الجزء الرابع

 

الآية: 93 - 94 ( كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون )

 

قوله تعالى: « حلا » أي حلالا، ثم استثنى فقال: « إلا ما حرم إسرائيل على نفسه » وهو يعقوب عليه السلام. في الترمذي عن ابن عباس أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرنا، ما حرم إسرائيل عل نفسه؟ قال: ( كان يسكن البدو فاشتكى عرق النسا فلم يجد شيئا يلائمه إلا لحوم الإبل وألبانها فلذلك حرمها ) . قالوا: صدقت. وذكر الحديث. ويقال: إنه نذر إن برأ منه ليتركن أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام والشراب إليه لحوم الإبل وألبانها. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي: أقبل يعقوب عليه السلام من حران يريد بيت المقدس حين هرب من أخيه عيصو، وكان رجلا بطشا قويا، فلقيه ملك فظن يعقوب أنه لص فعالجه أن يصرعه، فغمز الملك فخذ يعقوب عليه السلام، ثم صعد الملك إلى السماء ويعقوب ينظر إليه فهاج عليه عرق النسا، ولقي من ذلك بلاء شديدا، فكان لا ينام الليل من الوجع ويبيت وله زقاء أي صياح، فحلف يعقوب عليه السلام إن شفاه الله جل وعز ألا يأكل عرقا، ولا يأكل طعاما فيه عرق فحرمها على نفسه؛ فجعل بنوه يتبعون بعد ذلك العروق فيخرجونها من اللحم. وكان سبب غمز الملك ليعقوب أنه كان نذر إن وهب الله له اثني عشر ولدا وأتى بيت المقدس صحيحا أن يذبح آخرهم. فكان ذلك للمخرج من نذره؛ عن الضحاك.

 

واختلف هل كان التحريم من يعقوب باجتهاد منه أو بإذن من الله تعالى؟ والصحيح الأول؛ لأن الله تعالى أضاف التحريم إليه بقوله تعالى: « إلا ما حرم » وأن النبي إذا أداه اجتهاده إلى شيء كان دينا يلزمنا اتباعه لتقرير الله سبحانه إياه على ذلك. وكما يوحى إليه ويلزم اتباعه، كذلك يؤذن له ويجتهد، ويتعين موجب اجتهاده إذا قدر عليه، ولولا تقدم الإذن له في تحريم ذلك ما تسور على التحليل والتحريم. وقد حرم نبينا صلى الله عليه وسلم العسل على الرواية الصحيحة، أو خادمه ؟؟ مارية فلم يقر الله تحريمه ونزل: « لم تحرم ما أحل الله لك » [ التحريم: 1 ] على ما يأتي بيانه في « التحريم » . قال الكيا الطبري: فيمكن أن يقال: مطلق قوله تعالى: « لم تحرم ما أحل الله » يقتضي ألا يختص بمارية؛ وقد رأى الشافعي أن وجوب الكفارة في ذلك غير معقول المعنى، فجعلها مخصوصا بموضع النص، وأبو حنيفة رأى ذلك أصلا في تحريم كل مباح وأجراه مجرى اليمين.

 

قوله تعالى: « قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين » قال ابن عباس: لما أصاب يعقوب عليه السلام عرق النسا وصف الأطباء له أن يجتنب لحوم الإبل فحرمها على نفسه. فقالت اليهود: إنما نحرم على أنفسنا لحوم الإبل؛ لأن يعقوب حرمها وأنزل الله تحريمها في التوراة؛ فأنزل الله هذه الآية. قال الضحاك: فكذبهم الله ورد عليهم فقال: يا محمد « قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين » فلم يأتوا. فقال عز وجل: « فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون » قال الزجاج: في هذه الآية أعظم دلالة لنبوة محمد نبينا صلى الله عليه وسلم، أخبرهم أنه ليس في كتابهم، وأمرهم أن يأتوا بالتوراة فأبوا؛ يعني عرفوا أنه قال ذلك بالوحي. وقال عطية العوفي: إنما كان ذلك حراما عليهم بتحريم يعقوب ذلك عليهم. وذلك أن إسرائيل قال حين أصابه عرق النسا: والله لئن عافاني الله منه لا يأكله لي ولد؛ ولم يكن ذلك محرما عليهم. وقال الكلبي: لم يحرمه الله عز وجل في التوراة عليهم وإنما حرمه بعد التوراة بظلمهم وكفرهم، وكانت بنو إسرائيل إذا أصابوا ذنبا عظيما حرم الله تعالى عليهم طعاما طيبا، أو صب عليهم رجزا وهو الموت؛ فذلك قوله تعالى: « فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم » [ النساء: 160 ] الآية. وقوله: « وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر » الآية - إلى قوله: « ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون » [ الأنعام: 146 ] .

 

ترجم ابن ماجة في سننه « دواء عرق النسا » حدثنا هشام بن عمار وراشد بن سعيد الرملي قالا حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا هشام بن حسان حدثنا أنس بن سيرين أنه سمع أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( شفاء عرق النسا ألية شاة أعرابية تذاب ثم تجزأ ثلاثة أجزاء ثم يشرب على الريق في كل يوم جزء ) . وأخرجه الثعلبي في تفسيره أيضا من حديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرق النسا: ( تؤخذ ألية كبش عربي لا صغير ولا كبير فتقطع صغارا فتخرج إهالته فتقسم ثلاثة أقسام في كل يوم على ريق النفس ثلثا ) قال أنس: فوصفته لأكثر من مائة فبرأ بإذن الله تعالى. شعبة: حدثني شيخ في زمن الحجاج بن يوسف في عرق النسا: أقسم لك بالله الأعلى لئن لم تنته لأكوينك بنار أو لأحلقنك بموسى. قال شعبة: قد جربته، تقوله، وتمسح على ذلك الموضع.

 

الآية: 95 ( قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين )

 

أي قل يا محمد صدق الله. إنه لم يكن ذلك في التوراة محرما. « فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا » أمر باتباع دينه. « وما كان من المشركين » رد عليهم في دعواهم الباطل كما تقدم.

 

الآيتان: 96 - 97 ( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين، فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين )

 

ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض قال: ( المسجد الحرام ) . قلت: ثم أي؟ قال: ( المسجد الأقصى ) . قلت: كم بينهما؟ قال: ( أربعون عاما ثم الأرض لك مسجد فحيثما أدركتك الصلاة فصل ) . قال مجاهد وقتادة: لم يوضع قبله بيت. قال علي رضي الله عنه: كان قبل البيت بيوت كثيرة، والمعنى أنه أول بيت وضع للعبادة. وعن مجاهد قال: تفاخر المسلمون واليهود فقالت اليهود: بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة؛ لأنه مهاجر الأنبياء وفي الأرض المقدسة. وقال المسلمون: بل الكعبة أفضل؛ فأنزل الله هذه الآية. وقد مضى في البقرة بنيان البيت وأول من بناه. قال مجاهد: خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرض بألفي سنة، وأن قواعده لفي الأرض السابعة السفلى. وأما المسجد الأقصى فبناه سليمان عليه السلام؛ كما خرجه النسائي بإسناد صحيح من حديث عبدالله بن عمرو. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن سليمان بن داود عليه السلام لما بنى بيت المقدس سأل الله خلالا ثلاثة سأل الله عز وجل حكما يصادف حكمه فأوتيه، وسأل الله عز وجل ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه، وسأل الله عز وجل حين فرغ من بناء المسجد ألا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه فأوتيه ) . فجاء إشكال بين الحديثين؛ لأن بين إبراهيم وسليمان آمادا طويلة. قال أهل التواريخ: أكثر من ألف سنة. فقيل: إن إبراهيم وسليمان عليهما السلام إنما جددا ما كان أسسه غيرهما. وقد روي أن أول من بنى البيت آدم عليه السلام كما تقدم. فيجوز أن يكون غيره من ولده وضع بيت المقدس من بعده بأربعين عاما، ويجوز أن تكون الملائكة أيضا بنته بعد بنائها البيت بإذن الله؛ وكل محتمل. والله أعلم. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أمر الله تعالى الملائكة ببناء بيت في الأرض وأن يطوفوا به؛ وكان هذا قبل خلق آدم، ثم إن آدم بنى منه ما بنى وطاف به، ثم الأنبياء بعده، ثم استتم بناءه إبراهيم عليه السلام.

 

قوله تعالى: « للذي ببكة » خبر « إن » واللام توكيد. و « بكة » موضع البيت، ومكة سائر البلد؛ عن مالك بن أنس. وقال محمد بن شهاب: بكة المسجد، ومكة الحرم كله، تدخل فيه البيوت. قال مجاهد: بكة هي مكة. فالميم على هذا مبدلة من الباء؛ كما قالوا: طين لازب ولازم. وقاله الضحاك والمؤرج. ثم قيل: بكة مشتقة من البك وهو الازدحام. تباك القوم ازدحموا. وسميت بكة لازدحام الناس في موضع طوافهم. والبك: دق العنق. وقيل: سميت بذلك لأنها كانت تدق رقاب الجبابرة إذا ألحدوا فيها بظلم. قال عبدالله بن الزبير: لم يقصدها جبار قط بسوء إلا وَقَصَه الله عز وجل. وأما مكة فقيل: إنها سميت بذلك لقلة مائها وقيل: سميت بذلك لأنها تمك المخ من العظم مما ينال قاصدها من المشقة؛ من قولهم: مككت العظم إذا أخرجت ما فيه. ومك الفصيل ضرع أمه وامتكَّه إذا امتص كل ما فيه من اللبن وشربه؛ قال الشاعر:

مكت فلم تُبْقِ في أجوافها دِرَرا

وقيل: سميت بذلك لأنها تمك من ظَلَم فيها، أي تهلكه وتنقصه. وقيل: سميت بذلك لأن الناس كانوا يمكون ويضحكون فيها؛ من قوله: « وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية » [ الأنفال:35 ] أي تصفيقا وتصفيرا. وهذا لا يوجبه التصريف؛ لأن « مكة » ثنائي مضاعف و « مُكاء » ثلاثي معتل.

 

قوله تعالى: « مباركا » جعله مباركا لتضاعف العمل فيه؛ فالبركة كثرة الخير، ونصب على الحال من المضمر في « وضع » أو بالظرف من « بكة » ، المعنى الذي استقر « ببكة مباركا » ويجوز في غير القرآن « مبارك » ؛ على أن يكون خبرا ثانيا، أو على البدل من الذي، أو على إضمار مبتدأ. « وهدى للعالمين » عطف عليه، ويكون بمعنى وهو هدى للعالمين. ويجوز في غير القرآن « مبارك » بالخفض يكون نعتا للبيت.

 

قوله تعالى: « فيه آيات بينات » رفع بالابتداء أو بالصفة. وقرأ أهل مكة وابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير « آية بينة » على التوحيد، يعني مقام إبراهيم وحده. قالوا: أثر قدميه في المقام آية بينة. وفسر مجاهد مقام إبراهيم بالحرم كله؛ فذهب إلى أن من آياته الصفا والمروة والركن والمقام. والباقون بالجمع. أرادوا مقام إبراهيم والحجر الأسود والحطيم وزمزم والمشاعر كلها. قال: أبو جعفر النحاس: من قرأ « آيات بينات » فقراءته أبين؛ لأن الصفا والمروة من الآيات، ومنها أن الطائر لا يعلو البيت صحيحا، ومنها أن الجارح يطلب الصيد فإذا دخل الحرم تركه، ومنها أن الغيث إذا كان ناحية الركن اليماني كان الخِصب باليمن، وإذا كان بناحية الشامي كان الخصب بالشام، وإذ عم البيت كان الخصب في جميع البلدان، ومنها أن الجمار على ما يزاد عليها ترى على قدر واحد. والمقام من قولهم: قمت مقاما، وهو الموضع الذي يقام فيه. والمقام من قولك: أقمت مُقاما. وقد مضى هذا في البقرة، ومضى الخلاف أيضا في المقام والصحيح منه. وارتفع المقام على الابتداء والخبر محذوف؛ والتقدير منها مقام إبراهيم؛ قاله الأخفش. وحكى عن محمد بن يزيد أنه قال: « مقام » بدل من « آيات » . وفيه قول ثالث بمعنى هي مقام إبراهيم. وقول الأخفش معروف في كلام العرب. كما قال زهير:

لها متاع وأعوان غدون به قتب وغرب إذا ما أفرغ انسحقا

أي مضى وبَعُد سيلانه. وقول أبي العباس: إن مقاما بمعنى مقامات؛ لأنه مصدر. قال الله تعالى: « ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم » [ البقرة: 7 ] . وقال الشاعر:

إن العيون التي في طرفها مرض

أي في أطرافها. ويقوّي هذا الحديث المرويّ ( الحج كله مقام إبراهيم ) .

