قوته قلعه مدائن قوم لوط بقوادم جناحه. « عند ذي العرش » أي عند الله جل ثناؤه « مكين » أي ذي منزلة ومكانة؛ فروي عن أبي صالح قال: يدخل سبعين سرادقا بغير إذن. « مطاع ثم » أي في السموات؛ قال ابن عباس: من طاعة الملائكة جبريل، أنه لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم قال جبريل عليه السلام لرضوان خازن الجنان: افتح له، ففتح، فدخل ورأى ما فيها، وقال لمالك خازن النار: افتح له جهنم حتى ينظر إليها، فأطاعه وفتح له. « أمين » أي مؤتمن على الوحي الذي يجيء به. ومن قال: إن المراد محمد صلى الله عليه وسلم فالمعنى « ذي قوة » على تبليغ الرسالة « مطاع » أي يطيعه من أطاع الله جل وعز. « وما صاحبكم بمجنون » يعني محمدا صلى الله عليه وسلم بمجنون حتى يتهم في قول. وهو من جواب القسم. وقيل: أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يرى جبريل في الصورة التي يكون بها عند ربه جل وعز فقال: ما ذاك إلي؛ فإذن له الرب جل ثناؤه، فأتاه وقد سد الأفق، فلما نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم خر مغشيا عليه، فقال المشركون: إنه مجنون، فنزلت: « إنه لقول رسول كريم » « وما صاحبكم بمجنون » وإنما رأى جبريل على صورته فهابه، وورد عليه ما لم تحتمل بنيته، فخر مغشيا عليه.

 

الآيات: 23 - 29 ( ولقد رآه بالأفق المبين، وما هو على الغيب بضنين، وما هو بقول شيطان رجيم، فأين تذهبون، إن هو إلا ذكر للعالمين، لمن شاء منكم أن يستقيم، وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين )

 

قوله تعالى: « ولقد رآه بالأفق المبين » أي رأى جبريل في صورته، له ستمائة جناح. « بالأفق المبين » أي بمطلع الشمس من قبل المشرق؛ لأن هذا الأفق إذا كان منه تطلع الشمس فهو مبين. أي من جهته ترى الأشياء. وقيل: الأفق المبين: أقطار السماء ونواحيها؛ قال الشاعر:

أخذنا بآفاق السماء عليكم لنا قمراها والنجوم الطوالع

الماوردي: فعلى هذا، فيه ثلاثة أقاويل أحدها: أنه رآه في أفق السماء الشرقي؛ قاله سفيان. الثاني: في أفق السماء الغربي، حكاه ابن شجرة. الثالث: أنه رآه نحو أجياد، وهو مشرق مكة؛ قاله مجاهد. وحكى الثعلبي عن ابن عباس، قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل: « إني أحب أن أراك في صورتك التي تكون فيها في السماء » قال: لن تقدر على ذلك. قال: « بلى » قال: فأين تشاء أن أتخيل لك؟ قال: « بالأبطح » قال: لا يسعني. قال: « فبمنى » قال: لا يسعني. قال: « فبعرفات » قال: ذلك بالحري أن يسعني. قواعده فخرج صلى الله عليه وسلم للوقت، فإذا هو قد أقبل بخشخشة وكلكلة من جبال عرفات، قد ملأ ما بين المشرق والمغرب، ورأسه في السماء ورجلاه في الأرض، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم خر مغشيا عليه، فتحول جبريل في صورته، وضمه إلى صدره. وقال: يا محمد لا تخف؛ فكيف لو رأيت إسرافيل ورأسه من تحت العرش ورجلاه في تخوم الأرضى السابعة، وإن العرش على كاهله، وإنه ليتضاءل أحيانا من خشية الله، حتى يصير مثل الوصع - يعني العصفور حتى ما يحمل عرش ربك إلا عظمته. وقيل: إن محمدا عليه السلام رأى ربه عز وجل بالأفق المبين. وهو معنى قول ابن مسعود. وقد مضى القول في هذا في « والنجم » مستوفى، فتأمله هناك. وفي « المبين » قولان: أحدهما أنه صفة الأفق؛ قال الربيع. الثاني أنه صفة لمن رآه؛ قاله مجاهد. « وما هو على الغيب بظنين » : بالظاء، قراءة ابن كثير وأبي عمرو والكسائي، أي بمتهم، والظنة التهمة؛ قال الشاعر:

أما وكتاب الله لا عن سناءة هجرت ولكن الظنين ظنين

واختاره أبو عبيد؛ لأنهم لم يبخلوه ولكن كذبوه؛ ولأن الأكثر من كلام العرب: ما هو بكذا، ولا يقولون: ما هو على كذا، إنما يقولون: ما أنت على هذا بمتهم. وقرأ الباقون « بضنين » بالضاد: أي ببخيل من ضننت بالشيء أضن ضنا [ فهو ] ضنين. فروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: لا يضن عليكم بما يعلم، بل يعلم الخلق كلام الله وأحكامه. وقال الشاعر:

أجود بمكنون الحديث وإنني بسرك عمن سالني لضنين

والغيب: القرآن وخبر السماء. ثم هذا صفة محمد عليه السلام. وقيل: صفة جبريل عليه السلام. وقيل: بظنين: بضعيف. حكاه الفراء والمبرد؛ يقال: رجل ظنين: أي ضعيف. وبئر ظنون: إذا كانت قليلة الماء؛ قال الأعشى:

ما جعل الجد الظنون الذي جنب صوب اللجب الماطر

مثل الفراتي إذا ما طما يقذف بالبوصي والماهر

والظنون: الدين الذي لا يدري أيقضيه آخذه أم لا؟ ومنه حديث علي عليه السلام في الرجل يكون له الدين الظنون، قال: يزكيه لما مضى إذا قبضه إن كان صادقا. والظنون: الرجل السيء الخلق؛ فهو لفظ مشترك.

 

قوله تعالى: « وما هو » يعني القرآن « بقول شيطان رجيم » أي مرجوم ملعون، كما قالت قريش. قال عطاء: يريد بالشيطان الأبيض الذي كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة جبريل يريد أن يفتنه. « فأين تذهبون » قال قتادة: فإلى أين تعدلون عن هذا القول وعن طاعته. كذا روى معمر عن قتادة؛ أي أين تذهبون عن كتابي وطاعتي. وقال الزجاج: فأي طريقة تسلكون أبين من هذه الطريقة التي بينت لكم. ويقال: أين تذهب؟ وإلى أين تذهب؟ وحكى الفراء عن العرب: ذهبت الشام وخرجت العراق وانطلقت السوق: أي إليها. قال: سمعناه في هذه الأحرف الثلاثة؛ وأنشدني بعض بني عقيل:

تصيح بنا حنيفة إذ رأتنا وأي الأرض تذهب بالصياح

يريد إلى أي أرض تذهب، فحذف إلى. وقال الجنيد: معنى الآية مقرون بآية أخرى؛ وهي قوله تعالى: « وإن من شيء إلا عندنا خزائنه » [ الحجر: 21 ] المعنى: أي طريق تسلكون أبين من الطريق الذي بينه الله لكم. وهذا معنى قول الزجاج. « إن هو » يعني القرآن « إلا ذكر للعالمين » أي موعظة وزجر. و « إن » بمعنى « ما » . وقيل: ما محمد إلا ذكر. « لمن شاء منكم أن يستقيم » أي يتبع الحق ويقيم عليه. وقال أبو هريرة وسليمان بن موسى: لما نزلت « لمن شاء منكم أن يستقيم » قال أبو جهل: الأمر إلينا، إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم - وهذا هو القدر؛ وهو رأس القدرية - فنزلت: « وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين » ، فبين بهذا أنه لا يعمل العبد خيرا إلا بتوفيق الله، ولا شرا إلا بخذلانه. وقال الحسن: والله ما شاءت العرب الإسلام حتى شاءه الله لها. وقال وهب بن منبه: قرأت في سبعة وثمانين كتابا مما أنزل الله على الأنبياء: من جعل إلى نفسه شيئا من المشيئة فقد كفر. وفي التنزيل: « ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله » [ الأنعام: 111 ] . وقال تعالى: « وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله » [ يونس: 100 ] . وقال تعالى: « إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء » [ القصص: 56 ] والآي في هذا كثير، وكذلك الأخبار، وأن الله سبحانه هدى بالإسلام، وأضل بالكفر، كما تقدم في غير موضع. ختمت السورة والحمد لله.

 

سورة الإنفطار

 

الآيات: 1 - 5 ( إذا السماء انفطرت، وإذا الكواكب انتثرت، وإذا البحار فجرت، وإذا القبور بعثرت، علمت نفس ما قدمت وأخرت )

 

قوله تعالى: « إذا السماء انفطرت » أي تشققت بأمر الله؛ لنزول الملائكة؛ كقول: « ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا » [ الفرقان: 25 ] . وقيل: تفطرت لهيبة الله تعالى. والفطر: الشق؛ يقال: فطرته فانفطر؛ ومنه فطر ناب البعير: طلع، فهو بعير فاطر، وتفطر الشيء: شقق، وسيف فطار أي فيه شقوق؛ قال عنترة:

وسيفي كالعقيقة وهو كمعي سلاحي لا أفل ولا فطارا

وقد تقدم في غير موضع. « وإذا الكواكب انتثرت » أي تساقطت؛ نثرت الشيء أنثره نثرا، فانتثر،والاسم النثار. والنثار بالضم: ما تناثر من الشيء، ودر منثر، شدد للكثرة. « وإذا البحار فجرت » أي فجر بعضها في بعض، فصارت بحرا واحدا، على ما تقدم. قال الحسن: فجرت: ذهب ماؤها ويبست؛ وذلك أنها أولا راكدة مجتمعة؛ فإذا فجرت تفرقت، فذهب ماؤها. وهذه الأشياء بين يدي الساعة، على ما تقدم في « إذا الشمس كورت » [ التكوير: 1 ] . « وإذا القبور بعثرت » أي قلبت وأخرج ما فيها من أهلها أحياء؛ يقال: بعثرت المتاع: قلبته ظهرا لبطن، وبعثرت الحوض وبحثرته: إذا هدمته وجعلت أسفله أعلاه. وقال قوم منهم الفراء: « بعثرت » : أخرجت ما في بطنها من الذهب والفضة. وذلك من أشراط الساعة: أن تخرج الأرض ذهبها وفضتها. « علمت نفس ما قدمت وأخرت » مثل: « ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر » [ القيامة: 13 ] . وتقدم. وهذا جواب « إذا السماء أنفطرت » لأنه قسم في قول الحسن وقع على قوله تعالى: « علمت نفس » يقول: إذا بدت هذه الأمور من أشراط الساعة ختمت الأعمال فعلمت كل نفس ما كسبت؛ فإنها لا ينفعها عمل بعد ذلك. وقيل: أي إذا كانت هذه الأشياء قامت القيامة، فحوسبت كل نفس بما عملت، وأوتيت كتابها بيمينها أو بشمالها، فتذكرت عند قراءته جميع أعمالها. وقيل: هو خبر، وليس بقسم، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى.

 

الآيات: 6 - 9 ( يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم، الذي خلقك فسواك فعدلك، في أي صورة ما شاء ركبك، كلا بل تكذبون بالدين )

 

قوله تعالى: « يا أيها الإنسان » خاطب بهذا منكري البعث. وقال ابن عباس: الإنسان هنا: الوليد بن المغيرة. وقال عكرمة: أبي بن خلف. وقيل: نزلت في أبي الأشد بن كلدة الجمحي. عن ابن عباس أيضا: « ما غرك بربك الكريم » أي ما الذي غرك حتى كفرت؟ « بربك الكريم » أي المتجاوز عنك. قال قتادة: غرة شيطانه المسلط عليه. الحسن: غرة شيطانه الخبيث. وقيل: حمقه وجهله. رواه الحسن عن عمر رضي الله عنه. وروى غالب الحنفي قال: لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم « يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم » [ الانفطار: 6 ] قال: « غره الجهل » وقال صالح بن مسمار: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه قرأ « يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم » ؟ فقال: « غره جهله » . وقال عمر رضي الله عنه: كما قال الله تعالى « إنه كان ظلوما جهولا » [ الأحزاب: 72 ] . وقيل: غره عفو الله، إذ لم يعاقبه في أول مرة. قال إبراهيم بن الأشعث: قيل: للفضيل بن عياض: لو أقامك الله تعالى يوم القيامة بين يديه، فقال لك: « ما غرك بربك الكريم » ؟ [ الانفطار: 6 ] ماذا كنت تقول؟ قال: كنت أقول غرني ستورك المرخاة، لأن الكريم هو الستار. نظمه ابن السماك فقال:

يا كاتم الذنب أما تستحي والله في الخلوة ثانيكا

غرك من ربك إمهاله وستره طول مساويكا

وقال ذو النون المصري: كم من مغرور تحت الستر وهو لا يشعر

وأنشد أبو بكر بن طاهر الأبهري:

يا من غلا في العجب والتيه وغره طول تماديه

أملى لك الله فبارزته ولم تخف غب معاصيه

وروي عن علي رضي الله عنه أنه صاح بغلام له مرات فلم يلبه فنظر فإذا هو بالباب، فقال: مالك لم تجبني؟ فقال. لثقتي بحلمك، وأمني من عقوبتك. فاستحسن جوابه فأعتقه. وناس يقولون: ما غرك: ما خدعك وسول لك حتى أضعت ما وجب عليك؟ وقال ابن مسعود: ما منكم من أحد إلا وسيخلو الله به يوم القيامة، فيقول له: يا ابن آدم ماذا غرك بي؟ يا ابن آدم ماذا عملت فيما علمت؟ يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟ « الذي خلقك » أي قدر خلقك من نطفة « فسواك » في بطن أمك، وجعل لك يدين ورجلين وعينين وسائر أعضائك « فعدلك » أي جعلك معتدلا سوى الخلق؛ كما يقال: هذا شيء معدل. وهذه قراءة العامة وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم؛ قال الفراء: وأبو عبيد: يدل عليه قوله تعالى: « لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم » [ التين: 4 ] . وقرأ الكوفيون: عاصم وحمزة والكسائي: « فعدلك » مخففا أي: أمالك وصرفك إلى أي صورة شاء، إما حسنا وإما قبيحا، وإما طويلا وإما قصيرا. وقال [ موسى بن علي بن أبي رباح اللخمي عن أبيه عن جده ] قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم « إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم » . أما قرأت هذه الآية « في أي صورة ما شاء ركبك » فيما بينك وبين آدم، وقال عكرمة وأبو صالح: « في أي صورة ما شاء ركبك » إن شاء في صورة إنسان، وإن شاء في صورة حمار، وإن شاء في صورة قرد، وإن شاء في صورة خنزير. وقال مكحول: إن شاء ذكرا، وإن شاء أنثى. قال مجاهد: « في أي صورة » أي في أي شبه من أب أو أم أو عم أو خال أو غيرهم. و « في » متعلقة بـ « ركب » ، ولا تتعلق بـ « عدلك » ، على قراءة من خفف؛ لأنك تقول عدلت إلى كذا، ولا تقول عدلت في كذا؛ ولذلك منع الفراء التخفيف؛ لأنه قدر « في » متعلقة بـ « عدلك » ، و « ما » يجوز أن تكون صلة مؤكدة؛أي في أي صورة شاء ركبك. ويجوز أن تكون شرطية أي إن شاء ركبك في غير صورة الإنسان من صورة قرد أو حمار أو خنزير، فـ « ما » بمعنى الشرط والجزاء؛ أي في صورة ما شاء يركبك ركبك.

 

قوله تعالى: « كلا بل تكذبون بالدين » يجوز أن تكون « كلا » بمعنى حقا و « ألا » فيبتدأ بها. ويجوز أن تكون بمعنى « لا » ، على أن يكون المعنى ليس الأمر كما تقولون من أنكم في عبادتكم غير الله محقون. يدل على ذلك قوله تعالى: « ما غرك بربك الكريم » [ الانفطار: 6 ] وكذلك يقول الفراء: يصير المعنى: ليس كما غررت به. وقيل: أي ليس الأمر كما يقولون، من أنه لا بعث. وقيل: هو بمعنى الردع والزجر. أي لا وقتروا بحلم الله وكرمه، فتتركوا التفكر في آياته. ابن الأنباري: الوقف الجيد على « الدين » ، وعلى « ركبك » ، والوقف على « كلا » قبيح. « بل تكذبون » يا أهل مكة « بالدين » أي بالحساب، و « بل » لنفي شيء تقدم وتحقيق غيره. وإنكارهم للبعث كان معلوما، وإن لم يجر له ذكر في هذه السورة.

 

الآيات: 10 - 12 ( وإن عليكم لحافظين، كراما كاتبين، يعلمون ما تفعلون )

 

قوله تعالى: « وإن عليكم لحافظين » أي رقباء من الملائكة « كراما » أي علي؛ كقوله: « كرام بررة » [ عبس: 16 ] . وهنا ثلاث مسائل:

الأولى: روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أكرموا الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند حدى حالتين: الخراءة أو الجماع، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر بجرم [ حائط ] أو بغيره، أو ليستره أخوه ) . وروي عن علي رضي الله عنه قال: ( لا يزال الملك موليا عن العبد ما دام بادي العورة ) وروي ( إن العبد إذا دخل الحمام بغير مئزر لعنه ملكاه ) .

الثانية: واختلف الناس في الكفار هل عليهم حفظة أم لا؟ فقال بعضهم: لا؛ لأن أمرهم ظاهر، وعملهم واحد؛ قال الله تعالى: « يعرف المجرمون بسيماهم » [ الرحمن: 41 ] . وقيل: بل عليهم حفظة؛ لقوله تعالى: « كلا بل تكذبون بالدين. وإن عليكم لحافظين. كراما كاتبين. يعلمون ما تفعلون » [ الانفطار: 9 - 12 ] . وقال: « وأما من أوتي كتابه بشمال » [ الحاقة: 25 ] وقال: « وأما من أوتي كتابه وراء ظهره » [ الإنشقاق:10 ] ، فأخبر أن الكفار يكون لهم كتاب، ويكون عليهم حفظة. فإن قيل: الذي على يمينه أي شيء يكتب ولا حسنة له؟ قيل له: الذي يكتب عن شمال يكون بإذن صاحبه، ويكون شاهدا على ذلك وإن لم يكتب. والله أعلم.

الثالثة: سئل سفيان: كيف تعلم الملائكة أن العبد قد هم بحسنة أو سيئة؟ قال: إذا هم العبد بحسنة وجدوا منه ريح المسك، وإذا هم بسيئة وجدوا منه ريح النتن. وقد مضى في « ق » قوله: « ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد » [ ق: 18 ] زيادة بيان لمعنى هذه الآية. وقد كره العلماء الكلام عن الغائط والجماع، لمفارقة الملك العبد عند ذلك. وقد مضى في آخر « آل عمران » القول في هذا. وعن الحسن: يعلمون لا يخفى عليهم شيء من أعمالكم. وقيل: يعلمون ما ظهر منكم دون ما حدثتم به أنفسكم. والله أعلم.

 

الآيات: 13 - 19 ( إن الأبرار لفي نعيم، وإن الفجار لفي جحيم، يصلونها يوم الدين، وما هم عنها بغائبين، وما أدراك ما يوم الدين، ثم ما أدراك ما يوم الدين، يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله )

 

قوله تعالى: « إن الأبرار لفي نعيم. وإن الفجار لفي جحيم » تقسيم مثل قوله: « فريق في الجنة وفريق في السعير » [ الشورى: 7 ] وقال: « يومئذ يصدعون » [ الروم: 43 ] الآيتين. « يصلونها » أي يصيبهم لهبها وحرها « يوم الدين » أي يوم الجزاء والحساب، وكرر ذكره تعظيما لشأنه؛ نحو قوله تعالى: « القارعة ما القارعة. وما أدراك ما القارعة » [ القارعة: 1 ] وقال ابن عباس فيما روي عنه: كل شيء من القرآن من قوله: « وما أدراك » فقد أدراه. وكل شيء من قوله « وما يدريك » فقد طوي عنه. « يوم لا تملك نفس » قرأ ابن كثير وأبو عمرو « يوم » بالرفع على البدل من « يوم الدين » أو ردا على اليوم الأول، فيكون صفة ونعتا لـ « يوم الدين » . ويجوز أن يرفع بإضمار هو. الباقون بالنصب على أنه في موضع رفع إلا أنه، نصب، لأنه مضاف غير متمكن؛ كما تقول: أعجبني يوم يقوم زيد. وأنشد المبرد:

من أي يومي من الموت أفر أيومَ لم يقدر أم يوم قدر

فاليومان الثانيان مخفوضان بالإضافة، عن الترجمة عن اليومين الأولين، إلا أنهما نصبا في اللفظ؛ لأنهما أضيفا إلى غير محض. وهذا اختيار الفراء والزجاج. وقال قوم: اليوم الثاني منصوب على المحل، كأنه قال في يوم لا تملك نفس لنفس شيئا. وقيل: بمعنى: إن هذه الأشياء تكون يوم، أو على معنى يدانون يوم؛ لأن الدين يدل عليه، أو بإضمار اذكر. « والأمر يومئذ لله » لا ينازعه فيه أحد، كما قال: « لمن الملك اليوم لله الواحد القهار. اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم » [ غافر:17 ] . تمت السورة والحمد لله.

 

سورة المطففين

 

الآيات: 1 - 3 ( ويل للمطففين، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون )

 

روى النسائي عن ابن عباس قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا، فأنزل الله تعالى: « ويل للمطففين » فأحسنوا الكيل بعد ذلك. قال الفراء: فهم من أوفى الناس كيلا إلى يومهم هذا. وعن ابن عباس أيضا قال: هي: أول سورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة نزل المدينة، وكان هذا فيهم؛ كانوا إذا اشتروا استوفوا بكيل راجح، فإذا باعوا بخسوا المكيال والميزان، فلما نزلت هذه السورة انتهوا، فهم أو في الناس كيلا إلى يومهم هذا. وقال قوم: نزلت في رجل يعرف بأبي جهينة، واسمه عمرو؛ كان له صاعان يأخذ بأحدهما، ويعطي بالآخر؛ قال أبو هريرة رضي الله عنه.

 

قوله تعالى: « ويل » أي شدة عذاب في الآخرة. وقال ابن عباس: إنه واد في جهنم يسيل فيه صديد. أهل النار، فهو قوله تعالى: « ويل للمطففين » أي الذين ينقصون مكاييلهم وموازينهم. وروي عن ابن عمر قال: المطفف: الرجل يستأجر المكيال وهو يعلم أنه يحيف في كيله فوزره عليه. وقال آخرون: التطفيف في الكيل والوزن والوضوء والصلاة والحديث. في الموطأ قال مالك: ويقال لكل شيء وفاء وتطفيف. وروى عن سالم ابن أبي الجعد قال: الصلاة بمكيال، فمن أوفى له ومن طفف فقد علمتم ما قال الله عز وجل في ذلك: « ويل للمطففين » .

 

قال أهل اللغة: المطفف مأخوذ من الطفيف، وهو القليل، والمطفف هو المقل حق صاحبه بنقصانه عن الحق، في كيل أو وزن. وقال الزجاج: إنما قيل للفاعل من هذا مطفف؛ لأنه لا يكاد يسرق من المكيال والميزان إلا الشيء الطفيف الخفيف، وإنما أخذ من طف الشيء وهو جانبه. وطفاف المكوك وطفافه بالكسر والفتح: ما ملا أصباره، وكذلك طف المكوك وطففه؛ وفي الحديث: ( كلكم بنو آدم طف الصاع لم تملؤوه ) . وهو أن يقرب أن يمتلئ فلا يفعل، والمعنى بعضكم من بعض قريب، فليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى. والطفاف والطفافة بالضم: ما فوق المكيال. وإناء طفاف: إذا بلغ الملء طفافه؛ تقول منه: أطففت. والتطفيف: نقص المكيال وهو ألا تملأه إلى أصباره، أي جوانبه؛ يقال: أدهقت الكأس إلى أصبارها أي إلى رأسها. وقول ابن عمر حين ذكر النبي صلى الله عليه وسلم سبق الخيل: كنت فارسا يومئذ فسبقت الناس حتى طفف بي الفرس مسجد بني زريق، حتى كاد يساوي المسجد. يعني: وثب بي.

 

المطفف: هو الذي يخسر في الكيل والوزن، ولا يوفي حسب ما بيناه؛ وروى ابن القاسم عن مالك: أنه قرأ « ويل للمطففين » فقال: لا تطفف ولا تخلب، ولكن أرسل وصب عليه صبا، حتى إذا استوفى أرسل يدك ولا تمسك. وقال عبدالملك بن الماجشون: نهى، رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسح الطفاف، وقال: إن البركة في رأسه. قال: وبلغني أن كيل فرعون كان مسحا بالحديد.

 

قوله تعالى: « الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون » قال الفراء: أي من الناس يقال: اكتلت منك: أي استوفيت منك ويقال أكتلت ما عليك: أي أخذت ما عليك. وقال الزجاج: أي إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل؛ والمعنى: الذين إذا استوفوا أخذوا الزيادة، وإذا أوفوا أو وزنوا لغيرهم نقصوا، فلا يرضون للناس ما يرضون لأنفسهم. الطبري: « على » بمعنى عند.

 

قوله تعالى: « وإذا كالوهم أو وزنوهم » : أي كالوا لهم أو وزنوا لهم فحذفت اللام، فتعدى الفعل فنصب؛ ومثله نصحتك ونصحت لك، وأمرتك به وأمرتكه؛ قاله الأخفش والفراء. قال الفراء: وسمعت أعرابية تقول إذا صدر الناس أتينا التاجر فيكيلنا المد والمدين إلى الموسم المقبل. وهو من كلام أهل الحجاز ومن جاورهم من قيس. قال الزجاج: لا يجوز الوقف على « كالوا » و « وزنوا » حتى تصل به « هم » قال: ومن الناس من يجعلها توكيدا، ويجيز الوقف على « كالوا » و « وزنوا » والأول الاختيار؛ لأنها حرف واحد. وهو قول الكسائي. قال أبو عبيد: وكان عيسى بن عمر يجعلها حرفين، ويقف على « كالوا » و « وزنوا » ويبتدئ « هم يخسرون » قال: وأحسب قراءة حمزة كذلك أيضا. قال أبو عبيد: والاختيار أن يكونا كلمة واحدة من جهتين: إحداهما: الخط؛ وذلك أنهم كتبوهما بغير ألف، ولو كانتا مقطوعتين لكانتا « كالوا » و « وزنوا » بالألف، والأخرى: أنه يقال: كلتك ووزنك بمعنى كلت لك، ووزنت لك، وهو كلام عربي؛ كما يقال: صدتك وصدت لك، وكسبتك وكسبت لك، وكذلك شكرتك ونصحتك ونحو ذلك. قوله: « يخسرون » : أي ينقصون؛ والعرب تقول: أخسرت الميزان وخسرته. و ( هم ) في موضع نصب، على قراءة العامة، راجع إلى الناس، تقديره ( وإذا كانوا ) الناس ( أو وزنوهم يخسرون ) وفيه وجهان: أحدهما أن يراد كالوا لهم أو وزنوا لهم، فحذف الجار، وأوصل الفعل، كما قال:

ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا ولقد نهيتك عن بنات الأوبر

أراد: جنيت لك، والوجه الآخر: أن يكون على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، والمضاف هو المكيل والموزون. وعن ابن عباس رضي الله عنه: إنكم معاشر الأعاجم وليتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم: المكيال والميزان. وخص الأعاجم، لأنهم كانوا يجمعون الكيل والوزن جميعا، وكانا مفرقين في الحرمين؛ كان أهل مكة يزنون، وأهل المدينة يكيلون. وعلى القراءة الثانية « هم » في موضع رفع بالابتداء؛ أي وإذا كالوا للناس أو وزنوا لهم فهم يخسرون. ولا يصح؛ لأنه تكون الأولى ملغاة، ليس لها خبر، وإنما كانت تستقيم لو كان بعدها: وإذا كالوا هم ينقصون، أو وزنوا هم يخسرون.

الثانية: قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( خمس بخمس: ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم، ولا حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت الفاحشة فيهم إلا ظهر فيهم الطاعون، وما طففوا الكيل إلا منعوا النبات، وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس الله عنهم المطر ) خرجه أبو بكر البزار بمعناه، ومالك بن أنس أيضا من حديث ابن عمر. وقد ذكرناه في كتاب التذكرة. وقال مالك بن دينار: دخلت على جار لي قد نزل به الموت، فجعل يقول: جبلين من نار، جبلين من نار فقلت: ما تقول؟ أتهجر؟ قال: يا أبا يحيى، كان لي مكيالان، أكيل بأحدهما، كلما ضربت أحدهما بالآخر آزداد عظما، فمات من وجعه. وقال عكرمة: أشهد على كل كيال أو وزان أنه في النار. قيل له: فإن ابنك كيال أو وزان. فقال: أشهد أنه في النار. قال الأصمعي: وسمعت أعرابية تقول: لا تلتمس المروءة ممن مروءته في رؤوس المكاييل، ولا ألسنة الموازين. وروي ذلك عن علي رضي الله عنه، وقال عبد خير: مر علي رضي الله عنه على رجل وهو يزن الزعفران وقد أرجح، فأكفأ الميزان، ثم قال: أقم الوزن بالقسط؛ ثم أرجح بعد ذلك ما شئت. كأنه أمره بالتسوية أولا ليعتادها، ويفضل الواجب من النفل. وقال نافع: كان ابن عمر يمر بالبائع فيقول: أتق الله وأوف الكيل والوزن بالقسط، فإن المطففين يوم القيامة يوقفون حتى إن العرق ليلجمهم إلى أنصاف آذانهم. وقد روي أن أبا هريرة قدم المدينة وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة، فقال أبو هريرة: فوجدناه في صلاة الصبح فقرأ في الركعة الأولى « كهيعص » وقرأ في الركعة الثانية « ويل للمطففين » قال أبو هريرة: فأقول في صلاتي: ويل لأبي فلان، كان له مكيالان إذا أكتال أكتال بالوافي، وإذا كال كال بالناقص.

 

الآيات: 4 - 6 ( أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّب?عُوثُونَ، لِيَو?مٍ عَظِيمٍ، يَو?مَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ ال?عَالَمِينَ )

 

قوله تعالى: « ألا يظن أولئك » إنكار وتعجيب عظيم من حالهم، في الاجتراء على التطفيف، كأنهم لا يخطرون التطفيف ببالهم، ولا يخمنون تخمينا « أنهم مبعوثون » فمسؤولون عما يفعلون. والظن هنا بمعنى اليقين؛ أي ألا يوقن أولئك، ولو أيقنوا ما نقصوا في الكيل والوزن. وقيل: الظن بمعنى التردد، أي إن كانوا لا يستيقنون بالبعث، فهلا ظنوه، حتى يتدبروا ويبحثوا عنه، ويأخذوا بالأحوط « ليوم عظيم » شأنه وهو يوم القيامة.

 

قوله تعالى: « يوم يقوم الناس » العامل في « يوم » فعل مضمر، دل عليه « مبعوثون » والمعنى يبعثون « يوم يقوم الناس لرب العالمين » . ويجوز أن يكون بدلا من يوم في « ليوم عظيم » ، وهو مبني. وقيل: هو في موضع خفض؛ لأنه أضيف إلى غير متمكن. وقيل: هو منصوب على الظرف أي في يوم، ويقال: أقم إلى يوم يخرج فلان، فتنصب يوم، فإن أضافوا إلى الاسم فحينئذ يخفضون ويقولون: أقم إلى يوم خروج فلان. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، التقدير إنهم مبعوثون يوم يقوم الناس لرب العالمين ليوم عظيم.

 

وعن عبدالملك بن مروان: أن أعرابيا قال لي: قد سمعت ما قال الله تعالى في المطففين؛ أراد بذلك أن المطففين قد توجه عليهم هذا الوعيد العظيم الذي سمعت به، فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن. وفي هذا الإنكار والتعجيب وكلمة الظن، ووصف اليوم بالعظيم، وقيام الناس فيه لله خاضعين، ووصف ذاته برب العالمين، بيان بليغ لعظم الذنب، وتفاقم الإثم في التطفيف، وفيما كان في مثل حاله من الحيف، وترك القيام بالقسط، والعمل على التسوية والعدل، في كل أخذ وإعطاء، بل في كل قول وعمل.

 

قرأ ابن عمر: « ويل للمطففين » حتى بلغ « يوم يقوم الناس لرب العالمين » فبكى حتى سقط، وامتنع من قراءة ما بعده، ثم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( يوم يقوم الناس لرب العالمين، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، فمنهم من يبلغ العرق كعبيه، ومنهم من يبلغ ركبتيه، ومنهم من يبلغ حقويه، ومنهم من يبلغ صدره، ومنهم من يبلغ أذنيه، حتى إن أحدهم ليغيب في رشحه كما يغيب الضفدع ) . وروى ناس عن ابن عباس قال: يقومون مقدار ثلثمائة سنة. قال: ويهون على المؤمنين قدر صلاتهم الفريضة. وروي عن عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يقومون ألف عام في الظلة ) . وروى مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يوم يقوم الناس لرب العالمين حتى إن أحدهم ليقوم في رشحه إلى أنصاف أذنيه ) . وعنه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( يقوم مائة سنة ) . وقال أبو هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم لبشير الغفاري: ( كيف أنت صانع في يوم يقوم الناس فيه مقدار ثلثمائة سنة لرب العالمين، لا يأتيهم فيه خبر، ولا يؤمر فيه بأمر ) قال بشير: المستعان الله.

قلت: قد ذكرناه مرفوعا من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنه ليخفف عن المؤمن، حتى يكون أخف عليه من صلاة المكتوبة يصليها في الدنيا ) في « سأل سائل » [ المعارج: 1 ] . وعن ابن عباس: يهون على المؤمنين قدر صلاتهم الفريضة. وقيل: إن ذلك المقام على المؤمن كزوال الشمس؛ والدليل على هذا من الكتاب قول الحق: « ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون » [ يونس: 62 ] ثم وصفهم فقال: « الذين آمنوا وكانوا يتقون » [ يونس: 63 ] جعلنا الله منهم بفضله وكرمه وجوده. ومنه أمين. وقيل: المراد بالناس جبريل عليه السلام يقوم لرب العالمين؛ قال ابن جبير وفيه بعد؛ لما ذكرنا من الأخبار في ذلك، وهي صحيحة ثابتة، وحسبك بما في صحيح مسلم، والبخاري والترمذي من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم « يوم يقوم الناس لرب الله العالمين » قال: ( يقوم أحدهم في رشحه إلى نصف أذنيه ) . ثم قيل: هذا القيام يوم يقومون من قبورهم. وقيل: في الآخرة بحقوق عباده في الدنيا. وقال يزيد الرشك: يقومون بين يديه للقضاء.

 

القيام لله رب العالمين سبحانه حقير بالإضافة إلى عظمته وحقه، فأما قيام الناس بعضهم لبعض فاختلف فيه الناس؛ فمنهم من أجازه، ومنهم من منعه. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قام إلى جعفر بن أبي طالب واعتنقه، وقام طلحة لكعب بن مالك يوم تيب عليه. وقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار حين طلع عليه سعد بن معاذ: ( قوموا إلى سيدكم ) . وقال أيضا: ( من سره أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار ) . وذلك يرجع إلى حال الرجل ونيته، فإن أنتظر ذلك وأعتقده لنفسه، فهو ممنوع، وإن كان على طريق البشاشة والوصلة فإنه جائز، وخاصة عند الأسباب، كالقدوم من السفر ونحوه. وقد مضى في آخر سورة « يوسف » شيء من هذا.

 

الآيات: 7 - 13 ( كلا إن كتاب الفجار لفي سجين، وما أدراك ما سجين، كتاب مرقوم، ويل يومئذ للمكذبين، الذين يكذبون بيوم الدين، وما يكذب به إلا كل معتد أثيم، إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين )

 

قوله تعالى: « كلا إن كتاب الفجار لفي سجين » قال قوم من أهل العلم بالحربية: « كلا » ردع وتنبيه، أي ليس الأم على ما هم عليه من تطفيف الكيل والميزان، أو تكذيب بالآخرة، فليرتدعوا عن ذلك. فهي كلمة ردع وزجر، ثم استأنف فقال: « إن كتاب الفجار » . وقال الحسن: « كلا » بمعنى حقا. وروى ناس عن ابن عباس « كلا » قال: ألا تصدقون؛ فعلى هذا: الوقف « لرب العالمين. وفي تفسير مقاتل: إن أعمال الفجار. وروى ناس عن ابن عباس قال: إن أرواح الفجار وأعمالهم » لفي سجين « . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: سجين صخرة تحت الأرض السابعة، تقلب فيجعل كتاب الفجار تحتها. ونحوه عن ابن عباس وقتادة وسعيد بن جبير ومقاتل وكعب؛ قال كعب: تحتها أرواح الكفار تحت خد إبليس. وعن كعب أيضا قال: سجين صخرة سوداء تحت الأرض السابعة، مكتوب فيها اسم كل شيطان، تلقى أنفس، الكفار عندها. وقال سعيد بن جبير: سجين تحت خد إبليس. يحيى بن سلام: حجر أسود تحت الأرض، يكتب فيه أرواح الكفار. وقال عطاء الخراساني: هي الأرض السابعة السفلى، وفيها إبليس وذريته. وعن ابن عباس قال: إن الكافر يحضره الموت، وتحضره رسل الله، فلا يستطيعون لبغض الله له وبغضهم إياه، أن يؤخروه ولا يعجلوه حتى تجيء ساعته، فإذا جاءت ساعته قبضوا نفسه، ورفعوه إلى ملائكة العذاب، فأروه ما شاء الله أن يروه من الشر، ثم هبطوا به إلى الأرض السابعة، وهي سجين، وهي آخر سلطان إبليس، فأثبتوا فيها كتابه. وعن كعب الأحبار في هذه الآية قال: إن روح الفاجر إذا قبضت يصعد بها إلى السماء، فتأبى السماء أن تقبلها، ثم يهبط بها إلى الأرض، فتأبى الأرض أن تقبلها، فتدخل في سبع أرضين، حتى ينتهى بها إلى سجين، وهو خد إبليس. فيخرج لها من سجين من تحت خد إبليس رق، فيرقم فيوضع تحت خد إبليس. وقال الحسن: سجين في الأرض السابعة. وقيل: هو ضرب مثل وإشارة إلى أن الله تعالى يرد أعمالهم التي ظنوا أنها تنفعهم. قال مجاهد: المعنى عملهم تحت الأرض السابعة لا يصعد منها شيء. وقال: سجين صخرة في الأرض السابعة. وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( سجين جب في جهنم وهو مفتوح ) وقال في الفلق: ( إنه جب مغطى ) . وقال أنس: هي دركة في الأرض السفلي. وقال أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( سجين أسفل الأرض السابعة ) . وقال عكرمة: ( سجين: خسار وضلال؛ كقولهم لمن سقط قدره: قد زلق بالحضيض. وقال أبو عبيدة والأخفش والزجاج: » لفي سجين « لفي حبس وضيق شديد، فعيل من السجين؛ كما يقول: فسيق وشريب؛ قال ابن مقبل: »

ورفقة يضربون البيض ضاحية ضربا تواصت به الأبطال سجينا

والمعنى: كتابهم في حبس؛ جعل ذلك دليلا على خساسة منزلتهم، أو لأنه يحل من الإعراض عنه والإبعاد له محل الزجر والهوان. وقيل: أصله سجيل، فأبدلت اللام نونا. وقد تقدم ذلك. وقال زيد بن أسلم: سجين في الأرض السافلة، وسجيل في السماء الدنيا. القشيري: سجين: موضع في السافلين، يدفن فيه كتاب هؤلاء، فلا يظهر بل يكون في ذلك الموضع كالمسجون. وهذا دليل على خبث أعمالهم، وتحقير الله إياها؛ ولهذا قال في كتاب الأبرار: « يشهده المقربون » . « وما أدراك ما سجين » أي ليس ذلك مما كنت تعلمه يا محمد أنت ولا قومك. ثم فسره فقال: « كتاب مرقوم » أي مكتوب كالرقم في الثوب، لا ينسى ولا يمحى. وقال قتادة: مرقوم أي مكتوب، رقم لهم بشر: لا يزاد فيهم أحد ولا ينقص منهم أحد. وقال الضحاك: مرقوم: مختوم، بلغة حمير؛ وأصل الرقم: الكتابة؛ قال:

سأرقم في الماء القراح إليكم على بعدكم إن كان للماء راقم

وليس في قوله: « وما أدراك ما سجين » ما يدل على أن لفظ سجين ليس عربيا، كما لا يدل في قوله: « القارعة ما القارعة. وما أدراك ما القارعة » [ القارعة: 1 ] بل هو تعظيم لأمر سجين، وقد مضى في مقدمة الكتاب - والحمد لله - أنه ليس في القرآن غير عربي.

 

قوله تعالى: « ويل يومئذ للمكذبين » أي شدة وعذاب يوم القيامة للمكذبين. ثم بين تعالى أمرهم فقال: « الذين يكذبون بيوم الدين » أي بيوم الحساب والجزاء والفصل بين العباد. « وما يكذب به إلا كل معتد أثيم » أي فاجر جائز عن الحق، معتد على الخلق في معاملته إياهم وعلى نفسه، وهو أثيم في ترك أمر الله. وقيل هذا في الوليد بن المغيرة وأبي جهل ونظرائهما لقوله تعالى: « إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين » وقراءة العامة « تتلى » بتاءين، وقراءة أبي حيوة وأبي سماك وأشهب العقيلي والسلمي: « إذا يتلى » بالياء. وأساطير الأولين: أحاديثهم وأباطيلهم التي كتبوها وزخرفوها. وأحدها أسطورة وإسطارة، وقد تقدم.

 

الآيات: 14 - 17 ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون، كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون، ثم إنهم لصالوا الجحيم، ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون )

 

قوله تعالى: « كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون » « كلا » : ردع وزجر، أي ليس هو أساطير الأولين. وقال الحسن: معناها حقا « ران على قلوبهم » . وقيل: في الترمذي: عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر الله وتاب، صقل قلبه، فإن عاد زيا. فيها، حتى تعلو على قلبه ) ، وهو ( الران ) الذي ذكر الله في كتابه: « كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون » . قال: هذا حديث حسن صحيح. وكذا قال المفسرون: هو الذنب على الذنب حتى يسود القلب. قال مجاهد: هو الرجل يذنب الذنب، فيحيط الذنب بقلبه، ثم يذنب الذنب فيحيط الذنب بقلبه، حتى تغشي الذنوب قلبه. قال مجاهد: هي مثل الآية التي في سورة البقرة: « بلى من كسب سيئة » [ البقرة: 81 ] الآية. ونحوه عن الفراء؛ قال: يقول كثرت المعاصي منهم والذنوب، فأحاطت بقلوبهم، فذلك الرين عليها. وروي عن مجاهد أيضا قال: القلب مثل الكهف ورفع كفه، فإذا أذنب العبد الذنب انقبض، وضم إصبعه، فإذا أذب الذنب انقبض، وضم أخرى، حتى ضم أصابعه كلها، حتى يطبع على قلبه. قال: وكانوا يرون أن ذلك هو الرين، ثم قرأ: « كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون » . ومثله عن حذيفة رضي الله عنه سواء. وقال بكر بن عبدالله: إن العبد إذا أذنب صار في قلبه كوخزة الإبرة، ثم صار إذا أذنب ثانيا صار كذلك، ثم إذا كثرت الذنوب صار القلب كالمنخل، أو كالغربال، حتى لا يعي خيرا، ولا يثبت فيه صلاح. وقد بينا في « البقرة » القول في هذا المعنى بالأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا معنى لإعادتها. وقد روى عبدالغني بن سعيد عن موسى بن عبدالرحمن عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس، وعن موسى عن مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس شيئا الله أعلم بصحته؛ قال: هو الران الذي يكون على الفخذين والساق والقدم، وهو الذي يلبس في الحرب. قال: وقال آخرون: الران: الخاطر الذي يخطر بقلب الرجل. وهذا مما لا يضمن عهدة صحته. فالله أعلم. فأما عامة أهل التفسير فعلى ما قد مضى ذكره قبل هذا. وكذلك أهل اللغة عليه؛ يقال: ران على قلبه ذنبه يرين رينا وريونا أي غلب. قال أبو عبيدة في قوله: « كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون » أي غلب؛ وقال أبو عبيد: كل ما غلبك [ وعلاك ] فقد ران بك، ورانك، وران عليك؛ وقال الشاعر:

وكم ران من ذنب على قلب فاجر فتاب من الذنب الذي ران وانجلى

ورانت الخمر على عقله: أي غلبته، وران عليه النعاس: إذا غطاه؛ ومنه قول عمر في الأسيفع - أسيفع جهينة - : فأصبح قد رين به. أي غلبته الديون، وكان يدان؛ ومنه قول أبي زبيد يصف رجلا شرب حتى غلبه الشراب سكرا، فقال:

ثم لما رآه رانت به الخمـ ـر وأن لا ترينه باتقاء

فقوله: رانت به الخمر، أي غلبت على عقله وقلبه. وقال الأموي: قد أران القوم فهم مرينون: إذا هلكت مواشيهم وهزلت. وهذا من الأمر الذي أتاهم مما يغلبهم، فلا يستطيعون احتماله. قال أبو زيد يقال: قد رين بالرجل رينا: إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه، ولا قبل له وقال أبو معاذ النحوي: الرين: أن يسود القلب من الذنوب، والطبع أن يطبع على القلب، وهذا أشد من الرين، والإقفال أشد من الطبع. الزجاج: الرين: هو كالصدأ يغشي القلب كالغيم الرقيق، ومثله الغين، يقال: غين على قلبه: غطي. والغين: شجر ملتف، الواحدة غيناء، أي خضراء، كثيرة الورق، ملتفة الأغصان. وقد تقدم قول الفراء أنه إحاطة الذنب بالقلوب. وذكر الثعلبي عن ابن عباس: « ران على قلوبهم » : أي غطى عليها. وهذا هو الصحيح عنه إن شاء الله. وقرأ حمزة والكسائي والأعمش وأبو بكر والمفضل « ران » بالإمالة؛ لأن فاء الفعل الراء، وعينه الألف منقلبة من ياء، فحسنت الإمالة لذلك. ومن فتح فعلى الأصل؛ لأن باب فاء الفعل في ( فعل ) الفتح، مثل كال وباع ونحوه. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ووقف حفص « بل » ثم يبتدئ « ران » وقفا يبين اللام، لا للسكت.

 

قوله تعالى: « كلا » أي حقا « » إنهم « يعني الكفار » عن ربهم يومئذ « أي يوم القيامة » لمحجوبون « وقيل: « كلا » ردع وزجر، أي ليس كما يقولون، بل » إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون « . قال الزجاج: في هذه الآية دليل على أن الله عز وجل يرى في القيامة، ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة، ولا خست منزلة الكفار بأنهم يحجبون. وقال جل ثناؤه: » وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة « [ القيامة: 22 ] فأعلم الله جل ثناؤه أن المؤمنين ينظرون إليه، وأعلم أن الكفار محجوبون عنه، وقال مالك بن أنس في هذه الآية: لما حجب أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه. وقال الشافعي: لما حجب قوما بالسخط، دل على أن قوما يرونه بالرضا. ثم قال: أما والله لو لم يوقن محمد بن إدريس أنه يرى ربه في المعاد لما عبده في الدنيا. وقال الحسين بن الفضل: لما حجبهم في الدنيا عن نور توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته. وقال مجاهد في قوله تعالى: » لمحجوبون « : أي عن كرامته ورحمته ممنوعون. وقال قتادة: هو أن الله لا ينظر إليهم برحمته، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم. وعلى الأول الجمهور، وأنهم محجوبون عن رؤيته فلا يرونه. » ثم إنهم لصالوا الجحيم « أي ملازموها، ومحترقون فيها غير خارجين منها، » كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها « [ النساء: 56 ] و » كلما خبت زدناهم سعيرا « [ الإسراء: 97 ] . ويقال: الجحيم الباب الرابع من النار. » ثم يقال « لهم أي تقول لهم خزنة جهنم » هذا الذي كنتم به تكذبون « رسل الله في الدنيا.»

 

الآيات: 18 - 21 ( كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين، وما أدراك ما عليون، كتاب مرقوم، يشهده المقربون )

 

قوله تعالى: « كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين » « كلا » بمعنى حقا، والوقف على « تكذبون » . وقيل أي ليس الأمر كما يقولون ولا كما ظنوا بل كتابهم في سجين، وكتاب المؤمنين في عليين. وقال مقاتل: كلا، أي لا يؤمنون بالعذاب الذي يصلونه. ثم استأنف فقال: « إن كتاب الأبرار » مرفوع في عليين على قدر مرتبتهم. قال ابن عباس: أي في الجنة. وعنه أيضا قال: أعمالهم في كتاب الله في السماء. وقال الضحاك ومجاهد وقتادة: يعني السماء السابعة فيها أرواح المؤمنين. وروى ابن الأجلح عن الضحاك قال: هي سدرة المنتهى، ينتهي إليها كل شيء من أمر الله لا يعدوها، فيقولون: رب عبدك فلان، وهو. أعلم به منهم، فيأتيه كتاب من الله عز وجل مختوم بأمانه من العذاب. فذلك قوله تعالى: « كلا إن كتاب الأبرار » . وعن كعب الأحبار قال: إن روح المؤمن إذا قبضت صعد بها إلى السماء، وفتحت لها أبواب السماء، وتلقتها الملائكة بالبشرى، ثم يخرجون معها حتى ينتهوا إلى العرش، فيخرج لهم من تحت العرش، رق فيرقم ويختم فيه النجاة من الحساب يوم القيامة ويشهده المقربون. وقال قتادة أيضا: « في عليين » هي فوق السماء السابعة عند قائمة العرش اليمنى. وقال البراء بن عازب قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( عليون في السماء السابعة تحت العرش ) . وعن ابن عباس أيضا: هو لوح من زبر جدة خضراء معلق بالعرش، أعمالهم مكتوبة فيه. وقال الفراء: عليون ارتفاع بعد ارتفاع. وقيل: عليون أعلى الأمكنة. وقيل: معناه علو في علو مضاعف، كأنه لا غاية له؛ ولذلك جمع بالواو والنون. وهو معنى قول الطبري. قال الفراء: هو اسم موضوع على صفة الجمع، ولا واحد له من لفظه؛ كقولك: عشرون وثلاثون، والعرب إذا جمعت جمعا ولم يكن له بناء من واحده ولا تثنية، قالوا في المذكر والمؤنث بالنون. وهي معنى قول الطبري. وقال الزجاج: إعراب هذا الاسم كإعراب الجمع، كما تقول: هذه قنسرون، ورأيت قنسرين. وقال يونس النحوي وأحدها: علي وعلية. وقال أبو الفتح: عليين: جمع على، وهو فعيل من العلو. وكان سبيله أن يقول علية كما قالوا للغرفة علية؛ لأنها من العلو، فلما حذف التاء من علية عوضوا منها الجمع بالواو والنون، كما قالوا في أرضين. وقيل: إن عليين صفة للملائكة، فإنهم الملأ الأعلى؛ كما يقال: فلان في بني فلان؛ أي هو في جملتهم وعندهم. والذي في الخبر من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أهل عليين لينظرون إلى الجنة من كذا، فإذا أشرف رجل من أهل عليين أشرقت الجنة لضياء وجهه، فيقولون: ما هذا النور؟ فيقال أشرف رجل من أهل عليين الأبرار أهل الطاعة والصدق ) . وفي خبر آخر: ( إن أهل الجنة ليرون أهل عليين كما يرى الكوكب الدري في أفق السماء ) يدل على أن عليين اسم الموضع المرتفع. وروى ناس عن ابن عباس في قوله « عليين » قال: أخبر أن أعمالهم وأرواحهم في السماء الرابعة.

 

قوله تعالى: « وما أدراك ما عليون » أي ما الذي أعلمك يا محمد أي شيء عليون؟ على جهة التفخيم والتعظيم له في المنزلة الرفيعة. ثم فسره له فقال: « كتاب مرقوم يشهده المقربون » . وقيل: إن « كتاب مرقوم » ليس تفسيرا لعليين، بل تم الكلام عند قوله « عليون » ثم ابتدأ وقال: « كتاب مرقوم » أي كتاب الأبرار كتاب مرقوم ولهذا عكس الرقم في كتاب الفجار؛ قال القشيري. وروي: أن الملائكة تصعد بعمل العبد، فيستقبلونه فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله من سلطانه أوحى إليهم: إنكم الحفظة على عبدي، وأنا الرقيب على ما في قلبه، وإنه أخلص لي عمله، فاجعلوه في عليين، فقد غفرت له، وإنها لتصعد بعمل العبد، فيتركونه فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله أوحى إليهم: أنتم الحفظة على عبدي وأنا الرقيب على ما في قلبه، وإنه لم يخلص لي عمله، فاجعلوه في سجين.

 

قوله تعالى: « يشهده المقربون » أي يشهد عمل الأبرار مقربو كل سماء من الملائكة. وقال وهب وابن إسحاق: المقربون هنا إسرافيل عليه السلام، فإذا عمل المؤمن عمل البر، صعدت الملائكة بالصحيفة وله نور يتلألأ في السموات كنور الشمس في الأرض، حتى ينتهي بها إلى إسرافيل، فيختم عليها ويكتب فهو قوله: « يشهده المقربون » أي يشهد كتابتهم.

 

الآيات: 22 - 28 ( إن الأبرار لفي نعيم، على الأرائك ينظرون، تعرف في وجوههم نضرة النعيم، يسقون من رحيق مختوم، ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، ومزاجه من تسنيم، عينا يشرب بها المقربون )

 

قوله تعالى: « إن الأبرار » أي أهل الصدق والطاعة. « لفي نعيم » أي نعمة، والنعمة بالفتح: التنعيم؛ يقال: نعمه الله وناعمه فتنعم وامرأة منعمة ومناعمة بمعنى. أي إن الأبرار في الجنات يتنعمون. « على الأرائك » وهي الأسرة في الحجال « ينظرون » أي إلى ما أعد الله لهم من الكرامات؛ قال عكرمة وابن عباس ومجاهد. وقال مقاتل: ينظرون إلى أهل النار. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: ( ينظرون إلى أعدائهم في النار ) ذكره المهدوي. وقيل: على أرائك أفضاله ينظرون إلى وجهه وجلاله.

 

قوله تعالى: « تعرف في وجوههم نضرة النعيم » أي بهجته وغضارته ونوره؛ يقال: نضر النبات: إذا آزهر ونور. وقراءة العامة « تعرف » بفتح التاء وكسر الراء « نضرة » نصبا؛ أي تعرف يا محمد. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ويعقوب وشيبة وابن أبي إسحاق: « تعرف » بضم التاء وفتح الراء على الفعل المجهول « نضرة » رفعا. « يسقون من رحيق » أي من شراب لا غش فيه. قاله الأخفش والزجاج. وقيل، الرحيق الخمر الصافية. وفي الصحاح: الرحيق صفوة الخمر. والمعنى واحد. الخليل: أقصى الخمر وأجودها. وقال مقاتل وغيره: هي الخمر العتيقة البيضاء الصافية من الغش النيرة، قال حسان:

يسقون من ورد البريص عليهم بردي يصفق بالرحيق السلسل

وقال آخر:

أم لا سبيل إلى الشباب وذكره أشهى إلي من الرحيق السلسل

 

قوله تعالى: « مختوم » المختوم الممزوج. وقيل: مختوم أي ختمت ومنعت عن أن يمسها ماس إلى أن يفك ختامها الأبرار. وقرأ علي وعلقمة وشقيق والضحاك وطاوس والكسائي « خاتمه » بفتح الخاء والتاء وألف بينهما. قاله علقمة: أما رأيت المرأة تقول للعطار: أجعل خاتمه مسكا، تريد آخره. والخاتم والختام متقاربان في المعنى، إلا أن الخاتم الاسم، والختام المصدر؛ قال الفراء. وفي الصحاح: والختام: الطين الذي يحتم به. وكذا قال مجاهد وابن زيد: ختم إناؤه بالمسك بدلا من الطين. حكاه المهدوي. وقال الفرزدق:

وبت أفض أغلاق الختام

وقال الأعشى:

وأبرزها وعليها ختم

أي عليها طينة مختومة؛ مثل نفض بمعنى منفوض، وقبض بمعنى مقبوض. وذكر ابن المبارك وابن وهب، واللفظ لابن وهب، عن عبدالله. بن مسعود في قوله تعالى: « ختامه مسك » : خلطه، ليس بخاتم يختم، ألا ترى إلى قول المرأة من نسائكم: إن خلطه من الطيب كذا وكذا. إنما خلطه مسك؛ قال: شراب أبيض مثل الفضة يختمون به آخر أشربتهم، لو أن رجلا من أهل الدنيا أدخل فيه يده ثم أخرجها، لم يبق ذو روح إلا وجد ريح طيبها. وروى أبي بن كعب قال: قيل يا رسول الله ما الرحيق المختوم؟ قال: ( غدران الخمر ) . وقيل: مختوم في الآنية، وهو غير الذي يجري في الأنهار. فالله أعلم. « وفي ذلك » أي وفي الذي وصفناه من أمر الجنة « فليتنافس المتنافسون » أي فليرغب الراغبون يقال: نفست عليه الشيء أنفسه نفاسة: أي ضننت به، ولم أحب أن يصير إليه. وقيل: الفاء بمعنى إلى، أي وإلى ذلك فليتبادر المتبادرون في العمل؛ نظيره: « لمثل هذا فليعمل العاملون » .

 

قوله تعالى: « ومزاجه » أي ومزاجه ذلك الرحيق « من تسنيم » وهو شراب ينصب عليهم من علو، وهو أشرف شراب في الجنة. وأصل التسنيم في اللغة: الارتفاع فهي عين ماء تجري من علو إلى أسفل؛ ومنه سنام البعير لعلوه من بدنه، وكذلك تسنيم القبور. وروي عن عبدالله قال: تسنيم عين في الجنة يشرب بها المقربون صرفا، ويمزج منها كأس أصحاب اليمين فتطيب. وقال ابن عباس في قول عز وجل: « ومزاجه من تسنيم » قال: هذا مما قال الله تعالى: « فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين » [ السجدة: 17 ] . وقيل: التسنيم عين تجري في الهواء بقدرة الله تعالى، فتنصب في أواني أهل الجنة على قدر مائها، فإذا امتلأت أمسك الماء، فلا تقع منه قطرة على الأرض، ولا يحتاجون إلى الاستقاء؛ قال قتادة، ابن زيد: بلغنا أنها عين تجري من تحت العرش. وكذا في مراسيل الحسن. وقد ذكرناه في سورة « الإنسان » .

« عينا يشرب بها المقربون » أي يشرب منها أهل جنة عدن، وهم أفاضل أهل الجنة صرفا، وهي لغيرهم مزاج. و « عينا » نصب على المدح. وقال الزجاج: نصب على الحال من تسنيم، وتسنيم معرفة، ليس يعرف له أشتقاق، وإن جعلته مصدرا مشتقا من السنام فـ « عينا » نصب؛ لأنه مفعول به؛ كقوله تعالى: « أو إطعام في يوم ذي مسغبة. يتيما » [ البلد: 14 ] وهذا قول الفراء إنه منصوب بتسنيم. وعند الأخفش بـ « يسقون » أي يسقون عينا أو من عين. وعند المبرد بإضمار أعني على المدح.

الآية [ 29 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات: 29 - 36 ( إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون، وإذا مروا بهم يتغامزون، وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين، وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون، وما أرسلوا عليهم حافظين، فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون، على الأرائك ينظرون، هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون )

 

قوله تعالى: « إن الذين أجرموا » وصف أرواح الكفار في الدنيا مع المؤمنين باستهزائهم بهم والمراد رؤساء قريش من أهل الشرك. روى ناس عن ابن عباس قال: هو الوليد بن المغيرة، وعقبة بن أبي معيط، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد يغوث، والعاص بن هشام، وأبو جهل، والنضر بن الحارث؛ وأولئك « كانوا من الذين آمنوا » من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم مثل عمار، وخباب وصهيب وبلال « يضحكون » على وجه السخرية. « وإذا مروا بهم » عند إتيانهم رسول الله صلى الله عليه وسلم « يتغامزون » يغمز بعضهم بعضا، ويشيرون بأعينهم. وقيل: أي يعيرونهم بالإسلام ويعيبونهم به يقال: غمزت الشيء بيدي؛ قال:

وكنت إذا غمزت فتاة قوم كسرت كعوبها أو تستقيما

وقالت عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد غمزني، فقبضت رجلي. الحديث؛ وقد مضى في « النساء » . وغمزته بعيني. وقيل: الغمز: بمعنى العيب، يقال غمزه: أي عابه، وما في فلأن غمزة أي عيب. وقال مقاتل: نزلت في علي بن أبي طالب جاء في نفر من المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلمزهم المنافقون، وضحكوا عليهم وتغامزوا.

 

قوله تعالى: « وإذا انقلبوا » أي أنصرفوا إلى أهلهم وأصحابهم وذويهم « انقلبوا فكهين » أي معجبين منهم. وقيل: معجبون بما هم عليه من الكفر، متفكهون بذكر المؤمنين. وقرأ ابن القعقاع وحفص والأعرج والسلمي: « فكهين » بغير ألف. الباقون بألف. قال الفراء: هما لغتان مثل طمع وطامع وحذر وحاذر، وقد تقدم في سورة « الدخان » والحمد لله. وقيل: الفكه: الأشر البطر والفاكه: الناعم المتنعم. « وإذا رأوهم » أي إذا رأى هؤلاء الكفار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم « قالوا إن هؤلاء لضالون » في اتباعهم محمدا صلى الله عليه وسلم « وما أرسلوا عليهم حافظين » لأعمالهم، موكلين بأحوالهم، رقباء عليهم.

 

قوله تعالى: « فاليوم » يعني هذا اليوم الذي هو يوم القيامة « الذين آمنوا » بمحمد صلى الله عليه وسلم « من الكفار يضحكون » كما ضحك الكفار منهم في الدنيا. نظيره في آخر سورة « المؤمنين » وقد تقدم. وذكر ابن المبارك: أخبرنا محمد بن بشار عن قتادة في قوله تعالى: « فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون » قال: ذكر لنا أن كعبا كان يقول إن بين الجنة والنار كوى، فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدو كان له في الدنيا اطلع من بعض الكوى؛ قال الله تعالى في آية أخرى: « فاطلع فرآه في سواء الجحيم » [ الصافات: 55 ] قال: ذكر لنا أنه أطلع فرأى جماجم القوم تغلي. وذكر ابن المبارك أيضا: أخبرنا الكلبي عن أبي صالح في قوله تعالى: « الله يستهزئ بهم » [ البقرة: 15 ] قال: يقال لأهل النار وهم في النار: أخرجوا، فتفتح لهم أبواب النار، فإذا رأوها قد فتحت أقبلوا إليها يريدون الخروج، والمؤمنون ينظرون إليهم على الأرائك، فإذا انتهوا إلى أبوابها غلقت دونهم؛ فذلك قوله: « الله يستهزئ بهم » [ البقرة: 15 ] ويضحك منهم المؤمنون حين غلقت دونهم فذلك قوله تعالى: « فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون. على الأرائك ينظرون. هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون » قد مضى هذا في أول سورة « البقرة » . ومعنى « هل ثوب » أي هل جوزي بسخريتهم في الدنيا بالمؤمنين إذا فعل بهم ذلك. وقيل: إنه متعلق بـ « ينظرون » أي ينظرون: هل جوزي الكفار؟ فيكون معنى هل [ التقرير ] وموضعها نصبا بـ « ينظرون » . وقيل: استئناف لا موضع له من الأعراب. وقيل: هو إضمار على القول، والمعنى؛ يقول بعض المؤمنين لبعض: « هل ثوب الكفار » أي أثيب وجوزي. وهو من ثاب يثوب أي رجع؛ فالثواب ما يرجع على العبد في مقابلة عمله، ويستعمل في الخير والشر. تمت السورة والله أعلم.

 

سورة الانشقاق

 

الآيات: 1 - 5 ( إذا السماء انشقت، وأذنت لربها وحقت، وإذا الأرض مدت، وألقت ما فيها وتخلت، وأذنت لربها وحقت )

 

قوله تعالى: « إذا السماء انشقت » أي سمعت، وحق لها أن تسمع. روي معناه عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: « ما أذن الله لشيء كأذنه لنبي يتغنى بالقرآن » أي ما استمع الله لشيء قال الشاعر:

صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا

أي سمعوا. وقال قعنب ابن أم صاحب:

إن يأذنوا ريبة طاروا بها فرحا وما هم أذنوا من صالح دفنوا

وقيل: المعنى وحقق الله عليها الاستماع لأمره بالانشقاق. وقال الضحاك: حقت: أطاعت، وحق لها أن تطيع ربها، لأنه خلقها؛ يقال: فلان محقوق بكذا. وطاعة السماء: بمعنى أنها لا تمتنع مما أراد الله بها، ولا يبعد خلق الحياة فيها حتى تطيع وتجيب. وقال قتادة: حق لها أن تفعل ذلك؛ ومنه قول كثير:

فإن تكن العتبى فأهلا ومرحبا وحقت لها العتبى لدينا وقلت

 

قوله تعالى: « وإذا الأرض مدت » أي بسطت ودكت جبالها. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( تمد مد الأديم ) لأن الأديم إذا مد زال كل آنثناء فيه وامتد واستوى. قال ابن عباس وابن مسعود: ويزاد وسعتها كذا وكذا؛ لوقوف الخلائق عليها للحساب حتى لا يكون لأحد من البشر إلا موضع قدمه، لكثرة الخلائق فيها. وقد مضى في سورة « إبراهيم » أن الأرض تبدل بأرض أخرى وهي الساهرة في قول ابن عباس على ما تقدم عنه « وألقت ما فيها وتخلت » أي أخرجت أمواتها، وتخلت عنهم. وقال ابن جبير: ألقت ما في بطنها من الموتى، وتخلت ممن على ظهرها من الأحياء. وقيل: ألقت ما في بطنها كنوزها ومعادنها، وتخلت منها. أي خلا جوفها، فليس في بطنها شيء، وذلك يؤذن بعظم الأمر، كما تلقى الحامل ما في بطنها عند الشدة. وقيل: تخلت مما على ظهرها من جبالها وبحارها. وقيل: ألقت ما استودعت، وتخلت مما استحفظت؛ لأن الله تعالى استودعها عباده أحياء وأمواتا، واستحفظها بلاده مزارعة وأقواتا. « وأذنت لربها » أي في إلقاء موتاها « وحقت » أي وحق لها أن تسمع أمره. واختلف في جواب « إذا » فقال الفراء: « أذنت » . والواو زائدة، وكذلك « وألقت » . ابن الأنباري: قال بعض المفسرين: جواب « إذا السماء أنشقت » « أذنت » ، وزعم أن الواو مقحمة وهذا غلط؛ لأن العرب لا تقحم الواو إلا مع « حتى - إذا » كقوله تعالى: « حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها » [ الزمر: 71 ] ومع « لما » كقوله تعالى: « فلما أسلما وتله للجبين. وناديناه » [ الصافات: 103 ] معناه « ناديناه » والواو لا تقحم مع غير هذين. وقيل: الجواب فاء مضمرة كأنه قال: « إذا السماء أنشقت » فيا أيها الإنسان إنك كادح. وقيل: جوابها ما دل عليه « فملاقيه » أي إذا السماء انشقت لاقي الإنسان كدحه. وقيل: فيه تقديم وتأخير، أي « يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه » « إذا السماء انشقت » . قاله المبرد. وعنه أيضا: الجواب « فأما من أوتي كتابه بيمينه » وهو قول الكسائي؛ أي إذا السماء أنشقت فمن أوتي كتابه بيمينه فحكمه كذا. قال أبو جعفر النحاس: وهذا أصح ما قيل فيه وأحسنه. قيل: هو بمعنى أذكر « إذا السماء انشقت » . وقيل: الجواب محذوف لعلم المخاطبين به؛ أي إذا كانت هذه الأشياء علم المكذبون بالبعث ضلالتهم وخسرانهم. وقيل: تقدم منهم سؤال عن وقت القيامة، فقيل لهم: إذا ظهرت أشراطها كانت القيامة، فرأيتم عاقبة تكذيبكم بها. والقرآن كالآية الواحدة في دلالة البعض على البعض. وعن الحسن: إن قوله « إذا السماء انشقت » قسم. والجمهور على خلاف قول من أنه خبر وليس بقسم.

 

الآيات: 6 - 9 ( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه، فأما من أوتي كتابه بيمينه، فسوف يحاسب حسابا يسيرا، وينقلب إلى أهله مسرورا )

 

قوله تعالى: « يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا » المراد بالإنسان الجنس أي يا ابن آدم. وكذا روى سعيا. عن قتادة: يا ابن آدم، إن كدحك لضعيف، فمن استطاع أن يكون كدحه في طاعة الله فليفعل ولا قوة إلا بالله. وقيل: هو معين، قال مقاتل: يعني الأسود بن عبدالأسد. ويقال: يعني أبي بن خلف. ويقال: يعني جميع الكفار، أيها الكافر إنك كادح. والكدح في كلام العرب: العمل والكسب؛ قال ابن مقبل:

وما الدهر إلا تارتان فمنهما أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح

وقال آخر:

ومضت بشاشة كل عيش صالح وبقيت أكدح للحياة وأنصب

أي أعمل. وروى الضحاك عن ابن عباس: « إنك كادح » أي راجع « إلى ربك كدحا أي رجوعا لا محالة » فملاقيه « أي ملاق ربك. وقيل: ملاق عملك. القتبي « إنك كادح » أي عامل ناصب في معيشتك إلى لقاء ربك. والملاقاة بمعنى اللقاء أن تلقى ربك بعملك. وقيل أي تلاقي كتاب عملك؛ لأن العمل قد انقضى ولهذا قال: » فأما من أوتي كتابه بيمينه « وهو المؤمن » فسوف يحاسب حسابا يسيرا « لا مناقشة فيه. كذا روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من حوسب يوم القيامة عذب ) قالت: فقلت يا رسول الله أليس قد قال الله » فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا « فقال: » ليس ذاك الحساب؛ إنما ذلك العرض، من نوقش الحساب يوم القيامة عذب ) أخرجه البخاري ومسلم والترمذي. وقال حديث حسن صحيح. « وينقلب إلى أهله مسرورا » أزواجه في الجنة من الحور العين « مسرورا » أي مغتبطا قرير العين. ويقال إنها نزلت في أبي سلمة بن عبدالأسد، هو أول من هاجر من مكة إلى المدينة. وقيل: إلى أهله الذين كانوا له في الدنيا، ليخبرهم بخلاصه وسلامته. والأول قول قتادة. أي إلى أهله الذين قد أعدهم الله له في الجنة.

 

الآيات: 10 - 15 ( وأما من أوتي كتابه وراء ظهره، فسوف يدعو ثبورا، ويصلى سعيرا، إنه كان في أهله مسرورا، إنه ظن أن لن يحور، بلى إن ربه كان به بصيرا )

 

قوله تعالى: « وأما من أوتي كتابه وراء ظهره » نزلت في الأسود بن عبدالأسد أخي أبي سلمة قال ابن عباس. ثم هي عامة في كل مؤمن وكافر. قال ابن عباس: يمد يده اليمنى ليأخذ كتابه فيجذبه ملك، فيخلع يمينه، فيأخذ كتابه بشمال من وراء ظهره. وقال قتادة ومقاتل: يفك ألواح صدره وعظامه ثم تدخل يده وتخرج من ظهره، فيأخذ كتابه كذلك. « فسوف يدعو ثبورا » أي بالهلاك فيقول: يا ويلاه، يا ثبوراه. « ويصلى سعيرا » أي ويدخل النار حتى يصلى بحرها. وقرأ الحرميان وابن عامر والكسائي « ويصلى » بضم الياء وفتح الصاد، وتشديد اللام، كقوله تعالى: « ثم الجحيم صلوه » [ الحاقة: 31 ] وقوله: « وتصلية جحيم » [ الواقعة: 94 ] . الباقون « ويصلى » بفتح الياء مخففا، فعل لازم غير متعد؛ لقوله: « إلا من هو صال الجحيم » [ الصافات: 163 ] وقوله: « يصلى النار الكبرى » [ الأعلى: 12 ] وقوله « ثم إنهم لصالوا الجحيم » [ المطففين: 16 ] . وقراءة ثالثة رواها أبان عن عاصم وخارجة عن نافع وإسماعيل المكي عن ابن كثير « ويصلي » بضم الياء وإسكان الصاد وفتح اللام مخففا؛ كما قرئ « وسيصلون » بضم الياء، وكذلك في « الغاشية » قد قرئ أيضا: « تصلي نارا » وهما لغتان صلى وأصلى؛ كقوله: « نزل. وأنزل » .

 

قوله تعالى: « إنه كان في أهله » أي في الدنيا « مسرورا » قال ابن زيد: وصف الله أهل الجنة بالمخافة والحزن والبكاء والشفقة في الدنيا فأعقبهم به النعيم والسرور في الآخرة، وقرأ قول الله تعالى: « إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم » . قال: ووصف أهل النار بالسرور في الدنيا والضحك فيها والتفكه. فقال: « إنه كان في أهله مسرورا » . « إنه ظن أن لن يحور » أي لن يرجع حيا مبعوثا فيحاسب، ثم يثاب أو يعاقب. يقال: حار يحور إذا رجع؛ قل لبيد:

وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحور رمادا بعد إذ هو ساطع

وقال عكرمة وداود بن أبي هند، يحور كلمة بالحبشية، ومعناها يرجع. ويجوز أن تتفق الكلمتان فإنهما كلمة اشتقاق؛ ومنه الخبز الحوارة؛ لأنه يرجع إلى البياض. وقال ابن عباس: ما كنت أدري: ما يحور؟ حتى سمعت أعرابية تدعو بنية لها: حوري، أي ارجعي إلي، فالحور في كلام العرب الرجوع؛ ومنه قول عليه السلام: « اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور » يعني: من الرجوع إلى النقصان بعد الزيادة، وكذلك الحور بالضم. وفي المثل « حور في محارة » أي نقصان في نقصان. يضرب للرجل إذا كان أمره يدبر، قال الشاعر:

واستعجلوا عن خفيف المضغ فازدردوا والذم يبقى وزاد القوم في حور

والحور أيضا: الاسم من قولك: طحنت الطاحنة فما أحارت شيئا؛ أي ما ردت شيئا من الدقيق. والحور أيضا الهلكة؛ قال الراجز:

في بئر لا حور سرى ولا شعر

قال أبو عبيدة: أي بئر حور، و « لا » زائدة. وروى « بعد الكون » ومعناه من انتشار الأمر بعد تمامه. وسئل معمر عن الحور بعد الكون، فقال: هو الكنتي. فقال له عبدالرزاق: وما الكنتي؟ فقال: الرجل يكون صالحا ثم يتحول رجل سوء. قال أبو عمرو: يقال للرجل إذا شاخ: كنتي، كأنه نسب إلى قوله: كنت في شبابي كذا. قال:

فأصبحت كنتا وأصبحت عاجنا وشر خصال المرء كنت وعاجن

عجن الرجل: إذا نهض معتمدا على الأرض من الكبر. وقال ابن الأعرابي: الكنتي: هو الذي يقول: كنت شابا، وكنت شجاعا، والكاني هو الذي يقول: كان لي مال وكنت أهب، وكان لي خيل وكنت أركب.

 

قوله تعالى: « بلى » أي ليس الأمر كما ظن، بل يحور إلينا ويرجع. « إن ربه كان به بصيرا » قبل أن يخلقه، عالما بأن مرجعه إليه. وقيل: بلى ليحورن وليرجعن. ثم ستأنف فقال: « إن ربه كان به بصيرا » من يوم خلقه إلى أن بعثه. وقيل: عالما بما سبق له من الشقاء والسعادة.

 

الآيات: 16 - 21 ( فلا أقسم بالشفق، والليل وما وسق، والقمر إذا اتسق، لتركبن طبقا عن طبق، فما لهم لا يؤمنون، وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون )

 

قوله تعالى: « فلا أقسم » أي فأقسم و « لا » صلة. « بالشفق » أي بالحمرة التي تكون عند مغيب الشمس حتى تأتي صلاة العشاء الآخرة. قال أشهب وعبدالله بن الحكم ويحيى بن يحيى وغيرهم، كثير عددهم عن مالك: الشفق الحمرة التي في المغرب، فإذا ذهبت الحمرة فقد خرجت من وقت المغرب ووجبت صلاة العشاء. وروى بن وهب قال: أخبرني غير واحد عن علي ابن أبي طالب ومعاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس وأبي هريرة: أن الشفق الحمرة، وبه قال مالك بن أنس. وذكر غير ابن وهب من الصحابة: عمر وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وأنسا وأبا قتادة وجابر بن عبدالله وابن الزبير، ومن التابعين: سعيد بن جبير، وابن المسيب وطاوس، وعبدالله بن دينار، والزهري، وقال به من الفقهاء الأوزاعي ومالك والشافعي وأبو يوسف وأبو ثور وأبو عبيدة وأحمد وإسحاق وقيل: هو البياض؛ روي ذلك عن ابن عباس وأبي هريرة أيضا وعمر بن عبدالعزيز والأوزاعي وأبي حنيفة في إحدى الروايتين عنه. وروى أسد بن عمرو أنه رجع عنه. وروي عن ابن عمر أيضا أنه البياض والاختيار الأول؛ لأن أكثر الصحابة والتابعين والفقهاء عليه، ولأن شواهد كلام العرب والاشتقاق والسنة تشهد له. قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول لثوب عليه مصبوغ: كأنه الشفق وكان أحمر، فهذا شاهد للحمرة؛ وقال الشاعر:

وأحمر اللون كمحمر الشفق

وقال آخر:

قم يا غلام أعني غير مرتبك على الزمان بكأس حشوها شفق

ويقال للمغرة الشفق. وفي الصحاح: الشفق بقية ضوء الشمس وحمرتها في أول الليل إلى قريب من العتمة. قال الخليل: الشفق: الحمرة، من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة، إذا ذهب قيل: غاب الشفق. ثم قيل: أصل الكلمة من رقة الشيء؛ يقال: شيء شفق أي لا تماسك له لرقته. واشفق عليه. أي رق قلبه عليه، والشفقة: الاسم من الإشفاق، وهو رقة القلب، وكذلك الشفق؛ قال الشاعر:

تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا والموت أكرم نزال على الحرم

فالشفق: بقية ضوء الشمس وحمرتها فكأن تلك الرقة عن ضوء الشمس. وزعم الحكماء أن البياض لا يغيب أصلا. وقال الخليل: صعدت منارة الإسكندرية فرمقت البياض، فرأيته يتردد من أفق إلى أفق ولم أره يغيب. وقال ابن أبي أويس: رأيته يتمادى إلى طلوع الفجر قال علماؤنا: فلما لم يتحدد وقته سقط اعتباره. وفي سنن أبي داود عن النعمان بن بشير قال: أنا أعلمكم بوقت صلاة العشاء الآخرة؛ كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها لسقوط القمر الثالثة. وهذا تحديد، ثم الحكم معلق بأول الاسم. لا يقال: فينقض عليكم بالفجر الأول، فإنا نقول الفجر الأول لا يتعلق به حكم من صلاة ولا إمساك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين الفجر بقوله وفعله فقال: « وليس الفجر أن تقول هكذا - فرفع يده إلى فوق - ولكن الفجر أن تقول هكذا وبسطها » وقد مضى بيانه في آية الصيام من سورة « البقرة » ، فلا معنى للإعادة. وقال مجاهد: الشفق: النهار كله ألا تراه قال « والليل وما وسق » وقال عكرمة: ما بقي من النهار. والشفق أيضا: الرديء من الأشياء؛ يقال: عطاء مشفق أي مقلل قال الكميت:

ملك أغر من الملوك تحلبت للسائلين يداه غير مشفق

 

قوله تعالى: « والليل وما وسق » أي جمع وضم ولف، وأصله من سورة السلطان وغضبه فلولا أنه خرج إلى العباد من باب الرحمة ما تمالك العباد لمجيئه ولكن خرج من باب الرحمة فمزح بها، فسكن الخلق إليه ثم انذعروا والتفوا وانقبضوا، ورجع كل إلى مأواه فسكن فيه من هوله وحشا، وهو قوله تعالى: « ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه » [ القصص: 73 ] أي بالليل « ولتبتغوا من فضله » [ القصص: 73 ] أي بالنهار على ما تقدم. فالليل يجمع ويضم ما كان منتشرا بالنهار في تصرفه. هذا معنى قول ابن عباس ومجاهد ومقاتل وغيرهم؛ قال ضابئ بن الحارث البرجمي:

فإني وإياكم وشوقا إليكم كقابض ماء لم تسقه أنامله

يقول: ليس في يده من ذلك شيء كما أنه ليس في يد القابض على الماء شيء؛ فإذا جلل الليل الجبال والأشجار والبحار والأرض فاجتمعت له، فقد وسقها. والوسق: ضمك الشيء بعضه إلى بعض، تقول: وسقته أسقه وسقا. ومنه قيل للطعام الكثير المجتمع: وسق، وهو ستون صاعا. وطعام موسق: أي مجموع، وإبل مستوسقة أي مجتمعة؛ قال الراجز:

إن لنا قلائصا حقائقا مستوسقات لو يجدن سائقا

وقال عكرمة: « وما وسق » أي وما ساق من شيء إلى حيث يأوي، فالوسق بمعنى الطرد، ومنه قيل للطريدة من الإبل والغنم والحمر: وسيقة، قال الشاعر:

كما قاف آثار الوسيقة قائف

وعن ابن عباس: « وما وسق » أي وما جن وستر. وعنه أيضا: وما حمل، وكل شيء حملته فقد وسقته، والعرب تقول: لا أفعله ما وسقت عيني الماء، أي حملته. ووسقت الناقة تسق وسقا: أي حملت وأغلقت رحمها على الماء، فهي ناقة واسق، ونوق وساق مثل نائم ونيام، وصاحب وصحاب، قال بشر بن أبي خازم:

ألظ بهن يحدوهن حتى تبينت الحيال من الوساق

ومواسيق أيضا. وأوسقت البعير: حملته حمله، وأوسقت النخلة: كثر حملها. وقال يمان والضحاك ومقاتل بن سليمان: حمل من الظلمة. قال مقاتل: أو حمل من الكواكب. القشيري: ومعنى حمل: ضم وجمع، والليل يجلل بظلمته كل شيء فإذا جللها فقد وسقها. ويكون هذا القسم قسما بجميع المخلوقات، لاشتمال الليل عليها، كقوله تعالى: « فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون » [ الحاقة:38 - 39 ] . وقال ابن جبير: « وما وسق » أي وما عمل فيه، يعني التهجد والاستغفار بالأسحار، قال الشاعر:

ويوما ترانا صالحين وتارة تقوم بنا كالواسق المتلبب

أي كالعامل.

 

قوله تعالى: « والقمر إذا اتسق » أي تم واجتمع واستوى. قال الحسن: اتسق: أي امتلأ واجتمع. ابن عباس: استوى. قتادة: استدار. الفراء: اتساقه: امتلاؤه واستواؤه ليالي البدر، وهو افتعال من الوسق الذي هو الجمع، يقال: وسقته فاتسق، كما يقال: وصلته فاتصل، ويقال: أمر فلان متسق: أي مجتمع على الصلاح منتظم. ويقال: اتسق الشيء: إذا تتابع: « لتركبن طبقا عن طبق » قرأ أبو عمر وابن مسعود وابن عباس وأبو العالية ومسروق وأبو وائل ومجاهد والنخعي وابن كثير وحمزة والكسائي « لتركبن » بفتح الباء خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم، أي لتركبن يا محمد حالا بعد حال، قال ابن عباس. الشعبي: لتركبن يا محمد سماء بعد سماء، ودرجة بعد درجة، ورتبة بعد رتبة، في القربة من الله تعالى. ابن مسعود: لتركبن السماء حالا بعد حال، يعني حالاتها التي وصفها الله تعالى بها من الانشقاق والطي وكونها مرة كالمهل ومرة كالدهان. وعن إبراهيم عن عبدالأعلى: « طبقا عن طبق » قال: السماء تقلب حالا بعد حال. قال: تكون وردة كالدهان، وتكون كالمهل؛ وقيل: أي لتركبن أيها الإنسان حالا بعه حال، من كونك نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم حيا وميتا وغنيا وفقيرا. فالخطاب للإنسان المذكور في قوله: « يا أيها الإنسان إنك كادح » هو اسم للجنس، ومعناه الناس. وقرأ الباقون « لتركبن » بضم الباء، خطابا للناس، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قال: لأن المعنى بالناس أشبه منه بالنبي صلى الله عليه وسلم، لما ذكر قبل هذه الآية فمن أوتي كتابه بيمينه ومن أوتي كتابه بشماله. أي لتركبن حالا بعد حال من شدائد القيامة، أو لتركبن سنة من كان قبلكم في التكذيب واختلاق على الأنبياء.