 

قوله تعالى: « ومن دخله كان آمنا » قال قتادة: ذلك أيضا من آيات الحرم. قال النحاس: وهو قول حسن؛ لأن الناس كانوا يتخطفون من حواليه، ولا يصل إليه جبار، وقد وصل إلى بيت المقدس وخرب، ولم يوصل إلى الحرم. قال الله تعالى: « ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل » [ الفيل: 1 ] . وقال بعض أهل المعاني: صورة الآية خبر ومعناها أمر، تقديرها ومن دخله فأمنوه؛ كقوله: « فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج » [ البقرة: 197 ] أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا. ولهذا المعنى قال الإمام السابق النعمان بن ثابت: من اقترف ذنبا واستوجب به حدا ثم لجأ إلى الحرم عصمه، لقوله تعالى: « ومن دخله كان آمنا » ؛ فأوجب الله سبحانه الأمن لمن دخله. وروي ذلك عن جماعة من السلف منهم ابن عباس وغيره من الناس قال ابن العربي: « وكل من قال هذا فقد وهم من جهتين: إحداهما أنه لم يفهم من الآية أنها خبر عما مضى، ولم يقصد بها إثبات حكم مستقبل، الثاني أنه لم يعلم أن ذلك الأمن قد ذهب وأن القتل والقتال قد وقع بعد ذلك فيها، وخبر الله لا يقع بخلاف مخبره؛ فدل ذلك على أنه كان في الماضي هذا. وقد ناقض أبو حنيفة فقال، إذا لجأ إلى الحرم لا يُطعم ولا يُسقى ولا يعامل ولا يُكلَّم حتى يخرج، فاضطراره إلى الخروج ليس يصح معه أمن. وروي عنه أنه قال: يقع القصاص في الأطراف في الحرم ولا أمن أيضا مع هذا » . والجمهور من العلماء على أن الحدود تقام في الحرم، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة.

قلت: وروى الثوري عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس: من أصاب حدا في الحرم أقيم عليه فيه، وإن أصابه في الحِلّ ولجأ إلى الحرم لم يكلم ولم يبايع حتى يخرج من الحرم فيقام عليه الحد؛ وهو قول الشعبي. فهذه حجة الكوفيين، وقد فهم ابن عباس ذلك من معنى الآية، وهو حبر الأمة وعالمها. والصحيح أنه قصد بذلك تعديد النعم على كل من كان بها جاهلا ولها منكرا من العرب؛ كما قال تعالى: « أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم » [ العنكبوت:67 ] فكانوا في الجاهلية من دخله ولجأ إليه أمن من الغارة والقتل؛ على ما يأتي بيانه في « المائدة » إن شاء الله تعالى. قال قتادة ومن دخله في الجاهلية كان آمنا. وهذا حسن. وروي أن بعض الملحدة قال لبعض العلماء: أليس في القرآن « ومن دخله كان آمنا » فقد دخلناه وفعلنا كذا وكذا فلم يأمن من كان فيه قال له: ألست من العرب ما الذي يريد القائل من دخل داري كان آمنا؟ أليس أن يقول لمن أطاعه: كف عنه فقد أمنته وكففت عنه؟ قال: بلى. قال: فكذلك قوله « ومن دخله كان آمنا » . وقال يحيى بن جعدة: معنى « ومن دخله كان آمنا » يعني من النار.

قلت: وهذا ليس على عمومه؛ لأن في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري حديث الشفاعة الطويل « فوالذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار يقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويحجون فيقال لهم أخرجوا من عرفتم ) الحديث. وإنما يكون آمنا من النار من دخله لقضاء النسك معظما له عارفا بحقه متقربا إلى الله تعالى. قال جعفر الصادق: من دخله على الصفاء كما دخله الأنبياء والأولياء كان آمنا من عذابه. وهذا معنى قوله عليه السلام: ( من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) . قال الحسن: الحج المبرور هو أن يرجع زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة. وأنشد: »

يا كعبة الله دعوة اللاجي دعوة مستشعر ومحتاج

ودع أحبابه ومسكنه فجاء ما بين خائف راجي

إن يقبل الله سعيه كرما نجا، وإلا فليس بالناجي

وأنت ممن تُرجى شفاعته فاعطف على وافد بن حجاج

وقيل: المعنى ومن دخله عام عمرة القضاء مع محمد صلى الله عليه وسلم كان آمنا. دليله قوله تعالى: « لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين » [ الفتح: 27 ] . وقد قيل: إن « من » ها هنا لمن لا يعقل؛ والآية في أمان الصيد؛ وهو شاذ؛ وفي التنزيل: « فمنهم من يمشي على بطنه » [ النور: 45 ] الآية.

 

قوله تعالى: « ولله » اللام في قوله « ولله » لام الإيجاب والإلزام، ثم أكده بقوله تعالى: « على » التي هي من أوكد ألفاظ الوجوب عند العرب؛ فإذا قال العربي: لفلان على كذا؛ فقد وكده وأوجبه. فذكر الله تعالى الحج بأبلغ ألفاظ الوجوب تأكيدا لحقه وتعظيما لحرمته. ولا خلاف في فريضته، وهو أحد قواعد الإسلام، وليس يجب إلا مرة في العمر. وقال بعض الناس: يجب في كل خمسة أعوام مرة؛ ورووا في ذلك حديثا أسندوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث باطل لا يصح، والإجماع صادّ في وجوههم.

قلت: وذكر عبدالرزاق قال: حدثنا سفيان الثوري عن العلاء بن المسيب عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « يقول الرب جل وعز إن عبدا أوسعت عليه في الرزق فلم يعد إلي في كل أربعة أعوام لمحروم ) مشهور من حديث العلاء بن المسيب بن رافع الكاهلي الكوفي من أولاد المحدثين، روى عنه غير واحد، منهم من قال: في كل خمسة أعوام، ومنهم من قال: عن العلاء عن يونس بن خباب عن أبي سعيد، في غير ذلك من الاختلاف. وأنكرت الملحدة الحج، فقالت: إن فيه تجريد الثياب وذلك يخالف الحياء، والسعي وهو يناقض الوقار، ورمي الجمار لغير مرمى وذلك يضاد العقل؛ فصاروا إلى أن هذه الأفعال كلها باطلة؛ إذ لم يعرفوا لها حكمة ولا علة، وجهلوا أنه ليس من شرط المولى مع العبد، أن يفهم المقصود بجميع ما يأمره به، ولا أن يطلع على فائدة تكليفه، وإنما يتعين عليه الامتثال، ويلزمه الانقياد من غير طلب فائدة ولا سؤال عن مقصود. ولهذا المعنى كان عليه السلام يقول في تلبيته: ( لبيك حقا حقا تعبدا ورقا لبيك إله الحق ) . وروى الأئمة عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا ) . فقال رجل: كل عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ) ثم قال: ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه ) لفظ مسلم. فبين هذا الحديث أن الخطاب إذا توجه على المكلفين بفرض أنه يكفي منه فعل مرة ولا يقتضي التكرار؛ خلافا للأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني وغيره. وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له أصحابه: يا رسول الله، أحجنا لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: ( لا بل للأبد ) . وهذا نص في الرد على من قال: يجب في كل خمس سنين مرة. وقد كان الحج معلوما عند العرب مشهورا لديهم، وكان مما يرغب فيه لأسواقها وتبررها وتحنفها؛ فلما جاء الإسلام خوطبوا بما علموا وألزموا بما عرفوا. وقد حج النبي صلى الله عليه وسلم قبل حج الفرض، وقد وقف بعرفة ولم يغير من شرع إبراهيم ما غيروا؛ حين كانت قريش تقف بالمشعر الحرام ويقولون: نحن أهل الحرم فلا نخرج منه؛ ونحن الحمْسُ. حسب ما تقدم بيانه في » البقرة « . »

قلت: من أغرب ما رأيته أن النبي صلى الله عليه وسلم حج قبل الهجرة مرتين وأن الفرض سقط عنه بذلك؛ لأنه قد أجاب نداء إبراهيم حين قيل له: « وأذن في الناس بالحج » [ الحج: 27 ] . قال الكيا الطبري: وهذا بعيد؛ فإنه إذا ورد في شرعه: « ولله على الناس حج البيت » فلا بد من وجوبه عليه بحكم الخطاب في شرعه. ولئن قيل: إنما خاطب من لم يحج، كان تحكما وتخصيصا لا دليل عليه، ويلزم عليه ألا يجب بهذا الخطاب على من حج على دين إبراهيم، وهذا في غاية البعد.

 

ودل الكتاب والسنة على أن الحج على التراخي لا على الفور؛ وهو تحصيل مذهب مالك فيما ذكر ابن خويز منداد، وهو قول الشافعي ومحمد بن الحسن وأبي يوسف في رواية عنه. وذهب بعض البغداديين من المتأخرين من المالكيين إلى أنه على الفور، ولا يجوز تأخيره مع القدرة عليه؛ وهو قول داود. والصحيح الأول؛ لأن الله تعالى قال في سورة الحج: « وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا » [ الحج: 27 ] وسورة الحج مكية. وقال تعالى: « ولله على الناس حج البيت » الآية. وهذه السورة نزلت عام أحد بالمدينة سنة ثلاث من الهجرة ولم يحج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سنة عشر. أما السنة فحديث ضمام بن ثعلبة السعدي من بني سعد بن بكر قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الإسلام فذكر الشهادة والصلاة والزكاة والصيام والحج. رواه ابن عباس وأبو هريرة وأنس، وفيها كلها ذكر الحج، وأنه كان مفروضا، وحديث أنس أحسنها سياقا وأتمها. واختلف في وقت قدومه؛ فقيل: سنة خمس. وقيل: سنة سبع. وقيل: سنة تسع؛ ذكره ابن هشام عن أبي عبيدة الواقدي عام الخندق بعد انصراف الأحزاب. قال ابن عبدالبر: ومن الدليل على أن الحج على التراخي إجماع العلماء على ترك تفسيق القادر على الحج إذا أخره العام والعامين ونحوهما، وأنه إذا حج من بعد أعوام من حين استطاعته فقد أدى الحج الواجب عليه في وقته، وليس هو عند الجميع كمن فاتته الصلاة حتى خرج وقتها فقضاها بعد خروج وقتها، ولا كمن فاته صيام رمضان لمرض أو سفر فقضاه. ولا كمن أفسد حجه فقضاه، فلما أجمعوا على أنه لا يقال لمن حج بعد أعوام من وقت استطاعته: أنت قاض لما وجب عليك؛ علمنا أن وقت الحج موسع فيه وأنه على التراخي لا على الفور. قال أبو عمر: كل من قال بالتراخي لا يحد في ذلك حدا؛ إلا ما روي عن سحنون وقد سئل عن الرجل يجد ما يحج به فيؤخر ذلك إلى سنين كثيرة مع قدرته على ذلك هل يفسق بتأخيره الحج وترد شهادته؟ قال: لا وإن مضى من عمره ستون سنة، فإذا زاد على الستين فُسّق وردّت شهادته. وهذا توقيف وحد، والحدود في الشرع لا تؤخذ إلا عمن له أن يشرع.

قلت: وحكاه ابن خويز منداد عن ابن القاسم. قال ابن القاسم وغيره: إن أخره ستين سنة لم يُحَرَّج، وإن أخره بعد الستين حُرِّج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وقل من يتجاوزها ) فكأنه في هذا العشر قد يتضايق عليه الخطاب. قال أبو عمر: وقد احتج بعض الناس كسحنون بقوله صلى الله عليه وسلم: ( معترك أمتي بين الستين إلى السبعين وقل من يجاوز ذلك ) . ولا حجة فيه؛ لأنه كلام خرج على الأغلب من أعمار أمته لو صح الحديث. وفيه دليل على التوسعة إلى السبعين لأنه من الأغلب أيضا، ولا ينبغي أن يقطع بتفسيق من صحت عدالته وأمانته بمثل هذا من التأويل الضعيف. وبالله التوفيق.

 

أجمع العلماء على أن الخطاب بقوله تعالى: « ولله على الناس حج البيت » عام في جميعهم مسترسل على جملتهم. قال ابن العربي: « وإن كان الناس قد اختلفوا في مطلق العمومات بيد أنهم اتفقوا على حمل هذه الآية على جميع الناس ذكرهم وأنثاهم، خلا الصغير فإنه خارج بالإجماع عن أصول التكليف، وكذلك العبد لم يدخل فيه؛ لأنه أخرجه عن مطلق العموم قوله تعالى في التمام: » من استطاع إليه سبيلا « والعبد غير مستطيع؛ لأن السيد يمنعه لحقوقه عن هذه العبادة. وقد قدم الله سبحانه حق السيد على حقه رفقا بالعباد ومصلحة لهم. ولا خلاف فيه بين الأمة ولا بين الأئمة، فلا نَهْرِف بما لا نعرف، ولا دليل عليه إلا الإجماع. قال ابن المنذر: أجمع عامة أهل العلم إلا من شذ منهم ممن لا يعد خلافا، على أن الصبي إذا حج في حال صغره، والعبد إذا حج في حال رقه، ثم بلغ الصبي وعتق العبد إن عليهما حجة الإسلام إذا وجدا إليها سبيلا. وقال أبو عمر: خالف داود جماعة فقهاء الأمصار وأئمة الأثر في المملوك وأنه عنده مخاطب بالحج، وهو عند جمهور العلماء خارج من الخطاب العام في قوله تعالى: » ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا « بدليل عدم التصرف، وأنه ليس له أن يحج بغير إذن سيده؛ كما خرج من خطاب الجمعة وهو قوله تعالى: » يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة « [ الجمعة: 9 ] الآية - عند عامة العلماء إلا من شذ. وكما خرج من خطاب إيجاب الشهادة، قال الله تعالى: » ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا « [ البقرة: 282 ] فلم يدخل في ذلك العبد. وكما جاز خروج الصبي من قوله: « ولله على الناس حج البيت » وهو من الناس بدليل رفع القلم عنه. وخرجت المرأة من قوله: » يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة « وهي ممن شمله اسم الإيمان، وكذلك خروج العبد من الخطاب المذكور. وهو قول فقهاء الحجاز والعراق والشام والمغرب، ومثلهم لا يجوز عليهم تحريف تأويل الكتاب. فإن قيل: إذا كان حاضر المسجد الحرام وأذن له سيده فلم لا يلزمه الحج؟ قيل له: هذا سؤال على الإجماع وربما لا يعلل ذلك، ولكن إذا ثبت هذا الحكم على الإجماع استدللنا به على أنه لا يعتد بحجه في حال الرق عن حجة الإسلام؛ وقد روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أيما صبي حج ثم أدرك فعليه أن يحج حجة أخرى وأيما أعرابي حج ثم هاجر فعليه أن يحج حجة أخرى وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه أن يحج حجة أخرى ) . قال ابن العربي. » وقد تساهل بعض علمائنا فقال: إنما لم يثبت الحج على العبد وإن أذن له السيد لأنه كان كافرا في الأصل ولم يكن حج الكافر معتدا به، فلما ضرب عليه الرق ضربا مؤبدا لم يخاطب بالحج؛ وهذا فاسد من ثلاثة أوجه فاعلموه: أحدها: أن الكفار عندنا مخاطبون بفروع الشريعة، ولا خلاف فيه في قول مالك. الثاني: أن سائر العبادات تلزمه من صلاة وصوم مع كونه رقيقا، ولو فعلها في حال كفره لم يعتد بها، فوجب أن يكون الحج مثلها. الثالث: أن الكفر قد ارتفع بالإسلام فوجب ارتفاع حكمه. فتبين أن المعتمد ما ذكرناه من تقدم حقوق السيد ) . والله الموفق.

 

قوله تعالى: « من استطاع إليه سبيلا » « من » في موضع خفض على بدل البعض من الكل؛ هذا قول أكثر النحويين. وأجاز الكسائي أن يكون « من » في موضع رفع بحج، التقدير أن يحج البيت من. وقيل هي شرط. و « استطاع » في موضع جزم، والجواب محذوف، أي من استطاع إليه سبيلا فعليه الحج. روى الدارقطني عن ابن عباس قال: قيل يا رسول الله الحج كل عام؟ قال: ( لا بل حجة ) ؟ قيل: فما السبيل، قال: ( الزاد والراحلة ) . ورواه عن أنس وابن مسعود وابن عمر وجابر وعائشة وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ) قال فسئل عن ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن تجد ظهر بعير ) . وأخرج حديث ابن عمر أيضا ابن ماجة في سننه، وأبو عيسى الترمذي في جامعه وقال: « حديث حسن، والعمل عليه عند أهل العلم أن الرجل إذا ملك زادا وراحلة وجب عليه الحج. وإبراهيم بن يزيد هو الخوزي المكي، وقد تكلم فيه بعض أهل الحديث من قل حفظه » . وأخرجاه عن وكيع والدارقطني عن سفيان بن سعيد قالوا: حدثنا إبراهيم بن يزيد عن محمد بن عباد عن ابن عمر قال: قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما يوجب الحج؟. قال: ( الزاد والراحلة ) قال: يا رسول الله، فما الحاج؟ قال: ( الشعث التفل ) . وقام آخر فقال يا رسول الله وما الحج؟ قال: ( العج والثج ) . قال وكيع: يعني بالعج العجيج بالتلبية والثج نحر البُدن؛ لفظ ابن ماجة. وممن قال إن الزاد والراحلة شرط في وجوب الحج: عمر ابن الخطاب وابنه عبدالله وعبدالله بن عباس والحسن البصري وسعيد بن جبير وعطاء ومجاهد. وإليه ذهب الشافعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد وإسحاق وعبدالعزيز بن أبي سلمة وابن حبيب، وذكر عبدوس مثله عن سحنون. قال الشافعي: الاستطاعة وجهان: أحدهما: أن يكون مستطيعا ببدنه واجدا من ماله ما يبلغه الحج. والثاني: أن يكون معضوبا في بدنه لا يثبت على مركبه وهو قادر على من يطيعه إذا أمره أن يحج عنه بأجرة وبغير أجرة، على ما يأتي بيانه. أما المستطيع ببدنه فإنه يلزمه فرض الحج بالكتاب بقوله عز وجل: « من استطاع إليه سبيلا » . وأما المستطيع بالمال فقد لزمه فرض الحج بالسنة بحديث الخثعمية على ما يأتي. وأما المستطيع بنفسه وهو القوي الذي لا تلحقه مشقة غير محتملة في الركوب على الراحلة؛ فإن هذا إذا ملك الزاد والراحلة لزمه فرض الحج بنفسه، وإن عدم الزاد والراحلة أو أحدهما سقط عنه فرض الحج؛ فإن كان قادرا على المشي مطيقا له ووجد الزاد أو قدر على كسب الزاد في طريقه بصنعة مثل الخرز والحجامة أو نحوهما فالمستحب له أن يحج ماشيا رجلا كان أو امرأة. قال الشافعي: والرجل أقل عذرا من المرأة لأنه أقوى. وهذا عندهم على طريق الاستحباب لا على طريق الإيجاب، فأما إن قدر على الزاد بمسألة الناس في الطريق كرهت له أن يحج لأنه يصير كلا على الناس. وقال مالك بن أنس رحمه الله: إذا قدر على المشي ووجد الزاد فعليه فرض الحج، وإن لم يجد الراحلة وقدر على المشي نُظر؛ فإن كان مالكا للزاد وجب عليه فرض الحج، وإن لم يكن مالكا للزاد ولكنه يقدر على كسب حاجته منه في الطريق نظر أيضا؛ فإن كان من أهل المروءات ممن لا يكتسب بنفسه لا يجب عليه، وإن كان ممن يكتسب كفايته بتجارة أو صناعة لزمه فرض الحج، وهكذا إن كانت عادته مسألة الناس لزمه فرض الحج. وكذلك أوجب مالك على المطيق المشي الحج، وإن لم يكن معه زاد وراحلة. وهو قول عبدالله بن الزبير والشعبي وعكرمة. وقال الضحاك: إن كان شابا قويا صحيحا ليس له مال فعليه أن يؤجر نفسه بأكله أو عقبه حتى يقضي حجه. فقال له مقاتل: كلف الله الناس أن يمشوا إلى البيت؟ فقال: لو أن لأحدهم ميراثا بمكة أكان تاركه؟ بل ينطلق إليه ولو حبوا، كذلك يجب عليه الحج. واحتج هؤلاء بقوله عز وجل: « وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا » أي مشاة. قالوا: ولأن الحج من عبادات الأبدان من فرائض الأعيان، فوجب ألا يكون الزاد من شروط وجوبها ولا الراحلة كالصلاة والصيام. قالوا: ولو صح حديث الخوزي الزاد والراحلة لحملناه على عموم الناس والغالب منهم في الأقطار البعيدة. وخروج مطلق الكلام على غالب الأحوال كثير في الشريعة وفي كلام العرب وأشعارها. وقد روى ابن وهب وابن القاسم وأشهب عن مالك أنه سئل عن هذه الآية فقال: الناس في ذلك على قدر طاقتهم ويسرهم وجلدهم. قال أشهب لمالك: أهو الزاد والراحلة؟. قال: لا والله، ما ذاك إلا على قدر طاقة الناس، وقد يجد الزاد والراحلة ولا يقدر على السير، وآخر يقدر أن يمشي على رجليه.

 

إذا وُجدت الاستطاعة وتوجه فرض الحج يعرض ما يمنع منه كالغريم يمنعه عن الخروج حتى يؤدي الدين؛ ولا خلاف في ذلك. أو يكون له عيال يجب عليه نفقتهم فلا يلزمه الحج حتى يكون لهم نفقتهم مدة غيبته لذهابه ورجوعه، لأن هذا الإنفاق فرض على الفور، والحج فرض على التراخي، فكان تقديم العيال أولى. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت ) . وكذلك الأبوان يخاف الضيعة عليهما وعدم العوض في التلطف بهما، فلا سبيل له إلى الحج؛ فإن منعاه لأجل الشوق والوحشة فلا يلتفت إليه. والمرأة يمنعها زوجها، وقيل لا يمنعها. والصحيح المنع؛ لا سيما إذا قلنا إن الحج لا يلزمه على الفور. والبحر لا يمنع الوجوب إذا كان غالبه السلامة - كما تقدم بيانه في البقرة - ويعلم من نفسه أنه لا يميد. فإن كان الغالب عليه العطب أو الميد حتى يعطل الصلاة فلا. وإن كان لا يجد موضعا لسجوده لكثرة الراكب وضيق المكان فقد قال مالك: إذا لم يستطع الركوع والسجود إلا على ظهر أخيه فلا يركبه. ثم قال: أيركب حيث لا يصلي ويل لمن ترك الصلاة ويسقط الحج إذا كان في الطريق عدو يطلب الأنفس أو يطلب من الأموال ما لم يتحدد بحد مخصوص أو يتحدد بقدر مجحف. وفي سقوطه بغير المجحف خلاف. وقال الشافعي: لا يعطى حبة ويسقط فرض الحج. ويجب على المتسول إذا كانت تلك عادته وغلب على ظنه أنه يجد من يعطيه. وقيل لا يجب، على ما تقدم من مراعاة الاستطاعة.

 

إذا زالت الموانع ولم يكن عنده من النّاضّ ما يحج به وعنده عروض فيلزمه أن يبيع من عروضه للحج ما يباع عليه في الدَّيْن. وسئل ابن القاسم عن الرجل تكون له القِرْبة ليس له غيرها، أيبيعها في حجة الإسلام ويترك ولده ولا شيء لهم يعيشون به؟. قال: نعم، ذلك عليه ويترك ولده في الصدقة. والصحيح القول الأول؛ لقوله عليه السلام: ( كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت ) وهو قول الشافعي. والظاهر من مذهبه أنه لا يلزم الحج إلا من له ما يكفيه من النفقة ذاهبا وراجعا - قاله في الإملاء - وإن لم يكن له أهل وعيال. وقال بعضهم: لا يعتبر الرجوع لأنه ليس عليه كبير مشقة في تركه القيام ببلده؛ لأنه لا أهل له فيه ولا عيال وكل البلاد له وطن. والأول أصوب؛ لأن الإنسان يستوحش لفراق وطنه كما يستوحش لفراق سكنه. ألا ترى أن البكر إذا زنا جلد وغرب عن بلده سواء كان له أهل أو لم يكن. قال الشافعي في الأم: إذا كان له مسكن وخادم وله نفقة أهله بقدر غيبته يلزمه الحج. وظاهر هذا أنه اعتبر أن يكون مال الحج فاضلا عن الخادم والمسكن؛ لأنه قدمه على نفقة أهله، فكأنه قال بعد هذا كله. وقال أصحابه: يلزمه أن يبيع المسكن والخادم ويكتري مسكنا وخادما لأهله، فإن كان له بضاعة يتجر بها وربحها قدر كفايته وكفاية عياله على الدوام، ومتى أنفق من أصل البضاعة اختل عليه ربحها ولم يكن فيه قدر كفايته، فهل يلزمه الحج من أصل البضاعة أم لا؟ قولان: الأول للجمهور وهو الصحيح المشهور؛ لأنه لا خلاف في أنه لو كان له عقار تكفيه غلته لزمه أن يبيع أصل العقار في الحج، فكذلك البضاعة. وقال ابن شريح: لا يلزمه ذلك ويبقي البضاعة ولا يحج من أصلها؛ لأن الحج إنما يجب عليه في الفاضل من كفايته. فهذا الكلام في الاستطاعة بالبدن والمال.