قلت: وكله مراد، وقد جاءت بذلك أحاديث، فروى أبو نعيم الحافظ عن جعفر بن محمد بن علي عن جابر رضي الله عنه، قال سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن ابن آدم لفي غفلة عما خلقه الله عز وجل؛ إن الله لا إله غيره إذا أراد خلقه قال للملك اكتب رزقه وأثره وأجله، واكتب شقيا أو سعيدا، ثم يرتفع ذلك الملك، ويبعث الله ملكا آخر فيحفظه حتى يدرك، ثم يبعث الله ملكين يكتبان حسناته وسيئاته، فإذا جاءه الموت ارتفع ذانك الملكان، ثم جاءه ملك الموت عليه السلام فيقبض روحه، فإذا أدخل حفرته رد الروح في جسده، ثم يرتفع ملك الموت، ثم جاءه ملكا، القبر فامتحناه، ثم يرتفعان، فإذا قامت الساعة انحط عليه ملك الحسنات وملك السيئات، فأنشطا كتابا معقودا في عنقه، ثم حضرا معه، واحد سائق والآخر شهيد ) ثم قال الله عز وجل « لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك، فبصرك اليوم حديد » [ ق: 22 ] . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لتركبن طبقا عن طبق » قال: ( حالا بعد حال ) ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن قدامكم أمرا عظيما فاستعينوا بالله العظيم ) فقد أشتمل هذا الحديث على أحوال تعتري الإنسان، من حين يخلق إلى حين يبعث، وكله شدة بعد شدة، حياة ثم موت، ثم بعث ثم جزاء، وفي كل حال من هذه شدائد. وقال صلى الله عليه وسلم: ( لتركبن سنن من قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه ) قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ خرجه البخاري: وأما أقوال المفسرين، فقال عكرمة: حالا بعد حال، فطيما بعد رضيع، وشيخا بعد شباب، قال الشاعر:

كذلك المرء إن ينسأ له أجل يركب على طبق من بعده طبق

وعن مكحول: كل عشرين عاما تجدون أمرا لم تكونوا عليه: وقال الحسن: أمرا بعد أمر، رخاء بعد شدة، وشدة بعد رخاء، وغنى بعد فقر، وفقرا بعد غني، وصحة بعد سقم، وسقما بعد صحة: سعيد بن جبير: منزلة بعد منزلة، قوم كانوا في الدنيا متضعين فارتفعوا في الآخرة، وقوم كانوا في الدنيا مرتفعين فاتضعوا في الآخرة: وقيل: منزلة عن منزلة، وطبقا عن طبق، وذلك، أن من كان على صلاح دعاه إلى صلاح فوقه، ومن كان على فساد دعاه إلى فساد فوقه، لأن كل شيء يجري إلى شكله: ابن زيد: ولتصيرن من طبق الدنيا إلى طبق الآخرة: وقال ابن عباس: الشدائد والأهوال: الموت، ثم البعث، ثم العرض، والعرب تقول لمن وقع في أم شديد: وقع في بنات طبق، وإحدى بنات طبق، ومنه قيل للداهية الشديدة: أم طبق، وإحدى بنات طبق: وأصلها من الحيات، إذ يقال: للحية أم طبق لتحويها: والطبق في اللغة: الحال كما وصفنا، قال الأقرع بن حابس التميمي:

إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره وساقني طبق منه إلى طبق

وغدا أدل دليل على حدوث العالم، وإثبات الصانع، قالت الحكماء: من كان اليوم على حالة، وغدا على حالة أخرى فليعلم أن تدبيره إلى سواه: وقيل لأبي بكر الوراق: ما الدليل على أن لهذا العالم صانعا؟ فقال: تحويل الحالات، وعجز القوة، وضعف الأركان، وقهر النية: ونسخ العزيمة: ويقال: أتانا طبق من الناس وطبق من الجراد: أي جماعة: وقول العباس في مدح النبي صلى الله عليه وسلم:

تنقل من صالب إلى رحم إذا مضى عالم بدا طبق

أي قرن من الناس. يكون طباق الأرض أي ملأها. والطبق أيضا: عظم رقيق يفصل بين الفقارين ويقال: مضى طبق من الليل، وطبق من النهار: أي معظم منه. والطبق: واحد الأطباق، فهو مشترك. وقرئ « لتركبن » بكسر الباء، على خطاب النفس و « ليركبن » بالياء على ليركبن الإنسان. و « عن طبق » في محل نصب على أنه صفة لـ « طبقا » أي طبقا مجاوزا لطبق. أو حال من الضمير في « لتركبن » أي لتركبن طبقا مجاوزين لطبق، أو مجاوزا أو مجاوزة على حسب القراءة.

 

قوله تعالى: « فما لهم لا يؤمنون » يعني أي شيء يمنعهم من الإيمان بعد ما وضحت لهم الآيات وقامت الدلالات. وهذا استفهام إنكار. وقيل: تعجب أي أعجبوا منهم في ترك الإيمان مع هذه الآيات. « وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون » أي لا يصلون. وفي الصحيح: إن أبا هريرة قرأ « إذا السماء أنشقت » فسجد فيها، فلما أنصرف أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها. وقد قال مالك: إنها ليست من عزائم السجود؛ لأن [ المعنى ] لا يذعنون ولا يطيعون في العمل بواجباته. ابن العربي: والصحيح أنها منه، وهي رواية المدنيين عنه، وقد أعتضد فيها القرآن والسنة. قال ابن العربي: لما أممت بالناس تركت قراءتها؛ لأني إن سجدت أنكروه، وإن تركتها كان تقصيرا مني، فاجتنبتها إلا إذا صليت وحدي. وهذا تحقيق وعد الصادق بأن يكون المعروف منكرا، والمنكر معروفا؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم لعائشة: ( لولا حدثان قومك بالكفر لهدمت البيت، ولرددته على قواعد إبراهيم ) . ولقد كان شيخنا أبو بكر الفهري يرفع يديه عند الركوع، وعند الرفع منه، وهو مذهب مالك والشافعي ويفعله الشيعة، فحضر عندي يوما في محرس ابن الشواء بالثغر - موضع تدريسي - عند صلاة الظهر، ودخل المسجد من المحرس المذكور، فتقدم إلى الصف وأنا في مؤخره قاعدا على طاقات البحر، أتنسم الريح من شدة الحر، ومعي في صف واحد أبو ثمنة رئيس البحر وقائده، مع نفر من أصحابه ينتظر الصلاة، ويتطلع على مراكب تخت الميناء، فلما رفع الشيخ يديه في الركوع وفي رفع الرأس منه قال أبو ثمنة وأصحابه: ألا ترون إلى هذا المشرقي كيف دخل مسجدنا؟ فقوموا إليه فاقتلوه وأرموا به إلى البحر، فلا يراكم أحد. فطار قلبي من بين جوانحي وقلت: سبحان الله هذا الطرطوشي فقيه الوقت. فقالوا لي: ولم يرفع يديه؟ فقلت: كذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، وهذا مذهب مالك، في رواية أهل المدينة عنه. وجعلت أسكنهم وأسكتهم حتى فرغ من صلاته، وقمت معه إلى المسكن من المحرس، ورأى تغير وجهي، فأنكره، وسألني فأعلمته، فضحك وقال: ومن أين لي أن أقتل على سنة؟ فقلت له: ولا يحل لك هذا، فإنك بين قوم إن قمت بها قاموا عليك وربما ذهب دمك. فقال: دع هذا الكلام، وخذ في غيره.

 

الآيات: 22 - 25 ( بل الذين كفروا يكذبون، والله أعلم بما يوعون، فبشرهم بعذاب أليم، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون )

 

قوله تعالى: « بل الذين كفروا يكذبون » محمدا صلى الله عليه وسلم وما جاء به. وقال مقاتل: نزلت في بني عمرو بن عمير وكانوا أربعة، فأسلم آثنان منهم. وقيل: هي في جميع الكفار. « والله أعلم بما يوعون » أي بما يضمرونه في أنفسهم من التكذيب. كذا روى الضحاك عن ابن عباس. وقال مجاهد: يكتمون من أفعالهم. ابن زيد: يجمعون من الأعمال الصالحة والسيئة؛ مأخوذ من الوعاء الذي يجمع ما فيه؛ يقال: أوعيت الزاد والمتاع: إذا جعلته في الوعاء؛ قال الشاعر:

الخير أبقى وإن طال الزمان به والشر أخبث ما أوعيت من زاد

ووعاه أي حفظه؛ تقول: وعيت الحديث أعيه وعيا، وأذن واعية. وقد تقدم.

« فبشرهم بعذاب أليم » أي موجع في جهنم على تكذيبهم. أي أجعل ذلك بمنزلة البشارة. « إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات » استثناء منقطع، كأنه قال: لكن الذين صدقوا بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وعملوا الصالحات، أي أدوا الفرائض المفروضة عليهم « لهم أجر » أي ثواب « غير ممنون » أي غير منقوص ولا مقطوع؛ يقال: مننت الحبل: إذا قطعته. وقد تقدم. « لهم أجر غير ممنون » سأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن قوله: فقال: غير مقطوع. فقال: هل تعرف ذلك العرب؟ قال: نعم قد عرفه أخو يشكر حيث يقول:

فترى خلفهن من سرعة الرجـ ـع مَنِينا كأنه أهباء

قال المبرد: المنين: الغبار؛ لأنها تقطعه وراءها. وكل ضعيف منين وممنون. وقيل: « غير ممنون » لا يمن عليهم به. وذكر ناس من أهل العلم أن قوله: « إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات » ليس استئناء، وإنما هو بمعنى الواو، كأنه قال: والذين آمنوا. وقد مضى في « البقرة » القول فيه والحمد لله.

 

سورة البروج

 

الآية: 1 ( والسماء ذات البروج )

 

قسم أقسم الله به جل وعز وفي « البروج » أقوال أربعة: أحدها: ذات النجوم؛ قاله الحسن وقتادة ومجاهد والضحاك. الثاني: القصور، قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد أيضا. قال عكرمة: هي قصور في السماء. مجاهد: البروج فيها الحرس. الثالث: ذات الخلق الحسن؛ قال المنهال بن عمرو. الرابع: ذات المنازل؛ قال أبو عبيدة ويحيى بن سلام. وهي أثنا عشر برجا، وهي منازل الكواكب والشمس والقمر. يسير القمر في كل برج منها يومين وثلت يوم؛ فذلك ثمانية وعشرون يوما، ثم يستسر ليلتين؛ وتسير الشمس في كل برج منها شهرا. وهي: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس والجدي، والدلو، والحوت. والبروج في كلام العرب: القصور؛ قال الله تعالى؛ « ولو كنتم في بروج مشيدة » [ النساء: 78 ] . وقد تقدم.

 

الآيات: 2 - 3 ( واليوم الموعود، وشاهد ومشهود )

 

قوله تعالى: « واليوم الموعود » أي الموعود به. وهو قسم آخر، وهو يوم القيامة؛ من غير اختلاف بين أهل التأويل. قال ابن عباس: وعد أهل السماء وأهل الأرض أن يجتمعوا فيه. « وشاهد ومشهود » اختلف فيهما؛ فقال علي وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهم: الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة. وهو قول الحسن. ورواه أبو هريرة مرفوعا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اليوم الموعود يوم القيامة واليوم المشهود يوم عرفة والشاهد يوم الجمعة... ) خرجه أبو عيسى الترمذي في جامعه، وقال: هذا حديت [ حسن ] غريب، لا نعرفه إلا من حديث موسى بن عبيدة، وموسى بن عبيدة يضعف في الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد وغيره. وقد روى شعبة وسفيان الثوري وغير واحد من الأئمة عنه. قال القشيري فيوم الجمعة يشهد على كل عامل بما عمل فيه.

قلت: وكذلك سائر الأيام والليالي؛ فكل يوم شاهد، وكذا كل ليلة؛ ودليله ما رواه أبو نعيم الحافظ عن معاوية بن قرة عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس من يوم يأتي على العبد إلا ينادي فيه: يا ابن آدم، أنا خلق جديد، وأنا فيما تعمل عليك شهيد، فاعمل في خيرا أشهد لك به غد، فإني لو قد مضيت لم ترني أبدا، ويقول الليل مثل ذلك ) . حديث غريب من حديث معاوية، تفرد به عنه زيد العمري، ولا أعلمه مرفوعا. عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد. وحكى القشيري عن ابن عمر وابن الزبير أن الشاهد يوم الأضحى. وقال سعيد بن المسيب: الشاهد: التروية، والمشهود: يوم عرفة. وروى إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه: الشاهد يوم عرفة، والمشهود يوم النحر. وقاله النخعي. وعن علي أيضا: المشهود يوم عرفة. وقال ابن عباس والحسين بن علي رضي الله عنهما: المشهود يوم القيامة؛ لقوله تعالى: « ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود » [ هود: 103 ] .

قلت: وعلى هذا اختلفت أقوال العلماء في الشاهد، فقيل: الله تعالى؛ عن ابن عباس والحسن وسعيد - بن جبير؛ بيانه: « وكفى بالله شهيدا » [ النساء: 79 ] ، « قل أي شيء أكبر شهادة؟ قل الله شهيد بيني وبينكم » [ الأنعام: 19 ] . وقيل: محمد صلى الله عليه وسلم؛ عن ابن عباس أيضا والحسين ابن علي؛ وقرأ ابن عباس « فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا » [ النساء: 41 ] ، وقرأ الحسين « يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا » [ الأحزاب: 45 ] .

قلت: وأقرأ أنا « ويكون الرسول عليكم شهيدا » . وقيل: الأنبياء يشهدون على أممهم؛ لقوله تعالى: « فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد » [ النساء: 41 ] . وقيل: آدم. وقيل: عيسى بن مريم؛ لقوله: « وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم » [ المائدة: 117 ] . والمشهود: أمته. وعن ابن عباس أيضا ومحمد بن كعب: الشاهد الإنسان؛ دليله: « كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا » [ الإسراء: 14 ] . مقاتل: أعضاؤه؛ بيانه: « يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون » [ النور: 24 ] . الحسين بن الفضل: الشاهد هذه الأمة، والمشهود سائر الأمم؛ بيانه: « وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس » [ البقرة: 143 ] . وقيل: الشاهد: الحفظة، والمشهود: بنو آدم. وقيل: الليالي والأيام. وقد بيناه.

قلت: وقد يشهد المال على صاحبه، والأرض بما عمل عليها؛ ففي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن هذا المال خضر حلو، ونعم صاحب المسلم هو لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل - أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وإنه من يأخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع ويكون عليه شهيدا يوم القيامة ) . وفي الترمذي عن أبي هريرة قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: « يومئذ تحدث أخبارها » [ الزلزلة: 4 ] قال: ( أتدرون ما أخبارها ) ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ( فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول عمل يوم كذا كذا كذا وكذا. قال: فهذه أخبارها ) . قال حديث حسن غريب صحيح. وقيل: الشاهد الخلق، شهدوا لله عز وجل بالوحدانية. والمشهود له بالتوحيد هو الله تعالى. وقيل: المشهود يوم الجمعة؛ كما روى أبو الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة... ) وذكر الحديث. خرجه ابن ماجه وغيره.

قلت: فعلى هذا يوم عرفة مشهود، لأن الملائكة تشهده، وتنزل فيه بالرحمة. وكذا يوم النحر إن شاء الله. وقال أبو بكر العطار: الشاهد الحجر الأسود؛ يشهد لمن لمسه بصدق وإخلاص ويقين. والمشهود الحاج. وقيل: الشاهد الأنبياء، والمشهود محمد صلى الله عليه وسلم؛ بيانه: « وإذا أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة » إلى قوله تعالى « وأنا معكم من الشاهدين » [ آل عمران: 81 ] .

 

الآيات: 4 - 7 ( قتل أصحاب الأخدود، النار ذات الوقود، إذ هم عليها قعود، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود )

 

قوله تعالى: « قتل أصحاب الأخدود » ي لعن. قال ابن عباس: كل شيء في القرآن « قتل » فهو لعن. وهذا جواب القسم في قول الفراء - واللام فيه مضمرة؛ كقوله: « والشمس وضحاها » [ الشمس: 1 ] ثم قال « قد أفلح من زكاها » [ الشمس: 9 ] : أي لقد أفلح. وقيل: فيه تقديم وتأخير؛ أي قتل أصحاب الأخدود والسماء ذات البروج؛ قاله أبو حاتم السجستاني. ابن الأنباري: وهذا غلط لأنه لا يجوز لقائل أن يقول: والله قام زيد على معنى قام زيد والله. وقال قوم: جواب القسم « إن بطش ربك لشديد » وهذا قبيح؛ لأن الكلام قد طال بينهما. وقيل: « إن الذين فتنوا » . وقيل: جواب القسم محذوف، أي والسماء ذات البروج لتبعثن. وهذا اختيار ابن الأنباري. والأخدود: الشق العظيم المستطيل في الأرض كالخندق، وجمعه أخاديد. ومنه الخد لمجاري الدموع، والمخدة؛ لأن الخد يوضع عليها. ويقال: تخدد وجه الرجل: إذا صارت فيه أخاديد من جراح. قال طرفة:

ووجه كأن الشمس حلت رداءها عليه نقي اللون لم يتخدد

« النار ذات الوقود » « النار » بدل من « الأخدود » بدل الاشتمال. و « الوقود » بفتح الواو قراءة العامة وهو الحطب. وقرأ قتادة وأبو رجاء ونصر بن عاصم ( بضم الواو ) على المصدر؛ أي ذات الاتقاد والالتهاب. وقيل: ذات الوقود بأبدان الناس. وقرأ أشهب العقيلي وأبو السمال العدوي وابن السميقع « النار ذات » بالرفع فيهما؛ أي أحرقتهم النار ذات الوقود.

 

قوله تعالى: « إذ هم عليها قعود » أي الذين خددوا الأخاديد وقعدوا عليها يلقون فيها المؤمنين، وكانوا بنجران في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم. وقد اختلفت الرواة في حديثهم. والمعنى متقارب. ففي صحيح مسلم عن صهيب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر؛ فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلى غلاما أعلمه السحر؛ فبعث إليه غلاما يعلمه؛ فكان في طريقه إذا سلك، راهب، فقعد إليه وسمع كلامه، فاعجبه؛ فكان إذا أتى الساحر م بالراهب وقعد إليه؛ فإذا أتى الساحر ضربه؛ فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي. وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر. فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجرا فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة، حتى يمضى الناس؛ فرماها فقتلها ومضى الناس. فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب: أي بني؟ أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلي؛ فإن أبتليت فلا تدل علي. وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء. فسمع جليس للملك كان قد عمي، فأتاه بهدايا كثيرة فقال: ما ها هنا لك أجمع إن أنت شفيتني. فقال: إني لا أشفي أحدا، إنما يشفي الله؛ فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك؟ فآمن بالله فشفاه الله. فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس؛ فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال ربي. قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام؛ فجيء بالغلام فقال له الملك: أي بني! أقد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص، وتفعل وتفعل؟ ! قال: أنا لا أشفي أحدا، إنما يشفي الله. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب؛ فجيء بالراهب، فقيل له: أرجع عن دينك. فأبى فدعا بالمنشار، فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع سقاه. ثم جيء بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك؛ فأبي فوضع المنشار في مفرق رأسه، فشقه به حتى وقع شقاه. ثم جيء بالغلام فقيل له: أرجع عن دينك، فأبي فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه؛ فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال: اللهم أكفنيهم بما شئت؛ فرجف بهم الجبل، فسقطوا. وجء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله. فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور، فتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه؛ فذهبوا به فقال: اللهم أكفنيهم بما شئت؛ فانكفأت بهم السفينة، فغرقوا. وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله. فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به. قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبني على جذع، ثم خذ سهما من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: باسم الله رب الغلام، ثم ارمني؛ فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع، ثم أخذ سهما من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: باسم الله رب الغلام؛ ثم رماه فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في صدغه، في موضع السهم، فمات؛ فقال الناس: آمنا برب الغلام! آمنا برب الغلام! آمنا برب الغلام فأتى الملك فقيل له: أرأيت ما كنت، تحذر؟ قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناس؛ فأمر بالأخدود في أفواه السكك، فحدث، وأضرم النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها - أو قيل له أقتحم - ففعلوا؛ حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها، فتقاعست أن تقع فيها، فقال، لها الغلام: ( يا أمة اصبري فإنك على الحق ) . خرجه الترمذي بمعناه.

وفيه: ( وكان على طريق، الغلام راهب في صومعة ) قال معمر: أحسب أن أصحاب الصوامع كانوا يومئذ مسلمين. وفيه: ( أن الدابة التي حبست الناس كانت أسدا، وأن الغلام دفن - قال - : فيذكر أنه أخرج في زمن عمر بن الخطاب وأصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل ) . وقال: حديث حسن غريب. ورواه الضحاك عن ابن عباس قال: كان ملك بنجران، وفي رعيته رجل له فتى، فبعثه إلى ساحر يعلمه السحر، وكان طريق الفتى على راهب يقرأ الإنجيل؛ فكان يعجبه ما يسمعه من الراهب، فدخل في دين الراهب؛ فأقبل يوما فإذا حية عظيمة قطعت على الناس طريقهم، فأخذ حجرا فقال باسم الله رب السموات والأرض وما بينهما؛ فقتلها. وذكر نحو ما تقدم. وأن الملك لما رماه بالسهم وقتله قال أهل مملكة الملك: لا إله إلا إله عبدالله بن ثامر، وكان اسم الغلام، فغضب الملك، وأم فخدت أخاديد، وجمع فيها حطب ونار، وعرض أهل مملكته عليها، فمن رجع عن التوحيد تركه، ومن ثبت على دينه قذفه في النار. وجيء بامرأة مرضع فقيل لها ارجعي عن دينك وإلا قذفناك وولدك - قال - فأشفقت وهمت بالرجوع، فقال لها الصبي المرضع: يا أمي، اثبتي على ما أنت عليه، فإنما هي غميضة؛ فألقوها وابنها. وروى أبو صالح عن ابن عباس أن النار ارتفعت من الأخدود فصارت فوق الملك وأصحابه أربعين ذراعا فأحرقتهم. وقال الضحاك: هم قوم من النصارى كانوا باليمن قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة، أخذهم يوسف بن شراحيل بن تبع الحميري، وكانوا نيفا وثمانين رجلا، وحفر لهم أخدودا وأحرقهم فيه. حكاه الماوردي، وحكى الثعلبي عنه أن أصحاب الأخدود من بني إسرائيل، أخذوا رجالا ونساء، فخدوا لهم الأخاديد، ثم أوقدوا فيها النار، ثم أقيم المؤمنون عليها. وقيل لهم: تكفرون أو تقذفون في النار؟ ويزعمون أنه دانيال وأصحابه؛ وقال عطية العوفي. وروي نحو هذا عن ابن عباس. وقال علي رضي الله عنه: إن ملكا سكر فوقع على أخته، فأراد أن يجعل ذلك شرعا في رعيته فلم يقبلوا؛ فأشارت إليه أن يخطب بأن الله - عز وجل - أحل نكاح الأخوات، فلم يسمع منه. فأشارت إليه أن يخد لهم الأخدود، ويلقي فيه كل من عصاه. ففعل. قال: وبقاياهم ينكحون الأخوات وهم المجوس، وكانوا أهل كتاب.

وروي عن علي أيضا أن أصحاب الأخدود كان سببهم أن نبيا بعثه الله تعالى إلى الحبشة، فاتبعه ناس، فخد لهم قومهم أخدودا، فمن اتبع النبي رمي فيها، فجيء بامرأة لها بني رضيع فجزعت، فقال لها: يا أماه، أمضى ولا تجزعي. وقال أيوب عن عكرمة قال: « قتل أصحاب الأخدود » قال: كانوا من قومك من السجستان. وقال الكلبي: هم نصارى نجران، أخذوا بها قوما مؤمنين، فخدوا لهم سبعة أخاديد، طول كل أخدود أربعون ذراعا، وعرضه أثنا عشر ذراعا. ثم طرح فيه النفط والحطب، ثم عرضوهم عليها؛ فمن أبى قذفوه فيها. وقيل: قوم من النصارى كانوا بالقسطنطينية زمان قسطنطين. وقال مقاتل: أصحاب الأخدود ثلاثة؛ واحد بنجران، والآخر بالشام، والآخر بفارس. أما الذي بالشام فأنطنيانوس الرومي، وأما الذي بفارس فبختنصر، والذي بأرض العرب يوسف بن ذي نواس. فلم ينزل الله في الذي بفارس والشام قرآنا، وأنزل قرآنا في الذي كان بنجران. وذلك أن رجلين مسلمين كان أحدهما بتهامة، والآخر بنجران، أجر أحدهما نفسه، فجعل يعمل ويقرأ الإنجيل؛ فرأت ابنة المستأجر النور في قراءة الإنجيل، فأخبرت أباها فأسلم. وبلغوا سبعة وثمانين بين رجل وامرأة، بعد ما رفع عيسى، فخد لهم يوسف بن ذي نواس بن تبع الحميري أخدودا، وأوقد فيه النار؛ وعرضهم على الكفر، فمن أبي أن يكفر قذفه في النار، وقال: من رجع عن دين عيسى لم يقذف. وإن امرأة معها ولدها صغير لم يتكلم، فرجعت، فقال لها ابنها: يا أماه، إني أرى أمامك نارا لا تطفأ، فقذفا جميعا أنفسهما في النار، فجعلها الله وأبنها في الجنة. فقذف في يوم واحد سبعة وسبعون إنسانا. وقال ابن إسحاق عن وهب بن منبه: كان رجل من بقايا أهل دين عيسى بن مريم عليه السلام، يقال له قيميون، وكان رجلا صالحا مجتهدا زاهدا في الدنيا مجاب الدعوة، وكان سائحا في القرى، لا يعرف بقرية إلا مضى عنها، وكان بناء يعمل الطين. قال محمد بن كعب القرظي، وكان أهل نجران أهل شرك يعبدون الأصنام، وكان في قرية من قراها قريبا من نجران ساحر يعلم غلمان أهل نجران السحر؛ فلما نزل بها قيميون، بنى بها خيمة بين نجران وبين تلك القرية التي بها الساحر، فجعل أهل نجران يبعثون غلمانهم إلى ذلك الساحر يعلمهم السحر، فبعث إليه الثامر عبدالله بن الثامر، فكان مع غلمان أهل نجران، وكان عبدالله إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى من أمر صلاته وعبادته، فجعل يجلس إليه ويسمع منه، حتى أسلم، فوحد الله وعبده، وجعل يسأله عن آسم الله الأعظم، وكان الراهب يعلمه، فكتمه إياه وقال: يا ابن أخي، إنك لن تحمله، أخشى ضعفك عنه؛ وكان أبو الثامر لا يظن إلا أن ابنه يختلف إلى الساحر كما يختلف الغلمان. فلما رأى عبدالله أن الراهب قد بخل عليه بتعليم اسم الله الأعظم، عمد إلى قداح فجمعها، ثم لم يبق لله تعالى أسما يعلمه إلا كتبه في قدح، لكل اسم قدح؛ حتى إذا أحصاها أوقد لها نارا، ثم جعل يقذفها فيها قدحا قدحا، حتى إذا مر بالاسم الأعظم قذف فيها بقدحه، فوثب القدح حتى خرج منها لم يضره شيء، فأخذه ثم قام إلى صاحبه، فأخبره أنه علم اسم الله الأعظم الذي كتمه إياه، فقال: وما هو؟ قال: كذا وكذا. قال: وكيف علمته؟ فأخبره بما صنع. فقال له: يا ابن أخي، قد أصبته، فأمسك على نفسك، وما أظن أن تفعل.

فجعل عبدالله بن الثامر إذا دخل نجران لم يلق أحدا به ضر إلا قال: يا عبدالله، أتوحد الله وتدخل في ديني، فأدعو الله لك فيعافيك مما أنت فيه من البلاء؟ فيقول: نعم؛ فيوحد الله ويسلم، فيدعوا الله له فيشفي، حتى لم يبق أحد بنجران به ضر إلا أتاه فاتبعه على دينه ودعا له فعوفي؛ حتى رفع شأنه إلى ملكهم، فدعاه فقال له: أفسدت علي أهل قريتي، وخالفت ديني ودين أبائي، فلأمثلن بك. قال: لا تقدر على ذلك؛ فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل، فيطرح عن رأسه، فيقع على الأرض ليس به بأس. وجعل يبعث به إلى مياه نجران، بحار لا يلقى فيها شيء إلا هلك، فيلقي فيها فيخرج ليس به بأس؛ فلما غلبه قال له عبدالله بن الثامر: والله لا تقدر على قتلي حتى توحد الله وتؤمن بما آمنت به؛ فإنك إن فعلت ذلك سلطت علي وقتلتني. فوحد الله ذلك الملك وشهد شهادته، ثم ضربه بعصا فشجه شجة صغيرة ليست بكبيرة، فقتله، وهلك الملك مكانه، واجتمع أهب نجران على دين عبدالله بن الثامر، وكان على ما جاء به عيسى بن مريم من الإنجيل وحكمه. ثم أصابهم ما أصاب أهل دينهم من الأحداث؛ فمن، ذلك كان أصل النصرانية بنجران. فسار إليهم ذو نواس اليهودي بجنوده من حمير، فدعاهم إلى اليهودية، وخيرهم بين ذلك أو القتل، فاختاروا القتل، فخد لهم الأخدود، فحرق بالنار وقتل بالسيف، ومثل بهم حتى قتل منهم عشرين ألفا. وقال وهب بن منبه: اثني عشر ألفا. وقال الكلبي: كان أصحاب الأخدود خرج ذو نواس هاربا، فاقتحم البحر بفرسه فغرق. قال ابن إسحاق: وذو نواس هذا سمه زرعة بن تبان أسعد الحميري، وكان أيضا يسمى يوسف، وكان له غدائر من شعر تنوس، أي تضطرب، فسمي ذا نواس، وكان فعل هذا بأهل نجران، فأفلت منهم رجل اسمه دوس ذو ثعلبان، فساق الحبشة لينتصر بهم، فملكوا اليمن وهلك ذو نواس في البحر، ألقي نفسه فيه، وفيه يقول عمرو بن معدي كرب:

أتوعدني كأنك ذو رعين بأنعم عيشة أو ذو نواس

وكائن كان قبلك من نعيم وملك ثابت في الناس راس

قديم عهده من عهد عاد عظيم قاهر الجبروت قاس

أزال الدهر ملكهم فأضحى ينقل من أناس في أناس

وذو رعين: ملك من ملوك حمير. ورعين حصن له وهو من ولد الحرث بن عمرو بن حمير بن سبأ.

 

مسألة: قال علماؤنا: أعلم الله عز وجل المؤمنين من هذه الأمة في هذه الآية، ما كان يلقاه من وحد قبلهم من الشدائد، يؤنسهم بذلك. وذكر لهم النبي صلى الله عليه وسلم قصة الغلام ليصبروا على ما يلاقون من الأذى والآلام، والمشقات التي كانوا عليها، ليتأسوا بمثل هذا الغلام، في صبره وتصلبه في الحق وتمسكه به، وبذله نفسه في حق إظهار دعوته، ودخول الناس في الدين مع صغر سنه وعظم صبره. وكذلك الراهب صبر على التمسك بالحق حتى نشر بالمنشار. وكذلك كثير من الناس لما آمنوا بالله تعالى ورسخ الإيمان في قلوبهم، صبروا على الطرح في النار ولم يرجعوا في دينهم. ابن العربي: وهذا منسوخ عندنا، حسب ما تقدم بيانه في سورة « النحل » .

قلت: ليس بمنسوخ عندنا، وأن الصبر على ذلك لمن قويت نفسه وصلب دينه أولى، قال الله تعالى مخبرا عن لقمان: « يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور » [ لقمان: 17 ] : وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر ) : خرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب، وروى ابن سنجر ( محمد بن سنجر ) عن أميمة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كنت أوضئ النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه رجل، قال: أوصني فقال: ( لا تشرك بالله شيئا وأن قطعت أو حرقت بالنار.. ) الحديث قال علماؤنا: ولقد امتحن كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالقتل والصلب والتعذيب الشديد، فصبروا ولم يلتفتوا إلى شيء من ذلك ويكفيك قصة عاصم وخبيب وأصحابهما وما لقوا من الحروب والمحن والقتل والأسر والحرق، وغير ذلك، وقد مضى في « النحل » أن هذا إجماع ممن قوي في ذلك، فتأمله هناك.

 

قوله تعالى: « قتل أصحاب الأخدود » دعاء على هؤلاء الكفار بالإبعاد من رحمة الله تعالى: وقيل: معناه الإخبار عن قتل أولئك المؤمنين، أي إنهم قتلوا بالنار فصبروا: وقيل: هو إخبار عن أولئك الظالمين، فإنه روي أن الله قبض أرواح الذين ألقوا في الأخدود قبل أن يصلوا إلى النار، وخرجت نار من الأخدود فأحرقت الذين هم عليها قعود: وقيل: إن المؤمنين نجوا، وأحرقت النار الذين قعدوا، ذكره النحاس، ومعنى « عليها » أي عندها وعلى بمعنى عند، وقيل: « عليها » على ما يدنو منها من حافات الأخدود، كما قال:

وبات على النار الندى والمحلق

العامل في « إذ » : « قتل » ، أي لعنوا في ذلك الوقت: « وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود » أي حضور: يعني الكفار، كانوا يعرضون الكفر على المؤمنين، فمن أبي ألقوه في النار وفي ذلك وصفهم بالقسوة ثم بالجد في ذلك: وقيل: « على » بمعنى مع، أي وهم: مع ما يفعلون بالمؤمنين شهود.

 

الآيات: 8 - 9 ( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد، الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد )

 

قوله تعالى: « وما نقموا منهم » وقرأ أبو حيوة « نقموا » بالكسر، والفصيح هو الفتح، وقد مضى في « التوبة » القول فيه: أي ما نقم الملك وأصحابه من الذين حرقهم. « إلا أن يؤمنوا » أي إلا أن يصدقوا. « بالله العزيز » أي الغالب المنيع. « الحميد » أي المحمود في كل حال. « الذي له ملك السماوات والأرض » لا شريك له ولا نديد « والله على كل شيء شهيد » أي عالم بأعمال خلقه لا تخفي عليه خافية.

 

الآيات: 10 - 11 ( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق، إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير )

 

قوله تعالى: « إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات » أي حرقوهم بالنار. والعرب تقول: فتن فلان الدرهم والدينار إذا أدخله الكور لينظر جودته. ودينار مفتون. ويسمى الصائغ الفتان، وكذلك الشيطان، وورق فتين، أي فضة محترقة. ويقال للحرة فتين، أي كأنها أحرقت حجارتها بالنار، وذلك لسوادها. « ثم لم يتوبوا » أي من قبيح صنيعهم مع ما أظهره الله لهذا الملك الجبار الظالم وقومه من الآيات والبينات على يد الغلام. « فلهم عذاب جهنم » لكفرهم. « ولهم عذاب الحريق » في الدنيا لإحراقهم المؤمنين بالنار. وقد تقدم عن ابن عباس. وقيل: « ولهم عذاب الحريق » أي ولهم في الآخرة عذاب زائد على عذاب كفرهم بما أحرقوا المؤمنين. وقيل: لهم عذاب، وعذاب جهنم الحريق. والحريق: اسم من أسماء جهنم؛ كالسعير. والنار دركات وأنواع ولها أسماء. وكأنهم يعذبون بالزمهرير في جهنم، ثم يعذبون بعذاب الحريق. فالأول عذاب ببردها، والثاني عذاب بحرها.

 

قوله تعالى: « إن الذين آمنوا » أي هؤلاء الذين كانوا آمنوا بالله؛ أي صدقوا به وبرسله. « وعملوا الصالحات لهم جنات » أي بساتين. « تجري من تحتها الأنهار » من ماء غير آسن، ومن لبن لم يتغير طعمه، ومن خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى. « ذلك الفوز الكبير » أي العظيم، الذي لا فوز يشبهه.

 

الآيات: 12 - 16 ( إن بطش ربك لشديد، إنه هو يبدئ ويعيد، وهو الغفور الودود، ذو العرش المجيد، فعال لما يريد )

 

قوله تعالى: « إن بطش ربك لشديد » أي أخذه الجبابرة والظلمة، كقوله جل ثناؤه: « وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة، إن أخذه أليم شديد » [ هود: 102 ] . وقد تقدم. قال المبرد: « إن بطش ربك » جواب القسم. المعنى: والسماء ذات البروج إن بطش ربك، وما بينهما معترض مؤكد للقسم. وكذلك قال الترمذي الحكيم في نوادر الأصول: إن القسم واقع عما ذكر صفته بالشدة: « إنه هو يبدئ ويعيد » يعني الخلق - عن أكثر العلماء - يخلقهم ابتداء، ثم يعيدهم عند البعث، وروى عكرمة قال: عجب الكفار من إحياء الله جل ثناؤه الأموات، وقال ابن عباس: يبدئ لهم عذاب الحريق في الدنيا، ثم يعيده عليهم الآخرة. وهذا اختيار الطبري. « وهو الغفور » أي الستور لذنوب عباده المؤمنين لا يفضحهم بها. « الودود » أي المحب لأوليائه. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: كما يود أحدكم أخاه بالبشرى والمحبة. وعنه أيضا « الودود » أي المتودد إلى أوليائه بالمغفرة، وقال مجاهد الواد لأوليائه، فعول بمعني فاعل. وقال ابن زيد: الرحيم، وحكى المبرد عن إسماعيل بن إسحاق القاضي أن الودود هو الذي لا ولد له، وأنشد قول الشاعر:

وأركب في الروع عريانة ذلول الجناح لقاحا ودودا

أي لا ولد لها تحن إليه، ويكون معنى الآية: إنه يغفر لعباده وليس له ولد يغفر لهم من أجله، ليكون بالمغفرة متفضلا من غير جزاء. وقيل: الودود بمعنى المودود، كركوب وحلوب، أي يوده عباده الصالحون ويحبونه.

 

قوله تعالى: « ذو العرش المجيد » قرأ الكوفيون إلا عاصما « المجيد » بالخفض، نعتا للعرش. وقيل: لـ « ربك » ؛ أي إن بطش ربك المجيد لشديد، ولم يمتنع الفصل، لأنه جار مجرى الصفة في التشديد. الباقون بالرفع نعتا لـ « ذو » وهو الله تعالى. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لأن المجد هو النهاية في الكرم والفضل، والله سبحانه المنعوت بذلك، وإن كان قد وصف عرشه بالكريم في آخر « المؤمنون » . تقول العرب: في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار؛ أي تناهيا فيه، حتى يقتبس منهما. ومعنى ذو العرش: أي ذو الملك والسلطان؛ كما يقال: فلان على سرير ملكه؛ وإن لم يكن على سرير. ويقال: ثل عرشه: أي ذهب سلطانه. وقد مضى بيان هذا في « الأعراف » وخاصة في « كتاب الأسنى، في شرح أسماء الله الحسنى » . « فعال لما يريد » أي لا يمتنع عليه شيء يريده. الزمخشري: « فعال » خبر ابتداء محذوف. وإنما قيل: « فعال » لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة. وقال الفراء: هو رفع على التكرير والاستئناف؛ لأنه نكرة محضة. وقال الطبري: رفع « فعال » وهي نكرة محضة على وجه الاتباع لإعراب « الغفور الودود » . وعن أبي السفر قال: دخل ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر رضي الله عنه يعودونه فقالوا: ألا نأتيك بطبيب؟ قال: قد رآني! قالوا: فما قال لك؟ قال: قال: إني فعال لما أريد.

 

الآيات: 17 - 19 ( هل أتاك حديث الجنود، فرعون وثمود، بل الذين كفروا في تكذيب )

 

قوله تعالى: « هل أتاك حديث الجنود » أي قد أتاك يا محمد خبر الجموع الكافرة المكذبة لأنبيائهم؛ يؤنسه بذلك ويسليه. ثم بينهم فقال: « فرعون وثمود » وهما في موضع جر على البدل من « الجنود » . المعنى: إنك قد عرفت ما فعل الله بهم حين كذبوا أبياءه ورسله. « بل الذين كفروا » أي من هؤلاء الذين لا يؤمنون بك. « في تكذيب » لك؛ كدأب من قبلهم. وإنما خص فرعون وثمود؛ لأن ثمود في بلاد العرب وقصتهم عندهم مشهورة وإن كانوا من المتقدمين، وأمر فرعون كان مشهورا عند أهل الكتاب وغيرهم، وكان من المتأخرين في الهلاك؛ فدل بهما على أمثالهما في الهلاك. والله أعلم.

 

الآيات: 20 - 22 ( والله من ورائهم محيط، بل هو قرآن مجيد، في لوح محفوظ )

 

قوله تعالى: « والله من ورائهم محيط » أي يقدر على أن ينزل بهم ما أنزل بفرعون. والمحاط به كالمحصور. وقيل: أي والله عالم بهم فهو يجازيهم. « بل هو قرآن مجيد » أي متناه في الشرف والكرم والبركة، وهو بيان ما بالناس الحاجة إليه من أحكام الدين والدنيا، لا كما زعم المشركون. وقيل « مجيد » : أي غير مخلوق. « في لوح محفوظ » أي مكتوب في لوح. وهو محفوظ عند الله تعالى من وصول الشياطين إليه. وقيل: هو أم الكتاب؛ ومنه انتسخ القرآن والكتب. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: « اللوح من ياقوتة حمراء، أعلاه معقود بالعرش وأسفله في حجر ملك يقال له ماطريون، كتابه نور، وقلمه نور، ينظر الله عز وجل فيه كل يوم ثلثمائة وستين نظره؛ ليس منها نظرة إلا وهو يفعل ما يشاء؛ يرفع وضيعا، ويضع رفيعا، ويغني فقيرا، ويفقر غنيا؛ يحيي ويميت، ويفعل ما يشاء؛ لا إله إلا هو » . وقال أنس بن مالك ومجاهد، إن اللوح المحفوظ الذي ذكره الله تعالى في جبهة إسرافيل. وقال مقاتل: اللوح المحفوظ عن يمين العرش. وقيل: اللوح المحفوظ الذي فيه أصناف الخلق والخليقة، وبيان أمورهم، وهو أم الكتاب. وقال ابن عباس: أول شيء كتبه الله تعالى في اللوح المحفوظ « إني أنا الله لا إله إلا أنا، محمد رسولي، من استسلم لقضائي، وصبر على بلائي، وشكر نعمائي، كتبته صديقا وبعثته مع الصديقين، ومن لم يستسلم لقضائي ولم يصبر على بلائي، ولم يشكر نعمائي، فليتخذ إلها سواي » . وكتب الحجاج إلى محمد بن الحنفية رضي الله عنه يتوعده؛ فكتب إليه ابن الحنفية: « بلغني أن لله تعالى في كل يوم ثلثمائة وستين نظرة في اللوح المحفوظ؛ يعز ويذل، ويبتلى ويفرح، ويفعل ما يريد؛ فلعل نظرة منها تشغلك بنفسك، فتشتغل بها ولا تتفرغ » . وقال بعض المفسرين: اللوح شيء يلوح للملائكة فيقرؤونه.

وقرأ ابن السميقع وأبو حيوة « قرآن مجيد » على الإضافة؛ أي قرآن رب مجيد. وقرأ نافع « في لوح محفوظ » بالرفع نعتا للقرآن؛ أي بل هو قرآن مجيد محفوظ في لوح. الباقون ( بالجر ) نعتا للوح. والقراء متفقون على فتح اللام من « لوح » إلا ما روي عن يحيى بن يعمر؛ فإنه قرآن « لوح » بضم اللام، أي إنه يلوج، وهو ذو نور وعلو وشرف. قال الزمخشري: واللوح الهواء؛ يعني اللوح فوق السماء السابعة الذي فيه اللوح. وفي الصحاح: لاح الشيء يلوح لوحا أي لمح. ولاحه السفر: غيره. ولاح لوحا ولواحا: عطش، والتاج مثله. واللوح: الكتف، وكل عظم عريض. واللوح: الذي يكتب فيه. واللوح ( بالضم ) : الهواء بين السماء والأرض. والحمد لله.

 

سورة الطارق

 

الآيات: 1 - 3 ( والسماء والطارق، وما أدراك ما الطارق، النجم الثاقب )

 

قوله تعالى: « والسماء والطارق » قسمان: « السماء » قسم، و « الطارق » قسم. والطارق: النجم. وقد بينه اللّه تعالى بقوله: « وما أدراك ما الطارق. النجم الثاقب » . واختلف فيه؛ فقيل: هو زحل: الكوكب الذي في السماء السابعة؛ ذكره محمد بن الحسن في تفسيره، وذكر له أخبارا، اللّه أعلم بصحتها. وقال ابن زيد: إنه الثريا. وعنه أيضا أنه زحل؛ وقاله الفراء. ابن عباس: هو الجدي. وعنه أيضا وعن علي بن أبي طالب - رضي اللّه عنهما - والفراء: « النجم الثاقب » : نجم في السماء السابعة، لا يسكنها غيره من النجوم؛ فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء، هبط فكان معها. ثم يرجع إلى مكانه من السماء السابعة، وهو زحل، فهو طارق حين ينزل، وطارق حين يصعد. وحكى الفراء: ثقب الطائر: إذا ارتفع وعلا. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قاعدا مع أبي طالب، فانحط نجم، فامتلأت الأرض نورا، ففزع أبو طالب، وقال: أي شيء هذا؟ فقال: [ هذا نجم رمي به، وهو آية من آيات اللّه ] فعجب أبو طالب، ونزل: « والسماء والطارق » . وروي عن ابن عباس أيضا « والسماء والطارق » قال: السماء وما يطرق فيها. وعن ابن عباس وعطاء: « الثاقب » : الذي ترمي به الشياطين. قتادة: هو عام في سائر النجوم؛ لأن طلوعها بليل، وكل من أتاك ليلا فهو طارق. قال:

ومثلك حبلي قد طرقت ومرضعا فألهيتها عن ذي تمائم مغيل

وقال:

ألم ترياني كلما جئت طارقا وجدت بها طيبا وإن لم تطيب

فالطارق: النجم، اسم جنس، سمي بذلك لأنه يطرق ليلا، ومنه الحديث: [ نهى النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يطرق المسافر أهله ليلا، كي تستحد المغيبة، وتمتشط الشعثة ] . والعرب تسمي كل قاصد في الليل طارقا. يقال: طرق فلان إذا جاء بليل. وقد طرق يطرق طروقا، فهو طارق. ولابن الرومي:

يا راقد الليل مسرورا بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا

لا تفرحن بليل طاب أوله فرب آخر ليل أجج النارا

وفي الصحاح: والطارق: النجم الذي يقال له كوكب الصبح. ومنه قول هند:

نحن بنات طارق نمشي على النمارق

أي إن أبانا في الشرف كالنجم المضيء. الماوردي: وأصل الطرق: الدق، ومنه سميت المطرقة، فسمي قاصد الليل طارقا، لاحتياجه في الوصول إلى الدق. وقال قوم: إنه قد يكون نهارا. والعرب تقول؛ أتيتك اليوم طرقتين: أي مرتين. ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم: ( أعوذ بك من شر طوارق الليل والنهار، إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن ) . وقال جرير في الطروق:

طرقتك صائدة القلوب وليس ذا حين الزيارة فارجعي بسلام

ثم بين فقال: « وما أدراك ما الطارق. النجم الثاقب » والثاقب: المضيء. ومنه « شهاب ثاقب » [ الصافات: 10 ] . يقال: ثقب يثقب ثقوبا وثقابة: إذا أضاء. وثقوبه: ضوئه. والعرب تقول: أثقب نارك؛ أي أضئها. قال:

أذاع به في الناس حتى كأنه بعلياء نار أوقدت بثقوب

الثقوب: ما تشعل به النار من دقاق العيدان. وقال مجاهد: الثاقب: المتوهج. القشيري والمعظم على أن الطارق والثاقب اسم جنس أريد به العموم، كما ذكرنا عن مجاهد. « وما أدراك ما الطارق » تفخيما لشأن هذا المقسم به. وقال سفيان: كل ما في القرآن « وما أدراك » ؟ فقد أخبره به. وكل شيء قال فيه « وما يدريك » : لم يخبره به.

 

الآية: 4 ( إن كل نفس لما عليها حافظ )

 

قال قتادة: حفظة يحفظون عليك رزقك وعملك وأجلك. وعنه أيضا قال: قرينه يحفظ عليه عمله: من خير أو شر. وهذا هو جواب القسم. وقيل: الجواب « إنه على رجعه لقادر » في قول الترمذي: محمد بن علي. و « إن » : مخففة من الثقيلة، و « ما » : مؤكدة، أي إن كل نفس لعليها حافظ. وقيل: المعنى إن كل نفس إلا عليها حافظ: يحفظها من الآفات، حتى يسلمها إلى القدر. قال الفراء: الحافظ من اللّه، يحفظها حتى يسلمها إلى المقادير، وقال الكلبي. وقال أبو أمامة: قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: [ وكل بالمؤمن مائة وستون ملكا يذبون عنه ما لم يقدر عليه من ذلك البصر، سبعة أملاك يذبون عنه، كما يذب عن قصعة العسل الذباب. ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين ] . وقراءة ابن عامر وعاصم وحمزة « لما » بتشديد الميم، أي ما كل نفس إلا عليها حافظ، وهي لغة هذيل: يقول قائلهم: نشدتك لما قمت. الباقون بالتخفيف، على أنها زائدة مؤكدة، كما ذكرنا. ونظير هذه الآية قوله تعالى: « له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله » [ الرعد: 11 ] ، على ما تقدم. وقيل: الحافظ هو اللّه سبحانه؛ فلولا حفظه لها لم تبق. وقيل: الحافظ عليه عقله، يرشده إلى مصالحه، ويكفه عن مضاره.

قلت: العقل وغيره وسائط، والحافظ في الحقيقة هو اللّه جل وعز؛ قال اللّه عز وجل: « فالله خير حافظا » [ يوسف: 65 ] ، وقال: « قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن » [ الأنبياء: 52 ] . وما كان مثله.

 

الآيات: 5 - 8 ( فلينظر الإنسان مم خلق، خلق من ماء دافق، يخرج من بين الصلب والترائب، إنه على رجعه لقادر )

 

قوله تعالى: « فلينظر الإنسان » أي ابن آدم « مم خلق » وجه الاتصال بما قبله توصية الإنسان بالنظر في أول أمره، وسنته الأولى، حتى يعلم أن من أنشأه قادر على إعادته وجزائه؛ فيعمل ليوم الإعادة والجزاء، ولا يملي على حافظه إلا ما يسره في عاقبة أمره. و « مم خلق » ؟ استفهام؛ أي من أي شيء خلق؟ ثم قال: « خلق » وهو جواب الاستفهام « من ماء دافق » أي من المني. والدفق: صب الماء، دفقت الماء أدفقه دفقا: صببته، فهو ماء دافق، أي مدفوق، كما قالوا: سر كاتم: أي مكتوم؛ لأنه من قولك: دفق الماء، على ما لم يسم فاعله. ولا يقال: دفق الماء. ويقال: دفق اللّه روحه: إذا دعي عليه بالموت. قال الفراء والأخفش: « من ماء دافق » أي مصبوب في الرحم، الزجاج: من ماء ذي اندفاق. يقال: دارع وفارس ونابل؛ أي ذو فرس، ودرع، ونبل. وهذا مذهب سيبويه. فالدافق هو المندفق بشدة قوته. وأراد ماءين: ماء الرجل وماء المرأة؛ لأن الإنسان مخلوق منهما، لكن جعلهما ماء واحدا لامتزاجهما. وعن عكرمة عن ابن عباس: « دافق » لزج. « يخرج » أي هذا الماء « من بين الصلب » أي الظهر. وفيه لغات أربع: صلب، وصلب - وقرئ بهما - وصلب ( بفتح اللام ) ، وصالب ( على وزن قالب ) ؛ ومنه قول العباس:

تنقل من صالب إلى رحم

« والترائب » أي الصدر، الواحدة: تريبة؛ وهي موضع القلادة من الصدر. قال:

مهفهفة بيضاء غير مفاضة ترائبها مصقولة كالسجنجل

والصلب من الرجل، والترائب من المرأة. قال ابن عباس: الترائب: موضع القلادة. وعنه: ما بين ثدييها؛ وقال عكرمة. وروي عنه: يعني ترائب المرأة: اليدين والرجلين والعينين؛ وبه قال الضحاك. وقال سعيد بن جبير: هو الجيد. مجاهد: هو ما بين المنكبين والصدر عنه: الصدر. وعنه: التراقي. وعن ابن جبير عن ابن عباس: الترائب: أربع أضلاع من هذا الجانب. وحكى الزجاج: أن الترائب أربع أضلاع من يمنة الصدر، وأربع أضلاع من يسرة الصدر. وقال معمر بن أبي حبيبة المدني: الترائب عصارة القلب؛ ومنها يكون الولد. والمشهور من كلام العرب: أنها عظام الصدر والنحر. وقال دريد بن الصمة:

فإن تدبروا نأخذكم في ظهوركم وإن تقبلوا نأخذكم في الترائب

وقال آخر:

وبدت كأن ترائبا من نحرها جمر الغضى في ساعد تتوقد

وقال آخر:

والزعفران على ترائبها شرق به اللبات والنحر

وعن عكرمة: الترائب: الصدر؛ ثم أنشد:

نظام در على ترائبها

وقال ذو الرمة:

ضرجن البرود عن ترائب حرة

أي شققن. ويروي « ضرحن » بالخاء، أي ألقين. وفي الصحاح: والتربية: واحدة الترائب، وهي عظام الصدر؛ ما بين الترقوة والثندوة. قال الشاعر:

أشرف ثدياها على التريب

وقال المثقب العبدي:

ومن ذهب يسن على تريب كلون العاج ليس بذي غضون

[ عن غير الجوهري: الثندوة للرجل: بمنزلة الثدي للمرأة. وقال الأصمعي: مغرز الثدي. وقال ابن السكيت: هي اللحم الذي حول الثدي؛ إذا ضممت أولها همزت، وإذا فتحت لم تهمز ] . وفي التفسير: يخلق من ماء الرجل الذي يخرج من صلبه العظم والعصب. ومن ماء المرأة الذي يخرج من ترائبها اللحم والدم؛ وقال الأعمش. وقد تقدم مرفوعا في أول سورة « آل عمران » . والحمد لله - وفي ( الحجرات ) « إنا خلقناكم من ذكر وأنثى » [ الحجرات:31 ] وقد تقدم. وقيل: إن ماء الرجل ينزل من الدماغ، ثم يجتمع في الأنثيين. وهذا لا يعارض قوله: « من بين الصلب » ؛ لأنه إن نزل من الدماغ، فإنما يمر بين الصلب والترائب. وقال قتادة: المعنى ويخرج من صلب الرجل وترائب المرأة. وحكى الفراء أن مثل هذا يأتي عن العرب؛ وعليه فيكون معنى من بين الصلب: من الصلب. وقال الحسن: المعنى: يخرج من صلب الرجل وترائب الرجل، ومن صلب المرأة وترائب المرأة. ثم إنا نعلم أن النطفة من جميع أجزاء البدن؛ ولذلك يشبه الرجل والديه كثيرا. وهذه الحكمة في غسل جميع الجسد من خروج المني. وأيضا المكثر من الجماع يجد وجعا في ظهره وصلبه؛ وليس ذلك إلا لخلو صلبه عما كان محتبسا من الماء. وروى إسماعيل عن أهل مكة « يخرج من بين الصلُب » بضم اللام. ورويت عن عيسى الثقفي. حكاه المهدوي وقال: من جعل المني يخرج من بين صلب الرجل وترائبه، فالضمير في « يخرج » للماء. ومن جعله من بين صلب الرجل وترائب المرأة، فالضمير للإنسان. وقرئ « الصلب » ، بفتح الصاد واللام. وفيه أربع لغات: صلب وصلب وصلب وصالب. قال العجاج:

في صلب مثل العنان المؤدم

وفي مدح النبي صلى اللّه عليه وسلم:

تنقل من صالب إلى رحم

الأبيات مشهورة معروفة. « إنه » أي إن اللّه جل ثناؤه « على رجعه » أي على رد الماء في الإحليل، « لقادر » كذا قال مجاهد والضحاك. وعنهما أيضا أن المعنى: إنه على رد الماء في الصلب؛ وقال عكرمة. وعن الضحاك أيضا أن المعنى: إنه على رد الإنسان ماء كما كان لقادر. وعنه أيضا أن المعنى: إنه على رد الإنسان من الكبر إلى الشباب، ومن الشباب إلى الكبر، لقادر. وكذا في المهدوي. وفي الماوردي والثعلبي: إلى الصبا، ومن الصبا إلى النطفة. وقال ابن زيد: إنه على حبس ذلك الماء حتى لا يخرج، لقادر. وقال ابن عباس وقتادة والحسن وعكرمة أيضا: إنه على رد الإنسان بعد الموت لقادر. وهو اختيار الطبري. الثعلبي: وهو الأقوى؛ لقوله تعالى: « يوم تبلى السرائر » [ الطارق: 9 ] قال الماوردي: ويحتمل أنه على أن يعيده إلى الدنيا بعد بعثه في الآخرة؛ لأن الكفار يسألون اللّه تعالى فيها الرجعة.

 

الآية 9 ( يوم تبلى السرائر )

 

العامل في « يوم » - وفي قول من جعل المعنى إنه على بعث الإنسان - قوله « لقادر » ، ولا يعمل فيه « رجعه » لما فيه من التفرقة بين الصلة والموصول بخبر « إن » . وعلى الأقوال الأخر التي في « إنه على رجعه لقادر » ، يكون العامل في « يوم » فعل مضمر، ولا يعمل فيه « لقادر » ؛ لأن المراد في الدنيا. و « تبلى » أي تمتحن وتختبر؛ وقال أبو الغول الطهوي:

ولا تبلى بسالتهم وإن هم صلوا بالحرب حينا بعد حين

ويروى تبلى بسالتهم. فمن رواه « تبلى » - بضم التاء - جعله من الاختبار؛ وتكون البسالة على هذه الرواية الكراهة؛ كأنه قال: لا يعرف لهم فيها كراهة. و « تبلى » تعرف. وقال الراجز:

قد كنت قبل اليوم تزدريني فاليوم أبلوك وتبتليني

أي أعرفك وتعرفني. ومن رواه « تبلى » - بفتح التاء - فالمعنى: أنهم لا يضعفون عن الحرب وإن تكررت عليهم زمانا بعد زمان. وذلك أن الأمور الشداد إذا تكررت على الإنسان هدته وأضعفته. وقيل: « تبلى السرائر » : أي تخرج مخبآتها وتظهر، وهو كل ما كان استسره الإنسان من خير أو شر، وأضمره من إيمان أو كفر؛ كما قال الأحوص:

سيبقى لها في مضمر القلب والحشا سريرة ود يوم تبلى السرائر

 

روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: ( ائتمن اللّه تعالى خلقه على أربع: على الصلاة، والصوم، والزكاة، والغسل، وهي السرائر التي يختبرها اللّه عز وجل يوم القيامة ) . ذكره المهدوي. وقال ابن عمر قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: ( ثلاث من حافظ عليها فهو ولي اللّه حقا، ومن اختانهن فهو عدو اللّه حقا: الصلاة؛ والصوم، والغسل من الجنابة ) ذكره الثعلبي. وذكر الماوردي عن زيد ابن أسلم: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( الأمانة ثلاث: الصلاة والصوم، والجنابة. استأمن اللّه عز وجل ابن آدم على الصلاة؛ فإن شاء قال صليت ولم يصل. استأمن اللّه عز وجل ابن آدم على الصوم، فإن شاء قال صمت ولم يصم. استأمن اللّه عز وجل ابن آدم على الجنابة؛ فإن شاء قال اغتسلت ولم يغتسل، اقرؤوا إن شئتم « يوم تبلى السرائر » ) ، وذكره الثعلبي عن عطاء. وقال مالك في رواية أشهب عنه، وسألته عن قوله تعالى: « يوم تبلى السرائر » : أبلغك أن الوضوء من السرائر؟ قال: قد بلغني ذلك فيما يقول الناس، فأما حديث أحدث به فلا. والصلاة من السرائر، والصيام من السرائر، إن شاء قال صليت ولم يصل. ومن السرائر ما في القلوب؛ يجزي اللّه به العباد. قال ابن العربي: قال ابن مسعود يغفر للشهيد إلا الأمانة، والوضوء من الأمانة، والصلاة والزكاة من الأمانة، والوديعة من الأمانة؛ وأشد ذلك الوديعة؛ تمثل له على هيئتها يوم أخذها؛ فيرمي بها في قعر جهنم، فيقال له: أخرجها، فيتبعها فيجعلها في عنقه، فإذا رجا أن يخرج بها زلت منه، فيتبعها؛ فهو كذلك دهر الداهرين. وقال أبي بن كعب: من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها. قال أشهب: قال لي سفيان: في الحيضة والحمل، إن قالت لم أحض وأنا حامل صدقت، ما لم تأت بما يعرف فيه أنها كاذبة. وفي الحديث: [ غسل الجنابة من الأمانة ] . وقال ابن عمر: يبدي اللّه يوم القيامة كل سر خفي، فيكون زينا في الوجوه، وشينا في الوجوه. واللّه عالم بكل شيء، ولكن يظهر علامات الملائكة والمؤمنين.

 

الآية: 10 ( فما له من قوة ولا ناصر )

 

قوله تعالى: « فما له » أي للإنسان « من قوة » أي منعة تمنعه. « ولا ناصر » ينصره مما نزل به. وعن عكرمة « فما له من قوة ولا ناصر » قال: هؤلاء الملوك، ما لهم يوم القيامة من قوة ولا ناصر. وقال سفيان: القوة: العشيرة. والناصر: الحليف. وقيل: « فما له من قوة » في بدنه. « ولا ناصر » من غيره يمتنع به من اللّه. وهو معنى قول قتادة.

 

الآيات: 11 - 16 ( والسماء ذات الرجع، والأرض ذات الصدع، إنه لقول فصل، وما هو بالهزل، إنهم يكيدون كيدا، وأكيد كيدا )

 

قوله تعالى: « والسماء ذات الرجع » أي ذات المطر. ترجع كل سنة بمطر بعد مطر. كذا قاله عامة المفسرين. وقال أهل اللغة: الرجع: المطر، وأنشدوا للمتنخل يصف سيفا شبهه بالماء:

أبيض كالرجع رسوب إذا ما ثاخ في محتفل يختلي

[ ثاخت قدمه في الوحل تثوخ وتثيخ: خاضت وغابت فيه؛ قاله الجوهري ] . قال الخليل: الرجع: المطر نفسه، والرجع أيضا: نبات الربيع. وقيل: « ذات الرجع » . أي ذات النفع. وقد يسمى المطر أيضا أوبا، كما يسمى رجعا، قال:

رباء شماء لا يأوي لقلتها إلا السحاب وإلا الأوب والسبل

وقال عبدالرحمن بن زيد: الشمس والقمر والنجوم يرجعن في السماء؛ تطلع من ناحية وتغيب في أخرى. وقيل: ذات الملائكة؛ لرجوعهم إليها بأعمال العباد. وهذا قسم. « والأرض ذات الصدع » قسم آخر؛ أي تتصدع عن النبات والشجر والثمار والأنهار؛ نظيره « ثم شققنا الأرض شقا » [ عبس: 26 ] الآية. والصدع: بمعنى الشق؛ لأنه يصدع الأرض، فتنصدع به. وكأنه قال: والأرض ذات النبات؛ لأن النبات صادع للأرض. وقال مجاهد: والأرض ذات الطرق التي تصدعها المشاة. وقيل: ذات الحرث، لأنه يصدعها. وقيل: ذات الأموات: لانصداعها عنهم للنشور. « إنه لقول فصل » على هذا وقع القسم. أي إن القرآن يفصل بين الحق والباطل. وقد تقدم في مقدمة الكتاب ما رواه الحارث عن علي رضي اللّه عنه قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: [ كتاب فيه خبر ما قبلكم وحكم ما بعدكم، هو الفصل، ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه اللّه، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله اللّه ] . وقيل: المراد بالقول الفصل: ما تقدم من الوعيد في هذه السورة، من قوله تعالى: « إنه على رجعه لقادر. يوم تبلى السرائر » . « وما هو بالهزل » أي ليس القرآن بالباطل واللعب. والهزل: ضد الجد، وقد هزل يهزل. قال الكميت:

يُجَد بنا في كل يوم ونهزِل

« إنهم » أي إن أعداء اللّه « يكيدون كيدا » أي يمكرون بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه مكرا. « وأكيد كيدا » أي أجازيهم جزاء كيدهم. وقيل: هو ما أوقع اللّه بهم يوم بدر من القتل والأسر. وقيل: كيد اللّه: استدراجهم من حيث لا يعلمون. وقد مضى هذا المعنى في أول « البقرة » ، عند قوله تعالى: « الله يستهزئ بهم » [ البقرة: 15 ] . مستوفى.

 

الآية: 17 ( فمهل الكافرين أمهلهم رويدا )

 

قوله تعالى: « فمهل الكافرين » أي أخرهم، ولا تسأل اللّه تعجيل إهلاكهم، وارض بما يدبره في أمورهم. ثم نسخت بآية السيف « فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم » [ التوبة: 5 ] . « أمهلهم » تأكيد. ومهل وأمهل: بمعنى؛ مثل نزل وأنزل. وأمهله: أنظره، ومهله تمهيلا، والاسم: المهلة. والاستمهال: الاستنظار. وتمهل في أمره أي اتأد. واتمهل اتمهلالا: أي اعتدل وانتصب. والاتمهلال أيضا: سكون وفتور. ويقال: مهلا يا فلان؛ أي رفقا وسكونا. « رويدا » أي قريبا؛ عن ابن عباس. قتادة: قليلا. والتقدير: أمهلهم إمهالا قليلا. والرويد في كلام العرب: تصغير رود. وكذا قاله أبو عبيد. وأنشد:

كأنها ثمل يمشي على رود

أي على مهل. وتفسير « رويدا » : مهلا، وتفسير رويدك: أمهل؛ لأن الكاف إنما تدخله إذا كان بمعنى أفعل دون غيره، وإنما حركت الدال لالتقاء الساكنين، فنصب نصب المصادر، وهو مصغر مأموو به؛ لأنه تصغير الترخيم من إرواد؛ وهو مصدر أرود يرود. وله أربعة أوجه: اسم للفعل، وصفة، وحال، ومصدر؛ فالاسم نحو قولك: رويد عمرا؛ أي أرود عمرا، بمعنى أمهله. والصفة نحو قولك: ساروا سيرا رويدا. والحال نحو قولك: سار القوم رويدا؛ لما اتصل بالمعرفة صار حالا لها. والمصدر نحو قولك: رويد عمرو بالإضافة؛ كقوله تعالى: « فضرب الرقاب » [ محمد: 4 ] . قال جميعه الجوهري. والذي في الآية من هذه الوجوه أن يكون نعتا للمصدر؛ أي إمهالا رويدا. ويجوز أن يكون للحال؛ أي أمهلهم غير مستعجل لهم العذاب. ختمت السورة.

 

سورة الأعلى

 

الآية: 1 ( سبح اسم ربك الأعلى )

 

يستحب للقارئ إذا قرأ « سبح اسم ربك الأعلى » أن يقول عقبه: سبحان ربي الأعلى؛ قاله النبي صلى اللّه عليه وسلم، وقاله جماعة من الصحابة والتابعين؛ على ما يأتي. وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال: ( إن لله تعالى ملكا يقال له حِزقيائيل، له ثمانية عشر ألف جناح، ما بين الجناح إلى الجناح مسيرة خمسمائة عام، فخطر له خاطر هل تقدر أن تبصر العرش جميعه؟ فزاده اللّه أجنحة مثلها، فكان له ستة وثلاثون ألف جناح، ما بين الجناح إلى الجناح خمسمائة عام. ثم أوحى اللّه إليه: أيها الملك، أن طر، فطار مقدار عشرين ألف سنة؛ فلم يبلغ رأس قائمة من قوائم العرش. ثم ضاعف اللّه له في الأجنحة والقوة، وأمره أن يطير، فطار مقدار ثلاثين ألف سنة أخرى، فلم يصل أيضا؛ فأوحى اللّه إليه أيها الملك، لو طرت إلى نفخ الصور مع أجنحتك وقوتك لم تبلغ ساق عرشي. فقال الملك: سبحان ربي الأعلى؛ فأنزل اللّه تعالى: « سبح اسم ربك الأعلى » . فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: اجعلوها في سجودكم ) . ذكره الثعلبي في ( كتاب العرائس ) له. وقال ابن عباس والسدي: معنى « سبح اسم ربك الأعلى » أي عظم ربك الأعلى. والاسم صلة، قصد بها تعظيم المسمى؛ كما قال لبيد:

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما

وقيل: نزه ربك عن السوء، وعما يقول فيه الملحدون. وذكر الطبري أن المعنى نزه اسم ربك عن أن تسمي به أحدا سواه. وقيل: نزه تسمية ربك وذكرك إياه، أن تذكره إلا وأنت خاشع معظم، ولذكره محترم. وجعلوا الاسم بمعنى التسمية، والأولى أن يكون الاسم هو المسمى. روى نافع عن ابن عمر قال: لا تقل على اسم اللّه؛ فإن اسم اللّه هو الأعلى. وروى أبو صالح عن ابن عباس: صلّ بأمر ربك الأعلى. قال: وهو أن تقول سبحان ربك الأعلى. وروي عن علي رضي اللّه عنه، وابن عباس وابن عمرو وابن الزبير وأبي موسى وعبدالله بن مسعود رضي اللّه عنهم: أنهم كانوا إذا افتتحوا قراءة هذه السورة قالوا: سبحان ربي الأعلى؛ امتثالا لأمره في ابتدائها. فيختار الاقتداء بهم في قراءتهم؛ لا أن سبحان ربي الأعلى من القرآن؛ كما قاله بعض أهل الزيغ. وقيل: إنها في قراءة أُبيّ: « سبحان ربي الأعلى » . وكان ابن عمر يقرؤها كذلك. وفي الحديث: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا قرأها قال: [ سبحان ربي الأعلى ] .

قال أبو بكر الأنباري: حدثني محمد بن شهريار، قال: حدثنا حسين بن الأسود، قال: حدثنا عبدالرحمن بن أبي حماد قال: حدثنا عيسى بن عمر، عن أبيه، قال: قرأ علي بن أبي طالب عليه السلام في الصلاة « سبح اسم ربك الأعلى » ، ثم قال: سبحان ربي الأعلى؛ فلما انقضت الصلاة قيل له: يا أمير المؤمنين، أتزيد هذا في القرآن؟ قال: ما هو؟ قالوا: سبحان ربي الأعلى. قال: لا، إنما أمرنا بشيء فقلته، وعن عقبة بن عامر الجهني قال: لما نزلت « سبح اسم ربك الأعلى » قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( اجعلوها في سجودكم ) . وهذا كله يدل على أن الاسم هو المسمى؛ لأنهم لم يقولوا: سبحان اسم ربك الأعلى. وقيل: إن أول من قال [ سبحان ربي الأعلى ] ميكائيل عليه السلام. وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لجبريل: ( يا جبريل أخبرني بثواب من قال: سبحان ربي الأعلى في صلاته أو في غير صلاته ) . فقال: ( يا محمد، ما من مؤمن ولا مؤمنة يقولها في سجوده أو في غير سجوده، إلا كانت له في ميزانه أثقل من العرش والكرسي وجبال الدنيا، ويقول اللّه تعالى: صدق عبدي، أنا فوق كل شيء، وليس فوقي شيء، اشهدوا يا ملائكتي أني قد غفرت له، وأدخلته الجنة فإذا مات زاره ميكائيل كل يوم، فإذا كان يوم القيامة حمله على جناحه، فأوقفه بين يدي اللّه تعالى، فيقول: يا رب شفعني فيه، فيقول قد شفعتك فيه، فاذهب به إلى الجنة ) . وقال الحسن: « سبح اسم ربك الأعلى » أي صل لربك الأعلى. وقل: أي صل بأسماء اللّه، لا كما يصلي المشركون بالمكاء والتصدية. وقيل: ارفع صوتك بذكر ربك. قال جرير:

قبح الإله وجوه تغلب كلما سبح الحجيج وكبروا تكبيرا

 

الآيات: 2 - 5 ( الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، والذي أخرج المرعى، فجعله غثاء أحوى )

 

قوله تعالى: « الذي خلق فسوى » قد تقدم معنى التسوية في « الانفطار » وغيرها. أي سوى ما خلق، فلم يكن في خلقه تثبيج. وقال الزجاج: أي عدل قامته. وعن أكثر قامته. ابن عباس: حسن ما خلق. وقال الضحاك: خلق آدم فسوى خلقه. وقيل: خلق في أصلاب الآباء، وسوى في أرحام الأمهات. وقيل: خلق الأجساد، فسوى الأفهام. وقيل: أي خلق الإنسان وهيأه للتكليف. « الذي قدر فهدى » قرأ علي رضي اللّه عنه السلمي والكسائي « قدر » مخففة الدال، وشدد الباقون. وهما بمعنى واحد. أي قدر ووفق لكل شكل شكل. « فهدى » أي أرشد. قال مجاهد: قدر الشقاوة والسعادة، وهدى للرشد والضلالة. وعنه قال: هدى الإنسان للسعادة والشقاوة، وهدى الأنعام لمراعيها. وقيل: قدر أقواتهم وأرزاقهم، وهداهم لمعاشهم إن كانوا إنسا، ولمراعيهم إن كانوا وحشا. وروي عن ابن عباس والسدي ومقاتل والكلبي في قوله « فهدى » قالوا: عَرّف خلقه كيف يأتي الذكر الأنثى؛ كما قال في ( طه ) : « الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى » [ طه: 50 ] أي الذكر للأنثى. وقال عطاء: جعل لكل دابة ما يصلحها، وهداها له. وقيل: خلق المنافع في الأشياء، وهدى الإنسان لوجه استخراجها منها. وقيل « قدر فهدى » : قدر لكل حيوان ما يصلحه، فهداه، وعرفه وجه الانتفاع به. يحكى أن الأفعى إذا أتت عليها ألف سنة عميت، وقد ألهمها اللّه أن مسح العين بورق الرازيانج الغض يرد إليها بصرها؛ فربما كانت في برية بينها وبين الريف مسيرة أيام، فتطوي تلك المسافة على طولها وعلى عماها، حتى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرازيانج لا تخطئها، فتحك بها عينيها وترجع باصرة بإذن اللّه تعالى. وهدايات الإنسان إلى ما لا يحد من مصالحه، ولا يحصر من حوائجه، في أغذيته وأدويته، وفي أبواب دنياه ودينه، وإلهامات البهائم والطيور وهوام الأرض باب واسع، وشوط بطين، لا يحيط به وصف واصف؛ فسبحان ربي الأعلى. وقال السدي: قدر مدة الجنين في الرحم تسعة أشهر، وأقل وأكثر، ثم هداه للخروج من الرحم. وقال الفراء: أي قدر، فهدى وأضل؛ فاكتفى بذكر أحدهما؛ كقوله تعالى: « سرابيل تقيكم الحر » [ النحل: 81 ] . ويحتمل أن يكون بمعنى دعا إلى الإيمان؛ كقوله تعالى: « وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم » . [ الشورى: 52 ] . أي لتدعو، وقد دعا الكل إلى الإيمان. وقيل: « فهدى » أي دلهم بأفعاله على توحيده، وكونه عالما قادرا. ولا خلاف أن من شدد الدال من « قدر » أنه من التقدير؛ كقوله تعالى: « وخلق كل شيء فقدره تقديرا » [ الفرقان: 2 ] . ومن خفف فيحتمل أن يكون من التقدير فيكونان بمعنى. ويحتمل أن يكون من القدر والملك؛ أي ملك الأشياء، وهدي من يشاء.

قلت: وسمعت بعض أشياخي يقول: الذي خلق فسوى وقدر فهدى. هو تفسير العلو الذي يليق بجلال اللّه سبحانه على جميع مخلوقاته.

 

قوله تعالى: « والذي أخرج المرعى » أي النبات والكلأ الأخضر. قال الشاعر:

وقد ينبت المرعى على دمن الثرى وتبقى حزازات النفوس كما هيا

« فجعله غثاء أحوى » الغثاء: ما يقذف به السيل على جوانب الوادي من الحشيش والنبات والقماش. وكذلك الغثاء ( بالتشديد ) . والجمع: الأغثاء، قتادة: الغثاء: الشيء اليابس. ويقال للبقل والحشيش إذا تحطم ويبس: غثاء وهشيم. وكذلك للذي يكون حول الماء من القماش غثاء؛ كما قال:

كأن طمية المجيمر غدوة من السيل والأغثاء فلكة مغزل

وحكى أهل اللغة: غثا الوادي وجفا. وكذلك الماء: إذا علاه من الزبد والقماش ما لا ينتفع به. والأحوى: الأسود؛ أي أن النبات يضرب إلى الحوة من شدة الخضرة كالأسود. والحوة: السواد؛ قال الأعشى:

لمياء في شفتيها حوة لعس وفي اللثاث وفي أنيابها شنب

وفي الصحاح: والحوة: سمرة الشفة. يقال: رجل أحوى، وامرأة حواء، وقد حويت. وبعير أحوى إذا خالط خضرته سواد وصفوة. وتصغير أحوى أحيو؛ في لغة من قال أسيود. ثم قيل: يجوز أن يكون « أحوى » حالا من « المرعى » ، ويكون المعنى: كأنه من خضرته يضرب إلى السواد؛ والتقدير: أخرج المرعى أحوى، فجعله غثاء يقال: قد حوي النبت؛ حكاه الكسائي، وقال:

وغيث من الوسميّ حُوٍّ تلاعه تبطنته بشيظم صلتان

ويجوز أن يكون « حوى » صفة لـ « غثاء » . والمعنى: أنه صار كذلك بعد خضرته. وقال أبو عبيدة: فجعله أسود من احتراقه وقدمه؛ والرطب إذا يبس أسود. وقال عبدالرحمن زيد: أخرج المرعى أخضر، ثم لما يبس أسود من احتراقه، فصار غثاء تذهب به الرياح والسيول. وهو مثل ضربه اللّه تعالى للكفار، لذهاب الدنيا بعد نضارتها.

 

الآيات: 6 - 8 ( سنقرئك فلا تنسى، إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى، ونيسرك لليسرى )

 

قوله تعالى: « سنقرئك » أي القرآن يا محمد فنعلمكه « فلا تنسى » أي فتحفظ؛ رواه ابن وهب عن مالك. وهذه بشرى من اللّه تعالى؛ بشره بأن أعطاه آية بينة، وهي أن يقرأ عليه جبريل ما يقرأ عليه من الوحي، وهو أُمي لا يكتب ولا يقرأ، فيحفظه ولا ينساه. وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد، قال: كان يتذكر مخافة أن ينسى، فقيل: كفيتكه. قال مجاهد والكلبي: كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا نزل عليه جبريل بالوحي، لم يفرغ جبريل من آخر الآية، حتى يتكلم النبي صلى اللّه عليه وسلم بأولها، مخافة أن ينساها؛ فنزلت: « سنقرئك فلا تنسى » بعد ذلك شيئا، فقد كفيتكه.

 

قوله تعالى: « إلا ما شاء الله » وجه الاستثناء على، ما قاله الفراء: إلا ما شاء اللّه، وهو لم يشأ أن تنسى شيئا؛ كقوله تعالى: « خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك » [ هود: 108 ] . ولا يشاء. ويقال في الكلام: لأعطينك كل ما سألت إلا ما شئت، وإلا أن أشاء أن أمنعك، والنية على ألا يمنعه شيئا. فعلى هذا مجاري الإيمان؛ يستثنى فيها ونية الحالف التمام. وفي رواية أبي صالح عن ابن عباس: فلم ينس بعد نزول هذه الآية حتى مات، « إلا ما شاء اللّه » . وعن سعيد عن قتادة، قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا ينسى شيئا؛ « إلا ما شاء اللّه » . وعلى هذه الأقوال قيل: إلا ما شاء اللّه أن ينسى، ولكنه لم ينسى شيئا منه بعد نزول هذه الآية. وقيل: إلا ما شاء اللّه أن ينسى، ثم يذكر بعد ذلك؛ فاذا قد نسي، ولكنه يتذكر ولا ينسى نسيانا كليا. وقد روي أنه أسقط آية في قراءته في الصلاة، فحسب أبي أنها نسخت، فسأله فقال: [ إني نسيتها ] . وقيل: هو من النسيان؛ أي إلا ما شاء اللّه أن ينسيك. ثم قيل: هذا بمعنى النسخ؛ أي إلا ما شاء اللّه أن ينسخه. والاستثناء نوع من النسخ. وقيل. النسيان بمعنى الترك؛ أي يعصمك من أن تترك العمل به؛ إلا ما شاء اللّه أن تتركه لنسخه إياه. فهذا في نسخ العمل، والأول في نسخ القراءة. قال الفرغاني: كان يغشى مجلس الجنيد أهل البسط من العلوم، وكان يغشاه ابن كيسان النحوي، وكان رجلا جليلا؛ فقال يوما: ما تقول يا أبا القاسم في قول اللّه تعالى: « سنقرئك فلا تنسى » ؟ فأجابه مسرعا - كأنه تقدم له السؤال قبل ذلك بأوقات: لا تنسى العمل به. فقال ابن كيسان: لا يفضض اللّه فاك مثلك من يصدر عن رأيه. وقوله « فلا » : للنفي لا للنهي. وقيل: للنهي؛ وإنما أثبتت الياء لأن رؤوس الآي على ذلك. والمعنى: لا تغفل عن قراءته وتكراره فتنساه؛ إلا ما شاء اللّه أن ينسيكه برفع تلاوته للمصلحة. والأول هو المختار؛ لأن الاستثناء من النهي لا يكاد يكون إلا مؤقتا معلوما. وأيضا فإن الياء مثبتة في جميع المصاحف، وعليها القراء. وقيل: معناه إلا ما شاء اللّه أن يؤخر إنزاله. وقيل: المعنى فجعله غثاء أحوى إلا ما شاء اللّه أن ينال بنو آدم والبهائم، فإنه لا يصير كذلك.

 

قوله تعالى: « إنه يعلم الجهر وما يخفى » أي الإعلان من القول والعمل. « وما يخفى » من السر. وعن ابن عباس: ما في قلبك ونفسك. وقال محمد بن حاتم: يعلم إعلان الصدقة وإخفاءها. وقيل: الجهر ما حفظته من القرآن في صدرك. « وما يخفى » هو ما نسخ من صدرك. « ونيسرك » : معطوف على « سنقرئك » وقوله: « إنه يعلم الجهر وما يخفى » اعتراش. ومعنى « لليسرى » أي للطريقة اليسرى؛ وهي عمل الخير. قال ابن عباس: نيسرك لأن تعمل خيرا. ابن مسعود: « لليسرى » أي للجنة. وقيل: نوفقك للشريعة اليسرى؛ وهي الحنيفية السمحة السهلة؛ قال معناه الضحاك. وقيل: أي نهون عليك الوحي حتى تحفظه وتعمل به.

 

الآية: 9 ( فذكر إن نفعت الذكرى )

 

قوله تعالى: « فذكر » أي فعظ قومك يا محمد بالقرآن. « إن نفعت الذكرى » أي الموعظة. وروى يونس عن الحسن قال: تذكرة للمؤمن، وحجة على الكافر. وكان ابن عباس يقول: تنفع أوليائي، ولا تنفع أعدائي. وقال الجرجاني: التذكير واجب وإن لم ينفع. والمعنى: فذكر إن نفعت الذكرى؛ أو لم تنفع، فحذف؛ كما قال: « سرابيل تقيكم الحر » [ النحل: 81 ] . وقيل: إنه مخصوص بأقوام بأعيانهم. وقيل: إن « إن » بمعنى ما؛ أي فذكر ما نفعت الذكرى، فتكون « إن » بمعنى ما، لا بمعنى الشرط؛ لأن الذكرى نافعة بكل حال؛ قال ابن شجرة. وذكر بعض أهل العربية: « أن » « إن » بمعنى إذ؛ أي إذ نفعت؛ كقوله تعالى: « وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين » [ آل عمران: 139 ] أي إذ كنتم؛ فلم يخبر بعلوهم إلا بعد إيمانهم. وقيل: بمعنى قد.

 

الآية: 10 ( سيذكر من يخشى )

 

أي من يتقي اللّه ويخافه. فروى أبو صالح عن ابن عباس قال: نزلت في ابن أم مكتوم. الماوردي: وقد يذكر من يرجوه، إلا أن تذكرة الخاشي أبلغ من تذكرة الراجي؛ فلذلك علقها بالخشية دون الرجاء، وإن تعلقت بالخشية والرجاء. وقيل: أي عمم أنت التذكير والوعظ، وإن كان الوعظ إنما ينفع من يخشى، ولكن يحصل لك ثواب الدعاء؛ حكاه القشيري.

 

الآيات: 11 - 13 ( ويتجنبها الأشقى، الذي يصلى النار الكبرى، ثم لا يموت فيها ولا يحيى )

 

قوله تعالى: « ويتجنبها » أي ويتجنب الذكرى ويبعد عنها. « الأشقى » أي الشقي في علم اللّه. وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة. « الذي يصلى النار الكبرى » أي العظمى، وهي السفلى من أطباق النار؛ قاله الفراء. وعن الحسن: الكبرى نار جهنم، والصغرى نار الدنيا؛ وقاله يحيى بن سلام. « ثم لا يموت فيها ولا يحيى » أي لا يموت فيستريح من العذاب، ولا يحيا حياة تنفعه؛ كما قال الشاعر:

ألا ما لنفس لا تموت فينقضي عناها ولا تحيا حياة لها طعم

وقد مضى في « النساء » وغيرها حديث أبي سعيد الخدري، وأن الموحدين من المؤمنين إذا دخلوا جهنم - وهي النار الصغرى على قول الفراء - احترقوا فيها وماتوا؛ إلى أن يشفع فيهم. خرجه مسلم. وقيل: أهل الشقاء متفاوتون في شقائهم، هذا الوعيد للأشقى، وإن كان ثم شقي لا يبلغ هذه المرتبة.

 

الآيات: 14 - 15 ( قد أفلح من تزكى، وذكر اسم ربه فصلى )

 

قوله تعالى: « قد أفلح » أي قد صادف البقاء في الجنة؛ أي من تطهر من الشرك بإيمان؛ قاله ابن عباس وعطاء وعكرمة. وقال الحسن والربيع: من كان عمله زاكيا ناميا. وقال معمر عن قتادة: « تزكى » قال بعمل صالح. وعنه وعن عطاء وأبي عالية: نزلت في صدقة الفطر. وعن ابن سيرين « قد أفلح من تزكى. وذكر اسم ربه فصلى » قال: خرج فصلى بعدما أدى. وقال عكرمة: كان الرجل يقول أقدم زكاتي بين يدي صلاتي. فقال سفيان: قال اللّه تعالى: « قد أفلح من تزكى. وذكر اسم ربه فصلى » . وروي عن أبي سعيد الخدري وابن عمر: أن ذلك في صدقة الفطر، وصلاة العيد. وكذلك قال أبو العالية، وقال: إن أهل المدينة لا يرون صدقة أفضل منها، ومن سقاية الماء. وروى كثير بن عبدالله عن أبيه عن جده، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله تعالى: « قد أفلح من تزكى » قال: [ أخرج زكاة الفطر ] ، « وذكر اسم ربه فصلى » قال: [ صلاة العيد ] . وقال ابن عباس والضحاك: « وذكر اسم ربه » في طريق المصلى « فصلى » صلاة العيد. وقيل: المراد بالآية زكاة الأموال كلها؛ قال أبو الأحوص وعطاء. وروى ابن جريج قال: قلت لعطاء: « قد أفلح من تزكى » للفطر؟ قال: هي للصدقات كلها. وقيل: هي زكاة الأعمال، لا زكاة الأموال، أي تطهر في أعماله من الرياء والتقصير؛ لأن الأكثر أن يقال في المال: زكى، لا تزكى. وروى جابر بن عبدالله قال: قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: [ « قد أفلح من تزكى » أي من شهد أن لا إله إلا اللّه، وخلع الأنداد، وشهد أني رسول اللّه ] . وعن ابن عباس « تزكى » قال: لا إله إلا اللّه. وروى عنه عطاء قال: نزلت في عثمان بن عفان رضي اللّه عنه. قال: كان بالمدينة منافق كانت له نخلة بالمدينة، مائلة في دار رجل من الأنصار، إذا هبت الرياح أسقطت البسر والرطب إلى دار الأنصاري، فيأكل هو وعياله، فخاصمه المنافق؛ فشكا ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأرسل إلى المنافق وهو لا يعلم نفاقه، فقال: [ إن أخاك الأنصاري ذكر أن بسرك ورطبك يقع إلى منزل، فيأكل هو وعياله، فهل لك أن أعطيك نخلة في الجنة بدلها ] ؟ فقال: أبيع عاجلا بآجل لا أفعل. فذكروا أن عثمان بن عفان أعطاه حائطا من نخل بدل نخلته؛ ففيه نزلت « قد أفلح من تزكى » . ونزلت في المنافق « ويتجنبها الأشقى » . وذكر الضحاك أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه.

 

وقد ذكرنا القول في زكاة الفطر في السورة « البقرة » مستوفى. وقد تقدم أن هذه السورة مكية؛ في قول الجمهور، ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة فطر. القشيري: ولا يبعد أن يكون أثنى على من يمتثل أمره في صدقة الفطر وصلاة العيد، فيما يأمر به في المستقبل.

 

قوله تعالى: « وذكر اسم ربه فصلى » أي ذكر ربه. وروى عطاء عن ابن عباس قال: يريد ذكر معاده وموقفه بين يدي اللّه جل ثناؤه، فعبده وصلى له. وقيل: ذكر اسم ربه بالتكبير في أول الصلاة، لأنها لا تنعقد إلا بذكره؛ وهو قوله: اللّه أكبر: وبه يحتج على وجوب تكبيرة الافتتاح، وعلى أنها ليست من الصلاة؛ لأن الصلاة معطوفة عليها. وفيه حجة لمن قال: إن الافتتاح جائز بكل اسم من أسماء اللّه عز وجل. وهذه مسألة خلافية بين الفقهاء. وقد مضى القول في هذا في أول سورة « البقرة » . وقيل: هي تكبيرات العيد. قال الضحاك: « وذكر اسم ربه » في طريق المصلى « فصلى » ؛ أي صلاة العيد. وقيل: « وذكر اسم ربه » وهو أن يذكره بقلبه عند صلاته، فيخاف عقابه، ويرجو ثوابه؛ ليكون استيفاؤه لها، وخشوعه فيها، بحسب خوفه ورجائه. وقيل: هو أن يفتتح أول كل سورة ببسم اللّه الرحمن الرحيم. « فصلى » أي فصلى وذكر. ولا فرق بين أن تقول: أكرمتني فزرتني، وبين أن تقول: زرتني فأكرمتني. قال ابن عباس: هذا في الصلاة المفروضة، وهي الصلوات الخمس. وقيل: الدعاء؛ أي دعاء اللّه بحوائج الدنيا والآخرة. وقيل: صلاة العيد؛ قال أبو سعيد الخدري وابن عمر وغيرهما. وقد تقدم. وقيل: هو أن يتطوع بصلاة بعد زكاته؛ قال أبو الأحوص، وهو مقتضى قول عطاء. وروي عن عبدالله قال: من أقام الصلاة ولم يؤت الزكاة فلا صلاة له.

 

الآية: 16 ( بل تؤثرون الحياة الدنيا )

 

قراءة العامة « بل تؤثرون » بالتاء؛ تصديقه قراءة أُبيّ « بل أنتم تؤثرون » . وقرأ أبو عمرو ونصر بن عاصم « بل يؤثرون » بالياء على الغيبة؛ تقديره: بل يؤثرون الأشقون الحياة الدنيا. وعلى الأول فيكون تأويلها بل تؤثرون أيها المسلمون الاستكثار من الدنيا، للاستكثار من الثواب. وعن ابن مسعود أنه قرأ هذه الآية، فقال: أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة؟ لأن الدنيا حضرت وعجلت لنا طيباتها وطعامها وشرابها، ولذاتها وبهجتها، والآخرة غيبت عنا، فأخذنا العاجل، وتركنا الآجل. وروى ثابت عن أنس قال: كنا مع أبي موسى في مسير، والناس يتكلمون ويذكرون الدنيا. قال أبو موسى: يا أنس، إن هؤلاء يكاد أحدهم يفري الأديم بلسانه فريا، فتعال فلنذكر ربنا ساعة. ثم قال: يا أنس، ما ثَبَر الناس ما بطأ بهم؟ قلت الدنيا والشيطان والشهوات. قال: لا، ولكن عجلت الدنيا، وغيبت الآخرة، أما واللّه لو عاينوها ما عدلوا ولا ميلوا.

 

الآية: 17 ( والآخرة خير وأبقى )

 

أي والدار الآخرة؛ أي الجنة. « خير » أي أفضل. « وأبقى » أي أدوم من الدنيا. وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: [ ما الدنيا في الآخرة إلا كما يضع أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع ] صحيح. وقد تقدم. وقال مالك بن دينار: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من خزف يبقى، لكان الواجب أن يؤثر خزف يبقى، على ذهب يفنى. قال: فكيف والآخرة من ذهب يبقى، والدنيا من خزف يفنى.

 

الآيات: 18 - 19 ( إن هذا لفي الصحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى )

 

قوله تعالى: « إن هذا لفي الصحف الأولى » قال قتادة وابن زيد: يريد قوله « والآخرة خير وأبقى » . وقالا: تتابعت كتب اللّه جل ثناؤه ـ كما تسمعون ـ أن الآخرة خير وأبقى من الدنيا. وقال الحسن: « إن هذا لفي الصحف الأولى » قال: كتب اللّه جل ثناؤه كلها. الكلبي: « إن هذا لفي الصحف الأولى » من قوله: « قد أفلح » إلي آخر السورة؛ لحديث أبي ذر على ما يأتي. وروى عكرمة عن ابن عباس: « إن هذا لفي الصحف الأولى » قال: هذه السورة. وقال الضحاك: إن هذا القرآن لفي الصحف الأولى؛ أي الكتب الأولى. « صحف إبراهيم وموسى » يعني الكتب المنزلة عليهما. ولم يرد أن هذه الألفاظ بعينها في تلك الصحف، وإنما هو على المعنى؛ أي إن معنى هذا الكلام وارد في تلك الصحف. وروى الآجري من حديث أبي ذر قال: قلت يا رسول اللّه، فما كانت صحف إبراهيم؟ قال: كانت أمثالا كلها: أيها الملك المتسلط المبتلى المغرور، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم. فإني لا أردها ولو كانت من فم كافر. وكان فيها أمثال: وعلى العاقل أن يكون له ثلاث ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، يفكر فيها في صنع اللّه عز وجل إليه، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب. وعلى العاقل ألا يكون ظاعنا إلا في ثلاث: تزود لمعاد، ومرمة لمعاش، ولذة في غير محرم. وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه، مقبلا على شأنه، حافظا للسانه. ومن عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعينه. قال: قلت يا رسول اللّه، فما كانت صحف موسى؟ قال: كانت عبرا كلها: عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح! وعجبت لمن أيقن بالقدر كيف ينصب. وعجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها! وعجبت لمن أيقن بالحساب غدا ثم هو لا يعمل!. قال: قلت يا رسول اللّه، فهل في أيدينا شيء مما كان في يديه إبراهيم وموسى، مما أنزل اللّه عليك؟ قال: نعم اقرأ يا أبا ذر: « قد أفلح من تزكى. وذكر اسم ربه فصلى. بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى. إن هذا لفي الصحف الأولى. صحف إبراهيم وموسى » . وذكر الحديث.

 

سورة الغاشية

 

الآية: 1 ( هل أتاك حديث الغاشية )

 

« هل » بمعنى قد؛ كقوله: « هل أتى على الإنسان » [ الإنسان: 1 ] ؛ قاله قطرب. أي قد جاءك يا محمد حديث الغاشية؛ أي القيامة التي تغشى الخلائق بأهوالها وأفزاعها؛ قاله أكثر المفسرين. وقال سعيد بن جبير ومحمد بن كعب: « الغاشية » : النار تغشى وجوه الكفار؛ ورواه أبو صالح عن ابن عباس؛ ودليله قوله تعالى: « وتغشى وجوههم النار » [ إبراهيم: 50 ] . وقيل: تغشى الخلق. وقيل: المراد النفخة الثانية للبعث؛ لأنها تغشى الخلائق. وقيل: « الغاشية » أهل النار يغشونها، ويقتحمون فيها. وقيل: معنى « هل أتاك » أي هذا لم يكن من علمك، ولا من علم قومك. قال ابن عباس: لم يكن أتاه قبل ذلك على هذا التفصيل المذكور ها هنا. وقيل: إنها خرجت مخرج الاستفهام لرسوله؛ ومعناه إن لم يكن أتاك حديث الغاشية فقد أتاك؛ وهو معنى قول الكلبي.

 

الآيات: 2 - 3 ( وجوه يومئذ خاشعة، عاملة ناصبة )

 

قال ابن عباس: لم يكن أتاه حديثهم، فأخبره عنهم، فقال: « وجوه يومئذ » أي يوم القيامة. « خاشعة » قال سفيان: أي ذليلة بالعذاب. وكل متضائل ساكن خاشع. يقال: خشع في صلاته: إذا تذلل ونكس رأسه. وخشع الصوت: خفي؛ قال اللّه تعالى: « وخشعت الأصوات للرحمن » [ طه: 108 ] . والمراد بالوجوه أصحاب الوجوه. وقال قتادة وابن زيد: « خاشعة » أي في النار. والمراد وجوه الكفار كلهم؛ قاله يحيى بن سلام. وقيل: أراد وجوه اليهود والنصارى؛ قاله ابن عباس. ثم قال: « عاملة ناصبة » فهذا في الدنيا؛ لأن الآخرة ليست دار عمل. فالمعنى: وجوه عاملة ناصبة في الدنيا « خاشعة » في الآخرة. قال أهل اللغة: يقال للرجل إذا دأب في سيره: قد عمل يعمل عملا. ويقال للسحاب إذا دام برقه: قد عمل يعمل عملا. وذا سحاب عمل. قال الهذلي:

حتى شآها كليل موهنا عمل باتت طرابا وبات الليل لم ينم

« ناصبة » أي تعبة. يقال: نصب ( بالكسر ) ينصب نصبا: إذا تعب، ونصبا أيضا، وأنصبه غيره. فروى الضحاك عن ابن عباس قال: هم الذين أنصبوا أنفسهم في الدنيا على معصية اللّه عز وجل، وعلى الكفر؛ مثل عبدة الأوثان، وكفار أهل الكتاب مثل الرهبان وغيرهم، لا يقبل اللّه جل ثناؤه منهم إلا ما كان خالصا له.

وقال سعيد عن قتادة: « عاملة ناصبة » قال: تكبرت في الدنيا عن طاعة اللّه عز وجل، فأعملها اللّه وأنصبها في النار، بجر السلاسل الثقال، وحمل الأغلال، والوقوف حفاة عراة في العرصات، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. قال الحسن وسعيد بن جبير: لم تعمل لله في الدنيا، ولم تنصب له، فأعملها وأنصبها في جهنم. وقال الكلبي: يجرون على وجوههم في النار. وعنه وعن غيره: يكلفون ارتقاء جبل من حديد في جهنم، فينصبون فيها أشد ما يكون من النصب، بمعالجة السلاسل والأغلال والخوض في النار؛ كما تخوض الإبل في الوحل، وارتقائها في صعود من نار، وهبوطها في حدور منها؛ إلى غير ذلك من عذابها. وقال ابن عباس. وقرا ابن محيصن وعيسى وحميد، ورواها عبيد عن شبل. عن ابن كثير « ناصبة » بالنصب على الحال. وقيل: على الذم. الباقون ( بالرفع ) على الصفة أو على إضمار مبتدأ، فيوقف على « خاشعة » . ومن جعل المعنى في الآخرة، جاز أن يكون خبرا بعد خبر عن « وجوه » ، فلا يوقف على « خاشعة » . وقيل: « عاملة ناصبة » أي عاملة في الدنيا ناصبة في الآخرة. وعلى هذا يحتمل وجوه يومئذ عاملة في الدنيا، ناصبة في الآخرة، خاشعة. قال عكرمة والسدي: عملت في الدنيا بالمعاصي. وقال سعيد بن جبير وزيد بن أسلم: هم الرهبان أصحاب الصوامع؛ وقاله ابن عباس. وقد تقدم في رواية الضحاك عنه. وروى عن الحسن قال: لما قدم عمر بن الخطاب - رضي اللّه عنه - الشام أتاه راهب شيخ كبير متقهل، عليه سواد، فلما رآه عمر بكى. فقال له: يا أمير المؤمنين، ما يبكيك؟ قال: هذا المسكين طلب أمرا فلم يصبه، ورجا رجاء فأخطأه، - وقرأ قول اللّه عز وجل - « وجوه يومئذ خاشعة. عاملة ناصبة » . قال الكسائي: التقهل: رثاثة الهيئة، ورجل متقهل: يابس الجلد سيء الحال، مثل المتقحل. وقال أبو عمرو: التقهل: شكوى الحاجة. وأنشد:

لعوا إذا لاقيته تقهلا

والقهل: كفران الإحسان. وقد قهل يقهل قهلا: إذا أثنى ثناء قبيحا. وأقهل الرجل تكلف ما يعيبه ودنس نفسه. وانقهل ضعف وسقط؛ قال الجوهري. وعن علي رضي اللّه عنه أنهم أهل حروراء؛ يعني الخوارج الذين ذكرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: [ تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وأعمالكم مع أعمالهم، يمرقون من الدين كما تمرق السهم من الرميَّة... ] الحديث.

 

الآية: 4 ( تصلى نارا حامية )

 

قوله تعالى: « تصلى » أي يصيبها صلاؤها وحرها. « حامية » شديدة الحر؛ أي قد أوقدت وأحميت المدة الطويلة. ومنه حمي النهار ( بالكسر ) ، وحمي التنور حميا فيهما؛ أي اشتد حره. وحكى الكسائي: اشتد حمي الشمس وحموها: بمعنى. وقرأ أبو عمرو وأبو بكر ويعقوب « تُصلى » بضم التاء. الباقون بفتحها. وقرئ « تُصلّى » بالتشديد. وقد تقدم القول فيها في « إذا السماء انشقت » [ الانشقاق:1 ] . الماوردي: فإن قيل فما معنى وصفها بالحمي، وهي لا تكون إلا حامية، وهو أقل أحوالها، فما وجه المبالغة بهذه الصفة الناقصة؟ قيل: قد اختلف في المراد بالحامية ها هنا على أربعة أوجه: أحدها: أن المراد بذلك أنها دائمة الحمي، وليست كنار الدنيا التي ينقطع حميها بانطفائها. الثاني: أن المراد بالحامية أنها حمى من ارتكاب المحظورات، وانتهاك المحارم؛ كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: [ إن لكل ملك حمى، وإن حمى اللّه محارمه. ومن يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ] . الثالث: أنها تحمي نفسها عن أن تطاق ملامستها، أو ترام مماستها؛ كما يحمي الأسد عرينه؛ ومثله قول النابغة:

تعدو الذئاب على من لا كلاب له وتتقي صولة المستأس د الحامي

الرابع: أنها حامية حمى غيظ وغضب؛ مبالغة في شدة الانتقام. ولم يرد حمى جرم وذات؛ كما يقال: قد حمى فلان: إذا اغتاظ وغضب عند إرادة الانتقام. وقد بين اللّه تعالى بقوله هذا المعنى فقال: « تكاد تميز من الغيظ » [ الملك: 8 ] .

 

الآية: 5 ( تسقى من عين آنية )

 

الآني: الذي قد انتهى حره؛ من الإيناء، بمعنى التأخير. ومنه ( آنيت وآذيت ) . وآناه يؤنيه إيناء، أي أحره وحبسه وأبطأه. ومنه « يطوفون بينها وبين حميم آن » [ الرحمن: 44 ] . وفي التفاسير « من عين آنية » أي تناهى حرها؛ فلو وقعت نقطة منها على جبال الدنيا لذابت. وقال الحسن: « آنية » أي حرها أدرك؛ أوقدت عليها جهنم منذ خلقت، فدفعوا إليها وردا عطاشا. وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: بلغت أناها، وحان شربها.

 

الآية: 6 ( ليس لهم طعام إلا من ضريع )

 

قوله تعالى: « ليس لهم » أي لأهل النار. « طعام إلا من ضريع » لما ذكر شرابهم ذكر طعامهم. قال عكرمة ومجاهد: الضريع: نبت ذو شوك لاصق بالأرض، تسميه قريش الشبرق إذا كان رطبا، فإذا يبس فهو الضريع، لا تقربه دابة ولا بهيمة ولا ترعاه؛ وهو سم قاتل، وهو أخبث الطعام وأشنعه؛ على هذا عامة المفسرين. إلا أن الضحاك روى عن ابن عباس قال: هو شيء يرمى به البحر، يسمى الضريع، من أقوات الأنعام لا الناس، فإذا وقعت فيه الإبل لم تشبع، وهلكت هزلا. والصحيح ما قاله الجمهور: أنه نبت. قال أبو ذؤيب:

رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى وعاد ضريعا بأن منه النحائص

وقال الهذلي وذكر إبلا وسوء مرعاها:

وحبسن في هزم الضريع فكلها حدباء دامية اليدين حرود

وقال الخليل: الضريع: نبات أخضر منتن الريح، يرمي به البحر. وقال الوالبي عن ابن عباس: هو شجر من نار، ولو كانت في الدنيا لأحرقت الأرض وما عليها. وقال سعيد بن جبير: هو الحجارة، وقاله عكرمة. والأظهر أنه شجر ذو شوك حسب ما هو في الدنيا. وعن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( الضريع: شيء يكون في النار، يشبه الشوك، أشد مرارة من الصبر، وأنتن من الجيفة، وأحر من النار، سماه اللّه ضريعا ) . وقال خالد بن زياد: سمعت المتوكل بن حمدان يسأل عن هذه الآية « ليس لهم طعام إلا من ضريع » قال: بلغني أن الضريع شجرة من نار جهنم، حملها القيح والدم، أشد مرارة من الصبر، فذلك طعامهم.

وقال الحسن: هو بعض ما أخفاه اللّه من العذاب. وقال ابن كيسان: هو طعام يضرعون عنده ويذلون، ويتضرعون منه إلى اللّه تعالى، طلبا للخلاص منه؛ فسمي بذلك، لأن أكله يضرع في أن يعفى منه، لكراهته وخشونته. قال أبو جعفر النحاس: قد يكون مشتقا من الضارع، وهو الذليل؛ أي ذو ضراعة، أي من شربه ذليل تلحقه ضراعة. وعن الحسن أيضا: هو الزقوم. وقيل: هو واد في جهنم. فاللّه أعلم. وقد قال اللّه تعالى في موضع آخر: « فليس له اليوم ههنا حمم. ولا طعام إلا من غسلين » [ الحاقة:35 - 36 ] . وقال هنا: « إلا من ضريع » وهو غير الغسلين. ووجه الجمع أن النار دركات؛ فمنهم من طعامه الزقوم، ومنهم من طعامه الغسلين، ومنهم من طعامه الضريع، ومنهم من شرابه الحميم، ومنهم من شرابه الصديد. قال الكلبي: الضريع في درجة ليس فيها غيره، والزقوم في درجة أخرى. ويجوز أن تحمل الآيتان على حالتين كما قال: « يطوفون بينها وبين حميم آن » [ الرحمن: 44 ] . القتبي: ويجوز أن يكون الضريع وشجرة الزقوم نبتين من النار، أو من جوهر لا تأكله النار. وكذلك سلاسل النار وأغلالها وعقاربها وحياتها، ولو كانت على ما نعلم ما بقيت على النار. قال: وإنما دلنا اللّه على الغائب عنده، بالحاضر عندنا؛ فالأسماء متفقة الدلالة، والمعاني مختلفة. وكذلك ما في الجنة من شجرها وفرشها. القشيري: وأمثل من قول القتبي أن نقول: إن الذي يبقي الكافرين في النار ليدوم عليهم العذاب، يبقي النبات وشجرة الزقوم في النار، ليعذب بها الكفار. وزعم بعضهم أن الضريع بعينه لا ينبت في النار، ولا أنهم يأكلونه. فالضريع من أقوات الأنعام، لا من أقوات الناس. وإذا وقعت الإبل فيه لم تشبع، وهلكت هزلا، فأراد أن هؤلاء يقتاتون بما لا يشبعهم، وضرب الضريع له مثلا، أنهم يعذبون بالجوع كما يعذب من قوته الضريع. قال الترمذي الحكيم: وهذا نظر سقيم من أهله وتأويل دنيء، كأنه يدل على أنهم تحيروا في قدرة اللّه تعالى، وأن الذي أنبت في هذا التراب هذا الضريع قادر على أن ينبته في حريق النار، جعل لنا في الدنيا من الشجر الأخضر نارا، فلا النار تحرق الشجر، ولا رطوبة الماء في الشجر تطفئ النار؛ فقال تعالى: « الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون » [ يس: 80 ] . وكما قيل حين نزلت « ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم » [ الإسراء: 97 ] : قالوا يا رسول اللّه، كيف يمشون على وجوههم؟ فقال: [ الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم ] . فلا يتحير في مثل هذا إلا ضعيف القلب. أو ليس قد أخبرنا أنه « كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها » [ النساء: 56 ] ، وقال: « سرابيلهم من قطران » [ إبراهيم: 50 ] ، وقال: « إن لدينا أنكالا » [ المزمل: 12 ] أي قيودا. « وجحيما وطعاما ذا غصة » قيل: ذا شوك. فإنما يتلون عليهم العذاب بهذه الأشياء.

 

الآية: 7 ( لا يسمن ولا يغني من جوع )

 

يعني الضريع لا يسمن آكله. وكيف يسمن من يأكل الشوك! قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية قال المشركون: إن إبلنا لتسمن بالضريع، فنزلت: « لا يسمن ولا يغني من جوع » . وكذبوا، فإن الإبل إنما ترعاه رطبا، فإذا يبس لم تأكله. وقيل اشتبه عليهم أمره فظنوه كغيره من النبت النافع، لأن المضارعة المشابهة. فوجدوه لا يسمن ولا يغني من جوع.

 

الآيات: 8 - 10 ( وجوه يومئذ ناعمة، لسعيها راضية، في جنة عالية )

 

قوله تعالى: « وجوه يومئذ ناعمة » أي ذات نعمة. وهي وجوه المؤمنين؛ نعمت بما عاينت من عاقبة أمرها وعملها الصالح. « لسعيها » أي لعملها الذي عملته في الدنيا. « راضية » في الآخرة حين أعطيت الجنة بعملها. ومجازه: لثواب سعيها راضية. وفيها واو مضمرة. المعنى: ووجوه يومئذ، للفصل بينها وبين الوجوه المتقدمة. والوجوه عبارة عن الأنفس. « في جنة عالية » أي مرتفعة، لأنها فوق السموات حسب ما تقدم. وقيل: عالية القدر، لأن فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. وهم فيها خالدون.

 

الآية: 11 ( لا تسمع فيها لاغية )

 

قوله تعالى: « لاغية » أي كلاما ساقطا غير مرضي. وقال: « لاغية » ، واللغو واللغا واللاغية: بمعنى واحد. قال:

عن اللَّغا ورفث التكلم

وقال الفراء والأخفش أي لا تسمع فيها كلمة لغو. وفي المراد بها ستة أوجه: أحدها: يعني كذبا وبهتانا وكفرا باللّه عز وجل؛ قال ابن عباس. الثاني: لا باطل ولا إثم؛ قال قتادة. الثالث: أنه الشتم؛ قاله مجاهد. الرابع: المعصية؛ قاله الحسن. الخامس: لا يسمع فيها حالف يحلف بكذب؛ قاله الفراء. وقال الكلبي: لا يسمع في الجنة حالف بيمين برة ولا فاجرة. السادس: لا يسمع في كلامهم كلمة بلغو؛ لأن أهل الجنة لا يتكلمون إلا بالحكمة وحمد اللّه على ما رزقهم من النعيم الدائم؛ قال الفراء أيضا. وهو أحسنها لأنه يعم ما ذكر. وقرأ أبو عمرو وابن كثير « لا يسمع » بياء غير مسمى الفاعل. وكذلك نافع، إلا أنه بالتاء المضمومة؛ لأن اللاغية اسم مؤنث فأنث الفعل لتأنيثه. ومن قرأ بالياء فلأنه حال بين الاسم والفعل الجار والمجرور. وقرأ الباقون بالتاء مفتوحة « لاغية » نصا على إسناد ذلك للوجوه، أي لا تسمع الوجوه فيها لاغية.

 

الآيات: 12 - 16 ( فيها عين جارية، فيها سرر مرفوعة، وأكواب موضوعة، ونمارق مصفوفة، وزرابي مبثوثة )

 

قوله تعالى: « فيها عين جارية » أي بماء مندفق، وأنواع الأشربة اللذيذة على وجه الأرض من غير أخدود. وقد تقدم في سورة « الإنسان » أن فيها عيونا. فـ « عين » : بمعنى عيون. واللّه أعلم. « فيها سرر مرفوعة » أي عالية. وروي أنه كان ارتفاعها قدر ما بين السماء والأرض، ليرى ولي اللّه ملكه حوله. « وأكواب موضوعة » أي أباريق وأوان. والإبريق: هو ماله عروة وخرطوم. والكوب: إناء ليس له عروة ولا خرطوم. وقد تقدم هذا في سورة « الزخرف » وغيرها. « نمارق » أي وسائد، الواحدة نمرقة. « مصفوفة » أي واحدة إلى جنب الأخرى. قال الشاعر:

وإنا لنجري الكأس بين شروبنا وبين أبي قابوسَ فوق النمارق

وقال آخر:

كهول وشبان حسان وجوهم على سرر مصفوفة ونمارق

وفي الصحاح: النُّمرق والنمرقة: وسادة صغيرة. وكذلك النِّمرِقة ( بالكسر ) لغة حكاها يعقوب. وربما سموا الطنفسة التي فوق الرحل نمرقة؛ عن أبي عبيد. « وزرابي مبثوثة » قال أبو عبيدة: الزرابي: البسط. وقال ابن عباس: الزرابي: الطنافس التي لها حمل رقيق، واحدتها: زربية؛ وقال الكلبي والفراء. والمبثوثة: المبسوطة؛ قال قتادة. وقيل: بعضها فوق بعض؛ قال عكرمة. وقيل كثيرة؛ قاله الفراء. وقيل: متفرقة في المجالس؛ قاله القتبي.

قلت: هذا أصوب، فهي كثيرة متفرقة. ومنه « وبث فيها من كل دابة » [ البقرة: 164 ] . وقال أبو بكر الأنباري: وحدثنا أحمد بن الحسين، قال حدثنا حسين بن عرفة، قال حدثنا عمار بن محمد، قال: صليت خلف منصور بن المعتمر، فقرأ: « هل أتاك حديث الغاشية » ، وقرأ فيها: « وزرابي مبثوثة » : متكئين فيها ناعمين.

 

الآية: 17 ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت )

 

قال المفسرون: لما ذكر اللّه عز وجل أمر أهل الدارين، تعجب الكفار من ذلك، فكذبوا وأنكروا؛ فذكرهم اللّه صنعته وقدرته؛ وأنه قادر على كل شيء، كما خلق الحيوانات والسماء والأرض. ثم ذكر الإبل أولا، لأنها كثيرة في العرب، ولم يروا الفيلة، فنبههم جل ثناؤه على عظيم من خلقه؛ قد ذلله للصغير، يقوده وينيخه وينهضه ويحمل عليه الثقيل من الحمل وهو بارك، فينهض بثقيل حمله، وليس ذلك في شيء من الحيوان غيره. فأراهم عظيما من خلقه، مسخرا لصغير من خلقه؛ يدلهم بذلك على توحيده وعظيم قدرته. وعن بعض الحكماء: أنه حدث عن البعير وبديع خلقه، وقد نشأ في بلاد لا إبل فيها؛ ففكر ثم قال: يوشك أن تكون طوال الأعناق. وحين أراد بها أن تكون سفائن البر، صبرها على احتمال العطش؛ حتى إن إظماءها ليرتفع إلى العشر فصاعدا، وجعلها ترعى كل شيء نابت في البراري والمفاوز، مما لا يرعاه سائر البهائم. وقيل: لما ذكر السرر المرفوعة قالوا: كيف نصعدها؟ فأنزل اللّه هذه الآية، وبين أن الإبل تبرك حتى يحمل عليها ثم تقوم؛ فكذلك تلك السرر تتطامن ثم ترتفع. قال معناه قتادة ومقاتل وغيرهما. وقيل: الإبل هنا القطع العظيمة من السحاب؛ قاله المبرد. قال الثعلبي: وقيل في الإبل هنا: السحاب، ولم أجد لذلك أصلا في كتب الأئمة.

قلت: قد ذكر الأصمعي أبو سعيد عبدالملك بن قريب، قال أبو عمرو: من قرأها « أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت » بالتخفيف: عنى به البعير، لأنه من ذوات الأربع، يبرك فتحمل عليه الحمولة، وغيره من ذوات الأربع لا يحمل عليه إلا وهو قائم. ومن قرأها بالتثقيل فقال: « الإبل » ، عني بها السحاب التي تحمل الماء والمطر. وقال الماوردي: وفي الإبل وجهان: أحدهما: وهو أظهرهما وأشهرهما: أنها الإبل من النعم. الثاني: أنها السحاب. فإن كان المراد بها السحاب، فلما فيها من الآيات الدالة على قدرته، والمنافع العامة لجميع خلقه. وإن كان المراد بها الإبل من النعم، فلأن الإبل أجمع للمنافع من سائر الحيوان؛ لأن ضروبه أربعة: حلوبة، وركوبة، وأكولة، وحمولة. والإبل تجمع هذه الخلال الأربع؛ فكانت النعمة بها أعم، وظهور القدرة فيها أتم. وقال الحسن: إنما خصها اللّه بالذكر لأنها تأكل النوى والقَتّ، وتخرج اللبن. وسئل الحسن أيضا عنها وقالوا: الفيل أعظم في الأعجوبة: فقال: العرب بعيدة العهد بالفيل، ثم هو خنزير لا يؤكل لحمه، ولا يركب ظهره، ولا يحلب دره. وكان شريح يقول: اخرجوا بنا إلى الكناسة حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت. والإبل: لا واحد لها من لفظها، وهي مؤنثة؛ لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها، إذا كانت لغير الآدميين، فالتأنيث لها لازم، وإذا صغرتها دخلتها الهاء، فقلت: أبيلة وغنيمه، ونحو ذلك. وربما قالوا للإبل: إبل، بسكون الباء للتخفيف، والجمع: آبال.

 

الآيات: 18 - 20 ( وإلى السماء كيف رفعت، وإلى الجبال كيف نصبت، وإلى الأرض كيف سطحت )

 

قوله تعالى: « وإلى السماء كيف رفعت » أي رفعت عن الأرض بلا عمد. وقيل: رفعت، فلا ينالها شيء. « وإلى الجبال كيف نصبت » أي كيف نصبت على الأرض، بحيث لا تزول؛ وذلك أن الأرض لما دحيت مادت، فأرساها بالجبال. كما قال: « وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم » [ الأنبياء: 31 ] . « وإلى الأرض كيف سطحت » أي بسطت ومدت. وقال أنس: صليت خلف علي رضي اللّه عنه، فقرأ « كيف خلقت » و « رفعت » و « نصبت » و « سطحت » ، بضم التاءات؛ أضاف الضمير إلى اللّه تعالى. وبه كان يقرأ محمد بن السميقع وأبو العالية؛ والمفعول محذوف، والمعنى خلقتها. وكذلك سائرها. وقرأ الحسن وأبو حيوة وأبو رجاء: « سطحت » بتشديد الطاء وإسكان التاء. وكذلك قرأ الجماعة، إلا أنهم خففوا الطاء. وقدم الإبل في الذكر، ولو قدم غيرها لجاز. قال القشيري: وليس هذا مما يطلب فيه نوع حكمة. وقد قيل: هو أقرب إلى الناس في حق العرب، لكثرتها عندهم، وهم من أعرف الناس بها. وأيضا: مرافق الإبل أكثر من مرافق الحيوانات الأخر؛ فهي مأكولة، ولبنها مشروب، وتصلح للحمل والركوب، وقطع المسافات البعيدة عليها، والصبر على العطش، وقلة العلف، وكثرة الحمل، وهي معظم أموال العرب. وكانوا يسيرون على الإبل منفردين مستوحشين عن الناس، ومن هذا حاله تفكر فيما يحضره، فقد ينظر في مركوبه، ثم يمد بصره إلى السماء ثم إلى الأرض. فأمروا بالنظر في هذه الأشياء، فإنها أدل دليل على الصانع المختار القادر.

 

الآيات: 21 - 26 ( فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمصيطر، إلا من تولى وكفر، فيعذبه الله العذاب الأكبر، إن إلينا إيابهم، ثم إن علينا حسابهم )

 

قوله تعالى: « فذكر » أي فعظهم يا محمد وخوفهم. « إنما أنت مذكر » أي واعظ. « لست عليهم بمصيطر » أي بمسلط عليهم فتقتلهم. ثم نسختها آية السيف. وقرأ هارون الأعور « بمسيطَر » ( بفتح الطاء ) ، و « المسيطَرون » [ الطور: 37 ] . وهي لغة تميم. وفي الصحاح: « المسيطر والمصيطر: المسلِّط على الشيء، ليشرف عليه، ويتعهد أحواله، ويكتب عمله، وأصله من السطر، لأن من معنى السطر ألا يتجاوز، فالكتاب مسطر، والذي يفعله مسطر ومسيطر؛ يقال: سيطرت علينا، وقال تعالى: » لست عليهم بمسيطر « . وسطره أي صرعه. » إلا من تولى وكفر « استثناء منقطع، أي لكن من تولى عن الوعظ والتذكير. » فيعذبه الله العذاب الأكبر « وهي جهنم الدائم عذابها. وإنما قال: » الأكبر « لأنهم عذبوا في الدنيا بالجوع والقحط والأسر والقتل. ودليل هذا التأويل قراءة ابن مسعود: » إلا من تولى وكفر فإنه يعذبه اللّه « . وقيل: هو استثناء متصل. والمعنى: لست بمسلط إلا على من تولى وكفر، فأنت مسلط عليه بالجهاد، واللّه يعذبه بعد ذلك العذاب الأكبر، فلا نسخ في الآية على هذا التقدير. وروي أن عليا أتى برجل ارتد، فاستتابه ثلاثة أيام، فلم يعاود الإسلام، فضرب عنقه، وقرأ » إلا من تولى وكفر « . وقرأ ابن عباس وقتادة » ألا « على الاستفتاح والتنبيه، كقول امرئ القيس: »

ألا رب يوم لك منهن صالح

و « من » على هذا: للشرط. والجواب « فيعذبه اللّه » والمبتدأ بعد الفاء مضمر، والتقدير: فهو يعذبه اللّه، لأنه لو أرتد الجواب بالفعل الذي بعد الفاء لكان: إلا من تولى وكفر يعذبه اللّه. « إن إلينا إيابهم » أي رجوعهم بعد الموت. يقال: آب يؤوب؛ أي رجع. قال عبيد:

وكل ذي غيبة يؤوب وغائب الموت لا يؤوب

وقرأ أبو جعفر « إيابهم » بالتشديد. قال أبو حاتم: لا يجوز التشديد، ولو جاز لجاز مثله في الصيام والقيام. وقيل: هما لغتان بمعنى. الزمخشري: وقرأ أبو جعفر المدني « إيابهم » بالتشديد؛ ووجهه أن يكون فيعالا: مصدر أيب، قيل من الإياب. أو أن يكون أصله إوابا فعالا من أوب، ثم قيل: إيوابا كديوان في دوان. ثم فعل ما فعل بأصل سيد ونحوه.

 

سورة الفجر

 

الآيات: 1 - 2 ( والفجر، وليال عشر )

 

قوله تعالى: « والفجر » أقسم بالفجر. « وليال عشر. والشفع والوتر. والليل إذا يسر » أقسام خمسة. واختلف في « الفجر » ، فقال قوم: الفجر هنا: انفجار الظلمة عن النهار من كل يوم؛ قاله علي وابن الزبير وابن عباس رضي اللّه عنهم. وعن ابن عباس أيضا أنه النهار كله، وعبر عنه بالفجر لأنه أوله. وقال ابن محيصن عن عطية عن ابن عباس: يعني الفجر يوم المحرم. ومثله قال قتادة. قال: هو فجر أول يوم من المحرم، منه تنفجر السنة. وعنه أيضا: صلاة الصبح. وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: « والفجر » : يريد صبيحة يوم النحر؛ لأن اللّه تعالى جل ثناؤه جعل لكل يوم ليلة قبله؛ إلا يوم النحر لم يجعل له ليلة قبله ولا ليلة بعده؛ لأن يوم عرفة له ليلتان: ليلة قبله وليلة بعده، فمن أدرك الموقف ليلة بعد عرفة، فقد أدرك الحج إلى طلوع الفجر، فجر يوم النحر. وهذا قول مجاهد. وقال عكرمة: « والفجر » قال: انشقاق الفجر من يوم جمع. وعن محمد بن كعب القرظي: « والفجر » آخر أيام العشر، إذا دفعت من جمع. وقال الضحاك: فجر ذي الحجة، لأن اللّه تعالى قرن الأيام به فقال: « وليال عشر » أي ليال عشر من ذي الحجة. وكذا قال مجاهد والسدي والكلبي في قوله: « وليال عشر » هو عشر ذي الحجة، وقال ابن عباس. وقال مسروق هي العشر التي ذكرها اللّه في قصة موسى عليه السلام « وأتممناها بعشر » [ الأعراف: 142 ] ، وهي أفضل أيام السنة. وروى أبو الزبير عن جابر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: « والفجر وليال عشر » - قال: [ عشر الأضحى ] فهي ليال عشر على هذا القول؛ لأن ليلة يوم النحر داخلة فيه، إذ قد خصها اللّه بأن جعلها موقفا لمن لم يدرك الوقوف يوم عرفة. وإنما نكرت ولم تعرف لفضيلتها على غيرها، فلو عرفت لم تستقبل بمعنى الفضيلة الذي في التنكير، فنكرت من بين ما أقسم به، للفضيلة التي ليست لغيرها. واللّه اعلم. وعن ابن عباس أيضا: هي العشر الأواخر من رمضان؛ وقاله الضحاك. وقال ابن عباس أيضا ويمان والطبري: هي العشر الأول من المحرم، التي عاشرها يوم عاشوراء. وعن ابن عباس « وليال عشر » بالإضافة يريد: وليالي أيام عشر.

 

الآية: 3 ( والشفع والوتر )

 

الشفع: الاثنان، والوتر: الفرد. واختلف في ذلك؛ فروي مرفوعا عن عمران بن الحصين عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال ( الشفع والوتر: الصلاة، منها شفع، ومنها وتر ) . وقال جابر بن عبداللّه: قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: ( « والفجر وليال عشر » - قال: هو الصبح، وعشر النحر، والوتر يوم عرفة، والشفع: يوم النحر ) . وهو قول ابن عباس وعكرمة. واختاره النحاس، وقال: حديث أبي الزبير عن جابر هو الذي صح عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، وهو أصح إسنادا من حديث عمران بن حصين. فيوم عرفة وتر، لأنه تاسعها، ويوم النحر شفع لأنه عاشرها. وعن أبي أيوب قال: سئل النبي صلى اللّه عليه وسلم عن قوله تعالى: « والشفع والوتر » فقال: ( الشفع: يوم عرفة ويوم النحر، والوتر ليلة يوم النحر ) . وقال مجاهد وابن عباس أيضا: الشفع خَلْقُهُ، قال اللّه تعالى: « وخلقناكم أزواجا » [ النبأ: 8 ] والوتر هو اللّه عز وجل. فقيل لمجاهد: أترويه عن أحد؟ قال: نعم، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم. ونحوه قال محمد بن سيرين ومسروق وأبو صالح وقتادة، قالوا: الشفع: الخلق، قال اللّه تعالى : « ومن كل شيء خلقنا زوجين » [ الذاريات: 49 ] : الكفر والإيمان.، والشقاوة والسعادة، والهدى والضلال، والنور والظلمة، والليل والنهار، والحر والبرد، والشمس والقمر، والصيف والشتاء، والسماء والأرض، والجن والإنس. والوتر: هو اللّه عز وجل، قال جل ثناؤه: « قل هو الله أحد. الله الصمد » [ الإخلاص: 2 ] . وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: [ إن لله تسعة وتسعين اسما، واللّه وتر يحب الوتر ] . وعن ابن عباس أيضا: الشفع: صلاة الصبح « والوتر: صلاة المغرب. وقال الربيع بن أنس وأبو العالية: هي صلاة المغرب، الشفع فيها ركعتان، والوتر الثالثة. وقال ابن الزبير: الشفع: يوما منى: الحادي عشر، والثاني عشر. والثالث عشر الوتر؛ قال اللّه تعالى: » فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه « . وقال الضحاك : الشفع: عشر ذي الحجة، والوتر: أيام منى الثلاثة. وهو قول عطاء. وقيل: إن الشفع والوتر: آدم وحواء؛ لأن آدم كان فردا فشفع بزوجته حواء، فصار شفعا بعد وتر. رواه ابن أبي نجيح، وحكاه القشيري عن ابن عباس. وفي رواية: الشفع: آدم وحواء، والوتر هو اللّه تعالى. وقيل: الشفع والوتر: الخلق؛ لأنهم شفع ووتر، فكأنه أقسم بالخلق.»

وقد يقسم اللّه تعالى بأسمائه وصفاته لعلمه، ويقسم بأفعاله لقدرته، كما قال تعالى: « وما خلق الذكر والأنثى » [ الليل: 3 ] . ويقسم بمفعولاته، لعجائب صنعه؛ كما قال: « والشمس وضحاها » ، « والسماء وما بناها » [ الشمس: 5 ] ، « والسماء والطارق » [ الطارق: 1 ] . وقيل: الشفع: درجات الجنة، وهي ثمان. والوتر، دركات النار؛ لأنها سبعة. وهذا قول الحسين بن الفضل؛ كأنه أقسم بالجنة والنار. وقيل: الشفع: الصفا والمروة، والوتر: الكعبة. وقال مقاتل بن حيان: الشفع: الأيام والليالي، والوتر: اليوم الذي لا ليلة بعده، وهو يوم القيامة. وقال سفيان بن عيينه: الوتر: هو اللّه، وهو الشفع أيضا؛ لقوله تعالى: « ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم » [ المجادلة: 7 ] . وقال أبو بكر الوراق: الشفع: تضاد أوصاف المخلوقين: العز والذل، والقدرة والعجز، والقوة والضعف، والعلم والجهل، والحياة والموت، والبصر والعمى، والسمع والصمم، والكلام والخرس. والوتر: انفراد صفات اللّه تعالى: عز بلا ذل، وقدرة بلا عجز، وقوة بلا ضعف، وعلم بلا جهل، وحياة بلا موت، وبصر بلا عمى، وكلام بلا خرس، وسمع بلا صمم، وما وازاها. وقال الحسن: المراد بالشفع والوتر: العدد كله؛ لأن العدد لا يخلو عنهما، وهو إقسام بالحساب. وقيل: الشفع: مسجدي مكة والمدينة، وهما الحرمان. والوتر: مسجد بيت المقدس. وقيل: الشفع: القرن بين الحج والعمرة، أو التمتع بالعمرة إلى الحج. والوتر: الإفراد فيه. وقيل: الشفع: الحيوان؛ لأنه ذكر وأنثى. والوتر: الجماد. وقيل: الشفع: ما ينمي، والوتر: ما لا ينمي. وقيل غير هذا. وقرأ ابن مسعود وأصحابه والكسائي وحمزة وخلف « والوتر » بكسر الواو. والباقون [ بفتح الواو ] ، وهما لغتان بمعنى واحد. وفي الصحاح: الوتر بالكسر: الفرد، والوتر [ بفتح الواو ] : الذحل. هذه لغة أهل العالية. فأما لغة أهل الحجاز فبالضد منهم. فأما تميم فبالكسر فيهما.

 

الآيات: 4 - 5 ( والليل إذا يسر، هل في ذلك قسم لذي حجر )

 

قوله تعالى: « والليل إذا يسر » وهذا قسم خامس. وبعد ما أقسم بالليالي العشر على الخصوص، أقسم بالليل على العموم. ومعنى « يسري » أي يسرى فيه؛ كما يقال: ليل نائم، ونهار صائم. قال:

لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ونمت وما ليل الم ط ي بنائم

ومنه قوله تعالى: « بل مكر الليل والنهار » [ سبأ: 33 ] . وهذا قول أكثر أهل المعاني، وهو قول القتبي والأخفش. وقال أكثر المفسرين: معنى « يسري » : سار فذهب. وقال قتادة وأبو العالية: جاء وأقبل. وروي عن إبراهيم: « والليل إذا يسر » قال: إذا استوى. وقال عكرمة والكلبي ومجاهد ومحمد بن كعب في قوله: « والليل » : هي ليلة المزدلفة خاصة؛ لاختصاصها باجتماع الناس فيها لطاعة اللّه. وقيل: ليلة القدر؛ لسراية الرحمة فيها، واختصاصها بزيادة الثواب فيها. وقيل: إنه أراد عموم الليل كله.

قلت: وهو الأظهر، كما تقدم. واللّه أعلم. وقرأ ابن كثير وابن محيصن ويعقوب « يسري » بإثبات الياء في الحالين، على الأصل؛ لأنها ليست بمجزومة، فثبتت فيها الياء. وقرأ نافع وأبو عمرو بإثباتها في الوصل، وبحذفها في الوقف، وروي عن الكسائي. قال أبو عبيد: كان الكسائي يقول مرة بإثبات الياء في الوصل، وبحذفها في الوقف، اتباعا للمصحف. ثم رجع إلى حذف الياء في الحالين جميعا؛ لأنه رأس آية، وهي قراءة أهل الشام والكوفة، واختيار أبي عبيد، اتباعا للخط؛ لأنها وقعت في المصحف بغير ياء. قال الخليل: تسقط الياء منها اتفاقا لرؤوس الآي. قال الفراء: قد تحذف العرب الياء، وتكتفي بكسر ما قبلها. وأنشد بعضهم:

كفاك كفٌّ ما تليق درهما جودا وأخرى تعط بالسيف الدما

يقال: فلان ما يليق درهما من جوده؛ أي ما يمسكه، ولا يلصق به. وقال المؤرج: سألت الأخفش عن العلة في إسقاط الياء من « يسر » فقال: لا أجيبك حتى تبيت على باب داري سنة، فبت على باب داره سنة؛ فقال: الليل لا يَسْرِي وإنما يَسْرَى فيه؛ فهو مصروف، وكل ما صرفته عن جهته بخسته من إعرابه؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: « وما كانت أمك بغيا » [ مريم: 28 ] ، لم يقل بغية، لأنه صرفها عن باغية. الزمخشري: وياء « يسري » تحذف في الدرج، اكتفاء عنها بالكسرة، وأما في الوقف فتحذف مع الكسرة. وهذه الأسماء كلها مجرورة بالقسم، والجواب محذوف، وهو ليعذبن؛ يدل عليه قوله تعالى: « ألم تر كيف فعل ربك » إلى قوله تعالى « فصب عليهم ربك سوط عذاب » [ الفجر:13 ] . وقال ابن الأنباري هو « إن ربك لبالمرصاد » [ الفجر:14 ] . وقال مقاتل: « هل » هنا في موضع إن؛ تقديره: إن في ذلك قسما لذي حجر. فـ « هل » على هذا، في موضع جواب القسم. وقيل: هي على بابها من الاستفهام الذي معناه التقرير؛ كقولك: ألم أنعم عليك؛ إذا كنت قد أنعمت. وقيل: المراد بذلك التأكيد لما أقسم به وأقسم عليه. والمعنى « : بل في ذلك مقنع لذي حجر. والجواب على هذا: « إن ربك لبالمرصاد » [ الفجر:14 ] . أو مضمر محذوف. »

 

قوله تعالى: « لذي حجر » أي لذي لب وعقل. قال الشاعر:

وكيف يرجى أن تتوب وإنما يرجى من الفتيان من كان ذا حجر

كذا قال عامة المفسرين؛ إلا أن أبا مالك قال: « لذي حجر » : لذي ستر من الناس. وقال الحسن: لذي حلم. قال الفراء: الكل يرجع إلى معنى واحد: لذي حجر، ولذي عقل، ولذي حلم، ولذي ستر؛ الكل بمعنى العقل. وأصل الحجر: المنع. يقال لمن ملك نفسه ومنعها: إنه لذو حجر؛ ومنه سمي الحجر، لامتناعه بصلابته: ومنه حجر الحاكم على فلان، أي منعه وضبطه عن التصرف؛ ولذلك سميت الحجرة حجرة، لامتناع ما فيها بها. وقال الفراء: العرب تقول: إنه لذو حجر: إذا كان قاهرا لنفسه، ضابطا لها؛ كأنه أخذ من حجرت على الرجل.

 

الآيات: 6 - 7 ( ألم تر كيف فعل ربك بعاد، إرم ذات العماد )

 

قوله تعالى: « ألم تر كيف فعل ربك » أي مالكك وخالقك. « بعاد » قراءة العامة « بعادٍ » منونا. وقرأ الحسن وأبو العالية « بعاد إرم » مضافا. فمن لم يضف جعل « إرم » اسمه، ولم يصرفه؛ لأنه جعل عادا اسم أبيهم، وإرم اسم القبيلة؛ وجعله بدلا منه، أو عطف بيان. ومن قرأه بالإضافة ولم يصرفه جعله اسم أمهم، أو اسم بلدتهم. وتقديره: بعاد أهل إرم. كقوله: « واسأل القرية » [ يوسف: 82 ] ولم تنصرف - قبيلة كانت أو أرضا - للتعريف والتأنيث. وقراءة العامة « إرم » بكسر الهمزة. وعن الحسن أيضا « بعادَ إرَمَ » مفتوحتين، وقرئ « بعاد إِرْمَ » بسكون الراء، على التخفيف؛ كما قرئ « بورِقكم » . وقرئ « بعادٍ إرَمَ ذات العماد » بإضافة « إرم » - إلى - « ذات العماد » . والإرم: العلم. أي بعاد أهل ذات العلم. وقرئ « بعادٍ إرَمَ ذات العماد » أي جعل اللّه ذات العماد رميما. وقرأ مجاهد والضحاك وقتادة « أَرَمَ » بفتح الهمزة. قال مجاهد: من قرأ بفتح الهمزة شبههم بالآرام، التي هي الأعلام، واحدها: أرم. وفي الكلام تقديم وتأخير؛ أي والفجر وكذا وكذا إن ربك لبالمرصاد ألم تر. أي ألم ينته علمك إلى ما فعل ربك بعاد. وهذه الرؤية رؤية القلب، والخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم، والمراد عام. وكان أمر عاد وثمود عندهم مشهورا؛ إذ كانوا في بلاد العرب، وحِجر ثمود موجود اليوم. وأمر فرعون كانوا يسمعونه من جيرانهم من أهل الكتاب، واستفاضت به الأخبار، وبلاد فرعون متصلة بأرض العرب. وقد تقدم هذا المعنى في سورة « البروج » وغيرها « بعاد » أي بقوم عاد. فروى شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال: إن كان الرجل من قوم عاد ليتخذ المصراع من حجارة، ولو اجتمع عليه خمسمائة من هذه الأمة لم يستطيعوا أن يقلوه، وإن كان أحدهم ليدخل قدمه في الأرض فتدخل فيها.

و « إرم » قيل هو سام بن نوح؛ قاله ابن إسحاق. وروى عطاء عن ابن عباس - وحكى عن ابن إسحاق أيضا - قال: عاد بن إرم. فإرم على هذا أبو عاد، وعاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح. وعلى القول الأول: هو اسم جد عاد. قال ابن إسحاق: كان سام بن نوح له أولاد، إرم بن سام، وأرفخشذ بن سام. فمن ولد إرم بن سام العمالقة والفراعنة والجبابرة والملوك الطغاة والعصاة. وقال مجاهد: « إرم » أمة من الأمم. وعنه أيضا: أن معنى إرم: القديمة، ورواه ابن أبي نجيح. وعن مجاهد أيضا أن معناها القوية. وقال قتادة: هي قبيلة من عاد. وقيل: هما عادان. فالأولى هي إرم؛ قال اللّه عز وجل: « وأنه أهلك عادا الأولى » [ النجم: 50 ] . فقيل لعقب عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح: عاد؛ كما يقال لبني هاشم: هاشم. ثم قيل للأولين منهم: عاد الأولى، وإرم: تسمية لهم باسم جدهم. ولمن بعدهم: عاد الأخيرة. قال ابن الرقيات:

مجدا تليدا بناه أولهم أدرك عادا وقبله إرما

وقال معمر: « إرم » : إليه مجمع عاد وثمود. وكان يقال: عاد إرم، وعاد ثمود. وكانت القبائل تنتسب إلى إرم. « ذات العماد. التي لم يخلق مثلها في البلاد » قال ابن عباس في رواية عطاء: كان الرجل منهم طوله خمسمائة ذراع، والقصير منهم طول ثلثمائة ذراع بذراع نفسه. وروي عن ابن عباس أيضا أن طول الرجل منهم كان سبعين ذراعا. ابن العربي: وهو باطل؛ لأن في الصحيح: [ إن اللّه خلق آدم طوله ستون ذراعا في الهواء، فلم يزل الخلق ينقص إلى الآن ] . وزعم قتادة: أن طول الرجل منهم اثنا عشر ذراعا. قال أبو عبيدة: « ذات العماد » ذات الطول. يقال: رجل معمد إذا كان طويلا. ونحوه عن ابن عباس ومجاهد. وعن قتادة أيضا: كانوا عمادا لقومهم؛ يقال: فلان عميد القوم وعمودهم: أي سيدهم. وعنه أيضا: قيل لهم ذلك، لأنهم كانوا ينتقلون بأبياتهم للانتجاع، وكانوا أهل خيام وأعمدة، ينتجعون الغيوث، ويطلبون الكلأ، ثم يرجعون إلى منازلهم. وقيل: « ذات العماد » أي ذات الأبنية المرفوعة على العمد. وكانوا ينصبون الأعمدة، فيبنون عليها القصور. قال ابن زيد: « ذات العماد » يعني إحكام البنيان بالعمد. وفي الصحاح: والعماد: الأبنية الرفيعة، تذكر وتؤنث. قال عمرو بن كلثوم:

ونحن اذا عماد الحي خرت على الأحفاض نمنع من يلينا

والواحدة عمادة. وفلان طويل العماد: إذا كان منزل معلما لزائره. والأحفاض: جمع حفض - بالتحريك - وهو متاع البيت إذا هيئ ليحمل؛ أي خرت على المتاع. ويروى؛ عن الأحفاض أي خرت عن الإبل التي تحمل خرثي البيت. وقال الضحاك: « ذات العماد » ذات القوة والشدة، مأخوذ من قوة الأعمدة؛ دليله قوله تعالى: « وقالوا من أشد منا قوة » [ فصلت: 15 ] . وروى عوف عن خالد الربعي « إرم ذات العماد » قال: هي دمشق. وهو قول عكرمة وسعيد المقبري. رواه ابن وهب وأشهب عن مالك. وقال محمد بن كعب القرظي: هي الإسكندرية.

 

الآية: 8 ( التي لم يخلق مثلها في البلاد )

 

قوله تعالى: « التي لم يخلق مثلها في البلاد » الضمير في « مثلها » يرجع إلى القبيلة. أي لم يخلق مثل القبيلة في البلاد: قوة وشدة، وعظم أجساد، وطول قامة؛ عن الحسن وغيره. وفي حرف عبدالله « التي لم يخلق مثلهم في البلاد » . وقيل: يرجع للمدينة. والأول أظهر، وعليه الأكثر، حسب ما ذكرناه. ومن جعل « إرم » مدينة قدر حذفا؛ المعنى: كيف فعل ربك بمدينة عاد إرم، أو بعد صاحبه إرم. وإرم على هذا: مؤنثة معرفة. واختار ابن العربي أنها دمشق، لأنه ليس في البلاد مثلها. ثم أخذ ينعتها بكثرة مياهها وخيراتها. ثم قال: وإن في الإسكندرية لعجائب، لو لم يكن إلا المنارة، فإنها مبنية الظاهر والباطن على العمد، ولكن لها أمثال، فأما دمشق فلا مثل لها. وقد روى معن عن مالك أن كتابا وجد بالإسكندرية، فلم يدر ما هو؟ فإذا فيه: أنا شداد بن عاد، الذي رفع العماد، بنيتها حين لا شيب ولا موت. قال مالك: إن كان لتمر بهم مائة سنة لا يرون فيها جنازة. وذكر عن ثور بن زيد أنه قال: أنا شداد بن عاد، وأنا رفعت العماد، وأنا الذي شددت بذراعي بطن الواد، وأنا الذي كنزت كنزا على سبعة أذرع، لا يخرجه إلا أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم. وروي أنه كان لعاد ابنان: شداد وشديد؛ فملكا وقهرا، ثم مات شديد، وخلص الأمر لشداد فملك الدنيا، ودانت له ملوكها؛ فسمع بذكر الجنة، فقال: أبني مثلها. فبنى إرم في بعض صحاري عدن، في ثلثمائة سنة، وكان عمره تسعمائة سنة. وهي مدينة عظيمة، قصورها من الذهب والفضة، وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الأشجار والأنهار المطردة. ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته، فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة، بعث اللّه عليهم صيحة من السماء فهلكوا. وعن عبداللّه بن قلابة: أنه خرج في طلب إبل له، فوقع عليها، فحمل ما قدر عليه مما ثم، وبلغ خبره معاوية فاستحضره، فقص عليه، فبعث إلى كعب فسأله، فقال: هي إرم ذات العماد، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك، أحمر أشقر قصير، على حاجبه خال، وعلى عقبه خال، يخرج في طلب إبل له؛ ثم التفت فأبصر ابن قلابة، وقال: هذا واللّه ذلك الرجل. وقيل: أي لم يخلق مثل أبنية عاد المعروفة بالعمد. فالكناية للعماد. والعماد على هذا: جمع عمد. وقيل: الإرم: الهلاك؛ يقال: أرم بنو فلان: أي هلكوا؛ وقال ابن عباس. وقرأ الضحاك: « أرم ذات العماد » ؛ أي أهلكهم، فجعلهم رميما.

 

الآية: 9 ( وثمود الذين جابوا الصخر بالواد )

 

ثمود: هم قوم صالح. و « جابوا » : قطعوا. ومنه: فلان يجوب البلاد، أي يقطعها. وإنما سمي جيب القميص لأنه جيب؛ أي قطع. قال الشاعر وكان قد نزل على ابن الزبير بمكة، فكتب له بستين وسقا يأخذها بالكوفة. فقال:

راحت رواحا قلوصي وهي حامد آل الزبير ولم تعدل بهم أحدا

راحت بستين وسقا في حقيبتها ما حملت حملها الأدنى ولا السددا

ما إن رأيت قلوصا قبلها حملت ستين وسقا ولا جابت به بلدا

أي قطعت. قال المفسرون: أول من نحت الجبال والصور والرخام: ثمود. فبنوا من المدائن ألفا وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة. ومن الدور والمنازل ألفي ألف وسبعمائة ألف، كلها من الحجارة. وقد قال تعالى: « وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين » [ الحجر: 82 ] . وكانوا لقوتهم يخرجون الصخور، وينقبون الجبال، ويجعلونها بيوتا لأنفسهم. « بالوادي » أي بوادي القرى؛ قاله محمد بن إسحاق. وروى أبو الأشهب عن أبي نضرة قال: أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزاة تبوك على وادي ثمود، وهو على فرس أشقر، فقال: [ أسرعوا السير، فإنكم في واد ملعون ] . وقيل: الوادي بين جبال، وكانوا ينقبون في تلك الجبال بيوتا ودورا وأحواضا. وكل منفرج بين جبال أو تلال يكون مسلكا للسيل ومنفذا فهو واد.

 

الآية: 10 ( وفرعون ذي الأوتاد )

 

أي الجنود والعساكر والجموع والجيوش التي تشد ملكه؛ قاله ابن عباس. وقيل: كان يعذب الناس بالأوتاد، ويشدهم بها إلى أن يموتوا؛ تجبرا منه وعتوا. وهكذا فعل بامرأته آسية وماشطة ابنته؛ حسب ما تقدم في آخر سورة « التحريم » . وقال عبدالرحمن بن زيد: كانت له صخرة ترفع بالبكرات، ثم يؤخذ الإنسان فتوتد له أوتاد الحديد، ثم يرسل تلك الصخرة عليه فتشدخه. وقد مضى في سورة « ص » من ذكر أوتاده ما فيه كفاية. والحمد لله.

 

الآيات: 11 - 13 ( الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، فصب عليهم ربك سوط عذاب )

 

قوله تعالى: « الذين طغوا في البلاد » يعني عادا وثمودا وفرعون « طغوا » أي تمردوا وعتوا وتجاوزوا القدر في الظلم والعدوان. « فأكثروا فيها الفساد » أي الجور والأذى. و « الذين طغوا » أحسن الوجوه فيه أن يكون في محل النصب على الذم. ويجوز أن يكون مرفوعا على: هم الذين طغوا، أو مجرورا على وصف المذكورين: عاد، وثمود، وفرعون. « فصب عليهم ربك » أي أفرغ عليهم وألقى؛ يقال: صب على فلان خلعة، أي ألقاها عليه. وقال النابغة:

فصب عليه الله أحسن صنعه وكان له بين البرية ناصرا

« سوط عذاب » أي نصيب عذاب. ويقال: شدته؛ لأن السوط كان عندهم نهاية ما يعذب به. قال الشاعر:

ألم تر أن الله أظهر دينه وصب على الكفار سوط عذاب

وقال الفراء: وهي كلمة تقولها العرب لكل نوع من أنواع العذاب. وأصل ذلك أن السوط هو عذابهم الذي يعذبون به، فجرى لكل عذاب؛ إذ كان فيه عندهم غاية العذاب. وقيل: معناه عذاب يخالط اللحم والدم؛ من قولهم: ساطه يسوطه سوطا أي خلطه، فهو سائط. فالسوط: خلط الشيء بعضه ببعض؛ ومنه سمي المسواط. وساطه أي خلطه، فهو سائط، وأكثر ذلك يقال: سوط فلان أموره. قال:

فسطها ذميم الرأي غير موفق فلست على تسويطها بمعان

قال أبو زيد: يقال أموالهم سويطة بينهم؛ أي مختلطة. حكاه عنه يعقوب. وقال الزجاج: أي جعل سوطهم الذي ضربهم به العذاب. يقال: ساط دابته يسوطها؛ أي ضربها بسوطه. وعن عمرو بن عبيد: كان الحسن إذا أتى على هذه الآية قال: إن عند اللّه أسواطا كثيرة، فأخذهم بسوط منها. وقال قتادة: كل شيء عذب اللّه تعالى به فهو سوط عذاب.

 

الآية: 14 ( إن ربك لبالمرصاد )

 

أي يرصد عمل كل إنسان حتى يجازيه به؛ قال الحسن وعكرمة. وقيل: أي على طريق العباد لا يفوته أحد. والمرصد والمرصاد: الطريق. وقد مضى في سورة « التوبة » والحمد لله. فروى الضحاك عن ابن عباس قال: إن على جهنم سبع قناطر، يُسأل الإنسان عند أول قنطرة عن الإيمان، فإن جاء به تاما جاز إلى القنطرة الثانية، ثم يُسأل عن الصلاة، فان جاء بها جاز إلى الثالثة، ثم يُسأل عن الزكاة، فإن جاء بها جاز إلى الرابعة. ثم يُسأل عن صيام شهر رمضان، فإن جاء به جاز إلى الخامسة. ثم يُسأل عن الحج والعمرة، فإن جاء بهما جاز إلى السادسة. ثم يُسأل عن صلة الرحم، فإن جاء بها جاز إلى السابعة. ثم يُسأل عن المظالم، وينادي مناد: ألا من كانت له مظلمة فليأت؛ فيقتص للناس منه، يقتص له من الناس؛ فذلك قوله عز وجل: « إن ربك لبالمرصاد » . وقال الثوري: « لبالمرصاد » يعني جهنم؛ عليها ثلاث قناطر: قنطرة فيها الرحم، وقنطرة فيها الأمانة، وقنطرة فيها الرب تبارك وتعالى.

قلت: أي حكمته وإرادته وأمره. واللّه أعلم. وعن ابن عباس، أيضا « لبالمرصاد » أي يسمع ويرى.

قلت: هذا قول حسن؛ « يسمع » أقوالهم ونجواهم، و « يرى » أي يعلم أعمالهم وأسرارهم، فيجازي كلا بعمله. وعن بعض العرب أنه قيل له: أين ربك؟ فقال: بالمرصاد. وعن عمرو بن عبيد أنه قرأ هذه السورة عند المنصور حتى بلغ هذه الآية، فقال: « إن ربك لبالمرصاد » يا أبا جعفر قال الزمخشري: عرض له في هذا النداء، بأنه بعض من توعد بذلك من الجبابرة؛ فلله دره. أي أسد فراس كان بين يديه؟ يدق الظلمة بإنكاره، ويقمع أهل الأهواء والبدع باحتجاجه

 

الآيات: 15 - 16 ( فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن، وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن )

 

قوله تعالى: « فأما الإنسان » يعني الكافر. قال ابن عباس: يريد عتبة بن ربيعة وأبا حذيفة بن المغيرة. وقيل: أمية بن خلف. وقيل: أبي بن خلف. « إذا ما ابتلاه ربه » أي امتحنه واختبره بالنعمة. و « ما » : زائدة صلة. « فأكرمه » بالمال. « ونعمه » بما أوسع عليه. « فيقول ربي أكرمني » فيفرح بذلك ولا يحمده. « وأما إذا ما ابتلاه » أي امتحنه بالفقر واختبره. « فقدر » أي ضيق « عليه رزقه » على مقدار البُلغة. « فيقول ربي أهانني » أي أولاني هوانا. وهذه صفة الكافر الذي لا يؤمن بالبعث: وإنما الكرامة عنده والهوان بكثرة الحظ في الدنيا وقلته. فأما المؤمن فالكرامة عنده أن يكرمه اللّه بطاعته وتوفيقه، المؤدي إلى حظ الآخرة، وإن وسع عليه في الدنيا حمده وشكره.

قلت: الآيتان صفة كل كافر. وكثير من المسلمين يظن أن ما أعطاه اللّه لكرامته وفضيلته عند اللّه، وربما يقول بجهله: لو لم أستحق هذا لم يعطينه اللّه. وكذا إن قتر عليه يظن أن ذلك لهوانه على اللّه. وقراءة العامة « فقدر » مخففة الدال. وقرأ ابن عامر مشددا، وهما لغتان. والاختيار التخفيف؛ لقوله: « ومن قدر عليه رزقه » [ الطلاق: 7 ] . قال أبو عمرو: « قدر » أي قتر. و « قدر » مشددا: هو أن يعطيه ما يكفيه، ولو فعل به ذلك ما قال « ربي أهانن » . وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو « ربي » بفتح الياء في الموضعين. وأسكن الباقون. وأثبت البزي وابن محيصن ويعقوب الياء من « أكرمن » ، و « أهانن » في الحالين؛ لأنها اسم فلا تحذف. وأثبتها المدنيون في الوصل دون الوقف، اتباعا للمصحف. وخير أبو عمرو في إثباتها في الوصل أو حذفها؛ لأنها رأس آية، وحذفها في الوقف لخط المصحف. الباقون بحذفها، لأنها وقعت في الموضعين بغير ياء، والسنة ألا يخالف خط المصحف؛ لأنه إجماع الصحابة.

 

الآيات: 17 - 20 ( كلا بل لا تكرمون اليتيم، ولا تحاضون على طعام المسكين، وتأكلون التراث أكلا لما، وتحبون المال حبا جما )

 

قوله تعالى: « كلا » ردّ، أي ليس الأمر كما يُظَن، فليس الغنى لفضله، ولا الفقر لهوانه، وإنما الفقر والغنى من تقديري وقضائي. وقال الفراء: « كلا » في هذا الموضع بمعنى لم يكن ينبغي للعبد أن يكون هكذا، ولكن يحمد اللّه عز وجل على الغنى والفقر. وفي الحديث: ( يقول اللّه عز وجل: كلا إني لا أكرم من أكرمت بكثرة الدنيا، ولا أهين من أهنت بقلتها، إنما أكرم من أكرمت بطاعتي، وأهين من أهنت بمعصيتي ) . « بل لا تكرمون اليتيم » إخبار عن ما كانوا يصنعونه من منع اليتيم الميراث، وأكل ماله إسرافا وبدارا أن يكبروا. وقرأ أبو عمرو ويعقوب « يكرمون » ، و « يحضون » و « يأكلون » ، و « يحبون » بالياء، لأنه تقدم ذكر الإنسان، والمراد به الجنس، فعبر عنه بلفظ الجمع. الباقون بالتاء في الأربعة، على الخطاب والمواجهة؛ كأنه قال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا. وترك إكرام اليتيم بدفعه عن حقه، وأكل ماله كما ذكرنا. قال مقاتل: نزلت في قدامة بن مظعون وكان يتيما في حجر أمية بن خلف.

 

قوله تعالى: « ولا تحاضون على طعام المسكين » أي لا يأمرون أهليهم بإطعام مسكين يجيئهم. وقرأ الكوفيون « ولا تحاضون » بفتح التاء والحاء والألف. أي يحض بعضهم بعضا. وأصله تتحاضون، فحذف إحدى التاءين لدلالة الكلام عليها. وهو اختيار أبي عبيد. وروي عن إبراهيم والشيزري عن الكسائي والسلمي « تحاضون » بضم التاء، وهو تفاعلون من الحض، وهو الحث. « وتأكلون التراث » أي ميراث اليتامى. وأصله الوراث من ورثت، فأبدلوا الواو تاء؛ كما قالوا في تجاه وتخمة وتكأة وتودة ونحو ذلك. وقد تقدم. « أكلا لما » أي شديدا؛ قاله السدي. قيل « لما » : جمعا؛ من قولهم: لممت الطعام لما إذا أكلته جمعا؛ قاله الحسن وأبو عبيدة. وأصل اللم في كلام العرب: الجمع؛ يقال: لممت الشيء ألمه لما: إذا جمعته، ومنه يقال: لم اللّه شعثه، أي جمع ما تفرق من أموره. قال النابغة:

ولست بمستبق أخا لا تلمه على شعث أي الرجال المهذب

ومنه قولهم: إن دارك لَمُومَة، أي تلم الناس وتربهم وتجمعهم. وقال المرناق الطائي يمدح علقمة ابن سيف:

لأَحَبَّني حُبَّ الصبي ولَمَّني لمَّ الهُدِيّ إلى الكريم الماجد

وقال الليث: اللم الجمع الشديد؛ ومنه حجر ملموم، وكتيبة ملمومة. فالآكل يلم الثريد، فيجمعه لقما ثم يأكله. وقال مجاهد: يسفه سفا : وقال الحسن: يأكل نصيبه ونصيب غيره. قال الحطيئة:

إذا كان لما يتبع الذم ربه فلا قدّس الرحمن تلك الطواحنا

يعني أنهم يجمعون في أكلهم بين نصيبهم ونصيب غيرهم. وقال ابن زيد: هو أنه إذا أكل ماله ألم بمال غيره فأكله، ولا يفكر: أكل من خبيث أو طيب. قال: وكان أهل الشرك لا يورثون النساء ولا الصبيان، بل يأكلون ميراثهم مع ميراثهم، وتراثهم مع تراثهم. وقيل: يأكلون ما جمعه الميت من الظلم وهو عالم بذلك، فيَلُمُ في الأكل بين حرامه وحلاله. ويجوز أن يذم الوارث الذي ظفر بالمال سهلا، مهلا، من غير أن يعرق فيه جبينه، فيسرف في إنفاقه، ويأكله أكلا واسعا، جامعا بين المشتهيات من الأطعمة والأشربة والفواكه، كما يفعل الوراث البطالون.

 

قوله تعالى: « وتحبون المال حبا جما » أي كثيرا، حلاله وحرامه. والجم الكثير. يقال: جم الشيء يجم جموما، فهو جم وجام. ومنه جم الماء في الحوض: إذا اجتمع وكثر. وقال الشاعر:

إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا ألما

والجمة: المكان الذي يجتمع فيه ماؤه. والجموم: البئر الكثيرة الماء. والجمُومُ: المصدر؛ يقال: جم الماء يجم جموما: إذا كثر في البئر واجتمع، بعد ما استقي ما فيها.

 

الآية: 21 ( كلا إذا دكت الأرض دكا دكا )

 

قوله تعالى: « كلا » أي ما هكذا ينبغي أن يكون الأمر. فهو رد لانكبابهم على الدنيا، وجمعهم لها؛ فإن من فعل ذلك يندم يوم تدك الأرض، ولا ينفع الندم. والدك: الكسر والدق؛ وقد تقدم. أي زلزلت الأرض، وحركت تحريكا بعد تحريك. وقال الزجاج: أي زلزلت فدك بعضها بعضا. وقال المبرد: أي ألصقت وذهب ارتفاعها. يقال ناقة دكاء، أي لا سنام لها، والجمع دُكٌ. وقد مضى في سورة « الأعراف » و « الحاقة » القول في هذا. ويقولون: دك الشيء أي هدم. قال:

هل غير غار دك غارا فانهدم

« دكا دكا » أي مرة بعد مرة؛ زلزلت فكسر بعضها بعضا؛ فتكسر كل شيء على ظهرها. وقيل: دكت جبالها وأنشازها حتى استوت. وقيل: دكت أي استوت في الانفراش؛ فذهب دورها وقصورها وجبالها وسائر أبنيتها. ومنه سمي الدكان، لاستوائه في الانفراش. والدك: حط المرتفع من الأرض بالبسط، وهو معنى قول ابن مسعود وابن عباس: تمد الأرض مد الأديم.

 

الآيات: 22 - 23 ( وجاء ربك والملك صفا صفا، وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى )

 

قوله تعالى: « وجاء ربك » أي أمره وقضاؤه؛ قاله الحسن. وهو من باب حذف المضاف. وقيل: أي جاءهم الرب بالآيات العظيمة؛ وهو كقوله تعالى: « إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام » [ البقرة: 210 ] ، أي بظلل. وقيل: جعل مجيء الآيات مجيئا له، تفخيما لشأن تلك الآيات. ومنه قوله تعالى في الحديث : ( يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني، واستسقيتك فلم تسقني، واستطعمتك فلم تطعمني ) . وقيل: « وجاء ربك » أي زالت الشبه ذلك اليوم، وصارت المعارف ضرورية، كما تزول الشبه والشك عند مجيء الشيء الذي كان يشك فيه. قال أهل الإشارة: ظهرت قدرته واستولت، واللّه جل ثناؤه لا يوصف بالتحول من مكان إلى مكان، وأنى له التحول والانتقال، ولا مكان له ولا أوان، ولا يجري عليه وقت ولا زمان؛ لأن في جريان الوقت على الشيء فوت الأوقات، ومن فاته شيء فهو عاجز.

 

قوله تعالى: « والملك » أي الملائكة. « صفا صفا » أي صفوفا. « وجيء يومئذ بجهنم » قال ابن مسعود ومقاتل: تقاد جهنم بسبعين ألف زمام، كل زمام بيد سبعين ألف ملك، لها تغيظ وزفير، حتى تنصب عن يسار العرش. وفي صحيح، مسلم عن عبداللّه بن مسعود قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: [ يؤتى بجهنم، لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها ] . وقال أبو سعيد الخدري: لما نزلت « وجيء يومئذ بجهنم » تغير لون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وعرف في وجهه. حتى اشتد على أصحابه، ثم قال: [ أقرأني جبريل « كلا إذا دكت الأرض دكا دكا » ـ الآية ـ، جيء يومئذ بجهنم ] . قال علي رضي اللّه عنه: قلت يا رسول اللّه، كيف يجاء بها؟ قال: ( تؤتى بها تقاد بسبعين ألف زمام، يقود بكل زمام سبعون ألف ملك، فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع ثم تعرض لي جهنم فتقول: ما لي ولك يا محمد، إن اللّه قد حرم لحمك علي ) فلا يبقى أحد إلا قال نفسي نفسي إلا محمد صلى اللّه عليه وسلم فإنه يقول: رب أمتي رب أمتي

 

قوله تعالى: « يومئذ يتذكر الإنسان » أي يتعظ ويتوب. وهو الكافر، أو من همته معظم الدنيا. « وأنى له الذكرى » أي ومن أين له الاتعاظ والتوبة وقد فرط فيها في الدنيا. ويقال: أي ومن أين له منفعة الذكرى. فلا بد من تقدير حذف المضاف، وإلا فبين « يومئذ يتذكر » وبين « وأنى له الذكرى » تناف، قاله الزمخشري.

 

الآية: 24 ( يقول يا ليتني قدمت لحياتي )

 

أي في حياتي. فاللام بمعنى في. وقيل: أي قدمت عملا صالحا لحياتي، أي لحياةٍ لا موت فيها. وقيل: حياة أهل النار ليست هنيئة، فكأنهم لا حياة لهم؛ فالمعنى: يا ليتني قدمت من الخير لنجاتي من النار، فأكون فيمن له حياة هنيئة.

 

الآيات: 25 - 26 ( فيومئذ لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد )

 

قوله تعالى: « فيومئذ لا يعذب عذابه أحد » أي لا يعذب كعذاب اللّه أحد، ولا يوثق كوثاقه أحد. والكناية ترجع إلى اللّه تعالى. وهو قول ابن عباس والحسن. وقرأ الكسائي « لا يعذب » « ولا يوثق » بفتح الذال والثاء، أي لا يعذب أحد في الدنيا كعذاب اللّه الكافر يومئذ، ولا يوثق كما يوثق الكافر. والمراد إبليس؛ لأن الدليل قام على أنه أشد الناس عذابا، لأجل إجرامه؛ فأطلق الكلام لأجل ما صحبه من التفسير. وقيل: إنه أمية بن خلف؛ حكاه الفراء. يعني أنه لا يعذب كعذاب هذا الكافر المعين أحد، ولا يوثق بالسلاسل والأغلال كوثاقه أحد؛ لتناهيه في كفره وعناده. وقيل: أي لا يعذب مكانه أحد، فلا يؤخذ منه فداء. والعذاب بمعنى التعذيب، والوثاق بمعنى الإيثاق. ومنه قول الشاعر:

وبعد عطائك المائه الرتاعا

وقيل: لا يعذب أحد ليس بكافر عذاب الكافر. واختار أبو عبيد وأبو حاتم فتح الذال والثاء. وتكون الهاء ضمير الكافر؛ لأن ذلك معروف: أنه لا يعذب أحد كعذاب اللّه. وقد روى أبو قلابة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قرأ بفتح الذال والثاء. وروي أن أبا عمرو رجع إلى قراءة النبي صلى اللّه عليه وسلم. وقال أبو علي: يجوز أن يكون الضمير للكافر على قراءه الجماعة؛ أي لا يعذب أحد أحدا مثل تعذيب هذا الكافر؛ فتكون الهاء للكافر. والمراد بـ « أحد » الملائكة الذين يتولون تعذيب أهل النار.

 

الآيات: 27 - 30 ( يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي، وادخلي جنتي )

 

قوله تعالى: « يا أيتها النفس المطمئنة » لما ذكر حال من كانت همته الدنيا فاتهم اللّه في إغنائه، وإفقاره، ذكر حال من اطمأنت نفسه إلى اللّه تعالى. فسلم لأمره، واتكل عليه. وقيل: هو من قول الملائكة لأولياء اللّه عز وجل. والنفس المطمئنة « الساكنة الموقنة؛ أيقنت أن اللّه ربها، فأخبتت لذلك؛ قال مجاهد وغيره. وقال ابن عباس: أي المطمئنة بثواب اللّه. وعنه المؤمنة. وقال الحسن: المؤمنة الموقنة. وعن مجاهد أيضا: الراضية بقضاء اللّه، التي علمت أن ما أخطأها لم يكن ليصيبها، وأن ما أصابها لم يكن ليخطئها. وقال مقاتل: الآمنة من عذاب اللّه. وفي حرف أُبي بن كعب » يأيتها النفس الآمنة المطمئنة « . وقيل: التي عملت على يقين بما وعد اللّه في كتابه. وقال ابن كيسان: المطمئنة هنا: المخلصة. وقال ابن عطاء: العارفة التي لا تصبر عنه طرفة عين. وقيل: المطمئنة بذكر اللّه تعالى؛ بيانه » الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله « [ الرعد: 38 ] . وقيل: المطمئنة بالإيمان، المصدقة بالبعث والثواب. وقال ابن زيد: المطمئنة لأنها بشرت بالجنة عند الموت، وعند البعث، ويوم الجمع. وروى عبداللّه بن بريدة عن أبيه قال: يعني نفس حمزة. والصحيح أنها عامة في كل نفس مؤمن مخلص طائع. قال الحسن البصري: إن اللّه تعالى إذا أراد أن يقبض روح عبده المؤمن، اطمأنت النفس إلى اللّه تعالى، واطمأن اللّه إليها. وقال عمرو بن العاص: إذا توفي المؤمن أرسل اللّه إليه ملكين، وأرسل معهما تحفة من الجنة، فيقولان لها: اخرجي أيتها النفس المطمئنة راضية مرضية، ومرضيا عنك، اخرجي إلى ووح وريحان، ورب راض غير غضبان، فتخرج كأطيب ريح المسك وجَد أحد من أنفه على ظهر الأرض. وذكر الحديث. وقال سعيد بن زيد: قرا رجل عند النبي صلى اللّه عليه وسلم « يا أيتها النفس المطمئنة » ، فقال أبو بكر: ما أحسن هذا يا رسول اللّه فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: [ إن الملك يقولها لك يا أبا بكر ] . وقال سعيد بن جبير: مات ابن عباس بالطائف، فجاء طائر لم ير على خلقته طائر قط، فدخل نعشه، ثم لم ير خارجا منه، فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر - لا يدري من تلاها - : » يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية « . وروى الضحاك أنها نزلت في عثمان بن عفان رضي اللّه عنه حين وقف بئر رومة. وقيل: نزلت في خُبيب بن عدي الذي صلبه أهل مكة، وجعلوا وجهه إلى المدينة؛ فحول اللّه وجهه نحو القبلة. واللّه أعلم.»

 

قوله تعالى: « ارجعي إلى ربك » أي إلى صاحبك وجسدك؛ قال ابن عباس وعكرمة وعطاء. واختاره الطبري؛ ودليله قراءة ابن عباس « فادخلي في عبدي » على التوحيد، فيأمر اللّه تعالى الأرواح غدا أن ترجع إلى الأجساد. وقرأ ابن مسعود « في جسد عبدي » . وقال الحسن: ارجعي إلى ثواب ربك وكرامته. وقال أبو صالح: المعنى: ارجعي إلى اللّه. وهذا عند الموت. « فادخلي في عبادي » أي في أجساد عبادي؛ دليله قراءة ابن عباس وابن مسعود. قال ابن عباس: هذا يوم القيامة؛ وقال الضحاك. والجمهور على أن الجنة هي دار الخلود التي هي مسكن الأبرار، ودار الصالحين والأخيار. ومعنى « في عبادي » أي في الصالحين من عبادي؛ كما قال: « لندخلنهم في الصالحين » [ العنكبوت: 9 ] . وقال الأخفش: « في عبادي » أي في حزبي؛ والمعنى واحد. أي انتظمي في سلكهم. « وادخلي جنتي » مع عبادي.