 

المريض والمعضوب، والعضب القطع، ومنه سمي السيف عضبا، وكأن من انتهى إلى ألا يقدر أن يستمسك على الراحلة ولا يثبت عليها بمنزلة من قطعت أعضاؤه؛ إذ لا يقدر على شيء. وقد اختلف العلماء في حكمهما بعد إجماعهم أنه لا يلزمهما المسير إلى الحج؛ لأن الحج إنما فرضه على المستطيع إجماعا، والمريض والمعضوب لا استطاعة لهما. فقال مالك: إذا كان معضوبا سقط عنه فرض الحج أصلا، سواء كان قادرا على من يحج عنه بالمال أو بغير المال لا يلزمه فرض الحج. ولو وجب عليه الحج ثم عضب وزَمِن سقط عنه فرض الحج؛ ولا يجوز أن يحج عنه في حال حياته بحال، بل إن أوصى أن يحج عنه بعد موته حج عنه من الثلث، وكان تطوعا؛ واحتج بقوله تعالى: « وأن ليس للإنسان إلا ما سعى » [ النجم: 39 ] فأخبر أنه ليس له إلا ما سعى. فمن قال: إنه له سعي غيره فقد خالف ظاهر الآية. وبقوله تعالى: « ولله على الناس حج البيت » وهذا غير مستطيع؛ لأن الحج هو قصد المكلف البيت بنفسه ولأنها عبادة لا تدخلها النيابة مع العجز عنها كالصلاة. وروى محمد بن المنكدر عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله عز وجل ليدخل بالحجة الواحدة ثلاثة الجنة الميت والحاج عنه والمنفذ ذلك ) . خرجه الطبراني أبو القاسم سليمان بن أحمد قال حدثنا عمرو بن حصين السدوسي قال حدثنا أبو معشر عن محمد بن المنكدر؛ فذكره.

قلت: أبو معشر اسمه نجيح وهو ضعيف عندهم. وقال الشافعي: في المريض الزَّمِن والمعضوب والشيخ الكبير يكون قادرا على من يطيعه إذا أمره بالحج عنه فهو مستطيع استطاعة ما. وهو على وجهين: أحدهما أن يكون قادرا على مال يستأجر به من يحج عنه فإنه يلزمه فرض الحج؛ وهذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه، روي عنه أنه قال لشيخ كبير لم يحج: جهز رجلا يحج عنك. وإلى هذا ذهب الثوري وأبو حنيفة وأصحابه وابن المبارك وأحمد وإسحاق. والثاني أن يكون قادرا على من يبذل له الطاعة والنيابة فيحج عنه؛ فهذا أيضا يلزمه الحج عنه عند الشافعي وأحمد وابن راهويه، وقال أبو حنيفة: لا يلزم الحج ببذل الطاعة بحال. استدل الشافعي بما رواه ابن عباس أن امرأة من خثعم سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: ( نعم ) . وذلك في حجة الوداع. في رواية: لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فحجي عنه أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته ) ؟ قالت: نعم. قال: ( فدين الله أحق أن يقضى ) . فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم الحج بطاعة ابنته إياه وبذلها من نفسها له بأن تحج عنه؛ فإذا وجب ذلك بطاعة البنت له كان بأن يجب عليه بقدرته عل المال الذي يستأجر به أولى. فأما أن بذل له المال دون الطاعة فالصحيح أنه لا يلزمه قبوله والحج به عن نفسه ولا يصير ببذل المال له مستطيعا. وقال علماؤنا: حديث الخثعمية ليس مقصوده الإيجاب وإنما مقصوده الحث على بر الوالدين والنظر في مصالحهما دنيا ودينا وجلب المنفعة إليهما جبلة وشرعا؛ فلما رأى من المرأة انفعالا وطواعية ظاهرة ورغبة صادقة في برها بأبيها وحرصا على إيصال الخير والثواب إليه، وتأسفت أن تفوته بركة الحج أجابها إلى ذلك. كما قال للأخرى التي قالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: ( حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته ) ؟ قالت: نعم. ففي هذا ما يدل على أنه من باب التطوعات وإيصال البر والخيرات للأموات؛ ألا ترى أنه قد شبه فعل الحج بالدين. وبالإجماع لو مات ميت وعليه دين لم يجب على وليه قضاؤه من ماله، فإن تطوع بذلك تأدى الدين عنه. ومن الدليل على أن الحج في هذا الحديث ليس بفرض على أبيها ما صرحت به هذه المرأة بقولها « لا يستطيع » ومن لا يستطيع لا يجب عليه. وهذا تصريح بنفي الوجوب ومنع الفريضة، فلا يجوز ما انتفى في أول الحديث قطعا أن يثبت في آخره ظنا؛ يحققه قوله: ( فدين الله أحق أن يقضى ) فإنه ليس على ظاهره إجماعا؛ فإن دين العبد أولى بالقضاء، وبه يبدأ إجماعا لفقر الآدمي واستغناء الله تعالى؛ قاله ابن العربي. وذكر أبو عمر بن عبدالبر أن حديث الخثعمية عند مالك وأصحابه مخصوص بها. وقال آخرون: فيه اضطراب. وقال ابن وهب وأبو مصعب: هو في حق الولد خاصة. وقال ابن حبيب: جاءت الرخصة في الحج عن الكبير الذي لا منهض له ولم يحج وعمن مات ولم يحج، أن يحج عنه ولده وإن لم يوص به ويجزئه إن شاء الله تعالى. فهذا الكلام على المعضوب وشبهه. وحديث الخثعمية أخرجه الأئمة، وهو يرد على الحسن قوله: إنه لا يجوز حج المرأة عن الرجل.

 

وأجمع العلماء على أنه إذا لم يكن للمكلف قوت يتزوده في الطريق لم يلزمه الحج. وإن وهب له أجنبي مالا يحج به لم يلزمه قبوله إجماعا؛ لما يلحقه من المنة في ذلك. فلو كان رجل وهب لأبيه مالا فقد قال الشافعي: يلزمه قبوله؛ لأن ابن الرجل من كسبه ولا منة عليه في ذلك. وقال مالك وأبو حنيفة: لا يلزمه قبوله؛ لأن فيه سقوط حرمة الأبوة؛ إذ يقال: قد جزاه وقد وفاه. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « ومن كفر فإن الله غني عن العالمين » قال ابن عباس وغيره: المعنى ومن كفر بفرض الحج ولم يره واجبا. وقال الحسن البصري وغيره: إن من ترك الحج وهو قادر عليه فهو كافر. وروى الترمذي عن الحارث عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا وذلك أن الله يقول في كتابه ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ) . قال أبو عيسى: ( هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وفي إسناده مقال، وهلال بن عبدالله مجهول، والحارث يضعف ) . وروي نحوه عن أبي أمامة وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما. وعن عبد خير بن يزيد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: ( يا أيها الناس إن الله فرض عليكم الحج على من استطاع إليه سبيلا ومن لم يفعل فليمت على أي حال شاء إن شاء يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا إلا أن يكون به عذر من مرض أو سلطان جائر ألا نصيب له في شفاعتي ولا ورود حوضي ) . وقال ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من كان عنده مال يبلغه الحج فلم يحج أو عنده مال تحل فيه الزكاة فلم يزكه سأل عند الموت الرجعة ) . فقيل يا ابن عباس إنا كنا نرى هذا للكافرين. فقال: أنا أقرأ عليكم به قرآنا: « يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون. وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين » [ المنافقون: 9 - 10 ] . قال الحسن بن صالح في تفسيره: فأزكى وأحج. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا سأله عن الآية فقال: ( من حج لا يرجو ثوابا أو جلس لا يخاف عقابا فقد كفر به ) . وروى قتادة عن الحسن قال: قال عمر رضي الله عنه: لقد هممت أن أبعث رجالا إلى الأمصار فينظرون إلى من كان له مال ولم يحج فيضربون عليه الجزية؛ فذلك قوله تعالى: « ومن كفر فإن الله غني عن العالمين » .

قلت: هذا خرج مخرج التغليظ؛ ولهذا قال علماؤنا: تضمنت الآية أن من مات ولم يحج وهو قادر فالوعيد يتوجه عليه، ولا يجزئ أن يحج عنه غيره؛ لأن حج الغير لو أسقط عنه الفرض لسقط عنه الوعيد. والله أعلم. وقال سعيد بن جبير: لو مات جار لي وله ميسرة ولم يحج لم أصلّ عليه.

 

الآيتان: 98 - 99 ( قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون، قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون )

 

قوله تعالى: « قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله » أي تصرفون عن دين الله « من آمن » . وقرأ الحسن « تُصِدون » بضم التاء وكسر الصاد وهما لغتان: صَدّ وأصَدّ؛ مثل صل اللحم وأصَلَّ إذا أنتن، وخم وأخم أيضا إذا تغير. « تبغونها عوجا » تطلبون لها، فحذف اللام؛ مثل « وإذا كالوهم » [ المطففين: 3 ] . يقال: بغيت له كذا أي طلبته. وأبغيته كذا أي أعنته. والعوج: الميل والزيغ ( بكسر العين ) في الدِّين والقول والعمل وما خرج عن طريق الاستواء. و ( بالفتح ) في الحائط والجدار وكل شخص قائم؛ عن أبي عبيدة وغيره. ومعنى قوله تعالى: « يتبعون الداعي لا عوج له » [ طه: 108 ] أي لا يقدرون أن يعوجوا عن دعائه. وعاج بالمكان وعوج أقام ووقف. والعائج الواقف؛ قال الشاعر:

هل أنتم عائجون بنا لَعَنّا نرى العَرَصاتِ أو أثر الخيام

والرجل الأعوج: السيء الخلق، وهو بيِّن العَوَج. والعُوج من الخيل التي في أرجلها تحنيب. والأعوجية من الخيل تنسب إلى فرس كان في الجاهلية سابقا. ويقال: فرس محنب إذا كان بعيد ما بين الرجلين بغير فَحَج، وهو مدح. ويقال: الحَنَب اعوجاج في الساقين. قال الخليل التحنيب يوصف في الشدة، وليس ذلك باعوجاج.

 

قوله تعالى: « وأنتم شهداء » أي عقلاء. وقيل: شهداء أن في التوراة مكتوبا أن دين الله الذي لا يقبل غيره الإسلام، إذ فيه نعت محمد صلى الله عليه وسلم.

 

الآية: 100 ( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين )

 

نزلت في يهودي أراد تجديد الفتنة بين الأوس والخزرج بعد انقطاعها بالنبي صلى الله عليه وسلم، فجلس بينهم وأنشدهم شعرا قاله أحد الحَيَّين في حربهم. فقال الحي الآخر: قد قال شاعرنا في يوم كذا وكذا، فكأنهم دخلهم من ذلك شيء، فقالوا: تعالوا نرد الحرب جذعاء كما كانت. فنادى هؤلاء: يا آل أوس. ونادى هؤلاء. يا آل خزرج؛ فاجتمعوا وأخذوا السلاح واصطفوا للقتال فنزلت هذه الآية؛ فجاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى وقف بين الصفين فقرأها ورفع صوته، فلما سمعوا صوته أنصتوا له وجعلوا يستمعون، فلما فرغ ألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضا وجعلوا يبكون؛ عن عكرمة وابن زيد وابن عباس. والذي فعل ذلك شاس بن قيس اليهودي، دس على الأوس والخزرج من يذكرهم ما كان بينهم من الحروب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم وذكرهم، فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان، وكيد من عدوهم؛ فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا وعانق بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع النبي صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين؛ فأنزل الله عز وجل: « يا أيها الذين آمنوا » يعني الأوس والخزرج. « إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب » يعني شاسا وأصحابه « يردوكم بعد إيمانكم كافرين » قال جابر بن عبدالله: ما كان طالع أكره إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ إلينا بيده فكففنا وأصلح الله تعالى ما بيننا؛ فما كان شخص أحب إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رأيت يوما أقبح ولا أوحش أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم.

 

الآية: 101 ( وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم )

 

قاله تعالى على جهة التعجب، أي « وكيف تكفرون وأنت تتلى عليكم آيات الله » يعني القرآن. « وفيكم رسوله » محمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس: كان بين الأوس والخزرج قتال وشر في الجاهلية، فذكروا ما كان بينهم فثار بعضهم على بعض بالسيوف؛ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فذهب إليهم؛ فنزلت هذه الآية « وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله - إلى قوله تعالى: فأنقذكم منها » ويدخل في هذه الآية من لم ير النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن ما فيهم من سنته يقوم مقام رؤيته. قال الزجاج: يجوز أن يكون هذا الخطاب لأصحاب محمد خاصة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيهم وهم يشاهدونه. ويجوز أن يكون هذا الخطاب لجميع الأمة؛ لأن آثاره وعلاماته والقرآن الذي أوتى فينا مكان النبي صلى الله عليه وسلم فينا وإن لم نشاهده. وقال قتادة: في هذه الآية علمان بينان: كتاب الله ونبي الله؛ فأما نبي الله فقد مضى، وأما كتاب الله فقد أبقاه بين أظهرهم رحمة منه ونعمة؛ فيه حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته. « وكيف » في موضع نصب، وفتحت الفاء عند الخليل وسيبويه لالتقاء الساكنين، واختير لها الفتح لأن ما قبل الفاء ياء فثقل أن يجمعوا بين ياء وكسرة. قوله تعالى: « ومن يعتصم بالله » أي يمتنع ويتمسك بدينه وطاعته. « فقد هدي » وفق وأرشد « إلى صراط مستقيم » ابن جريج « يعتصم بالله » يؤمن به. وقيل: المعنى ومن يعتصم بالله أي يتمسك بحبل الله، وهو القرآن. يقال: أعصم به واعتصم، وتمسك واستمسك إذا امتنع به من غيره. واعتصمت فلانا هيأت له ما يعتصم به. وكل متمسك بشيء معصم ومعتصم. وكل مانع شيئا فهو عاصم؛ قال الفرزدق:

أنا ابن العاصمين بني تميم إذا ما أعظم الحدثان نابا

قال النابغة:

يظل من خوفه الملاح معتصما بالخيزرانة بعد الأيْن والنَّجَد

وقال آخر:

فأشرط فيها نفسه وهو معصم وألقى بأسباب له وتوكلا

وعصمه الطعام: منع الجوع منه؛ تقول العرب: عصم فلانا الطعام أي منعه من الجوع؛ فكنوا السويق بأبي عاصم لذلك. قال أحمد بن يحيى: العرب تسمي الخبز عاصما وجابرا؛ وأنشد:

فلا تلوميني ولومي جابرا فجابر كلفني الهواجرا

ويسمونه عامرا. وأنشد:

أبو مالك يعتادني بالظهائر يجيء فيلقى رحله عند عامر

أبو مالك كنية الجوع.

 

الآية: 102 ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون )

 

روى البخاري عن مرة عن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( حق تقاته أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر. وقال ابن عباس: هو ألا يُعصى طرفة عين. وذكر المفسرون أنه لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله، من يقوى على هذا؟ وشق عليهم فأنزل الله عز وجل: « فاتقوا الله ما استطعتم » [ التغابن: 16 ] فنسخت هذه الآية؛ عن قتادة والربيع وابن زيد. قال مقاتل: وليس في آل عمران من المنسوخ شيء إلا هذه الآية. وقيل: إن قوله « فاتقوا الله ما استطعتم » بيان لهذه الآية. والمعنى: فاتقوا الله حق تقاته ما استطعتم، وهذا أصوب؛ لأن النسخ إنما يكون عند الجمع والجمع ممكن فهو أولى. وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: قول الله عز وجل « يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته » لم تنسخ، ولكن « حق تقاته » أن يجاهد في سبيل الله حق جهاده، ولا تأخذكم في الله لومة لائم، وتقوموا بالقسط ولو على أنفسكم وأبنائكم. قال النحاس: وكلما ذكر في الآية واجب على المسلمين أن يستعملوه ولا يقع فيه نسخ. وقد مضى في البقرة معنى قوله تعالى: « ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون » .

 

الآية: 103 ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون )

 

قوله تعالى: « واعتصموا » العصمة المَنْعَة؛ ومنه يقال للبذرقة: عصمة. والبذرقة: الخفارة للقافلة، وذلك بأن يرسل معها من يحميها ممن يؤذيها. قال ابن خالويه: البذرقة ليست بعربية وإنما هي كلمة فارسية عربتها العرب؛ يقال: بعث السلطان بذرقة مع القافلة. والحبل لفظ مشترك، وأصله في اللغة السبب الذي يوصل به إلى البغية والحاجة. والحبل: حبل العاتق. والحبل: مستطيل من الرمل؛ ومنه الحديث: والله ما تركت من حبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؛ والحبل الرسن. والحبل العهد؛ قال الأعشى:

وإذا تُجوزها حبال قبيلة أخذت من الأخرى إليك حبالها يريد الأمان. والحبل الداهية؛ قال كثير:

فلا تعجلي يا عز أن تتفهمي بنصح أتى الواشون أم بحبول

والحبالة: حبالة الصائد. وكلها ليس مرادا في الآية إلا الذي بمعنى العهد؛ عن ابن عباس. وقال ابن مسعود: حبل الله القرآن. ورواه علي وأبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن مجاهد وقتادة مثل ذلك. وأبو معاوية عن الهجري عن أبي الأحوص عن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن هذا القرآن هو حبل الله ) . وروى تقي بن مخلد حدثنا يحيى بن الحميد حدثنا هشيم عن العوام بن حوشب عن الشعبي عن عبدالله بن مسعود « واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا » قال: الجماعة؛ روي عنه وعن غيره من وجوه، والمعنى كله متقارب متداخل؛ فإن الله تعالى يأمر بالألفة وينهى عن الفرقة فإن الفرقة هلكة والجماعة نجاة. ورحم الله ابن المبارك حيث قال:

إن الجماعة حبل الله فاعتصموا منه بعروته الوثقى لمن دانا

 

قوله تعالى: « ولا تفرقوا » يعني في دينكم كما افترقت اليهود والنصارى في أديانهم؛ عن ابن مسعود وغيره. ويجوز أن يكون معناه ولا تفرقوا متابعين للهوى والأغراض المختلفة، وكونوا في دين الله إخوانا؛ فيكون ذلك منعا لهم عن التقاطع والتدابر؛ ودل عليه ما بعده وهو قوله تعالى: « واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا » . وليس فيه دليل على تحريم الاختلاف في الفروع؛ فإن ذلك ليس اختلافا إذ الاختلاف ما يتعذر معه الائتلاف والجمع، وأما حكم مسائل الاجتهاد فإن الاختلاف فيها بسبب استخراج الفرائض ودقائق معاني الشرع؛ وما زالت الصحابة يختلفون في أحكام الحوادث، وهم مع ذلك متآلفون. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اختلاف أمتي رحمة ) وإنما منع الله اختلافا هو سبب الفساد. روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ) . قال الترمذي: هذا حديث صحيح. وأخرجه أيضا عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه سلم: ( ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حَذْوَ النعل بالنعل حتى لو كان منهم من يأتي أمه علانية لكان من أمتي من يصنع ذلك وإن بني إسرائيل تفرقت اثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة ) قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ( ما أنا عليه وأصحابي ) . أخرجه من حديث عبدالله بن زياد الإفريقي، عن عبدالله بن يزيد عن ابن عمر، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. قال أبو عمر: وعبدالله الإفريقي ثقة وثقه قومه وأثنوا عليه، وضعفه آخرون. وأخرجه أبو داود في سننه من حديث معاوية بن أبي سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( قال ألا إن مَن قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة وإنه سيخرج من أمتي أفواج تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله ) . وفي سنن ابن ماجة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده وعبادته لا شريك له وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة مات والله عنه راض ) . قال أنس: وهو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم قبل هَرَج الأحاديث واختلاف الأهواء، وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما نزل، يقول الله: « فإن تابوا » [ التوبة: 11 ] قال: خلعوا الأوثان وعبادتها « وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة » ، وقال في آية أخرى: « فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين » . أخرجه عن نصر بن علي الجهضمي عن أبي أحمد عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أنس. قال أبو الفرج الجوزي: فإن قيل هذه الفرق معروفة؛ فالجواب أنا نعرف الافتراق وأصول الفِرق وأن كل طائفة من الفرق انقسمت إلى فرق، وإن لم نحط بأسماء تلك الفرق ومذاهبها، فقد ظهر لنا من أصول الفرق الحرورية والقَدَرِية والجهمية والمرجئة والرافضة والجبرية. وقال بعض أهل العلم: أصل الفرق الضالة هذه الفرق الست، وقد انقسمت كل فرقة منها اثنتي عشرة فرقة، فصارت اثنتين وسبعين فرقة.

انقسمت الحرورية اثنتي عشرة فرقة؛ فأولهم الأزرقية - قالوا: لا نعلم أحدا مؤمنا؛ وكفّروا أهل القبلة إلا من دان بقولهم. والأباضية - قالوا: من أخذ بقولنا فهو مؤمن، ومن أعرض عنه فهو منافق. والثعلبية - قالوا: إن الله عز وجل لم يقض ولم يُقَدِّر. والخازمية - قالوا: لا ندري ما الإيمان، والخلق كلهم معذورون. والخَلَفية - زعموا أن من ترك الجهاد من ذكر أو أنثى كفر. والكوزية - قالوا: ليس لأحد أن يمس أحدا لأنه لا يعرف الطاهر من النجس ولا أن يؤاكله حتى يتوب ويغتسل. والكنزية - قالوا: لا يسع أحدا أن يعطي ماله أحدا؛ لأنه ربما لم يكن مستحقا بل يكنزه في الأرض حتى يظهر أهل الحق. والشمراخية - قالوا: لا بأس بمس النساء الأجانب لأنهن رياحين. والأخنسية - قالوا: لا يلحق الميت بعد موته خير ولا شر. والحكمية - قالوا: مَن حاكم إلى مخلوق فهو كافر. والمعتزلة - قالوا: اشتبه علينا أمر علي ومعاوية فنحن نتبرأ من الفريقين. والميمونية - قالوا: لا إمام إلا برضا أهل محبتنا.

وانقسمت القَدَرية اثنتي عشرة فرقة: الأحمرية - وهي التي زعمت أن في شرط العدل من الله أن يملك عباده أمورهم، ويحول بينهم وبين معاصيهم. والثنوية - وهي التي زعمت أن الخير من الله والشر من الشيطان. والمعتزلة - وهم الذين قالوا بخلق القرآن وجحدوا صفات الربوبية. والكَيْسانية وهم الذين قالوا: لا ندري هذه الأفعال من الله أو من العباد، ولا نعلم أيثاب الناس بُعد أو يعاقبون. والشيطانية - قالوا: إن الله تعالى لم يخلق الشيطان. والشريكية - قالوا: إن السيئات كلها مقدرة إلا الكفر. والوهمية - قالوا: ليس لأفعال الخلق وكلامهم ذات، ولا للحسنة والسيئة ذات. والزِّبْرية - قالوا: كل كتاب نزل من عند الله فالعمل به حق، ناسخا كان أو منسوخا. والمسعدية - زعموا أن من عصى ثم تاب لم تقبل توبته والناكثية - زعموا أن من نكث بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا إثم عليه. والقاسطية - تبعوا إبراهيم بن النظام في قوله: من زعم أن الله شيء فهو كافر. وانقسمت الجهمية اثنتي عشرة فرقة: المعطلة - زعموا أن كل ما يقع عليه وهم الإنسان فهو مخلوق. وإن من ادعى أن الله يُرى فهو كافر. والمريسية قالوا: أكثر صفات الله تعالى مخلوقة. والمَلْتزقة - جعلوا الباري سبحانه في كل مكان. والواردية - قالوا لا يدخل النار من عرف ربه، ومن دخلها لم يخرج منها أبدا. والزنادقة - قالوا: ليس لأحد أن يثبت لنفسه ربا؛ لأن الإثبات لا يكون إلا بعد إدراك الحواس. وما لا يدرك لا يثبت. والحرقية - زعموا أن الكافر تحرقه النار مرة واحدة ثم يبقى محترقا أبدا لا يجد حر النار. والمخلوقية - زعموا أن القرآن مخلوق. والفانية - زعموا أن الجنة والنار يفنيان، ومنهم من قال لم يخلقا. والعبدية - جحدوا الرسل وقالوا إنما هم حكماء. والواقفية - قالوا: لا نقول إن القرآن مخلوق ولا غير مخلوق. والقبرية - ينكرون عذاب القبر والشفاعة. واللفْظِية - قالوا لفظنا بالقرآن مخلوق.