 

سورة البلد

 

الآية: 1 ( لا أقسم بهذا البلد )

 

يجوز أن تكون « لا » زائدة، كما تقدم في « لا أقسم بيوم القيامة » [ القيامة: 1 ] ؛ قاله الأخفش. أي أقسم؛ لأنه قال: « بهذا البلد » وقد أقسم به في قوله: « وهذا البلد الأمين » [ التين: 3 ] فكيف يَجْحَد القسم به وقد أقسم به. قال الشاعر:

تذكرت ليلى فاعترتني صبابة وكاد صميم القلب لا يتقطع

أي يتقطع، ودخل حرف « لا » صلة؛ ومنه قوله تعالى: « ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك » [ الأعراف: 12 ] بدليل قوله تعالى في « ص ] : » ما منعك أن تسجد « . [ ص: 75 ] . وقرأ الحسن والأعمش وابن كثير » لأقسم « من غير ألف بعد اللام إثباتا. وأجاز الأخفش أيضا أن تكون بمعنى » ألا « . وقيل: ليست بنفي القسم، وإنما هو كقول العرب: لا والله لا فعلت كذا، ولا والله ما كان كذا، ولا والله لأفعلن كذا. وقيل: هي نفي صحيح؛ والمعنى: لا أقسم بهذا البلد إذا لم تكن فيه، بعد خروجك منه. حكاه مكي. ورواه ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: « لا » رد عليهم. وهذا اختيار ابن العربي؛ لأنه قال: وأما من قال إنها رد، فهو قول ليس له رد، لأنه يصح به المعنى، ويتمكن اللفظ والمراد. فهو رد لكلام من أنكر البعث ثم ابتدأ القسم. وقال القشيري: قوله « لا » رد لما توهم الإنسان المذكور في هذه السورة، المغرور بالدنيا. أي ليس الأمر كما يحسبه، من أنه لن يقدر عليه أحد، ثم ابتدأ القسم. و » البلد « : هي مكة، أجمعوا عليه. أي أقسم بالبلد الحرام الذي أنت فيه، لكرامتك علي وحبي لك. وقال الواسطي أي نحلف لك بهذا البلد الذي شرفته بمكانك فيه حيا، وبركتك ميتا، يعني المدينة. والأول أصح؛ لأن السورة نزلت بمكة باتفاق.»

 

الآية: 2 ( وأنت حل بهذا البلد )

 

يعني في المستقبل؛ مثل قوله تعالى: « إنك ميت وإنهم ميتون » . ومثله واسع في كلام العرب. تقول لمن تعده الإكرام والحباء: أنت مكرم محبو. وهو في كلام الله واسع، لأن الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة؛ وكفاك دليلا قاطعا على أنه للاستقبال، وأن تفسيره بالحال محال: أن السورة باتفاق مكية قبل الفتح. فروى منصور عن مجاهد: « وأنت حل » قال: ما صنعت فيه من شيء فأنت في حل. وكذا قال ابن عباس: أحل له يوم دخل مكة أن يقتل من شاء، فقتل ابن خطل ومقيس بن صبابة وغيرهما. ولم يحل لأحد من الناس أن يقتل بها أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى السدي قال: أنت في حل ممن قاتلك أن تقتله. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: أُحلت له ساعة من نهار، ثم أُطبقت وحُرمت إلى يوم القيامة، وذلك يوم فتح مكة. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام إلى أن تقوم الساعة، فلم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار ] الحديث. وقد تقدم في سورة « المائدة » ابن زيد: لم يكن بها أحد حلالا غير النبي صلى الله عليه وسلم: وقيل: وأنت مقيم فيه وهو محلك. وقيل: وأنت فيه محسن، وأنا عنك فيه راض. وذكر أهل اللغة أنه يقال: رجل حل وحلال ومحل، ورجل حرام ومحل، ورجل حرام ومحرم. وقال قتادة: أنت حل به: لست بأثم. وقيل: هو ثناء على النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي إنك غير مرتكب في هذا البلد ما يحرم عليك ارتكابه، معرفة منك بحق هذا البيت؛ لا كالمشركين الذين يرتكبون الكفر بالله فيه. أي أقسم بهذا البيت المعظم الذي قد عرفت حرمته، فأنت مقيم فيه معظم له، غير مرتكب فيه ما يحرم عليك. وقال شرحبيل بن سعد: « وأنت حل بهذا البلد » أي حلال؛ أي هم يحرمون مكة أن يقتلوا بها صيدا أو يعضدوا بها شجرة، ثم هم مع هذا يستحلون إخراجك وقتلك.

 

الآية: 3 ( ووالد وما ولد )

 

قال مجاهد وقتادة والضحاك والحسن وأبو صالح: « ووالد » آدم: عليه السلام. « وما ولد » أي وما نسل من ولده. أقسم بهم لأنهم أعجب ما خلق الله تعالى على وجه الأرض؛ لما فيهم من البيان والنطق والتدبير، وفيهم الأنبياء والدعاة إلى الله تعالى. وقيل: هو إقسام بآدم والصالحين من ذريته، وأما غير الصالحين فكأنهم بهائم. وقيل: الوالد إبراهيم. وما ولد: ذريته؛ قال أبو عمران الجوني. ثم يحتمل أنه يريد جميع ذريته. ويحتمل أنه يريد المسلمين من ذريته. قال الفراء: وصلحت « ما » للناس؛ كقوله: « ما طاب لكم » [ النساء: 3 ] وكقوله: « وما خلق الذكر والأنثى » [ الليل: 3 ] وهو الخالق للذكر والأنثى، وقيل: « ما » مع ما بعدها في موضع المصدر؛ أي ووالد وولادته؛ كقوله تعالى: « والسماء وما بناها » . وقال عكرمة وسعيد بن جبير: « ووالد » يعني الذي يولد له، « وما ولد » يعني العاقر الذي لا يولد له؛ وقال ابن عباس. و « ما » على هذا نفي. وهو بعيد؛ ولا يصح إلا بإضمار الموصول؛ أي ووالد والذي ما ولد، وذلك لا يجوز عند البصريين. وقيل: هو عموم في كل والد وكل مولود؛ قاله عطية العوفي. وروي معناه عن ابن عباس أيضا. وهو اختيار الطبري. قال الماوردي: ويحتمل أن الوالد النبي صلى الله عليه وسلم، لتقدم ذكره، وما ولد أمته: لقوله عليه السلام: [ إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم ] . فأقسم به وبأمته بعد أن أقسم ببلده؛ مبالغة في تشريفه عليه السلام.

 

الآية: 4 ( لقد خلقنا الإنسان في كبد )

 

إلى هنا انتهى القسم؛ وهذا جوابه. ولله أن يقسم بما يشاء من مخلوقاته لتعظيمها، كما تقدم. والإنسان هنا ابن آدم. « في كبد » أي في شدة وعناء من مكابدة الدنيا. وأصل الكبد الشدة. ومنه تكبد اللبن: غلظ وخثر وأشتد. ومنه الكبد؛ لأنه دم تغلظ واشتد. ويقال: كابدت هذا الأمر: قاسيت شدته: قال لبليد:

يا عين هلا بكيت أربد إذ قمنا وقام الخصوم في كبد

قال ابن عباس والحسن: « في كبد » أي في شدة ونصب. وعن ابن عباس أيضا: في شدة من حمله وولادته ورضاعه ونبت أسنانه، وغير ذلك من أحواله. وروى عكرمة عنه قال: منتصبا في بطن أمه. والكبد: الاستواء والاستقامة. فهذا امتنان عليه في الخلقة. ولم يخلق الله جل ثناؤه دابة في بطن أمها إلا منكبة على وجهها إلا ابن آدم، فإنه منتصب انتصابا؛ وهو قول النخعي ومجاهد وغيرهما. ابن كبسان: منتصبا رأسه في بطن أمه؛ فإذا أذن الله أن يخرج من بطن أمه قلب رأسه إلى رجلي أمه. وقال الحسن: يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة. وعنه أيضا: يكابد الشكر على السراء ويكابد الصبر على الضراء؛ لأنه لا يخلو من أحدهما. ورواه ابن عمر. وقال يَمانٌ: لم يخلق الله خلقا يكابد ما يكابد ابن آدم؛ وهو مع ذلك أضعف الخلق. قال علماؤنا: أول ما يكابد قطع سرته، ثم إذا قمط قماطا، وشد رباطا، يكابد الضيق والتعب، ثم يكابد الارتضاع، ولو فاته لضاع، ثم يكابد نبت أسنانه، وتحرك لسانه، ثم يكابد الفطام، الذي هو أشد من اللطام، ثم يكابد الختان، والأوجاع والأحزان، ثم يكابد المعلم وصولته، والمؤدب وسياسته، والأستاذ وهيبته، ثم يكابد شغل التزويج والتعجيل فيه، ثم يكابد شغل الأولاد، والخدم والأجناد، ثم يكابد شغل الدور، وبناء القصور، ثم الكبر والهرم، وضعف الركبة والقدم، في مصائب يكثر تعدادها، ونوائب يطول إيرادها، من صداع الرأس، ووجع الأضراس، ورمد العين، وغم الدين، ووجع السن، وألم الأذن. ويكابد محنا في المال والنفس، مثل الضرب والحبس، ولا يمضى عليه يوم إلا يقاسي فيه شدة، ولا يكابد إلا مشقة، ثم الموت بعد ذلك كله، ثم مساءلة الملك، وضغطة القبر وظلمته؛ ثم البعث والعرض على الله، إلى أن يستقر به القرار، إما في الجنة وإما في النار؛ قال الله تعالى: « لقد خلقنا الإنسان في كبد » ، فلو كان الأمر إليه لما اختار هذه الشدائد. ودل هذا على أن له خالقا دبره، وقضى عليه بهذه الأحوال؛ فليمتثل أمره. وقال ابن زيد: الإنسان هنا آدم.

وقوله: « في كبد » أي في وسط السماء. وقال الكلبي: إن هذا نزل في رجل من بني جمح؛ كان يقال ل أبو الأشدين، وكان يأخذ الأديم العكاظي فيجعله تحت قدميه، فيقول: من أزالني عنه فله كذا. فيجذبه عشرة حتى يتمزق ولا تزول قدماه؛ وكان من أعداء النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه نزل « أيحسب أن لن يقدر عليه أحد » [ البلد: 5 ] يعني: لقوته. وروي عن ابن عباس. « في كبد » أي شديدا، يعني شديد الخلق؛ وكان من أشد رجال قريش. وكذلك ركانة ابن هشام بن عبدالمطلب، وكان مثلا في البأس والشدة. وقيل: « في كبد » أي جريء القلب، غليظ الكبد، مع ضعف خلقته، ومهانة مادته. ابن عطاء: في ظلمة وجهل. الترمذي: مضيعا ما يعنيه، مشتغلا بما لا يعنيه.

 

الآيات: 5 - 9 ( أيحسب أن لن يقدر عليه أحد، يقول أهلكت مالا لبدا، أيحسب أن لم يره أحد، ألم نجعل له عينين، ولسانا وشفتين )

 

قوله تعالى: « أيحسب أن لن يقدر عليه أحد » أي أيظن ابن آدم أن لن يعاقبه الله عز وجل: « يقول أهلكت » أي أنفقت. « مالا لبدا » أي كثيرا مجتمعا. « أيحسب » أي أيظن. « أن لم يره » أي أن لم يعاينه « أحد » بل علم الله عز وجل ذلك منه، فكان كاذبا في قوله: أهلكت ولم يكن أنفقه. وروى أبو هريرة قال: يوقف العبد، فيقال ماذا عملت في المال الذي رزقتك؟ فيقول: أنفقته وزكيته. فيقال: كأنك إنما فعلت ذلك ليقال سخي، فقد قيل ذلك. ثم يؤمر به إلى النار. وعن سعيد عن قتادة: إنك مسؤول عن مالك من أين جمعت؟ وكيف أنفقت؟ وعن ابن عباس قال: كان أبو الأشدين يقول: أنفقت في عداوة محمد مالا كثيرا وهو في ذلك كاذب. وقال مقاتل: نَزَلتْ في الحارث بن عامر بن نوفل، أذنب فاستفتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يُكَفِّر. فقال: لقد ذهب مالي في الكفارات والنفقات، منذ دخلت في دين محمد. وهذا القول منه يحتمل أن يكون استطالة بما أنفق، فيكون طغيانا منه، أو أسفا عليه، فيكون ندما منه. وقرأ أبو جعفر « مالا لبدا » بتشديد الباء مفتوحة، على جمع لا بد؛ مثل راكع وركع، وساجد وسجد، وشاهد وشهد، ونحوه. وقرأ مجاهد وحميد بضم الباء واللام مخففا، جمع لبود. الباقون بضم اللام وكسرها وفتح الباء مخففا، جمع لبدة ولبدة، وهو ما تلبد؛ يريد الكثرة. وقد مضى في سورة « الجن » القول فيه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ « أيحسُب » بضم السين في الموضعين. وقال الحسن: يقول أتلفت مالا كثيرا، فمن يحاسبني به، دعني أحسبه. ألم يعلم أن الله قادر على محاسبته، وأن الله عز وجل يرى صنيعه، ثم عدد عليه نعمه فقال: « ألم نجعل له عينين » يبصر بهما « ولسانا » ينطق به. « وشفتين » يستر بهما ثغره. والمعنى: نحن فعلنا ذلك، ونحن نقدر على أن نبعثه ونحصي عليه ما عمله. وقال أبو حازم: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله تعالى قال: يا ابن آدم، إن نازعك لسانك فيما حرمت عليك، فقد أعنتك عليه بطبقين، فأطبق؛ وإن نازعك بصرك فيما حرمت عليك، فقد أعنتك عليه بطبقين، فأطبق؛ وإن نازعك فرجك إلى ما حرمت عليك، فقد أعنتك عليه بطبقين، فأطبق ) . والشفة: أصلها شفهة، حذفت منها الهاء، وتصغيرها: شفيهة، والجمع: شفاه. ويقال: شفهات وشفوات، والهاء أقيس، والواو أعم، تشبيها بالسنوات. وقال الأزهري: يقال هذه شفة في الوصل وشفه، بالتاء والهاء. وقال قتادة: نعم الله ظاهرة، يقررك بها حتى تشكر.

 

الآية: 10 ( وهديناه النجدين )

 

يعني الطريقين: طريق الخير وطريق الشر. أي بيناهما له بما أرسلناه من الرسل. والنجد. الطريق في ارتفاع. وهذا قول ابن عباس وابن مسعود وغيرهما. وروى قتادة قال: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ( يا أيها الناس، إنما هما النجدان: نجد الخير، ونجد الشر، فلم نجعل نجد الشر أحب إليك من نجد الخير ) . وروي عن عكرمة قال: النجدان: الثديان. وهو قول سعيد بن المسيب والضحاك، وروي عن ابن عباس وعلي رضي الله عنهما؛ لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه. فالنجد: العلو، وجمعه نجود؛ ومنه سميت « نجد » ، لارتفاعها عن انخفاض تهامة. فالنجدان: الطريقان العاليان. قال امرؤ القيس:

فريقان منهم جازع بطن نخلة وآخر منهم قاطع نجد كبكب

 

الآية: 11 ( فلا اقتحم العقبة )

 

أي فهلا أنفق ماله الذي يزعم أنه أنفقه في عداوة محمد، هلا أنفقه لاقتحام العقبة فيأمن والاقتحام: الرمي بالنفس في شيء من غير روية؛ يقال منه: قحم في الأمر قحوما: أي رمى بنفسه فيه من غير روية. وقحم الفرس فارسه. تقحيما على وجهه: إذا رماه. وتقحيم النفس في الشيء: إدخالها فيه من غير روية. والقُحمة بالضم المهلكة، والسنة الشديدة. يقال: أصابت الأعراب القُحمة: إذا أصابهم قحط، فدخلوا الريف. والقُحم: صعاب الطريق. وقال الفراء والزجاج: وذكر « لا » مرة واحدة، والعرب لا تكاد تفرد « لا » مع الفعل الماضي في مثل هذا الموضع، حتى يعيدوها في كلام آخر؛ كقوله تعالى: « فلا صدق ولا صلى » [ القيامة: 31 ] « ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون » . وإنما أفردوها لدلالة آخر الكلام على معناه؛ فيجوز أن يكون قوله: « ثم كان من الذين آمنوا » [ البلد: 17 ] قائما مقام التكرير؛ كأنه قال: فلا اقتحم العقبة ولا آمن. وقيل: هو جار مجرى الدعاء؛ كقوله: لا نجا ولا سلم. وقال: معنى « فلا اقتحم العقبة » أي فلم يقتحم العقبة، كقول زهير:

وكان طوى كشحا على مستكِنَّة فلا هو أبداها ولم يتقدم

أي فلم يبدها ولم يتقدم. وكذا قال المبرد وأبو علي: « لا » : بمعنى لم. وذكره البخاري عن مجاهد. أي فلم يقتحم العقبة في الدنيا، فلا يحتاج إلى التكرير. ثم فسر العقبة وركوبها فقال « فك رقبة » وكذا وكذا؛ فبين وجوها من القرب المالية. وقال ابن زيد وجماعة من المفسرين: معنى الكلام الاستفهام الذي معناه الإنكار؛ تقديره: أفلا اقتحم العقبة؛ أو هلا اقتحم العقبة. يقول: هلا أنفق ماله في فك الرقاب، وإطعام السغْبَان، ليجاوز به العقبة، فيكون خيرا له من إنفاقه في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم. ثم قيل: اقتحام العقبة ها هنا ضرب مثل، أي هل تحمل عظام الأمور فغي إنفاق ماله في طاعة ربه، والإيمان به. وهذا إنما يليق بقول من حمل « فلا اقتحم العقبة » على الدعاء؛ أي فلا نجا ولا سلم من لم ينفق ماله في كذا وكذا. وقيل: شبه عظم الذنوب وثقلها وشدتها بعقبة، فإذا أعتق رقبة وعمل صالحا، كان مثله كمثل من اقتحم العقبة، وهي الذنوب التي تضره وتؤذيه وتثقله. قال ابن عمر: هذه العقبة جبل في جهنم. وعن أبي رجاء قال: بلغنا أن العقبة مصعدها سبعة آلاف سنة، ومهبطها سبعة آلاف سنة. وقال الحسن وقتادة: هي عقبة شديدة في النار دون الجسر، فاقتحموها بطاعة الله. وقال مجاهد والضحاك والكلبي: هي الصراط يضرب على جهنم كحد السيف، مسيرة ثلاثة آلاف سنة، سهلا وصعودا وهبوطا. واقتحامه على المؤمن كما بين صلاة العصر إلى العشاء. وقيل: اقتحامه عليه قدر ما يصلي صلاة المكتوبة. وروي عن أبي الدرداء أنه قال: إن وراءنا عقبة، أنجى الناس منها أخفهم حملا. وقيل: النار نفسها هي العقبة. فروى أبو رجاء عن الحسن قال: بلغنا أنه ما من مسلم يعتق رقبة إلا كانت فداءه من النار. وعن عبدالله بن عمر قال: من أعتق رقبة أعتق الله عز وجل بكل عضو منها عضوا منه. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: [ من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوا من أعضائه من النار، حتى فرجه بفرجه ] . وفي الترمذي عن أبي أمامة وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ أيما امرئ مسلم أعتق امرأ مسلما، كان فكاكه من النار، يجزي كل عضو منه عضوا منه، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة، كانت فكاكها من النار، يجزي كل عضو منها عضوا منها ] . قال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وقيل: العقبة خلاصه من هول العرض. وقال قتادة وكعب: هي نار دون الجسر. وقال الحسن: هي والله عقبة شديدة: مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوه الشيطان. وأنشد بعضهم:

إني بليت بأربع يرمينني بالنبل قد نصبوا علي شراكا

إبليس والدنيا ونفسي والهوى من أين أرجو بينهن فكاكا

يا رب ساعدني بعفو إنني أصبحت لا أرجو لهن سواكا

 

الآية: 12 ( وما أدراك ما العقبة )

 

فيه حذف، أي وما أدراك ما اقتحام العقبة. وهذا تعظيم لالتزام أمر الدين؛ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ليعلمه اقتحام العقبة. قال القشيري: وحمل العقبة على عقبه جهنم بعيد؛ إذ أحد في الدنيا لم يقتحم عقبة جهنم؛ إلا أن يحمل على أن المراد فهلا صير نفسه بحيث يمكنه اقتحام عقبة جهنم غدا. واختار البخاري قول مجاهد: إنه لم يقتحم العقبة في الدنيا. قال ابن العربي: وإنما اختار ذلك لأجل أنه قال بعد ذلك في الآية الثانية: « وما أدراك ما العقبة » ؟ ثم قال في الآية الثالثة: « فك رقبة » ، وفي الآية الرابعة « أو إطعام في يوم ذي مسغبة » ، ثم قال في الآية الخامسة: « يتيما ذا مقربة » ، ثم قال في الآية السادسة: « أو مسكينا ذا متربة » ؛ فهذه الأعمال إنما تكون في الدنيا. المعنى: فلم يأت في الدنيا بما يسهل عليه سلوك العقبة في الآخرة. وقال سفيان ابن عيينة: كل شيء قال فيه « وما أدراك » ؟ فإنه أخبر به، وكل شيء قال فيه « وما يدريك » ؟ فإنه لم يخبر به.

 

الآية: 13 ( فك رقبة )

 

قوله تعالى: « فك رقبة » فكها: خلاصها من الأسر. وقيل: من الرق. وفي الحديث: [ وفك الرقبة أن تعين في ثمنها ] . من حديث البراء، وقد تقدم في سورة « التوبة » . والفك: هو حل القيد؛ والرق قيد. وسمي المرقوق رقبة؛ لأنه بالرق كالأسير المربوط في رقبته. وسمي عنقها فكا كفك الأسير من الأسر. قال حسان:

كم من أسير فككناه بلا ثمن وجز ناصية كنا مواليها

وروى عقبة بن عامر الجُهَني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ من أعتق رقبة مؤمنة كانت فداءه من النار ] قال الماوردي: ويحتمل ثانيا أنه أراد فك رقبته وخلاص نفسه، باجتناب المعاصي، وفعل الطاعات؛ ولا يمتنع الخبر من هذا التأويل، وهو أشبه بالصواب.

 

قوله تعالى: « رقبة » قال أصبغ: الرقبة الكافرة ذات الثمن أفضل في العتق من الرقبة المؤمنة القليلة الثمن؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم وقد سئل أي الرقاب أفضل؟ قال: [ أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها ] . ابن العربي: والمراد في هذا الحديث: من المسلمين؛ بدليل قوله عليه السلام: [ من أعتق امرأ مسلما ] و [ من أعتق رقبة مؤمنة ] . وما ذكره أصبغ وهلة؛ وإنما نظر إلى تنقيص المال، والنظر إلى تجريد المعتق للعبادة، وتفريغه للتوحيد، أولى.

 

العتق والصدقة من أفضل الأعمال. وعن أبي حنيفة: أن العتق أفضل من الصدقة. وعند صاحبيه الصدقة أفضل. والآية أدل على قول أبي حنيفة؛ لتقديم العتق على الصدقة. وعن الشعبي في رجل عنده فضل نفقة: أيضعه في ذي قرابة أو يعتق رقبة؟ قال: الرقبة أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ من فك رقبة فك الله بكل عضو منها عضوا من النار ] .

 

الآيات: 14 - 16 ( أو إطعام في يوم ذي مسغبة، يتيما ذا مقربة، أو مسكينا ذا متربة )

 

قوله تعالى: « أو إطعام في يوم ذي مسغبة » أي مجاعة. والسغب: الجوع. والساغب الجائع. وقرأ الحسن « أو إطعام في يوم ذا مسغبة » بالألف في « ذا » - وأنشد أبو عبيدة:

فلو كنت جارا يا ابن قيس بن عاصم لما بت شبعانا وجارك ساغبا

وإطعام الطعام فضيلة، وهو مع السغب الذي هو الجوع أفضل. وقال النخعي في قوله تعالى: « أو إطعام في يوم ذي مسغبة » قال: في يوم عزيز فيه الطعام. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ من موجبات الرحمة إطعام المسلم السغبان ] . « يتيما ذا مقربة » أي قرابة. يقال: فلان ذو قرابتي وذو مقربتي. يعلمك أن الصدقة على القرابة أفضل منها على غير القرابة، كما أن الصدقة على اليتيم الذي لا كافل له أفضل من الصدقة على اليتيم الذي يجد من يكفله. وأهل اللغة يقولون: سمي يتيما لضعفه. يقال: يتم الرجل يتما: إذا ضعف. وذكروا أن اليتيم في الناس من قبل الأب. وفي البهائم من قبل الأمهات. وقد مضى في سورة « البقرة » مستوفى، وقال بعض أهل اللغة: اليتيم الذي يموت أبواه. وقال قيس بن الملوح:

إلى الله أشكو فقد ليلى كما شكا إلى الله فقد الوالدين يتيم

 

قوله تعالى: « أو مسكينا ذا متربة » أي لا شيء له، حتى كأنه قد لصق بالتراب من الفقر، ليس له مأوى إلا التراب. قال ابن عباس: هو المطروح على الطريق، الذي لا بيت له. مجاهد: هو الذي لا يقيه من التراب لباس ولا غيره. وقال قتادة: إنه ذو العيال. عكرمة: المديون. أبو سنان: ذو الزمانة. ابن جبير: الذي ليس له أحد. وروى عكرمة عن ابن عباس: ذو المتربة البعيد التربة؛ يعني الغريب البعيد عن وطنه. وقال أبو حامد الخارزنجي: المتربة هنا: من التريب؛ وهي شدة الحال. يقال ترب: إذا افتقر. قال الهذلي:

وكنا إذا ما الضيف حل بأرضنا سفكنا دماء البدن في تربة الحال

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي: « فكَ » بفتح الكاف، على الفعل الماضي. « رقبة » نصبا لكونها مفعولا « أو أَطعم » بفتح الهمزة نصب الميم، من غير ألف، على الفعل الماضي أيضا؛ لقوله: « ثم كان من الذين آمنوا » فهذا أشكل بـ « فك وأطعم » . وقرأ الباقون: « فك » رفعا، على أنه مصدر فككت. « رقبة » خفض بالإضافة. « أو إطعام » بكسر الهمزة وألف ورفع الميم وتنوينها على المصدر أيضا. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لأنه تفسير لقوله تعالى: « وما أدراك ما العقبة » ؟ ثم أخبره فقال: « فك رقبة أو إطعام » . المعنى: اقتحام العقبة: فك رقبة أو إطعام. ومن قرأ بالنصب فهو محمول على المعنى؛ أي ولا فك رقبة، ولا أطعم في يوم ذا مسغبة؛ فكيف يجاوز العقبة. وقرأ الحسن وأبو رجاء: « ذا مسغبة » بالنصب على أنه مفعول « إطعام » أي يطعمون ذا مسغبة و « يتيما » بدل منه. الباقون « ذي مسغبة » فهو صفة لـ « يوم » . ويجوز أن يكون قراءة النصب صفة لموضع الجار والمجرور لأن قوله: « في يوم » ظرف منصوب الموضع، فيكون وصفا له على المعنى دون اللفظ.

 

الآيات: 17 - 20 ( ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة، أولئك أصحاب الميمنة، والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة، عليهم نار مؤصدة )

 

قوله تعالى: « ثم كان من الذين آمنوا » يعني: أنه لا يقتحم العقبة من فك رقبة، أو أطعم في يوم ذا مسغبة، حتى يكون من الذين آمنوا؛ أي صدقوا، فإن شرط قبول الطاعات الإيمان بالله. فالإيمان بالله بعد الإنفاق لا ينفع، بل يجب أن تكون الطاعة مصحوبة بالإيمان، قال الله تعالى في المنافقين: « وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله » . [ التوبة: 54 ] . وقالت عائشة: يا رسول الله، إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم الطعام، ويفك العاني، ويعتق الرقاب، ويحمل على إبله لله، فعل ينفعه ذلك شيئا؟ قال: [ لا، إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ] . وقيل: « ثم كان من الذين آمنوا » أي فعل هذه الأشياء وهو مؤمن، ثم بقي على إيمانه حتى الوفاة؛ نظيره قوله تعالى: « وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى » [ طه: 82 ] . وقيل: المعنى ثم كان من الذين يؤمنون بأن هذا نافع لهم عند الله تعالى. وقيل: أتى بهذه القرب لوجه الله، ثم أمن بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقد قال حكيم بن حزام بعدما أسلم، يا رسول الله، إنا كنا نتحنث بأعمال في الجاهلية، فهل لنا منها شيء؟ فقال عليه السلام: [ أسلمت على ما أسلفت من الخير ] . وقيل: إن « ثم » بمعنى الواو؛ أي وكان هذا المعتق الرقبة، والمطعم في المسغبة، من الذين أمنوا. « وتواصوا » أي أوصى بعضهم بعضا. « بالصبر » أي بالصبر على طاعة الله، وعن معاصيه؛ وعلى ما أصابهم من البلاء والمصايب. « وتواصوا بالمرحمة » بالرحمة على الخلق؛ فإنهم إذا فعلوا ذلك رحموا اليتيم والمسكين.

 

قوله تعالى: « أولئك أصحاب الميمنة » أي الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم؛ قال محمد بن كعب القرظي وغيره. وقال يحيى بن سلام: لأنهم ميامين على أنفسهم. ابن زيد: لأنهم أخذوا من شق آدم الأيمن. وقيل: لأن منزلتهم عن اليمين؛ قاله ميمون بن مهران. « والذين كفروا بآياتنا » أي كفروا بالقرآن. « هم أصحاب المشأمة » أي يأخذون كتبهم بشمائلهم؛ قال محمد بن كعب. يحيى بن سلام: لأنهم مشائيم على أنفسهم. ابن زيد: لأنهم أخذوا من شق آدم الأيسر. ميمون: لأن منزلتهم عن اليسار.

قلت: ويجمع هذه الأقوال أن يقال: إن أصحاب الميمنة أصحاب الجنة، وأصحاب المشأمة أصحاب النار؛ قال الله تعالى: « وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين، في سدر مخضود » ، وقال: « وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال. في سموم وحميم » [ الواقعة:42 ] . وما كان مثله. ومعنى « مؤصدة » أي مطبقة مغلقة. قال:

تحن إلى جبال مكة ناقتي ومن دونها أبواب صنعاء مؤصده

وقيل: مبهمة، لا يدري ما داخلها. وأهل اللغة يقولون: أوصدت الباب وأصدته؛ أي أغلقته. فمن قال أوصدت، فالاسم الوصاد، ومن قال آصدته، فالاسم الإصاد. وقرأ أبو عمرو وحفص وحمزة ويعقوب والشيزري عن الكسائي « موصدة » بالهمز هنا، وفي « الهمزة » . الباقون بلا همز. وهما لغتان. وعن أبي بكر بن عياش قال: لنا إمام يهمز « مؤصدة » فأشتهي أن أسد أذني إذا سمعته.

الآية [ 2 ] في الصفحة التالية ...

 

سورة الشمس

 

الآية: 2 ( والقمر إذا تلاها )

 

أي تبعها: وذلك إذا سقطت رؤي الهلال. يقال: تلوت فلانا: إذا تبعته. قال قتادة: إنما ذلك ليلة الهلال، إذا سقطت الشمس رؤي الهلال. وقال ابن زيد: إذا غربت الشمس في النصف الأول من الشهر، تلاها القمر بالطلوع، وفي آخر الشهر يتلوها بالغروب. القراء: « تلاها » : أخذ منها، يذهب إلى أن القمر يأخذ من ضوء الشمس. وقال قوم: « والقمر إذا تلاها » حين استوى واستدار، فكان مثلها في الضياء والنور؛ وقاله الزجاج.

 

الآية: 3 ( والنهار إذا جلاها )

 

أي كشفها. فقال قوم: جلى الظلمة؛ وإن لم يجر لها ذكر؛ كما تقول: أضحت باردة، تريد أضحت غداتنا باردة. وهذا قول الفراء والكلبي وغيرهما. وقال قوم: الضمير في « جلاها » للشمس؛ والمعنى: أنه يبين بضوئه جرمها. ومنه قول قيس بن الخطيم:

تجلت لنا كالشمس تحت غمامة بدا حاجب منها وضنت بحاجب

وقيل: جلى ما في الأرض من حيوانها حتى ظهر، لاستتاره ليلا وانتشاره نهارا. وقيل: جلى الدنيا. وقيل: جلى الأرض؛ وإن لم يجر لها ذكر؛ ومثله قوله تعالى: « حتى توارت بالحجاب » [ ص: 32 ] على ما تقدم آنفا.

 

الآية: 4 ( والليل إذا يغشاها )

 

أي يغشى الشمس، فيذهب بضوئها عند سقوطها؛ قال مجاهد وغيره. وقيل: يغشى الدنيا بالظلم، فتظلم الآفاق. فالكناية ترجع إلى غير مذكور.

 

الآية: 5 ( والسماء وما بناها )

 

أي وبنيانها. فما مصدرية؛ كما قال: « بما غفر لي ربي » [ يس: 27 ] أي بغفران ربي؛ قاله قتادة، واختاره المبرد. وقيل: المعنى ومن بناها؛ قاله الحسن ومجاهد؛ وهو اختيار الطبري. أي ومن خلقها ورفعها، وهو الله تعالى. وحكي عن أهل الحجاز: سبحان ما سبحت له؛ أي سبحان من سبحت له.

 

الآية: 6 ( والأرض وما طحاها )

 

أي وطحوها. وقيل: ومن طحاها؛ على ما ذكرناه آنفا. أي بسطها؛ كذا قال عامة المفسرين؛ مثل دحاها. قال الحسن ومجاهد وغيرهما: طحاها ودحاها: واحد؛ أي بسطها من كل جانب. والطحو: البسط؛ طحا يطحو طحوا، وطحى يطحي طحيا، وطحيت: اضطجعت؛ عن أبي عمرو. وعن ابن عباس: طحاها: قسمها. وقيل: خلقها؛ قال الشاعر:

وما تدري جذيمة من طحاها ولا من ساكن العرش الرفيع

الماوردي: ويحتمل أنه ما خرج منها من نبات وعيون وكنوز؛ لأنه حياة لما خلق عليها. ويقال في بعض أيمان العرب: لا، والقمر الطاحي؛ أي المشرف المشرق المرتفع. قال أبو عمرو: طحا الرجل: إذا ذهب في الأرض. يقال: ما أدري أين طحا! ويقال: طحا به قلبه: إذا ذهب به في كل شيء. قال علقمة:

طحا بك قلب في الحسان طروب بعيد الشباب عصر حان مشيب

 

الآية: 7 ( ونفس وما سواها )

 

قيل: المعنى وتسويتها. « فما » : بمعنى المصدر. وقيل: المعنى ومن سواها، وهو الله عز وجل. وفي النفس قولان: أحدهما آدم. الثاني: كل نفس منفوسة. وسوى: بمعنى هيأ. وقال مجاهد: سواها: سوى خلقها وعدل. وهذه الأسماء كلها مجرورة على القسم. أقسم جل ثناؤه بخلقه لما فيه من عجائب الصنعة الدالة عليه.

 

الآية: 8 ( فألهمها فجورها وتقواها )

 

قوله تعالى: « فألهمها » أي عرفها؛ كذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد. أي عرفها طريق الفجور والتقوى؛ وقال ابن عباس. وعن مجاهد أيضا: عرفها الطاعة والمعصية. وعن محمد بن كعب قال: إذا أراد الله عز وجل بعبده خيرا، ألهمه الخير فعمل به، وإذا أراد به السوء، ألهمه الشر فعمل به. وقال الفراء: « فألهمها » قال: عرفها طريق الخير وطريق الشر؛ كما قال: « وهديناه النجدين » [ البلد: 10 ] . وروى الضحاك عن ابن عباس قال: ألهم المؤمن المتقي تقواه، وألهم الفاجر فجوره. وعن سعيد عن قتادة قال: بين لها فجورها وتقواها. والمعنى متقارب. وروي عن أبي هريرة قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم « فألهمها فجورها وتقواها » قال: [ اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها ] . ورواه جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية: « فالهمها فجورها وتقواها » رفع صوته بها، وقال: [ اللهم آت نفسي تقواها، أنت وليها ومولاها، وأنت خير من زكاها ] . وفي صحيح مسلم، عن أبي الأسود الدؤلي قال: قال لي عمران بن حصين: أرأيت ما يعمل الناس اليوم، ويكدحون فيه، أشيء قضي ومضى عليهم من قدر سبق، أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجة عليهم؟ فقلت: بل شيء قضي عليهم، ومضى عليهم. قال فقال: أفلا يكون ظلما؟ قال: ففزعت من ذلك فزعا شديدا، وقلت: كل شيء خلق الله وملك يده، فلا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون. فقال لي: يرحمك الله إني لم أرد بما سألتك إلا لأحزر عقلك، إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه: أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم. وثبتت الحجة عليهم؟ فقال: ( لا بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم. وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: « ونفس وما سواها. فألهمها فجورها وتقواها » ) . والفجور والتقوى: مصدران في موضع المفعول به.

 

الآيات: 9 - 10 ( قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها )

 

قوله تعالى: « قد أفلح من زكاها » هذا جواب القسم، بمعنى: لقد أفلح. قال الزجاج: اللام حذفت، لأن الكلام طال، فصار طول عوضا منها. وقيل: الجواب محذوف؛ أي والشمس وكذا وكذا لتبعثن. الزمخشري: تقديره ليدمدمن الله عليهم؛ أي على أهل مكة، لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما دمدم على ثمود؛ لأنهم كذبوا صالحا. وأما « قد أفلح من زكاها » فكلام تابع لأوله؛ لقوله: « فألهمها فجورها وتقواها » على سبيل الاستطراد، وليس من جواب القسم في شيء. وقيل: هو على التقديم والتأخير بغير حذف؛ والمعنى: قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها، والشمس وضحاها. « أفلح » فاز. « من زكاها » أي من زكى الله نفسه بالطاعة. « وقد خاب من دساها » أي خسرت نفس دسها الله عز وجل بالمعصية. وقال ابن عباس: خابت نفس أضلها وأغواها. وقيل: أفلح من زكى نفسه بطاعة الله، وصالح الأعمال، وخاب من دس نفسه في المعاصي؛ قال قتادة وغيره. وأصل الزكاة: النمو والزيادة، ومنه زكا الزرع: إذا كثر ريعه، ومنه تزكية القاضي للشاهد؛ لأنه يرفعه بالتعديل، وذكر الجميل. وقد تقدم هذا المعنى في أول سورة « البقرة » مستوفى. فمصطنع المعروف والمبادر إلى أعمال البر، شهر نفسه ورفعها. وكانت أجواد العرب تنزل الربا وارتفاع الأرض، ليشتهر مكانها للمعتفين، وتوقد النار في الليل للطارقين. وكانت اللئام تنزل الأولاج والأطراف والأهضام، ليخفى مكانها عن الطالبين. فأولئك علوا أنفسهم وزكوها، وهؤلاء أخفوا أنفسهم ودسوها. وكذا الفاجر أبدا خفي المكان، زمر المروءة غامض الشخص، ناكس الرأس بركوب المعاصي. وقيل: دساها: أغواها. قال:

وأنت الذي دسيت عمرا فأصبحت حلائله منه أرامل ضيعا

قال أهل اللغة: والأصل: دسسها، من التدسيس، وهو إخفاء الشيء، فأبدلت سينه ياء؛ كما يقال: قصيت أظفاري؛ وأصله قصصت أظفاري. ومثله قولهم في تقضض: تقضي. وقال ابن الأعرابي: « وقد خاب من دساها » أي دس نفسه في جملة الصالحين وليس منهم.

 

الآيات: 11 - 14 ( كذبت ثمود بطغواها، إذ انبعث أشقاها، فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها، فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها )

 

قوله تعالى: « كذبت ثمود بطغواها » أي بطغيانها، وهو خروجها عن الحد في العصيان؛ قاله مجاهد وقتادة وغيرهما. وعن ابن عباس « بطغواها » أي بعذابها الذي وعدت به. قال: وكان اسم العذاب الذي جاءها الطغوي؛ لأنه طغى عليهم. وقال محمد بن كعب: « بطغواها » بأجمعها. وقيل: هو مصدر، وخرج على هذا المخرج، لأنه أشكل برؤوس الآي. وقيل: الأصل بطغياها، إلا أن « فعلى » إذا كانت من ذوات الياء أبدلت في الاسم واوا، ليفصل بين الاسم والوصف. وقراءة العامة بفتح الطاء. وقرأ الحسن والجحدري وحماد بن سلمة ( بضم الطاء ) على أنه مصدر؛ كالرجعي والحسني وشبههما في المصادر. وقيل: هما لغتان. « إذ انبعث » أي نهض. « أشقاها » لعقر الناقة. واسمه قدار بن سالف. وقد مضى في « الأعراف » بيان هذا، وهل كان واحدا أو جماعة. وفي البخاري عن عبدالله بن زمعة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، وذكر الناقة والذي عقرها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ أتدري من أشقى الأولين ] قلت: الله ورسوله أعلم. قال: [ قاتلك ] .

 

قوله تعالى: « فقال لهم رسول الله » يعني صالحا. « ناقة الله » « ناقة » منصوب على التحذير؛ كقولك: الأسد الأسد، والصبي الصبي، والحذار الحذار. أي احذروا ناقة الله؛ أي عقرها. وقيل: ذروا ناقة الله، كما قال: « هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم » . [ الأعراف: 73 ] . « وسقياها » أي ذروها وشربها. وقد مضى في سورة « الشعراء » بيانه والحمد لله. وأيضا في سورة « اقتربت الساعة » [ القمر: 1 ] . فإنهم لما اقترحوا الناقة، وأخرجها لهم من الصخرة، جعل لهم شرب يوم من بئرهم، ولها شرب يوم مكان ذلك، فشق ذلك عليهم. « فكذبوه » أي كذبوا صالحا عليه السلام في قوله لهم: [ إنكم تعذبون إن عقرتموها ] . « فعقروها » أي عقرها الأشقى. وأضيف إلى الكل، لأنهم رضوا بفعله. وقال قتادة: ذكر لنا أنه لم يعقرها حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وأنثاهم. وقال الفراء: عقرها اثنان: والعرب تقول: هذان أفضل الناس، وهذان خير الناس، وهذه المرأة أشقى القوم؛ فلهذا لم يقل: أشقياها.

 

قوله تعالى: « فدمدم عليهم ربهم بذنبهم » أي أهلكهم وأطبق عليهم العذاب بذنبهم الذي هو الكفر والتكذيب والعقر. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: دمدم عليهم قال: دمر عليهم ربهم بذنبهم؛ أي بجرمهم. وقال الفراء: دمدم أي أرجف. وحقيقة الدمدمة تضعيف العذاب وترديده. ويقال: دممت على الشيء أي أطبقت عليه، ودمم عليه القبر: أطبقه. وناقة مدومة: ألبسها الشحم. فإذا كررت الإطباق قلت: دمدمت. والدمدمة: إهلاك باستئصال؛ قاله المؤرج. وفي الصحاح: ودمدمت الشيء: إذا ألزقته بالأرض وطحطحته. ودمدم الله عليهم: أي أهلكهم. القشيري: وقيل دمدمت على الميت التراب: أي سويت عليه. فقوله: « فدمدم عليهم » أي أهلكهم، فجعلهم تحت التراب. وقال ابن الأنباري: دمدم أي غضب. والدمدمة: الكلام الذي يزعج الرجل. وقال بعض اللغويين: الدمدمة: الإدامة؛ تقول العرب: ناقة مدمدمة أي سمينة. « فسواها » أي سوى عليهم الأرض. وعلى الأول « فسواها » أي فسوى الدمدمة والإهلاك عليهم. وذلك أن الصيحة أهلكتهم، فأتت على صغيرهم وكبيرهم. وقيل: « فسواها » أي فسوى الأمة في إنزال العذاب بهم، صغيرهم وكبيرهم، وضيعهم وشريفهم، وذكرهم وأنثاهم. وقرأ ابن الزبير « فدمدم » وهما، لغتان؛ كما يقال: امتقع لونه وانتقع.

 

الآية: 15 ( ولا يخاف عقباها )

 

أي فعل الله ذلك بهم غير خائف أن تلحقه تبعة الدمدمة من أحد؛ قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد. والهاء في « عقباها » ترجع إلى الفعلة؛ كقوله: ( من اغتسل يوم الجمعة فبها ونعمت ) أي بالفعلة والخصلة. قال السدي والضحاك والكلبي: ترجع إلى العاقر؛ أي لم يخف الذي عقرها عقبى ما صنع. وقال ابن عباس أيضا. وفي الكلام تقديم وتأخير، مجازه: إذ انبعث أشقاها ولا يخاف عقباها. وقيل: لا يخاف رسول الله صالح عاقبة إهلاك قومه، ولا يخشى ضررا يعود عليه من عذابهم؛ لأنه قد أنذرهم، ونجاه الله تعالى حين أهلكهم. وقرأ نافع وابن عامر « فلا » بالفاء، وهو الأجود؛ لأنه يرجع إلى المعنى الأول؛ أي فلا يخاف الله عاقبة إهلاكهم. والباقون بالواو، وهي أشبه بالمعنى الثاني؛ أي ولا يخاف الكافر عاقبة ما صنع. وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك قالا: أخرج إلينا مالك مصحفا لجده، وزعم أنه كتبه في أيام عثمان بن عفان حين كتب المصاحف، وفيه: « ولا يخاف » بالواو. وكذا هي في في مصاحف أهل مكة والعراقيين بالواو، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، اتباعا لمصحفهم.

 

سورة الليل

 

الآيات: 1 - 4 ( والليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى، وما خلق الذكر والأنثى، إن سعيكم لشتى )

 

قوله تعالى: « والليل إذا يغشى » أي يُغطي. ولم يذكر معه مفعولا للعلم به. وقيل: يغشى النهار. وقيل: الأرض. وقيل: الخلائق. وقيل: يغشى كل شيء بظلمته. وروى سعيد عن قتادة قال: أول ما خلق اللّه النور والظلمة، ثم ميز بينهما، فجعل الظلمة ليلا أسود مظلما، والنور نهارا مضيئا مبصرا. « والنهار إذا تجلى » أي إذا انكشف ووضح وظهر، وبان بضوئه عن ظلمة الليل. « وما خلق الذكر والأنثى » قال الحسن: معناه والذي خلق الذكر والأنثى؛ فيكون قد أقسم بنفسه عز وجل. وقيل: معناه وخلق الذكر والأنثى؛ ( فما ) : مصدرية على ما تقدم. وأهل مكة يقولون للرعد: سبحان ما سبحت له ( فما ) على هذا بمعنى ( من ) ، وهو قول أبي عبيدة وغيره. وقد تقدم. وقيل: المعنى وما خلق من الذكر والأنثى؛ فتكون « من » مضمرة، ويكون القسم منه بأهل طاعته، من أنبيائه وأوليائه، ويكون قسمه بهم تكرمة لهم وتشريفا. وقال أبو عبيدة: « وما خلق » أي من خلق. وكذا قوله: « والسماء وما بناها » [ الشمس: 5 ] ، « ونفس وما سواها » [ الشمس: 7 ] ، « ما » في هذه المواضع بمعنى من. وروي. ابن مسعود أنه كان يقرأ « والنهار إذا تجلى. والذكر والأنثى » ويسقط « وما خلق » . وفي صحيح مسلم عن علقمة قال: قدمنا الشام، فأتانا أبو الدرداء، فقال: فيكم أحد يقرأ عليّ قراءة عبدالله؟ فقلت: نعم، أنا. قال: فكيف سمعت عبدالله يقرأ هذه الآية « والليل إذا يغشى » ؟ قال: سمعته يقرأ « والليل إذا يغشى. والذكر والأنثى » قال: وأنا واللّه هكذا سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقرؤها، ولكن هؤلاء يريدون أن أقرأ « وما خلق » فلا أتابعهم.

قال أبو بكر الأنباري: وحدثنا محمد بن يحيى المروزي قال حدثنا محمد قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري قال: حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبدالرحمن بن يزيد عن عبدالله قال: أقرأني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « إني أنا الرازق ذو القوة المتين » ؛ قال أبو بكر: كل من هذين الحديثين مردود؛ بخلاف الإجماع له، وأن حمزة وعاصما يرويان عن عبدالله بن مسعود ما عليه جماعة المسلمين، والبناء على سندين يوافقان الإجماع أولى من الأخذ بواحد يخالفه الإجماع والأمة، وما يبني على رواية واحد إذا حاذاه رواية جماعة تخالفه، أخذ برواية الجماعة، وأبطل نقل الواحد؛ لما يجوز عليه من النسيان والإغفال. ولو صح الحديث عن أبي الدرداء وكان إسناده مقبولا معروفا، ثم كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة رضي اللّه عنهم يخالفونه، لكان الحكم العمل بما روته الجماعة، ورفض ما يحكيه الواحد المنفرد، الذي يسرع إليه من النسيان ما لا يسرع إلى الجماعة، وجميع أهل الملة.

وفي المراد بالذكر والأنثى قولان: أحدهما: آدم وحواء؛ قاله ابن عباس والحسن والكلبي. الثاني: يعني جميع الذكور والإناث من بني آدم والبهائم؛ لأن اللّه تعالى خلق جميعهم من ذكر وأنثى من نوعهم. وقيل: كل ذكر وأنثى من الآدميين دون البهائم لاختصاصهم بولاية اللّه وطاعته. « إن سعيكم لشتى » هذا جواب القسم. والمعنى: إن عملكم لمختلف. وقال عكرمة وسائر المفسرين: السعي: العمل؛ فساع في فكاك نفسه، وساع في عطبها؛ يدل عليه قوله عليه السلام: ( الناس غاديان: فمبتاع نفسه فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها ) . وشتى: واحده شتيت؛ مثل مريض ومرضى. وإنما قيل للمختلف شتى لتباعد ما بين بعضه وبعضه. أي إن عملكم لمتباعد بعضه من بعض؛ لأن بعضه ضلالة وبعضه هدى. أي فمنكم مؤمن وبر، وكافر وفاجر، ومطيع وعاص. وقيل: « لشتى » أي لمختلف الجزاء؛ فمنكم مثاب بالجنة، ومعاقب بالنار. وقيل: أي لمختلف الأخلاق؛ فمنكم راحم وقاس، وحليم وطائش، وجواد وبخيل؛ وشبه ذلك.

 

الآيات: 5 - 10 ( فأما من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى، فسنيسره لليسرى، وأما من بخل واستغنى، وكذب بالحسنى، فسنيسره للعسرى )

 

قوله تعالى: « فأما من أعطى واتقى » قال ابن مسعود: يعني أبا بكر رضي اللّه عنه؛ وقال عامة المفسرين. فروى عن عامر بن عبدالله بن الزبير قال: كان أبو بكر يعتق على الإسلام عجائز ونساء، قال: فقال له أبوه قحافة: أي بني لو أنك أعتقت رجالا جلدا يمنعونك ويقومون معك؟ فقال: يا أبت إنما أريد ما أريد. وعن ابن عباس في قوله تعالى: « فأما من أعطى » أي بذل. « واتقى » أي محارم اللّه التي نهى عنها. « وصدق بالحسنى » أي بالخلف من اللّه تعالى على عطائه. « فسنيسره لليسرى » وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا ) . وروى من حديث أبي الدرداء: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ( ما من يوم غربت شمسه إلا بعث بجنبتها ملكان يناديان يسمعهما خلق اللّه كلهم إلا الثقلين: اللهم أعط منفقا خلفا، وأعط ممسكا تلفا ) فأنزل اللّه تعالى في ذلك في القرآن « فأما من أعطى » ... الآيات. وقال أهل التفسير: « فأما من أعطى » المعسرين. وقال قتاده: أعطى حق اللّه تعالى الذي عليه. وقال الحسن: أعطى الصدق من قلبه. « وصدق بالحسنى » أي بلا إله إلا اللّه؛ قاله الضحاك والسلمي وابن عباس أيضا. وقال مجاهد: بالجنة؛ دليله قوله تعالى: « للذين أحسنوا الحسنى وزيادة » ... [ يونس: 26 ] الآية. وقال قتادة: بموعود اللّه الذي وعده أن يثيبه. زيد بن أسلم: بالصلاة والزكاة والصوم. الحسن: بالخلف من عطائه؛ وهو اختيار الطبري. وتقدم عن ابن عباس، وكله متقارب المعنى؛ إذ كله يرجع إلى الثواب الذي هو الجنة.

 

قوله تعالى: « فسنيسره لليسرى » أي نرشده لأسباب الخير والصلاح، حتى يسهل عليه فعلها. وقال زيد بن أسلم: « لليسرى » للجنة. وفي الصحيحين والترمذي عن علي رضي اللّه عنه قال: كنا في جنازة بالبقيع، فأتى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فجلس وجلسنا معه، ومعه عود ينكت به في الأرض، فرفع رأسه إلى السماء فقال: [ ما من نفس منفوسة إلا قد كتب مدخلها ] فقال القوم: يا رسول اللّه، أفلا نتكل على كتابنا؟ فمن كان من أهل السعادة فانه يعمل للسعادة، ومن كان من أهل الشقاء فإنه يعمل للشقاء. قال: [ بل اعملوا فكل ميسر؛ أما من كان من أهل السعادة فإنه ييسر لعمل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فإنه ييسر لعمل الشقاء - ثم قرأ - « فأما من أعطى وأتقى وصدق بالحسنى، فسنيسره لليسرى، وأما من بخل واستغنى، وكذب بالحسنى، فسنيسره للعسرى » ] لفظ الترمذي. وقال فيه: حديث حسن صحيح. وسأل غلامان شابان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالا: العمل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير؟ أم في شيء يستأنف؟ فقال عليه السلام: [ بل فيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير ] قالا: ففيم العمل؟ قال: [ اعملوا، فكل ميسر لعمل الذي خلق له ] قالا: فالآن نجد ونعمل.

 

قوله تعالى: « وأما من بخل واستغنى » أي ضن بما عنده، فلم يبذل خيرا. وقد تقدم بيانه وثمرته في الدنيا في سورة « آل عمران » . وفي الآخرة مآله النار، كما في هذه الآية. روى الضحاك عن ابن عباس « فسنيسره للعسرى » قال: سوف أحول بينه وبين الإيمان باللّه وبرسوله. وعنه عن ابن عباس قال: نزلت في أمية بن خلف وروى عكرمة عن ابن عباس: « وأما من بخل واستغنى » يقول: بخل بماله، واستغنى ربه. « وكذب بالحسنى » أي بالخلف. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد: « وكذب بالحسن » قال: بالجنة. وبإسناد عنه آخر قال « بالحسنى » أي بلا إله إلا اللّه. « فسنيسره » أي نسهل طريقه... « للعسرى » أي للشر. وعن ابن مسعود: للنار. وقيل: أي فسنعسر عليه أسباب الخير والصلاح حتى يصعب عليه فعلها. وقد تقدم أن الملك ينادي صباحا ومساء: [ اللهم أعط منفقا خلفا، وأعط ممسكا تلفا ] . رواه أبو الدرداء.

 

مسألة: قال العلماء: ثبت بهذه الآية وبقوله: « ومما رزقناهم ينفقون » [ البقرة: 3 ] ، وقوله: « الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية » [ البقرة: 274 ] إلى غير ذلك من الآيات - أن الجود من مكارم الأخلاق، والبخل من أرذلها. وليس الجواد الذي يعطي في غير موضع العطاء، ولا البخيل الذي يمنع في موضع المنع، لكن الجواد الذي يعطي في موضع العطاء، والبخيل الذي يمنع في موضع العطاء، فكل من استفاد بما يعطي أجرا وحمدا فهو الجواد. وكل من استحق بالمنع ذما أو عقابا فهو البخيل. ومن لم يستفد بالعطاء أجرا ولا حمدا، وإنما استوجب به ذما فليس بجواد، وإنما هو مسوف مذموم، وهو من المبذرين الذين جعلهم اللّه إخوان الشياطين، وأوجب الحجر عليهم. ومن لم يستوجب بالمنع عقابا ولا ذما، واستوجب به حمدا، فهو من أهل الرشد، الذين يستحقون القيام على أموال غيرهم، بحسن تدبيرهم وسداد رأيهم.

 

قال الفراء: يقول القائل: كيف قال: « فسنيسره للعسرى » ؟ وهل في العسرى تيسير؟ فيقال في الجواب: هذا في إجازته بمنزلة قوله عز وجل: « فبشرهم بعذاب أليم » [ آل عمران: 21 ] ، والبشارة في الأصل على المفرح والسار، فإذا جمع في كلامين هذا خير وهذا شر، جاءت البشارة فيهما. وكذلك التيسير في الأصل على المفرح، فإذا جمع في كلامين هذا خير وهذا شر، جاء التيسير فيهما جميعا. قال الفراء: وقوله تعالى: « فسنيسره » : سنهيئه. والعرب تقول: قد يسرت الغنم: إذا ولدت أو تهيأت للولادة. قال:

هما سيدانا يزعمان وإنما يسوداننا أن يسرت غنماهما

 

الآيات: 11 - 13 ( وما يغني عنه ماله إذا تردى، إن علينا للهدى، وإن لنا للآخرة والأولى )

 

قوله تعالى: « وما يغني عنه ماله إذا تردى » أي مات. يقال: ردي الرجل يردي ردي : إذا هلك. قال:

صرفت الهوى عنهن من خشية الردى

وقال أبو صالح وزيد بن أسلم: « إذا تردى » : سقط في جهنم؛ ومنه المتردية. ويقال: ردي في البئر وتردى: إذا سقط في بئر، أو تهور من جبل. يقال: ما أدري أين ردي؟ أي أين ذهب. و « ما » : يحتمل أن تكون جحدا؛ أي ولا يغني عنه ماله شيئا؛ ويحتمل أن تكون استفهاما معناه التوبيخ؛ أيْ أيّ شيء يغني عنه إذا هلك ووقع في جهنم! « إن علينا للهدى » أي إن علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلالة. فالهدى: بمعنى بيان الأحكام، قاله الزجاج. أي على اللّه البيان، بيان حلال وحرامه، وطاعته ومعصيته؛ قال قتادة. وقال الفراء: من سلك الهدى فعلى اللّه سبيله؛ لقوله: « وعلى الله قصد السبيل » [ النحل: 9 ] يقول: من أراد اللّه فهو على السبيل القاصد. وقيل: معناه إن علينا للهدى والإضلال، فترك الإضلال؛ كقوله: « بيدك الخير » [ آل عمران: 26 ] ، و « بيده ملكوت كل شيء » [ يس: 83 ] . وكما قال: « سرابيل تقيكم الحر » [ النحل: 81 ] وهي تقي البرد؛ عن الفراء أيضا. وقيل: أي إن علينا ثواب هداه الذي هديناه. « وإن لنا للآخرة والأولى » « للآخرة » الجنة. « والأولى » الدنيا. وكذا روى عطاء عن ابن عباس. أي الدنيا والآخرة لله تعالى. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: ثواب الدنيا والآخرة، وهو كقوله تعالى: « من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة » [ النساء: 134 ] فمن طلبهما من غير مالكهما فقد أخطأ الطريق.

الآية [ 14 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات: 14 - 16 ( فأنذرتكم نارا تلظى، لا يصلاها إلا الأشقى، الذي كذب وتولى )

 

قوله تعالى: « فأنذرتكم » أي حذرتكم وخوفتكم. « نارا تلظى » أي تلهب وتتوقد وأصله تتلظى. وهي قراءة عبيد بن عمير، ويحيى بن يعمر، وطلحة بن مصرف. « لا يصلاها » أي لا يجد صلاها وهو حرها. « إلا الأشقى » أي الشقي. « الذي كذب » نبي اللّه محمدا صلى اللّه عليه وسلم. « وتولى » أي أعرض عن الإيمان. وروى مكحول عن أبي هريرة قال: كل يدخل الجنة إلا من أباها. قال: يا أبا هريرة، ومن يأبىّ أن يدخل الجنة؟ قال: الذي كذب وتولى. وقال مالك: صلى بنا عمر بن عبدالعزيز المغرب، فقرأ « والليل إذا يغشى » فلما بلغ « فأنذرتكم نارا تلظى » وقع عليه البكاء، فلم يقدر يتعداها من البكاء، فتركها وقرأ سورة أخرى. وقال: الفراء: « إلا الأشقى » إلا من كان شقيا في علم اللّه جل ثناؤه. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: « لا يصلاها إلا الأشقى » أمية بن خلف ونظراؤه الذين كذبوا محمدا صلى اللّه عليه وسلم. وقال قتادة: كذب بكتاب اللّه، وتولى عن طاعة اللّه. وقال الفراء: لم يكن كذب برد ظاهر، ولكنه قصر عما أمر به من الطاعة؛ فجعل تكذيبا، كما تقول: لقي فلان العدو فكذب: إذا نكل ورجع عن اتباعه. قال: وسمعت أبا ثروان يقول: إن بني نمير ليس لجدهم مكذوبة. يقول: إذا لقوا صدقوا القتال، ولم يرجعوا. وكذلك قوله جل ثناؤه: « ليس لوقعتها كاذبة » [ الواقعة: 2 ] يقول: هي حق. وسمعت سلم بن الحسن يقول: سمعت أبا إسحاق الزجاج يقول: هذه الآية التي من أجلها قال أهل الإرجاء بالإرجاء، فزعموا أنه لا يدخل النار إلا كافر؛ لقوله جل ثناؤه: « لا يصلاها إلا الأشقى. الذي كذب وتولى » وليس الأمر كما ظنوا. هذه نار موصوفة بعينها، لا يصلى هذه النار إلا الذي كذب وتولى. ولأهل النار منازل؛ فمنها أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار؛ واللّه سبحانه كل ما وعد عليه بجنس من العذاب فجائز أن يعذب به. وقال جل ثناؤه: « إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء » [ النساء: 48 ] ، فلو كان كل من لم يشرك لم يعذب، لم يكن في قوله: « ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء » فائدة، وكان « ويغفر ما دون ذلك » كلاما لا معنى له.

الزمخشري: الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين فقيل: الأشقى، وجعل مختصا بالصلى، كأن النار لم تخلق إلا له وقيل: الأتقى، وجعل مختصا بالجنة، كأن الجنة لم تخلق إلا له وقيل: هما أبو جهل أو أمية بن خلف. وأبو بكر رضي اللّه عنه.

 

الآيات: 17 - 18 ( وسيجنبها الأتقى، الذي يؤتي ماله يتزكى )

 

قوله تعالى: « وسيجنبها » أي يكون بعيدا منها. « الأتقى » أي المتقي الخائف. قال ابن عباس: هو أبو بكر رضي اللّه عنه، يزحزح عن دخول النار. ثم وصف الأتقى فقال: « الذي يؤتي ماله يتزكى » أي يطلب أن يكون عند اللّه زاكيا، ولا يطلب بذلك رياء ولا سمعة، بل يتصدق به مبتغيا به وجه اللّه تعالى. وقال بعض أهل المعاني: أراد بقوله « الأتقى » و « الأشقى » أي التقي والشقي؛ كقول طرفة:

تمنى رجال أن أموت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد

أي واحد ووحيد؛ وتوضع ( أفعل ) موضع فعيل، نحو قولهم: اللّه أكبر بمعنى كبير، « وهو أهون عليه » [ الروم: 27 ] بمعنى هين.

 

الآيات: 19 - 21 ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى، إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى، ولسوف يرضى )

 

قوله تعالى: « وما لأحد عنده من نعمة تجزى » أي ليس يتصدق ليجازي على نعمة، إنما يبتغي وجه ربه الأعلى، أي المتعالي « ولسوف يرضى » أي بالجزاء. فروى عطاء والضحاك عن ابن عباس قال: عذب المشركون بلالا، وبلال يقول أحد أحد؛ فمر به النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: [ أحد - يعني اللّه تعالى - ينجيك ] ثم قال لأبي بكر: [ يا أبا بكر إن بلالا يعذب في اللّه ] فعرف أبو بكر الذي يريد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فانصرف إلى منزله، فأخذ رطلا من ذهب، ومضى به إلى أمية بن خلف، فقال له: أتبيعني بلالا؟ قال: نعم؛ فاشتراه فأعتقه. فقال المشركون: ما أعتقه أبو بكر إلا ليد كانت له عنده؛ فنزلت « وما لأحد عنده » أي عند أبي بكر « من نعمة » ، أي من يد ومنة، « تجزى » بل « ابتغاء » بما فعل « وجه ربه الأعلى » . وقيل: اشترى أبو بكر من أمية وأبي بن خلف بلالا، ببردة وعشر أواق، فأعتقه لله، فنزلت: « إن سعيكم لشتى » [ الليل: 4 ] . وقال سعيد بن المسيب: بلغني أن أمية بن خلف قال لأبي بكر حين قال له أبو بكر: أتبيعنيه؟ فقال: نعم، أبيعه بنسطاس، وكان نسطاس عبدا لأبي بكر، صاحب عشرة آلاف دينار وغلمان وجوار ومواش، وكان مشركا، فحمله أبو بكر على الإسلام، على أن يكون ماله، فأبىّ، فباعه أبو بكر به. فقال المشركون: ما فعل أبو بكر ببلال هذا إلا ليد كانت لبلال عنده؛ فنزلت « وما لأحد عنده من نعمة تجزى. إلا ابتغاء » أي لكن ابتغاء؛ فهو استثناء منقطع؛ فلذلك نصبت. كقولك: ما في الدار أحد إلا حمارا. ويجوز الرفع. وقرأ يحيى بن وثاب « إلا ابتغاء وجه ربه » بالرفع، على لغة من يقول: يجوز الرفع في المستثنى. وأنشد في اللغتين قول بشر بن أبي خازم:

أضحت خلاء قفارا لا أنيس بها إلا الجاذر والظلمان تختلف

وقول القائل:

وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس

وفي التنزيل: « ما فعلوه إلا قليل منهم » [ النساء: 66 ] وقد تقدم. « وجه ربه الأعلى » أي مرضاته وما يقرب منه. و « الأعلى » من نعت الرب الذي استحق صفات العلو. ويجوز أن يكون « ابتغاء وجه ربه » مفعولا له على المعنى؛ لأن معنى الكلام: لا يؤتي ماله إلا ابتغاء وجه ربه، لا لمكافأة نعمته. « ولسوف يرضى » أي سوف يعطيه في الجنة ما يرضي؛ وذلك أنه يعطيه أضعاف ما أنفق. وروى أبو حيان التيمي عن أبيه عن علي رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: [ رحم اللّه أبا بكر زوجني ابنته، وحملني إلى دار الهجرة، وأعتق بلالا من ماله ] . ولما اشتراه أبو بكر قال له بلال: هل اشتريتني لعملك أو لعمل اللّه؟ قال: بل لعمل اللّه قال: فذرني وعمل اللّه، فأعتقه. وكان عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه يقول: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا يعني بلالا رضي اللّه عنه. وقال عطاء - وروى عن ابن عباس - : إن السورة نزلت في أبي الدحداح؛ في النخلة التي اشتراها بحائط له، فيما ذكر الثعلبي عن عطاء. وقال القشيري عن ابن عباس: بأربعين نخلة؛ ولم يسم الرجل. قال عطاء: كان لرجل من الأنصار نخلة، يسقط من بلحها في دار جار له، فيتناول صبيانه، فشكا ذلك إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم. [ تبيعها بنخلة في الجنة ] ؟ فأبى؛ فخرج فلقيه أبو الدحداح فقال: هل لك أن تبيعنيها بـ « حسنى » : حائط له. فقال: هي لك. فأتى أبو الدحداح إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، وقال: يا رسول اللّه، اشترها مني بنخلة في الجنة. قال: [ نعم، والذي نفسي بيده ] فقال: هي لك يا رسول اللّه؛ فدعا النبي صلى اللّه عليه وسلم جار الأنصاري، فقال: [ خذها ] فنزلت « والليل إذا يغشى » [ الليل: 1 ] إلى آخر السورة في بستان أبي الدحداح وصاحب النخلة. « فأما من أعطى واتقى » يعني أبا الدحداح. « وصدق بالحسنى » أي بالثواب. « فسنيسره لليسرى » : يعني الجنة. « وأما من بخل واستغنى » يعني الأنصاري. « وكذب بالحسنى » أي بالثواب. « فسنيسره للعسرى » ، يعني جهنم. « وما يغني عنه ماله إذا تردى » أي مات. إلى قوله: « لا يصلاها إلا الأشقى » يعني بذلك الخزرجي؛ وكان منافقا، فمات على نفاقه. « وسيجنبها الأتقى » يعني أبا الدحداح. « الذي يؤتي ماله يتزكى » في ثمن تلك النخلة. « ما لأحد عنده من نعمة تجزى » يكافئه عليها؛ يعني أبا الدحداح. « ولسوف يرضى » إذا أدخله اللّه الجنة. والأكثر أن السورة نزلت في أبي بكر رضي اللّه عنه. وروي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وعبدالله بن الزبير وغيرهم. وقد ذكرنا خبرا آخر لأبي الدحداح في سورة « البقرة » ، عند قوله: « من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا » [ البقرة: 245 ] . واللّه تعالى أعلم.

 

سورة الضحى

 

الآيات: 1 - 3 ( والضحى، والليل إذا سجى، ما ودعك ربك وما قلى )

 

قوله تعالى: « والضحى. والليل إذا سجى » قد تقدم القول في « الضحى » ، والمراد به النهار؛ لقوله: « والليل إذا سجى » فقابله بالليل. وفي سورة ( الأعراف ) « أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون. أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون » [ الأعراف: 97 ] أي نهارا. وقال قتادة ومقاتل وجعفر الصادق: أقسم بالضحى الذي كلم اللّه فيه موسى، وبليلة المعراج. وقيل: هي الساعة التي خر فيها السحرة سجدا. بيانه قوله تعالى: « وأن يحشر الناس ضحى » [ طه: 59 ] . وقال أهل المعاني فيه وفي أمثاله: فيه إضمار، مجازه ورب الضحى. و « سجا » معناه: سكن؛ قال قتادة ومجاهد وابن زيد وعكرمة. يقال: ليلة ساجية أي ساكنة. ويقال للعين إذا سكن طرفها: ساجية. يقال: سجا الليل يسجو سجوا: إذا سكن. والبحر إذا سجا: سكن. قال الأعشى:

فما ذنبنا أن جاش بحر ابن عمكم وبحرك ساج ما يواري الدعامصا

وقال الراجز:

يا حبذا القمراء والليل الساج وطرق مثل ملاء النساج

وقال جرير:

ولقد رمينك يوم رحن بأعين ينظرن من خلل الستور سواجي

وقال الضحاك: « سجا » غطى كل شيء. قال الأصمعي: سجو الليل: تغطيته النهار؛ مثلما يسجى الرجل بالثوب. وقال الحسن: غشى بظلامه؛ وقال ابن عباس. وعنه: إذا ذهب. وعنه أيضا: إذا أظلم. وقال سعيد بن جبير: أقبل؛ وروي عن قتادة أيضا. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد: « سجا » استوى. والقول الأول أشهر في اللغة: « سجا » سكن؛ أي سكن الناس فيه. كما يقال: نهار صائم، وليل قائم. وقيل: سكونه استقرار ظلامه واستواؤه. ويقال: « والضحى. والليل إذا سجا » : يعني عباده الذين يعبدونه في وقت الضحى، وعباده الذين يعبدونه بالليل إذا أظلم. ويقال: « الضحى » : يعني نور الجنة إذا تنور. « والليل إذا سجا » : يعني ظلمة الليل إذا أظلم. ويقال: « والضحى » : يعني النور الذي في قلوب العارفين كهيئة النهار. « والليل إذا سجا » : يعني السواد الذي في قلوب الكافرين كهيئة الليل؛ فأقسم اللّه عز وجل بهذه الأشياء.

 

قوله تعالى: « ما ودعك ربك » هذا جواب القسم. وكان جبريل عليه السلام أبطأ على النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال المشركون: قلاه اللّه وودعه؛ فنزلت الآية. وقال ابن جريج: احتبس عنه الوحي اثني عشر يوما. وقال ابن عباس: خمسة عشر يوما. وقيل: خمسة وعشرين يوما. وقال مقاتل: أربعين يوما. فقال المشركون: إن محمدا ودعه ربه وقلاه، ولو كان أمره من اللّه لتابع عليه، كما كان يفعل بمن كان قبله من الأنبياء. وفي البخاري عن جندب بن سفيان قال: اشتكى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فلم يقم ليلتين أو ثلاثا؛ فجاءت امرأة فقالت: يا محمد، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث؛ فأنزل اللّه عز وجل « والضحى. والليل إذا سجى. ما ودعك ربك وما قلى » .

وفي الترمذي عن جندب البجلي قال: كنت مع النبي صلى اللّه عليه وسلم في غار فدميت إصبعه، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: [ هل أنت إلا إصبع دميت، وفي سبيل اللّه ما لقيت ] قال: وأبطأ عليه جبريل فقال المشركون: قد ودع محمد؛ فأنزل اللّه تبارك وتعالى: « ما ودعك ربك وما قلى » . هذا حديث حسن صحيح. لم يذكر الترمذي: « فلم يقم ليلتين أو ثلاثا » أسقطه الترمذي. وذكره البخاري، وهو أصح ما قيل في ذلك. واللّه أعلم. وقد ذكره الثعلبي أيضا عن جندب بن سفيان البجلي، قال: رُمي النبي صلى اللّه عليه وسلم في إصبعه بحجر، فدميت، فقال: [ هل أنت إلا إصبع دميت، وفي سبيل اللّه ما لقيت ] فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يقوم الليل. فقالت له أم جميل امرأة أبي لهب: ما أرى شيطانك إلا قد تركك، لم اره قربك منذ ليلتين أو ثلاث؛ فنزلت « والضحى » . وروى عن أبي عمران الجوني، قال: أبطأ جبريل على النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى شق عليه؛ فجاء وهو واضع جبهته على الكعبة يدعو؛ فنكت بين كتفيه، وأنزل عليه: « ما ودعك ربك وما قلى » . وقالت خولة - وكانت تخدم النبي صلى اللّه عليه وسلم - : إن جروا دخل البيت، فدخل تحت السرير فمات، فمكث نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم أياما لا ينزل عليه الوحي. فقال: [ يا خولة، ما حدث في بيتي؟ ما لجبريل لا يأتيني ] قالت خولة فقلت: لو هيأت البيت وكنسته؛ فأهويت بالمكنسة تحت السرير، فإذا جرو ميت، فأخذته فألقيته خلف الجدار؛ فجاء نبي اللّه ترعد لحياه - وكان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة - فقال: [ يا خولة دثريني ] فأنزل اللّه هذه السورة. ولما نزل جبريل سأل النبي صلى اللّه عليه وسلم عن التأخر فقال: [ أما علمت أنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة ] . وقيل: لما سألته اليهود عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف قال: [ سأخبركم غدا ] . ولم يقل إن شاء اللّه. فاحتبس عنه الوحي، إلى أن نزل جبريل عليه بقوله: « ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله » [ الكهف: 23 ] فأخبره بما سئل عنه. وفي هذه القصة نزلت « ما ودعك ربك وما قلى » . وقيل: إن المسلمين قالوا: يا رسول اللّه، مالك لا ينزل عليك الوحي؟ فقال: [ وكيف ينزل علي وأنتم لا تنقون رواجبكم - وفي رواية براجمكم - ولا تقصون أظفاركم ولا تأخذون من شواربكم ] . فنزل جبريل بهذه السورة؛ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: [ ما جئت حتى اشتقت إليك ] فقال جبريل: [ أنا كنت أشد إليك شوقا، ولكني عبد مأمور ] ثم أنزل عليه « وما نتنزل إلا بأمر ربك » [ مريم: 64 ] . « ودعك » بالتشديد: قراءة العامة، من التوديع، وذلك كتوديع المفارق. وروي عن ابن عباس وابن الزبير أنهما قرآه « ودعك » بالتخفيف، ومعناه: تركك. قال:

وثم ودعنا آل عمرو وعامر فرائس أطراف المثقفة السمر

واستعماله قليل. يقال: هو يدع كذا، أي يتركه. قال المبرد محمد بن يزيد: لا يكادون يقولون ودع ولا وذر، لضعف الواو إذا قدمت، واستغنوا عنها بترك.

 

قوله تعالى: « وما قلى » أي ما أبغضك ربك منذ أحبك. وترك الكاف، لأنه رأس آية. والقلى: البغض؛ فإن فتحت القاف مددت؛ تقول: قلاه يقليه قلى وقلاء. كما تقول: قريت الضيف أقريه قرى وقراء. ويقلاه: لغة طيء. وأنشد ثعلب:

أيام أم الغمر لا نقلاها

أي لا نبغضها. ونقلي أي نبغض. وقال:

أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت

وقال امرؤ القيس:

ولست بمقلي الخلال ولا قال

وتأويل الآية: ما ودعك ربك وما قلاك. فترك الكاف لأنه رأس آية؛ كما قال عز وجل: « والذاكرين الله كثيرا والذاكرات » [ الأحزاب: 35 ] أي والذاكرات اللّه.

 

الآيات: 4 - 5 ( وللآخرة خير لك من الأولى، ولسوف يعطيك ربك فترضى )

 

روى سلمة عن ابن إسحاق قال: « وللآخرة خير لك من الأولى » أي ما عندي في مرجعك إلي يا محمد، خير لك مما عجلت لك من الكرامة في الدنيا. وقال ابن عباس: أري النبي صلى اللّه عليه وسلم ما يفتح اللّه على أمته بعده؛ فسر بذلك؛ فنزل جبريل بقوله: « وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى » . قال ابن إسحاق: الفلج في الدنيا، والثواب في الآخرة. وقيل: الحوض والشفاعة. وعن ابن عباس: ألف قصر من لؤلؤ أبيض ترابه المسك. رفعه الأوزاعي، قال: حدثني إسماعيل بن عبيدالله، عن علي بن عبدالله بن عباس، عن أبيه قال: أري النبي صلى اللّه عليه وسلم ما هو مفتوح على أمته، فسر بذلك؛ فأنزل اللّه عز وجل « والضحى - إلى قوله تعالى - ولسوف يعطيك ربك فترضى » ، فأعطاه اللّه جل ثناؤه ألف قصر في الجنة، ترابها المسك؛ في كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم. وعنه قال: رضي محمد ألا يدخل أحد من أهل بيته النار. وقال السدي. وقيل: هي الشفاعة في جميع المؤمنين. وعن علي رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( يشفعني اللّه في أمتي حتى يقول اللّه سبحانه لي: رضيت يا محمد؟ فأقول يا رب رضيت ) . وفي صحيح مسلم عن، عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى اللّه عليه وسلم تلا قول اللّه تعالى في إبراهيم: « فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم » [ إبراهيم: 36 ] وقول عيسى: « إن تعذبهم فإنهم عبادك » [ المائدة: 118 ] ، فرفع يديه وقال: ( اللهم أمتي أمتي ) وبكى. فقال اللّه تعالى لجبريل: ( اذهب إلى محمد، وربك أعلم، فسله ما يبكيك ) فأتى جبريل النبي صلى اللّه عليه وسلم، فسأل فأخبره. فقال اللّه تعالى لجبريل: [ اذهب إلى محمد، فقل له: إن اللّه يقول لك: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك ] . وقال علي رضي اللّه عنه لأهل العراق: إنكم تقولون إن أرجى آية في كتاب اللّه تعالى: « قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله » [ الزمر: 53 ] قالوا: إنا نقول ذلك. قال: ولكنا أهل البيت نقول: إن أرجى آية في كتاب اللّه قوله تعالى: « ولسوف يعطيك ربك فترضى » . وفي الحديث: لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: [ إذا واللّه لا أرضى وواحد من أمتي في النار ] .

 

الآية: 6 ( ألم يجدك يتيما فآوى )

 

عدد سبحانه مننه على نبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم فقال: « ألم يجدك يتيما » لا أب لك قد مات أبوك. « فآوى » أي جعل لك مأوى تأوي إليه عند عمك أبي طالب، فكفلك. وقيل لجعفر بن محمد الصادق: لم أوتم النبي صلى اللّه عليه وسلم من أبويه؟ فقال: لئلا يكون لمخلوق عليه حق. وعن مجاهد: هو من قول العرب: درة يتيمة؛ إذا لم يكن لها مثل. فمجاز الآية: ألم يجدك واحدا في شرفك لا نظير لك، فآواك اللّه بأصحاب يحفظونك ويحوطونك.

 

الآية: 7 ( ووجدك ضالا فهدى )

 

أي غافلا عما يراد بك من أمر النبوة، فهداك: أي أرشدك. والضلال هنا بمعنى الغفلة؛ كقوله جل ثناؤه: « لا يضل ربي ولا ينسى » [ طه: 52 ] أي لا يغفل. وقال في حق نبيه: « وإن كنت من قبله لمن الغافلين » [ يوسف: 3 ] . وقال قوم: « ضالا » لم تكن تدري القرآن والشرائع، فهداك اللّه إلى القرآن، وشرائع الإسلام؛ عن الضحاك وشهر بن حوشب وغيرهما. وهو معنى قوله تعالى: « ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان » ، على ما بينا في سورة « الشورى » . وقال قوم: « ووجدك ضالا » أي في قوم ضلال، فهداهم اللّه بك. هذا قول الكلبي والفراء. وعن السدي نحوه؛ أي ووجد قومك في ضلال، فهداك إلى إرشادهم. وقيل: « ووجدك ضالا » عن الهجرة، فهداك إليها. وقيل: « ضالا » أي ناسيا شأن الاستئناء حين سئلت عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح - فأذكرك؛ كما قال تعالى: « أن تضل إحداهما » [ البقرة: 282 ] . وقيل: ووجدك طالبا للقبلة فهداك إليها؛ بيانه: « قد نرى تقلب وجهك في السماء... » [ البقرة: 144 ] الآية. ويكون الضلال بمعنى الطلب؛ لأن الضال طالب. وقيل: ووجدك متحيرا عن بيان ما نزل عليك، فهداك إليه؛ فيكون الضلال بمعنى التحير؛ لأن الضال متحير. وقيل: ووجدك ضائعا في قومك؛ فهداك إليه؛ ويكون الضلال بمعنى الضياع. وقيل: ووجدك محبا للهداية، فهداك إليها؛ ويكون الضلال بمعنى المحبة. ومنه قوله تعالى: « قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم » [ يوسف: 95 ] أي في محبتك. قال الشاعر:

هذا الضلال أشاب مني المفرقا العارضين ولم أكن متحققا

عجبا لعزة في اختيار قطيعتي بعد الضلال فحبلها قد أخلقا

وقيل: « ضالا » في شعاب مكة، فهداك وردك إلى جدك عبدالمطلب. قال ابن عباس: ضل النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو صغير في شعاب مكة، فرآه أبو جهل منصرفا عن أغنامه، فرده إلى جده عبدالمطلب؛ فمن اللّه عليه بذلك، حين رده إلى جده على يدي عدوه. وقال سعيد بن جبير: خرج النبي صلى اللّه عليه وسلم مع عمه أبي طالب في سفر، فأخذ إبليس بزمام الناقة في ليلة ظلماء، فعدل بها عن الطريق، فجاء جبريل عليه السلام، فنفخ إبليس نفخة وقع منها إلى أرض الهند، ورده إلى القافلة؛ فمن اللّه عليه بذلك. وقال كعب: إن حليمة لما قضت حق الرضاع، جاءت برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لترده على عبدالمطلب، فسمعت عند باب مكة: هنيئا لك يا بطحاء مكة، اليوم يرد إليك النور والدين والبهاء والجمال. قالت: فوضعته لأصلح ثيابي، فسمعت هدة شديدة، فالتفت فلم أره، فقلت: معشر الناس، أين الصبي؟ فقال: لم نر شيئا؛ فصحت : وامحمداه فإذا شيخ فان يتوكأ على عصاه، فقال: اذهبي إلى الصنم الأعظم، فإن شاء أن يرده عليك فعل. ثم طاف الشيخ بالصنم، وقبل رأسه وقال: يا رب، لم تزل منتك على قريش، وهذه السعدية تزعم أن ابنها قد ضل، فرده إن شئت. فانكب هبل على وجهه، وتساقطت الأصنام، وقالت: إليك عنا أيها الشيخ، فهلاكنا على يدي محمد. فألقى الشيخ عصاه، وارتعد وقال: إن لابنك ربا لا يضيعه، فاطلبيه على مهل. فانحشرت قريش إلى عبدالمطلب، وطلبوه في جميع مكة، فلم يجدوه. فطاف عبدالمطلب بالكعبة سبعا، وتضرع إلى اللّه أن يرده، وقال:

يا رب رد ولدي محمدا اردده ربي واتخذ عندي يدا

يا رب إن محمد لم يوجدا فشمل قومي كلهم تبددا

فسمعوا مناديا ينادي من السماء: معاشر الناس لا تضجوا، فإن لمحمد ربا لا يخذله ولا يضيعه، وإن محمدا بوادي تهامة، عند شجرة السمر. فسار عبدالمطلب هو وورقة بن نوفل، فإذا النبي صلى اللّه عليه وسلم قائم تحت شجرة، يلعب بالأغصان وبالورق. وقيل: « ووجدك ضالا » ليلة المعراج، حين انصرف عنك جبريل وأنت لا تعرف الطريق، فهداك إلى ساق العرش. وقال أبو بكر الوراق وغيره: « ووجدك ضالا » : تحب أبا طالب، فهداك إلى محبة ربك. وقال بسام بن عبدالله: « ووجدك ضالا » بنفسك لا تدري من أنت، فعرفك بنفسك وحالك. وقال الجنيدي: ووجدك متحيرا في بيان الكتاب، فعلمك البيان؛ بيانه: « لتبين للناس ما نزل إليهم » [ النحل: 44 ] الآية. « لتبين لهم الذي اختلفوا فيه » [ النحل: 64 ] . وقال بعض المتكلمين: إذا وجدت العرب شجرة منفردة في فلاة من الأرض، لا شجر معها، سموها ضالة، فيهتدي بها إلى الطريق؛ فقال اللّه تعالى لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم: « ووجدك ضالا » أي لا أحد على دينك، وأنت وحيد ليس معك أحد؛ فهديت بك الخلق إلي.