وانقسمت المرجئة اثنتي عشرة فرقة: التاركية - قالوا ليس لله عز وجل على خلقه فريضة سوى الإيمان به، فمن آمن به فليفعل ما شاء. والسائبية - قالوا: إن الله تعالى سيب خلقه ليفعلوا ما شاؤوا. والراجية - قالوا: لا يسمى الطائع طائعا ولا العاصي عاصيا، لأنا لا ندري ما له عند الله تعالى. والسالبية - قالوا: الطاعة ليست من الإيمان. والبهيشية - قالوا: الإيمان علم ومن لا يعلم الحق من الباطل والحلال من الحرام فهو كافر. والعملية - قالوا: الإيمان عمل. والمنقوصية - قالوا: الإيمان لا يزيد ولا ينقص. والمستثنية - قالوا: الاستثناء من الإيمان. والمشبهة - قالوا: بصر كبصر ويد كيد. والحشوية - قالوا: حكم الأحاديث كلها واحد؛ فعندهم أن تارك النفل كتارك الفرض. والظاهرية - الذين نفوا القياس. والبِدعية - أول من ابتدع هذه الأحداث في هذه الأمة.

وانقسمت الرافضة اثنتي عشرة فرقة: العلوية - قالوا: إن الرسالة كانت إلى علي وأن جبريل أخطأ. والأمِرِية - قالوا: إن عليا شريك محمد في أمره. والشيعة - قالوا: إن عليا رضي الله عنه وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم ووليه من بعده، وإن الأمة كفرت بمبايعة غيره. والإسحاقية - قالوا: إن النبوة متصلة إلى يوم القيامة، وكل من يعلم علم أهل البيت فهو نبي. والناووسية - قالوا: علي أفضل الأمة، فمن فضل غيره عليه فقد كفر. والإمامية - قالوا: لا يمكن أن تكون الدنيا بغير إمام من ولد الحسين، وإن الإمام يعلِّمه جبريل عليه السلام، فإذا مات بدل غيره مكانه. والزيدية - قالوا: ولد الحسين كلهم أئمة في الصلوات، فمتى وجد منهم أحد لم تجز الصلاة خلف غيرهم، برهم وفاجرهم. والعباسية - زعموا أن العباس كان أولى بالخلافة من غيره. والتناسخية - قالوا: الأرواح تتناسخ؛ فمن كان محسنا خرجت روحه فدخلت في خلق يسعد بعيشه. والرجعية - زعموا أن عليا وأصحابه يرجعون إلى الدنيا، وينتقمون من أعدائهم. واللاعنة - يلعنون عثمان وطلحة والزبير ومعاوية وأبا موسى وعائشة وغيرهم. والمتربصة - تشبهوا بزي النُّساك ونصبوا في كل عصر رجلا ينسبون إليه الأمر، يزعمون أنه مهدي هذه الأمة، فإذا مات نصبوا آخر.

ثم انقسمت الجبرية اثنتي عشرة فرقة: فمنهم المضطرية - قالوا: لا فعل للآدمي، بل الله يفعل الكل. والأفعالية - قالوا: لنا أفعال ولكن لا استطاعة لنا فيها، وإنما نحن كالبهائم نقاد بالحبل. والمفروغية - قالوا: كل الأشياء قد خلقت، والآن لا يخلق شيء. والنجارية - زعمت أن الله تعالى يعذب الناس على فعله لا على فعلهم. والمنانية - قالوا: عليك بما يخطر بقلبك، فافعل ما توسمت منه الخير. والكسبية - قالوا: لا يكتسب العبد ثوابا ولا عقابا. والسابقية - قالوا: من شاء فليعمل ومن شاء فلا يعمل، فإن السعيد لا تضره ذنوبه والشقي لا ينفعه بره. والحِبية - قالوا: من شرب كأس محبة الله تعالى سقطت عنه عبادة الأركان. والخوفية - قالوا: من أحب الله تعالى لم يسعه أن يخافه، لأن الحبيب لا يخاف حبيبه. والفكرية - قالوا: من ازداد علما أسقط عنه بقدر ذلك من العبادة.

والخشبية - قالوا: الدنيا بين العباد سواء، لا تفاضل بينهم فيما ورثهم أبوهم آدم. والمنية - قالوا: منا الفعل ولنا الاستطاعة. وسيأتي بيان الفرقة التي زادت في هذه الأمة في آخر سورة « الأنعام » إن شاء الله تعالى. وقال ابن عباس لسماك الحنفي: يا حنفي، الجماعة الجماعة!! فإنما هلكت الأمم الخالية لتفرقها؛ أما سمعت الله عز وجل يقول: « واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا » . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ويكره لكم ثلاثا قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال ) . فأوجب تعالى علينا التمسك بكتابه وسنة نبيه والرجوع إليهما عند الاختلاف، وأمرنا بالاجتماع على الاعتصام بالكتاب والسنة اعتقادا وعملا؛ وذلك سبب اتفاق الكلمة وانتظام الشتات الذي يتم به مصالح الدنيا والدين، والسلامة من الاختلاف، وأمر بالاجتماع ونهى عن الافتراق الذي حصل لأهل الكتابين. هذا معنى الآية على التمام، وفيها دليل على صحة الإجماع حسبما هو مذكور في موضعه من أصول الفقه والله أعلم.

 

قوله تعالى: « واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها » أمر تعالى بتذكر نعمه وأعظمها الإسلام واتباع نبيه محمد عليه السلام؛ فإن به زالت العداوة والفرقة وكانت المحبة والألفة. والمراد الأوس والخزرج؛ والآية تعم. ومعنى « فأصبحتم بنعمته إخوانا » أي صرتم بنعمة الإسلام إخوانا في الدين. وكل ما في القر? نحن حفرنا للحجيج سَجْلَه نابتة فوق شفاها بَقْلَه

وأشفى على الشيء أشرف عليه؛ ومنه أشفى المريض على الموت. وما بقي منه إلا شفا أي قليل. قال ابن السكيت: يقال للرجل عند موته وللقمر عند امّحاقه وللشمس عند غروبها: ما بقي منه إلا شفا أي قليل. قال العجاج:

ومربأ عال لمن تشرفا أشرفته بلا شفًى أو بشَفَى

قوله « بلا شفى » أي غابت الشمس. « أو بشفى » وقد بقيت منها بقية. وهو من ذوات الياء، وفيه لغة أنه من الواو. وقال النحاس: الأصل في شفا شَفَو، ولهذا يكتب بالألف ولا يمال. وقال الأخفش: لما لم تجز فيه الإمالة عرف أنه من الواو؛ ولأن الإمالة بين الياء، وتثنيته شفوان. قال المهدوي: وهذا تمثيل يراد به خروجهم من الكفر إلى الإيمان.

 

الآية: 104 ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون )

 

قد مضى القول في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه السورة. و « من » في قوله « منكم » للتبعيض، ومعناه أن الآمرين يجب أن يكونوا علماء وليس كل الناس علماء. وقيل: لبيان الجنس، والمعنى لتكونوا كلكم كذلك.

قلت: القول الأول أصح؛ فإنه يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على الكفاية، وقد عينهم الله تعالى بقوله: « الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة » [ الحج: 41 ] الآية. وليس كل الناس مكنوا. وقرأ ابن الزبير: « ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون الله على ما أصابهم » قال أبو بكر الأنباري: وهذه الزيادة تفسير من ابن الزبير، وكلام من كلامه غلط فيه بعض الناقلين فألحقه بألفاظ القرآن؛ يدل على صحة ما أصف الحديث الذي حدثنيه أبي حدثنا حسن بن عرفة حدثنا وكيع عن أبي عاصم عن أبي عون عن صبيح قال: سمعت عثمان بن عفان يقرأ « ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون الله على ما أصابهم » فما يشك عاقل في أن عثمان لا يعتقد هذه الزيادة من القرآن؛ إذ لم يكتبها في مصحفه الذي هو إمام المسلمين، وإنما ذكرها واعظا بها ومؤكدا ما تقدمها من كلام رب العالمين جل وعلا.

 

الآية: 105 ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم )

 

يعني اليهود والنصارى في قول جمهور المفسرين. وقال بعضهم: هم المبتدعة من هذه الأمة. وقال أبو أمامة: هم الحرورية؛ وتلا الآية. وقال جابر بن عبدالله: « الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات » اليهود والنصارى. « جاءهم » مذكر على الجمع، وجاءتهم على الجماعة.

 

الآية: 106 - 107 ( يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون، وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون )

 

قوله تعالى: « يوم تبيض وجوه وتسود وجوه » يعني يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم تكون وجوه المؤمنين مبيضة ووجوه الكافرين مسودة. ويقال: إن ذلك عند قراءة الكتاب، إذ قرأ المؤمن كتابه فرأى في كتابه حسناته استبشر وابيض وجهه، وإذا قرأ الكافر والمنافق كتابه فرأى فيه سيئاته اسود وجهه. ويقال: إن ذلك عند الميزان إذا رجحت حسناته ابيض وجهه، وإذا رجحت سيئاته اسود وجهه. ويقال: ذلك عند قوله تعالى: « وامتازوا اليوم أيها المجرمون » [ يس: 59 ] . ويقال: إذا كان يوم القيامة يؤمر كل فريق بأن يجتمع إلى معبوده، فإذا انتهوا إليه حزنوا واسودت وجوههم، فيبقى المؤمنون وأهل الكتاب والمنافقون؛ فيقول الله تعالى للمؤمنين: « من ربكم » ؟ فيقولون: ربنا الله عز وجل فيقول لهم: « أتعرفونه إذا رأيتموه » . فيقولون: سبحانه! إذا اعترف عرفناه. فيرونه كما شاء الله. فيخر المؤمنون سجدا لله تعالى، فتصير وجوههم مثل الثلج بياضا، ويبقى المنافقون وأهل الكتاب لا يقدرون على السجود فيحزنوا وتسود وجوههم؛ وذلك قوله تعالى: « يوم تبيض وجوه وتسود وجوه » . ويجوز « تِبْيَضّ وتِسْوَدّ » بكسر التائين؛ لأنك تقول: ابيضت، فتكسر التاء كما تكسر الألف، وهي لغة تميم وبها قرأ يحيى بن وثاب. وقرأ الزهري « يوم تبياض وتسواد » ويجوز كسر التاء أيضا، ويجوز « يوم يبيض وجوه » بالياء على تذكير الجمع، ويجوز « أجوه » مثل « أقتت » . وابيضاض الوجوه إشراقها بالنعيم. واسودادها هو ما يرهقها من العذاب الأليم.

 

واختلفوا في التعيين؛ فقال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة.

قلت: وقول ابن عباس هذا رواه مالك بن سليمان الهروي أخو غسان عن مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى « يوم تبيض وجوه وتسود وجوه » قال: ( يعني تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة ) ذكره أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب. وقال فيه: منكر من حديث مالك. قال عطاء: تبيض وجوه المهاجرين والأنصار، وتسود وجوه بني قريظة والنضير. وقال أبي بن كعب: الذين اسودت وجوههم هم الكفار، وقيل لهم: أكفرتم بعد إيمانكم لإقراركم حين أخرجتم من ظهر آدم كالذر. هذا اختيار الطبري. الحسن: الآية في المنافقين. قتادة هي في المرتدين. عكرمة: هم قوم من أهل الكتاب كانوا مصدقين بأنبيائهم مصدقين بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث فلما بعث عليه السلام كفروا به؛ فذلك قوله: « أكفرتم بعد إيمانكم » وهو اختيار الزجاج. مالك بن أنس: هي في أهل الأهواء. أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم: هي في الحرورية. وفي خبر آخر أنه عليه السلام قال: ( هي في القدرية ) . روى الترمذي عن أبي غالب قال: رأى أبو أمامة رؤوسا منصوبة على باب دمشق، فقال أبو أمامة: كلاب النار شر قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه - ثم قرأ - « يوم تبيض وجوه وتسود وجوه » إلى آخر الآية. قلت لأبي أمامة: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا - حتى عد سبعا - ما حدثتكموه. قال: هذا حديث حسن. وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إني فرطكم على الحوض من مر علي شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم ) . قال أبو حازم: فسمعني النعمان بن أبي عياش فقال: أهكذا سمعت من سهل بن سعد؟ فقلت: نعم. فقال: أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها: ( فأقول إنهم مني فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقا سحقا لمن غير بعدي ) . وعن أبي هريرة أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يرد على الحوض يوم القيامة رهط من أصحابي فيُجْلَون عن الحوض فأقول يا رب أصحابي فيقول إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى ) . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. فمن بدل أو غير أو ابتدع في دين الله مالا يرضاه الله ولم يأذن به الله فهو من المطرودين عن الحوض المبتدعين منه المسودي الوجوه، وأشدهم طردا وإبعادا من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم؛ كالخوارج على اختلاف فرقها، والروافض على تباين ضلالها، والمعتزلة على أصناف أهوائها؛ فهؤلاء كلهم مبدلون ومبتدعون، وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم وطمس الحق وقتل أهله وإذلالهم، والمعلنون بالكبائر المستخفون بالمعاصي، وجماعة أهل الزيغ والأهواء والبدع؛ كل يخاف عليهم أن يكونوا عنوا بالآية، والحبر كما بينا، ولا يخلد في النار إلا كافر جاحد ليس في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان. وقد قال ابن القاسم: وقد يكون من غير أهل الأهواء من هو شر من أهل الأهواء. وكان يقول: تمام الإخلاص تجنب المعاصي.