قلت: هذه الأقوال كلها حسان، ثم منها ما هو معنوي، ومنها ما هو حسي. والقول الأخير أعجب إلي؛ لأنه يجمع الأقوال المعنوية. وقال قوم: إنه كان على جملة ما كان القوم عليه، لا يظهر لهم خلافا على ظاهر الحال؛ فأما الشرك فلا يظن به؛ بل كان على مراسم القوم في الظاهر أربعين سنة. وقال الكلبي والسدي: هذا على ظاهره؛ أي وجدك كافرا والقوم كفار فهداك. وقد مضى هذا القول والرد عليه في سورة « الشورى » . وقيل: وجدك مغمورا بأهل الشرك، فميزك عنهم. يقال: ضل الماء في اللبن؛ ومنه « أئذا ضللنا في الأرض » [ السجدة: 10 ] أي لحقنا بالتراب عند الدفن، حتى كأنا لا نتميز من جملته. وفي قراءة الحسن « ووجدك ضالٌ فهدى » أي وجدك الضال فاهتدى بك؛ وهذه قراءة على التفسير. وقيل: « ووجدك ضالا » لا يهتدي إليك قومك، ولا يعرفون قدرك؛ فهدى المسلمين إليك، حتى آمنوا بك.

 

الآية: 8 ( ووجدك عائلا فأغنى )

 

أي فقيرا لا مال لك. « فأغنى » أي فأغناك بخديجة رضي اللّه عنها؛ يقال: عال الرجل يعيل عيلة: إذا افتقر. وقال أحيحة بن الجلاح:

فما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يغيل

أي يفتقر. وقال مقاتل: فرضاك بما أعطاك من الرزق. وقال الكلبي: قنعك بالرزق. وقال ابن عطاء: ووجدك فقير النفس، فأغنى قلبك. وقال الأخفش: وجدك ذا عيال؛ دليله « فأغنى » . ومنه قول جرير:

الله أنزل في الكتاب فريضة لابن السبيل وللفقير العائل

وقيل: وجدك فقيرا من الحجج والبراهين، فأغناك بها. وقيل: أغناك بما فتح لك من الفتوح، وأفاءه عليك من أموال الكفار. القشيري وفي هذا نظر؛ لأن السورة مكية، وإنما فرض الجهاد بالمدينة.

وقراءة العامة « عائلا » . وقرأ ابن السميقع « عيلا » بالتشديد؛ مثل طبيب وهين.

 

الآيات: 9 - 11 ( فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر، وأما بنعمة ربك فحدث )

 

قوله تعالى: « فأما اليتيم فلا تقهر » أي لا تسلط عليه بالظلم، ادفع إليه حقه، واذكر يتمك؛ قال الأخفش. وقيل: هما لغتان: بمعنى. وعن مجاهد « فلا تقهر » فلا تحتقر. وقرأ النخعي والأشهب العقيلي « تكهر » بالكاف، وكذا هو في مصحف ابن مسعود. فعلى هذا يحتمل أن يكون نهيا عن قهره، بظلمه وأخذ ماله. وخص اليتيم لأنه لا ناصر له غير اللّه تعالى؛ فغلظ في أمره، بتغليظ العقوبة على ظالمه. والعرب تعاقب بين الكاف والقاف. النحاس: وهذا غلط، إنما يقال كهره: إذا اشتد عليه وغلظ. وفي صحيح مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي، حين تكلم في الصلاة برد السلام، قال: فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه - يعني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - فواللّه ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني... الحديث. وقيل: القهر الغلبة. والكهر: الزجر.

 

ودلت الآية على اللطف باليتيم، وبره والإحسان إليه؛ حتى قال قتادة: كن لليتيم كالأب الرحيم. وروي عن أبي هريرة أن رجلا شكا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم قسوة قلبه؛ فقال: ( إن أردت أن يلين، فامسح رأس اليتيم، وأطعم المسكين ) . وفي الصحيح عن أبي هريرة: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ( أنا وكافل اليتيم له أو لغيره كهاتين ) . وأشار بالسبابة والوسطى. ومن حديث ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ( إن اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن، فيقول اللّه تعالى لملائكته: يا ملائكتي، من ذا الذي أبكى هذا اليتيم الذي غيبت أباه في التراب، فتقول الملائكة ربنا أنت أعلم، فيقول اللّه تعالى لملائكته: يا ملائكتي، اشهدوا أن من أسكته وأرضاه؟ أن أرضيه يوم القيامة ) . فكان ابن عمر إذا رأى يتيما مسح برأسه، وأعطاه شيئا. وعن أنس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: [ من ضم يتيما فكان في نفقته، وكفاه مؤونته،كان له حجابا من النار يوم القيامة، ومن مسح برأس يتيم كان له بكل شعرة حسنة ] . وقال أكثم بن صيفي: الأذلاء أربعة: النمام، والكذاب، والمديون، واليتيم.

 

قوله تعالى: « وأما السائل فلا تنهر » أي لا تزجره؛ فهو نهى عن إغلاط القول. ولكن رده ببذل يسير، أو رد جميل، واذكر فقرك؛ قال قتادة وغيره. وروي عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: [ لا يمنعن أحدكم السائل، وأن يعطيه إذا سأل، ولو رأى في يده قلبين من ذهب ] . وقال إبراهيم بن أدهم: نعم القوم السُّؤَّال: يحملون زادنا إلى الآخرة. وقال إبراهيم النخعي: السائل بريد الآخرة، يجيء إلى باب أحدكم فيقول: هل تبعثون إلى أهليكم بشيء. وروي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: [ ردوا السائل ببذل يسير، أو رد جميل، فإنه يأتيكم من ليس من الإنس ولا من الجن، ينظر كيف صنيعكم فيما خولكم اللّه ] . وقيل: المراد بالسائل هنا، الذي يسأل عن الدين؛ أي فلا تنهره بالغلظة والجفوة، وأجبه برفق ولين؛ قاله سفيان. قال ابن العربي: وأما السائل عن الدين فجوابه فرض على العالم، على الكفاية؛ كإعطاء سائل البر سواء. وقد كان أبو الدرداء ينظر إلى أصحاب الحديث، ويبسط رداءه لهم، ويقول: مرحبا بأحبة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وفي حديث أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري، قال: كنا إذا أتينا أبا سعيد يقول: مرحبا بوصية رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: [ إن الناس لكم تبع وإن رجالا يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرا ] . وفي رواية [ يأتيكم رجال من قبل المشرق ] ... فذكره. و « اليتيم » و « السائل » منصوبان بالفعل الذي بعده؛ وحق المنصوب أن يكون بعد الفاء، والتقدير: مهما يكن من شيء فلا تقهر اليتيم، ولا تنهر السائل. وروي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( سألت ربي مسئلة وددت أني لم أسألها: قلت يا رب اتخذت إبراهيم خليلا، وكلمت موسى تكليما، وسخرت مع داود الجبال يسبحن، وأعطيت فلانا كذا؛ فقال عز وجل: ألم أجدك يتيما فآويتك؟ ألم أجدك ضالا فهديتك؟ ألم أجدك عائلا فأغنيتك؟ ألم أشرح لك صدرك؟ ألم أوتك ما لم أوت أحدا قبلك: خواتيم سورة البقرة، الم أتخذك خليلا، كما اتخذت إبراهيم خليلا؟ قلت بلى يا رب )

 

قوله تعالى: « وأما بنعمة ربك فحدث » أي أنشر ما أنعم اللّه عليك بالشكر والثناء. والتحدث بنعم اللّه، والاعتراف بها شكر. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد « وأما بنعمة ربك » قال بالقرآن. وعنه قال: بالنبوة؛ أي بلغ ما أرسلت به. والخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم، والحكم عام له ولغيره. وعن الحسن بن علي رضي اللّه عنهما قال: إذا أصبت خيرا، أو عملت خيرا، فحدث به الثقة من إخوانك. وعن عمرو بن ميمون قال: إذا لقي الرجل من إخوانه من يثق به، يقول له: رزق اللّه من الصلاة البارحة وكذا وكذا. وكان أبو فراس عبدالله بن غالب إذا أصبح يقول: لقد رزقني اللّه البارحة كذا، قرأت كذا، وصليت كذا، وذكرت اللّه كذا، وفعلت كذا. فقلنا له: يا أبا فراس، إن مثلك لا يقول هذا قال يقول اللّه تعالى: « وأما بنعمة ربك فحدث » وتقولون أنتم: لا تحدث بنعمة اللّه ونحوه عن أيوب السختياني وأبي رجاء العطاردي رضي اللّه عنهم. وقال بكر بن عبدالله المزني قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: ( من أعطي خيرا فلم ير عليه، سمي بغيض اللّه، معاديا لنعم اللّه ) . وروى الشعبي عن النعمان بن بشير قال: قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: [ من لم يشكو القليل، لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس، لم يشكر اللّه، والتحدث بالنعم شكر، وتركه كفر، والجماعة رحمة، والفرقة عذاب ] . وروى النسائي عن مالك بن نضلة الجشمي قال: كنت عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالسا، فرآني رث الثياب فقال: [ ألك مال؟ ] قلت: نعم، يا رسول اللّه، من كل المال. قال: [ إذا آتاك اللّه مالا فلير أثره عليك ] . وروى أبو سعيد الخدري عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: [ إن اللّه جميل يحب الجمال، ويجب أن يرى أثر نعمته على عبده ] .

 

فصل: يُكبر القارئ في رواية البزي عن ابن كثير - وقد رواه مجاهد عن ابن عباس، عن أبي بن كعب، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم: إذا بلغ آخر « والضحى » كبر بين كل سورة تكبيرة، إلى أن يختم القرآن، ولا يصل آخر السورة بتكبيره؛ بل يفصل بينهما بسكتة. وكأن المعنى في ذلك أن الوحي تأخر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أياما، فقال ناس من المشركين: قد ودعه صاحبه وقلاه؛ فنزلت هذه السورة فقال: [ اللّه أكبر ] . قال مجاهد: قرأت على ابن عباس، فأمرني به، وأخبرني به عن أبيّ عن النبي صلى اللّه عليه وسلم. ولا يكبر في قراءة الباقين؛ لأنها ذريعة إلى الزيادة في القرآن.

قلت: القرآن ثبت نقلا متواترا سوره وآياته وحروفه؛ لا زيادة فيه ولا نقصان؛ فالكبير على هذا ليس بقرآن. فإذا كان بسم اللّه الرحمن الرحيم المكتوب في المصحف بخط المصحف ليس بقرآن، فكيف بالتكبير الذي هو ليس بمكتوب. أما أنه ثبت سنة بنقل الآحاد، فاستحبه ابن كثير، لا أنه أوجبه فخطأ من تركه. ذكر الحاكم أبو عبدالله محمد بن عبدالله الحافظ في كتاب المستدرك له على البخاري ومسلم: حدثنا أبو يحيى محمد بن عبدالله بن محمد بن عبدالله بن يزيد، المقرئ الإمام بمكة، في المسجد الحرام، قال: حدثنا أبو عبدالله محمد بن علي بن زيد الصائغ، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن القاسم بن أبي بزة: سمعت عكرمة بن سليمان يقول: قرأت على إسماعيل بن عبدالله بن قسطنطين، فلما بلغت « والضحى » قال لي كبر عند خاتمة كل سورة حتى تختم، فإني قرأت على عبدالله بن كثير فلما بلغت « والضحى » قال: كبر حتى تختم. وأخبره عبدالله بن كثير أنه قرأ على مجاهد، وأخبره مجاهد أن ابن عباس أمره بذلك، وأخبره ابن عباس أن أبيّ بن كعب أمره بذلك، وأخبره أبيّ بن كعب أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمره بذلك. هذا حديث صحيح ولم يخرجاه.

 

سورة الشرح

 

الآية: 1 ( ألم نشرح لك صدرك )

 

شرح الصدر: فتحه؛ أي ألم نفتح صدرك للإسلام. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: ألم نلين لك قلبك. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: قالوا يا رسول اللّه، أينشرح الصدر؟ قال: [ نعم وينفسح ] . قالوا: يا رسول اللّه، وهل لذلك علامة؟ قال: [ نعم التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاعتداد للموت، قبل نزول الموت ] . وقد مضى هذا المعنى في « الزمر » عند قوله تعالى: « أفمن شرح اللّه صدره للإسلام فهو على نور من ربه » . وروي عن الحسن قال: « ألم نشرح لك صدرك » قال: مُلئ حكما وعلما. وفي الصحيح عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة - رجل من قومه - أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( فبينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان إذ سمعت قائلا يقول: أحد الثلاثة فأُتيت بطست من ذهب، فيها ماء زمزم، فشرح صدري إلى كذا وكذا ) قال قتادة قلت: ما يعني؟ قال: إلى أسفل بطني، قال: [ فاستخرج قلبي، فغسل قلبي بماء زمزم، ثم أعيد مكانه، ثم حشي إيمانا وحكمة ] . وفي الحديث قصة. وروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( جاءني ملكان في صورة طائر، معهما ماء وثلج، فشرح أحدهما صدري، وفتح الآخر بمنقاره فيه فغسله ) . وفي حديث آخر قال: [ جاءني ملك فشق عن قلبي، فاستخرج منه عذرة، وقال: قلبك وكيع، وعيناك بصيرتان، وأذناك سميعتان، أنت محمد رسول اللّه، لسانك صادق، ونفسك مطمئنة، وخلقك قثم، وأنت قيم ] . قال أهل اللغة: قوله [ وكيع ] أي يحفظ ما يوضع فيه. يقال: سقاء وكيع؛ أي قوي يحفظ ما يوضع فيه. واستوكعت معدته، أي قويت وقوله: [ قثم ] أي جامع. يقال: رجل قثوم للخير؛ أي جامع له. ومعنى « ألم نشرح » قد شرحنا؛ الدليل؛ على ذلك قوله في النسق عليه: « ووضعنا عنك وزرك » ، فهذا عطف على التأويل، لا على التنزيل؛ لأنه لو كان على التنزيل لقال: ونضع عنك وزرك. فدل هذا على أن معنى « ألم نشرح » : قد شرحنا. و « لم » جحد، وفي الاستفهام طرف من الجحد، وإذا وقع جحد، رجع إلى التحقيق؛ كقوله تعالى: « أليس الله بأحكم الحاكمين » [ التين: 8 ] . ومعناه: اللّه أحكم الحاكمين. وكذا « أليس الله بكاف عبده » [ الزمر: 36 ] . ومثله قول جرير يمدح عبدالملك بن مروان:

ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح

المعنى: أنتم كذا.

 

الآيات: 2 - 3 ( ووضعنا عنك وزرك، الذي أنقض ظهرك )

 

قوله تعالى: « ووضعنا عنك وزرك » أي حططنا عنك ذنبك. وقرأ أنس « وحللنا، وحططنا » . وقرأ ابن مسعود: « وحللنا عنك وقرك » . هذه الآية مثل قوله تعالى: « ليعفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر » [ الفتح: 2 ] . قيل: الجميع كان قبل النبوة. والوزر: الذنب؛ أي وضعنا عنك ما كنت فيه من أمر الجاهلية؛ لأنه كان صلى اللّه عليه وسلم في كثير من مذاهب قومه، وإن لم يكن عبد صنما ولا وثنا. قال قتادة والحسن والضحاك: كانت للنبي صلى اللّه عليه وسلم ذنوب أثقلته؛ فغفرها اللّه له « الذي أنقض ظهرك » أي أثقله حتى سمع نقيضه؛ أي صوته. وأهل اللغة يقولون: أنقض، الحمل ظهر الناقة: إذا سمعت له صريرا من شدة الحمل. وكذلك سمعت نقيض الرحل؛ أي صريره. قال جميل:

وحتى تداعت بالنقيض حباله وهمت بواني زوره أن تحطما

بواني زوره: أي أصول صدره. فالوزر: الحمل الثقيل. قال المحاسبي: يعني ثقل الوزر لو لم يعف اللّه عنه. « الذي أنقض ظهرك » أي أثقله وأوهنه. قال: وإنما وصفت ذنوب، الأنبياء بهذا الثقل، مع كونها مغفورة، لشدة اهتمامهم بها، وندمهم منها، وتحسرهم عليها. وقال السدي: « ووضعنا عنك وزرك » أي وحططنا عنك ثقلك. وهي في قراءة عبدالله بن مسعود « وحططنا عنك وقرك » . وقيل: أي حططنا عنك ثقل آثام الجاهلية. قال الحسين بن المفضل: يعني الخطأ والسهو. وقيل: ذنوب أمتك، أضافها إليه لاشتغال قلبه. بها. وقال عبدالعزيز بن يحيى وأبو عبيدة: خففنا عنك أعباء النبوة والقيام بها، حتى لا تثقل عليك. وقيل: كان في الابتداء يثقل عليه الوحي، حتى كاد يرمي نفسه من شاهق الجبل، إلى أن جاءه جبريل وأراه نفسه؛ وأزيل عنه ما كان يخاف من تغير العقل. وقيل: عصمناك عن احتمال الوزر، وحفظناك قبل النبوة في الأربعين من الأدناس؛ حتى نزل عليك الوحي وأنت مطهر من الأدناس.

 

الآية: 4 ( ورفعنا لك ذكرك )

 

قال مجاهد: يعني بالتأذين. وفيه يقول حسان بن ثابت:

أغر عليه للنبوة خاتم من الله مشهود يلوح ويشهد

وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد

وروي عن الضحاك عن ابن عباس، قال: يقول له لا ذُكِرتُ إلا ذُكِرتَ معي في الأذان، والإقامة والتشهد، ويوم الجمعة على المنابر، ويوم الفطر، ويوم الأضحى: وأيام التشريق، ويوم عرفة، وعند الجمار، وعلى الصفا والمروة، وفي خطبة النكاح، وفي مشارق الأرض ومغاربها. ولو أن رجلا عبد اللّه جل ثناؤه، وصدق بالجنة والنار وكل شيء، ولم يشهد أن محمدا رسول اللّه، لم ينتفع بشيء وكان كافرا. وقيل: أي أعلينا ذكرك، فذكرناك في الكتب المنزلة على الأنبياء قبلك، وأمرناهم بالبشارة بك، ولا دين إلا ودينك يظهر عليه. وقيل: رفعنا ذكرك عند الملائكة في السماء، وفي الأرض عند المؤمنين، ونرفع في الآخرة ذكرك بما نعطيك من المقام المحمود، وكرائم الدرجات.

 

الآيات: 5 - 6 ( فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا )

 

أي إن مع الضيقة والشدة يسرا، أي سعة وغنى. ثم كرر فقال: « إن مع العسر يسرا » ، فقال قوم: هذا التكرير تأكيد للكلام؛ كما يقال: ارم ارم، اعجل اعجل؛ قال اللّه تعالى: « كلا سوف تعلمون. ثم كلا سوف تعلمون » [ التكاثر: 3 ] . ونظيره في تكرار الجواب: بلى بلى، لا لا. وذلك للإطناب والمبالغة؛ قاله الفراء. ومنه قول الشاعر:

هممت بنفسي بعض الهموم فأولى لنفسي أولى لها

وقال قوم: إن من عادة العرب إذا ذكروا اسما معرفا ثم كرروه، فهو هو. وإذا نكروه ثم كرروه فهو غيره. وهما اثنان، ليكون أقوى للأمل، وأبعث على الصبر؛ قاله ثعلب. وقال ابن عباس: يقول اللّه تعالى خلقت عسرا واحدا، وخلقت يسرين، ولن يغلب عسر يسرين. وجاء في الحديث عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في هذه السورة: أنه قال: [ لن يغلب عسر يسرين ] . وقال ابن مسعود: والذي نفسي بيده، لو كان العسر في حجر، لطلبه اليسر حتى يدخل عليه؛ ولن يغلب عسر يسرين. وكتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعا من الروم، وما يتخوف منهم؛ فكتب إليه عمر رضي اللّه عنهما: أما بعد، فإنهم مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة، يجعل اللّه بعده فرجا، وإنه لن يغلب عسر يسرين، وإن اللّه تعالى يقول في كتابه: « يا أيها الذين آمنوا أصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون » [ آل عمران: 200 ] . وقال قوم منهم الجرجاني: هذا قول مدخول؛ لأنه يجب على هذا التدريج إذا قال الرجل: إن مع الفارس سيفا، إن مع الفارس سيفا، أن يكون الفارس واحدا والسيف اثنان. والصحيح أن يقال: إن اللّه بعث نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم مقلا مخفا، فعيره المشركون بفقره، حتى قالوا له: نجمع لك مالا؛ فاغتم وظن أنهم كذبوه لفقره؛ فعزاه اللّه، وعدد نعمه عليه، ووعده الغنى بقوله: « فإن مع العسر يسرا » أي لا يحزنك ما عيروك به من الفقر؛ فإن مع ذلك العسر يسرا عاجلا؛ أي في الدنيا. فأنجز له ما وعده؛ فلم يمت حتى فتح عليه الحجاز واليمن، ووسع ذات يده، حتى كان يعطي الرجل المائتين من الإبل، ويهب الهبات السنية، ويعد لأهله قوت سنة. فهذا الفضل كله من أمر الدنيا؛ وإن كان خاصا بالنبي صلى اللّه عليه وسلم، فقد يدخل فيه بعض أمته إن شاء اللّه تعالى. ثم ابتدأ فضلا آخرا من الآخرة وفيه تأسية وتعزية له صلى اللّه عليه وسلم، فقال مبتدئا: « إن مع العسر يسرا » فهو شيء آخر. والدليل على ابتدائه، تعريه من فاء أو واو أو غيرها من حروف النسق التي تدل على العطف. فهذا وعد عام لجميع المؤمنين، لا يخرج أحد منه؛ أي إن مع العسر في الدنيا للمؤمنين يسرا في الآخرة لا محالة. وربما اجتمع يسر الدنيا ويسر الآخرة. والذي في الخبر: [ لن يغلب عسر يسرين ] يعني العسر الواحد لن يغلبهما، وإنما يغلب أحدهما إن غلب، وهو يسر الدنيا؛ فأما يسر الآخرة فكائن لا محالة، ولن يغلبه شيء. أو يقال: « إن مع العسر » وهو إخراج أهل مكة النبي صلى اللّه عليه وسلم من مكة « يسرا » ، وهو دخوله يوم فتح مكة مع عشرة آلاف رجل، مع عز وشرف.

 

الآيات: 7 - 8 ( فإذا فرغت فانصب، وإلى ربك فارغب )

 

قوله تعالى: « فإذا فرغت » قال ابن عباس وقتادة: فإذا فرغت من صلاتك « فانصب » أي بالغ في الدعاء وسله حاجتك. وقال ابن مسعود: إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل. وقال الكلبي: إذا فرغت من تبليغ الرسالة « فانصب » أي استغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات. وقال الحسن وقتادة أيضا: إذا فرغت من جهاد عدوك، فانصب لعبادة ربك. وعن مجاهد: « فإذا فرغت » من دنياك، « فانصب » في صلاتك. ونحوه عن الحسن. وقال الجنيد: إذا فرغت من أمر الخلق، فاجتهد في عبادة الحق. قال ابن العربي: « ومن المبتدعة من قرأ هذه الآية « فانصب » بكسر الصاد، والهمز من أوله، وقالوا: معناه: انصب الإمام الذي تستخلفه. وهذا باطل في القراءة، باطل في المعنى؛ لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يستخلف أحدا. وقرأها بعض: الجهال « فانصب » بتشديد الباء، معناه: إذا فرغت من الجهاد، فجد في الرجوع إلى بلدك.. وهذا باطل أيضا قراءة، لمخالفة الإجماع، لكن معناه صحيح؛ لقوله صلى اللّه عليه وسلم: [ السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه، فإذا قضى أحدكم نهمته، فليعجل، الرجوع إلى أهله ] . وأشد الناس عذابا وأسوأهم مباء ومآبا، من أخذ معنى صحيحا، فركب عليه من قبل نفسه قراءة أو حديثا، فيكون كاذبا على اللّه، كاذبا على رسول؛ » ومن أظلم ممن افترى على اللّه كذبا « . قال المهدوي: وروي عن أبي جعفر المنصور: أنه قرأ » ألم نشرح لك صدرك « بفتح الحاء؛ وهو بعيد، وقد يؤول على تقدير النون الخفيفة، ثم أبدلت النون ألفا في الوقف، ثم حمل الوصل على الوقف، ثم حذف الألف. وأنشد عليه: »

اضرب عنك الهموم طارقها ضربك بالسوط قونس الفرس

أراد: اضربن. وروي عن أبي السمال « فإذا فرغت » بكسر الراء، وهي لغة فيه. وقرئ « فرغب » أي فرغب الناس إلى ما عنده.

 

قال ابن العربي: روي عن شريح أنه مر بقوم يلعبون يوم عيد، فقال ما بهذا أمر الشارع. وفيه نظر، فإن الحبش كانوا يلعبون بالدرق والحراب في المسجد يوم العيد، والنبي صلى اللّه عليه وسلم ينظر. ودخل أبو بكر في بيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على عائشة رضي اللّه عنها وعندها جاريتان من جواري الأنصار تغنيان؛ فقال أبو بكر: أبمزمور الشيطان في بيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ فقال: ( دعهما يا أبا بكر، فإنه يوم عيد ) . وليس يلزم الدؤوب على العمل، بل هو مكراه للخلق.

 

سورة التين

 

الآية: 1 ( والتين والزيتون )

 

قوله تعالى: « والتين والزيتون » قال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح وجابر بن زيد ومقاتل والكلبي: هو تينكم الذي تأكلون، وزيتونكم الذي تعصرون منه الزيت؛ قال اللّه تعالى: « وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين » [ المؤمنون: 20 ] . وقال أبو ذر: أهدي للنبي صلى اللّه عليه وسلم سل تين؛ فقال: [ كلوا ] وأكل منه. ثم قال: [ لو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه، لأن فاكهة الجنة بلا عجم، فكلوها فإنها تقطع البواسير، وتنفع من النقرس ] . وعن معاذ: أنه استاك بقضيب زيتون، وقال سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول: [ نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة، يطيب الفم، ويذهب بالحفر، وهي سواكي وسواك الأنبياء من قبلي ] .

وروي عن ابن عباس أيضا: التين: مسجد نوح عليه السلام الذي بني على الجودي، والزيتون: مسجد بيت المقدس. وقال الضحاك: التين: المسجد الحرام، والزيتون المسجد الأقصى. ابن زيد: التين: مسجد دمشق، والزيتون: مسجد بيت المقدس. قتادة: التين: الجبل الذي عليه دمشق: والزيتون: الجبل الذي عليه بيت المقدس. وقال محمد بن كعب: التين: مسجد أصحاب الكهف، والزيتون: مسجد إيلياء. وقال كعب الأخبار وقتادة أيضا وعكرمة وابن زيد: التين: دمشق، والزيتون: بيت المقدس. وهذا اختيار الطبري. وقال الفراء: سمعت رجلا من أهل الشام يقول: التين: جبال ما بين حلوان إلى همذان، والزيتون: جبال الشام. وقيل: هما جبلان بالشام، يقال لهما طور زيتا وطور تينا بالسريانية سميا بذلك لأنهما ينبتانهما. وكذا روى أبو مكين عن عكرمة، قال: التين والزيتون: جبلان بالشام. وقال النابغة:

أتين التين عن عرض

وهذا اسم موضع. ويجوز أن يكون ذلك على حذف مضاف؛ أي ومنابت التين والزيتون. ولكن لا دليل على ذلك من ظاهر التنزيل، ولا من قول من لا يجوز خلافه؛ قاله النحاس.

 

وأصح هذه الأقوال الأول؛ لأنه الحقيقة، ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا بدليل. وإنما أقسم اللّه بالتين، لأنه كان ستر آدم في الجنة؛ لقوله تعالى: « يخصفان عليهما من ورق الجنة » [ الأعراف: 22 ] وكان ورق التين. وقيل: أقسم به ليبين وجه المنة العظمى فيه؛ فإنه جميل المنظر، طيب المخبر، نشر الرائحة، سهل الجني، على قدر المضغة. وقد أحسن القائل فيه:

انظر إلى التين في الغصون ضحى ممزق الجلد مائل العنق

كأنه رب نعمة سلبت فعاد بعد الجديد في الخلق

أصغر ما في النهود أكبره لكن ينادى عليه في الطرق

وقال آخر:

التين يعدل عندي كل فاكهة إذا انثنى مائلا في غصنه الزاهي

مخمش الوجه قد سالت حلاوته كأنه راكع من خشية الله

وأقسم بالزيتون لأنه مثل به إبراهيم في قوله تعالى: « يوقد من شجرة مباركة زيتونة » [ النور: 35 ] . وهو أكثر أُدَم أهل الشام والمغرب؛ يصطبغون به، ويستعملونه في طبيخهم، ويستصبحون به، ويداوي به أدواء الجوف والقروح والجراحات، وفيه منافع كثيرة. وقال عليه السلام: [ كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة ] . وقد مضى في سورة « المؤمنون » القول فيه.

 

قال ابن العربي ولامتنان البارئ سبحانه، وتعظيم المنة في التين، وأنه مقتات مدخر فلذلك قلنا بوجوب الزكاة فيه. وإنما فرّ كثير من العلماء من التصريح بوجوب الزكاة فيه، تقية جور الولاة؛ فإنهم يتحاملون في الأموال الزكاتية، فيأخذونها مغرما، حسب ما أنذر به الصادق صلى اللّه عليه وسلم. فكره العلماء أن يجعلوا لهم سبيلا إلى مال آخر يتشططون فيه، ولكن ينبغي للمرء أن يخرج عن نعمة ربه، بأداء حقه. وقد قال الشافعي لهذه العلة وغيرها: لا زكاة في الزيتون. والصحيح وجوب الزكاة فيهما.

 

الآية: 2 ( وطور سينين )

 

روى ابن أبي نجيح عن مجاهد « طور » قال: جبل. « سينين » قال: مبارك بالسريانية. وعن عكرمة عن ابن عباس قال: « طور » جبل، و « سينين، حسن. وقال قتادة: سينين هو المبارك الحسن. وعن عكرمة قال: الجبل الذي نادى اللّه جل ثناؤه منه موسى عليه السلام. وقال مقاتل والكلبي: « سينين » كل جبل فيه شجر مثمر، فهو سينين وسيناء؛ بلغة النبط وعن عمرو بن ميمون قال: صليت مع عمر بن الخطاب العشاء بمكة، فقرأ » والتين والزيتون. وطور سيناء. وهذا البلد الأمين « قال: وهكذا هي في قراءة عبدالله؛ ورفع صوته تعظيما للبيت. وقرأ في الركعة الثانية: » ألم تر كيف فعل ربك « [ الفيل: 1 ] . و » لإيلاف قريش « [ قريش: 1 ] جمع بينهما. ذكره ابن الأنباري. النحاس: وفي قراءة عبدالله » سناء « ( بكسر السين ) ، وفي حديث عمرو بن ميمون عن عمر ( بفتح السين ) . وقال الأخفش: « طور » جبل. و « سينين » شجر واحدته سينينية. وقال أبو علي: « سينين » فعليل، فكررت اللام التي هي نون فيه، كما كررت في زحليل: للمكان الزلق، وكرديدة: للقطعة من التمر، وخنذيد: للطويل. ولم ينصرف « سينين » كما لم ينصرف سيناء؛ لأنه جعل اسما لبقعة أو أرض، ولو جعل اسما للمكان أو للمنزل أو اسم مذكر لانصرف؛ لأنك سميت مذكرا بمذكر. وإنما أقسم بهذا الجبل لأنه بالشام والأرض المقدسة، وقد بارك اللّه فيهما؛ كما قال: » إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله « [ الإسراء: 1 ] .»

 

الآية: 3 ( وهذا البلد الأمين )

 

يعني مكة. سماه أمينا لأنه آمن؛ كما قال: « أنا جعلنا حرما آمنا » [ العنكبوت: 67 ] فالأمين: بمعنى الآمن؛ قال الفراء وغيره. قال الشاعر:

ألم تعلمي يا أسم ويحك أنني حلفت يمينا لا أخون أميني

يعني: آمني. وبهذا احتج من قال: إنه أراد بالتين دمشق، وبالزيتون بيت المقدس. فأقسم اللّه بجبل دمشق، لأنه مأوى عيسى عليه السلام، وبجبل بيت المقدس، لأنه مقام الأنبياء عليهم السلام، وبمكة لأنها أثر إبراهيم ودار محمد صلى اللّه عليه وسلم.

 

الآيات: 4 - 5 ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، ثم رددناه أسفل سافلين )

 

قوله تعالى: « لقد خلقنا الإنسان » هذا جواب القسم، وأراد بالإنسان: الكافر. قيل: هو الوليد بن المغيرة. وقيل: كلدة بن أسيد. فعلى هذا نزلت في منكري البعث. وقيل: المراد بالإنسان آدم وذريته. « في أحسن تقويم » وهو اعتداله واستواء شبابه؛ كذا قال عامة المفسرين. وهو أحسن ما يكون؛ لأنه خلق كل شيء منكبا عل وجهه، وخلقه هو مستويا، وله لسان ذلق، ويد وأصابع يقبض بها. وقال أبو بكر بن طاهر: مُزيناً بالعقل، مُؤدياً للأمر، مَهدياً بالتمييز، مديد القامة؛ يتناول مأكوله بيده. ابن العربي: ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان، فإن اللّه خلقه حيا عالما، قادرا مريدا متكلما، سميعا بصيرا، مدبرا حكيما. وهذه صفات الرب سبحانه، وعنها عبر بعض العلماء، ووقع البيان بقوله: [ إن اللّه خلق آدم على صورته ] يعني عل صفاته التي قدمنا ذكرها. وفي رواية [ على صورة الرحمن ] ومن أين تكون للرحمن صورة متشخصة، فلم يبق إلا أن تكون معاني. وقد أخبرنا المبارك بن عبدالجبار الأزدي قال: أخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن أبي علي القاضي المحسن عن أبيه قال: كان عيسى بن موسى الهاشمي يحب زوجته حبا شديدا فقال لها يوما: أنت طالق ثلاثا إن لم تكوني أحسن من القمر؛ فنهضت واحتجبت عنه، وقالت: طلقتني. وبات بليلة عظيمة، فلما أصبح غدا إلى دار المنصور، فأخبره الخبر، وأظهر للمنصور جزعا عظيما؛ فاستحضر الفقهاء واستفتاهم. فقال جميع من حضر: قد طلقت؛ إلا رجلا واحدا من أصحاب أبي حنيفة، فإنه كان ساكتا. فقال له المنصور: ما لك لا تتكلم؟ فقال له الرجل: بسم اللّه الرحمن الرحيم: « والتين والزيتون. وطور سينين. وهذا البلد الأمين. لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم » . يا أمير المؤمنين، فالإنسان أحسن الأشياء، ولا شيء أحسن منه. فقال المنصور لعيسى ابن موسى: الأمر كما قال الرجل، فأقبل على زوجتك. وأرسل أبو جعفر المنصور إلى زوجة الرجل: أن أطيعي زوجك ولا تعصيه، فما طلقك.

فهذا يدلك على أن الإنسان أحسن خلق اللّه باطنا وظاهرا، جمال هيئة، وبديع تركيب الرأس بما فيه، والصدر بما جمعه، والبطن بما حواه، والفرج وما طواه، واليدان وما بطشتاه، والرجلان وما احتملتاه. ولذلك قالت الفلاسفة: إنه العالم الأصغر؛ إذ كل ما في المخلوقات جمع فيه.

 

قوله تعالى: « ثم رددناه أسفل سافلين » أي إلى أرذل العمر، وهو الهرم بعد الشباب، والضعف بعد القوة، حتى يصير كالصبي في الحال الأول؛ قاله الضحاك والكلبي وغيرهما. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد: « ثم رددناه أسفل سافلين » إلى النار، يعني الكافر، وقال أبو العالية. وقيل: لما وصفه اللّه بتلك الصفات الجليلة التي ركب الإنسان عليها، طغى وعلا، حتى قال: « أنا ربكم الأعلى » [ النازعات: 24 ] وحين علم اللّه هذا من عبده، وقضاؤه صادر من عنده، رده أسفل سافلين؛ بأن جعله مملوءا قذرا، مشحونا نجاسة، وأخرجها على ظاهره إخراجا منكرا، على وجه الاختيار تارة، وعلى وجه الغلبة أخرى، حتى، إذا شاهد ذلك من أمره، رجع إل قدره. وقرأ عبدالله « أسفل السافلين » . وقال؛ « أسفل سافلين » على الجمع؛ لأن الإنسان في معنى جمع، ولو قال: أسفل سافل جاز؛ لأن لفظ الإنسان واحد. وتقول: هذا أفضل قائم. ولا تقول أفضل قائمين؛ لأنك تضمر لواحد، فإن كان الواحد غير مضمر له، رجع اسمه بالتوحيد والجمع؛ كقوله تعالى: « والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون » [ الزمر: 33 ] . وقوله تعالى: « وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة » [ الشورى: 48 ] . وقد قيل: إن معنى « رددناه أسفل سافلين » أي رددناه إلي الضلال؛ كما قال تعالى: « إن الإنسان لفي خسر. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات » أي إلا هؤلاء، فلا يردون إلى ذلك. والاستثناء على قول من قال « أسفل سافلين » النار، متصل. ومن قال: إنه الهرم فهو منقطع.

 

الآية: 6 ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون )

 

قوله تعالى: « إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات » فإنه تكتب لهم حسناتهم، وتمحى عنهم سيئاتهم؛ قاله ابن عباس. قال: وهم الذين أدركهم الكبر، لا يؤاخذون بما عملوه في كبرهم. وروى الضحاك عنه قال: إذا كان العبد في شبابه كثير الصلاة كثير الصيام والصدقة، ثم ضعف عما كان يعمل في شبابه؛ أجرى اللّه عز وجل له ما كان يعمل في شبابه. وفي حديث قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: [ إذا سافر العبد أو مرض كتب اللّه له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا ] . وقيل: « إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات » فإنه لا يخرف ولا يهرم، ولا يذهب عقل من كان عالما عاملا به. وعن عاصم الأحول عن عكرمة قال: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر. وروي عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال [ طوبى لمن طال عمره وحسن عمله ] . وروي: إن العبد المؤمن إذا مات أمر اللّه ملكيه أن يتعبدا على قبره إلى يوم القيامة، ويكتب له ذلك. « فلهم أجر غير ممنون » قال الضحاك: أجر بغير عمل. وقيل مقطوع.

 

الآية: 7 ( فما يكذبك بعد بالدين )

 

قيل: الخطاب للكافر؛ توبيخا وإلزاما للحجة. أي إذا عرفت أيها الإنسان أن اللّه خلقك في أحسن تقويم، وأنه يردك إلى أرذل العمر، وينقلك من حال إلى حال؛ فما يحملك على أن تكذب بالبعث والجزاء، وقد أخبرك محمد صلى اللّه عليه وسلم به؟ وقيل: الخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم؛ أي استيقن مع ما جاءك من اللّه عز وجل، أنه أحكم الحاكمين. روي معناه عن قتادة. وقال قتادة أيضا والفراء: المعنى فمن يكذبك أيها الرسول بعد هذا البيان بالدين. واختاره الطبري. كأنه قال: فمن يقدر على ذلك؛ أي على تكذيبك بالثواب والعقاب، بعد ما ظهر من قدرتنا على خلق الإنسان والدين والجزاء. قال الشاعر:

دنا تميما كما كانت أوائلنا دانت أوائلهم في سالف الزمن

 

الآية: 8 ( أليس الله بأحكم الحاكمين )

 

أي أتقن الحاكمين صنعا في كل ما خلق. وقيل: « بأحكم الحاكمين » قضاء بالحق، وعدلا بين الخلق. وفيه تقدير لمن اعترف من الكفار بصانع قديم. وألف الاستفهام إذا دخلت عل النفي وفي الكلام معنى التوقيف صار إيجابا، كما قال:

ألستم خير من ركب المطايا

وقيل: « فما يكذبك بعد بالدين. أليس اللّه بأحكم الحاكمين » : منسوخة بآية السيف. وقيل: هي ثابتة؛ لأنه لا تنافي بينهما. وكان ابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي اللّه عنهما إذا قرأ: « أليس اللّه بأحكم الحاكمين » قالا: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين؛ فيختار ذلك. واللّه أعلم. ورواه الترمذي عن أبي هريرة قال: من قرأ سورة « والتين والزيتون » فقرأ « أليس اللّه بأحكم الحاكمين » فليقل: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين. واللّه أعلم.

 

سورة العلق

 

الآية: 1 ( اقرأ باسم ربك الذي خلق )

 

هذه السورة أول ما نزل من القرآن؛ في قول معظم المفسرين. نزل بها جبريل على النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو قائم على حراء، فعلمه خمس آيات من هذه السورة. وقيل: إن أول ما نزل « يا أيها المدثر » [ المدثر: 1 ] ، قاله جابر بن عبدالله؛ وقد تقدم. وقيل: فاتحة الكتاب أول ما نزل؛ قاله أبو ميسرة الهمداني. وقال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه: أول ما نزل من القرآن « قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم » [ الأنعام: 151 ] والصحيح الأول. قالت عائشة: أول ما بدئ به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الرؤيا الصادقة؛ فجاءه الملك فقال: « اقرأ باسم ربك الذي خلف خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم » . خرجه البخاري.

وفي الصحيحين عنها قالت: أول ما بدئ به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم؛ فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء، يتحنث فيه الليالي ذوات العدد، قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود لذلك؛ ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها؛ حتى فجئه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك، فقال: [ اقرأ ] : فقال: ( ما أنا بقارئ - قال - فأخذني فغطني، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني ) فقال: [ أقرأ ] فقلت: [ ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: « اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم ] الحديث بكامله. وقال أبو رجاء العطاردي: وكان أبو موسى الأشعري يطوف علينا في هذا المسجد: مسجد البصرة، فيقعدنا حلقا، فيقرئنا القرآن؛ فكأني أنظر إليه بين ثوبين له أبيضين، وعنه أخذت هذه السورة: » اقرأ باسم ربك الذي خلق « . وكانت أول سورة أنزلها اللّه على محمد صلى اللّه عليه وسلم. وروت عائشة رضي اللّه عنها أنها أول سورة أنزلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ثم بعدها » ن والقلم « ، ثم بعدها » يا أيها المدثر « ثم بعدها » والضحى « ذكره الماوردي. وعن الزهري: أول ما نزل سورة: » اقرأ باسم ربك - إلى قوله - ما لم يعلم « ، فحزن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وجعل يعلو شواهق الجبال، فأتاه جبريل فقال له: [ إنك نبي اللّه ] فرجع إلى خديجة وقال: [ دثروني وصبوا عليّ ماء باردا ] فنزل » يا أيها المدثر « [ المدثر: 1 ] . ومعنى » اقرأ باسم ربك « أي اقرأ ما أنزل إليك من القرآن مفتتحا باسم ربك، وهو أن تذكر التسمية في ابتداء كل سورة. فمحل الباء من » باسم ربك « النصب على الحال. وقيل: الباء بمعنى على، أي اقرأ على اسم ربك. يقال: فعل كذا باسم اللّه، وعلى اسم اللّه. وعلى هذا فالمقروء محذوف، أي اقرأ القرآن، وافتتحه باسم اللّه. وقال قوم: اسم ربك هو القرآن، فهو يقول: » اقرأ باسم ربك « أي اسم ربك، والباء زائدة؛ كقوله تعالى » تنبت بالدهن « [ المؤمنون: 20 ] ، وكما قال: »

سود المحاجر لا يقرأن بالسور

أراد: لا يقرأن السور. وقيل: معنى « اقرأ باسم ربك » أي اذكر اسمه. أمره أن يبتدئ القراءة باسم اللّه.

 

الآية: 2 ( خلق الإنسان من علق )

 

قوله تعالى: « خلق الإنسان » « خلق الإنسان » يعني ابن آدم. « من علق » أي من دم؛ جمع علقة، والعلقة الدم الجامد؛ وإذا جرى فهو المسفوح. وقال: « من علق » فذكره بلفظ الجمع؛ لأنه أراد بالإنسان الجمع، وكلهم خلقوا من علق بعد النطفة. والعلقة: قطعة من دم رطب، سميت بذلك لأنها تعلق لرطوبتها بما تمر عليه، فإذا جفت لم تكن علقة. قال الشاعر:

تركناه يخر على يديه يمج عليهما علق الوتين

وخص الإنسان بالذكر تشريفا له. وقيل: أراد أن يبين قدر نعمته عليه، بأن خلقه من علقة مهينة، حتى صار بشرا سويا، وعاقلا مميزا.

 

الآية: 3 ( اقرأ وربك الأكرم )

 

قوله تعالى: « اقرأ » تأكيد، وتم الكلام، ثم استأنف فقال: « وربك الأكرم » أي الكريم. وقال الكلبي: يعني الحليم عن جهل العباد، فلم يعجل بعقوبتهم. والأول أشبه بالمعنى، لأنه لما ذكر ما تقدم من نعمه، دل بها على كرمه. وقيل: « اقرأ وربك » أي اقرأ يا محمد وربك يعينك ويفهمك، وإن كنت غير القارئ. و « الأكرم » بمعنى المتجاوز عن جهل العباد.

 

الآية: 4 ( الذي علم بالقلم )

 

قوله تعالى: « الذي علم بالقلم » يعني الخط والكتابة؛ أي علم الإنسان الخط بالقلم. وروى سعيد عن قتادة قال: القلم نعمة من اللّه تعالى عظيمة، لولا ذلك لم يقم دين، ولم يصلح عيش. فدل على كمال كرمه سبحانه، بأنه علم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبه على فضل علم الكتابة، لما فيه من المنافع العظيمة، التي لا يحيط بها إلا هو. وما دونت العلوم، ولا قيدت الحكم، ولا ضبطت أخبار الأولين ومقالاتهم، ولا كتب اللّه المنزلة إلا بالكتابة؛ ولولا هي ما استقامت أمور الدين والدنيا. وسمي قلما لأنه يقلم؛ أي يقطع، ومنه تقليم الظفر. وقال بعض الشعراء المحدثين يصف القلم:

فكأنه والحبر يخضب رأسه شيخ لوصل خريدة يتصنع

لم لا ألاحظه بعين جلالة وبه إلى الله الصحائف ترفع

وعن عبدالله بن عمر قال: يا رسول اللّه، أأكتب ما أسمع منك من الحديث؟ قال: ( نعم فاكتب، فإن اللّه علم بالقلم ) . وروى مجاهد عن أبي عمر قال: خلق اللّه عز وجل أربعة أشياء بيده، ثم قال لسائر الحيوان: كن فكان: القلم، والعرش، وجنة عدن، وآدم عليه السلام. وفيمن علمه بالقلم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه آدم عليه السلام؛ لأنه أول من كتب، قاله كعب الأحبار. الثاني: أنه إدريس، وهو أول من كتب. قال الضحاك. الثالث: أنه أدخل كل من كتب بالقلم؛ لأنه ما علم إلا بتعليم اللّه سبحانه، وجمع بذلك نعمته عليه في خلقه، وبين نعمته عليه في تعليمه؛ استكمالا للنعمة عليه.

 

صح عن النبي صلى اللّه عليه وسلم من حديث أبي هريرة، قال: ( لما خلق اللّه الخلق كتب في كتابه - فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي تغلب عضبي ) . وثبت عنه عليه السلام أنه قال: ( أول ما خلق اللّه: القلم، فقال له اكتب، فكتب ما يكون إلى يوم القيامة، فهو عنده في الذكر فوق عرشه ) . وفي الصحيح من حديث ابن مسعود: أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: ( إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة، بعث اللّه إليها ملكا فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها، ثم يقول، يا رب، أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول: يا رب أجله، فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول يا رب رزقه، ليقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده، فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص، وقال تعالى: « إن عليكم لحافظين. كراما كاتبين » ( الانفطار: 10 ) .

قال علماؤنا: فالأقلام في الأصل ثلاثة: القلم الأول: الذي خلقه اللّه بيده، وأمره أن يكتب. والقلم الثاني: أقلام الملائكة، جعلها اللّه بأيديهم يكتبون بها المقادير والكوائن والأعمال. والقلم الثالث: أقلام الناس، جعلها اللّه بأيديهم، يكتبون بها كلامهم، ويصلون بها مآربهم. وفي الكتابة فضائل جمة. والكتابة من جملة البيان، والبيان مما اختص به الآدمي.

 

قال علماؤنا: كانت العرب أقل الخلق معرفة بالكتاب، وأقل العرب معرفة به المصطفى صلى اللّه عليه وسلم؛ صرف عن علمه، ليكون ذلك أثبت لمعجزته، وأقوى في حجته، وقد مضى هذا مبينا في سورة « العنكبوت » . وروى حماد بن سلمة عن الزبير بن عبدالسلام، عن أيوب بن عبدالله الفهري، عن عبدالله بن مسعود، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( لا تسكنوا نساءكم الغرف، ولا تعلموهن الكتابة ) . قال علماؤنا: وإنما حذرهم النبي صلى اللّه عليه وسلم ذلك، لأن في إسكانهن الغرف تطلعا إلى الرجل؛ وليس في ذلك تحصين لهن ولا تستر. وذلك أنهن لا يملكن أنفسهن حتى يشرفن على الرجل؛ فتحدث الفتنة والبلاء؛ فحذرهم أن يجعلوا لهن غرفا ذريعة إلى الفتنة. وهو كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( ليس للنساء خير لهن من ألا يراهن الرجال، ولا يرين الرجال ] . وذلك أنها خلقت من الرجل، فنهمتها في الرجل، والرجل خلقت فيه الشهوة، وجعلت سكنا له، فغير مأمون كل واحد منهما في صاحبه. وكذلك تعليم الكتابة ربما كانت سببا للفتنة، وذلك إذا علمت الكتابة كتبت إلى من تهوى. والكتابة عين من العيون، بها يبصر الشاهد الغائب، والخط هو آثار يده. وفي ذلك تعبير عن الضمير بما لا ينطلق به اللسان، فهو أبلغ من اللسان. فأحب رسوله صلى اللّه عليه وسلم أن ينقطع عنهن أسباب الفتنة؛ تحصينا لهن، وطهارة لقلوبهن.

 

الآية: 5 ( علم الإنسان ما لم يعلم )

 

قيل: « الإنسان » هنا آدم عليه السلام. علمه أسماء كل شيء؛ حسب ما جاء به القرآن في قوله تعالى: « وعلم آدم الأسماء كلها » . فلم يبق شيء إلا وعلم سبحانه آدم اسمه بكل لغة، وذكره آدم للملائكة كما علمه. وبذلك ظهر فضله، وتبين قدره، وثبتت نبوته، وقامت حجة اللّه على الملائكة وحجته، وامتثلت الملائكة الأمر لما رأت من شرف الحال، ورأت من جلال القدرة، وسمعت من عظيم الأمر. ثم توارثت ذلك ذريته خلفا بعد سلف، وتناقلوه قوما عن قوم. وقد مضى هذا في سورة « البقرة » مستوفى والحمد لله. وقيل: « الإنسان » هنا الرسول محمد صلى اللّه عليه وسلم؛ دليله قوله تعالى: « وعلمك ما لم تكن تعلم » [ النساء: 113 ] . وعلى هذا فالمراد بـ « علمك » المستقبل؛ فإن هذا من أوائل ما نزل. وقيل: هو عام لقوله تعالى: « والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا » [ النحل: 78 ] .

 

الآيات: 6 - 7 ( كلا إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى )

 

قوله تعالى: « كلا إن الإنسان ليطغى » قيل: إنه نزل في أبي جهل. وقيل: نزلت السورة كلها في أبي جهل؛ نهى النبي صلى اللّه عليه وسلم عن الصلاة؛ فأمر اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم أن يصلي في المسجد ويقرأ باسم الرب. وعلى هذا فليست السورة من أوائل ما نزل. ويجوز أن يكون خمس آيات من أولها أول ما نزلت، ثم نزلت البقية في شأن أبي جهل، وأمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بضم ذلك إلى أول السورة؛ لأن تأليف السور جرى بأمر من اللّه. ألا ترى أن قوله تعالى: « واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله » [ البقرة: 281 ] آخر ما نزل، ثم هو مضموم إلى ما نزل قبله بزمان طويل. و « كلا » بمعنى حقا؛ إذ ليس قبله شيء. والإنسان هنا أبو جهل. والطغيان: مجاوزة الحد في العصيان. « أن رآه » أي لأن رأى نفسه استغنى؛ أي صار ذا مال وثروة. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح عنه، قال: لما نزلت هذه الآية وسمع بها المشركون، أتاه أبو جهل فقال: يا محمد تزعم أنه من استغنى طغى؛ فاجعل لنا جبال مكة ذهبا، لعلنا نأخذ منها، فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك. قال فأتاه جبريل عليه السلام فقال: ( يا محمد خيرهم في ذلك فإن شاؤوا فعلنا بهم ما أرادوه: فإن لم يسلموا فعلنا بهم كما فعلنا بأصحاب المائدة ) . فعلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن القوم لا يقبلون ذلك؛ فكف عنهم إبقاء عليهم. وقيل: « أن رآه استغنى » بالعشيرة والأنصار والأعوان. وحذف اللام من قوله « أن رآه » كما يقال: إنكم لتطغون إن رأيتم غناكم. وقال الفراء: لم يقل رأى نفسه، كما قيل قتل نفسه؛ لأن رأى من الأفعال التي تريد اسما وخبرا، نحو الظن والحسبان، فلا يقتصر فيه على مفعول واحد. والعرب تطرح النفس من هذا الجنس تقول: رأيتني وحسبتني، ومتى تراك خارجا، ومتى تظنك خارجا. وقرأ مجاهد وحميد وقنبل عن ابن كثير « أن رآه استغنى » بقصر الهمزة. الباقون « رآه » بمدها، وهو الاختيار.

 

الآية: 8 ( إن إلى ربك الرجعى )

 

أي مرجع من هذا وصفه، فنجازيه. والرجعى والمرجع والرجوع: مصادر؛ يقال: رجع إليه رجوعا ومرجعا. ورجعى؛ على وزن فعلى.

 

الآيات: 9 - 10 ( أرأيت الذي ينهى، عبدا إذا صلى )

 

قوله تعالى: « أرأيت الذي ينهى » وهو أبو جهل « عبدا » وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم. فإن أبا جهل قال: إن رأيت محمدا يصلي لأطأن على عنقه؛ قاله أبو هريرة. فأنزل اللّه هذه الآيات تعجبا منه. وقيل: في الكلام حذف؛ والمعنى: أمن هذا الناهي عن الصلاة من العقوبة.

 

الآيات: 11 - 12 ( أرأيت إن كان على الهدى، أو أمر بالتقوى )

 

أي أرأيت يا أبا جهل إن كان محمد على هذه الصفة، أليس ناهيه عن التقوى والصلاة هالكا؟

 

الآيات: 13 - 14 ( أرأيت إن كذب وتولى، ألم يعلم بأن الله يرى )

 

يعني أبا جهل كذب بكتاب اللّه عز وجل، وأعرض عن الإيمان. وقال الفراء: المعنى « أرأيت الذي ينهى. عبدا إذا صلى » وهو على الهدى، وأمر بالتقوى، والناهي مكذب متول عن الذكر؛ أي فما أعجب هذا! ثم يقول: ويله ألم يعلم أبو جهل بأن اللّه يرى؛ أي يراه ويعلم فعله؛ فهو تقرير وتوبيخ. وقيل: كل واحد من « أرأيت » بدل من الأول. و « ألم يعلم بأن اللّه يرى » الخبر.

 

الآيات: 15 - 16 ( كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية، ناصية كاذبة خاطئة )

 

قوله تعالى: « كلا لئن لم ينته » أي أبو جهل عن أذاك يا محمد. « لنسفع بالناصية » « لنسفعا » أي لنأخذن « بالناصية » فلنذلنه. وقيل: لنأخذن بناصيته يوم القيامة، وتطوى مع قدميه، ويطرح في النار، كما قال تعالى: « فيؤخذ بالنواصي والأقدام » [ الرحمن: 41 ] . فالآية - وإن كانت في أبي جهل - فهي عظة للناس، وتهديد لمن يمتنع أو يمنع غيره عن الطاعة. وأهل اللغة يقولون: سفعت بالشيء: إذا قبضت عليه وجذبته جذبا شديدا. ويقال: سفع بناصية فرسه. قال:

قوم إذا كثر الصياح رأيتهم من بين ملجم مهره أو سافع

وقيل: هو مأخوذ من سفعته النار والشمس: إذا غيرت وجهه إلى حال تسويد؛ كما قال:

أثافي سفعا في معرس مرجل ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع

والناصية: شعر مقدم الرأس. وقد يعبر بها عن جملة الإنسان؛ كما يقال: هذه ناصية مباركة؛ إشارة إلى جميع الإنسان. وخص الناصية بالذكر على عادة العرب فيمن أرادوا إذلاله وإهانته أخذوا بناصيته. وقال المبرد: السفع: الجذب بشدة؛ أي لنجرن بناصيته إلى النار. وقيل: السفع الضرب؛ أي لنلطمن وجهه. وكله متقارب المعنى. أي يجمع عليه الضرب عند الأخذ؛ ثم يجر إلى جهنم. ثم قال على البدل: « ناصية كاذبة خاطئة » أي ناصية أبي جهل كاذبة في قولها، خاطئة في فعلها. والخاطئ معاقب مأخوذ. والمخطئ غير مأخوذ. ووصف الناصية بالكاذبة الخاطئة، كوصف الوجوه بالنظر في قوله تعالى: « إلى ربها ناظرة » [ القيامة: 23 ] . وقيل: أي صاحبها كاذب خاطئ؛ كما يقال: نهاره صائم، وليله قائم؛ أي هو صائم في نهاره، ثم قائم في ليله.

 

الآيات: 17 - 18 ( فليدع ناديه، سندع الزبانية )

 

قوله تعالى: « فليدع ناديه » أي أهل مجلسه وعشيرته، فليستنصر بهم. « سندع الزبانية » أي الملائكة الغلاط الشداد - عن ابن عباس وغيره - واحدهم زبني؛ قاله الكسائي. وقال الأخفش: زابن. أبو عبيدة: زبنية. وقيل: زباني. وقيل: هو اسم للجمع؛ كالأبابيل والعباديد. وقال قتادة: هم الشرط في كلام العرب. وهو مأخوذ من الزبن وهو الدفع؛ ومنه المزابنة في البيع. وقيل: إنما سموا الزبانية لأنهم يعملون بأرجلهم، كما يعملون بأيديهم؛ حكاه أبو الليث السمرقندي - رحمه اللّه - قال: وروي في الخبر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما قرأ هذه السورة، وبلغ إلى قوله تعالى: « لنسفعا بالناصية » قال أبو جهل: أنا أدعو قومي حتى يمنعوا عني ربك. فقال اللّه تعالى: « فليدع ناديه، سندع الزبانية » . فلما سمع ذكر الزبانية رجع فزعا؛ فقيل له: خشيت منه قال لا ولكن رأيت عنده فارسا يهددني بالزبانية. فما أدري ما الزبانية، ومال إلي الفارس، فخشيت منه أن يأكلني. وفي الأخبار أن الزبانية رؤوسهم في السماء وأرجلهم في الأرض، فهم يدفعون الكفار في جهنم وقيل: إنهم أعظم الملائكة خلقا، وأشدهم بطشا. والعرب تطلق هذا الاسم على من أشتد بطشه. قال الشاعر:

مطاعيم في القصوى مطاعين في الوغى زبانية غلب عطام حلومها

وعن عكرمة عن ابن عباس: « سندع الزبانية » قال: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا يصلي لأطأن على عنقه. فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: ( لو فعل لأخذته الملائكة عيانا ) . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: مر أبو جهل على النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو يصلي عند المقام، فقال: ألم أنهك عن هذا يا محمد فأغلظ له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؛ فقال أبو جهل: بأي شيء تهددني يا محمد، واللّه إني لأكثر أهل الوادي هذا ناديا؛ فأنزل اللّه عز وجل: « فليدع ناديه. سندع الزبانية » . قال ابن عباس: واللّه لو دعا ناديه لأخذته زبانية العذاب من ساعته. أخرجه الترمذي بمعناه، وقال: حسن غريب صحيح. والنادي في كلام العرب : المجلس الذي ينتدي فيه القوم؛ أي يجتمعون، والمراد أهل النادي؛ كما قال جرير:

لهم مجلس صهب السبال أذلة

وقال زهير:

وفيهم مقامات حسان وجوههم

وقال آخر:

واستب بعدك يا كليب المجلس

وقد ناديت الرجل أناديه إذا جالسته. قال زهير:

وجار البيت والرجل المنادي أمام الحي عقدهما سواء

 

الآية: 19 ( كلا لا تطعه واسجد واقترب )

 

قوله تعالى: « كلا » أي ليس الأمر على ما يظنه أبو جهل. « لا تطعه » أي فيما دعاك إليه من ترك الصلاة. « واسجد » أي صل لله « واقترب » أي تقرب إلى اللّه جل ثناؤه بالطاعة والعبادة. وقيل: المعنى: إذا سجدت فاقترب من اللّه بالدعاء. روى عطاء عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( أقرب ما يكون العبد من ربه، وأحبه إليه، جبهته في الأرض ساجدا لله ) .

قال علماؤنا: وإنما كان ذلك لأنها نهاية العبودية والذلة؛ ولله غاية العزة، وله العزة التي لا مقدار لها؛ فكلما بعدت من صفته، قربت من جنته، ودنوت من جواره في داره. وفي الحديث الصحيح: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: [ أما الركوع فعظموا فيه الرب. وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فإنه قمن أن يستجاب لكم ] . ولقد أحسن من قال:

وإذا تذللت الرقاب تواضعا منا إليك فعزها في ذلها

وقال زيد بن أسلم: اسجد أنت يا محمد مصليا، واقترب أنت يا أبا جهل من النار.

 

قوله تعالى: « واسجد » هذا من السجود. يحتمل أن يكون بمعنى السجود في الصلاة، ويحتمل أن يكون سجود التلاوة في هذه السورة. قال ابن العربي: « والظاهر أنه سجود الصلاة » لقوله تعالى: « أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى - إلى قوله - كلا لا تطعه واسجد واقترب » ، لولا ما ثبت في الصحيح من رواية مسلم وغيره من الأئمة عن أبي هريرة أنه قال: سجدت مع رسول الله صلى اللّه عليه وسلم « إذا السماء انشقت » [ الإنشقاق: 1 ] ، وفي « اقرأ باسم ربك الذي خلق » [ العلق: 1 ] سجدتين، فكان هذا نصا على أن المراد سجود التلاوة. وقد روى ابن وهب، عن حماد بن زيد، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش، عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، قال: عزائم السجود أربع: « ألم » و « حم تنزيل من الرحمن الرحيم » و « النجم » و « اقرأ باسم ربك » . وقال ابن العربي: وهذا إن صح يلزم عليه السجود الثاني من سورة « الحج » ، وإن كان مقترنا بالركوع؛ لأنه يكون معناه اركعوا في موضع الركوع، واسجدوا في موضع السجود. وقد قال ابن نافع ومطرف: وكان مالك يسجد في خاصة نفسه بخاتمة هذه السورة من « اقرأ باسم ربك » وابن وهب يراها من العزائم.

قلت: وقد روينا من حديث مالك بن أنس عن ربيعة بن أبي عبدالرحمن عن نافع عن ابن عمر قال: لما أنزل اللّه تعالى « اقرأ باسم ربك الذي خلق » [ العلق: 1 ] قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لمعاذ: [ اكتبها يا معاذ ] فأخذ معاذ اللوح والقلم والنون - وهي الدواة - فكتبها معاذ؛ فلما بلغ « كلا لا تطعه واسجد واقترب » سجد اللوح، وسجد القلم، وسجدت النون، وهم يقولون: اللهم ارفع به ذكرا، اللهم احطط به وزرا، اللهم اغفر به ذنبا. قال معاذ: سجدت، وأخبرت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فسجد.

ختمت السورة. والحمد لله على ما فتح ومنح وأعطى. وله الحمد والمنة.

 

سورة القدر

 

الآيات: 1 - 3 ( إنا أنزلناه في ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر، ليلة القدر خير من ألف شهر )

 

قوله تعالى: « إنا أنزلناه » يعني القرآن، وإن لم يجر له ذكر في هذه السورة؛ لأن المعنى معلوم، والقرآن كله كالسورة الواحدة. وقد قال: « شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن » [ البقرة: 185 ] وقال: « حم. والكتاب المبين. إنا أنزلناه في ليلة مباركة » ، [ الدخان: 3 ] يريد: في ليلة القدر. وقال الشعبي: المعنى إنا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر. وقيل: بل نزل به جبريل عليه السلام جملة واحدة في ليلة القدر، من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، إلى بيت العزة، وأملاه جبريل على السفرة، ثم كان جبريل ينزله على النبي صلى اللّه عليه وسلم نجوما نجوما. وكان بين أوله وآخره ثلاث وعشرون سنة؛ قال ابن عباس، وقد تقدم في سورة « البقرة » . وحكى الماوردي عن ابن عباس قال: نزل القرآن في شهر رمضان، وفي ليلة القدر، في ليلة مباركة، جملة واحدة من عند اللّه، من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا؛ فنجمته السفرة الكرام الكاتبون على جبريل عشرين سنة، ونجمه جبريل على النبي صلى اللّه عليه وسلم عشرين سنة. قال ابن العربي: « وهذا باطل؛ ليس بين جبريل وبين اللّه واسطة، ولا بين جبريل ومحمد عليهما السلام واسطة » .

 

قوله تعالى: « في ليلة القدر » قال مجاهد: في ليلة الحكم. « وما أدراك ما ليلة القدر » قال: ليلة الحكم. والمعنى ليلة التقدير؛ سمين بذلك لأن اللّه تعالى يقدر فيها ما يشاء من أمره، إلى مثلها من السنة القابلة؛ من أمر الموت والأجل والرزق وغيره. ويسلمه إلى مدبرات الأمور، وهم أربعة من الملائكة: إسرافيل، وميكائيل، وعزرائيل، وجبريل. عليهم السلام. وعن ابن عباس قال: يكتب من أم الكتاب ما يكون في السنة من رزق ومطر وحياة وموت، حتى الحاج. قال عكرمة: يكتب حاج بيت اللّه تعالى في ليلة القدر بأسمائهم وأسماء أبائهم، ما يغادر منهم أحد، ولا يزاد فيهم. وقاله سعيد بن جبير. وقد مضى في أول سورة « الدخان » هذا المعنى. وعن ابن عباس أيضا: أن اللّه تعالى يقضي الأقضية في ليلة نصف شعبان، ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدر. وقيل: إنما سميت بذلك لعظمها وقدرها وشرفها، من قولهم: لفلان قدر؛ أي شرف ومنزلة. قال الزهري وغيره. وقيل: سميت بذلك لأن للطاعات فيها قدرا عظيما، وثوابا جزيلا. وقال أبو بكر الوراق: سميت بذلك لأن من لم يكن له قدر ولا خطر يصير في هذه الليلة ذا قدر إذا أحياها. وقيل: سميت بذلك لأنه أنزل فيها كتابا ذا قدر، على رسول ذي قدر، على أمة ذات قدر. وقيل: لأنه ينزل فيها ملائكة ذوي قدر وخطر. وقيل: لأن اللّه تعالى ينزل فيها الخير والبركة والمغفرة. وقال سهل: سميت بذلك لأن اللّه تعالى قدر فيها الرحمة على المؤمنين. وقال: الخليل: لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة؛ كقوله تعالى: « ومن قدر عليه رزقه » [ الطلاق: 7 ] أي ضيق. قال الفراء: كل ما في القرآن من قوله تعالى: « وما أدراك » فقد أدراه. وما كان من قوله: « وما يدريك » [ الأحزاب: 63 ] فلم يدره. وقاله سفيان، وقد تقدم.

 

قوله تعالى: « ليلة القدر خير من ألف شهر » بين فضلها وعظمها. وفضيلة الزمان إنما تكون بكثرة ما يقع فيه من الفضائل. وفي تلك الليلة يقسم الخير الكثير الذي لا يوجد مثله في ألف شهر. واللّه أعلم. وقال كثير من المفسرين: أي العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. وقال أبو العالية: ليلة القدر خير من ألف شهر لا تكون فيه ليلة القدر. وقيل: عنى بألف شهر جميع الدهر؛ لأن العرب تذكر الألف في غاية الأشياء؛ كما قال تعالى: « يود أحدهم لو يعمر ألف سنة » [ البقرة: 96 ] يعني جميع الدهر. وقيل: إن العابد كان فيما مضى لا يسمى عابدا حتى يعبد اللّه ألف شهر، ثلاثا وثمانين سنة وأربعة أشهر، فجعل اللّه تعالى لأمة محمد صلى اللّه عليه وسلم عبادة ليلة خيرا من ألف شهر كانوا يعبدونها. وقال أبو بكر الوراق: كان ملك سليمان خمسمائة شهر، وملك ذي القرنين خمسمائة شهر فصار ملكهما ألف شهر؛ فجعل اللّه تعالى العمل في هذه الليلة لمن أدركها خيرا من ملكهما. وقال ابن مسعود: إن النبي صلى اللّه عليه وسلم ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل اللّه ألف شهر؛ فعجب المسلمون من ذلك؛ فنزلت « إنا أنزلناه » [ الدخان: 3 ] الآية. « خير من ألف شهر » ، التي لبس فيها الرجل سلاحه في سبيل اللّه. ونحوه عن ابن عباس. وهب بن منبه: إن ذلك الرجل كان مسلما، وإن أمه جعلته نذرا لله، وكان من قرية قوم يعبدون الأصنام، وكان سكن قريبا منها؛ فجعل يغزوهم وحده، ويقتل ويسبي ويجاهد، وكان لا يلقاهم إلا بلحيي بعير، وكان إذا قاتلهم وقاتلوه وعطش، انفجر له من اللحيين ماء عذب، فيشرب منه، وكان قد أعطي قوة في البطش، لا يوجعه حديد ولا غيره: وكان اسمه شمسون. وقال كعب الأحبار: كان رجلا ملكا في بني إسرائيل، فعل خصلة واحدة، فأوحى اللّه إلى نبي زمانهم: قل لفلان يتمنى. فقال: يا رب أتمنى أن أجاهد بمالي وولدي ونفسي، فرزقه اللّه ألف ولد، فكان يجهز الولد بماله في عسكر، ويخرجه مجاهدا في سبيل، اللّه، فيقوم شهرا ويقتل ذلك الولد، ثم يجهز آخر في عسكر، فكان كل ولد يقتل في الشهر، والملك مع ذلك قائم الليل، صائم النهار؛ فقتل الألف ولد في ألف شهر، ثم تقدم فقاتل فقتل. فقال الناس: لا أحد يدرك منزلة هذا الملك؛ فأنزل اللّه تعالى: « ليلة القدر خير من ألف شهر » من شهور ذلك الملك، في القيام والصيام والجهاد بالمال والنفس والأولاد في سبيل اللّه. وقال عليّ وعروة: ذكر النبي صلى اللّه عليه وسلم أربعة من بني إسرائيل، فقال ( عبدوا اللّه ثمانين سنة، لم يعصوا طرفة عين ) ؛ فذكر أيوب وزكريا، وحزقيل بن العجوز ويوشع بن نون؛ فعجب أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم من ذلك. فأتاه جبريل فقال: يا محمد عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة لم يعصوا اللّه طرفة عين، فقد أنزل اللّه عليك خيرا من ذلك؛ ثم قرأ: « إنا أنزلناه في ليلة القدر » . فسر بذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقال مالك في الموطأ من رواية ابن القاسم وغيره: سمعت من أثق به يقول: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أري أعمار الأمم قبله، فكأنه تقاصر أعمار أمته ألا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر؛ فأعطاه اللّه تعالى ليلة القدر، وجعلها خيرا من ألف شهر. وفي الترمذي. عن الحسن بن علي رضي اللّه عنهما: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أري بني أمية على منبره، فساءه ذلك؛ فنزلت « إنا أعطيناك الكوثر » [ الكوثر: 1 ] ، يعني نهرا في الجنة. ونزلت « إنا أنزلناه في ليلة القدر. وما أدراك ما ليلة القدر. ليلة القدر خير من الف شهر » يملكها بعدك بنو أمية. قال القاسم بن الفضل الحداني: فعددناها، فإذا هي ألف شهر، لا تزيد يوما، ولا تنقص يوما. قال: حديث غريب.

 

الآية: 4 ( تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر )

 

قوله تعالى: « تنزل الملائكة » أي تهبط من كل سماء، ومن سدرة المنتهى؛ ومسكن جبريل على وسطها. فينزلون إلى الأرض ويؤمنون على دعاء الناس، إلى وقت طلوع الفجر؛ فذلك قوله تعالى: « تنزل الملائكة » . « والروح فيها بإذن ربهم » أي جبريل عليه السلام. وحكى القشيري: أن الروح صنف من الملائكة، جعلوا حفظة على سائرهم، وأن الملائكة لا يرونهم، كما لا نرى نحن الملائكة. وقال مقاتل: هم أشرف الملائكة. وأقربهم من اللّه تعالى. وقيل: إنهم جند من جند اللّه عز وجل من غير الملائكة. رواه مجاهد عن ابن عباس مرفوعا؛ ذكره الماوردي وحكى القشيري: قيل هم صنف من خلق اللّه يأكلون الطعام، ولهم أيد وأرجل؛ وليسوا ملائكة. وقيل: « الروح » خلق عظيم يقوم صفا، والملائكة كلهم صفا. وقيل: « الروح » الرحمة ينزل بها جبريل عليه السلام مع الملائكة في هذه الليلة على أهلها؛ دليله: « ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده » [ النحل: 2 ] ، أي بالرحمة. « فيها » أي في ليلة القدر. « بإذن ربهم » أي بأمره. « من كل أمر » أمر بكل أمر قدره اللّه وقضاه في تلك السنة إلى قابل؛ قاله ابن عباس؛ كقوله تعالى: « يحفظونه من أمر الله » [ الرعد: 11 ] أي بأمر اللّه. وقراءة العامة « تنزل » بفتح التاء؛ إلا أن البزي شدد التاء. وقرأ طلحة بن مصرف وابن السميقع، بضم التاء على الفعل المجهول. وقرأ علي وابن عباس وعكرمة والكلبي « من كل امرئ » . وروي عن ابن عباس أن معناه: من كل ملك؛ وتأولها الكلبي على أن جبريل ينزل فيها مع الملائكة، فيسلمون على كل امرئ مسلم. « فمن » بمعنى على. وعن أنس قال: قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: « إذا كان ليلة القدر نزل جبريل في كبكبة من الملائكة، يصلون ويسلمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر اللّه تعالى.»

 

الآية: 5 ( سلام هي حتى مطلع الفجر )

 

قيل: إن تمام الكلام « من كل أمر » ثم قال « سلام » . روي ذلك عن نافع وغيره؛ أي ليلة القدر سلامة وخير كلها لا شر فيها. « حتى مطلع الفجر » أي إلى طلوع الفجر. قال الضحاك: لا يقدر اللّه في تلك الليلة إلا السلامة، وفي سائر الليالي يقضي بالبلايا والسلامة وقيل: أي هي سلام؛ أي ذات سلامة من أن يؤثر فيها شيطان في مؤمن ومؤمنة. وكذا قال مجاهد: هي ليلة سالمة، لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا ولا أذى. وروي مرفوعا. وقال الشعبي: هو تسليم الملائكة على أهل المساجد، من حين تغيب الشمس إلى أن يطلع الفجر؛ يمرون على كل مؤمن، ويقولون: السلام عليك أيها المؤمن. وقيل: يعني سلام الملائكة بعضهم على بعض فيها. وقال قتادة: « سلام هي » : خير هي. « حتى مطلع الفجر » أي إلى مطلع الفجر. وقرأ الكسائي وابن محيصن « مطلع » بكسر اللام، الباقون بالفتح. والفتح والكسر: لغتان في المصدر. والفتح الأصل في فعل يفعل؛ نحو المقتل والمخرج. والكسر على أنه مما شذ عن قياسه؛ نحو المشرق والمغرب والمنبت والمسكن والمنسك والمحشر والمسقط والمجزر. حكى في ذلك كله الفتح والكسر، على أن يراد به المصدر لا الاسم.

وهنا ثلاث مسائل: الأولى: في تعيين ليلة القدر؛ وقد اختلف العلماء في ذلك. والذي عليه المعظم أنها ليلة سبع وعشرين؛ لحديث زر بن حبيش قال: قلت لأبي بن كعب: إن أخاك عبدالله بن مسعود يقول: من يقم الحول يصب ليلة القدر. فقال: يغفر اللّه لأبي عبدالرحمن! لقد علم أنها في العشر الأواخر من رمضان، وأنها ليلة سبع وعشرين؛ ولكنه أراد ألا يتكل الناس؛ ثم حلف لا يستثني: أنها ليلة سبع وعشرين. قال قلت: بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر؟ قال: بالآية التي أخبرنا بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، أو بالعلامة أن الشمس تطلع يومئذ لا شعاع لها. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وخرجه مسلم. وقيل: هي في شهر رمضان دون سائر العام؛ قاله أبو هريرة وغيره. وقيل: هي في ليالي السنة كلها. فمن علق طلاق امرأته أو عتق عبده بليلة القدر، لم يقع العتق والطلاق إلا بعد مضى سنة من يوم حلف. لأنه لا يجوز إيقاع الطلاق بالشك، ولم يثبت اختصاصها بوقت؛ فلا ينبغي وقوع الطلاق إلا بمضى حول. وكذلك العتق؛ وما كان مثله من يمين أو غيره. وقال ابن مسعود: من يقم الحول يصبها؛ فبلغ ذلك ابن عمر، فقال: يرحم اللّه أبا عبدالرحمن! أما إنه علم أنها في العشر الأواخر من شهر رمضان، ولكنه أراد ألا يتكل الناس. وإلى هذا القول ذهب أبو حنيفة أنها في جميع السنة. وقيل عنه: إنها رفعت - يعني ليلة القدر - وأنها إنما كانت مرة واحدة؛ والصحيح أنها باقية. وروي عن ابن مسعود أيضا: أنها إذا كانت في يوم من هذه السنة، كانت في العام المقبل في يوم آخر. والجمهور على أنها في كل عام من رمضان. ثم قيل: إنها الليلة الأولى من الشهر؛ قال أبو رزين العقيلي. وقال الحسن وابن إسحاق وعبدالله بن الزبير: هي ليلة سبع عشرة من رمضان، وهي الليلة التي كانت صبيحتها وقعة بدر. كأنهم نزعوا بقوله تعالى: « وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان » [ الأنفال: 41 ] ، وكان ذلك ليلة سبع عشرة، وقيل هي ليلة التاسع عشر. والصحيح المشهور: أنها في العشر الأواخر من رمضان؛ وهو قول مالك والشافعي والأوزاعي وأبي ثور وأحمد. ثم قال قوم: هي ليلة الحادي والعشرين. ومال إليه الشافعي رضي اللّه عنه، لحديث الماء والطين ورواه أبو سعيد الخدري، خرجه مالك وغيره. وقيل ليلة الثالث والعشرين؛ لما رواه ابن عمر أن رجلا قال: يا رسول اللّه إني رأيت ليلة القدر في سابعة تبقى. فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: ( أرى رؤياكم قد تواطأت على ثلاث وعشرين، فمن أراد أن يقوم من الشهر شيئا فليقم ليلة ثلاث وعشرين ) . قال معمر: فكان أيوب يغتسل ليلة ثلاث وعشرين ويمس طيبا. وفي صحيح مسلم أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( إني رأيت أني أسجد في صبيحتها في ماء وطين ) . قال عبدالله بن أنيس: فرأيته في صبيحة ليلة ثلاث وعشرين في الماء والطين، كما أخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقيل: ليلة خمس وعشرين؛ لحديث أبي سعيد الخدري: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ( التمسوها في العشر. الأواخر في تاسعة تبقى، في سابعه تبقى، في خامسة تبقى ) . رواه مسلم، قال مالك: يريد بالتاسعة ليلة إحدى وعشرين، والسابعة ليلة ثلاث وعشرين، والخامسة ليلة خمس وعشرين. وقيل: ليلة سبع وعشرين. وقد مضى دليله، وهو قول علي رضي اللّه عنه وعائشة ومعاوية وأبيّ بن كعب. وروى ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ( من كان متحريا ليلة القدر، فليتحرها ليلة سبع وعشرين ) .

وقال أبيّ بن كعب: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: ( ليلة القدر ليلة سبع وعشرين ) . وقال أبو بكر الوراق: إن اللّه تعالى قسم ليالي هذا الشهر - شهر رمضان - على كلمات هذه السورة، فلما بلغ السابعة والعشرين أشار إليها فقال: هي وأيضا فإن ليلة القدر كرر ذكرها ثلاث مرات، وهي تسعة أحرف، فتجيء سبعا وعشرين. وقيل: هي ليلة تسع وعشرين؛ لما روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: « ليلة القدر التاسعة والعشرون - أو السابعة والعشرون - وأن الملائكة في تلك الليلة بعدد الحصى » . وقد قيل: إنها في الأشفاع. قال الحسن: ارتقبت الشمس ليلة أربع وعشرين عشرين سنة، فرأيتها تطلع بيضاء لا شعاع لها. يعني من كثرة الأنوار في تلك الليلة. وقيل إنها مستورة في جميع السنة، ليجتهد المرء في إحياء جميع الليالي. وقيل: أخفاها في جميع شهر رمضان، ليجتهدوا في العمل والعبادة ليالي شهر رمضان، طمعا في إدراكها، كما أخفى الصلاة الوسطى في الصلوات، واسمه الأعظم في أسمائه الحسنى، وساعة الإجابة في ساعات الجمعة وساعات الليل، وغضبه في المعاصي، ورضاه في الطاعات، وقيام الساعة في الأوقات، والعبد الصالح بين العباد؛ رحمة منه وحكمة.

الثانية: في علاماتها: منها أن الشمس، تطلع في صبيحتها بيضاء لا شعاع لها. وقال الحسن قال النبي صلى اللّه عليه وسلم في ليلة القدر: ( إن من أماراتها: أنها ليلة سمحة بلجة، لا حارة ولا باردة، تطلع، الشمس صبيحتها ليس لها شعاع ) . وقال عبيد بن عمير: كنت ليلة السابع والعشرين في البحر، فأخذت من مائه، فوجدته عذبا سلسا.

الثالثة: في فضائلها. وحسبك بقوله تعالى: « ليلة القدر خير من ألف شهر وقوله تعالى: » تنزل الملائكة والروح فيه « . وفي الصحيحين: ( من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه ) رواه أبو هريرة. وقال ابن عباس: قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: ( إذا كان ليلة القدر، تنزل الملائكة الذين هم سكان سدرة المنتهى، منهم جبريل، ومعهم ألوية ينصب منها لواء على قبري، ولواء على بيت المقدس، ولواء على المسجد الحرام، ولواء على طور سيناء، ولا تدع فيها مؤمنا ولا مؤمنة إلا تسلم عليه، إلا مدمن الخمر، وآكل الخنزير، والمتضمخ بالزعفران ) : وفي الحديث: ( إن الشيطان لا يخرج في هذه الليلة حتى يضيء فجرها، ولا يستطيع أن يصيب فيها أحدا بخبل ولا شيء من الفساد، ولا ينفذ فيها سحر ساحر » . وقال الشعبي: وليلها كيومها، ويومها كليلها. وقال الفراء؛ لا يقدر اللّه في ليلة القدر إلا السعادة والنعم، ويقدر في غيرها البلايا والنقم؛ وقد تقدم عن الضحاك. ومثله لا يقال من جهة الرأي، فهو مرفوع. واللّه أعلم. وقال سعيد بن المسيب في الموطأ: ( من شهد العشاء من ليلة القدر، فقد أخذ بحظه منها ) ، ومثله لا يدرك بالرأي. وقد روى عبيدالله بن عامر بن ربيعة: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ( من صلى صلاة المغرب والعشاء الآخرة من ليلة القدر في جماعة فقد أخذ بحظه من ليلة القدر ) ذكره الثعلبي في تفسيره. وقالت عائشة رضي اللّه عنها: قلت: يا رسول اللّه إن وافقت ليلة القدر فما أقول؟ قال: ( قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني ) .

 

سورة البينة

 

وقد جاء في فضلها حديث لا يصح، رويناه عن محمد بن محمد بن عبداللّه الحضرمي قال: قال لي أبو عبدالرحمن بن نمير: اذهب إلى أبي الهيثم الخشاب، فاكتب عنه فإنه قد كتب، فذهب إليه، فقال: حدثنا مالك بن أنس، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه: ( لو يعلم الناس ما في « لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب » لعطلوا الأهل والمال، فتعلموها ) فقال رجل من خزاعة: وما فيها من الأجر يا رسول اللّه؟ قال: ( لا يقرؤها منافق أبدا، ولا عبد في قلبه شك في اللّه. واللّه إن الملائكة المقربين يقرؤونها منذ خلق اللّه السموات والأرض ما يفترون من قراءتها. وما من عبد يقرؤها إلا بعث اللّه إليه ملائكة يحفظونه في دينه ودنياه، ويدعون له بالمغفرة والرحمة ) . قال الحضرمي: فجئت إلى أبي عبدالرحمن بن نمير، فألقيت هذا الحديث عليه، فقال: هذا قد كفانا مؤونته، فلا تعد إليه. قال ابن العربي: « روى إسحاق بن بشر الكاهلي عن مالك بن أنس، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب: عن أبي الدرداء، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم: ( لو يعلم الناس ما في » لم يكن « الذين كفروا لعطلوا الأهل والمال ولتعلموها ) . حديث باطل؛ وإنما الحديث الصحيح ما روي عن أنس: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لأبي بن كعب: ( إن اللّه أمرني أن اقرأ عليك » لم يكن الذين كفروا « قال: وسماني لك قال » نعم « فبكى ) .»