 

قوله تعالى: « فأما الذين اسودت وجوههم » في الكلام حذف، أي فيقال لهم « أكفرتم بعد إيمانكم » يعني يوم الميثاق حين قالوا بلى. ويقال: هذا لليهود وكانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث فلما بعث كفروا به. وقال أبو العالية: هذا للمنافقين، يقال: أكفرتم في السر بعد إقراركم في العلانية. وأجمع أهل العربية على أنه لا بد من الفاء في جواب ( أما ) لأن المعنى في قولك: ( أما زيد فمنطلق، مهما يكن من شيء فزيد منطلق ) . وقوله تعالى: « وأما الذين ابيضت وجوههم » هؤلاء أهل طاعة الله عز وجل والوفاء بعهده. « ففي رحمة الله هم فيها خالدون » أي في جنته ودار كرامته خالدون باقون. جعلنا الله منهم وجنبنا طرق البدع والضلالات، ووفقنا لطريق الذين آمنوا وعملوا الصالحات. آمين.

الآية [ 108 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيتان: 108 - 109 ( تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين، ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور )

 

قوله تعالى: « تلك آيات الله » ابتداء وخبر، يعني القرآن. « نتلوها عليك » يعني ننزل عليك جبريل فيقرؤها عليك. « بالحق » أي بالصدق. وقال الزجاج: « تلك آيات الله » المذكورة حجج الله ودلائله. وقيل: « تلك » بمعنى هذه ولكنها لما انقضت صارت كأنها بعدت فقيل « تلك » ويجوز أن تكون « آيات الله » بدلا من « تلك » ولا تكون نعتا؛ لأن المبهم لا ينعت بالمضاف. « وما الله يريد ظلما للعالمين » يعني أنه لا يعذبهم بغير ذنب. « ولله ما في السماوات وما في الأرض » قال المهدوي: وجه اتصال هذا بما قبله أنه لما ذكر أحوال المؤمنين والكافرين وأنه لا يريد ظلما للعالمين، وصله بذكر اتساع قدرته وغناه عن الظلم لكون ما في السموات وما في الأرض في قبضته، وقيل: هو ابتداء كلام، بين لعباده أن جميع ما في السموات وما في الأرض له حتى يسألوه ويعبدوه ولا يعبدوا غيره.

 

الآية: 110 ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون )

 

روى الترمذي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى: « كنتم خير أمة أخرجت للناس » قال: ( أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها عند الله ) . وقال: هذا حديث حسن. وقال أبو هريرة: نحن خير الناس للناس نسوقهم بالسلاسل إلى الإسلام. وقال ابن عباس: هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة وشهدوا بدرا والحديبية. وقال عمر بن الخطاب: من فعل فعلهم كان مثلهم. وقيل: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يعني الصالحين منهم وأهل الفضل. وهم الشهداء على الناس يوم القيامة؛ كما تقدم في البقرة. وقال مجاهد: « كنتم خير أمة أخرجت للناس » على الشرائط المذكورة في الآية. وقيل: معناه كنتم في اللوح المحفوظ. وقيل: كنتم مذ آمنتم خير أمة. وقيل: جاء ذلك لتقدم البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم وأمته. فالمعنى كنتم عند من تقدمكم من أهل الكتب خير أمة. وقال الأخفش: يريد أهل أمة، أي خير أهل دين؛ وأنشد:

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع

وقيل: هي كان التامة، والمعنى خلقتم ووجدتم خير أمة. « فخير أمة » حال. وقيل: كان زائدة، والمعنى أنتم خير أمة. وأنشد سيبويه:

وجيران لنا كانوا كرام

ومثله قوله تعالى: « كيف نكلم من كان في المهد صبيا » [ مريم: 29 ] . وقوله: « واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم » [ الأعراف: 86 ] . وقال في موضع آخر: « واذكروا إذ أنتم قليل » . وروى سفيان عن ميسرة الأشجعي عن أبي حازم عن أبي هريرة « كنتم خير أمة أخرجت للناس » قال: تجرون الناس بالسلاسل إلى الإسلام. قال النحاس: والتقدير على هذا كنتم للناس خير أمة. وعلى قول مجاهد: كنتم خير أمة إذ كنتم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر. وقيل: إنما صارت أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير أمة لأن المسلمين منهم أكثر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيهم أفشى. فقيل: هذا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: ( خير الناس قرني ) أي الذين بعثت فيهم.

بعثت فيهم.

 

وإذا ثبت بنص التنزيل أن هذه الأمة خير الأمم؛ فقد روى الأئمة من حديث عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) . الحديث وهذا يدل على أن أول هذه الأمة أفضل ممن بعدهم، وإلى هذا ذهب معظم العلماء، وإن من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ورآه ولو مرة في عمره أفضل ممن يأتي بعده، وإن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل.

وذهب أبو عمر بن عبدالبر إلى أنه قد يكون فيمن يأتي بعد الصحابة أفضل ممن كان في جملة الصحابة، وإن قوله عليه السلام: ( خير الناس قرني ) ليس على عمومه بدليل ما يجمع القرن من الفاضل والمفضول. وقد جمع قرنه جماعة من المنافقين المظهرين للإيمان وأهل الكبائر الذين أقام عليهم أو على بعضهم الحدود، وقال لهم: ما تقولون في السارق والشارب والزاني. وقال مواجهة لمن هو في قرنه: ( لا تسبوا أصحابي ) . وقال لخالد بن الوليد في عمار: ( لا تسب من هو خير منك ) وروى أبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( طوبى لمن رآني وآمن بي وطوبى سبع مرات لمن لم يرني وآمن بي ) . وفي مسند أبي داود الطيالسي عن محمد بن أبي حميد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر. قال: كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( أتدرون أي الخلق أفضل إيمانا ) قلنا الملائكة. قال: ( وحق لهم بل غيرهم ) قلنا الأنبياء. قال: ( وحق لهم بل غيرهم ) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أفضل الخلق إيمانا قوم في أصلاب الرجال يؤمنون بي ولم يروني يجدون ورقا فيعملون بما فيها فهم أفضل الخلق إيمانا ) . وروى صالح بن جبير عن أبي جمعة قال: قلنا يا رسول الله، هل أحد خير منا؟ قال: ( نعم قوم يجيؤون من بعدكم فيجدون كتابا بين لوحين فيؤمنون بما فيه ويؤمنون بي ولم يروني ) . وقال أبو عمر: وأبو جمعة له صحبة واسمه حبيب بن سباع، وصالح بن جبير من ثقات التابعين. وروى أبو ثعلبة الخشني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن أمامكم أياما الصابر فيها على دينه كالقابض على الجمر للعامل فيها أجر خمسين رجلا يعمل مثله عمله ) قيل: يا رسول الله، منهم؟ قال: ( بل منكم ) . قال أبو عمر: وهذه اللفظة « بل منكم » قد سكت عنها بعض المحدثين فلم يذكرها. وقال عمر بن الخطاب في تأويل قوله: « كنتم خير أمة أخرجت للناس » قال: من فعل مثل فعلكم كان مثلكم. ولا تعارض بين الأحاديث؛ لأن الأول على الخصوص، والله الموفق.

وقد قيل في توجيه أحاديث هذا الباب: إن قرنه إنما فضل لأنهم كانوا غرباء في إيمانهم لكثرة الكفار وصبرهم على أذاهم وتمسكهم بدينهم، وإن أواخر هذه الأمة إذا أقاموا الدين وتمسكوا به وصبروا على طاعة ربهم في حين ظهور الشر والفسق والهرج والمعاصي والكبائر كانوا عند ذلك أيضا غرباء، وزكت أعمالهم في ذلك الوقت كما زكت أعمال أوائلهم، ومما يشهد لهذا قوله عليه السلام: ( بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء ) . ويشهد له أيضا حديث أبي ثعلبة، ويشهد له أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: ( أمتي كالمطر لا يُدْرَى أوله خير أم آخره ) . ذكره أبو داود الطيالسي وأبو عيسى الترمذي، ورواه هشام بن عبيدالله الرازي عن مالك عن الزهري عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره ) . ذكره الدارقطني في مسند حديث مالك. قال أبو عمر: هشام بن عبيدالله ثقة لا يختلفون في ذلك. وروي أن عمر بن عبدالعزيز لما ولي الخلافة كتب إلى سالم بن عبدالله أن اكتب إلي بسيرة عمر بن الخطاب لأعمل بها؛ فكتب إليه سالم: إن عملت بسيرة عمر؛ فأنت أفضل من عمر لأن زمانك ليس كزمان عمر، ولا رجالك كرجال عمر. قال: وكتب إلى فقهاء زمانه، فكلهم كتب إليه بمثل قول سالم. وقد عارض بعض الجلة من العلماء قوله صلى الله عليه وسلم: ( خير الناس قرني ) بقوله صلى الله عليه وسلم: ( خير الناس من طال عمره وحسن عمله وشر الناس من طال عمره وساء عمله ) . قال أبو عمر: فهذه الأحاديث تقتضي مع تواتر طرقها وحسنها التسوية بين أول هذه الأمة وآخرها. والمعنى في ذلك ما تقدم ذكره من الإيمان والعمل الصالح في الزمان الفاسد الذي يرفع فيه من أهل العلم والدين، ويكثر فيه الفسق والهرج، ويذل المؤمن ويعز الفاجر ويعود الدين غريبا كما بدا غريبا ويكون القائم فيه كالقابض على الجمر، فيستوي حينئذ أول هذه الأمة بآخرها في فضل العمل إلا أهل بدر والحديبية، ومن تدبر آثار هذا الباب بان له الصواب، والله يؤتي فضله من يشاء.

 

قوله تعالى: « تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله » مدح لهذه الأمة ما أقاموا ذلك واتصفوا به. فإذا تركوا التغيير وتواطؤوا على المنكر زال عنهم اسم المدح ولحقهم اسم الذم، وكان ذلك سببا لهلاكهم. وقد تقدم الكلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أول السورة.

 

قوله تعالى: « ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم » أخبر أن إيمان أهل الكتاب بالنبي صلى الله عليه وسلم خير لهم، وأخبر أن منهم مؤمنا وفاسقا، وأن الفاسق أكثر.

 

الآية: 111 ( لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون )

 

قوله تعالى: « لن يضروكم إلا أذى » يعني كذبهم وتحريفهم وبهتهم؛ لا أنه تكون لهم الغلبة؛ عن الحسن وقتادة. فالاستثناء متصل، والمعنى لن يضروكم إلا ضرا يسيرا؛ فوقع الأذى موقع المصدر. فالآية وعد من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، إن أهل الكتاب لا يغلبونهم وأنهم منصورون عليهم لا ينالهم منهم اصطلام إلا إيذاء بالبهت والتحريف، وأما العاقبة فتكون للمؤمنين. وقيل: هو منقطع، والمعنى لن يضروكم البتة، لكن يؤذونكم بما يُسمِّعونكم. قال مقاتل: إن رؤوس اليهود: كعب وعدي والنعمان وأبو رافع وأبو ياسر وكنانة وابن صوريا عمدوا إلى مؤمنيهم: عبدالله بن سلام وأصحابه فآذوهم لإسلامهم؛ فأنزل الله تعالى: « لن يضروكم إلا أذى » يعني باللسان، وتم الكلام. ثم قال: « وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار » يعني منهزمين، وتم الكلام. « ثم لا ينصرون » مستأنف؛ فلذلك ثبتت فيه النون. وفي هذه الآية معجزة للنبي عليه السلام؛ لأن من قاتله من اليهود ولاه دبره.