قلت: خرجه البخاري ومسلم. وفيه من الفقه قراءة العالم على المتعلم. قال بعضهم: إنما قرأ النبي صلى اللّه عليه وسلم على أبيّ، ليعلم الناس التواضع؛ لئلا يأنف أحد من التعلم والقراءة على من دونه في المنزلة. وقيل: لأن أبيا كان أسرع أخذا لألفاظ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؛ فأراد بقراءته عليه، أن يأخذ ألفاظه ويقرأ كما سمع منه، ويعلم غيره. وفيه فضيلة عظيمة لأبيّ؛ إذ أمر اللّه رسوله أن يقرأ عليه. قال أبو بكر الأنباري: وحدثنا أحمد بن الهيثم بن خالد؛ قال حدثنا علي بن الجعد، قال حدثنا عكرمة عن عاصم عن زر بن حبيش قال: في قراءة أبيّ بن كعب: ابن آدم لو أعطي واديا من مال لالتمس ثانيا ولو أعطي واديين من مال لا لتمس ثالثا، ولا يملا جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب اللّه على من تاب. قال عكرمة. قرأ علي عاصم « لم يكن » ثلاثين آية، هذا فيها. قال أبو بكر: هذا باطل عند أهل العلم، لأن قراءتي ابن كثير وأبي عمرو متصلتان بأبيّ بن كعب، لا يقرأ فيها هذا المذكور في « لم يكن » مما هو معروف في حديث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، على أنه من كلام الرسول عليه السلام، لا يحكيه عن رب العالمين في القرآن. وما رواه اثنان معهما الإجماع: أثبت مما يحكيه واحد مخالف مذهب الجماعة.

 

الآيات: 1 - 3 ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة، رسول من الله يتلو صحفا مطهرة، فيها كتب قيمة )

 

قوله تعالى: « لم يكن الذين كفروا » كذا قراءة العامة، وخط المصحف. وقرأ ابن مسعود « لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكين » وهذه قراءة على التفسير. قال ابن العربي: « وهي جائزة في معرض البيان لا في معرض التلاوة؛ فقد قرأ النبي صلى اللّه عليه وسلم في رواية الصحيح » فطلقوهن لقبل عدتهن « وهو تفسير؛ فإن التلاوة: هو ما كان في خط المصحف » .

 

قوله تعالى: « من أهل الكتاب » يعني اليهود والنصارى « والمشركين » في موضع جر عطفا على « أهل الكتاب » . قال ابن عباس « أهل الكتاب » : اليهود الذين كانوا بيثرب، وهم قريظة والنضير وبنو قينقاع. والمشركون: الذين كانوا بمكة وحولها، والمدينة والذين حولها؛ وهم مشركو قريش. « منفكين » أي منتهين عن كفرهم، مائلين عنه. « حتى تأتيهم البينة » أي أتتهم البينة؛ أي محمد صلى اللّه عليه وسلم. وقيل: الانتهاء بلوغ الغاية أي لم يكونوا ليبلغوا نهاية أعمارهم فيموتوا، حتى تأتيهم البينة. فالانفكاك على هذا بمعنى الانتهاء. وقيل: « منفكين » زائلين؛ أي لم تكن مدتهم لتزول حتى يأتيهم رسول. والعرب تقول: ما انفككت أفعل كذا: أي ما زلت. وما انفك فلان قائما. أي ما زال قائما. وأصل الفك: الفتح؛ ومنه فك الكتاب، وفك الخلخال، وفك السالم. قال طرفة:

فآليت لا ينفك كشحي بطانة لعضب رقيق الشفرتين مهند

وقال ذو الرمة:

حراجيج ما تنفك إلا مناخة على الخف أو نرمي بها بلدا قفرا

يريد: ما تنفك مناخة؛ فزاد « إلا » . وقيل: « منفكين » : بارحين؛ أي لم يكونوا ليبرحوا ويفارقوا الدنيا، حتى تأتيهم البينة. وقال ابن كيسان: أي لم يكن أهل الكتاب تاركين صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم في كتابهم، حتى بعث؛ فلما بعث حسدوه وجحدوه. وهو كقوله: « فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به » [ البقرة: 89 ] . ولهذا قال: « وما تفرق الذين أوتوا الكتاب » [ البينة: 4 ] ... الآية. وعلى هذا « والمشركين » أي ما كانوا يسيؤون القول في محمد صلى اللّه عليه وسلم، حتى بعث؛ فإنهم كانوا يسمونه. الأمين، حتى أتتهم البينة على لسانه، وبعث إليهم، فحينئذ عادوه. وقال بعض اللغويين: « منفكين » هالكين من قولهم: أنفك صلا المرأة عند الولادة؛ وهو أن ينفصل، فلا يلتئم فتهلك المعنى: لم يكونوا معذبين ولا هالكين إلا بعد قيام الحجة عليهم، بإرسال الرسل وإنزال الكتب. وقال قوم في المشركين: إنهم من أهل الكتاب؛ فمن اليهود من قال: عزير ابن اللّه. ومن النصارى من قال: عيسى هو اللّه. ومنهم من قال: هو ابنه. ومنهم من قال: ثالث ثلاثة. وقيل: أهل الكتاب كانوا مؤمنين، ثم كفروا بعد أنبيائهم. والمشركون ولدوا على الفطرة، فكفروا حين بلغوا. فلهذا قال: « والمشركين » . وقيل: المشركون وصف أهل الكتاب أيضا، لأنهم لم ينتفعوا بكتابهم، وتركوا التوحيد. فالنصارى مثلثة، وعامة اليهود مشبهة؛ والكل شرك. وهو كقولك: جاءني العقلاء والظرفاء؛ وأنت تريد أقواما بأعيانهم، تصفهم بالأمرين. فالمعنى: من أهل الكتاب المشركين. وقيل: إن الكفر هنا هو الكفر بالنبي صلى اللّه عليه وسلم؛ أي لم يكن الذين كفروا بمحمد من اليهود والنصارى، الذين هم أهل الكتاب، ولم يكن المشركون، الذين هم عبدة الأوثان من العرب وغيرهم - وهم الذين ليس لهم كتاب - منفكين. قال القشيري: وفيه بعد؛ لأن الظاهر من « حتى تأتيهم البينة. رسول من اللّه » أن هذا الرسول هو محمد صلى اللّه عليه وسلم. فيبعد أن يقال: لم يكن الذين كفروا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم منفكين حتى يأتيهم محمد؛ إلا أن يقال: أراد: لم يكن الذين كفروا الآن بمحمد - وإن كانوا من قبل معظمين له، بمنتهين عن هذا الكفر، إلى أن يبعث اللّه محمدا إليهم ويبين لهم الآيات؛ فحينئذ يؤمن قوم. وقرأ الأعمش وإبراهيم « والمشركون » رفعا، عطفا على « الذين » . والقراءة الأولى أبين؛ لأن الرفع يصير فيه الصنفان كأنهم من غير أهل الكتاب. وفي حرف أبيّ: « فما كان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركون منفكين » . وفي مصحف ابن مسعود: « لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكين » . وقد تقدم. « حتى تأتيهم البينة » قيل حتى أتتهم. والبينة: محمد صلى اللّه عليه وسلم.

 

قوله تعالى: « رسول من الله » أي بعيث من اللّه جل ثناؤه. قال الزجاج: « رسول » رفع على البدل من « البينة » . وقال الفراء: أي هي رسول من اللّه، أو هو رسول من اللّه؛ لأن البينة قد تذكر فيقال: بينتي فلان. وفي حرف أبيّ وابن مسعود « رسول » بالنصب على القطع. « يتلو » أي يقرأ. يقال: تلا يتلو تلاوة. « صحفا » جمع صحيفة، وهي ظرف المكتوب. « مطهرة » قال ابن عباس: من الزور، والشك، والنفاق، والضلالة. وقال قتادة: من الباطل. وقيل: من الكذب، والشبهات. والكفر؛ والمعنى واحد. أي يقرأ ما تتضمن الصحف من المكتوب؛ ويدل عليه أنه كان يتلو عن ظهر قلبه، لا عن كتاب؛ لأنه كان أميا، لا يكتب ولا يقرأ. و « مطهرة » : من نعت الصحف؛ وهو كقوله تعالى: « في صحف مكرمة. مرفوعة مطهرة » [ عبس: 13 ] ، فالمطهرة نعت للصحف في الظاهر، وهي نعت لما في الصحف من القرآن. وقيل: « مطهرة » أي ينبغي ألا يمسها إلا المطهرون؛ كما قال في سورة « الواقعة » حسب ما تقدم بيانه. وقيل: الصحف المطهرة: هي التي عند اللّه في أم الكتاب، الذي منه نسخ ما أنزل على الأنبياء من الكتب؛ كما قال تعالى: « بل هو قرآن مجيد. في لوح محفوظ » [ البروج:22 ] . قال الحسن: يعني الصحف المطهرة في السماء. « فيها كتب قيمة » أي مستقيمة مستوية محكمة؛ من قول العرب: قام يقوم: إذا استوى وصح. وقال بعض أهل العلم: الصحف هي الكتب؛ فكيف قال في صحف فيها كتب؟ فالجواب: أن الكتب هنا بمعنى الأحكام؛ قال اللّه عز وجل: « كتب الله لأغلبن » [ المجادلة:21 ] بمعنى حكم. وقال صلى اللّه عليه وسلم: ( واللّه لأقضين بينكما بكتاب اللّه ) ثم قضى بالرجم، وليس ذكر الرجم مسطورا في الكتاب؛ فالمعنى: لأقضين بينكما بحكم اللّه تعالى. وقال الشاعر:

وما الولاء بالبلاء فملتم وما ذاك قال الله إذ هو يكتب

وقيل: الكتب القيمة: هي القرآن؛ فجعله كتبا لأنه يشتمل على أنواع من البيان.

 

الآية: 4 ( وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة )

 

قوله تعالى: « وما تفرق الذين أوتوا الكتاب » أي من اليهود والنصارى. خص أهل الكتاب بالتفريق دون غيرهم وإن كانوا مجموعين مع الكافرين؛ لأنهم مظنون بهم علم فاذا تفرقوا كان غيرهم ممن لا كتاب له أدخل في هذا الوصف. « إلا من بعد ما جاءتهم البينة » أي أتتهم البينة الواضحة. والمعني به محمد صلى اللّه عليه وسلم؛ أي القرآن موافقا لما في أيديهم من الكتاب بنعته وصفته. وذلك أنهم كانوا مجتمعين على نبوته، فلما بعث جحدوا نبوته وتفرقوا، فمنهم من كفر: بغيا وحسدا، ومنهم من آمن؛ كقوله تعالى: « وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم » [ الشورى: 14 ] . وقيل: « البينة » : البيان الذي في كتبهم أنه نبي مرسل. قال العلماء: من أول السورة إلى قوله « قيمة » [ البينة: 5 ] : حكمها فيمن آمن من أهل الكتاب والمشركين. وقوله: « وما تقرق » : حكمه فيمن لم يؤمن من أهل الكتاب بعد قيام الحجج.

 

الآية: 5 ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة )

 

قوله تعالى: « وما أمروا » أي وما أمر هؤلاء الكفار في التوراة والإنجيل « إلا ليعبدوا الله » أي ليوحدوه. واللام في « ليعبدوا » بمعنى « أن » ؛ كقوله: « يريد الله ليبين لكم » [ النساء: 26 ] أي أن يبين. و « يريدون ليطفئوا نور الله » [ الصف: 8 ] . و « أمرنا لنسلم لرب العالمين » [ الأنعام: 71 ] . وفي حرف عبدالله: « وما أمروا إلا أن يعبدوا اللّه » . « مخلصين له الدين » أي العبادة؛ ومنه قوله تعالى: « قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين » [ الزمر: 11 ] . وفي هذا دليل على وجوب النية في العبادات فإن الإخلاص من عمل القلب وهو الذي يراد به وجه اللّه تعالى لا غيره.

 

قوله تعالى: « حنفاء » أي مائلين عن الأديان كلها، إلى دين الإسلام، وكان ابن عباس يقول: حنفاء: على دين إبراهيم عليه السلام. وقيل: الحنيف: من اختتن وحج؛ قاله سعيد بن جبير. قال أهل اللغة: وأصله أنه تحنف إلى الإسلام؛ أي مال إليه. « ويقيموا الصلاة » أي بحدودها في أوقاتها. « ويؤتوا الزكاة » أي يعطوها عند محلها. « وذلك دين القيمة » أي ذلك الدين الذي أمروا به دين القيامة؛ أي الدين المستقيم. وقال الزجاج: أي ذلك دين الملة المستقيمة. و « القيمة » : نعت لموصوف محذوف. أو يقال: دين الأمة القيمة بالحق؛ أي القائمة بالحق. وفي حرف عبدالله « وذلك الدين القيم » . قال الخليل: « القيمة » جمع القيم، والقيم والقائم: واحد. وقال الفراء: أضاف الدين إلى القيمة وهو نعته، لاختلاف اللفظين. وعنه أيضا: هو من باب إضافة الشيء إلى نفسه، ودخلت الهاء للمدح والمبالغة. وقيل: الهاء راجعة إلى الملة أو الشريعة. وقال محمد بن الأشعث، الطالقاني « القيمة » ها هنا: الكتب التي جرى ذكرها، والدين مضاف إليها.

 

الآيات: 6 - 7 ( إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية، إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية )

 

قوله تعالى: « إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين » « المشركين » : معطوف على « الذين » ، أو يكون مجرورا معطوفا على « أهل » . « في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية » قرأ نافع وابن ذكوان بالهمز على الأصل في الموضعين؛ من قولهم: برأ اللّه الخلق، وهو البارئ الخالق، وقال: « من قبل أن نبرأها » [ الحديد: 22 ] . الباقون بغير همز، وشد الياء عوضا منه. قال الفراء: إن أخذت البرية من البرى، وهو التراب، فأصله غير الهمز؛ تقول منه: براه اللّه يبروه بروا؛ أي خلقه. قال القشيري: ومن قال البرية من البرى، وهو التراب، قال: لا تدخل الملائكة تحت هذه اللفظة. وقيل: البرية: من بريت القلم، أي قدرته؛ فتدخل فيه الملائكة. ولكنه قول ضعيف؛ لأنه يجب منه تخطئة من همز. وقوله « شر البرية » أي شر الخليقة. فقيل يحتمل أن يكون على التعميم. وقال قوم: أي هم شر البرية الذين كانوا في عصر النبي صلى اللّه عليه وسلم؛ كما قال تعالى: « وأني فضلتكم على العالمين » [ البقرة: 47 ] أي على عالمي زمانكم. ولا يبعد أن يكون في كفار الأمم قبل هذا من هو شر منهم؛ مثل فرعون وعاقر ناقة صالح. وكذا « خير البرية » : إما على التعميم، أو خير برية عصرهم. وقد استدل بقراءة الهمز من فضل بني آدم على الملائكة، وقد مضى في سورة « البقرة » القول فيه. وقال أبو هريرة رضي اللّه عنه: المؤمن أكرم على اللّه عز وجل من بعض الملائكة الذين عنده.

 

الآية: 8 ( جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه )

 

قوله تعالى: « جزاؤهم » أي ثوابهم. « عند ربهم » أي خالقهم ومالكهم. « جنات » أي بساتين. « عدن » أي إقامة. والمفسرون يقولون: « جنات عدن » بطنان الجنة، أي وسطها؛ تقول: عدن بالمكان يعدن [ عدنا وعدونا ] : أقام. ومعدن الشيء: مركزه ومستقره. قال الأعشى:

وإن يستضافوا إلى حكمه يضافوا إلى راجح قد عدن

« تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا » لا يظعنون ولا يموتون. « رضي الله عنهم » أي رضي أعمالهم؛ كذا قال ابن عباس. « ورضوا عنه » أي رضوا هم بثواب اللّه عز وجل. « ذلك » أي الجنة. « لمن خشي ربه » أي خاف ربه، فتناهى عن المعاصي.

 

سورة الزلزلة

 

قال العلماء: وهذه السورة فضلها كثير، وتحتوي على عظيم: روى الترمذي عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( من قرأ « إذا زلزلت » ، عدلت له بنصف القرآن. ومن قرأ « قل يا أيها الكافرون » [ الكافرون: 1 ] عدلت له بربع القرآن، ومن قرأ « قل هو الله أحد » [ الإخلاص: 1 ] عدلت له بثلث القرآن ) . قال: حديث غريب، وفي الباب عن ابن عباس. وروي عن علي رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( من قرأ إذا زلزلت أربع مرات، كان كمن قرأ القرآن كله ) . وروى عبدالله بن عمرو بن العاص قال: لما نزلت « إذا زلزلت » بكى أبو بكر؛ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: ( لولا أنكم تخطئون وتذنبون ويغفر اللّه لكم، لخلق أمة يخطئون ويذنبون ويغفر لهم، إنه هو الغفور الرحيم ] .

 

الآية: 1 ( إذا زلزلت الأرض زلزالها )

 

قوله تعالى: « إذا زلزلت الأرض » أي حركت من أصلها. كذا روى عكرمة عن ابن عباس، وكان يقول: في النفخة الأولى يزلزلها - وقال مجاهد - ؛ لقوله تعالى: « يوم ترجف الراجفة. تتبعها الرادفة » [ النازعات: 6 ] ثم تزلزل ثانية، فتخرج موتاها وهي الأثقال. وذكر المصدر للتأكيد، ثم أضيف إلى الأرض؛ كقولك: لأعطينك عطيتك؛ أي عطيتي لك. وحسن ذلك لموافقة رؤوس الآي بعدها. وقراءة العامة بكسر الزاي من الزلزال. وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر بفتحها، وهو مصدر أيضا، كالوسواس والقلقال والجرجار. وقيل: الكسر المصدر. والفتح الاسم.

 

الآية: 2 ( وأخرجت الأرض أثقالها )

 

قال أبو عبيدة والأخفش: إذا كان الميت في بطن الأرض، فهو ثقل لها. وإذا كان قوقها، فهو ثقل عليها. وقال ابن عباس ومجاهد: « أثقالها » : موتاها، تخرجهم في النفخة الثانية، ومنه قيل للجن والإنس: الثقلان. وقالت الخنساء:

أبعد ابن عمرو من آل الشر يد حلت به الأرض أثقالها

تقول: لما دفن عمرو صار حلية لأهل القبور، من شرفه وسؤدده. وذكر بعض أهل العلم قال: كانت العرب تقول: إذا كان الرجل سفاكا للدماء: كان ثقلا على ظهر الأرض؛ فلما مات حطت الأرض عن ظهرها ثقلها. وقيل: « أثقالها » كنوزها؛ ومنه الحديث: ( تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة... ) .

 

الآية: 3 ( وقال الإنسان ما لها )

 

قوله تعالى: « وقال الإنسان » أي ابن آدم الكافر. فروى الضحاك عن ابن عباس قال: هو الأسود بن عبد الأسد. وقيل: أراد كل إنسان يشاهد ذلك عند قيام الساعة في النفخة الأولى: من مؤمن وكافر. وهذا قول من جعلها في الدنيا من أشراط الساعة؛ لأنهم لا يعلمون جميعا من أشراط الساعة في ابتداء أمرها، حتى يتحققوا عمومها؛ فلذلك سأل بعضهم بعضا عنها. وعلى قول من قال: إن المراد بالإنسان الكفار خاصة، جعلها زلزلة القيامة؛ لأن المؤمن معترف بها، فهو لا يسأل عنها، والكافر جاحد لها، فلذلك يسأل عنها. « ما لها » أي ما لها زلزلت. وقيل: ما لها أخرجت أثقالها، وهي كلمة تعجيب؛ أي لأي شيء زلزلت. ويجوز أن يحيى اللّه الموتى بعد وقوع النفخة الأولى، ثم تتحرك الأرض فتخرج الموتى وقد رأوا الزلزلة وانشقاق الأرض عن الموتى أحياء، فيقولون من الهول: ما لها.

 

الآيات: 4 - 6 ( يومئذ تحدث أخبارها، بأن ربك أوحى لها، يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم )

 

قوله تعالى: « يومئذ تحدث أخبارها » « يومئذ » منصوب بقوله: « إذا زلزلت » . وقيل: بقوله « تحدث أخبارها » ؛ أي تخبر الأرض بما عمل عليها من خير أو شر يومئذ. ثم قيل: هو من قول اللّه تعالى. وقيل: من قول الإنسان؛ أي يقول الإنسان ما لها تحدث أخبارها؛ متعجبا. وفي الترمذي عن أبي هريرة قال: قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذه الآية « يومئذ تحدث أخبارها » قال: ( أتدرون ما أخبارها - قالوا اللّه ورسوله أعلم، قال: فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول عمل يوم كذا، كذا وكذا. قال: ( فهذه أخبارها ) . قال: هذا حديث حسن صحيح. قال الماوردي، قوله « يومئذ تحدث أخبارها » :

فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: « تحدث أخبارها » بأعمال العباد على ظهرها؛ قال أبو هريرة، ورواه مرفوعا. وهو قول من زعم أنها زلزلة القيامة. الثاني: تحدث أخبارها بما أخرجت من أثقالها؛ قاله يحيى بن سلام. وهو قول من زعم أنها زلزلة أشراط الساعة.

قلت: وفي هذا المعنى حديث رواه ابن مسعود عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: أنه قال: ( إذا كان أجل العبد بأرض أوثبته الحاجة إليها، حتى إذا بلغ أقصى أثره قبضه اللّه، فتقول الأرض يوم القيامة: رب هذا ما استودعتني ) . أخرجه ابن ماجه في سننه. وقد تقدم. الثالث: أنها تحدث بقيام الساعة إذا قال الإنسان ما لها؟ قال ابن مسعود. فتخبر أن أمر الدنيا قد انقضى، وأمر الآخرة قد أتى. فيكون ذلك منها جوابا لهم عند سؤالهم، ووعيدا للكافر، وإنذارا للمؤمن.

وفي حديثها بأخبارها ثلاثة أقاويل: أحدها: أن اللّه تعالى يقلبها حيوانا ناطقا؛ فتتكلم بذلك. الثاني: أن اللّه تعالى يحدث فيها الكلام. الثالث: أنه يكون منها بيان يقوم مقام الكلام. قال الطبري: تبين أخبارها بالرجة والزلزلة وإخراج الموتى.

 

قوله تعالى: « بأن ربك أوحى لها » أي إنها تحدث أخبارها أوحي اللّه « لها » ، أي إليها. والعرب تضع لام الصفة موضع « إلى » . قال العجاج يصف الأرض:

وحى لها القرار فاستقرت وشدها بالراسيات الثبت

وهذا قول أبي عبيدة: « أوحى لها » أي إليها. وقيل: « أوحى لها » أي أمرها؛ قال مجاهد. وقال السدي: « أوحى لها » أي قال لها. وقال: سخرها. وقيل: المعنى يوم تكون الزلزلة، وإخراج الأرض أثقالها، تحدث الأرض أخبارها؛ ما كان عليها من الطاعات والمعاصي، وما عمل على ظهرها من خير وشر. وروي ذلك عن الثوري وغيره.

 

قوله تعالى: « يومئذ يصدر الناس أشتاتا » أي فرقا؛ جمع شت. قيل: ءن موقف الحساب؛ فريق يأخذ جهة اليمين إلى الجنة، وفريق آخر يأخذ جهة الشمال إلى النار؛ كما قال تعالى: « يومئذ يتفرقون » [ الروم: 14 ] « يومئذ يصدعون » [ الروم: 43 ] . وقيل: يرجعون عن الحساب بعد فراغهم من الحساب. « أشتاتا » يعني فرقا فرقا. « ليروا أعمالهم » يعني ثواب أعمالهم. وهذا كما روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: ( ما من أحد يوم القيامة إلا ويلوم نفسه، فإن كان محسنا فيقول: لم لا أزددت إحسانا؟ وإن كان غير ذلك يقول: لم لا نزعت عن المعاصي ) ؟ وهذا عند معاينة الثواب والعقاب. وكان ابن عباس يقول: « أشتاتا » متفرقين على قدر أعمالهم أهل الإيمان على حدة، وأهل كل دين على حدة. وقيل: هذا الصدور، إنما هو عند النشور؛ يصدرون أشتاتا من القبور، فيصار بهم إلى موقف الحساب، ليروا أعمالهم في كتبهم، أو ليروا جزاء أعمالهم؛ فكأنهم وردوا القبور فدفنوا فيها، ثم صدروا عنها. والوارد: الجائي. والصادر: المنصرف. « أشتاتا » أي يبعثون من أقطار الأرض. وعلى القول الأول فيه تقديم وتأخير، مجازه: تحدث أخبارها، بأن ربك أوحى لها، ليروا أعمالهم. واعترض قوله « يومئذ يصدر الناس أشتاتا » متفرقين عن موقف الحساب. وقراءة العامة « ليروا » بضم الياء؛ أي ليريهم اللّه أعمالهم. وقرأ الحسن والزهري وقتادة والأعرج ونصر بن عاصم وطلحة بفتحها؛ وروي ذلك عن النبي صلى اللّه عليه وسلم.

 

الآيات: 7 - 8 ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره )

 

قوله تعالى: « فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره » كان ابن عباس يقول: من يعمل من الكفار مثقال ذرة خيرا يره في الدنيا، ولا يثاب عليه في الآخرة، ومن يعمل مثقال ذرة من شر عوقب عليه في الآخرة، مع عقاب الشرك، ومن يعمل مثقال ذرة من شر من المؤمنين يره في الدنيا، ولا يعاقب عليه في الآخرة إذا مات، ويتجاوز عنه، وإن عمل مثقال ذرة من خير يقبل منه، ويضاعف له في الآخرة. وفي بعض الحديث: ( الذرة لا زنة لها ) وهذا مثل ضربه الله تعالى: أنه لا يغفل من عمل ابن آدم صغيرة ولا كبيرة. وهو مثل قوله تعالى: « إن الله لا يظلم مثقال ذرة » [ النساء : 40 ] . وقد تقدم الكلام هناك في الذر، وأنه لا وزن له. وذكر بعض أهل اللغة أن الذر: أن يضرب الرجل بيده على الأرض، فما علق بها من التراب فهو الدر، وكذا قال ابن عباس: إذا وضعت يدك على الأرض ورفعتها، فكل واحد مما لزق به من التراب ذرة. وقال محمد بن كعب القرظي: فمن يعمل مثقال ذرة من خير من كافر، يرى ثوابه في الدنيا، في نفسه وماله وأهله وولده، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله خير. ومن يعمل، مثقال ذرة من شر من مؤمن، يرى عقوبته في الدنيا، في نفسه وماله وولده وأهله، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله شر. دليله ما رواه العلماء الأثبات من حديث أنس: أن هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يأكل، فأمسك وقال: يا رسول الله، وإنا لنرى ما عملنا من خير وشر؟ قال: ( ما رأيت مما تكره فهو مثاقيل ذر الشر، ويدخر لكم مثاقيل ذر الخير، حتى تعطوه يوم القيامة ) . قال أبو إدريس: إن مصداقه في كتاب الله: « وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم، ويعفو عن كثير » [ الشورى : 30 ] . وقال مقاتل: نزلت في رجلين، وذلك أنه لما نزل « ويطعمون الطعام على حبه » [ الإنسان : 8 ] كان أحدهم يأتيه السائل، فيستقل أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة. وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير، كالكذبة والغيبة والنظرة، ويقول: إنما أوعد الله النار على الكبائر؛ فنزلت ترغبهم في القليل من الخير أن يعطوه؛ فإنه يوشك أن يكثر، ويحذرهم اليسير من الذنب، فإنه يوشك أن يكثر؛ وقاله سعيد بن جبير. والإثم الصغير في عين صاحبه يوم القيامة أعظم من الجبال، وجميع محاسنه أقل في عينه من كل شيء.

 

قراءة العامة « يره » بفتح الياء فيهما. وقرأ الجحدري والسلمي وعيسى بن عمر وأبان عن عاصم: « يره » بضم الياء؛ أي يريه الله إياه. والأولى الاختيار؛ لقوله تعالى: « يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا » [ آل عمران: 30 ] الآية. وسكن الهاء في قوله « يره » في الموضعين هشام. وكذلك رواه الكسائي عن أبي بكر وأبي حيوة والمغيرة. واختلس يعقوب والزهري والجحدري وشيبة. وأشبع الباقون. وقيل « يره » أي يرى جزاءه؛ لأن ما عمله قد مضى وعدم فلا يرى. وأنشدوا:

إن من يعتدي ويكسب إثما وزن مثقال ذرة سيراه

ويجازى بفعله الشر شرا وبفعل الجميل أيضا جزاه

هكذا قوله تبارك ربي في إذا زلزلت وجل ثناه

 

قال ابن مسعود: هذه أحكم آية في القرآن؛ وصدق. وقد اتفق العلماء على عموم هذه الآية؛ القائلون بالعموم ومن لم يقل به. وروى كعب الأحبار أنه فال: لقد أنزل الله على محمد آيتين أحصتا ما في التوراة والإنجيل والزبور والصحف : « فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره » . قال الشيخ أبو مدين في قوله تعالى : « فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره » قال: في الحال قبل المآل. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمى هذه الآية الآية الجامعة الفاذة؛ كما في الصحيح لما سئل عن الحمر وسكت عن البغال، والجواب فيهما واحد؛ لأن البغل والحمار لا كر فيهما ولا فر؛ فلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ما في الخيل من الأجر الدائم، والثواب المستمر، سأل السائل عن الحمر، لأنهم لم يكن عندهم يومئذ بغل، ولا دخل الحجاز منها إلا بغلة النبي صلى الله عليه وسلم « الدلدل » ، التي أهداها له المقوقس، فأفتاه في الحمير بعموم الآية، وإن في الحمار مثاقيل ذر كثيرة؛ قاله ابن العربي. وفي الموطأ: أن مسكينا استطعم عائشة أم المؤمنين وبين يديها عنب؛ فقالت لإنسان: خذ حبة فأعطه إياها. فجعل ينظر إليها ويعجب؛ فقال : أتعجب! كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرة. وروي عن سعد بن أبي وقاص : أنه تصدق بتمرتين، فقبض السائل يده، فقال للسائل: ويقبل الله منا مثاقيل الذر، وفي التمرتين مثاقيل ذر كثيرة. وروى المطلب بن حنطب : أن أعرابيا سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤها فقال: يا رسول الله، أمثقال ذرة! قال: ( نعم ) فقال الأعرابي: واسوأتاه! مرارا: ثم قام وهو يقولها؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لقد دخل قلب الأعرابي الإيمان ) . وقال الحسن: قدم صعصعة عم الفرزدق على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سمع « فمن يعمل مثقال ذرة » الآيات؛ قال: لا أبالي ألا أسمع من القرآن غيرها، حسبي، فقد انتهت الموعظة؛ ذكره الثعلبي. ولفظ الماوردي : وروى أن صعصة ابن ناجية جد الفرزدق أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستقرئه، فقرأ عليه هذه الآية؛ فقال صعصعة: حسبي حسبي؛ إن عملت مثقال ذرة شرا رأيته. وروى معمر عن زيد بن أسلم: أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: علمني مما علمك الله. فدفعه إلى رجل يعلمه؛ فعلمه « إذا زلزلت - حتى إذا بلغ - فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره » قال: حسبي. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( دعوه فإنه قد فقه ) . ويحكي أن أعرابيا أخر « خيرا يره » فقيل: قدمت وأخرت. فقال:

خذا بطنَ هَرشى أو قفاها فإنه كلا جانبي هرشى لهن طريق

 

سورة العاديات

 

الآيات: 1 - 2 ( والعاديات ضبحا، فالموريات قدحا )

 

قوله تعالى: « والعاديات ضبحا » أي الأفراس تعدو. كذا قال عامة المفسرين وأهل اللغة؛ أي تعدو في سبيل الله فتضبح. قال قتادة: تضبح إذا عدت؛ أي تحمحم. وقال الفراء: الضبح: صوت أنفاس الخيل إذا عدون. ابن عباس: ليس شيء من الدواب يضبح غير الفرس والكلب والثعلب. وقيل: كانت تكعم لئلا تصهل، فيعلم العدو بهم؛ فكانت تتنفس في هذه الحال بقوة. قال ابن العربي: أقسم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال: « يس. والقرآن الحكيم » [ يس: 1 ] ، وأقسم بحياته فقال: « لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون » [ الحجر: 72 ] ، وأقسم بخيله وصهيلها وغبارها، وقدح حوافرها النار من الحجر، فقال: « والعاديات ضبحا » .. . الآيات الخمس. وقال أهل اللغة: وطعنة ذات رشاش واهيه طعنتها عند صدور العادية يعني الخيل. وقال آخر:

والعاديات أسابي الدماء بها كأن أعناقها أنصاب ترجيب

يعني الخيل. وقال عنترة:

والخيل تعلم حين تضبح في حياض الموت ضبحا

وقال آخر:

لست بالتبع اليماني إن لم تضبح في سواد العراق

وقال أهل اللغة: وأصل الضبح والضباح للثعالب؛ فاستعير للخيل. وهو من قول العرب: ضبحته النار: إذا غيرت لونه ولم تبالغ فيه. وقال الشاعر:

فلما أن تلهوجنا شواء به اللهبان مقهورا ضبيحا

وأنضبح لونه: إذا تغير إلى السواد قليلا. وقال:

علقتها قبل انضباح لوني

وإنما تضبح هذه الحيوانات إذا تغيرت حالها من فزع وتعب أو طمع. ونصب « ضبحا » على المصدر؛ أي والعاديات تضبح ضبحا. والضبح أيضا الرماد. وقال البصريون: « ضبحا » نصب على الحال. وقيل: مصدر في موضع الحال. قال أبو عبيدة: ضبحت الخيل ضبحا مثل ضبعت؛ وهو السير. وقال أبو عبيدة: الضبح والضبع: بمعنى العدو والسير. وكذا قال المبرد: الضبح مد أضباعها في السير. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى أناس من بين كنانة، فأبطأ عليه خبرها، وكان استعمل عليهم المنذر بن عمرو الأنصاري، وكان أحد النقباء؛ فقال المنافقون : إنهم قتلوا؛ فنزلت هذه السورة إخبارا للنبي صلى الله عليه وسلم بسلامتها، وبشارة له بإغارتها على القوم الذين بعث إليهم. وممن قال: إن المراد بالعاديات الخيل، ابن عباس وأنس والحسن ومجاهد. والمراد الخيل التي يغزو عليها المؤمنون. وفي الخبر: ( من لم يعرف حرمة فرس الغازي، فيه شعبة من النفاق ) . وقول ثان: أنها الإبل؛ قال مسلم : نازعت فيها عكرمة فقال عكرمة: قال ابن عباس هي الخيل. وقلت: قال علي هي الإبل في الحج، ومولاي أعلم من مولاك. وقال الشعبي: تمارى علي وابن عباس في « العاديات » ، فقال علي: هي الإبل تعدو في الحج. وقال ابن عباس: هي الخيل؛ ألا تراه يقول « فأثرن به نقعا » [ العاديات : 4 ] فهل تثير إلا بحوافرها! وهل تضبح الإبل! فقال علي: ليس كما فلت، لقد رأيتنا يوم بدر وما معنا إلا فرس أبلق للمقداد، وفرس لمرثد بن أبي مرثد؛ ثم قال له علي: أتفتي الناس بما لا تعلم! والله إن كانت لأول غزوة في الإسلام وما معنا إلا فرسان: فرس للمقداد، وفرس للزبير؛ فكيف تكون العاديات ضبحا! إنما العاديات الإبل من عرفة إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى عرفة. قال ابن عباس: فرجعت إلى قول علي، وبه قال ابن مسعود وعبيد بن عمير ومحمد بن كعب والسدي. ومنه قول صفية بنت عبدالمطلب :

فلا والعاديات غداه جمع بأيديها إذا سطع الغبار

يعني الإبل. وسميت العاديات لاشتقاقها من العدو، وهو تباعد الأرجل في سرعة المشي. وقال آخر:

رأى صاحبي في العاديات نجيبة وأمثالها في الواضعات القوامس

ومن قال هي الإبل فقوله « ضبحا » بمعنى ضبعا؛ فالحاء عنده مبدلة من العين؛ لأنه يقال: ضبعت الإبل وهو أن تمد أعناقها في السير. وقال المبرد: الضبع مد أضباعها في السير. والضبح أكثرها ما يستعمل في الخيل. والضبع في الإبل. وقد تبدل الحاء من العين. أبو صالح: الضبح من الخيل : الحمحمة، ومن الإبل التنفس. وقال عطاء: ليس شيء من الدواب يضبح إلا الفرس والثعلب والكلب؛ وروي عن ابن عباس. وقد تقدم عن أهل اللغة أن العرب تقول: ضبح الثعلب؛ وضبح في غير ذلك أيضا. قال توبة:

ولو أن ليلى الأخيلية سلمت علي ودوني تربة وصفائح

لسلمت تسليم البشاشة أو زقا إليها صدى من جانب القبر ضابح

زقا الصدى يزقو زقاء: أي صاح. وكل زاق صائح. والزقية: الصيحة.

 

قوله تعالى: « فالموريات قدحا » قال عكرمة وعطاء والضحاك: هي الخيل حين توري النار بحوافرها، وهي سنابكها؛ وروي عن ابن عباس. وعنه أيضا: أورت بحوافرها غبارا. وهذا يخالف سائر ما روي عنه في قدح النار؛ وإنما هذا في الإبل. وروى ابن نجيح عن مجاهد « والعاديات ضبحا. فالموريات قدحا » قال قال ابن عباس : هو في القتال وهو في الحج. ابن مسعود: هي الإبل تطأ الحصى، فتخرج منها النار. وأصل القدح الاستخراج؛ ومنه قدحت العين: إذا أخرجت منها الماء الفاسد. واقتدحت بالزند. واقتدحت المرق: غرفته. وركى قدوح : تغترف باليد. والقديح: ما يبقى في أسفل القدر، فيغرف بجهد. والمقدحة: ما تقدح به النار. والقداحة والقداح : الحجر الذي يوري النار. يقال : ورى الزند ( بالفتح ) يري وريا: إذا خرجت ناره. وفيه لغة أخرى: وري الزند ( بالكسر ) يري فيهما. وقد مضى هذا في سورة « الواقعة » . و « قدحا » انتصب بما انتصب به « ضبحا » . وقيل : هذه الآيات في الخيل؛ ولكن إيراءها: أن تهيج الحرب بين أصحابها وبين عدوهم. ومنه يقال للحرب إذا ألتحمت : حمي الوطيس. ومنه قوله تعالى: « كلما أو قدوا نارا للحرب أطفأها الله » [ المائدة: 64 ] . وروي معناه عن ابن عباس أيضا، وقال قتادة. وعن ابن عباس أيضا، وقاله قتادة. وعن ابن عباس أيضا: أن المراد بالموريات قدحا: مكر الرجال في الحرب؛ وقاله مجاهد وزيد بن أسلم. والعرب تقول إذا أراد الرجل أن يمكر بصاحبه: والله لأمكرن بك، ثم لأورين لك. وعن ابن عباس أيضا: هم الذين يغزون فيورون نيرانهم بالليل، لحاجتهم وطعامهم. وعنه أيضا: أنها نيران المجاهدين إذا كثرت نارها إرهابا. وكل من قرب من العدو يوقد نيرانا كثيرة ليظنهم العدو كثيرا. فهذا إقسام بذلك. قال محمد بن كعب: هي النار تجمع. وقيل هي أفكار الرجال توري نار المكر والخديعة. وقال عكرمة : هي ألسنة الرجال توري النار من عظيم ما تتكلم به، ويظهر بها، من إقامة الحجج، وإقامة الدلائل، وإيضاح الحق، وإبطال الباطل. وروى ابن جريح عن بعضهم قال: فالمنجحات أمرا وعملا، كنجاح الزند إذا أوري.

قلت: هذه الأقوال مجاز؛ ومنه قولهم: فلان يوري زناد الضلالة. والأول: الحقيقة، وأن الخيل من شدة عدوها تقدح النار بحوافرها. قال مقاتل: العرب تسمي تلك النار نار أبي حباحب، وكان أبو حباحب شيخا من مضر في الجاهلية، من أبخل الناس، وكان لا يوقد نارا لخبز ولا غيره حتى تنام العيون، فيوقد نويرة تقدم مرة وتخمد أخرى؛ فإن استيقظ لها أحد أطفأها، كراهية أن ينتفع بها أحد. فشبهت العرب هذه النار بناره؛ لأنه لا ينتقع بها. وكذلك إذا وقع السيف على البيضة فاقتدحت نارا، فكذلك يسمونها. قال النابغة:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب

تَقُدَّ السَّلوقي المضاعفَ نسجُه وتوقد بالصُفاح نار الحُباحِب

 

الآية: 3 ( فالمغيرات صبحا )

 

الخيل تغير على العدو عند الصبح؛ عن ابن عباس وأكثر المفسرين. وكانوا إذا أرادوا الغارة سروا ليلا، ويأتون العدو صبحا؛ لأن ذلك وقت غفلة الناس. ومنه قوله تعالى: « فساء صباح المنذرين » [ الصافات : 177 ] . وقيل : لعزهم أغاروا نهارا، و « صبحا » على هذا، أي علانية، تشبيها بظهور الصبح. وقال ابن مسعود وعلي رضي الله عنهما : هي الإبل تدفع بركبانها يوم النحر من منى إلى جمع. والسنة ألا تدفع حتى تصبح؛ وقاله القرطبي. والإغارة: سرعة السير؛ ومنه قولهم: أشرق ثبير، كيما نغير.

 

الآية: 4 ( فأثرن به نقعا )

 

أي غبارا؛ يعني الخيل تثير الغبار بشدة العدو في المكان الذي أغارت به. قال عبدالله بن رواحة:

عدمت بنيتي إن لم تروها تثير النقع من كنفي كداء

والكناية في « به » ترجع إلى المكان أو إلى الموضع الذي تقع فيه الإغارة. وإذا علم المغني جاز أن يكني عما لم يجر له ذكر بالتصريح؛ كما قال « حتى توارت بالحجاب » [ ص: 32 ] . وقيل: « فأثرن به » ، أي بالعدو « نقعا » . وقد تقدم ذكر العدو. وقيل: النقع: ما يبين مزدلفة إلى مني؛ قاله محمد ابن كعب القرظي. وقيل: إنه طريق الوادي؛ ولعله يرجع إلى الغبار المثار من هذا الموضع. وفي الصحاح: النقع: الغبار، والجمع: نقاع. والنقع: محبس الماء، وكذلك ما اجتمع في البئر منه. وفي الحديث: أنه نهى أن يمنع نقع البئر. والنقع الأرض الحرة الطين يستنقع فيها الماء؛ والجمع: نقاع وأنقع؛ مثل بحر وبحار وأبحر.

قلت: وقد يكون النقع رفع الصوت، ومنه حديث عمر حين قيل له: إن النساء قد اجتمعن يبكين على خالد بن الوليد؛ فقال: وما على نساء بني المغيرة أن يسفكن من دموعهن وهن جلوس على أبي سليمان، ما لم يكن نقع، ولا لقلة. قال أبو عبيد: يعني بالنقع رفع الصوت؛ على هذا رأيت قول الأكثرين من أهل العلم؛ ومنه قول لبيد:

فمتى ينقع صراخ صادق يحلبوها ذات جرس وزجل

ويروى « يحلبوها » أيضا. يقول:متى سمعوا صراخا أحلبوا الحرب، أي جمعوا لها. وقوله « ينقع صراخ » : يعني رفع الصوت. وقال الكسائي : قوله « نقع ولا لقلقة » النقع: صنعه الطعام؛ يعني في المأتم. يقال منه: نقعت أنقع نقعا. قال أبو عبيد: ذهب بالنقع إلى النقيعة؛ وإنما النقيعة عند غيره من العلماء: صنعة الطعام عند القدوم من سفر، لا في المأتم. وقال بعضهم: يريد عمر بالنقع: وضع التراب على الرأس؛ يذهب إلى أن النقع هو الغبار. ولا أحسب عمر ذهب إلى هذا، ولا خافه منهن، وكيف يبلغ خوفه ذا وهو يكره لهن القيام. فقال : يسفكن من دموعهن وهن جلوس. قال بعضهم : النقع : شق الجيوب؛ وهو الذي لا أدري ما هو من الحديث ولا أعرفه، وليس النقع عندي في الحديث إلا الصوت الشديد، وأما اللقطة: فشدة الصوت، ولم أسمع فيه اختلافا. وقرأ أبو حيوة « فأثرن » بالتشديد؛ أي أرت آثار ذلك. ومن خفف فهو من أثار: إذا حرك؛ ومنه « وأثاروا الأرض » [ الروم: 9 ] .

 

الآية: 5 ( فوسطن به جمعا )

 

قوله تعالى: « جمعا » مفعول بـ « وسطن به جمعا » ؛ أي فوسطن بركبانهن العدو؛ أي الجمع الذي أغاروا عليهم. وقال ابن مسعود: « فوسطن به جمعا » : يعني مزدلفة؛ وسميت جمعا لاجتماع الناس. ويقال: وسطت القوم أسطهم وسطا؛ أي صرت وسطهم. وقرأ علي رضي الله عنه « فوسطن » بالتشديد، وهي قراءة قتادة وابن مسعود وأبي رجاء؛ لغتان بمعنى، يقال: جعلها الجمع قسمين. ( بالتشديد والتخفيف ) وتوسطهم:بمعنى واحد. وقيل: معنى التشديد: جعلها الجمع قسمين. والتخفيف: صرن في وسط الجمع؛ وهما يرجعان إلى معنى الجمع.

 

الآية: 6 ( إن الإنسان لربه لكنود )

 

هذا جواب لنعم القسم؛ أي طبع الإنسان على كفران النعمة. قال ابن عباس: « لكنود » لكفور جحود لنعم الله. وكذلك قال الحسن. وقال: يذكر المصائب وينسى النعم. أخذه الشاعر فنظمه:

يا أيها الظالم في فعله والظلم مردود على من ظلم

إلى متى انت وحتى متى تشكو المصيبات وتنسى النعم

وروى أبو أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الكنود، هو الذي يأكل وحده، ويمنع رفده، ويضرب عده ) . وروى ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ألا أنبكم بشراركم ) ؟ قالوا بلى يا رسول الله. قال: ( من نزل وحده، ومنع رفده، وجلد عبده ) . خرجهما الترمذي الحكيم في نوادر الأصول. وقد روي عن عباس أيضا أنه قال: الكنود بلسان كندة وحضر موت: العاصي، وبلسان ربيعة ومضر: الكفور. وبلسان كنانة: البخيل السيئ الملكة؛ وقاله مقاتل: وقال الشاعر:

كنود لنعماء الرجال ومن يكن كنودا لنعماء الرجال يبعد

أي كفور. ثم قيل: هو الذي يكفر باليسير، ولا يشكر الكثير. وقيل: الجاحد للحق. وقيل: إنما سميت كندة كندة، لأنها جحدت أبها. وقال إبراهيم بن هرمة الشاعر:

دع البخلاء إن شمخوا وصدوا وذكرى بخل غانية كنود

وقيل: الكنود: من كند إذا قطع؛ كأنه يقطع ما ينبغي أن يواصله من الشكر. ويقال: كند الحبل: إذا قطعه. قال الأعشى:

أميطي تميطي بصلب الفؤاد وصول حبال وكنادها

فهذا يدل على القطع. ويقال: كند يكند كنودا: أي كفر النعمة وجحدها، فهو كنود. وامرأة كنود أيضا، وكند مثله. قال الأعشى:

أحدث لها تحدث لوصلك إنها كند لوصل الزائر المعتاد

أي كفور للمواصلة. وقال ابن عباس: الإنسان هنا الكافر؛ يقول إنه لكفور؛ ومنه الأرض الكنود التي لا تنبت شيئا. وقال الضحاك: نزلت في الوليد بن المغيرة. قال المبرد: الكنود: المانع لما عليه. وأنشد لكثير:

أحدث لها تحدث لوصلك إنها كند لوصل الزائر المعتاد

وقال أبو بكر الواسطي: الكنود: الذي ينفق نعم الله في معاصي الله. وقال أبو بكر الوراق: الكنود: الذي يرى النعمة من نفسه وأعوانه. وقال الترمذي: الذي يرى النعمة ولا يرى المنعم. وقال ذو النون المصري: الهلوع والكنود: هو الذي يرى النعمة ولا يرى النعمة ولا يرى المنعم. وقيل: هو الحقود الحسود. وقيل: هو الجهول لقدره. وفي الحكمة: من جهل قدرة: هتك ستره.

قلت: هذه الأقوال كلها ترجع إلى معنى الكفران والجحود. وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم معنى الكنود بخصال مذمومة، وأحوال غير محمودة؛ فإن صح فهو أعلى ما يقال، ولا يبقى لأحد معه مقال.

 

الآية: 7 ( وإنه على ذلك لشهيد )

 

أي وإن الله عز وجل ثناؤه على ذلك من ابن آدم لشهيد. كذا روى منصور عن مجاهد؛ وهو قول أكثر المفسرين، وهو قول ابن عباس. وقال الحسن وقتادة ومحمد بن كعب: « وإنه » أي وإن الإنسان لشاهد على نفسه بما يصنع؛ وروي عن مجاهد أيضا.

 

الآية: 8 ( وإنه لحب الخير لشديد )

 

قوله تعالى: « وإنه » أي الإنسان من غير خلاف. « لحب الخير » أي المال؛ ومنه قوله تعالى : « إن ترك خيرا » [ البقرة: 180 ] . وقال عدي:

ماذا ترجي النفوس من طلب الخير وحب الحياة كاربها

« لشديد » أي لقوي في حبه للمال. وقيل: « لشديد » لبخيل. ويقال للبخيل: شديد ومتشدد. قال طرفة:

أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقلية مال الفاحش المتشدد

يقال: اعتامه واعتماه؛ أي أختاره. والفاحش: البخيل أيضا. ومنه قوله تعالى: « ويأمركم بالفحشاء » [ البقرة: 268 ] أي البخل. قال ابن زيد: سمى الله المال خيرا؛ وعسى أن يكون شرا وحراما؛ ولكن الناس يعدونه خيرا، فسماه الله خيرا لذلك. وسمى الجهاد سواء، فقال: « فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء » [ آل عمران: 174 ] على ما يسميه الناس. قال الفراء: نظم الآية أن يقال: وإنه لشديد الحب للخير؛ فلما تقدم الحب قال: شديد، وحذف من آخره ذكر الحب؛ لأنه قد جرى ذكره، ولرؤس الآي؛ كقوله تعالى: « في يوم عاصف » [ إبراهيم: 18 ] والعصوف: للريح لا الأيام، فلما جرى ذكر الريح؛ كأنه قال: في يوم عاصف الريح.

الآية [ 9 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات: 9 - 11 ( أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور، إن ربهم بهم يومئذ لخبير )

 

قوله تعالى: « أفلا يعلم » أي ابن آدم « إذا بعثر » أي أثير وقلب وبحث، فأخرج ما فيها. قال أبو عبيدة: بعثرت المتاع: جعلت أسفله أعلاه. وعن محمد بن كعب قال: ذلك حين يبعثون. الفراء: سمعت بعض أعراب بني أسد يقرأ: « بحثر » بالحاء مكان العين؛ وحكاه الماوردي عن ابن مسعود، وهما بمعنى. « وحصل ما في الصدور » أي ميز ما فيها من خير وشر؛ كذا قال المفسرون: وقال ابن عباس: أبرز. وقرأ عبيد بن عمير وسعيد بن جبير ويحيى بن يعمر ونصر بن عاصم « وحصل » بفتح الحاء وتخفيف الصاد وفتحها؛ أي ظهر. « إن ربهم بهم يومئذ لخبير » أي عالم لا يخفى عليه منهم خافية. وهو عالم بهم في ذلك اليوم وفي غيره، ولكن المعنى أنه يجازيهم في ذلك اليوم. وقوله : « إذا بعثر » العامل في « إذا » : « بعثر » ، ولا يعمل فيه « يعلم » ؛ إذ لا يراد به العلم من الإنسان ذلك الوقت، إنما يراد في الدنيا. ولا يعمل فيه « خبير » ؛ لأن ما بعد « إن » لا يعمل فيما قبلها. والعامل في « يومئذ » : « خبير » ، وإن فصلت اللام بينهما؛ لأن موضع اللام الابتداء. وإنما دخلت في الخبر لدخول « إن » على المبتدأ. ويروى أن الحجاج قرأ هذه السورة على المنبر يحضهم على الغزو، فجرى على لسانه: « أن ربهم » بفتح الألف، ثم استدركها فقال: « خبير » بغير لام. ولولا اللام لكانت مفتوحة، لوقوع العلم عليها. وقرأ أبو السمال « أن ربهم بهم يومئذ خبير » . والله سبحانه وتعالى أعلم.

 

سورة القارعة

 

الآيات: 1 - 3 ( القارعة، ما القارعة، وما أدراك ما القارعة )

 

قوله تعالى: « القارعة، ما القارعة » أي القيامة والساعة؛ كذا قال عامة المفسرين. وذلك أنها تقرع الخلائق بأهوالها وأفزاعها. وأهل اللغة يقولون: تقول العرب قرعتهم القارعة، وفقرتهم الفاقرة؛ إذا وقع بهم أمر فظيع. قال ابن أحمر:

وقارعة من الأيام لولا سبيلهم لزاحت عنك حينا

وقال آخر:

متى تقرع بمروتكم نسؤكم ولم توقد لنا في القدر نار

وقال تعالى: « ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة » [ الرعد: 31 ] وهي الشديدة من شدائد الدهر. « ما القارعة » استفهام؛ أي أي شيء هي القارعة؟ وكذا « وما أدراك ما القارعة » كلمة استفهام على جهة التعظيم والتفخيم لشأنها، كما قال: « الحاقة. ما الحاقة. وما أدراك ما الحاقة » [ الحاقة: 1 ] على ما تقدم.

 

الآية: 4 ( يوم يكون الناس كالفراش المبثوث )

 

قوله تعالى: « يوم » منصوب على الظرف، تقديره: تكون القارعة يوم يكون الناس كالفراش المبثوث. قال قتادة: الفراش الطير الذي يتساق في النار والسراج. الواحد فراشة، وقاله أبو عبيدة. وقال الفراء: إنه الهمج الطائر، من بعوض وغيره؛ ومنه الجراد. ويقال: هو أطيش من فراشه. وقال:

طويش من نفر أطياش أطيش من طائرة الفراش

وقال آخر:

وقد كان أقوام رددت قلوبهم إليهم وكانوا كالفراش من الجهل

وفي صحيح مسلم عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( مثلي ومثلكم كمثل رجل أو قد نارا، فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، وهو يذبهن عنها، وأنا أخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تفلتون من يدي ) . وفي الباب عن أبي هريرة. والمبثوث المتفرق. وقال في موضع آخر: « كأنهم جراد منتشر » [ القمر: 7 ] . فأول حالهم كالفراش لا وجه له، يتحير في كل وجه، ثم يكونون كالجراد، لأن لها وجها تقصده. والمبثوث: المتفرق والمنتشر. وإنما ذكر على اللفظ: كقوله تعالى: « أعجاز نخل منقعر » [ القمر: 20 ] ولو قال المبثوثة [ فهو ] كقوله تعالى: « أعجاز نخل خاوية » [ الحاقة: 7 ] . وقال ابن عباس والفراء: « كالفراش المبثوث » كغوغاء الجراد، يركب بعضها بعضا. كذلك الناس، يجول بعضهم في بعض إذا بعثوا.

 

الآية: 5 ( وتكون الجبال كالعهن المنفوش )

 

أي الصوف الذي ينفش باليد، أي تصير هباء وتزول؛ كما قال جل ثناؤه في موضع آخر: « هباء منبثا » [ الواقعة: 6 ] وأهل اللغة يقولون: العهن الصوف المصبوغ. وقد مضى في سورة « سأل سائل » .

 

الآيات: 6 - 11 ( فأما من ثقلت موازينه، فهو في عيشة راضية، وأما من خفت موازينه، فأمه هاوية، وما أدراك ما هيه، نار حامية )

 

قد تقدم القول في الميزان في « الأعراف والكهف والأنبياء » . وأن له كفة ولسانا توزن فيه الصحف المكتوب فيها الحسانات والسيئات. ثم قيل: إنه ميزان واحد بيد جبريل يزن أعمال بني آدم، فعبر عنه بلفظ الجوع. وقيل: موازين، كما قال:

فلكل حادثة لها ميزان

وقد ذكرناه فيما تقدم. وذكرناه أيضا في كتاب « التذكرة » وقيل: إن الموازين الحجج والدلائل، قاله عبدالعزيز بن يحيى، واستشهد بقول الشاعر:

قد كنت قبل لقائكم ذا مرة عندي لكل مخاصم ميزانه

« عيشة راضية » أي عيش مرضي، يرضاه صاحبه. وقيل: « عيشة راضية » أي فاعلة للرضا،وهو اللين والانقياد لأهلها. فالفعل للعيشة لأنها أعطت الرضا من نفسها، وهو اللين والانقياد. فالعيشة كلمة تجمع النعم التي في الجنة، فهي فاعلة للرضا، كالفرش المرفوعة، وارتفاعها مقدار مائة عام، فإذا دنا منها ولي الله أتضعت حتى يستوي عليها، ثم ترتفع كهيئتها، ومثل الشجرة فرعها، كذلك أيضا من الارتفاع، فإذا أشتهى ولي الله ثمرتها تدلت إليه، حتى يتناولها ولي الله قاعدا وقائما، وذلك قوله تعالى: « قطوفها دانية » [ الحاقة: 23 ] . وحيثما مشى أو ينتقل من مكان إلى مكان، جرى معه نهر حيث شاء، علوا وسفلا، وذلك قوله تعالى: « يفجرونها تفجيرا » [ الإنسان: 6 ] . فيروى في الخبر ( إنه يشير بقضيبه فيجري من غير أخدود حيث شاء من قصوره وفي مجالسه ) . فهذه الأشياء كلها عيشة قد أعطت الرضا من نفسها، فهي فاعلة للرضا، وهي أنزلت وانقادت بذلا وسماحة. « فأمه هاوية » يعني جهنم. وسماها أما، لأنه يأوي إليها كما يأوي إلى أمه، قاله ابن زيد. ومنه قول أمية بن أبي الصلت: فالأرض معقلنا وكانت أمنا فيها مقابرنا وفيها نولد وسميت النار هاوية، لأنه يهوي فيها مع بعد قعرها. ويروى أن الهاوية اسم الباب الأسفل من النار. وقال قتادة: معنى « فأمه هاوية » فمصيره إلى النار. عكرمة: لأنه يهوي فيها على أم رأسه. الأخفش: « أمه » : مستقره، والمعنى متقارب. وقال الشاعر:

يا عمرو لو نالتك أرماحنا كنت كمن تهوي به الهاوية

والهاوية: المهواة. وتقول: هوت أمه، فهي هاوية، أي ثاكلة، قال كعب بن سعد الغنوي:

هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا وماذا يؤدي الليل حين يؤوب

والمهوي والمهواة: ما بين الجبلين، ونحو ذلك. وتهاوى القوم في المهواة: إذا سقط بعضهم في إثر بعض. « وما أدراك ما هيه » الأصل « ما هي » فدخلت الهاء للسكت. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وابن محيصن « ما هي نار » بغير هاء في الوصل، ووقفوا بها. وقد مضى في سورة الحاقة بيانه. « نار حامية » أي شديدة الحرارة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءا من حر جهنم ) قالوا: والله إن كانت لكافية يا رسول الله. قال ( فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا، كلها مثل حرها ) . وروي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: إنما ثقل ميزان من ثقل ميزانه، لأنه وضع فيه الحق، وحق لميزان يكون فيه الحق أن يكون ثقيلا. وإنما خف ميزان من خف ميزانه، لأنه وضع فيه الباطل، وحق لميزان يكون فيه الباطل أن يكون خفيفا. وفي الخبر عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن الموتى يسألون الرجل يأتيهم عن رجل مات قبله، فيقول ذلك مات قبلي، أما بربكم؟ فيقولون لا والله، فيقول إنا لله وإنا إليه راجحون! ذهب به إلى أمه الهاوية، فبئست الأم، وبئست المربية ) . وقد ذكرناه بكماله في كتاب « التذكرة » ، والحمد لله.

 

سورة التكاثر

 

الآيات: 1 - 2 ( ألهاكم التكاثر، حتى زرتم المقابر )

 

قوله تعالى: « ألهاكم التكاثر » « ألهاكم » شغلكم. قال:

فألهيتها عن ذي تمائم مغيل

أي شغلكم المباهاة بكثرة المال والعدد عن طاعة الله، حتى متم ودفنتم في المقابر. وقيل « ألهاكم » : أنساكم. « التكاثر » أي من الأموال والأولاد، قال ابن عباس والحسن. وقال قتادة: أي التفاخر بالقبائل والعشائر. وقال الضحاك: أي ألهاكم التشاغل بالمعاش والتجارة. يقال: لهيت عن كذا ( بالكسر ) ألهى لهيا ولهيانا: إذا سلوت عنه، وتركت ذكره، وأضربت عنه. وألهاه: أي شغله. ولهاه به تلهية أي علله. والتكاثر: المكاثرة. قال مقاتل وقتادة وغيرهما: نزلت في اليهود حين قالوا: نحن أكثر من بني فلان، وبنو فلان أكثر من بني فلان، ألهاهم ذلك حتى ماتوا ضلالا. وقال ابن زيد: نزلت في فخذ من الأنصار. وقال ابن عباس ومقاتل والكلبي: نزلت في حيين من قريش: بني عبد مناف، وبني: سهم، تعادوا وتكاثروا بالسادة والأشراف في الإسلام، فقال كل حي منهم نحن أكثر سيدا، وأعز عزيزا، وأعظم نفرا، وأكثر عائذا، فكثر بنو عبد مناف سهما. ثم تكاثروا بالأموات، فكثرتهم سهم، فنزلت « ألهاكم التكاثر » بأحيائكم فلم ترضوا « حتى زرتم المقابر » مفتخرين بالأموات. وروى سعيد عن قتادة قال: كانوا يقولون نحن أكثر من بني فلان، ونحن أعد من بني فلان؛ وهم كل يوم يتساقطون إلى آخرهم، والله مازالوا كذلك حتى صاروا من أهل القبور كلهم. وعن عمرو بن دينار: حلف أن هذه السورة نزلت في التجار. وعن شيبان عن قتادة قال: نزلت في أهل الكتاب.

قلت: الآية تعم جميع ما ذكر وغيره. وفي صحيح مسلم عن مطرف عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ « ألهاكم التكاثر » قال: ( يقول ابن آدم: مالي مالي! وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت ( وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس ) . وروى البخاري عن ابن شهاب: أخبرني أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لو أن لابن آدم واديا من ذهب، لأحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب ) . قال ثابت عن أنس عن أبي: كنا نرى هذا من القرآن، حتى نزلت « ألهاكم التكاثر » . قال ابن العربي: وهذا نص صحيح مليح، غاب عن أهل التفسير فجهلوا والحمد لله على المعرفة. وقال ابن عباس: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم « ألهاكم التكاثر » قال: ( تكاثر الأموال: جمعها من غير حقها، ومنعها من حقها، وشدها في الأوعية ) .

 

قوله تعالى: « حتى زرتم المقابر » أي حتى أتاكم الموت، فصرتم في المقابر زوار، ترجعون منها كرجوع الزائر إلى منزله من جنة أو نار. يقال لمن مات: قد زار قبره. وقيل: أي ألهاكم التكاثر حتى عددتم الأموات، على ما تقدم. وقيل: هذا وعيد. أي أشغلتم بمفاخرة الدنيا، حتى تزوروا القبور، فتروا ما ينزل بكم من عذاب الله عز وجل. « المقابر » جمع مقبرة ومقبرة ( بفتح الباء وضمها ) . والقبور: جمع القبر قال:

أرى أهل القصور إذا أميتوا بنوا فوق المقابر بالصخور

أبوا إلا مباهاة وفخرا على الفقراء حتى في القبور

وقد جاء في الشعر ( المقبر ) قال:

لكل أناس مقبر بفنائهم فهم ينقصون والقبور تزيد

وهو المقبري والمقبري: لأبي سعيد المقبري؛ وكان يسكن المقابر. وقبرت الميت أقبره وأقبره قبرا، أي دفنته. وأقبرته أي أمرت بأن يقبر. وقد مضى في سورة « عبس » القول فيه. والحمد لله.

 

لم يأت في التنزيل ذكر المقابر إلا في هذه السورة. وزيارتها من أعظم الدواء للقلب القاسي؛ لأنها تذكر الموت والآخرة. وذلك يحمل على قصر الأمل، والزهد في الدنيا، وترك الرغبة فيها. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروا القبور، فإنها تزهد في الدنيا، وتذكر الآخرة ) رواه ابن مسعود؛ أخرجه ابن ماجه. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: ( فإنها تذكر الموت ) . وفي الترمذي عن بريدة: ( فإنها تذكر الآخرة ) . قال: هذا حديث حسن صحيح. وفيه عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور. قال: وفي الباب عن ابن عباس وحسان بن ثابت. قال أبو عيسى: وهذا حديث حسن صحيح. وقد رأى بعض أهل العلم أن هذا كان قبل أن يرخص النبي صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور؛ فلما رخص دخل في رخصته الرجال والنساء. وقال بعضهم: إنما كره زيارة القبور للنساء لقلة صبرهن، وكثرة جزعهن.

قلت: زيارة القبور للرجال متفق عليه عند العلماء، مختلف فيه للنساء. أما الشواب فحرام عليهن الخروج، وأما القواعد فمباح لهن ذلك. وجائز لجميعهن. ذلك إذا انفردن بالخروج عن الرجال؛ ولا يختلف في هذا إن شاء الله. وعلى هذا المعنى يكون قوله: ( زوروا القبور ) عاما. وأما موضع أو وقت يخشى فيه الفتنة من اجتماع الرجال والنساء، فلا يحل ولا يجوز. فبينا الرجل يخرج ليعتبر، فيقع بصره على امرأة فيفتتن، وبالعكس فيرجع كل واحد من الرجال والنساء مأزورا غير مأجور. والله أعلم.

 

قال العلماء: ينبغي لمن أراد علاج قلبه وانقياده بسلاسل القهر إلى طاعة ربه، أن يكثر من ذكر هاذم اللذات، ومفرق الجماعات، وموتم البنين والبنات، ويواظب على مشاهدة المحتضرين، وزيارة قبور أموات المسلمين. فهذه ثلاثة أمور، ينبغي لمن قسا قلبه، ولزمه ذنبه، أن يستعين بها على دواء دائه، ويستصرخ بها على فتن الشيطان وأعوانه؛ فإن أنتفع بالإكثار من ذكر الموت، وأنجلت به قساوة قلبه فذاك، وإن عظم عليه ران قلبه، واستحكمت فيه دواعي الذنب؛ فإن مشاهدة المحتضرين، وزيارة قبور أموات المسلمين، تبلغ في دفع ذلك ما لا يبلغه الأول؛ لأن ذكر الموت إخبار للقلب بما إليه المصير، وقائم له مقام التخويف والتحذير. وفي مشاهدة من أحتضر، وزيارة قبر من مات من المسلمين معاينة ومشاهدة؛ فلذلك كان أبل من الأول؛ قال صلى الله عليه وسلم: ( ليس الخبر كالمعاينة ) رواه ابن عباس. فأما الاعتبار بحال المحتضرين، فغير ممكن في كل الأوقات، وقد لا يتفق لمن أراد علاج قلبه في ساعة من الساعات. وأما زيارة القبور فوجودها أسرع، والانتفاع بها أليق وأجدر. فينبغي لمن عزم على الزيارة، أن يتأدب بآدابها، ويحضر قلبه في إتيانها، ولا يكون حظه منها التطواف على الأحداث فقط؛ فإن هذه حاله تشاركه فيها بهيمة. ونعوذ بالله من ذلك. بل يقصد بزيارته وجه الله تعالى، وإصلاح فساد قلبه، أو نفع الميت بما يتلو عنده من القرآن والدعاء، ويتجنب المشي على المقابر، والجلوس عليها ويسلم إذا دخل المقابر وإذا وصل إلى قبر ميته الذي يعرفه سلم عليه أيضا، وأتاه من تلقاء وجهه، لأنه في زيارته كمخاطبته حيا، ولو خاطبه حيا لكان الأدب استقباله بوجهه؛ فكذلك ها هنا. ثم يعتبر بمن صار تحت التراب، وانقطع عن الأهل والأحباب، بعد أن قاد الجيوش والعساكر، ونافس الأصحاب والعشائر، وجمع الأموال والذخائر؛ فجاءه الموت في وقت لم يحتسبه، وهول لم يرتقبه. فليتأمل الزائر حال من مضى من إخوانه، ودرج من أقرانه الذين بلغوا المال، وجمعوا الأموال؛ كيف انقطعت آمالهم، ولم تغن عنهم أموالهم، ومحا التراب محاسن وجوههم، وافترقت في القبور أجزاؤهم، وترمل من بعدهم نساؤهم، وشمل ذل اليتم أولادهم، واقتسم غيرهم طريفهم وتلادهم. وليتذكر ترددهم في المآرب، وحرصهم على نيل المطالب، وانخداعهم لمواتاة الأسباب، وركونهم إلى الصحة والشباب. وليعلم أن ميله إلى اللهو واللعب كميلهم، وغفلته عما بين يديه من الموت الفظيع، والهلاك السريع، كغفلتهم، وأنه لا بد صائر إلى مصيرهم، وليحضر بقلبه ذكر من كان مترددا في أغراضه، وكيف تهدمت رجلاه. وكان يتلذذ بالنظر إلى ما خوله وقد سالت عيناه، ويصول ببلاغة نطقه وقد أكل الدود لسانه، ويضحك لمواتاة دهره وقد أبلى التراب أسنانه، وليتحقق أن حاله كحاله، ومآل كمآله. وعند هذا التذكر والاعتبار تزول عنه جميع الأغيار الدنيوية، ويقبل على الأعمال الأخروية، فيزهد في دنياه، ويقبل على طاعة مولاه، ويلين قلبه، وتخشع جوارحه.

 

الآيات: 3 - 4 ( كلا سوف تعلمون، ثم كلا سوف تعلمون )

 

قوله تعالى: « كلا » قال الفراء: أي ليس الأمر على ما أنتم عليه من التفاخر والتكاثر والتمام على هذا « كلا سوف تعلمون » أي سوف تعلمون عاقبة هذا « ثم كلا سوف تعلمون » : وعيد بعد وعيد؛ قاله مجاهد. ويحتمل أن يكون تكراره على وجه التأكيد والتغليظ؛ وهو قول الفراء. وقال ابن عباس: « كلا سوف تعلمون » ما ينزل بكم من العذاب في القبر. « ثم كلا سوف تعلمون » : وعيد بعد الآخرة إذا حل بكم العذاب. فالأول في القبر، والثاني في الآخرة؛ فالتكرار للحالتين. وقيل « كلا سوف تعلمون » عند المعاينة، أن ما دعوتكم إليه حق. « ثم كلا سوف تعلمون » : عند البعث أن ما وعدتكم به صدق. وروى زر بن حبيش عن علي رضي الله عنه، قاله: كنا نشك في عذاب القبر، حتى نزلت هذه السورة، فأشار إلى أن قوله: « كلا سوف تعلمون » يعني في القبور. وقيل: « كلا سوف تعلمون » ؛ إذا نزل بكم الموت، وجاءتكم رسل لتنزع أرواحكم. « ثم كلا سوف تعلمون: إذا دخلتم قبوركم، وجاءكم منكر ونكير، وحاط بكم هول السؤال، وانقطع منكم الجواب.»

قلت: فتضمنت السورة القول في عذاب القبر. وقد ذكرنا في كتاب « التذكرة » أن الإيمان به واجب، والتصديق به لازم؛ حسبما أخبر به الصادق، وأن الله تعالى يحيي العبد المكلف في قبره، برد الحياة إليه، ويجعل له من العقل في مثل الوصف الذي عاش عليه؛ ليعقل ما يسأل عنه، وما يجيب به، ويفهم ما أتاه من ربه، وما أعد له في قبره، من كرامة وهوان. وهذا هو مذهب أهل السنة، والذي عليه الجماعة من أهل الملة. وقد ذكرناه هناك مستوفى، والحمد لله، وقيل: « كلا سوف تعلمون » عند النشور أنكم مبعوثون « ثم كلا سوف تعلمون » في القيامة أنكم معذبون. وعلى هذا تضمنت أحوال القيامة من بعث وحشر، وسؤال وعرض، إلى غير ذلك من أهوالها وأفزاعها؛ حسب ما ذكرناه في كتاب « التذكرة، بأحوال الموتى وأمور الآخرة » . وقال الضحاك: « كلا سوف تعلمون » يعني الكفار، « ثم كلا سوف تعلمون » : قال المؤمنون. وكذلك كان يقرؤها، الأولى بالتاء والثانية بالياء.

 

الآية: 5 ( كلا لو تعلمون علم اليقين )

 

قوله تعالى: « كلا لو تعلمون علم اليقين » أعاد « كلا » وهو زجر وتنبيه، لأنه عقب كل واحد بشيء آخر؛ كأنه قال: لا تفعلوا، فإنكم تندمون، لا تفعلوا، فإنكم تستوجبون العقاب. وإضافة العلم إلى اليقين، كقوله تعالى: « إن هذا لهو حق اليقين » [ الواقعة: 95 ] . وقيل: اليقين ها هنا: ] الموت؛ قاله قتادة. وعنه أيضا: البعث؛ لأنه إذا جاء زال الشك، أي لو تعلمون علم البعث وجواب « لو » محذوف؛ أي لو تعلمون اليوم من البعث ما تعلمونه إذا جاءتكم نفخة الصور، وأنشقت اللحود عن جثثكم، كيف يكون حشركم؟ لشغلكم ذاك عن التكاثر بالدنيا. وقيل: « كلا لو تعلمون علم اليقين » أي لو قد تطايرت الصحف، فشقي وسعيد. وقيل: إن « كلا » في هذه المواضع الثلاثة بمعنى « ألا » قاله ابن أبي حاتم، وقال الفراء: هي بمعنى « حقا » وقد تقدم الكلام فيها مستوفى.

 

الآيات: 6 - 7 ( لترون الجحيم، ثم لترونها عين اليقين )

 

قوله تعالى: « لترون الجحيم » هذا وعيد آخر. وهو على إضمار القسم؛ أي لترون الجحيم في الآخرة. والخطاب للكفار الذين وجبت لهم النار. وقيل: هو عام؛ كما قال: « وإن منكم إلا واردها » [ مريم: 71 ] فهيئ للكفار دار، وللمؤمنين ممر. وفي الصحيح: ( فيمر أولهم كالبرق، ثم كالريح، ثم كالطير... ) الحديث. وقد مضى في سورة « مريم » . وقرأ الكسائي وابن عامر « لترون » بضم التاء، من رأيته الشيء؛ أي تحشرون إليها فترونها. وعلى فتح التاء، هي قراءة الجماعة؛ أي لترون الجحيم بأبصاركم على البعد. « ثم لترونها عين اليقين » أي مشاهدة. وقيل: هو إخبار عن دوام مقامهم في النار؛ أي هي رؤية دائمة متصلة. والخطاب على هذا للكفار. وقيل: معنى « لو تعلمون علم اليقين » أي لو تعلمون اليوم في الدنيا، علم اليقين فيما أمامكم، مما وصفت: « لترون الجحيم » بعيون قلوبكم؛ فإن علم اليقين يريك الجحيم بعين فؤادك؛ وهو أن تتصور لك تارات القيامة، وقطع مسافاتها. « ثم لترونها عين اليقين » : أي عند المعاينة بعين الرأس، فتراها يقينا، لا تغيب عن عينك. « ثم لتسألن يومئذ عن النعيم » : في موقف السؤال والعرض.

 

الآية: 8 ( ثم لتسألن يومئذ عن النعيم )

 

قوله تعالى: « ثم لتسألن يومئذ عن النعيم » روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر؛ فقال: ( ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة ) ؟ قالا: الجوع يا رسول الله. قال: ( وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما قوما ) فقاما معه؛ فأتى رجلا من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة قالت: مرحبا وأهلا. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أين فلان ) ؟ قالت: يستعذب لنا من الماء؛ إذ جاء الأنصاري، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبيه، وثم قال: الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضافيا مني. قال: فانطلق، فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب، فقال: كلوا من هذه. وأخذ المدية فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إياك والحلوب ) فذبح لهم، فأكلوا من الشاة، ومن ذلك العذق، وشربوا؛ فلما أن شبعوا ورووا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: ( والذي نفسي بيده لتسألن عن نعيم هذا اليوم، يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم ) . خرجه الترمذي، وقال [ فيه ] : ( هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة: ظل بارد، ورطب طيب، وماء بارد ) وكنى الرجل الذي من الأنصار، فقال: أبو الهيثم ابن التيهان. وذكر قصته.

قلت: اسم هذا الرجل الأنصاري مالك بن التيهان، ويكنى أبا الهيثم. وفي هذه القصة يقول عبدالرحمن رواحة، يمدح بها أبا الهيثم بن التيهان:

فلم أر كالإسلام عزا لأمة ولا مثل أضياف الإراشي معشرا

نبي وصديق وفاروق أمة وخير بني حواء فرعا وعنصرا

فوافوا لميقات وقدر قضية وكان قضاء الله قدرا مقدرا

إلى رجل نجد يباري بجوده شموس الضحى جودا ومجدا ومفخرا

وفارس خلق الله في كل غارة إذا لبس القوم الحديد المسمرا

ففدى وحيا ثم أدنى قراهم فلم يقرهم إلا سمينا متمرا

وقد ذكر أبو نَعَم الحافظ، عن أبي عسيب مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، فخرجت إليه، ثم مر بأبي بكر فدعاه، فخرج إليه، ثم مر بعمر فدعاه، فخرج إليه، فانطلق حتى دخل حائطا لبعض الأنصار، فقال لصاحب الحائط: ( أطعمنا بسرا ) فجاء بعذق، فوضعه فأكلوا، ثم دعا بماء فشرب، فقال: ( لتسألن عن هذا يوم القيامة ) قال: وأخذ عمر العذق، فضرب به الأرض حتى تناثر البسر نحو وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله، إنا لمسؤولون عن هذا يوم القيامة؟ قال: ( نعم إلا من ثلاث: كسرة يسد بها جوعته، أو ثوب يستر به عورته، أو حجر يأوي فيه من الحر والقر ) . واختلف أهل التأويل في النعيم المسؤول عنه على عشرة أقوال:

أحدها: الأمن والصحة؛ قال ابن مسعود. الثاني: الصحة والفراغ؛ قال سعيد بن جبير. وفي البخاري عنه عليه السلام: ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ ) . الثالث:الإدراك بحواس السمع والبصر؛ قال ابن عباس. وفي التنزيل: « إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا » [ الإسراء: 36 ] . وفي الصحيح عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يؤتي بالعبد يوم القيامة، فيقول له: ألم أجعل لك سمعا وبصرا، ومالا وولدا 000 ) ، الحديث. خرجه الترمذي وقال فيه: حديث حسن صحيح. الرابع: ملاذ المأكول والمشروب قاله جابر بن عبدالله الأنصاري. وحديث أبي هريرة يدل عليه. الخامس: أنه الغداء والعشاء؛ قال الحسن. السادس: قول مكحول الشامي: أنه شبع البطون وبارد الشراب،وظلال المساكن، واعتدال الخلق؛ ولذة النوم. ورواه زيد بن أسلم عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لتسألن يومئذ عن النعيم ) يعني عن شبع البطون 000 ) . فذكره. ذكره الماوردي،وقال: وهذا السؤال يعم الكافر والمؤمن، إلا أن سؤال المؤمن تبشير بأن يجمع له بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة. وسؤال الكافر تقريع أن قابل نعيم الدنيا بالكفر والمعصية. وقال قوم: هذا السؤال عن كل نعمة، إنما يكون في حق الكفار، فقد روي أن أبا بكر لما نزلت هذه الآية قال: يا رسول الله، أرأيت أكلة أكلتها معك في بيت أبي الهيثم بن التيهان، من خبز شعير ولحم وبسر قد ذنب، وماء عذب، أتخاف علينا أن يكون هذا من النعيم الذي نسأل عنه؟ فقال عليه السلام: ( ذلك للكفار؛ثم قرأ: « وهل نجازي إلا الكفور » [ سبأ: 17 ] . ذكره القشيري أبو نصر. وقال الحسن لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار. وقال القشيري: والجمع بين الأخبار: أن الكل يسألون، ولكن سؤال الكفار توبيخ، لأنه قد ترك الشكر. وسؤال المؤمن سؤال تشريف، لأنه شكر. هذا النعيم في كل نعمة.

قلت: هذا القول حسن، لأن اللفظ يعم. وقد ذكر الفريابي قال: حدثنا ورقاء ابن أبي نجيح عن مجاهد، في قوله تعالى: « ثم لتسألن يومئذ عن النعيم » قال: كل شيء من لذة الدنيا. وروى أبو الأحوص عن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الله تعالى ليعدد نعمه على العبد يوم القيامة، حتى يعد عليه: سألتني فلانة أن أزوجكها، فيسميها باسمها، فزوجتكها ) . وفي الترمذي عن أبي هريرة قال: لما نزلت هذه الآية: « ثم لتسألن يومئذ عن النعيم » قال الناس: يا رسول الله، عن أي النعيم نسأل؟ فإنما هما الأسودان والعدو حاضر، وسيوفنا على عواتقنا. قال: ( إن ذلك سيكون ) . وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن أول ما يسأل عنه يوم القيامة - يعني العبد - أن يقال له: ألم نصح لك جسمك، ونرويك من الماء البارد ) قال: حديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا كان يوم القيامة دعا الله بعبد من عباده، فيوقفه بين يديه، فيسأله عن جاهه كما يسأل عن ماله ) . والجاه من نعيم الدنيا لا محالة. وقال مالك رحمه الله: إنه صحة البدن، وطيب النفس. وهو القول السابع. وقيل: النوم مع الأمن والعافية. وقال سفيان بن عيينة: إن ما سد الجوع وستر العورة من خشن الطعام واللباس، لا يسأل عنه المرء يوم القيامة، وإنما يسأل عن النعيم. قال: والدليل عليه أن الله تعالى أسكن آدم الجنة. فقال له: « إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى. وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى » [ طه: 118 ] . فكانت هذه الأشياء الأربعة - ما يسد به الجوع، وما يدفع به العطش، وما يستكن فيه من الحر، ويستر به عورته - لآدم عليه السلام بالإطلاق، لا حساب عليه فيها، لأنه لابد له منها.

قلت: ونحو هذا ذكره القشيري أبو نصر، قال: إن مما لا يسأل عنه العبد لباسا يواري سوأته، وطعاما يقيم صلبه، ومكانا يكنه من الحر والبرد.

قلت: وهذا منتزع من قول عليه السلام: ( ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال: بيت يسكنه، وثوب يواري عورته، وجلف الخبز والماء ) خرجه الترمذي. وقال النضر بن شميل: جلف الخبز: ليس معه إدام. وقال محمد بن كعب: النعيم: هو ما أنعم الله علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم. وفي التنزيل: « لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم » [ آل عمران:164 ] . وقال الحسن أيضا والمفضل: هو تخفيف الشرائع، وتيسير القرآن، قال الله تعالى: « وما جعل عليكم في الدين من حرج » [ الحج: 78 ] ، وقال تعالى: « ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر » [ القمر:17 ] .

قلت: وكل هذه نعم، فيسأل العبد عنها: هل شكر ذلك أم كفر. والأقوال المتقدمة أظهر. والله أعلم.

 

سورة العصر

 

الآية: 1 ( والعصر )

 

قوله تعالى: « والعصر » أي الدهر؛ قاله ابن عباس وغيره. فالعصر مثل الدهر؛ ومنه قول الشاعر:

سبيل الهوى وعر وبحر الهوى غمر ويوم الهوى شهر وشهر الهوى دهر

أي عصر أقسم الله به عز وجل؛ لما فيه من التنبيه بتصرف الأحوال وتبدلها، وما فيها من الدلالة على الصانع. وقيل: العصر: الليل والنهار. قال حميد بن ثور:

ولن يلبث العصران: يوم وليلة إذا طلبا أن يدركا ما تيمما

والعصران أيضا: الغداة والعشي. قال:

وأمطله العصرين حتى يملني ويرضى بنصف الدين والأنف راغم

يقول: إذا جاءني أول النهار ووعدته آخره. وقيل: إنه العشي، وهو ما بين زوال الشمس وغروبها؛ قاله الحسن وقتادة. ومنه قول الشاعر:

تروح بنا يا عمر قد قصر العصر وفي الروحة الأولى الغنيمة والأجر

وعن قتادة أيضا: هو آخر ساعة من ساعات النهار. وقيل: هو قسم بصلاة العصر، وهي الوسطى؛ لأنها أفضل الصلوات؛ قال مقاتل. يقال: أذن للعصر، أي لصلاة العصر. وصليت العصر؛ أي صلاة العصر. وفي الخبر الصحيح ( الصلاة الوسطى صلاة العصر ) . وقد مضى في سورة « البقرة » بيانه. وقيل: هو قسم بعصر النبي صلى الله عليه وسلم، لفضله بتجديد النبوة فيه. وقيل: معناه ورب العصر.

 

قال مالك: من حلف ألا يكلم رجلا عصرا: لم يكلمه سنة. قال ابن العربي: إنما حمل مالك يمين الحالف ألا يكلم امرأ عصرا على السنة؛ لأنه أكثر ما قيل فيه، وذلك على أصله في تغليظ المعنى في الأيمان. وقال الشافعي: يبر بساعة؛ إلا أن تكون له نية، وبه أقول؛ إلا أن يكون الحالف عربيا، فيقال له: ما أودت؟ فإذا فسره بما يحتمله قبل منه، إلا أن يكون الأقل، ويجيء على مذهب مالك أن يحمل على ما يفسر. والله أعلم.

 

الآية: 2 ( إن الإنسان لفي خسر )

 

هذا جواب القسم. والمراد به الكافر؛قاله ابن عباس في رواية أبي صالح. وروى الضحاك عنه قال: يريد جماعة من المشركين: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن عبدالمطلب بن أسد بن عبد العزى، والأسود بن عبد يغوث. وقيل: يعني بالإنسان جنس الناس. « لفي خسر » لفي غبن. وقال الأخفش: هلكة. الفراء: عقوبة؛ ومنه قوله تعالى: « وكان عاقبة أمرها خسرا » [ الطلاق: 9 ] . ابن زيد: لفي شر. وقيل: لفي نقص؛ المعنى متقارب. وروي عن سلام « والعصر » بكسر الصاد. وقرأ الأعرج وطلحة وعيسى الثقفي « خسر » بضم السين. وروى ذلك هارون عن أبي بكر عن عاصم. والوجه فيهما الإتباع. ويقال: خسر وخسر؛ مثل عسر وعسر. وكان علي يقرؤها « والعصر ونوائب الدهر، إن الإنسان لفي خسر. وإنه فيه إلى آخر الدهر » . وقال إبراهيم: إن الإنسان إذا عمر في الدنيا وهرم، لفي نقصى وضعف تراجع؛ إلا المؤمنين، فإنهم تكتب لهم أجورهم التي كانوا يعملونها في حال شبابهم؛ نظيره قوله تعالى: « لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم. ثم رددناه أسفل سافلين » . [ التين: 5 ] . قال: وقراءتنا « والعصر إن الإنسان لفي خسر، وإنه في آخر الدهر » . والصحيح ما عليه الأمة والمصاحف. وقد مضى الرد في مقدمة الكتاب على من خالف مصحف عثمان، وأن ذلك ليس بقرآن يتلي؛ فتأمله هناك.

 

الآية: 3 ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر )

 

قوله تعالى: « إلا الذين آمنوا » استئناء من الإنسان؛ إذ هو بمعنى الناس على الصحيح. « وعملوا الصالحات » أي أدوا الفرائض المفترضة عليهم؛ وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبي بن كعب: قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم « والعصر » ما تفسيرها يا نبي الله؟ قال: « والعصر » قسم من الله، أقسم ربكم بآخر النهار: « إن الإنسان لفي خسر » : أبو جهل « إلا الذين آمنوا » : أبو بكر، « وعملوا الصالحات » عمر. « وتواصوا بالحق » عثمان « وتواصلوا بالصبر » علي. رضي الله عنهم أجمعين. وهكذا خطب ابن عباس على المنبر موقوفا عليه. « وتواصوا » أي تحابوا؛ أوصى بعضهم بعضا وحث بعضهم بعضا. « بالحق » أي بالتوحيد؛ كذا روى الضحاك عن ابن عباس. قال قتادة: « بالحق » أي القرآن. وقال السدي: الحق هنا هو الله عز وجل. « وتواصوا بالصبر » على طاعة الله عز وجل، والصبر عن معاصيه. وقد تقدم. والله أعلم.

 

سورة الهمزة

 

الآية: 1 ( ويل لكل همزة لمزة )

 

قد تقدم القول في « الويل » في غير موضع، ومعناه الخزي والعذاب والهلكة. وقيل: واد في جهنم. « لكل همزة لمزة » قال ابن عباس: هم المشاؤون بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، الباغون للبرآء العيب؛ فعلى هذا هما بمعنى. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( شرار عباد الله تعالى المشاؤون بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، الباغون للبرآء العيب ) . وعن ابن عباس أن الهمزة: الذي يغتاب اللمزة: العياب. وقال أبو العالية والحسن ومجاهد وعطاء بن أبي رباج: الهمزة: الذي يغتاب ويطعن في وجه الرجل، واللمزة: الذي يغتابه من خلفه إذا غاب؛ ومنه قول حسان:

همزتك فاختضعت بذل نفس بقافية تأجج كالشواظ

واختار هذا القول النحاس، قال: ومنه قوله تعالى « ومنهم من يلمزك في الصدقات » [ التوبة: 58 ] . وقال مقاتل ضد هذا الكلام: إن الهمزة: الذي يغتاب بالغيبة، واللمزة: الذي يغتاب في الوجه. وقال قتادة ومجاهد: الهمزة: الطعان في الناس، والهمزة: الطعان في أنسابهم. وقال ابن زيد الهامز: الذي يهمز الناس بيده ويضربهم، واللمزة: الذي يلمزهم بلسانه ويعيبهم. وقال سفيان الثوري يهمز بلسانه، ويلمز بعينيه. وقال ابن كيسان: الهمزة الذي يؤذي جلساءه بسوء اللفظ، واللمزة: الذي يكسر عينه على جليسه، ويشير بعينه ورأسه وبحاجبيه. وقال مرة: هما سواء؛ وهو القتات الطعان للمرء إذا غاب. وقال زياد الأعجم:

تدلي بودي إذا لاقيتني كذبا وإن أغيب فأنت الهامز اللمزة

وقال آخر:

إذا لقيتك عن سخط تكاشرني وإن تغيبت كنت الهامز اللمزة

الشحط: العبد. والهمزة: اسم وضع للمبالغة في هذا المعنى؛ كما يقال: سخرة وضحكة: للذي يسخر ويضحك بالناس. وقرأ أبو جعفر محمد بن علي والأعرج « همزة لمزة » بسكون الميم فيهما. فإن صح ذلك عنهما، فهي معنى المفعول، وهو الذي يتعرض للناس حتى يهمزوه ويضحكوا منه، ويحملهم على الاغتياب. وقرأ عبدالله بن مسعود وأبو وائل والنخعي والأعمش: « ويل للهمزة اللمزة » . وأصل الهمز: الكسر، والعض على الشيء بعنف؛ ومنه همز الحرف. ويقال: همزت رأسه. وهمزت الجوز يكفي كسرته. وقيل لأعرابي: أتهمزون ( الفارة ) ؟ فقال: إنما تهمزها الهرة. الذي في الصحاح: وقيل لأعرابي أتهمز الفارة؟ فقال السنور يهمزها. والأول قاله الثعلبي، وهو يدل على أن الهر يسمى الهمزة. قال العجاج:

ومن همزنا رأسه تهشما

وقيل: أصل الهمز واللمز: الدفع والضرب. لمزه يلمزا: إذا ضربه ودفعه. وكذلك همزه: أي دفعه وضربه. قال الراجز:

ومن همزنا عزه تبركعا على أسته زوبعة أو زوبعا

البركعة: القيام على أربع. وبركعه فتبركع؛ أي صرعه فوقع على أسته؛ قاله في الصحاح. والآية نزلت في الأخنس بن شريق، فيما روى الضحاك عن ابن عباس. وكان يلمز الناس ويعيبهم: مقبلين ومدبرين. وقال ابن جريج: في الوليد بن المغيرة، وكان يغتاب النبي صلى الله عليه وسلم من ورائه، ويقدح فيه في وجهه. وقيل: نزلت في أبي بن خلف. وقيل: في جميل بن عامر الثقفي. وقيل: إنها مرسلة على العموم من غير تخصيص؛ وهو قول الأكثرين. قال مجاهد: ليست بخاصة لأحد، بل لكل من كانت هذه صفته. وقال الفراء: بجوز أن يذكر الشيء العام ويقصد به الخاص، قصد الواحد إذا قال: لا أزورك أبدا. فتقول: من لم يزرني فلست بزائره؛ يعني ذلك القائل.

 

الآية: 2 ( الذي جمع مالا وعدده )

 

أي أعده - زعم - لنوائب الدهر؛ مثل كرم وأكرم. وقيل: أحصى عدده؛ قال السدي. وقال الضحاك: أي أعد مال لمن يرثه من أولاده. وقيل: أي فاخر بعدده وكثرته. والمقصود الذم على إمساك المال عن سبيل الطاعة. كما قال: « مناع للخير » [ ق: 25 ] ، وقال: « وجمع فأوعى » [ المعارج: 18 ] . وقراءة الجماعة « جمع » مخفف الميم. وشددها ابن عامر وحمزة والكسائي على التكثير. واختاره أبو عبيد؛ لقوله: « وعدده » . وقرأ الحسن ونصر بن عاصم وأبو العالية « جمع » مخففا، « وعدده » مخففا أيضا؛ فأظهروا التضعيف، لأن أصله عده وهو بعيد؛ لأنه وقع في المصحف بدالين. وقد جاء مثله في الشعر؛ لما أبرزوا التضعيف خففوه. قال:

مهلا أمامة قد جريت من خلقي إني أجود لأقوام وإن ضَنِنوا

أراد: ضنوا وبخلوا، فأظهر التضعيف؛ لكن الشعر موضع ضرورة. قال المهدوي: من خفف « وعدده » فهو معطوف على المال؛ أي وجمع عدده فلا يكون فعلا على إظهار التضعيف؛ لأن ذلك لا يستعمل إلا في الشعر.

 

الآيات: 3 - 7 ( يحسب أن ماله أخلده، كلا لينبذن في الحطمة، وما أدراك ما الحطمة، نار الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة )

 

قوله تعالى: « يحسب » أي يظن « أن ماله أخلده » أي يبقيه حيا لا يموت؛ قاله السدي. وقال عكرمة: أي يزيد في عمره. وقيل: أحياه فيما مضى، وهو ماض بمعنى المستقبل. يقال: هلك والله فلان ودخل النار؛ أي يدخل. « كلا » رد لما توهمه الكافر؛ أي لا يخلد ولا يبقى له مال. وقد مضى القول في « كلا » مستوفى. وقال عمر بن عبدالله مولى غفرة: إذا سمعت الله عز وجل يقول « كلا » فإنه يقول كذبت. « لينبذن » أي ليطرحن وليلقين. وقرأ الحسن ومحمد بن كعب ونصر بن عاصم ومجاهد وحميد وابن محيصن: لينبذان بالتثنية، أي هو وماله. وعن الحسن أيضا « لينبذنه » على معنى لينبذن ما له. وعنه أيضا بالنون « لينبذنه » على إخبار الله تعالى عن نفسه، وأنه ينبذ صاحب المال. وعنه أيضا « لينبذن » بضم الذال؛ على أن المراد الهمزة واللمزة والمال وجامعه.

 

قوله تعالى: « في الحطمة » وهي نار الله؛ سميت بذلك لأنها تكسر كل ما يلقي فيها وتحطمه وتهشمه. قال الراجز:

إنا حطمنا بالقضيب مصعبا يوم كسرنا أنفه ليغضبنا

وهي الطبقة السادسة من طبقات جهنم. حكاه الماوردي عن الكلبي. وحكى القشيري عنه: « الحطمة » الدركة الثانية من درك النار. وقال الضحاك: وهي الدرك الرابع. ابن زيد: اسم من أسماء جهنم.

« وما أدراك ما الحطمة » على التعظيم لشأنها، والتفخيم لأمرها. ثم فسرها ما هي فقال: « نار الله الموقدة » أي التي أوقد عليها ألف عام، وألف عام، وألف عام؛ فهي غير خامدة؛ أعدها الله للعصاة. « التي تطلع على الأفئدة » قال محمد بن كعب: تأكل النار جميع ما في أجسادهم، حتى إذا بلغت إلى الفؤاد، خلقوا خلقا جديدا، فرجعت تأكلهم. وكذا روى خالد بن أبي عمران عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن النار تأكل أهلها، حتى إذا اطلعت على أفئدتهم انتهت، ثم إذا صدروا تعود، فذلك قوله تعالى: « نار الله الموقدة. التي تطلع على الأفئدة » . وخص الأفئدة لأن الألم إذا صار إلى الفؤاد مات صاحبه. أي إنه في حال من يموت وهم لا يموتون؛ كما قال الله تعالى: « لا يموت فيها ولا يحيى » [ طه: 74 ] فهم إذاً أحياء في معنى الأموات. وقيل: معنى « تطلع على الأفئدة » أي تعلم مقدار ما يستحقه كل واحد منهم من العذاب؛ وذلك بما استبقاه الله تعالى من الأمارة الدالة عليه. ويقال: أطلع فلان على كذا: أي علمه. وقد قال الله تعالى: « تدعوا من أدبر وتولى » [ المعارج: 17 ] . وقال تعالى: « إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا » [ الفرقان: 12 ] . فوصفها بهذا، فلا يبعد أن توصف بالعلم.

 

الآيات: 8 - 9 ( إنها عليهم مؤصدة، في عمد ممددة )

 

أي مطبقة؛ قال الحسن والضحاك. وقد تقدم في سورة « البلد » القول فيه. وقيل: مغلقة؛ بلغة قريش. يقولون: آصدت الباب إذا أغلقته؛ قال مجاهد. ومنه قول عبيدالله بن قيس الرقيات:

إن في القصر لو دخلنا غزالا مصفقا موصدا عليه الحجاب

« في عمد ممددة » الفاء بمعنى الباء؛ أي موصدة بعمد بعمد ممددة؛ قاله ابن مسعود. وهي في قراءته « بعمد ممددة » في حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ( ثم إن الله يبعث إليهم ملائكة بأطباق من نار، ومسامير من نار وعمد من نار، فتطبق عليهم بتلك الأطباق، وتشد عليهم بتلك المسامير، وتمد بتلك العبد، فلا يبقى فيها خلل يدخل فيه روح، ولا يخرج منه غم، وينساهم الرحمن على عرشه، ويتشاغل أهل الجنة بنعيمهم، ولا يستغيثون بعدها أبدا، وينقطع الكلام، فيكون كلامهم زفيرا وشهيقا؛ فذلك قوله تعالى: « إنها عليهم مؤصدة. في عمد ممددة » . وقال قتادة: « عمد » يعذبون بها. واختاره الطبري. وقال ابن عباس: إن العمد الممددة أغلال في أعناقهم. وقيل: قيود في أرجلهم؛ قاله أبو صالح. وقال القشيري: والمعظم على أن العمد أوتاد الأطباق التي تطبق على أهل النار. وتشد تلك الأطباق بالأوتاد، حتى يرجع عليهم غمها وحرها، فلا يدخل عليهم روح. وقيل: أبواب النار مطبقة عليهم وهم في عمد؛ أي في سلاسل وأغلال مطولة، وهي أحكم وأرسخ من القصيرة. وقيل: هم في عمد ممددة؛ أي في عذابها وآلامها يضربون بها. وقيل: المعنى في دهر ممدود؛ أي لا انقطاع له. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم « في عمد » بضم العين والميم: جمع عمود. وكذلك « عمد » أيضا. قال الفراء: والعمد: جمعان صحيحان لعمود؛ مثل أديم أدم وأدم، وأفيق وأفق وأفق. أبو عبيدة: عمد: جمع عماد؛ مثل إهاب. واختار أبو عبيد « عمد » بفتحتين. وكذلك أبو حاتم؛ أعتبارا بقوله تعالى: « رفع السموات بغير عمد ترونها » [ الرعد: 2 ] . وأجمعوا على فتحها. قال الجوهري: العمود: عمود البيت، وجمع القلة: أعمدة، وجمع الكثرة عمد، وعمد؛ وقرئ بهما قوله تعالى: « في عمود ممددة » . وقال أبو عبيدة: العمود، كل مستطيل من خشب أو حديد، وهو أصل للبناء مثل العماد. عمدت الشيء فانعمد؛ أي أقمته بعماد يعتمد عليه. وأعمدته جعلت تحته عمدا. والله أعلم.

 

سورة الفيل

 

الآية: 1 ( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل )

 

قوله تعالى: « ألم تر » أي ألم تخبر. وقيل: ألم تخبر. وقيل ألم تعلم. وقال ابن عباس: ألم تسمع؟ واللفظ استفهام، والمعنى تقرير. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه عام؛ أي ألم تروا ما فعلت بأصحاب الفيل؛ أي قد رأيتم ذلك، وعرفتم موضع مِنَتِي عليكم، فما لكم لا تؤمنون؟ و « كيف » في موضع نصب بـ « فعل ربك » لا « بألم تر كيف » في معنى الاستفهام. « بأصحاب الفيل » الفيل معروف، والجمع أفيال: وفيول، وفيلة. قال ابن السكيت: ولا تقل أفيلة. والأنثى فيلة وصاحبه فيال. قال سيبوبه: يجوز أن يكون أصل فيل فُعلاً، فكسر من أجل الياء؛ كما قالوا: أبيض وبيض. وقال الأخفش: هذا لا يكون في الواحد، إنما يكون في الجمع. ورجل فيل الرأي، أي ضعيف الرأي. والجمع أفيال. ورجل فال؛ أي ضعيف الرأي، مخطئ الفراسة. وقد فال الرأي يفيل فيولة، وفيل رأيه تفييلا: أي ضعفه، فهو فيل الرأي.

 

في قصة أصحاب الفيل؛ وذلك أن ( أبرهة ) بنى القليس بصنعاء، وهي كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض، وكان نصرانيا، ثم كتب إلى النجاشي: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك، ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب فلما تحدث العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشي، غضب رجل من النسأة، فخرج حتى أتى الكنيسة، فقعد فيها - أي أحدث - ثم خرج فلحق بأرضه؛ فأخبر بذلك أبرهة، فقال: من صنع هذا؟ فقيل: صنعه رجل من أهل هذا البيت، الذي تحج إليه العرب بمكة، لما سمع قولك: ( أصرف إليها حج العرب ) غضب، فجاء فقعد فيها. أي أنها ليست لذلك بأهل. فغضب عند ذلك أبرهة، وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه، وبعث رجلا كان عنده إلى بني كنانة يدعوهم إلى حج تلك الكنيسة؛ فقتلت بنو كنانة ذلك الرجل؛ فزاد أبرهة ذلك غضبا وحنقا، ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت، ثم سار وخرج معه بالفيل؛ وسمعت بذلك العرب، فأعظموه وفظعوا به، ورأوا جهاده حقا عليهم، حين سمعوا أنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام. فخرج إليه رجل من أشراف أهل اليمن وملوكهم، يقال له ذو نفر، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة، وجهاده عن بيت الله الحرام، وما يريد من هدمه وإخرابه؛ فأجابه من أجابه إلى ذلك، ثم عرض له فقاتله، فهزم ذو نفر وأصحابه، وأخذ له ذو نفر فأتي به أسيرا؛ فلما أراد قتله قال له ذو نفر: أيها الملك لا تقتلني، فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من قتلي؛ فتركه من القتل، وحبسه عنده في وثاق، وكان أبرهة رجلا حليما. ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك، يريد ما خرج له، حتى إذا كان بأرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي في قبيلتي خثعم: شهران وناهس، ومن تبعه من قبائل العرب؛ فقاتله فهزمه أبرهة، وأخذ له نفيل أسيرا؛ فأتي به، فلما هم بقتله قال له نفيل: أيها الملك لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب، وهاتان يداي لك على قبيلتي خثعم: شهران وناهس، بالسمع والطاعة؛ فخلى سبيله. وخرج به معه يدله، حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب في رجال من ثقيف، فقالوا له: أيها الملك، إنما نحن عبيدك؛ سامعون لك مطيعون، ليس عندنا لك خلاف، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد - يعنون اللات - إنما تريد البيت الذي بمكة، نحن نبعث معك من يدلك عليه؛ فتجاوز عنهم. وبعثوا معه أبا رغال، حتى أنزله المغمس فلما أنزله به مات أبو رغال هناك، فرجمت قبره العرب؛ فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمس، وفيه يقول الشاعر:

وارجم قبره في كل عام كرجم الناس قبر أبي رغال

فلما نزل أبرهة بالمغمس، بعث رجلا من الحبشة يقال له الأسود بن مقصود على خيل له، حتى انتهى إلى مكة فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم، وأصاب فيها ماتتي بعير لعبدالمطلب بن هاشم، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها؛ فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله؛ ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به، فتركوا ذلك. وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة، وقال له: سل عن سيد هذا البلد وشريفهم، ثم قل له: إن الملك يقول: إني لم آت لحربكم، إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تعرضوا لي بحرب، فلا حاجة لي بدمائكم؛ فإن هو لم يرد حربي فأتني به. فلما دخل حناطة مكة، سأل عن سيد قريش وشريفها؛ فقيل له: عبدالمطلب بن هاشم؛ فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة؛ فقال له عبدالمطلب: والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك منه طاقة، هذا بيت الله الحرام، وبيت خليله إبراهيم عليه السلام، أو كما قال، فإن يمنعه منه فهو حرمه وبيته، وإن يحل بينه وبينه، فوالله ما عندنا دفع عنه. فقال له حناطة: فانطلق إليه، فإنه قد أمرني أن آتيه بك؛ فانطلق معه عبدالمطلب، ومعه بعض بنيه، حتى أتى العسكر؛ فسأل عن ذي نفر، وكان صديقا له، حتى دخل عليه وهو في محبسه، فقال له: يا ذا نفر، هل عندك من غناء فيما نزل بنا؟ فقال له ذو نفر؛ وما غناء رجل أسير بيدي ملك، ينتظر أن يقتله غدوا وعشيا ما عندي غناء في شيء مما نزل بك، إلا أن أنيسا سائس الفيل صديق لي، فسأرسل إليه، وأوصيه بك، وأعظم عليه حقك، وأسأله أن يستأذن لك على الملك، فتكلمه بما بدا لك، ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك؛ فقال حسبي. فبعث ذو نفر إلى أنيس، فقال له: إن عبدالمطلب سيد قريش، وصاحب عين مكة، ويطعم الناس بالسهل، والوحوش في رؤوس الجبال، وقد أصاب له الملك مائتي بعير، فاستأذن له عليه، وانفعه عنده بما استطعت؛ فقال: أفعل. فكلم أنيس أبرهة، فقال له: أيها الملك، هذا سيد قريش ببابك، يستأذن عليك، وهو صاحب عين مكة، يطعم الناس بالسهل، والوحوش في رؤوس الجبال؛ فأذن له عليك، فيكلمك في حاجته. قال: فأذن له أبرهة.

وكان عبدالمطلب أوسم الناس، وأعظمهم وأجملهم، فلما رآه أبرهة أجله، وأعظمه عن أن يجلسه تحته؛ فنزل أبرهة عن سريره، فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه. ثم قال لترجمانه: قل له: حاجتك؟ فقال له ذلك الترجمان، فقال: حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي. فلما قال له ذلك، قال أبرهة لترجمانه: قل له لقد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتا هو دينك ودبن آبائك، قد جئت لهدمه؟ لا تكلمني فيه. قال له عبدالمطلب: إني أنا رب الإبل، وإن للبيت ربا سيمنعه. قال: ما كان ليمتنع مني قال أنت وذاك. فرد عليه إبله. وانصرف عبدالمطلب إلى قريش، فأخبرهم الخبر، وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شعف الجبال والشعاب، تخوفا عليهم معرة الجيش. ثم قام عبدالمطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش، يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده، فقال عبدالمطلب وهو أخذ بحلقة باب الكعبة:

لا هم إن العبد يمـ ـنع رحله فامنع حلالك

لا يغلبن صليبهم ومحالهم عدوا محالك

إن يدخلوا البلد الحرا م فأمر ما بدا لك

يقول: أي: شيء ما بدا لك، لم تكن تفعله بنا. والحلال: جمع حل. والمحال: القوة وقيل: إن عبدالمطلب لما أخذ بحلقة باب الكعبة قال:

يا رب لا أرجو لهم سواكا يا رب فامنع منهم حماكا

إن عدو البيت من عاداكا إنهم لن يقهروا قواكا

وقال عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي:

لا هم أخز الأسودين مقصود الأخذ الهجمة فيها التقليد

بين حراء وثبير فالبيد يحبسها وهي أولات التطريد

فضمها إلى طماطم سود قد أجمعوا ألا يكون معبود

ويهدموا البيت الحرام المعمود والمروتين والمشاعر السود

أخفره يا رب وأنت محمود

قال ابن إسحاق: ثم أرسل عبدالمطلب حلقة باب الكعبة، ثم انطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال، فتحرزوا فيها، ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها. فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة، وهيأ فيله، وعبأ جيشه، وكان اسم الفيل محمودا، وأبرهة مجمع لهدم البيت، ثم الانصراف إلى اليمن، فلما وجهوا الفيل إلى مكة، أقبل نفيل بن حبيب، حتى قام إلى جنب الفيل، ثم أخذ بأذنه فقال له: ابرك محمود، وارجع راشدا من حيث جئت، فإنك في بلد الله الحرام. ثم أرسل أذنه، فبرك الفيل. وخرج نفيل بن حبيب يشتد، حتى أصعد في الجبل. وضربوا الفيل ليقوم فأبى، فضربوا في رأسه بالطبرزين ليقوم فأبى؛ فأدخلوا محاجن لهم في مراقه، فبزغوه بها ليقوم، فأبى، فوجهوه راجعا إلى اليمن، فقام يهرول ووجهوه إلى الشام، ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق، ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة فبرك. وأرسل الله عليهم طيرا من البحر، أمثال الخطاطيف والبلسان، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار: حجر في منقاره، وحجران في رجليه، أمثال الحمص والعدس، لا تصيب منهم أحدا إلا هلك؛ وليس كلهم أصابت. وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق التي جاؤوا منها، ويسألون عن نفيل بن حبيب، ليدلهم على الطريق إلى اليمن. فقال نفيل بن حبيب حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمه:

أين المفر والإله الطالب والأشرم المغلوب ليس الغالب

وقال أيضا:

حمدت الله إذ أبصرت طيرا وخفت حجارة تلقى علينا

فكل القوم يسأل عن نفيل كأن علي للحبشان دينا

فخرجوا يتساقطون بكل طريق، ويهلكون بكل مهلك على كل سهل، وأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة، كلما سقطت منه أنملة أتبعتها منه مدة تمث قيحا ودما؛ حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر، فما مات حتى أنصدع صدره عن قلبه؛ فيما يزعمون.

وقال الكلبي ومقاتل بن سليمان - يزيد أحدهما وينقص - : سبب الفيل ما روي أن فتية من قريش خرجوا تجارا إلى أرض النجاشي، فنزلوا على ساحل البحر إلى بيعة للنصارى، تسميها النصاري الهيكل، فأوقدوا نارا لطعامهم وتركوها وارتحلوا؛ فهبت ريح عاصف على النار فأضرمت البيعة نارا، فاحترقت، فأتى الصريخ إلى النجاشي فأخبره، فاستشاط غضبا. فأتاه أبرهة بن الصباح وحجر بن شرحبيل وأبو يكسوم الكنديون؛ وضمنوا له إحراق الكعبة وسبي مكة. وكان النجاشي هو الملك، وأبرهة صاحب الجيش، وأبو يكسوم نديم الملك، وقيل وزير، وحجر بن شرحبيل من قواده، وقال مجاهد: أبو يكسوم هو أبرهة بن الصباح. فساروا ومعهم الفيل. قال الأكثرون: هو فيل واحد. وقال الضحاك: هي ثمانية فيلة. ونزلوا بذي المجاز، واستاقوا سرح مكة، وفيها إبل عبدالمطلب. وأتى الراعي نذيرا، فصعد الصفا، فصاح: واصباحاه ثم أخبر الناس بمجيء الجيش والفيل. فخرج عبدالمطلب، وتوجه إلى أبرهة، وسأله في إبله. واختلف في النجاشي، هل كان معهم؛ فقال قوم كان معهم. وقال الأكثرون: لم يكن معهم. ونظر أهل مكة بالطير قد أقبلت من ناحية البحر؛ فقال عبدالمطلب: ( إن هذه الطير غريبة بأرضنا، وما هي بنجدية ولا تهامية ولا حجازية ) وإنها أشباه اليعاسيب. وكان في مناقيرها وأرجلها حجارة؛ فلما أطلت على القوم ألقتها عليهم، حتى هلكوا. قال عطاء بن أبي رباج: جاءت الطير عشية؛ فباتت ثم صبحتهم بالغداة فرمتهم. وقال الكلبي: في مناقيرها حصى كحصى الخذف، أمام كل فرقة طائر يقودها، أحمر المنقار، أسود الرأس، طويل العنق. فلما جاءت عسكر القوم وتوافت، أهالت ما في مناقيرها على من تحتها، مكتوب على كل حجر اسم صاحبه المقتول به. وقيل: كان كل حجر مكتوب: من أطاع الله نجا، ومن عصاه غوى. ثم انصاعت راجعة من حيث جاءت. وقال العوفي: سألت عنها أبا سعيد الخدري، فقال: حمام مكة منها. وقيل: كان يقع الحجر على بيضة أحدهم فيخرقها، ويقع في دماغه، ويخرق الفيل والدابة. ويغيب الحجر في الأرض من شدة وقعه. وكان أصحاب الفيل ستين ألفا، لم يرجع منهم ألا أميرهم، رجع ومعه شرذمة لطيفة. فلما أخبروا بما رأوا هلكوا. وقال الواقدي: أبرهة جد النجاشي الذي كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبرهة هو الأشرم، سمي بذلك لأنه تفاتن مع أرياط، حتى تزاحفا، ثم اتفقا على أن يلتقيا بشخصيهما، فمن غلب فله الأمر. فتبارزا - وكان أرياط جسيما عظيما، في يده حربة، وأبرهة قصيرا حادرا ذا دين في النصرانية، ومع أبرهة وزير له يقال له عتودة - فلما دنوا ضرب أرياط بحربته رأس أبرهة، فوقعت على جبينه، فشرمت عينه وأنفه وجبينه وشفته؛ فلذلك سمي الأشرم. وحمل عتودة على أرياط فقتله. فاجتمعت الحبشة لأبرهة؛ فغضب النجاشي، وحلف ليحزن ناصية أبرهة، ويطأن بلاده. فجز أبرهة ناصيته وملأ مزودا من تراب أرضه، وبعث بهما إلى النجاشي، وقال: إنما كان عبدك، وأنا عبدك، وأنا أقوم بأمر الحبشة، وقد جززت ناصيتي، وبعثت إليك بتراب أرضي، لتطأه وتبر في يمينك؛ فرضي عنه النجاشي. ثم بنى أبرهة كنيسة بصنعاء، ليصرف إليها حج العرب؛ على ما تقدم.

 

قال مقاتل: كان عام الفيل قبل مولد النبي صلى الله عليه بأربعين سنة. وقال الكلبي وعبيد بن عمير: كان قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث وعشرين سنة. والصحيح ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ولدت عام الفيل ) . وروي عنه أنه قال: ( يوم الفيل ) . حكاه الماوردي في التفسير له. وقال في كتاب أعلام النبوة: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول، وكان بعد الفيل بخمسين يوما. ووافق من شهور الروم العشرين من أسباط، في السنة الثانية عشرة من ملك هرمز بن أنوشروان. قال: وحكى أبو جعفر الطبري أن مولد النبي صلى الله عليه وسلم كان لاثنتين وأربعين سنة من ملك أنوشروان. وقد قيل: إنه عليه السلام حملت به أمه آمنة في يوم عاشوراء من المحرم، وولد يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان؛ فكانت مدة حمله ثمانية أشهر كملا ويومين من التاسع. وقيل: إنه ولد يوم عاشوراء من شهر المحرم؛ حكاه ابن شاهين أبو حفص، في فضائل يوم عاشوراء له. ابن العربي: قال ابن وهب عن مالك: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وقال قيس بن مخرمة: ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل. وقد روى الناس عن مالك أنه قال: من مروءة الرجل ألا يخبر بسنه؛ لأنه إن كان صغيرا استحقروه وإن كان كبيرا استهرموه. وهذا قول ضعيف؛ لأن مالكا لا يخبر بسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكتم سنه؛ وهو من أعظم العلماء قدوة به. فلا بأس بأن يخبر الرجل بسنه كان كبيرا أو صغيرا. وقال عبدالملك بن مروان لعتاب بن أسيد: أنت أكبر أم النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: النبي صلى الله عليه وسلم أكبر منه، وأنا أسن منه؛ ولد النبي صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وأنا أدركت سائسه وقائده أعميين مقعدين يستطعمان الناس، وقيل لبعض القضاة: كم سنك؟ قال: سن عتاب بن أسيد حين ولاه النبي صلى الله عليه وسلم مكة، وكان سنه يومئذ دون العشرين.

 

قال علماؤنا: كانت قصة الفيل فيما بعد من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت قبله وقبل التحدي؛ لأنها كانت توكيدا لأمره، وتمهيدا لشأنه. ولما تلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه السورة، كان بمكة عدد كثير ممن شهد تلك الوقعة؛ ولهذا قال: « ألم تر » ولم يكن بمكة أحد إلا وقد رأى قائد الفيل وسائقه أعميين يتكففان الناس. وقالت عائشة رضي الله عنها مع حداثة سنها: لقد رأيت قائد الفيل وسائقه أعميين يستطعمان الناس. وقال أبو صالح: رأيت في بيت أم هانئ بنت أبي طالب نحوا من قفيزين من تلك الحجارة، سودا مخططة بحمرة.

 

الآية: 2 ( ألم يجعل كيدهم في تضليل )

 

قوله تعالى: « ألم يجعل كيدهم في تضليل » أي في إبطال وتضييع؛ لأنهم أرادوا أن يكيدوا قريشا بالقتل والسبي، والبيت بالتخريب والهدم. فحكي عن عبدالمطلب أنه بعث ابنه عبدالله على فرس له، ينظر ما لقوا من تلك الطير، فإذا القوم مشدخين جميعا، فرجع يركض فرسه، كاشفا عن فخذه، فلما رأى ذلك أبوه قال: إن ابني هذا أفرس العرب. وما كشف عن فخذه إلا بشيرا أو نذيرا. فلما دنا من ناديهم بحيث يسمعهم الصوت، قالوا: ما وراءك؟ قال: هلكوا جميعا. فخرج عبدالمطلب وأصحابه، فأخذوا أموالهم. وكانت أموال بني عبدالمطلب منها، وبها تكاملت رياسة عبدالمطلب؛ لأنه احتمل ما شاء من صفراء وبيضاء، ثم خرج أهل مكة بعده ونهبوا. وقيل: إن عبدالمطلب حفر حفرتين فملأهما من الذهب والجوهر، ثم قال لأبي مسعود الثقفي وكان خليلا لعبدالمطلب - : اختر أيهما شئت. ثم أصاب الناس من أموالهم حتى ضاقوا ذرعا، فقال عبدالمطلب عند ذلك:

أنت منعت الحبش والأفيالا وقد رعوا بمكة الأجبالا

وقد خشينا منهم القتالا وكل أمر لهم معضالا

شكرا وحمدا لك ذا الجلالا

قال ابن إسحاق: ولما رد الله الحبشة عن مكة عظمت العرب قريشا، وقالوا: هم: أهل الله، قاتل الله عنهم وكفاهم مؤونة عدوهم. وقال عبدالله بن عمرو بن مخزوم، في قصة أصحاب الفيل:

أنت الجليل ربنا لم تدنس أنت حبست الفيل بالمغمس

من بعد ما هم بشر مبلس حبسته في هيئة المكركس

وما لهم من فرج ومنفس

والمكركس: المنكوس المطروح.

 

الآية: 3 ( وأرسل عليهم طيرا أبابيل )

 

قال سعيد بن جبير: كانت طيرا من السماء لم ير قبلها، ولا بعدها مثلها. وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إنها طير بين السماء والأرض تعشش وتفرخ ) . وعن ابن عباس: كانت لها خراطيم كخراطيم الطير، وأكف كأكف الكلاب وقال عكرمة: كانت طيرا خضرا، خرجت من البحر، لها رؤوس كرؤوس السباع. ولم تر قبل ذلك ولا بعده. وقالت عائشة رضي الله عنها: هي أشبه شيء بالخطاطيف. وقيل: بل كانت أشباه الوطاويط، حمراء وسوداء. وعن سعيد بن جبير أيضا: هي طير خضر لها مناقير صفر. وقيل: كانت بيضا. وقال محمد بن كعب: هي طير سود بحرية، في مناقيرها وأظفارها الحجارة. وقيل: إنها العنقاء المُغرِب التي تضرب بها الأمثال؛؛ قال عكرمة: « أبابيل » أي مجتمعة. وقيل: متتابعة، بعضها في إثر بعض؛ قال ابن عباس ومجاهد. وقيل مختلفة متفرقة، تجيء من كل ناحية من ها هنا وها هنا؛ قال ابن مسعود وابن زيد والأخفش. قال النحاس: وهذه الأقوال متفقة، وحقيقة المعنى: أنها جماعات عظام. يقال: فلان يؤبل على فلان؛ أي يعظم عليه ويكثر؛ وهو مشتق من الإبل. واختلف في واحد ( أبابيل ) ؛ فقال الجوهري: قال الأخفش يقال: جاءت إبلك أبابيل؛ أي فرقا، وطيرا أبابيل. قال: وهذا يجيء في معنى التكثير، وهو من الجمع الذي لا واحد له. وقال بعضهم: واحده أبول. مثل عجول. وقال بعضهم - وهو المبرد - : إبيل مثل سكين. فال: ولم أجد العرب تعرف له واحدا في غير الصحاح. وقيل في واحده إبال. وقال رؤبة بن العجاج في الجمع:

ولعبتْ طيرٌ بهم أبابيلْ فصيروا مثل كعصف مأكول

وقال الأعشى:

طريق وجبار رواء أصوله عليه أبابيل من الطير تنعب

وقال آخر:

كادت تهد من الأصوات راحلتي إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل

وقال آخر:

تراهم إلى الداعي سراعا كأنهم أبابيل طير تحت دجن مسخن

قال الفراء: لا واحد له من لفظه. وزعم الرؤاسي - وكان ثقة - أنه سمع في واحدها « إبالة » مشددة. وحكى الفراء « إبالة » مخففا. قال: سمعت بعض العرب يقول: ضغث على إبالة. يريد: خصبا على خصب. قال: ولو قال قائل إيبال كان صوابا؛ مثل دينار ودنانير. وقال إسحاق بن عبدالله بن الحارث بن نوفل: الأبابيل: مأخوذ من الإبل المؤبلة؛ وهي الأقاطيع.

 

الآية: 4 ( ترميهم بحجارة من سجيل )

 

في الصحاح: « حجارة من سجيل » قالوا: حجارة من طين، طبخت بنار جهنم، مكتوب فيها أسماء القوم؛ لقوله تعالى: « لنرسل عليهم حجارة من طين. مسومة » [ الذاريات: 33 ] . وقال عبدالرحمن بن أبزى: « من سجيل » : من السماء، وهي الحجارة التي نزلت على قوم لوط. وقيل من الجحيم. وهي « سجين » ثم أبدلت اللام نونا؛ كما قالوا في أصيلان أصيلال. قال ابن مقبل:

ضربا تواصت به الأبطال سجينا

وإنما هو سجيلا. وقال الزجاج: « من سجيل » أي مما كتب عليهم أن يعذبوا به؛ مشتق من السجل. وقد مضى القول في سجيل في « هود » مستوفى. قال عكرمة: كانت ترميهم بحجارة معها، فإذا أصاب أحدهم حجر منها خرج به الجدري لم ير قبل ذلك اليوم. وكان الحجر كالحمصة وفوق العدسة. وقال ابن عباس: كان الحجر إذا وقع على أحدهم نفط جلده، فكان ذلك أول الجدري. وقراءة العامة « ترميهم » بالتاء، لتأنيث جماعة الطير. وقرأ الأعرج وطلحة « يرميهم » بالياء؛ أي يرميهم الله؛ دليله قوله تعالى: « ولكن الله رمى » [ الأنفال: 17 ] ويجوز أن يكون راجعا إلى الطير، لخلوها من علامات التأنيث، ولأن تأنيثها غير حقيقي.

 

الآية: 5 ( فجعلهم كعصف مأكول )

 

أي جعل الله أصحاب الفيل كورق الزرع إذا أكلته الدواب، فرمت به من أسفل. شبه تقطع أوصالهم بتفرق أجزائه. روى معناه عن ابن زيد وغيره. وقد مضى القول في العصف في سورة « الرحمن » . ومما يدل على أنه ورق الزرع قول علقمة:

تسقي مذانب قد مالت عصيفتها حدورها من أتى الماء مطموم

وقال رؤبة بن العجاج:

ومسهم ما مس أصحاب الفيل ترميهم حجارة من سجيل

ولعبت طير بهم أبابيل فصيروا مثل كعصف مأكول

العصف: جمع، واحدته عصفة وعصافة، وعصيفة. وأدخل الكاف في « كعصف » للتشبيه مع مثل، نحو قوله تعالى: « ليس كمثله شيء » [ الشورى: 11 ] . ومعنى « مأكول » حبه. كما يقال: فلان حسن؛ أي حسن وجهه. وقال ابن عباس: « فجعلهم كعصف مأكول » أن المراد به قشر البر؛ يعني الغلاف الذي تكون فيه حبة القمح. ويروى أن الحجر كان يقع على أحدهم فيخرج كل ما في جوفه، فيبقى كقشر الحنطة إذا خرجت منه الحبة. وقال ابن مسعود: لما رمت الطير بالحجارة، بعث الله ريحا فضربت الحجارة فزادتها شدة، فكانت لا تقع على أحد إلا هلك، ولم يسلم منهم إلا رجل من كندة؛ فقال:

فإنك لو رأيت ولم تريه لدى جنب المغمس ما لقينا

خشيت الله إذ قد بث طيرا وظل سحابة مرت علينا

وباتت كلها تدعو بحق كأن لها على الحبشان دينا

ويروى أنها لم تصبهم كلهم، لكنها أصابت من شاء الله منهم. وقد تقدم أن أميرهم رجع وشرذمة لطيفة معه، فلما أخبروا بما رأوا هلكوا. فالله أعلم. وقال ابن إسحاق: لما رد الله الحبشة عن مكة، عظمت العرب قريشا وقالوا: أهل الله، قاتل عنهم، وكفاهم مؤونة عدوهم، فكان ذلك نعمة من الله عليهم.

 

سورة قريش

 

الآية: 1 ( لإيلاف قريش )

 

قيل: إن هذه السورة متصلة بالتي قبلها في المعنى. يقول: أهلكت أصحاب الفيل لإيلاف قريش؛ أي لتأتلف، أو لتتفق قريش، أو لكي تأمن قريش فتؤلف رحلتيها. وممن عد السورتين واحدة أبي بن كعب، ولا فصل بينهما في مصحفه. وقال سفيان بن عيينة: كان لنا إمام لا يفصل بينهما، ويقرؤهما معا. وقال عمرو بن ميمون الأودي: صلينا المغرب خلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فقرأ في الأولى: « والتين والزيتون » [ التين: 1 ] وفي الثانية « ألم تر كيف » [ الفيل: 1 ] و « لإيلاف قريش » [ قريش: 1 ] . وقال الفراء: هذه السورة متصلة بالسورة الأولى؛ لأنه ذكر أهل مكة عظيم نعمته عليهم فيما فعل بالحبشة، ثم قال: « لإيلاف قريش » أي فعلنا ذلك بأصحاب الفيل نعمة منا على قريش. وذلك أن قريشا كانت تخرج في تجارتها، فلا يُغار عليها ولا تُقرب في الجاهلية. يقولون هم أهل بيت الله جل وعز؛ حتى جاء صاحب الفيل ليهدم الكعبة، ويأخذ حجارتها، فيبني بها بيتا في اليمن يحج الناس إليه، فأهلكهم الله عز وجل، فذكرهم نعمته. أي فجعل الله ذلك لإيلاف قريش، أي ليألفوا الخروج ولا يجتزأ عليهم؛ وهو معنى قول مجاهد وابن عباس في رواية سعيد بن جبير عنه. ذكره النحاس: حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرني عمرو بن علي قال: حدثني عامر بن إبراهيم - وكان ثقة من خيار الناس - قال حدثني خطاب بن جعفر بن أبي المغيرة، قال: حدثني أبي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، في قوله تعالى: « لإيلاف قريش » قال: نعمتي على قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف. قال: كانوا يشتون بمكة، ويصيفون بالطائف. وعلى هذا القول يجوز الوقف على رءوس الآي وإن لم يكن الكلام تاما؛ على ما نبينه أثناء السورة. وقيل: ليست بمتصلة؛ لأن بن السورتين « بسم الله الرحمن الرحيم » وذلك دليل على انقضاء السورة وافتتاح الأخرى، وأن اللام متعلقة بقوله تعالى: « فليعبدوا » أي فليعبدوا هؤلاء رب هذا البيت، لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف للامتيار. وكذا قال الخليل: ليست متصلة؛ كأنه قال: أَلَّف الله قريشا إيلافا فليعبدوا رب هذا البيت. وعمل ما بعد الفاء فيما قبلها لأنها زائدة غير عاطفة؛ كقولك: زيدا فاضرب. وقيل: اللام في قوله تعالى: « لإيلاف قريش » لام التعجب؛ أي اعجبوا لإيلاف قريش؛ قاله الكسائي والأخفش. وقيل: بمعنى إلى. وقرأ ابن عامر: « لائلاف قريش » مهموزا مختلسا بلا ياء. وقرأ أبو جعفر والأعرج « ليلاف » بلا همز طلبا للخفة. الباقون « لإيلاف » بالياء مهموزا مشبعا؛ من آلفت أولف إيلافا. قال الشاعر:

المنعمين إذا النجوم تغيرت والظاعنين لرحلة الإيلاف

ويقال: ألفته إلفا وإلافا. وقرأ أبو جعفر أيضا: « لإلف قريش » وقد جمعهما من قال:

زعمتم أن إخوتكم قريش لهم إلف وليس لكم إلاف

قال الجوهري: وفلان قد ألف هذا الموضع ( بالكسر ) يألف إلفا، وآلفه إياه غيره. ويقال أيضا: آلفت الموضع أولفه إيلافا. وكذلك: آلفت الموضع أولفه مؤالفة وإلافا؛ فصار صورة أفعل وفاعل في الماضي واحدة. وقرأ عكرمة « ليألف » بفتح اللام على الأمر وكذلك هو في مصحف ابن مسعود. وفتح لام الأمر لغة حكاها ابن مجاهد وغيره. وكان عكرمة يعيب على من يقرأ « لإيلاف » . وقرأ بعض أهل مكة « إلاف قريش » استشهد بقول أبي طالب يوصي أخاه أبا لهب برسول الله صلى الله عليه وسلم:

فلا تتركنه ما حييت لمعظم وكن رجلا ذا نجدة وعفاف

تذود العدا عن عصبة هاشمية إلافهم في الناس خير إلاف

وأما قريش فهم بنو النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر. فكل من كان من ولد النضر فهو قرشي دون بني كنانة ومن فوقه. وربما قالوا: قريشي، وهو القياس؛ قال الشاعر:

بكل قريشي عليه مهابة

فإن أردت بقريش الحي صرفته، وإن أردت به القبيلة لم تصرفه؛ قال الشاعر:

وكفى قريش المعضلات وسادها

والتقريش: الاكتساب، وتقرشوا أي تجمعوا. وقد كانوا متفرقين في غير الحرم، فجمعهم قصي ابن كلاب في الحرم، حتى اتخذوه مسكنا. قال الشاعر:

أبونا قصي كان يدعي مجمعا به جمع الله القبائل من فهر

وقد قيل:إن قريشا بنو فهر بن مالك بن النضر. فكل من لم يلده فهر فليس بقرشي. والأول أصح وأثبت. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إنا ولد النضر بن كنانة لا نقفوا أُمنا، ولا ننتفي من أبينا ) . وقال وائلة بن الأسقع: قال النبي صلى الله عليه وسلم ( إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم ) . صحيح ثابت، خرجه البخاري ومسلم وغيرهما. واختلف في تسميتهم قريشا على أقوال: أحدهما: لتجمعهم بعد التفرق، والتقرش: التجمع والالتئام. قال أبو جلدة اليشكري:

إخوة قرشوا الذنوب علينا في حديث من دهرهم وقديم

الثاني: لأنهم كانوا تجارا يأكلون من مكاسبهم. والتقرش: التكسب. وقد قرش يقرش قرشا: إذا كسب وجمع. قال الفراء: وبه سميت قريش. الثالث: لأنهم كانوا يفتشون الحاج من ذي الخلة، فيسدون خلته. والقرش: التفتيش. قال الشاعر:

أيها الشامت المقرش عنا عند عمرو فهل له إبقاء

الرابع: ما روي أن معاوية سأل ابن عباس لم سميت قريش قريشا؟ فقال: لدابة في البحر من أقوى دوابه يقال لها القرش؛ تأكل ولا تؤكل، وتعلو ولا تُعلى. وأنشد قول تبع:

قريش هي التي تسكن البحـ ـر بها سميت قريش قريشا

تأكل الرث والسمين ولا تتـ ـرك فيها لذي جناحين ريشا

هكذا في البلاد حي قريش يأكلون البلاد أكلا كميشا

ولهم آخر الزمان نبي يكثر القتل فيهم والخموشا

 

الآية: 2 ( إيلافهم رحلة الشتاء والصيف )

 

قرأ مجاهد وحميد « إلفهم » ساكنة اللام بغير ياء. وروي نحوه عن ابن كثير. وكذلك روت أسماء أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ « إلفهم » . وروي عن ابن عباس وغيره. وقرأ أبو جعفر والوليد عن أهل الشام وأبو حيوة « إلافهم » مهموزا مختلسا بلا ياء. وقرأ أبو بكر عن عاصم « إئلافهم » بهمزتي، الأولى مكسورة والثانية ساكنة. والجمع بين الهمزتين في الكلمتين شاذ. الباقون « إيلافهم » بالمد والهمز؛ وهو الاختيار، وهو بدل من الإيلاف الأول للبيان. وهو مصدر آلف: إذا جعلته يألف. وألف هو إلفا؛ على ما تقدم ذكره من القراءة؛ أي وما قد ألفوه من رحلة الشتاء والصيف. روى ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: « إيلافهم رحلة الشتاء والصيف » قال: لا يشق عليهم رحلة شتاء ولا صيف، مِنةً منهُ على قريش. وقال الهروي وغيره: وكان أصحاب الإيلاف أربعة إخوة: هاشم، وعبد شمس، والمطلب، ونوفل؛ بنو عبد مناف. فأما هاشم فإنه كان يؤلف ملك الشام؛ أي أخذ منه حبلا وعهدا يأمن به في تجارته إلى الشام. وأخوه عبد شمس كان يؤلف إلى الحبشة. والمطلب إلى اليمن. ونوفل إلى فارس. ومعنى يؤلف يجير. فكان هؤلاء الإخوة يسمون المجيرين. فكان تجار قريش يختلفون إلى الأمصار بحبل هؤلاء الإخوة، فلا يتعرض لهم. قال الزهري: الإيلاف: شبه الإجارة بالخفارة؛ يقال: آلف يؤلف: إذا أجار الحمائل بالخفارة. والحمائل: جمع حمولة. قال: والتأويل: أن قريشا كانوا سكان الحرم، ولم يكن لهم زرع ولا ضرع، وكانوا يميرون في الشتاء والصيف آمنين، والناس يُتَخطفون من حولهم، فكانوا إذا عرض لهم عارض قالوا: نحن أهل حرم الله، فلا يتعرض الناس لهم. وذكر أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا في تفسيره: حدثنا سعيد بن محمد، عن بكر بن سهل الدمياطي، بإسناده إلى ابن عباس، في قول الله عز وجل: « لإيلاف قريش » إلفهم رحلة الشتاء والصيف. وذلك أن قريشا كانوا إذا أصابت واحدا منهم مخمصة، جرى هو وعياله إلى موضع معروف، فضربوا على أنفسهم خباء فماتوا؛ حتى كان عمرو بن عبد مناف، وكان سيد زمانه، وله ابن يقال له أسد، وكان له ترب من بني مخزوم، يحبه ويلعب معه. فقال له: نحن غدا نعتفد، قال ابن فارس: هذه لفظة في هذا الخبر لا أدري: بالدال هي أم بالراء؛ فإن كانت بالراء فلعلها من العفر، وهو التراب، وإن كان بالدال، فما أدري معناها، وتأويله على ما أظنه: ذهابهم إلى ذلك الخباء، وموتهم واحدا بعد واحد. قال: فدخل أسد على أمه يبكي، وذكر ما قاله تربه. قال: فأرسلت أم أسد إلى أولئك بشحم ودقيق، فعاشوا به أياما. ثم إن تربه أتاه أيضا فقال: نحن غدا نعتفد، فدخل أسد على أبيه يبكي، وخبره خبر تربه، فاشتد ذلك على عمرو بن عبد مناف، فقام خطيبا في قريش وكانوا يطيعون أمره، فقال: إنكم أحدثتم حدثا تقلون فيه وتكثر العرب، وتذلون وتعز العرب، وأنتم أهل حرم الله وجل وعز، وأشرف ولد آدم، والناس لكم تبع، ويكاد هذا الاعتفاد يأتي عليكم. فقالوا: نحن لك تبع. قال: ابتدئوا بهذا الرجل - يعني أبا ترب أسد - فأغنوه عن الاعتفاد، ففعلوا. ثم إنه نحر البدن، وذبح الكباش والمعز، ثم هشم الثريد، وأطعم الناس؛ فسمي هاشما. وفيه قال الشاعر:

عمرو الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف

ثم جمع كل بني أب على رحلتين: في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام للتجارات، فما ربح الغني قسمه بينه وبين الفقير، حتى صار فقيرهم كغنيهم؛ فجاء الإسلام وهم على هذا، فلم يكن في العرب بنو أب أكثر مالا ولا أعز من قريش، وهو قول شاعرهم:

والخالطون فقيرهم بغنيهم حتى يصير فقيرهم كالكافي

فلم يزالوا كذلك حتى بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، فقال: « فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع » بصنيع هاشم « وآمنهم من خوف » أن تكثر العرب ويقلوا.

 

قوله تعالى: « رحلة الشتاء والصيف » « رحلة » نصب بالمصدر؛ أي ارتحالهم رحلة؛ أو بوقوع « إيلافهم » عليه، أو على الظرف. ولو جعلتها في محل الرفع، على معنى هما رحلة الشتاء والصيف، لجاز. والأول أولى. والرحلة الارتحال. وكانت إحدى الرحلتين إلى اليمن في الشتاء، لأنها بلاد حامية، والرحلة الأخرى في الصيف إلى الشام، لأنها بلاد باردة. وعن ابن عباس أيضا قال: كانوا يشتون بمكة لدفئها، ويصيفون بالطائف لهوائها. وهذه من أجل النعم أن يكون للقوم ناحية حر تدفع عنهم برد الشتاء، وناحية برد تدفع عنهم حر الصيف؛ فذكرهم الله تعالى هذه النعمة. وقال الشاعر:

تشتي بمكة نعمة ومصيفها بالطائف

 

اختار القاضي أبو بكر بن العربي وغيره من العلماء: أن قوله تعالى: « لإيلاف » متعلق بما قبله. ولا يجوز أن يكون متعلقا بما بعده، وهو قوله تعالى: « فليعبدوا رب هذا البيت » قال: وإذا ثبت أنه متعلق بالسورة الأخرى - وقد قطع عنه بكلام مبتدأ، واستئناف بيان وسطر « بسم الله الرحمن الرحيم » ،فقد تبين جواز الوقف في القراءة للقراء قبل تمام الكلام، وليست المواقف التي ينتزع بها القراء شرعا عن النبي صلى الله عليه وسلم مرويا، وإنما أرادوا به تعليم الطلبة المعاني، فإذا علموها وقفوا حيث شاءوا. فأما الوقف عند انقطاع النفس فلا خلاف فيه، ولا تعد ما قبله إذا اعتراك ذلك، ولكن ابدأ من حيث وقف بك نفسك. هذا رأيي فيه، ولا دليل على ما قالوه، بحال، ولكني أعتمد الوقف على التمام، كراهية الخروج عنهم.

قلت: ومن الدليل على صحة هذا، قراءة النبي صلى الله عليه وسلم « الحمد لله رب العالمين » ثم يقف. « الرحمن الرحيم » ثم يقف. وقد مضى في مقدمة الكتاب. وأجمع المسلمون أن الوقف عند قوله: « كعصف مأكول » [ الفيل: 5 ] ليس بقبيح. وكيف يقال إنه قبيح وهذه السورة تقرأ في الركعة الأولى والتي بعدها في الركعة الثانية، فيتخللها من قطع القراءة أركان؟ وليس أحد من العلماء يكره ذلك، وما كانت العلة فيه إلا أن قوله تعالى: « فجعلهم كعصف مأكول » [ الفيل: 5 ] انتهاء آية. فالقياس على ذلك: ألا يمتنع الوقف عند أعجاز الآيات سواء كان الكلام يتم، والغرض ينتهي، أو لا يتم، ولا ينتهي. وأيضا فإن الفواصل حلية وزينة للكلام المنظوم، ولولاها لم يتبين المنظوم من المنثور. ولا خفاء أن الكلام المنظوم أحسن؛ فثبت بذلك أن الفواصل من محاسن المنظوم، فمن أظهر فواصله بالوقوف عليها فقد أبدى محاسنه، وترك الوقوف يخفي تلك المحاسن، ويشبه المنثور بالمنظوم, وذلك إخلال بحق المقروء.

 

قال مالك: الشتاء نصف السنة، والصيف نصفها، ولم أزل أرى ربيعة بن أبي عبدالرحمن ومن معه، لا يخلعون عمائمهم حتى تطلع الثريا، وهو يوم التاسع عشر من بشنس، وهو يوم خمسة وعشرين من عدد الروم أو الفرس. وأراد بطلوع الثريا أن يخرج السعاة، ويسير الناس بمواشيهم إلى مياههم، وأن طلوع الثريا أول الصيف ودبر الشتاء. وهذا مما لا خلاف فيه بين أصحابه عنه. وقال عنه أشهب وحده: إذا سقطت الهقعة نقص الليل،، فلما جعل طلوع الثريا أول الصيف، وجب أن يكون له في مطلق السنة ستة أشهر، ثم يستقبل الشتاء من بعد ذهاب الصيف ستة أشهر. وقد سئل محمد بن عبدالحكم عمن حلف ألا يكلم أمرأ حتى يدخل الشتاء؟ فقال: لا يكلمه حتى يمضى سبعة عشر من هاتور. ولو قال يدخل الصيف، لم يكلمه حتى يمضى سبعة عشر من بشنس. قال القرظي: أما ذكر هذا عن محمد في بشنس، فهو سهو، إنما هو تسعة عشر من بشنس، لأنك إذ حسبت المنازل على ما هي عليه، من ثلاث عشرة ليلة كل منزلة، علمت أن ما بين تسع عشرة من هاتور لا تنقضي منازل إلا بدخول تسع عشرة من بشنس. والله أعلم.

 

قال قوم: الزمان أربعة أقسام: شتاء، وربيع، وصيف، وخريف. وقال قوم: هو شتاء، وصيف، وقيظ، وخريف. والذي قاله مالك أصح؛ لأن الله قسم الزمان قسمين ولم يجعل لهما ثالثا.

الثالثة: لما امتن الله تعالى على قريش برحلتين، شتاء وصيفا، على ما تقدم، كان فيه دليل على جواز تصرف الرجل في الزمانين بين محلين، يكون حالهما في كل زمان أنعم من الآخر؛ كالجلوس في المجلس البحري في الصيف، وفي القبلي في الشتاء، وفي اتخاذ البادهنجات والخيش للتبريد، واللبد واليانوسة للدفء.

 

الآية: 3 ( فليعبدوا رب هذا البيت )

 

أمرهم الله تعالى بعبادته وتوحيده، لأجل إيلافهم رحلتين. ودخلت الفاء لأجل ما في الكلام من معنى الشرط، لأن المعنى: إما لا فليعبدوه لإيلافهم؛ على معنى أن نعم الله تعالى عليهم لا تحصى، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه، فليعبدوه لشأن هذه الواحدة، التي هي نعمة ظاهرة. والبيت: الكعبة. وفي تعريف نفسه لهم بأنه رب هذا البيت وجهان: أحدهما لأنه كانت لهم أوثان فيميز نفسه عنها. الثاني: لأنهم بالبيت شرفوا على سائر العرب، فذكر لهم ذلك، تذكيرا لنعمته. وقيل: « فليعبدوا رب هذا البيت » أي ليألفوا عبادة رب الكعبة، كما كانوا يألفون الرحلتين. قال عكرمة: كانت قريش قد ألفوا رحلة إلى بصرى ورحلة إلى اليمن، فقيل لهم: « فليعبدا رب هذا البيت » أي يقيموا بمكة. رحلة الشتاء، إلى اليمن، والصيف: إلى الشام.

 

الآية: 4 ( الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف )

 

قوله تعالى: « الذي أطعمهم من جوع » أي بعد جوع. « وآمنهم من خوف » قال ابن عباس: وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام حيث قال: « رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات » [ البقرة: 126 ] . وقال ابن زيد: كانت العرب يغير بعضها على بعض، ويسبي بعضها من بعض، فأمنت قريش من ذلك المكان الحرم - وقرأ - « أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء » [ القصص: 57 ] . وقيل: شق عليهم السفر في الشتاء والصيف، فألقى الله في قلوب الحبشة أن يحملوا إليهم طعاما في السفن، فحملوه؛ فخافت قريش منهم، وظنوا أنهم قدموا لحربهم، فخرجوا إليهم متحرزين، فإذا هم قد جلبوا إليهم الطعام، وأغاثوهم بالأقوات؛ فكان أهل مكة يخرجون إلى جدة بالإبل والحمر، فيشترون الطعام، على مسيرة ليلتين. وقيل: هذا الإطعام هو أنهم لما كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم، فقال: ( اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف ) فاشتد القحط، فقالوا: يا محمد ادع الله لنا فإنا مؤمنون. فدعا فأخصبت تبالة وجرش من بلاد اليمين؛ فحملوا الطعام إلى مكة، وأخصب أهلها. وقال الضحاك والربيع وشريك وسفيان: « وآمنهم من خوف » أي من خوف الجذام، لا يصيبهم ببلدهم الجذام. وقال الأعمش: « وآمنهم من خوف » أي من خوف الحبشة مع الفيل. وقال علي رضي الله عنه: « وآمنهم من خوف » أن تكون الخلافة إلاًّ فيهم. وقيل: أي كفاهم أخذ الإيلاف من الملوك. فالله أعلم، واللفظ يعم.

 

سورة الماعون

 

الآيات: 1 - 2 ( أرأيت الذي يكذب بالدين، فذلك الذي يدع اليتيم )

 

قوله تعالى: « أرأيت الذي يكذب بالدين » أي بالجزاء والحساب في الآخرة؛ وقد تقدم في « الفاتحة » . و « أرأيت » بإثبات الهمزة الثانية؛ إذ لا يقال في أرأيت: ريت، ولكن ألف الاستفهام سهلت الهمزة ألفا؛ ذكره الزجاج. وفي الكلام حذف؛ والمعنى: أرأيت الذي يكذب بالدين: أمصيب هو أم مخطئ. واختلف فيمن نزل هذا فيه؛ فذكر أبو صالح عن ابن عباس قال: نزلت في العاص بن وائل السهمي؛ وقاله الكلبي ومقاتل. وروى الضحاك عنه قال: نزلت في رجل من المنافقين. وقال السدي: نزلت في الوليد بن المغيرة. وقيل في أبي جهل. الضحاك: في عمرو بن عائذ. قال ابن جريج: نزلت في أبي سفيان، وكان ينحر في كل أسبوع جزورا، فطلب منه يتيم شيئا، فقرعه بعصاه؛ فأنزل الله هذه السورة. و « يدع » أي يدفع، كما قال: « يدعون إلى نار جهنم دعا » [ الطور: 13 ] وقد تقدم. وقال الضحاك عن ابن عباس: « فذلك الذي يدع اليتيم » أي يدفعه عن حقه. قتادة: يقهره ويظلمه. والمعنى متقارب. وقد تقدم في سورة « النساء » أنهم كانوا لا يورثون النساء ولا الصغار، ويقولون: إنما يحوز المال من يطعن بالسنان، ويضرب بالحسام. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من ضم يتيما من المسلمين حتى يستعني فقد وجبت له الجنة ) . وقد مضى هذا المعنى في غير موضع.

 

الآية: 3 ( ولا يحض على طعام المسكين )

 

قوله تعالى: « ولا يحض على طعام المسكين » أي لا يأمر به، من أجل بخله وتكذيبه بالجزاء. وهو مثل قوله تعالى في سورة الحاقة: « ولا يحض على طعام المسكين » [ الحاقة: 34 ] وقد تقدم. وليس الذم عاما حتى يتناول من تركه عجزا، ولكنهم كانوا يبخلون ويعتذرون لأنفسهم، ويقولون: « أنطعم من لو يشاء الله أطعمه » [ يس: 47 ] ، فنزلت هذه الآية فيهم، وتوجه الذم إليهم. فيكون معنى الكلام: لا يفعلونه إن قدروا، ولا يحثون عليه إن عسروا.

 

الآيات: 4 - 7 ( فويل للمصلين، الذين هم عن صلاتهم ساهون، الذين هم يراؤون، ويمنعون الماعون )

 

قوله تعالى: « فويل للمصلين » أي عذاب لهم. وقد تقدم في غير موضع. « الذين هم عن صلاتهم ساهون » فروى الضحاك عن ابن عباس قال هو المصلي الذي إن صلى لم يرج لها ثوابا، وإن تركها لم يخش عليها عقابا. وعنه أيضا: الذين يؤخرونها عن أوقاتها. وكذا روى المغيرة عن إبراهيم، قال: ساهون بإضاعة الوقت. وعن أبي العالية: لا يصلونها لمواقيتها، ولا يتمون ركوعها ولا سجودها.

قلت: ويدل على هذا قوله تعالى: « فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة » [ مريم: 59 ] حسب ما تقدم بيانه في سورة « مريم » عليها السلام. وروي عن إبراهيم أيضا: أنه الذي إذا سجد قام برأسه هكذا ملتفتا. وقال قطرب: هو ألا يقرأ ولا يذكر الله. وفي قراءة عبدالله « الذين هم عن صلاتهم لاهون » . وقال سعد بن أبي وقاص: قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: « فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون » - قال - : ( الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، تهاونا بها ) . وعن ابن عباس أيضا: هم المنافقون يتركون الصلاة سرا، يصلونها علانية « وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى » [ النساء: 142 ] .. الآية. ويدل على أنها في المنافقين قوله: « الذين هم يراؤون » ، وقال ابن وهب عن مالك. قال ابن عباس: ولو قال في صلا:الم وقال عطاء: الحمد لله الذي قال « عن صلاتهم » ولم يقل في صلاتهم. قال الزمخشري: فإن قلت: أي فرق بين قوله: « عن صلاتهم » ، وبين قولك: في صلاتهم؟ قلت: معنى « عن » أنهم ساهون عنها سهو ترك لها، وقلة التفات إليها، وذلك فعل المنافقين، أو الفسقة الشطار من المسلمين. ومعنى « في » أن السهو يعتريهم فيها، بوسوسة شيطان، أو حديث نفس، وذلك لا يكاد يخلو منه مسلم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع له السهو في صلاته، فضلا عن غيره؛ ومن ثم أثبت الفقهاء باب سجود السهو في كتبهم. قال ابن العربي: لأن السلامة من السهو محال، وقد سها رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته والصحابة: وكل من لا يسهو في صلاته، فذلك رجل لا يتدبرها، ولا يعقل قراءتها، وإنما همه في أعدادها؛ وهذا رجل يأكل القشور، ويرمي اللب. وما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسهو في صلاته إلا لفكرته في أعظم منها؛ اللهم إلا أنه قد يسهو في صلاته من يقبل على وسواس الشيطان إذا قال له: اذكر كذا، اذكر كذا؛ لما لم يكن يذكر، حتى يضل الرجل أن يدري كم صلى.

 

قوله تعالى: « الذين هم يراؤون » أي يري الناس أنه يصلي طاعة وهو يصلي تقية؛ كالفاسق، يرى أنه يصلي عبادة وهو يصلي ليقال: إنه يصلي. وحقيقة الرياء طلب ما في الدنيا بالعبادة، وأصله طلب المنزلة في قلوب الناس. وأولها تحسين السمت؛ وهو من أجزاء النبوة، ويريد بذلك الجاه والثناء. وثانيها: الرياء بالثياب القصار والخشنة؛ ليأخذ بذلك هيئة الزهد في الدنيا. وثالثها: الرياء بالقول، بإظهار التسخط على أهل الدنيا؛ وإظهار الوعظ والتأسف على ما يفوت من الخير والطاعة. ورابعها: الرياء بإظهار الصلاة والصدقة، أو بتحسين الصلاة لأجل رؤية الناس؛ وذلك يطول، وهذا دليله؛ قاله ابن العربي.

قلت: قد تقدم في سورة « النساء وهود وآخر الكهف » القول في الرياء وأحكامه وحقيقته بما فيه كفاية. والحمد لله.

 

ولا يكون الرجل مرائيا بإظهار العمل الصالح إن كان فريضة؛ فمن حق الفرائض الإعلان بها وتشهيرها، لقوله عليه السلام: ( ولا غمة في فرائض الله ) لأنها أعلام الإسلام، وشعائر الدين، ولأن تاركها يستحق الذم والمقت؛ فوجب إماطة التهمة بالإظهار، وإن كان تطوعا فحقه أن يخفي؛ لأنه لا يلام تركه ولا تهمة فيه، فإن أظهره قاصدا للاقتداء به كان جميلا. وإنما الرياء أن يقصد بالإظهار أن تراه الأعين، فتثني عليه بالصلاح. وعن بعضهم أنه رأى رجلا في المسجد قد سجد سجدة الشكر فأطالها؛ فقال: ما أحسن هذا لو كان في بيتك. وإنما قال هذا لأنه توسم فيه الرياء والسمعة. وقد مضى هذا المعنى في سورة « البقرة » عند قوله تعالى: « إن تبدوا الصدقات » [ البقرة: 271 ] ، وفي غير موضع. والحمد لله على ذلك.

 

قوله تعالى: « ويمنعون الماعون » فيه اثنا عشر قولا: الأول: أنه زكاة أموالهم. كذا روى الضحاك عن ابن عباس. وروى عن علي رضي الله عنه مثل ذلك، وقاله مالك. والمراد به المنافق يمنعها. وقد روى أبو بكر بن عبدالعزيز عن مالك قال: بلغني أن قوله الله تعالى: « فويل للمصلين. الذين هم على صلاتهم ساهون. الذين هم يراؤون. ويمنعون الماعون » قال: إن المنافق إذا صلى صلى رياءً، وإن فاتته لم يندم عليها، « ويمنعون الماعون » الزكاة التي فرض الله عليهم. قال زيد بن أسلم: لو خفيت لهم الصلاة كما خفيت لهم الزكاة ما صلوا. القول الثاني: أن « الماعون » المال، بلسان قريش؛ قاله ابن شهاب وسعيد بن المسيب. وقول ثالث: أنه اسم جامع لمنافع البيت كالفأس والقدر والنار وما أشبه ذلك؛ قاله ابن مسعود، وروي عن ابن عباس أيضا. قال الأعشى:

بأجود منه بما عونه إذا ما سماؤهم لم تغم

الرابع: ذكر الزجاج وأبو عبيد والمبرد أن الماعون في الجاهلية كل ما فيه منفعة، حتى الفأس والقدر والدلو والقداحة، وكل ما فيه منفعة من قليل وكثير؛ وأنشدوا بيت الأعشى. قالوا: والماعون في الإسلام: الطاعة والزكاة؛ وأنشدوا قول الراعي:

أخليفة الرحمن إنا معشر حنفاء نسجد بكرة وأصيلا

عرب نرى لله من أموالنا حق الزكاة منزلا تنزيلا

قوم على الإسلام لما يمنعوا ما عونهم ويضيعوا التهليلا

يعني الزكاة. الخامس: أنه العارية؛ وروي عن ابن عباس أيضا. السادس: أنه المعروف كله الذي يتعاطاه الناس فيما بينهم؛ قاله محمد بن كعب والكلبي. السابع: أنه الماء والكلأ. الثامن: الماء وحده. قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: الماعون: الماء؛ وأنشدني فيه:

يمج صبيره الماعون صبا

الصبير: السحاب. التاسع: أنه منع الحق؛ قاله عبدالله بن عمر. العاشر: أنه المستغل من منافع الأموال؛ مأخوذ من المعن وهو القليل؛ حكاه الطبري ابن عباس. قال قطرب: أصل الماعون من القلة. والمعن: الشيء القليل؛ تقول العرب: ماله سعنة ولا معنة؛ أي شيء قليل. فسمى الله تعالى الزكاة والصدقة ونحوهما من المعروف، ماعونا؛ لأنه قليل من كثير. ومن الناس من قال: الماعون: أصله معونة، والألف عوض من الهاء؛ حكاه الجوهري. ابن العربي: الماعون: مفعول من أعان يعين، والعون: هو الإمداد بالقوة والآلات والأسباب الميسرة للأمر. الحادي عشر: أنه الطاعة والانقياد. حكى الأخفش عن أم أعرابي فصيح: لو قد نزلنا لصنعت بناقتك صنيعا تعطيك الماعون؛ أي تنقاد لك وتعطيك. قال الراجز:

متى تصادفهن في البرين يخضعن أو يعطين بالماعون

وقيل: هو ما لا يحل منعه، كالماء والملح والنار؛ لأن عائشة رضوان الله عليها قالت: قلت يا رسول الله، ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: ( الماء والنار والملح ) قلت: يا رسول الله هذا الماء، فما بال النار والملح؟ فقال: ( يا عائشة من أعطى نارا فكأنما تصدق بجميع ما طبخ بتلك النار، ومن أعطى ملحا فكأنما تصدق بجميع ما طيب به ذلك الملح، ومن سقى شربة من الماء حيث يوجد الماء، فكأنما أعتق ستين نسمة. ومن سقى شربة من الماء حيث لا يوجد، فكأنما أحيا نفسا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ) . ذكره الثعلبي في تفسيره، وخرجه ابن ماجه في سننه. وفي إسناده لين؛ وهو القول الثاني عشر. الماوردي: ويحتمل أنه المعونة بما خف فعله وقد ثقله الله. والله أعلم. وقيل لعكرمة مولى ابن عباس: من منع شيئا من المتاع كان له الويل؟ فقال: لا، ولكن من جمع ثلاثهن فله الويل؛ يعني: ترك الصلاة، والرياء، والبخل بالماعون.

قلت: كونها في المنافقين أشبه، وبهم أخلق؛ لأنهم جمعوا الأوصاف الثلاثة: ترك الصلاة، والرياء، والبخل بالمال؛ قال الله تعالى: « وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا » [ النساء: 142 ] ، وقال: « ولا ينفقون إلا وهم كارهون » . [ التوبة: 54 ] . وهذه أحوالهم ويبعد أن توجد من مسلم محقق، وإن وجد بعضها فيلحقه جزء من التوبيخ، وذلك في منع الماعون إذا تعين؛ كالصلاة إذا تركها. والله أعلم. إنما يكون منعا قبيحا في المروءة في غير حال الضرورة. والله أعلم.

 

سورة الكوثر

 

الآية: 1 ( إنا أعطيناك الكوثر )

 

قوله تعالى: « إنا أعطيناك الكوثر » قراءة العامة. « إنا أعطيناك » بالعين. وقرأ الحسن وطلحة بن مصرف: « أنطيناك » بالنون؛ وروته أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهي لغة في العطاء؛ أنطيته: أعطيته. و « الكوثر » : فوعل من الكثرة؛ مثل النوفل من النفل، والجوهر من الجهر. والعرب تسمي كل شيء كثير في العدد والقدر والخطر كوثرا. قال سفيان: قيل لعجوز رجع ابنها من السفر: بم آب ابنك؟ قالت بكوثر؛ أي بمال كثير. والكوثر من الرجال: السيد الكثير الخير. قال الكميت:

وأنت كثير يا ابن مروان طيب وكان أبوك ابن العقائل كوثرا

والكوثر: العدد الكثير من الأصحاب والأشياع. والكوثر من الغبار: الكثير. وقد تكوثر إذا كثر؛ قال الشاعر:

وقد ثار الموت حتى تكوثرا

 

واختلف أهل التأويل في الكوثر الذي أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم على ستة عشر قولا: الأول: أنه نهر في الجنة؛ رواه البخاري عن أنس والترمذي أيضا وقد ذكرناه في كتاب التذكرة. وروى الترمذي أيضا عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الكوثر: نهر في الجنة، حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت، تربته أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج ) . هذا حديث حسن صحيح. الثاني: أنه حوض النبي صلى الله عليه وسلم في الموقف؛ قاله عطاء. وفي صحيح مسلم عن أنس قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسما فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: نزلت على آنفا سورة - فقرأ - بسم الله الرحمن الرحيم: « إنا أعطيناك الكوثر. فصل لربك وأنحر. إن شانئك هو الأبتر » - ثم قال - أتدرون ما الكوثر؟. قلنا الله ورسول أعلم. قال: فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل، عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة أنيته عدد النجوم، فيختلج العبد منهم فأقول إنه من أمتي، فيقال إنك لا تدري ما أحدث بعدك.

والأخبار في حوضه في الموقف كثيرة، ذكرناها في كتاب « التذكرة » . وأن على أركانه الأربعة خلفاءه الأربعة؛ رضوان الله عليهم. وأن من أبغض واحدا منهم لم يسقه الآخر، وذكرنا هناك من يُطرد عنه. فمن أراد الوقوف على ذلك تأمله هناك. ثم يجوز أن يسمى ذلك النهر أو الحوض كوثرا، لكثرة الواردة والشاربة من أمة محمد عليه السلام هناك. ويسمى به لما فيه من الخير الكثير والماء الكثير. الثالث: أن الكوثر النبوة والكتاب؛ قاله عكرمة. الرابع: القرآن؛ قاله الحسن. الخامس: الإسلام؛ حكاه المغيرة. السادس: تيسير القرآن وتخفيف الشرائع؛ قاله الحسين بن الفضل. السابع: هو كثرة الأصحاب والأمة والأشياع؛ قاله أبو بكر بن عياش ويمان ابن رئاب. الثامن: أنه الإيثار؛ قال ابن كيسان. التاسع: أنه رفعة الذكر. حكاه الماوردي. العاشر: أنه نور في قلبك دلك علي، وقطعك عما سواي. وعنه: هو الشفاعة؛ وهو الحادي عشر. وقيل: معجزات الرب هدي بها أهل الإجابة لدعوتك؛ حكاه الثعلبي، وهو الثاني عشر. الثالث عشر: قال هلال بن يساف: هو لا إله إلا الله محمد رسول الله. وقيل: الفقه في الدين. وقيل: الصلوات الخمس؛ وهما الرابع عشر والخامس عشر. وقال ابن إسحاق: هو العظيم من الأمر؛ وذكر بيت لبيد:

وصاحب ملحوب فجعنا بفقده وعند الرداع بيت آخر كوثر

أي عظيم.

قلت: أصح هذه الأقوال الأول والثاني؛ لأنه ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم نص في الكوثر. وسمع أنس قوما يتذاكرون الحوض فقال: ما كنت أرى أن أعيش حتى أرى أمثالكم يتمارون في الحوض، لقد تركت عجائز خلفي، ما تصلي امرأة منهن إلا سألت الله أن يسقيها من حوض النبي صلى الله عليه وسلم. وفي حوضه يقول الشاعر:

يا صاحب الحوض من يدانيكا وأنت حقا حبيب باريكا

وجميع ما قيل بعد ذلك في تفسيره قد أعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيادة على حوضه، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا.

 

الآية: 2 ( فصل لربك وانحر )

 

قوله تعالى: « فصل » أي أقم الصلاة المفروضة عليك؛ كذا رواه الضحاك عن ابن عباس. وقال قتادة وعطاء وعكرمة: « فصل لربك » صلاة العيد ويوم النحر. « وانحر » نسكك. وقال أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينحر ثم يصلي، فأمر أن يصلي ثم ينحر. وقال سعيد بن جبير أيضا: صل لربك صلاة الصبح المفروضة بجمع، وانحر البدن بمني، وقال سعيد بن جبير أيضا: نزلت في الحديبية حين حصر النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت، فأمره الله تعالى أن يصلي وينحر البدن وينصرف؛ ففعل ذلك. قال ابن العربي: أما من قال: إن المراد بقوله تعالى: « فصل » : الصلوات الخمس؛ فإنها ركن العبادات، وقاعدة الإسلام، وأعظم دعائم الدين. وأما من قال: إنها صلاة الصبح بالمزدلفة؛ فلأنها مقرونة بالنحر، وهو في ذلك اليوم، ولا صلاة فيه قبل النحر غيرها؛ فخصها بالذكر من جملة الصلوات لاقترانها بالنحر « .»

قلت: وأما من قال إنها صلاه العيد؛ فذلك بغير مكة؛ إذ ليس بمكة صلاة عيد بإجماع، فيما حكاه ابن عمر. قال ابن العربي: فأما مالك فقال: ما سمعت فيه شيئا، والذي يقع في نفسي أن المراد بذلك صلاة يوم النحر، والنحر بعدها. وقال علي رضي الله عنه ومحمد بن كعب: المعنى ضع اليمني على اليسرى حذاء النحر في الصلاة. وروي عن ابن عباس أيضا. وروي عن علي أيضا: أن يرفع يديه في التكبير إلى نحوه. وكذا قال جعفر بن علي: « فصل لربك وانحر » قال: يرفع يديه أول ما يكبر للإحرام إلى النحر. وعن علي رضي الله عنه قال: لما نزلت « فصل لربك وانحر » قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل: ( ما هذه النحيرة التي أمرني الله بها ) ؟ قال: ( ليست بنحيرة، ولكنه يأمرك إذا تحرمت للصلاة، أن ترفع يديك إذا كبرت، وإذا رفعت رأسك من الركوع، وإذا سجدت، فإنها صلاتنا وصلاة الملائكة الذين هم في السموات السبع، وإن لكل شيء زينة، وإن زينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيره ) . وعن أبي صالح عن ابن عباس قال: استقبل القبلة بنحرك؛ وقاله الفراء والكلبي وأبو الأحوص. ومنه قول الشاعر:

أبا حكم ما أنت عم مجالد وسيد أهل الأبطح المتناحر

أي المتقابل. قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: منازلنا تتناحر؛ أي نتقابل، نحر هذا بنحر هذا؛ أي قبالته. وقال ابن الأعرابي: هو انتصاب الرجل في الصلاة بإزاء المحراب؛ من قولهم: منازلهم تتناحر؛ أي تتقابل. وروي عن عطاء قال: أمره أن يستوي بين السجدتين جالسا حتى يبدو نحره. وقال سليمان التيمي: يعني وارفع يدك بالدعاء إلى نحرك. وقيل: « فصل » معناه: واعبد. وقال محمد بن كعب القرظي: « إنا أعطيناك الكوثر. فصل لربك وأنحر » يقول: إن ناسا يصلون لغير الله، وينحرون لغير الله؛ وقد أعطيناك الكوثر، فلا تكن صلاتك ولا نحرك إلا لله. قاله ابن العربي: والذي عندي أنه أراد: أعبد ربك، وانحر له، فلا يكن عملك إلا لمن خصك بالكوثر، وبالحري أن يكون جميع العمل يوازي هذه الخصوصية من الكوثر، وهو الخير الكثير، الذي أعطاكه الله، أو النهر الذي طينه مسك، وعدد آنيته نجوم السماء؛ أما أن يوازي هذا صلاة يوم النحر، وذبح كبش أو بقرة أو بدنة، فذلك يبعد في التقدير والتدبير، وموازنة الثواب للعبادة. والله أعلم.

 

قد مضى القول في سورة « الصافات » في الأضحية وفضلها، ووقت ذبحها؛ فلا معنى لإعادة ذلك. وذكرنا أيضا في سورة « الحج » جملة من أحكامها. قال ابن العربي: ومن عجيب الأمر: أن الشافعي قال: إن من ضحى قبل الصلاة أجزأه، والله تعالى يقول في كتابه: « فصل لربك وأنحر » ، فبدأ بالصلاة قبل النحر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في البخاري وغيره، عن البراء بن عازب، قال: ( أول ما نبدأ به في يومنا هذا: نصلي، ثم نرجع فننحر، من فعل فقد أصاب نسكنا، ومن ذبح قبل، فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس من النسك في شيء ) . وأصحابه ينكرونه، وحبذا الموافقة.

 

وأما ما روي عن علي عليه السلام « فصل لربك وانحر » قال: وضع اليمين على الشمال في الصلاة خرجه الدار قطني، فقد اختلف علماؤنا في ذلك على ثلاثة أقوال: الأول: لا توضع فريضة ولا نافلة؛ لأن ذلك من باب الاعتماد. ولا يجوز في الفرض، ولا يستحب في النفل. الثاني: لا يفعلها في الفريضة، ويفعلها في النافلة استعانة؛ لأنه موضع ترخص. الثالث: يفعلها في الفريضة والنافلة. وهو الصحيح؛ لأنه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده اليمني على اليسرى من حديث وائل بن حجر وغيره. قال ابن المنذر: وبه قال مالك وأحمد وإسحاق، وحكي ذلك عن الشافعي. واستحب ذلك أصحاب الرأي. ورأت جماعة إرسال اليد. وممن روينا ذلك عنه ابن المنذر والحسن البصري وإبراهيم النخعي.

قلت: وهو مروي أيضا عن مالك. قال ابن عبدالبر: إرسال اليدين، ووضع اليمني على الشمال، كل ذلك من سنة الصلاة.

واختلفوا في الموضع الذي توضع عليه اليد؛ فروى عن علي بن أبي طالب: أنه وضعهما على صدره. وقال سعيد بن جبير وأحمد بن حنبل: فوق السرة. وقال: لا بأس إن كانت تحت السرة. وقالت طائفة: توضع تحت السرة. وروي ذلك عن علي وأبي هريرة والنخعي وأبي مجلز. وبه قال سفيان الثوري وإسحاق.

 

وأما رفع اليدين في التكبير عند الافتتاح والركوع والرفع من الركوع والرفع من الركوع والسجود، فاختلف في ذلك؛ فروى الدار قطني من حديث حميد عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه إذا دخل في الصلاة، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع، وإذا سجد. لم يروه عن حميد مرفوعا إلا عبدالوهاب الثقفي. والصواب: من فعل أنس. وفي الصحيحين من حديث ابن عمر، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه، حتى تكونا حذو منكبيه، ثم يكبر، وكان يفعل ذلك حين يكبر للركوع، ويفعل ذلك حين يرفع رأسه من الركوع، ويقول سمع الله لمن حمده. ولا يفعل ذلك حين يرفع رأسه من السجود. قال ابن المنذر: وهذا قول الليث بن سعد، والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور. وحكى ابن وهب عن مالك هذا القول. وبه أقوال؛ لأنه الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالت طائفة: يرفع المصلي يديه حين يفتتح الصلاة، ولا يرفع فيما سوى ذلك. هذا قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي.

قلت: وهو المشهور من مذهب مالك؛ لحديث ابن مسعود؛ خرجه الدار قطني من حديث إسحاق بن أبي إسرائيل، قال: حدثنا محمد بن جابر عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ فلم يرفعوا أيديهم إلا أولا عند التكبيرة الأولى في أفتتاح الصلاة. قال إسحاق: به نأخذ في الصلاة كلها. قال الدار قطني: تفرد به محمد بن جابر وكان ضعيفا عن حماد عن إبراهيم. وغير حماد يرويه عن إبراهيم مرسلا عن عبدالله، من فعله، غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهو الصواب. وقد روى يزيد بن أبي زياد عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن البراء: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم حين أفتتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه، ثم لم يعد إلى شيء من ذلك حتى فرغ من الصلاة. قال الدار قطني: وإنما لقن يزيد في آخر عمره: ثم لم يعد؛ فتلقنه وكان قد أختلط. وفي مختصر ما ليس في المختصر عن مالك: لا يرفع اليدين في شيء من الصلاة. قال ابن القاسم: ولم أر مالكا برفع يديه عند الإحرام، قال: وأحب إلي ترك رفع اليدين عند الإحرام.

 

الآية: 3 ( إن شانئك هو الأبتر )

 

أي مبغضك؛ وهو العاص بن وائل. وكانت العرب تسمي من كان له بنون وبنات، ثم مات البنون وبقي البنات: أبتر. فيقال: إن العاص وقف مع النبي صلى الله عليه وسلم يكلمه، فقال له جمع من صناديد قريش: مع من كنت واقفا؟ فقال: مع ذلك الأبتر. وكان قد توفي قبل ذلك عبدالله بن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من خديجة؛ فأنزل الله جل شأنه: « إن شانئك هو الأبتر » 0 أي المقطوع ذكره، من خير الدنيا والآخرة. وذكر عكرمة عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية إذا مات ابن الرجل قالوا: بتر فلان. فلما مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم خرج أبو جهل إلى أصحابه، فقال: بتر محمد؛ فأنزل الله جل ثناؤه: « إن شانئك هو الأبتر » يعني بذلك أبا جهل. وقال شمر بن عطية: هو عقبة بن أبي معيط. وقيل: إن قريشا كانوا يقولون لمن مات ذكور ولده: قد بتر فلان. فلما مات لرسول الله صلى الله عليه وسلم ابنه القاسم: بمكة، وإبراهيم بالمدينة، قالوا: بتر محمد، فليس له من يقوم بأمره من بعده؛ فنزلت هذه الآية؛ قال السدي وابن زيد. وقيل: إنه جواب لقريش حين قالوا لكعب بن الأشرف لما قدم مكة: نحن أصحاب السقاية والسدانة والحجابة واللواء، وأنت سيد أهل المدينة، فنحن خير أم هذا الصنيبر الأبيتر من قومه؟ قال كعب: بل أنتم خير؛ فنزلت في كعب: « ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت » [ النساء: 51 ] الآية. ونزلت في قريش: « إن شانئك هو الأبتر » ؛ قاله ابن عباس أيضا وعكرمة. وقيل: إن الله عز وجل لما أوحى إلى رسوله، ودعا قريشا إلى الإيمان، قالوا: انبتر منا محمد؛ أي خالفنا وانقطع عنا. فأخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أنهم هم المبتورون؛ قاله أيضا عكرمة وشهر بن حوشب. قال أهل اللغة: الأبتر من الرجال: الذي لا ولد له، ومن الدواب الذي لا ذنب له. وكل أمر انقطع من الخير أثره، فهو أبتر. والبتر: القطع. بترت الشيء بترا: قطعته قبل الإتمام. والانبتار: الانقطاع. والباتر: السيف القاطع. والأبتر: المقطوع الذنب. تقول منه: بتر ( بالكسر ) يبتر بترا. وفي الحديث ( ما هذه البتيراء ) . وخطب زياد خطبته البتراء؛ لأنه لم يمجد الله فيها، ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم. ابن السكيت: الأبتران: العير والعبد؛ قال سميا أبترين لقلة خيرهما. وقد أبتره الله: أي صيره أبتر. ويقال: رجل أباتر بضم الهمزة: الذي يقطع رحمه قال الشاعر:

لئيم نزت في أنفه خنزوانة على قطع ذي القربى أحذُّ أُباتر

والبترية: فرقة من الزيدية؛ نسبوا إلى المغيرة بن سعد، ولقبه الأبتر. وأما الصنبور فلفظ مشترك. قيل: هو النخلة تبقى منفردة، ويدق أسفلها ويتقشر؛ يقال: صنبرا أسفل النخلة. وقيل: هو الرجل الفرد الذي لا ولد له ولا أخ. وقيل: هو مثعب الحوض خاصة؛ حكاه أبو عبيد. وأنشد:

ما بين صنبور إلى الإزاء

والصنبور: قصبة تكون في الإداوة من حديد أو رصاص يشرب منها. حكى جميعه الجوهري رحمه الله. والله سبحانه وتعالى أعلم.

 

 

سورة الكافرون

 

وفي الترمذي من حديث أنس: أنها تعدل ثلث القرآن. وفي كتاب ( الرد لأبي بكر الأنباري ) : أخبرنا عبدالله بن ناجية قال: حدثنا يوسف قال حدثنا القعنبي وأبو نعيم عن موسى بن وردان عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( « قل يا أيها الكافرون » تعدل ربع القرآن ) . ورواه موقوفا عن أنس. وخرج الحافظ أبو محمد عبدالغني بن سعيد عن ابن عمر قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الفجر في سفر، فقرأ « قل يأيها الكافرون » . و « قل هو الله أحد » ، ثم قال: ( قرأت بكم ثلث القرآن وربعه ) . وروى جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أتحب يا جبير إذا خرجت سفرا أن تكون من أمثل أصحابك هيئة وأكثرهم زادا ) ؟ قلت: نعم. قال: ( فاقرأ هذه السور الخمس من أول « قل يا أيها الكافرون » [ الكافرون: 1 ] إلى - « قل أعوذ برب الناس » [ الناس: 1 ] وأفتتح قراءتك ببسم الله الرحمن الرحيم ) .قال: فوالله لقد كنت غير كثير المال، إذا سافرت أكون أبذهم هيئة، وأقلهم زادا، فمذ قرأتهن صرت من أحسنهم هيئة، وأكثرهم زادا، حتى أرجع من سفري ذلك. وقال فروة بن نوفل الأشجعي: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني قال: ( أقرأ عند منامك « قل يا أيها الكافرون » فإنها براءة من الشرك ) . خرجه أبو بكر الأنباري وغيره. وقال ابن عباس: ليس في القرآن أشد غيظا لإبليس منها؛ لأنها توحيد وبراءة من الشرك. وقال الأصمعي: كان يقال « لقل يأيها الكافرون » ، و « قل هو الله أحد » المقشقشتان؛ أي أنهما تبرئان من النفاق. وقال أبو عبيدة: كما يقشقش الهناء الجرب فيبرئه. وقال ابن السكيت: يقال للقرح والجدري إذا يبس وتقرف، وللجرب في الإبل إذا قفل: قد توسف جلده، وتوسف جلده، وتقشقش جلده.

 

الآيات: 1 - 5 ( قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد )

 

ذكر ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس: أن سبب نزولها أن الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن عبدالمطلب، وأمية بن خلف؛ لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، ونشترك نحن وأنت في أمرنا كله، فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا، كنا قد شاركناك فيه، وأخذنا بحظنا منه. وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما بيدك، كنت قد شركتنا في أمرنا، وأخذت بحظك منه؛ فأنزل الله عز وجل « قل يا أيها الكافرون » .

وقال أبو صالح عن ابن عباس: أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو استلمت بعض هذه الآلهة لصدقناك؛ فنزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بهذه السورة فيئسوا منه، وآذوه، وآذوا أصحابه. والألف واللام ترجع إلى معنى المعهود وإن كانت للجنس من حيث إنها كانت للجنس من حيث إنها كانت صفة لأي؛ لأنها مخاطبة لمن سبق في علم الله تعالى أنه سيموت على كفره، فهي من الخصوص الذي جاء بلفظ العموم. ونحوه عن الماوردي: نزلت جوابا، وعني بالكافرين قوما معينين. لا جميع الكافرين؛ لأن منهم من آمن، فعبد الله، ومنهم من مات أو قتل على كفره.، وهم المخاطبون بهذا القول، وهم المذكورون. قال أبو بكر بن الأنباري: وقرأ من طعن في القرآن: قل للذين كفروا « لا أعبد ما تعبدون » وزعم أن ذلك هو الصواب، وذلك افتراء على رب العالمين، وتضعيف لمعنى هذه السورة، وإبطال ما قصده الله من أن يذل نبيه للمشركين بخطابه إياهم بهذا الخطاب الزري، وإلزامهم ما يأنف منه كل ذي لب وحجا. وذلك أن الذي يدعيه من اللفظ الباطل، قراءتنا تشتمل عليه في المعنى، وتزيد تأويلا ليس عندهم في باطلهم وتحريفهم. فمعنى قراءتنا: قل للذين كفروا: يأيها الكافرون؛ دليل صحة هذا: أن العربي إذا قال لمخاطبه قل لزيد أقبل إلينا، فمعناه قل لزيد يا زيد أقبل إلينا. فقد وقعت قراءتنا على كل ما عندهم، وسقط من باطلهم أحسن لفظ وأبلغ معنى؛ إذ كان الرسول عليه السلام يعتمدهم في ناديهم، فيقول لهم: « يأيها الكافرون » . وهو يعلم أنهم يغضبون من أن ينسبوا إلى الكفر، ويدخلوا في جملة أهله إلا وهو محروس ممنوع من أن تنبسط عليه منهم يد، أو تقع به من جهتهم أذية. فمن لم يقرأ « قل يأيها الكافرون » كما أنزلها الله، أسقط آية لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وسبيل أهل الإسلام ألا يسارعوا إلى مثلها، ولا يعتمدوا نبيهم باختزال الفضائل عنه، التي منحه الله إياها، وشرفه بها.

وأما وجه التكرار فقد قيل إنه للتأكيد في قطع أطماعهم؛ كما تقول: والله لا أفعل كذا، ثم والله لا أفعله. قال أكثر أهل المعاني: نزل القرآن بلسان العرب، ومن مذاهبهم التكرار إرادة التأكيد والإفهام، كما أن من مذاهبهم الاختصار إرادة التخفيف والإيجاز؛ لأن خروج الخطيب والمتكلم من شيء إلى شيء أولى من اقتصاره في المقام على شيء واحد؛ قال الله تعالى: « فبأي آلاء ربكما تكذبان » [ الرحمن: 13 ] . « ويل يومئذ للمكذبين » [ المطففين: 10 ] . « كلا سيعلمون، ثم كلا سيعلمون » [ النبأ: 4 - 5 ] . و « فإن مع العسر يسرا. إن مع العسر يسرا » [ الشرح:5 - 6 ] . كل هذا على التأكيد. وقد يقول القائل: إرم إرم، اعجل اعجل؛ ومنه قوله عليه السلام في الحديث الصحيح: ( فلا آذن، ثم لا آذن، إنما فاطمة بضعة مني ) . خرجه مسلم. وقال الشاعر:

هلا سألت جموع كندة يوم ولوا أين أينا

وقال آخر:

يا لبكر انشروا لي كليبا يا لبكر أين أين الفرار

وقال آخر:

يا علقمة يا علقمة يا علقمة خير تميم كلها وأكرمه

وقال آخر:

يا أقرع بن حابس يا أقرع إنك إن يصرع أخوك تصرع

وقال آخر:

ألا يا اسلمي ثم اسلمي ثلاث تحيات وإن لم تكلم

ومثله كثير. وقيل: هذا على مطابقة قولهم: تعبد آلهتنا ونعبد إلهك، ثم نعبد آلهتنا ونعبد إلهك، ثم تعبد آلهتنا ونعبد إلهك، فنجري على هذا أبدا سنة وسنة. فأجيبوا عن كل ما قالوه بضده؛ أي إن هذا لا يكون أبدا. قال ابن عباس: قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن نعطيك من المال ما تكون به أغنى رجل بمكة، ونزوجك من شئت، ونطأ عقبك؛ أي نمشي خلفك، وتكف عن شتم آلهتنا، فإن لم تفعل فنحن نعرض عليك خصلة واحدة هي لنا ولك صلاح، تعبد آلهتنا اللات والعزى سنة، ونحن نعبد إلهك سنة؛ فنزلت السورة. فكان التكرار في « لا أعبد ما تعبدون » ؛ لأن القوم كرروا عليه مقالهم مرة بعد مرة. والله أعلم. وقيل: إنما كرر بمعنى التغليظ. وقيل: أي « لا أعبد » الساعة « ما تعبدون. ولا أنتم عابدون » الساعة « ما أعبد » . ثم قال: « ولا أنا عابد » في المستقبل « ما عبدتم. ولا أنتم » في المستقبل « عابدون ما أعبد » . قاله الأخفش والمبرد. وقيل: إنهم كانوا يعبدون الأوثان، فإذا ملوا وثنا، وسئموا العبادة له، رفضوه، ثم أخذوا وثنا غيره بشهوة نفوسهم، فإذا مروا بحجارة تعجبهم ألقوا هذه ورفعوا تلك، فعظموها ونصبوها آلهة يعبدونها؛ فأمر عليه السلام أن يقول لهم: « لا أعبد ما تعبدون » اليوم من هذه الآلهة التي بين أيدكم. ثم قال: « ولا أنتم عابدون ما أعبد » أي وإنما أنتم تعبدون الوثن الذي اتخذتموه، وهو عندكم الآن. « ولا أنا عابد ما عبدتم » أي بالأمس من الآلهة التي رفضتموها، وأقبلتم على هذه. « ولا أنتم عابدون ما أعبد » فإني أعبد إلهي. وقيل: إن قوله تعالى: « لا أعبد ما تعبدون. ولا أنتم عابدون ما أعبد » في الاستقبال. وقوله: « ولا أنا عابد ما عبدتم » على نفي العبادة منه لما عبدوا في الماضي. ثم قال: « ولا أنتم عابدون ما أعبد » على التكرير في اللفظ دون المعنى، من قبل أن التقابل يوجب أن يكون: ولا أنتم عابدون ما عبدت، فعدل عن لفظ عبدت إلى أعبد، إشعارا بأن ما عبد في الماضي هو الذي يعبد في المستقبل، مع أن الماضي والمستقبل قد يقع أحدهما موقع الآخر. وأكثر ما يأتي ذلك في أخبار الله عز وجل. وقال: « ما أعبد » ، ولم يقل: من أعبد؛ ليقابل به « ولا أنا عابد ما عبدتم » وهي أصنام وأوثان، ولا يصلح فيها إلا « ما » دون « من » فحمل الأول على الثاني، ليتقابل الكلام ولا يتنافى. وقد جاءت « ما » لمن يعقل. ومنه قولهم: سبحان ما سخركن لنا. وقيل: إن معنى الآيات وتقديرها: قل يا أيها الكافرون لا أعبد الأصنام التي تعبدونها، ولا أنتم عابدون الله عز وجل الذي أعبده؛ لإشراككم به، واتخاذكم الأصنام، فإن زعمتم أنكم تعبدونه، فأنتم كاذبون؛ لأنكم تعبدونه مشركين. فأنا لا أعبد ما عبدتم، أي مثل عبادتكم؛ « فما » مصدرية. وكذلك « ولا أنتم عابدون ما أعبد » مصدرية أيضا؛ معناه ولا أنتم عابدون مثل عبادتي، التي هي توحيد.

 

الآية: 6 ( لكم دينكم ولي دين )

 

فيه معنى التهديد؛ وهو كقوله تعالى: « لنا أعمالنا ولكم أعمالكم » [ القصص: 55 ] أي إن رضيتم بدينكم، فقد رضينا بديننا. وكان هذا قبل الأمر بالقتال، فنسخ بآية السيف. وقيل: السورة كلها منسوخة. وقيل: ما نسخ منها شيء لأنها خبر. ومعنى « لكم دينكم » أي جزاء دينكم، ولي جزاء ديني. وسمى دينهم دينا، لأنهم اعتقدوه وتولوه. وقيل: المعنى لكم جزاؤكم ولي جزائي؛ لأن الدين الجزاء. وفتح الياء من « ولي دين » نافع، والبزي عن ابن كثير باختلاف عنه، وهشام عن ابن عامر، وحفص عن عاصم. وأثبت الياء في « ديني » في الحالين نصر بن عاصم وسلام ويعقوب؛ قالوا: لأنها اسم مثل الكاف في قمت. الباقون بغير ياء، مثل قوله تعالى: « فهو يهدين » [ الشعراء: 78 ] « فاتقوا الله وأطيعون » [ آل عمران: 50 ] ونحوه، اكتفاء بالكسرة، واتباعا لخط المصحف، فإنه وقع فيه بغير ياء.

 

سورة النصر

 

الآية: 1 ( إذا جاء نصر الله والفتح )

 

النصر: العون مأخوذ من قولهم: قد نصر الغيث الأرض: إذا أعان على نباتها، من قحطها. قال الشاعر:

إذا انسلخ الشهر الحرام فودعي بلاد تميم وأنصري أرض عامر

ويروى:

إذا دخل الشهر الحرام فجاوزي بلاد تميم وأنصري أرض عامر

يقال: نصره على عدوه ينصره نصرا؛ أي أعانه. والاسم النصرة، واستنصره على عدوه: أي سأله أن ينصره عليه. وتناصروا: نصر بعضهم بعضا. ثم قيل: المراد بهذا النصر نصر الرسول على قريش؛ الطبري. وقيل: نصره على من قاتله من الكفار؛ فإن عاقبة النصر كانت له. وأما الفتح فهو فتح مكة؛ عن الحسن ومجاهد وغيرهما. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: هو فتح المدائن والقصور. وقيل: فتح سائر البلاد. وقيل: ما فتحه عليه من العلوم. و « إذا » بمعنى قد؛ أي قد جاء نصر الله؛ لأن نزولها بعد الفتح. ويمكن أن يكون معناه: إذا يجيئك.

 

الآية: 2 ( ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا )

 

قوله تعالى: « ورأيت الناس » أي العرب وغيرهم. « يدخلون في دين الله أفواجا » أي جماعات: فوجا بعد فوج. وذلك لما فتحت مكة قالت العرب: أما إذا ظفر محمد بأهل الحرم، وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل، فليس لكم به يدان. فكانوا يسلمون أفواجا: أمة أمة. قال الضحاك: والأمة: أربعون رجلا. وقال عكرمة ومقاتل: أراد بالناس أهل اليمن. وذلك أنه ورد من اليمن سبعمائة إنسان مؤمنين طائعين، بعضهم يؤذنون، وبعضهم يقرؤون القرآن، وبعضهم يهللون؛ فسر النبي صلى الله عليه وسلم لك، وبكى عمر وابن عباس. وروى عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: « إذا جاء نصر الله والفتح » وجاء أهل اليمن رقيقة أفئدتهم، لينة طباعهم، سخية قلوبهم، عظيمة خشيتهم، فدخلوا في دين الله أفواجا. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أتاكم أهل اليمين، هم أضعف قلوبا، وأرق أفئدة الفقه يمان، والحكمة يمانية ) . وروى أنه صلى الله عليه وسلم قال: ( إني لأجد نفس ربكم من قبل اليمين ) وفيه تأويلان: أحدهما: أنه الفرج؛ لتتابع إسلامهم أفواجا. والثاني: معناه أن الله تعالى نفس الكرب عن نبيه صلى الله عليه وسلم بأهل اليمن، وهم الأنصار. وروى جابر بن عبدالله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الناس دخلوا في دين الله أفواجا، وسيخرجون منه أفواجا ) ذكره الماوردي، ولفظ الثعلبي: وقال أبو عمار حدثني جابر لجابر، قال: سألني جابر عن حال الناس، فأخبرته عن حال اختلافهم وفرقتهم؛ فجعل يبكي ويقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الناس دخلوا في دين الله أفواجا، وسيخرجون من دين الله أفواجا ) .

 

الآية: 3 ( فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا )

 

قوله تعالى: « فسبح بحمد ربك واستغفره » أي إذا صليت فأكثر من ذلك. وقيل: معنى سبح: صل؛ عن ابن عباس: « بحمد ربك » أي حامدا له على ما آتاك من الظفر والفتح. « واستغفره » أي سل الله الغفران. وقيل: « فسبح » المراد به: التنزيه؛ أي نزهه عما لا يجوز عليه مع شكرك له. « واستغفره » أي سل الله الغفران مع مداومة الذكر. والأول أظهر. روى الأئمة واللفظ للبخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت عليه سورة « إذا جاء نصر الله والفتح » إلا يقول: ( سبحانك ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي ) وعنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: ( سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي ) . يتأول القرآن. وفي غير الصحيح: وقالت أم سلمة: كان النبي صلى الله عليه وسلم آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يجيء ولا يذهب إلا قال: ( سبحان الله وبحمده، استغفر الله وأتوب إليه - قال - فإني أمرت بها - ثم قرأ - « إذا جاء نصر الله والفتح » إلى آخرها ) . وقال أبو هريرة: اجتهد النبي بعد نزولها، حتى تورمت قدماه. ونحل جسمه، وقل تبسمه، وكثر بكاؤه. وقال عكرمة: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قط أشد اجتهادا في أمور الآخرة ما كان منه عند نزولها. وقال مقاتل: لما نزلت قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه، ومنهم أبو بكر وعمر وسعد بن أبي وقاص، ففرحوا واستبشروا، وبكى العباس؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما يبكيك يا عم؟ ) قال: نعيت إليك نفسك. قال: ( إنه لكما تقول ) ؛ فعاش بعدها ستين يوما، ما رئي فيها ضاحكا مستبشرا. وقيل: نزلت في منى بعد أيام التشريق، حجة الوداع، فبكى عمر والعباس، فقيل لهما: إن هذا يوم فرح، فقالا: بل فيه نعي النبي صلى الله عليه وسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( صدقتما، نعيت إليّ نفسي ) . وفي البخاري وغيره عن ابن عباس قال: كان عمر بن الخطاب يأذن لأهل بدر، ويأذن لي معهم. قال: فوجد بعضهم من ذلك، فقالوا: يأذن لهذا الفتى معنا ومن أبنائنا من هو مثله فقال لهم عمر: إنه من قد علمتم. قال: فأذن لهم ذات يوم، وأذن لي معهم، فسألهم عن هذه السورة: « إذا جاء نصر الله والفتح » فقالوا: أمر الله جل وعز نبيه صلى الله عليه وسلم إذا فتح عليه أن يستغفره، وأن يتوب إليه. فقال: ما تقول يا ابن عباس؟ قلت: ليس كذلك، ولكن أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم حضور أجله، فقال: « إذا جاء نصر الله والفتح » ، فذلك علامة موتك. « فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا » . فقال عمر رضي الله عنه: تلومونني عليه؟ وفي البخاري فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول. ورواه الترمذي، قال: كان عمر يسألني مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له عبدالرحمن بن عوف: أتسأله ولنا بنون مثله؟ فقال له عمر: إنه من حيث نعلم. فسأله عن هذه الآية: « إذا جاء نصر الله والفتح » . فقلت: إنما هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعلمه إياه؛ وقرأ السورة إلى آخرها. فقال له عمر: والله ما أعلم منها إلا ما تعلم. قال: هذا حديث حسن صحيح. فإن قيل: فماذا يغفر للنبي صلى الله عليه وسلم حتى يؤمر بالاستغفار؟ قيل له: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: ( رب اغفر في خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري كله، وما أنت أعلم به مني. اللهم اغفر لي خطئي وعمدي، وجهلي وهزلي، وكل ذلك عندي. اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أعلنت وما أسررت، أنت المقدم وأنت المؤخر، إنك على شيء قدير ) . فكان صلى الله عليه وسلم يستقصر نفسه لعظم ما أنعم الله به عليه، ويرى قصوره عن القيام بحق ذلك ذنوبا. ويحتمل أن يكون بمعنى: كن متعلقا به، سائلا راغبا، متضرعا على رؤية التقصير في أداء الحقوق؛ لئلا ينقطع إلى رؤية الأعمال. وقيل: الاستغفار تَعَبُدٌ يجب إتيانه، لا للمغفرة، بل تعبدا. وقيل: ذلك تنبيه لأمته، لكيلا يأمنوا ويتركوا الاستغفار. وقيل: « واستغفره » أي استغفر لأمتك.

 

قوله تعالى: « إنه كان توابا » أي على المسبحين والمستغفرين، يتوب عليهم ويرحمهم، ويقبل توبتهم. وإذا كان عليه السلام وهو معصوم يؤمر بالاستغفار، فما الظن بغيره؟ روى مسلم عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من قوله: ( سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه ) . فقال: ( خَبّرني ربي أني سأرى علامة في أمتي، فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه، فقد رأيتها: « إذا جاء نصر الله والفتح » - فتح مكة - « ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا. فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا » ) . وقال ابن عمر: نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع؛ ثم نزلت « اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي » [ المائدة: 3 ] فعاش بعدهما النبي صلى الله عليه وسلم ثمانين يوما. ثم نزلت آية الكلالة، فعاش بعدها خمسين يوما. ثم نزل « لقد جاءكم رسول من أنفسكم » [ التوبة: 128 ] فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوما. ثم نزل « واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله » فعاش بعدها أحدا وعشرين يوما. وقال مقاتل سبعة أيام. وقيل غير هذا مما تقدم في « البقرة » بيانه، والحمد الله.

 

سورة المسد

 

الآية: 1 ( تبت يدا أبي لهب وتب )

 

قوله تعالى: « تبت يدا أبي لهب » في الصحيحين وغيرهما ( واللفظ لمسلم ) عن ابن عباس قال: لما نزلت « وأنذر عشيرتك الأقربين » [ الشعراء: 214 ] ورهطك منهم المخلصين، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا، فهتف: يا صباحاه! فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا محمد. فاجتمعوا إليه. فقال: ( يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني عبد مناف، يا بني عبدالمطلب ) فاجتمعوا إليه. فقال: ( أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي ) ؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا. قال: ( فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) . فقال أبو لهب: تبا لك، وأما جمعتنا إلا لهذا! ثم قام، فنزلت هذه السورة: « تبت يدا أبي لهب وقد تب » كذا قرأ الأعمش إلى آخر السورة. زاد الحميدي وغيره: فلما سمعت امرأته ما نزل في زوجها وفيها من القرآن، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة، ومعه أبو بكر رضي الله عنه، وفي يدها فهر من حجارة، فلما وقفت عليه أخذ الله بصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ترى إلا أبا بكر. فقالت: يا أبا بكر، إن صاحبك قد بلغني أنه بهجوني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، والله إني لشاعرة:

مذمما عصينا وأمره أبينا ودينه قلينا

ثم انصرفت. فقال أبو بكر: يا رسول الله، أما تراها رأتك؟ قال: ( ما رأتني، لقد أخذ الله بصرها عني ) . وكانت قريش إنما تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم مذمما؛ يسبونه، وكان يقول: ( ألا تعجبون لما صرف الله عني من أذى قريش، يسبون ويهجون مذمما وأنا محمد ) . وقيل: إن سبب نزولها ما حكاه عبدالرحمن بن زيد أن أبا لهب أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا أُعطى إن آمنت بك يا محمد؟ فقال: ( كما يُعطى المسلمون ) قال ما لي عليهم فضل؟. قال: ( وأي شيء تبغي ) ؟ قال: تبا لهذا من دين، أن أكون أنا وهؤلاء سواء؛ فأنزل الله تعالى فيه. « تبت يدا أبي لهب وتب » . وقول ثالث حكاه عبدالرحمن بن كيسان قال: كان إذا وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وقد انطلق إليهم أبو لهب فيسألونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون له: أنت أعلم به منا. فيقول لهم أبو لهب: إنه كذاب ساحر. فيرجعون عنه ولا يلقونه. فأتى وفد، ففعل معهم مثل ذلك، فقالوا: لا ننصرف حتى نراه، ونسمع كلامه. فقال لهم أبو لهب: إنا لم نزل نعالجه فتبا له وتعسا. فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتأب لذلك؛ فأنزل الله تعالى: « تبت يدا أبي لهب » ... السورة. وقيل: إن أبا لهب أراد أن يرمي النبي صلى الله عليه وسلم بحجر، فمنعه الله من ذلك، وأنزل الله تعالى: « تبت يدا أبي لهب وتب » للمنع الذي وقع به. ومعنى « تبت » : خسرت؛ قال قتادة. وقيل: خابت؛ قال ابن عباس. وقيل ضلت؛ قال عطاء. وقيل: هلكت؛ قاله ابن جبير. وقال يمان بن رئاب: صفرت من كل خبر. حكى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أنه لما قتل عثمان رحمه الله سمع الناس هاتفا يقول:

لقد خلوك وانصرفوا فما آبوا ولا رجعوا

ولم يوفوا بنذرهم فيا تبا لما صنعوا

وخص اليدين بالتباب، لأن العمل أكثر ما يكون بهما؛ أي خسرتا وخسر هو. وقيل: المراد باليدين نفسه. وقد يعبر عن النفس باليد، كما قال الله تعالى: « بما قدمت يداك » [ الحج:10 ] . أي نفسك. وهذا مَهيَع كلام العرب؛ تعبر ببعض الشيء عن كله؛ تقول: أصابته يد الدهر، ويد الرزايا والمنايا؛ أي أصابه كل ذلك. قال الشاعر:

لما أكبت يد الرزايا عليه نادى ألا مجير

« وتب » قال الفراء: التب الأول: دعاء والثاني خبر؛ كما يقال: أهلكه الله وقد هلك. وفي قراءة عبدالله وأُبي « وقد تب » وأبو لهب اسمه عبد العزى، وهو ابن عبدالمطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم. وامرأته العوراء أم جميل، أخت أبي سفيان بن حرب، وكلاهما، كان شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم. قال طارق بن عبدالله المحاربي: إني بسوق ذي المجاز، إذ أنا بإنسان يقول: ( يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ) ، وإذا رجل خلفه يرميه، قد أدمى ساقيه وعرقوبيه ويقول: يا أيها الناس، إنه كذاب فلا تصدقوه. فقلت من هذا؟ فقالوا: محمد، زعم أنه نبي. وهذا عمه أبو لهب يزعم أنه كذاب. وروى عطاء عن ابن عباس قال: قال أبو لهب: سحركم محمد إن أحدنا ليأكل الجذعة، ويشرب العس من اللبن فلا يشبع، وإن محمدا قد أشبعكم من فخذ شاة، وأرواكم من عس لبن.

 

قوله تعالى: « أبي لهب » قيل: سمي باللهب لحسنه، وإشراق وجهه. وقد ظن قوم أن في هذا دليلا على تكنية المشرك؛ وهو باطل، وإنما كناه الله بأبي لهب - عند العلماء - لمعان أربعة: الأول: أنه كان اسمه عبد العزى، والعزى: صنم، ولم يضف الله في كتابه العبودية إلى صنم. الثاني: أنه كان بكنيته أشهر منه باسمه؛ فصرح بها. الثالث: أن الاسم أشرف من الكنية، فحطه الله عز وجل عن الأشرف إلى الأنقص؛ إذا لم يكن بد من الإخبار عنه، ولذلك دعا الله تعالى الأنبياء بأسمائهم، ولم يكن عن أحد منهم. ويدلك على شرف الاسم على الكنية: أن الله تعالى يُسمى ولا يُكنى، وإن كان ذلك لظهوره وبيانه؛ واستحالة نسبة الكنية إليه، لتقدسه عنها. الرابع - أن الله تعالى أراد أن يحقق نسبته، بأن يدخله النار، فيكون أبا لها، تحقيقا للنسب، وإمضاء للفأل والطيرة التي اختارها لنفسه. وقد قيل: اسمه كنيته. فكان أهله يسمونه أبا لهب، لتلهب وجهه وحسنه؛ فصرفهم الله عن أن يقولوا: أبو النور، وأبو الضياء، الذي هو المشترك بين المحبوب والمكروه، وأجرى على ألسنتهم أن يضيفوه إلى اللهب الذي هو مخصوص بالمكروه المذموم، وهو النار. ثم حقق ذلك بأن يجعلها مقره. وقرأ مجاهد وحميد وابن كثير وابن. محيصن. « أبي لهب » بإسكان الهاء. ولم يختلفوا في « ذات لهب » إنها مفتوحة؛ لأنهم راعوا فيها رؤوس الآي.

 

قال ابن عباس: لما خلق الله عز وجل القلم قال له: اكتب ما هو كائن، وكان فيما كتب « تبت يدا أبي لهب » . وقال منصور: سئل الحسن عن قوله تعالى: « تبت يدا أبي لهب » . هل كان في أم الكتاب؟ وهل كان أبو لهب يستطيع ألا يصلى النار؟ فقال: والله ما كان يستطيع ألا يصلاها، وإنها لفي كتاب الله من قبل أن يخلق أبو لهب وأبواه. ويؤيده قول موسى لآدم: ( أنت الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسكنك جنته، وأسجد لك ملائكته، خيبت الناس، وأخرجتهم من الجنة. قال آدم: وأنت موسى الذي اصطفاك بكلامه، وأعطاك التوراة، تلومني على أمر كتبه الله علي قبل أن يخلق الله السموات والأرض. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى ) . وقد تقدم هذا. وفي حديث همام عن أبي هريرة أن آدم قال لموسى: ( بكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن يخلقني؟ قال: بألفي عام قال: فهل وجدت فيها: « وعصى آدم ربه فغوى » قال: نعم قال: أفتلومني على أمر وكتب الله على أن أفعله من قبل أن أخلق بألفي عام. فحج آدم موسى ) . وفي حديث طاووس وابن هرمز والأعرج عن أبي هريرة: ( بأربعين عاما ) .

 

الآية: 2 ( ما أغنى عنه ماله وما كسب )

 

أي ما دفع عنه عذاب الله ما جمع من المال، ولا ما كسب من جاه. وقال مجاهد: من الولد؛ وولد الرجل من كسبه. وقرأ الأعمش « وما اكتسب » ورواه عن ابن مسعود. وقال أبو الطفيل: جاء بنو أبي لهب يختصمون عند ابن عباس، فاقتتلوا، فقام ليحجز بينهم، فدفعه بعضهم، فوقع على الفراش، فغضب ابن عباس وقال: أخرجوا عني الكسب الخبيث؛ يعني ولده. وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه ) . خرجه أبو داود. وقال ابن عباس: لما أنذر رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيرته بالنار، قال أبو لهب: إن كان ما يقول ابن أخي حقا فإني أفدي نفسي بمالي وولدي؛ فنزل: « ما أغنى عنه ماله وما كسب » . و « ما » في قوله: « ما أغنى » : يجوز أن تكون نفيا، ويجوز أن تكون استفهاما؛ أي أي شيء أغنى عنه؟ و « ما » الثانية: يجوز أن تكون بمعنى الذي، ويجوز أن تكون مع الفعل مصدرا؛ أي ما أغنى عنه ماله وكسبه.

 

الآية: 3 ( سيصلى نارا ذات لهب )

 

أي ذات اشتعال وتلهب. وقد مضى في سورة « المرسلات » القول فيه. وقراءة العامة: « سيصلى » بفتح الياء. وقرأ أبو رجاء والأعمش: بضم الياء. ورواها محبوب عن إسماعيل عن ابن كثير، وحسين عن أبي بكر عن عاصم، ورويت عن الحسن. وقرأ أشهب العقيلي وأبو سمال العدوي ومحمد بن السميقع « سيُصلى » بضم الياء، وفتح الصاد، وتشديد اللام؛ ومعناها سيصليه الله؛ من قوله: « وتصلية جحيم » [ الواقعة: 94 ] . والثانية من الإصلاء؛ أي يصليه الله؛ من قوله: « فسوف نصليه نارا » [ النساء: 30 ] . والأولى هي الاختيار؛ لإجماع الناس عليها؛ وهي من قوله: « إلا من هو صال الجحيم » [ الصافات:163 ] .

 

الآية: 4 ( وامرأته حمالة الحطب )

 

قوله تعالى: « وامرأته » أم جميل. وقال ابن العربي: العوراء أم قبيح، وكانت عوراء. « حمالة الحطب » قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي: كانت تمشي بالنميمة بين الناس؛ تقول العرب: فلان يحطب على فلان: إذا ورش عليه. قال الشاعر:

إن بني الأدرم حمالو الحطب هم الوشاة في الرضا وفي الغضب

عليهم اللعنة تترى والحرب

وقال آخر:

من البيض لم تصطد على ظهر لأمة ولم تمش بين الحي بالحطب الرطب

يعني: لم تمش بالنمائم، وجعل الحطب رطبا ليدل على التدخين، الذي هو زيادة في الشر. وقال أكثم بن صيفي لبنيه: إياكم والنميمة فإنها نار محرقة، وإن النمام ليعمل في ساعة مالا يعمل الساحر في شهر. أخذه بعض الشعراء فقال:

إن النميمة نار ويك محرقة ففر عنها وجانب من تعاطاها

ولذلك قيل: نار الحقد لا تخبو. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يدخل الجنة نمام ) . وقال: ( ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها ) . وقال عليه الصلاة والسلام: ( من شر الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه ) . وقال كعب الأحبار: أصاب بني إسرائيل قحط، فخرج بهم موسى عليه السلام ثلاث مرات فلم يستسقوا. فقال موسى: ( إلهي عبادك ) فأوحى الله إليه: ( إني لا أستجيب لك ولا لمن معك لأن فيهم رجلا نماما، قد أصر على النميمة ) . فقال موسى: ( يا رب من هو حتى نخرجه من بيننا ) ؟ فقال: ( يا موسى أنهاك عن النميمة وأكون نماما ) قال: فتابوا بأجمعهم، فسقوا. والنميمة من الكبائر، لا خلاف في ذلك؛ حيت قال الفضيل بن عياض: ثلاث تهد العمل الصالح ويفطرون الصائم، وينقضن الوضوء: الغيبة، والنميمة، والكذب. وقال عطاء بن السائب: ذكرت للشعبي قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يدخل الجنة سافك دم، ولا مشاء بنميمة، ولا تاجر يربي ) فقلت: يا أبا عمرو، قرن النمام بالقاتل وآكل الربا؟ فقال: وهل تسفك الدماء، وتنتهب الأموال، وتهيج الأمور العظام، إلا من أجل النميمة.

وقال قتادة وغيره: كانت تعير رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقر. ثم كانت مع كثرة ما لها تحمل الحطب على ظهرها؛ لشدة بخلها، فعيرت بالبخل. وقال ابن زيد والضحاك: كانت تحمل العضاه والشوك، فتطرحه بالليل على طريق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ وقاله ابن عباس. قال الربيع: فكان النبي صلى الله عليه وسلم يطوه كما يطأ الحرير. وقال مرة الهمداني: كانت أم جميل تأتي كل يوم بإباله من الحسك، فتطرحها على طريق المسلمين، فبينما هي حاملة ذات يوم حزمة أعيت، فقعدت على حجر لتستريح، فجذبها الملك من خلفها فأهلكها. وقال سعيد بن جبير: حمالة الخطايا والذنوب؛ من قولهم: فلان يحتطب على ظهره؛ دليله قوله تعالى: « وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم » [ الأنعام: 31 ] . وقيل: المعنى حمالة الحطب في النار؛ وفيه بعد. وقراءة العامة « حمالة » بالرفع، على أن يكون خبرا « وامرأته » مبتدأ. ويكون « في جيدها حبل من مسد » جملة في موضع الحال من المضمر في « حمالة » . أو خبرا ثانيا. أو يكون « حمالة الحطب » نعتا لامرأته. والخبر « في جيدها حبل من مسد » ؛ فيوقف - على هذا - على « ذات لهب » . ويجوز أن يكون « وامرأته » معطوفة على المضمر في « سيصلى » فلا يوقف على « ذات لهب » ويوقف على « وامرأته » وتكون « حمالة الحطب » خبر ابتداء محذوف. وقرأ عاصم « حمالة الحطب » بالنصب على الذم، كأنها اشتهرت بذلك، فجاءت الصفة للذم لا للتخصيص، كقوله تعالى: « حمالة الحطب » بالنصب على الذم، وقرأ أبو قلابة « حاملة الحطب » .

 

الآية: 5 ( في جيدها حبل من مسد )

 

قوله تعالى: « في جيدها » أي عنقها. وقال امرؤ القيس:

وجيد كجيد الريم ليس بفاحش إذا هي نصته ولا بمعطل

« حبل من مسد » أي من ليف؛ قال النابغة:

مقذوفة بدخيس النحض بازلها له صريف صريف القعو بالمسد

وقال آخر:

يا مسد الحوص تعوذ مني إن كنت لدنا لينا فإني

ما شئت من أشمط مقسئن

وقد يكون من جلود الإبل، أو من أوبارها؛ قال الشاعر:

ومسد أمر من أيانق لسن بأنياب ولا حقائق

وجمع الجيد أجياد، والمسد أمساد. أبو عبيدة: هو حبل يكون من صوف. قال الحسن: هي حبال من شجر تنبت باليمن تسمى المسد، وكانت تفتل. قال الضحاك وغيره: هذا في الدنيا؛ فكانت تعير النبي صلى الله عليه وسلم بالفقر وهي تحتطب في حبل تجعله في جيدها من ليف، فخنقها الله جل وعز به فأهلكها؛ وهو في الآخرة حبل من نار. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: « في جيدها حبل من مسد » قال: سلسلة ذرعها سبعون ذراعا - وقاله مجاهد وعروة بن الزبير: تدخل من فيها، وتحرج من أسفلها، ويلوى سائرها على عنقها. وقال قتادة. « حبل من مسد » قال: قلادة من ودع. الودع: خرز بيض تخرج من البحر، تتفاوت في الصغر والكبر. قال الشاعر:

والحلم حلم صبي يمرث الودعة

والجمع: ودعات. الحسن: إنما كان خرزا في عنقها. سعيد بن المسيب: كانت لها قلادة فاخرة من جوهر، فقالت: واللات والعزى لأنفقتها في عداوة محمد. ويكون ذلك عذابا في جيدها يوم القيامة. وقيل: إن ذلك إشارة إلى الخذلان؛ يعني أنها مربوطة عن الإيمان بما سبق لها من الشقاء، كالمربوط في جيده بحبل من مسد. والمسد: الفتل. يقال: مسد حبلة يمسده مسدا؛ أي أجاد فتله. قال:

يمسد أعلى لحمه ويأرمه

يقول: إن البقل يقوي ظهر هذا الحمار ويشده. ودابة ممسودة الخلق: إذا كانت شديدة الأسر. قال الشاعر:

ومسدٍ أُمِرَّ من أيانق صهب عتاق ذات مخ زاهق

لسن بأنياب ولا حقائق

ويروى:

ولا ضعاف مخهن زاهق

قال الفراء: هو مرفوع والشعر مكفأ. يقول: بل مخهن مكتنز؛ رفعه على الابتداء. قال: ولا يجوز أن يريد ولا ضعاف زاهق مخهن. كما لا يجوز أن تقول: مررت برجل أبوه قائم؛ بالخفض. وقال غيره: الزاهق هنا: بمعنى الذاهب كأنه قال: ولا ضعاف مخهن، ثم رد الزاهق على الضعاف. ورجل ممسود: أي مجدول الخلق. وجارية حسنة المسد والعصب والجدل والأرم؛ وهي ممسودة ومعصوبة ومجدولة ومأرومة. والمساد، على فعال: لغة في المساب، وهي نحى السمن، وميقاء العسل. قال جميعه الجوهري. وقد أعترض فقيل: إن كان ذلك حبلها الذي تحتطب به، فكيف يبقى في النار؟ وأجيب عنه بأن الله عز وجل قادر على تجديده كلما احترق. والحكم ببقاء أبي لهب وأمراته في النار مشروط ببقائهما على الكفر إلى الموافاة؛ فلما ماتا على الكفر صدق الإخبار عنهما. ففيه معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم. فامرأته خنقها الله بحبلها، وأبو لهب رماه الله بالعدسة بعد وقعة بدر بسبع ليال، بعد أن شجته أم الفضل. وذلك أنه لما قدم الحيسمان مكة يخبر خبر بدر؛ قال له أبو لهب: أخبرني خبر الناس. قال: نعم، والله ما هو إلا أن لقينا القوم، فمنحناهم أكتافنا، يضعون السلاح منا حيث شاؤوا، ومع ذلك ما لمست الناس. لقينا رجالا بيضا على خيل بلق، لا والله ما تبقي منا؛ يقول: ما تبقي شيئا. قال أبو رافع: وكنت غلاما للعباس أنحت الأقداح في صفة زمزم، وعندي أم الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر، فرفعت طنب الحجرة، فقلت: تلك والله الملائكة. قال: فرفع أبو لهب يده، فضرب وجهي ضربة منكرة، وثاورته، وكنت رجلا ضعيفا، فاحتملني، فضرب بي الأرض، وبرك على صدري يضربني. وتقدمت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة، فتأخذه وتقول: استضعفتَه أن غاب عنه سيده! وتضربه بالعمود على رأسه فتفلقه شجة منكرة. فقام يجر رجليه ذليلا، ورماه الله بالعدسة، فمات، وأقام ثلاثة أيام يدفن حتى أنتن؛ ثم إن ولده غسلوه بالماء، قذفا من بعيد، مخافة عدوى العدسة. وكانت قريش تتقيها كما يتقي الطاعون. ثم احتملوه إلى أعلى مكة، فأسندوه إلى جدار، ثم رضموا عليه الحجارة.

 

سورة الإخلاص

 

الآيات: 1 - 4 ( قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد )

 

قوله تعالى: « قل هو الله أحد » أي الواحد الوتر، الذي لا شبيه له، ولا نظير ولا صاحبة، ولا ولد ولا شريك. وأصل « أحد » : وحد؛ قلبت الواو همزة. ومنه قول النابغة:

بذي الجليل على مستأنس وحد

وقد تقدم في سورة « البقرة » الفرق بين واحد وأحد، وفي كتاب « الأسنى، في شرح أسماء الله الحسي » أيضا مستوفى. والحمد لله. و « أحد » مرفوع، على معنى: هو أحد. وقيل: المعنى: قل: الأمر والشأن: الله أحد. وقيل: « أحد » بدل من قوله: « الله » . وقرأ جماعة « أحد الله » بلا تنوين، طلبا للخفة، وفرارا من التقاء الساكنين؛ ومنه قول الشاعر:

ولا ذاكر الله إلا قليلا

« الله الصمد » أي الذي يصمد إليه في الحاجات. كذا روى الضحاك عن ابن عباس، قال: الذي يصمد إليه في الحاجات؛ كما قال عز وجل: « ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون » [ النحل: 53 ] . قال أهل اللغة: الصمد: السيد الذي يصمد إليه في النوازل والحوائج. قال:

ألا بكر الناعي بخير بني أسد بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد

وقال قوم: الصمد: الدائم الباقي، الذي لم يزل ولا يزال. وقيل: تفسيره ما بعده « لم يلد ولم يولد » . قال أبي بن كعب: الصمد: الذي لا يلد ولا يولد؛ لأنه ليس شيء إلا سيموت، وليس شيء يموت إلا يورث. وقال علي وابن عباس أيضا وأبو وائل شقيق بن سلمة وسفيان: الصمد: هو السيد الذي قد أنتهى سؤدده في أنواع الشرف والسؤدد؛ ومنه قول الشاعر:

علوته بحسام ثم قلت له خذها حذيف فأنت السيد الصمد

وقال أبو هريرة: إنه المستغني عن كل أحدا، والمحتاج إليه كل أحد. وقال السدي: إنه: المقصود في الرغائب، والمستعان به في المصائب. وقال الحسين بن الفضل: إنه: الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. وقال مقاتل: إنه: الكامل الذي لا عيب فيه؛ ومنه قول الزبرقان:

سيروا جميعا بنصف الليل واعتمدوا ولا رهينة إلا سيد صمد

وقال الحسن وعكرمة والضحاك وابن جبير: الصمد: المصمت الذي لا جوف له؛ قال الشاعر:

شهاب حروب لا تزال جياده عوابس يعلكن الشكيم المصمدا

قلت: قد أتينا على هذه الأقوال مبينة في الصمد، في ( كتاب الأسنى ) وأن الصحيح منها. ما شهد له الاشتقاق؛ وهو القول الأول، ذكره الخطابي. وقد أسقط من هذه السورة من أبعده الله وأخزاه، وجعل النار مقامة ومثواه، وقرأ « الله الواحد الصمد » في الصلاة، والناس يستمعون، فاسقط: « قل هو » ، وزعم أنه ليس من القرآن. وغير لفظ « أحد » ، وأدعى أن هذا الصواب، والذي عليه الناس هو الباطل والمحال، فأبطل معنى الآية؛ لأن أهل التفسير قالوا: نزلت الآية جوابا لأهل الشرك لما قالوا لرسول الله صلى: صف لنا ربك، أمن ذهب هو أم من نحاس أم من صفر؟ فقال الله عز وجل ردا عليهم: « قل هو والله أحد » ففي « هو » دلالة على موضع الرد، ومكان الجواب؛ فإذا سقط بطل معنى الآية، وصح الافتراء على الله عز وجل، والتكذيب لرسول صلى الله عليه وسلم.

 

وروى الترمذي عن أبي بن كعب: أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: انسب لنا ربك؛ فأنزل الله عز وجل: « قل هو الله أحد. الله الصمد » . والصمد: الذي لم يلد ولم يولد؛ لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت، وليس شيء يموت إلا سيورث، وأن الله تعالى لا يموت ولا يورث. « ولم يكن له كفوا أحد » قال: لم يكن له شبيه ولا عدل، وليس كمثله شيء. وروي عن أبي العالية: إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر آلهتهم فقالوا: انسب لنا ربك. قال: فأتاه جبريل بهذه السورة « قل هو الله أحد » ، فذكر نحوه، ولم يذكر فيه عن أبي بن كعب، وهذا صحيح؛ قاله الترمذي.

قلت: ففي هذا الحديث إثبات لفظ « قل هو الله أحد » وتفسير الصمد، وقد تقدم. وعن عكرمة نحوه. وقال ابن عباس: « لم يلد » كما ولدت مريم، ولم يولد كما ولد عيس وعزير. وهو رد على النصارى، وعلى من قال: عزير ابن الله.

 

قوله تعالى: « ولم يكن له كفوا أحد » أي لم يكن له مثلا أحد. وفيه تقدم وتأخير؛ تقديره: ولم يكن له كفوا أحد؛ فقدم خبر كان على اسمها، لينساق أو آخر الآي على نظم واحد. وقرئ « كفوا » بضم الفاء وسكونها، وقد تقدم في « البقرة » أن كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم، فإنه يجوز في عينه الضم والإسكان؛ إلا قوله تعالى: « وجعلوا له من عباده جزءا » [ الزخرف:15 ] لعلة تقدمت. وقرأ حفص « كفوا » مضموم الفاء غير مهموز. وكلها لغات فصيحة.

 

القول في الأحاديث الواردة في فضل هذه السورة؛ وفيه ثلاث مسائل:

الأولى: ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري: أن رجلا سمع رجلا يقرأ « قل هو الله أحد » يرددها؛ فلما أصبح جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، وكان الرجل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن ) . وعنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ( أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة ) فشق ذلك عليهم، وقالوا: أينا يطيق ذلك يا رسول الله؟ فقال: ( الله الواحد الصمد ثلث القرآن ) خرجه مسلم من حديث أبي الدرداء بمعناه. وخرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( احشدوا فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن ) ، فحشد من حشد؛ ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم فقرأ « قل هو الله أحد » ثم دخل فقال بعضنا لبعض: إني أرى هذا خبرا جاءه من السماء، فذاك الذي أدخله. ثم خرج فقال: ( إني قلت لكم سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا إنها تعدل ثلث القرآن ) قال بعض العلماء: إنها عدلت ثلث القرآن لأجل هذا الاسم، الذي هو « الصمد » ، فإنه لا يوجد في غيرها من السور. وكذلك « أحد » . وقيل: إن القرآن أنزل أثلاثا، ثلثا منه أحكام، وثلثا منه وعد ووعيد، وثلثا منه أسماء وصفات، وقد جمعت « قل هو الله أحد » أحد الأثلاث، وهو الأسماء والصفات. ودل على هذا التأويل ما في صحيح مسلم، من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ( إن الله جل وعز جزأ القرآن ثلاثة أجزاء، فجعل « قل هو الله أحد » جزءا من أجزاء القرآن ) . وهذا نص؛ وبهذا المعنى سميت سورة الإخلاص، والله أعلم.

الثانية: روى مسلم عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلا على سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم، فيختم « بقل هو الله أحد » ؛ فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( سلوه لأي شيء يصنع ذلك ) ؟ فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن، فأنا أحب أن أقرأ بها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أخبروه أن الله عز وجل يحبه ) . وروى الترمزي عن أنس بن مالك قال: كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء، وكان كلما أفتتح سورة يقرؤها لهم في الصلاة فقرأ بها، أفتتح « بقل هو الله أحد » ؛ حتى يفرغ منها، ثم يقرأ بسورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة، فكلمه أصحابه، فقالوا: إنك تقرأ بهذه السورة، ثم لا ترى منها تجزيك حتى تقرأ بسورة أخرى، فإما أن تقرأ بها، وإما أن تدعوا وتقرأ بسورة أخرى؟ قال: ما أنا بتاركها وإن أحببتم أن أؤمكم بها فعلت، وإن كرهتم تركتكم؛ وكانوا يرونه أفضلهم، وكرهوا أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم اخبروه الخبر، فقال: ( يا فلان ما يمنعك مما يأمر به أصحابك؟ وما يحملك أن تقرأ هذه السورة في كل ركعة ) ؟ فقال: يا رسول الله، إني أحبها؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن حبها أدخلك الجنة ) . قال: حديث حسن غريب صحيح. قال ابن العربي: فكان هذا دليلا على أنه يجوز تكرار سورة في كل ركعة. وقد رأيت على باب الأسباط فيما يقرب منه، إماما من جملة الثمانية والعشرين إماما، كان يصلي فيه التراويح في رمضان بالأتراك؛ فيقرأ في كل ركعة « الحمد لله » و « قل هو الله أحد » حتى يتم التراويح؛ تخفيفا عليه، ورغبة في فضلها وليس من السنة ختم القرآن في رمضان.

قلت: هذا نص قول مالك، قال مالك: وليس ختم القرآن في المساجد بسنة.

الثالثة: روى الترمذي عن أنس بن مالك قال: أقبلت مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمع رجلا يقرأ « قل هو الله أحد » ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وجبت ) . قلت: وما وجبت؟ قال: ( الجنة ) . قال: هذا حديث حسن صحيح. قال الترمذي: حدثنا محمد بن مرزوق البصري قال حدثنا حاتم بن ميمون أبو سهل عن ثابت البناني عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من قرأ كل يوم مائتي مرة قل هو الله أحد، محي عنه ذنوب خمسين سنة، إلا أن يكون عليه دين ) . وبهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من أراد أن ينام على فراشه، فنام على يمينه، ثم قرأ « قل هو الله أحد » مائة مرة، فإذا كان يوم القيامة يقول الرب: يا عبدي، ادخل على يمينك الجنة ) . قال: هذا حديث غريب من حديث، ثابت عن أنس. وفي مسند أبي محمد الدارمي، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من قرأ « قل هو الله أحد » خمسين مرة، غفرت له ذنوب خمسين سنة ) قال: وحدثنا عبدالله بن يزيد قال حدثنا حيوة قال: أخبرني أبو عقيل: أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من قرأ « قل هو الله أحد » عشرة مرات بني له قصر في الجنة. ومن قرأها عشرين مرة بني له بها قصران في الجنه. ومن قرأها ثلاثين مرة بني له بها ثلاثة قصور في الجنة ) . فقال عمر بن الخطاب: والله يا رسول الله إذا لنكثرن قصورنا؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الله أوسع من ذلك ) قال أبو محمد: أبو عقيل زهرة بن معبد، وزعموا أنه كان من الأبدال. وذكر أبو نعيم الحافظ من حديث أبي العلاء يزيد بن عبدالله بن الشخير عن أبيه، قال: والرسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من قرأ قل هو الله أحد في مرضه الذي يموت فيه، لم يفتن في قبره. وأمن من ضغطة القبر. وحملته الملائكة يوم القيامة بأكفها، حتى تجيزه من الصراط إلى الجنة ) . قال: هذا حديث غريب من حديث يزيد، تفرد به نصر بن حماد البجلي.

وذكر أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الحافظ عن عيسى بن أبي فاطمة الرازي قال: سمعت مالك بن أنس يقول: إذا نقس بالناقوس اشتد غضب الرحمن، فتنزل الملائكة، فيأخذون بأقطار الأرض، فلا يزالون يقرؤون « قل هو الله أحد » حتى يسكن غضبه جل وعز. وخرج من حديث محمد بن خالد الجندي عن مالك عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من دخل يوم الجمعة المسجد، فصلى أربع ركعات يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب و « قل هو الله أحد » خمسين مرة فذلك مائتا مرة في أربع ركعات، لم يمت حتى يرى منزله في الجنة أو يرى له ) . وقال أبو عمر مولى جرير بن عبدالله البجلي، عن جرير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من قرأ « قل هو الله أحد » حين يدخل منزله، نفت الفقر عن أهل ذلك المنزل وعن الجيران ) وعن أنسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من قرأ « قل هو الله أحد » مرة بورك عليه، ومن قرأها مرتين بورك عليه وعلى أهله، ومن قرأها ثلاث مرات بورك عليه وعلى جميع جيرانه، ومن قرأها اثنتي عشرة بني الله له اثني عشر قصرا في الجنة، وتقول الحفظة انطلقوا بنا ننظر إلى قصر أخينا، فإن قرأها مائة مرة كفر الله عنه ذنوب خمسين سنة، ما خلا الدماء والأموال، فإن قرأها أربعمائة مرة كفر الله عنه ذنوب مائة سنة، فإن قرأها ألف مرة لم يمت حتى يرى مكانه في الجنة أو يرى له ) . وعن سهل بن سعد الساعدي قال: شكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفقر وضيق المعيشة؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا دخلت البيت فسلم إن كان فيه أحد، وإن لم يكن فيه أحد فسلم علي، واقرأ « قل هو الله أحد » مرة واحدة ) ففعل الرجل فأدر الله عليه الرزق، حتى أفاض عليه جيرانه. وقال أنس: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك، فطلعت الشمس بيضاء لها شعاع ونور، لم أرها فيما مضى طلعت قط كذلك، فأتى جبريل، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا جبريل، مالي أرى الشمس طلعت بيضاء بشعاع لم أرها طلعت كذلك فيما مضى قط ) ؟ فقال: ( ذلك لأن معاوية الليثي توفي بالمدينة اليوم، فبعث الله سبعين ألف ملك يصلون عليه ) . قال ( ومم ذلك ) ؟ قال: ( كان يكثر قراءة « قل هو الله أحد » آناء الليل وآناء النهار، وفي ممشاه وقيامه وقعوده، فهل لك يا رسول الله أن أقبض لك الأرض. فتصلي عليه ) ؟ قال [ نعم ] فصلى عليه ثم رجع. ذكره الثعلبي، والله أعلم.

 

سورة الفلق

 

وهذه السورة وسورة « الناس » و « الإخلاص » : تعوذ بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سحرته اليهود؛ على ما يأتي. وقيل: إن المعوذتين كان يقال لهما المقشقشتان؛ أي تبرئان من النفاق. وقد تقدم. وزعم ابن مسعود أنهما دعاء تعوذ به، وليستا من القرآن؛ خالف به الإجماع من الصحابة وأهل البيت. قال ابن قتيبة: لم يكتب عبدالله بن مسعود في مصحفه المعوذتين؛ لأنه كان يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين - رضي الله عنهما - بهما، فقدر أنهما بمنزلة: أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة. قال أبو بكر الأنباري: وهذا مردود على ابن قتيبة؛ لأن المعوذتين من كلام رب العالمين، المعجز لجميع المخلوقين؛ و « أعيذكما بكلمات الله التامة » من قول البشر بين. وكلام الخالق الذي هو آية لمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وحجة له باقية على جميع الكافرين، لا يلتبس بكلام الآدميين، على مثل عبدالله بن مسعود الفصيح اللسان، العالم باللغة، العارف بأجناس الكلام، وأفانين القول. وقال بعض الناس: لم يكتب عبدالله المعوذتين لأنه أمن عليهما من النسيان، فأسقطهما وهو يحفظهما؛ كما أسقط فاتحة الكتاب من مصحفه، وما يشك في حفظه وإتقانه لها. فرد هذا القول على قائله، واحتج عليه بأنه قد كتب: « إذا جاء نصر الله والفتح » ، و « إنا أعطيناك الكوثر » ، و « قل هو الله أحد » وهن يحرين مجرى المعوذتين في أنهن غير طوال، والحفظ إليهن أسرع، ونسيانهن مأمون، وكلهن يخالف فاتحة الكتاب؛ إذ الصلاة لا تتم إلا بقراءتها. وسبيل كل ركعة أن تكون المقدمة فيها قبل ما يقرأ من بعدها، فاسقاط فاتحة الكتاب من المصحف، على معنى الثقة ببقاء حفظها، والأمن نسيانها، صحيح، وليس من السور ما يجري في هذا المعنى مجراها، ولايسلك به طريقها. وقد مضى هذا المعنى في سورة « الفاتحة » . والحمد لله.

 

الآيات: 1 - 5 ( قل أعوذ برب الفلق، من شر ما خلق، ومن شر غاسق إذا وقب، ومن شر النفاثات في العقد، ومن شر حاسد إذا حسد )

 

روى النسائي عن عقبة بن عامر، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكب، فوضعت يدي على قدمه، فقلت: أقرئني سورة [ هود ] أقرئني سورة يوسف. فقال لي: ( ولن تقرأ شيئا أبلغ عند الله من « قل أعوذ برب الفلق » ) . وعنه قال: بينا أنا أسير مع النبي صلى الله عليه وسلم بين الجحفة والأبواء، إذ غشتنا ريح مظلمة شديدة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ « بأعوذ برب الفلق » ، و « أعوذ برب الناس » ، ويقول: ( يا عقبة، تعوذ بهما فما تعوذ متعوذ بمثلهما ) . قال: وسمعته يقرأ بهما في الصلاة. وروى النسائي عن عبدالله قال: أصابنا طش وظلمة، فانتظرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج. ثم ذكر كلاما معناه: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي بنا، فقال: قل. فقلت: ما أقول؟ قال: ( قل هو الله أحد والمعوذتين حين تمسي، وحين تصبح ثلاثا، يكفك كل شيء ) وعن عقبة بن عامر الجهني قال: قال لي رسول الله صلىالله عليه وسلم: ( قل ) . قلت: ما أقول؟ قال قل: ( قل هو الله أحد. قل أعوذ برب الفلق. قل أعوذ برب الناس - فقرأهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: لم يتعوذ الناس بمثلهن، أو لا يتعوذ الناس بمثلهن ) . وفي حديث ابن عباس « قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس، هاتين السورتين » . وفي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى قرأ على نفسه بالمعوذتين وينفث، كلما أشتد وجعه كنت أقرأ عليه، وأمسح عنه بيده، رجاء بركتها. النفث: النفخ ليس معه ريق.

 

ثبت في الصحيحين من حديث عائشة أن النبي صلى سحره يهودي من يهود بني زريق، يقال له لبيد بن الأعصم، حتى يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء ولا يفعله، فمكث كذلك ما شاء الله أن يمكث - في غير الصحيح: سنة - ثم قال: ( يا عائشة أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه. أتاني ملكان، فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال الذي عند رأسي للذي عند رجلي: ما شأن الرجل؟ قال: مطبوب. قال ومن طبه؟ قال لبيد بن الأعصم. قال في ماذا؟ قال في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر، تحت راعوفة في بئر ذي أوران ) فجاء البئر واستخرجه. انتهى الصحيح.

وقال ابن عباس: ( أما شعرت يا عائشة أن الله تعالى أخبرني بدائي ) . ثم بعث عليا والزبير وعمار بن ياسر، فنزحوا ماء تلك البئر كأنه نقاعة الحناء، ثم رفعوا الصخرة وهي الراعوفة - صخرة تترك أسفل البئر يقوم عليها المائح، وأخرجوا الجف، فإذا مشاطة رأس إنسان، وأسنان من مشط، وإذا وتر معقود فيه إحدى عشرة عقدة مغرزة بالإبر، فأنزل الله تعالى هاتين السورتين، وهما إحدى عشرة آية على عدد تلك العقد، وأمر أن يتعوذ بهما؛ فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة، ووجد النبي صلى الله عليه وسلم خفة، حتى انحلت العقدة الأخيرة، فكأنما أنشط من عقال، وقال: ليس به بأس. وجعل جبريل يرقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: ( باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر حاسد وعين، والله يشفيك ) . فقالوا: يا رسول الله، ألا نقتل الخبيث. فقال: ( أما أنا فقد شفاني الله، وأكره أن أثير على الناس شرا ) . وذكر القشيري في تفسيره أنه ورد في الصححاح: أن غلاما من اليهود كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فدست إليه اليهود، ولم يزالوا به حتى أخذ مشاطة رأس النبي صلى الله عليه وسلم. والمشاطة بضم الميم: ما يسقط من الشعر عند المشط. وأخذ عدة من أسنان مشطه، فأعطاها اليهود، فسحروه فيها، وكان الذي تولى ذلك لبيد بن الأعصم اليهودي. وذكر نحو ما تقدم عن ابن عباس. وقد تقدم في « البقرة » القول في السحر وحقيقته، وما ينشأ عنه من الآلام والمفاسد، وحكم الساحر؛ فلا معنى لإعادته.

 

قوله تعالى: « الفلق » اختلف فيه؛ فقيل: سجن في جهنم؛ قال ابن عباس. وقال أبي بنكعب: بيت في جهنم إذا فتح صاح أهل النار من حره. وقال الحبلي أبو عبدالرحمن: هو اسم من أسماء جهنم. وقال الكلبي: واد في جهنم. وقال عبدالله بن عمر: شجرة في النار. سعيد بن جبير: جب في النار. النحاس: يقال لما اطمأن من الأرض فلق؛ فعلى هذا يصح هذا القول. وقال جابر بن عبدالله والحسن وسعيد بن جبيرأيضا ومجاهد وقتادة والقرظبي وابن زيد: الفلق، الصبح. وقال ابن عباس. تقول العرب: هو أبين من فلق الصبح وفرق الصبح. وقال الشاعر:

يا ليلة لم أنمها بت مرتفقا أرعى النجوم إلى أن نور الفلق

وقيل: الفلق: الجبال والصخور تنفرد بالمياه؛ أي تتشقق. وقيل: هو التفليق بين الجبال والصخور؛ لأنها تتشقق من خوف الله عز وجل. قال زهير:

ما زلت أرمقهم حتى إذا هبطت أيدي الركاب بهم من راكس فلقا

الراكس: بطن الوادي. وكذلك هو في قول النابغة:

أتاني ودوني راكس فالضواجع

والراكس أيضا: الهادي، وهو الثور وسط البيدر، تدور عليه الثيران في الدياسة. وقيل: الرحم تنقلق بالحيوان. وقيل: إنه كل ما انفلق عن جميع ما خلق من الحيوان والصبح والحب والنوى، وكل شيء من نبات وغيره؛ قاله الحسن وغيره. قال الضحاك: الفلق الخلق كله؛ قال:

وسوس يدعو مخلصا رب الفلق سرا وقد أون تأوين العقق

قلت: هذا القول يشهد له الاشتقاق؛ فإن الفلق الشق. فلقت الشيء فاقا أي شققته. والتفليق مثله. يقال: فلقته فانفلق وتفلق. فكل ما انفلق عن شيء من حيوان وصبح وحب ونوى وماء فهو فلق؛ قال اللة تعالى: « فالق الإصباح » [ الأنعام: 96 ] قال: « فالق الحب والنوى » [ الأنعام: 95 ] . وقال ذو الرمة يصف الثور الوحشي:

حتى إذا ما انجلى عن وجهه فلق هاديه في أخريات الليل منتصب

يعني بالفلق هنا: الصبح بعينه. والفلق أيضا: المطمئن من الأرض بين الربوتين، وجمعه: فلقان؛ مثل خلق وخلقان، وربما قال: كان ذلك بفالق كذا وكذا؛ يريدون المكان المنحدر بين الربوتين، والفلق أيضا مقطرة السجان. فأما الفلق ( بالكسر ) : فالداهية والأمر العجب؛ تقول منه: أفلق الرجل وأفتلق. وشاعر مفلق، وقد جاء بالفلق ( أي بالداهية ) . والفلق أيضا: القضيب يشق باثنين، فيعمل منه قوسان، يقال لكل واحدة منهما فلق، وقولهم: جاء بعلق فلق؛ وهي الداهية؛ لا يجرى ( مجرى عمر ) . يقال منه: أعلقت وأفلقت؛ أي جئت بعلق فلق. ومر يفتلق في عدوه؛ أي يأتي بالعجب من شدته.

 

قوله تعالى: « من شر ما خلق » قيل: هو إبليس وذريته. وقيل جهنم. وقيل: هوعام؛ أي من شر كل ذي شر خلقه الله عز وجل. « ومن شر غاسق إذا وقب » اختلف فيه؛ فقيل: هو الليل. والغسق: أول ظلمة الليل؛ يقال منه: غسقا الليل يغسق أي أظلم. قال ابن قيس الرقيات:

إن هذا الليل قد غسقا واشتكيت الهم والأرقا

وقال آخر:

يا طيف هند لقد أبقيت لي أرقا إذ جئتنا طارقا والليل قد غسقا

هذا قول ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم. و « وقب » على هذا التفسير: أظلم؛ قاله ابن عباس. والضحاك: دخل. قتادة: ذهب. يمان بن رئاب: سكن. وقيل: نزل؛ يقال: وقب العذاب على الكافرين؛ نزل. قال الشاعر:

وقب العذاب عليهم فكأنهم لحقتهم نار السموم فاحصدوا

وقال الزجاج: قيل الليل غاسق لأنه أبرد من النهار. والغاسق: البارد. والغسق: البرد؛ ولأن في الليل تخرج السباع من آجامها، والهوام من أماكنها، وينبعث أهل الشر على العبث والفساد. وقيل: الغاسق: الثريا؛ وذلك أنها إذا سقطت كثرت الأسقام والطواعين، وإذا طلعت ارتفع ذلك؛ قال عبدالرحمن بن زيد. وقيل: هو الشمس إذا غربت؛ قاله ابن شهاب. وقيل: هو القمر. قال القتبي: « إذا وقب » القمر: إذا دخل في ساهوره، وهو كالغلاف له، وذلك إذا خسف به. وكل شيء أسود فهو غسق. وقال قتادة: « إذا وقب » إذا غاب. وهو أصح؛ لأن في الترمذي عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر، فقال: ( يا عائشة، استعيذي بالله من شر هذا، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب ) . قال أبو عيس: هذا حديث حسن صحيح. وقال أحمد بن يحيى ثعلب عن ابن الأعرابي في تأويل هذا الحديث: وذلك أن أهل الريب يتحينون وجبة القمر. وأنشد:

أراحني الله من أشياء أكرهها منها العجوز ومنها الكلب والقمر

هذا يبوح وهذا يستضاء به وهذه ضمرز قوامة السحر

وقيل: الغاسق: الحية إذا لدغت. وكأن الغاسق نابها؛ لأن السم يغسق منه؛ أي يسيل. ووقب نابها: إذا دخل في اللديغ. وقيل: الغاسق: كل هاجم يضر، كائنا ما كان؛ من قولهم: غسقت القرحة: إذا جرى صديدها.

 

قوله تعالى: « ومن شر النفاثات في العقد » يعني الساحرات اللائي ينفثن في عقد الخيط حين يرقين عليها. شبه النفخ كما يعمل من يرقي. قال الشاعر:

أعوذ بربي من النافثات في عضه العاضه المعضه

وقال متمم بن نويرة:

نفثت في الخيط شبيه الرقى من خشية الجنة والحاسد

وقال عنترة:

فإن يبرأ فلم أنفث عليه وإن يفقد فحق له الفقود

وروى النسائي عن أبي هريرة قال: فال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من عقد عقدة ثم نفث فيها، فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئا وكل إليه ) . واختلف في النفث عند الرقي فمنعه قوم، وأجازه آخرون. قال عكرمة: لا ينبغي للراقي أن ينفث، ولا يمسح ولا يعقد. قال إبراهيم: كانوا يكرهون النفث في الرقي. وقال بعضهم: دخلت، على الضحاك وهو وجع، فقلت: ألا أعوذك يا أبا محمد؟ قال: لا شيء من ذلك ولكن لا تنفث؛ فعوذته بالمعوذتين. وقال ابن جريج قلت لعطاء: القرآن ينفخ به أو ينفث؟ قال: لا شيء من ذلك ولكن تقرؤه هكذا. ثم قال بعد: انفث إن شئت. وسئل محمد بن سيرين عن الرقيه ينفث فيها، فقال: لا أعلم بها بأسا، وإذا اختلفوا فالحاكم بينهم السنة. روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث في الرقية؛ رواه الأئمة، وقد ذكرناه أول السورة وفي « الإسراء » . وعن محمد بن حاطب أن يده احترقت فأتت به أمه النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل ينفث عليها ويتكلم بكلام؛ زعم أنه لم يحفظه. وقال محمد بن الأشعث: ذهب بي إلى عائشة رضي الله عنها وفي عيني سوء، فرقتني ونفثت.

وأما ما روي عن عكرمة من قوله: لا ينبغي للراقي أن ينفث، فكأنه ذهب فيه إلى أن الله تعالى جعل النفث في العقد مما يستعاذ به، فلا يكون بنفسه عوذة. وليس هذا هكذا؛ لأن النفث في العقد إذا كان مذموما لم يجب أن يكون النفث بلا عقد مذموما. ولأن النفث في العقد إنما أريد به السحر المضر بالأرواح، وهذا النفث لاستصلاح الأبدان، فلا يقاس ما ينفع بما يضر. وأما كراهة عكرمة المسح فخلاف السنة. قال علي رضي الله عنه: اشتكيت، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أقول: اللهم إن كان أجلي قد حضر فأرحني، وإن كان متأخرا فاشفني وعافني، وإن كان بلاء فصبرني. فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( كيف قلت ) ؟ فقلت له: فمسحني بيده، ثم قال: ( اللم اشفه ) فما عاد ذلك الوجع بعد. وقرأ عبدالله بن عمرو وعبدالرحمن بن سابط وعيسى بن عمر ورويس عن يعقوب « من شر النافثات » في وزن ( فاعلات ) . ورويت عن عبدالله بن القاسم مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما. وروي أن نساء سحرن النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى عشرة عقدة، فأنزل الله المعوذتين إحدى عشرة آية. قال ابن زيد: كن من اليهود؛ يعني السواحر المذكورات. وقيل: هن بنات لبيد بن الأعصم.

 

قوله تعالى: « ومن شر حاسد إذا حسد » قد تقدم في سورة « النساء » معنى الحسد، وأنه تمنى زوال نعمة المحسود وإن لم يصر للحاسد مثلها. والمنافسة هي تمني مثلها وإن لم تزل. فالحسد شر مذموم. والمنافسة مباحة وهي الغبطة. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( المؤمن يغبط، والمنافق يحسد ) . وفي الصحيحين: ( لا حسد إلا في اثنتين ) يريد لا غبطة وقد مضى في سورة « النساء » والحمد لله.

قلت: قال العلماء: الحاسد لايضر إلا اذا ظهر حسده بفعل أو قول، وذلك بأن يحمله الحسد على إيقاع الشر بالمحسود، فيتبع مساوئه، ويطلب عثراته. قال صلى الله عليه وسلم: ( إذا حسدت فلا تبغ.. ) الحديث. وقد تقدم. والحسد أول ذنب عصي الله به في السماء، وأول ذنب عصي به في الأرض، فحسد إبليس آدم، وحسد قابيل هابيل. والحاسد ممقوت مبغوض مطرود ملعون ولقد أحسن من قال:

قل للحسود إذا تنفس طعنة يا ظالما وكأنه مظلوم

 

هذه سورة دالة على أن الله سبحانه خالق كل شر، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ من جميع الشرور. فقال: « من شر ما خلق » . وجعل خاتمة ذلك الحسد، تنبيها على عظمه، وكثرة ضرره. والحاسد عدو نعمة الله. قال بعض الحكماء: بارز الحاسد ربه من خمسة أوجه: أحدها: أنه أبغض كل نعمة ظهرت على غيره. وثانيها: أنه ساخط لقسمة ربه، كأنه يقول: لم قسمت هذه القسمة؟ وثالثها: أنه ضاد فعل الله، أي إن فضل الله يؤتيه من يشاء، وهو يبخل بفضل الله. ورابعها: أنه خذل أولياء الله، أو يريد خذلانهم وزوال النعمة عنهم. وخامسها: أنه أعان عدوه إبليس. وقيل: الحاسد لا ينال في المجالس إلا ندامة، ولا ينال عند الملائكة ألا لعنة وبغضاء، ولا ينال في الخلوة إلا جزعا وغما، ولا ينال في الآخرة إلا حزنا واحتراقا، ولا ينال من الله إلا بعدا ومقتا. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ثلاثة لا يستجاب دعاؤهم: آكل الحرام، ومكثر الغيبة، ومن كان في قلبه غل أو حسد للمسلمين ) . والله سبحانه وتعالى أعلم.

 

سورة الناس

 

مثل « الفلق » لأنها إحدى المعوذتين. وروى الترمذي عن عقبة بن عامر الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( لقد أنزل الله على آيات لم ير مثلهن: « قل أعوذ برب الناس » إلى آخر السورة « وقل أعوذ برب الفلق » إلى آخر السورة ) . وقال: هذا حديث حسن صحيح. ورواه مسلم.

 

الآيات: 1 - 3 ( قل أعوذ برب الناس، ملك الناس، إله الناس )

 

قوله تعالى: « قل أعوذ برب الناس » أي مالكهم ومصلح أمورهم. وإنما ذكر أنه رب الناس، وإن كان ربا لجميع الخلق لأمرين: أحدهما: لأن الناس معظمون؛ فأعلم بذكرهم أنه رب لهم وإن عظموا. الثاني: لأنه أمر بالاستعاذة من شرهم، فأعلم بذكرهم أنه هو الذي يعيذ منهم. وإنما قال: « ملك الناس إله الناس » لأن في الناس ملوكا يذكر أنه ملكهم. وفي الناس من يعبد غيره، فذكر أنه إلههم ومعبودهم، وأنه الذي يجب أن يستعاذ به ويلجأ إليه، دون الملوك والعظماء.

 

الآية: 4 ( من شر الوسواس الخناس )

 

يعني: من شر الشيطان. والمعنى: من شر ذي الوسواس؛ فحذف المضاف؛ قال الفراء: وهو ( بفتح الواو ) بمعنى الاسم؛ أي الموسوس. و ( بكسر الواو ) المصدر؛ يعني الوسوسة. وكذا الزلزال والزلزال. والوسوسة: حديث النفس. يقال: وسوست إليهم نفسه وسوسة ووسوسة ( بكسر الواو ) . ويقال لهمس الصائد والكلاب وأصوات الحلي: وسواس. وقال ذو الرمة:

فبات بشئزه ثاد ويسهره تذؤب الريح والوسواس والهضب

وقال الأعشى:

تسمع للحلى وسواسا إذا انصرفت كما استعان بريح عشرق زجل

وقيل: إن الوسواس الخناس ابن لإبليس، جاء به إلى حواء، ووضعه بين يديها وقال: اكفليه. فجاء آدم عليه السلام فقال: ما هذا ( يا حواء ) قالت: جاء عدونا بهذا وقال لي: اكفليه. فقال: ألم أقل لك لا تطيعيه في شيء، هو الذي غرنا حتى وقعنا في المعصية؟ وعمد إلى الولد فقطعه أربعة أرباع، وعلق كل ربع على شجرة، غيظا له؛ فجاء إبليس فقال: يا حواء، أين ابني؟ فأخبرته بما صنع به آدم عليه السلام فقال: يا خناس، فحيي فأجابه. فجاء به إلى حواء وقال: اكفليه؛ فجاء آدم عليه السلام فحرقه بالنار، وذر رماده في البحر؛ فجاء إبليس ( عليه اللعنة ) فقال: يا حواء، أين ابني؟ فأخبرته بفعل آدم إياه؛ فذهب إلى البحر، فقال: يا خناس، فحيي فأجابه. فجاء به إلى حواء الثالثة، وقال: أكفليه. فنظر؛ إليه آدم، فذبحه وشواه، وأكلاه جميعا. فجاء إبليس فسألها فأخبرته ( حواء ) . فقال: يا خناس، فحيي فأجابه ( فجاء به ) من جوف آدم وحواء. فقال إبليس: هذا الذي أردت، وهذا مسكنك في صدر ولد آدم؛ فهو ملتقم قلب آدم ما دام غافلا يوسوس، فإذا ذكر الله لفظ قلبه وانخنس. ذكر هذا الخبر الترمذي الحكيم في نوادر الأصول بإسناد عن وهب بن منبه. وما أظنه يصح، والله تعالى أعلم. ووصف بالخناس لأنه كثير الاختفاء؛ ومنه قوله تعالى: « فلا أقسم بالخنس » [ التكوير: 15 ] يعني النجوم، لاختفائها بعد ظهورها. وقيل: لأنه يخنس إذا ذكر العبد الله؛ أي يتأخر. وفي الخبر ( إن الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا غفل وموس، وإذا ذكر الله خنس ) أي تأخر وأقصر. وقال قتادة: « الخناس » الشيطان له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان، فإذا غفل الإنسان وسوس له، وإذا ذكر العبد ربه خنس. يقال: خنسته فخنس؛ أي أخرته فتأخر. وأخنسته أيضا. ومنه قول أبي العلاء الحضرمي - أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم:

وإن دحسوا بالشر فاعف تكرما وإن خنسوا عند الحديث فلا تسل

الدحس: الإفساد. وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله خنس، وإذا نسي الله التقم قلبه فوسوس ) . وقال ابن عباس: إذا ذكر الله العبد خنس من قلبه فذهب، وإذا غفل التقم قلبه فحدثه ومناه. وقال إبراهيم التيمي: أول ما يبدو الوسواس من قبل الوضوء. وقيل: سمي خناسا لأنه يرجع إذا غفل العبد عن ذكر الله. والخنس: الرجوع. وقال الراجز:

وصاحب يمتعس امتعاسا يزداد إن حييته خناسا

وقد روى ابن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: « الوسواس الخناس » وجهين: أحدهما: أنه الراجع بالوسوسة عن الهدى. الثاني: أنه الخارج بالوسوسة من اليقين.

 

الآية: 5 ( الذي يوسوس في صدور الناس )

 

قال مقاتل: إن الشيطان في صورة خنزير، يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق، سلطه الله على ذلك؛ فذلك قوله تعالى: « الذي يوسوس في صدور الناس » . وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ) . وهذا يصحح ما قاله مقاتل.

وروى شهر بن حوشب عن أبي ثعلبة الخشني قال: سألت الله أن يريني الشيطان ومكانه من ابن آدم فرأيته، يداه في يديه، ورجلاه في رجليه، ومشاعبه في جسده؛ غير أن له خطما كخطم الكلب، فإذا ذكر الله خنس ونكس، وإذا سكت عن ذكر الله أخذ بقلبه. فعلى ما وصف أبو ثعلبة، أنه متشعب في الجسد؛ أي في كل عضو منه شعبة.

وروي عن عبدالرحمن بن الأسود أو غيره من التابعين أنه قال - وقد كبر سنه - : ما أمنت الزنى، وما يؤمنني أن يدخل الشيطان ذكره فيوتده! فهذا القول ينبئك أنه متشعب في الجسد، وهذا معنى قول مقاتل.

ووسوسته: هو الدعاء لطاعته بكلام خفي، يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع صوت.

 

الآية: 6 ( من الجنة والناس )

 

أخبر أن الموسوس قد يكون من الناس. قال الحسن: هما شيطانان؛ أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس، وأما شيطان الإنس فيأتي علانية. وقال قتادة: إن من الجن شياطين، وإن من الإنس شياطين؛ فتعوذ بالله من شياطين الإنس والجن. وروي عن أبي ذر أنه قال لرجل: هل تعوذت بالله من شياطين الإنس؟ فقال: أو من الإنس شياطين؟ قال: نعم؛ لقوله تعالى: « وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن » [ الأنعام: 112 ] .. الآية. وذهب قوم إلى أن الناس هنا يراد به الجن. سموا ناسا كما سموا رجلا في قوله: « وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن » [ الجن: 6 ] - وقوما ونفرا. فعلى هذا يكون « والناس » عطفا على « الجنة » ، ويكون التكرير لاختلاف اللفظين. وذكر عن بعض العرب أنه قال وهو يحدث: جاء قوم من الجن فوقفوا. فقيل: من أنتم؟ فقالوا: ناس من الجن. وهو معنى قول الفراء. وقيل: الوسواس هو الشيطان. وقوله: « من الجنة » بيان أنه من الجن « والناس » معطوف على الوسواس. والمعنى: قل أعوذ برب الناس من شر الوسواس، الذي هو من الجنة، ومن شر الناس. فعلى هذا أمر بأن يستعيذ من شر الإنس والجن. والجنة: جمع جني؛ كما يقال: إنس وإنسي. والهاء لتأنيث الجماعة. وقيل: إن إبليس يوسوس في صدور الجن، كما يوسوس في صدور الناس. فعلى هذا يكون « في صدور الناس » عاما في الجميع. و « من الجنة والناس » بيان لما يوسوس في صدره. وقيل: معنى « من شر الوسواس » أي الوسوسة التي تكون من الجنة والناس، وهو حديث النفس. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الله عز وجل تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به ) . رواه أبو هريرة، أخرجه مسلم. فالله تعالى أعلم بالمراد من ذلك.