 

الآيات: 112 - 115 ( ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون، يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين، وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين )

 

قوله تعالى: « ضربت عليهم الذلة » يعني اليهود. « أينما ثقفوا » أي وجدوا ولقوا، وتم الكلام. وقد مضى في البقرة معنى ضرب الذلة عليهم. « إلا بحبل من الله » استثناء منقطع ليس من الأول. أي لكنهم يعتصمون بحبل من الله « وحبل من الناس » يعني الذمة التي لهم. والناس: محمد والمؤمنون يؤدون إليهم الخراج فيؤمنونهم. وفي الكلام اختصار، والمعنى: إلا أن يعتصموا بحبل من الله، فحذف؛ قاله الفراء. « وباؤوا بغضب من الله » أي رجعوا. وقيل احتملوا. وأصله في اللغة أنه لزمهم، وقد مضى في البقرة. ثم أخبر لم فعل ذلك بهم. فقال: « ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون » وقد مضى في البقرة مستوفى. ثم أخبر فقال: « ليسوا سواء » وتم الكلام. والمعنى: ليس أهل الكتاب وأمة محمد صلى الله عليه وسلم سواء؛ عن ابن مسعود. وقيل: المعنى ليس المؤمنون والكافرون من أهل الكتاب سواء. وذكر أبو خيثمة زهير بن حرب حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا شيبان عن عاصم عن زر عن ابن مسعود قال: أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال: ( إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله تعالى في هذه الساعة غيركم ) قال: أنزلت هذه الآية « ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة - إلى قوله: والله عليم بالمتقين » وروى ابن وهب مثله. وقال ابن عباس: قول الله عز وجل « من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون » من آمن مع النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن إسحاق عن ابن عباس لما أسلم عبدالله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعيه، وأسيد بن عبيد، ومن أسلم من يهود؛ فآمنوا وصدقوا ورغبوا في الإسلام ورسخوا فيه، قالت أحبار يهود وأهل الكفر منهم: ما آمن بمحمد ولا تبعه إلا شرارنا، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره؛ فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم: « ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون. إلى قوله: وأولئك من الصالحين » . وقال الأخفش: التقدير من أهل الكتاب ذو أمة، أي ذو طريقة حسنة. وأنشد:

وهل يأتمن ذو أمة وهو طائع

وقيل: في الكلام حذف؛ والتقدير من أهل الكتاب أمة قائمة وأخرى غير قائمة، فترك الأخرى اكتفاء بالأولى؛ كقول أبي ذؤيب:

عصاني إليها القلب إني لأمره مطيع فما أدري أرُشْد طِلابها

أراد: أرشد أم غي، فحذف. قال الفراء: « أمة » رفع بـ « سواء » ، والتقدير: ليس يستوي أمة من أهل الكتاب قائمة يتلون آيات الله وأمة كافرة. قال النحاس: هذا قول خطأ من جهات: إحداها أنه يرفع « أمة » بـ « سواء » فلا يعود على اسم ليس بشيء، ويرفع بما ليس جاريا على الفعل ويضمر ما لا يحتاج إليه؛ لأنه قد تقدم ذكر الكافر فليس لإضمار هذا وجه. وقال أبو عبيدة: هذا مثل قولهم: أكلوني البراغيث، وذهبوا أصحابك. قال النحاس: وهذا غلط؛ لأنه قد تقدم ذكرهم، وأكلوني البراغيث لم يتقدم لهم ذكر. و « أناء الليل » ساعاته. وأحدها إنًى وأنًى وإنْيٌ، وهو منصوب على الظرف. و « يسجدون » يصلون؛ عن الفراء والزجاج؛ لأن التلاوة لا تكون في الركوع والسجود. نظيره قوله: « وله يسجدون » أي يصلون. وفي الفرقان: « وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن » [ الفرقان: 60 ] وفي النجم « فاسجدوا لله واعبدوا » [ النجم: 62 ] . وقيل: يراد به السجود المعروف خاصة. وسبب النزول يرده، وأن المراد صلاة العتمة كما ذكرنا عن ابن مسعود؛ فعبدة الأوثان ناموا حيث جن عليهم الليل، والموحدون قيام بين يدي الله تعالى في صلاة العشاء يتلون آيات الله؛ ألا ترى لما ذكر قيامهم قال « وهم يسجدون » أي مع القيام أيضا. الثوري: هي الصلاة بين العشاءين. وقيل: هي في قيام الليل. وعن رجل من بني شيبة كان يدرس الكتب قال: إنا نجد كلاما من كلام الرب عز وجل: أيحسب راعي إبل أو راعي غنم إذا جنه الليل انخذل كمن هو قائم وساجد آناء الليل. « يؤمنون بالله » يعني يقرون بالله ويصدقون بمحمد صلى الله عليه وسلم. « ويأمرون بالمعروف » قيل: هو عموم. وقيل: يراد به الأمر باتباع النبي صلى الله عليه وسلم. « وينهون عن المنكر » والنهي عن المنكر النهي عن مخالفته. « ويسارعون في الخيرات » التي يعملونها مبادرين غير متثاقلين لمعرفتهم بقدر ثوابهم. وقيل: يبادرون بالعمل قبل الفوت. « وأولئك من الصالحين » أي مع الصالحين، وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الجنة. « وما يفعلوا من خير فلن يكفروه » قرأ الأعمش وابن وثاب وحمزة والكسائي وحفص وخلف بالياء فيهما؛ إخبارا عن الأمة القائمة، وهي قراءة ابن عباس واختيار أبي عبيد. وقرأ الباقون بالتاء فيهما على الخطاب؛ لقوله تعالى: « كنتم خير أمة أخرجت للناس » [ آل عمران: 110 ] . وهي اختيار أبي حاتم، وكان أبو عمرو يرى القراءتين جميعا الياء والتاء. ومعنى الآية: وما تفعلوا من خير فإن تجحدوا ثوابه بل يشكر لكم وتجازون عليه.

 

الآية: 116 ( إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون )

 

قوله تعالى: « إن الذين كفروا » اسم إن، والخبر « لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا » . قال مقاتل: لما ذكر تعالى مؤمني أهل الكتاب ذكر كفارهم وهو قوله: « إن الذين كفروا » . وقال الكلبي: جعل هذا ابتداء فقال: إن الذين كفروا لن تغني عنهم كثرة أموالهم ولا كثرة أولادهم من عذاب الله شيئا. وخص الأولاد لأنهم أقرب أنسابهم إليهم. « وأولئك أصحاب النار » ابتداء وخبر، وكذا و « هم فيها خالدو ن » . وقد تقدم جميع هذا.

 

الآية: 117 ( مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون )

 

قوله تعالى: « مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر » « ما » تصلح أن تكون مصدرية، وتصلح أن تكون بمعنى الذي والعائد محذوف، أي مثل ما ينفقونه. ومعنى « كمثل ريح » كمثل مهب ريح. قال ابن عباس: والصر: البرد الشديد. قيل: أصله من الصرير الذي هو الصوت، فهو صوت الريح الشديدة. الزجاج: هو صوت لهب النار التي كانت في تلك الريح. وقد تقدم هذا المعنى في البقرة. وفي الحديث: إنه نهى عن الجراد الذي قتله الصر. ومعنى الآية: مثل نفقة الكافرين في بطلانها وذهابها وعدم منفعتها كمثل زرع أصابه ريح باردة أو نار فأحرقته وأهلكته، فلم ينتفع أصحابه بشيء بعد ما كانوا يرجون فائدته ونفعه. قال الله تعالى: « وما ظلمهم الله » بذلك « ولكن أنفسهم يظلمون » بالكفر والمعصية ومنع حق الله تعالى. وقيل: ظلموا أنفسهم بأن زرعوا في غير وقت الزراعة أو في غير موضعها فأدبهم الله تعالى؛ لوضعهم الشيء في غير موضعه؛ حكاه المهدوي.

 

الآية: 118 ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون )

 

أكد الله تعالى الزجر عن الركون إلى الكفار. وهو متصل بما سبق من قوله: « إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب » [ آل عمران: 100 ] . والبطانة مصدر، يسمى به الواحد والجمع. وبطانة الرجل خاصته الذين يستبطنون أمره، وأصله من البطن الذي هو خلاف الظهر. وبطن فلان بفلان يبْطُن بُطونا وبِطانة إذا كان خاصا به. قال الشاعر:

أولئك خلصائي نعم وبطانتي وهم عيبتي من دون كل قريب

 

نهى الله عز وجل المؤمنين بهذه الآية أن يتخذوا من الكفار واليهود وأهل الأهواء دخلاء وولجاء، يفاوضونهم في الآراء، ويسندون إليهم أمورهم. ويقال: كل من كان على خلاف مذهبك ودينك فلا ينبغي لك أن تحادثه؛ قال الشاعر:

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي

وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ) . وروي عن ابن مسعود أنه قال: اعتبروا الناس بإخوانهم. ثم بين تعالى المعنى الذي لأجله نهى عن المواصلة فقال: « لا يألونكم خبالا » يقول فسادا. يعني لا يتركون الجهد في فسادكم، يعني أنهم وإن لم يقاتلوكم في الظاهر فإنهم لا يتركون الجهد في المكر والخديعة، على ما يأتي بيانه. وروي عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا » قال: ( هم الخوارج ) . وروى أن أبا موسى الأشعري استكتب ذميا فكتب إليه عمر يعنفه وتلا عليه هذه الآية. وقدم أبو موسى الأشعري على عمر رضي الله عنهما بحساب فرفعه إلى عمر فأعجبه، وجاء عمر كتاب فقال لأبي موسى: أين كاتبك يقرأ هذا الكتاب على الناس ؟ فقال: إنه لا يدخل المسجد. فقال لم! أجنب هو؟ قال: إنه نصراني؛ فانتهره وقال: لا تدنهم وقد أقصاهم الله، ولا تكرمهم وقد أهانهم الله، ولا تأمنهم وقد خونهم الله. وعن عمر رضي الله عنه قال: لا تستعملوا أهل الكتاب فإنهم يستحلون الرِّشا، واستعينوا على أموركم وعلى رعيتكم بالذين يخشون الله تعالى. وقيل لعمر رضي الله عنه: إن ههنا رجلا من نصارى الحيرة لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم أفلا يكتب عنك؟ فقال: لا آخذ بطانة من دون المؤمنين. فلا يجوز استكتاب أهل الذمة، ولا غير ذلك من تصرفاتهم في البيع والشراء والاستنابة إليهم.

قلت: وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبة وأمناء وتسودوا بذلك عند الجهلة الأغبياء من الولاة والأمراء. روى البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه فالمعصوم من عصم الله تعالى ) . وروى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تستضيؤوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم غريبا ) . فسره الحسن بن أبي الحسن فقال: أراد عليه السلام لا تستشيروا المشركين في شيء من أموركم، ولا تنقشوا في خواتيمكم محمدا. قال الحسن: وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: « يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم » الآية.

 

قوله تعالى: « من دونكم » أي من سواكم. قال الفراء: « ويعملون عملا دون ذلك » أي سوى ذلك. وقيل: « من دونكم » يعني في السير وحسن المذهب. ومعنى « لا يألونكم خبالا » لا يقصرون فيما فيه الفساد عليكم. وهو في موضع الصفة لـ « بطانة من دونكم » . يقال: لا آلو جهدا أي لا أقصر. وأَلَوْت أُلُوًّا قصرت؛ قال امرؤ القيس:

وما المرء ما دامت حشاشة نفسه بمدرك أطراف الخطوب ولا آل والخَبال: الخَبْل. والخبل: الفساد؛ وقد يكون ذلك في الأفعال والأبدان والعقول. وفي الحديث: ( من أصيب بدم أو خبل ) أي جرح يفسد العضو. والخبل: فساد الأعضاء، ورجل خبل ومختبل، وخبله الحب أي أفسده. قال أوس:

أبني لُبينى لستم بيد إلا يدا مخبولة العضد أي فاسدة العضد. وأنشد الفراء:

نظر ابن سعد نظرة وبت بها كانت لصحبك والمطي خبالا أي فساد. وانتصب ( خبالا ) بالمفعول الثاني؛ لأن الألو يتعدى إلى مفعولين، وإن شئت على المصدر، أي يخبلونكم خبالا: وإن شئت بنزع الخافض، أي بالخبال؛ كما قالوا: أوجعته ضربا: « وما » في قوله: « ودوا ما عنتم » مصدرية، أي ودوا عنتكم. أي ما يشق عليكم. والعنت المشقة، وقد مضى في « البقرة » معناه.

 

قوله تعالى: « قد بدت البغضاء من أفواههم » يعني ظهرت العداوة والتكذيب لكم من أفواههم. والبغضاء: البغض، وهو ضد الحب. والبغضاء مصدر مؤنث. وخص تعالى الأفواه بالذكر دون الألسنة إشارة إلى تشدقهم وثرثرتهم في أقوالهم هذه، فهم فوق المتستر الذي تبدو البغضاء في عينيه. ومن هذا المعنى نهيه عليه السلام أن يشتحي الرجل فاه في عرض أخيه. معناه أن يفتح؛ يقال: شحى الحمار فاه بالنهيق، وشحى الفم نفسه. وشحى اللجام فم الفرس شحيا، وجاءت الخيل شواحي: فاتحات أفواهها. ولا يفهم من هذا الحديث دليل خطاب على الجواز فيأخذ أحد في عرض أخيه همسا؛ فإن ذلك يحرم باتفاق من العلماء. وفي التنزيل « ولا يغتب بعضكم بعضا » [ الحجرات: 12 ] الآية. وقال صلى الله عليه وسلم: ( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ) . فذكر الشَّحْو إنما هو إشارة إلى التشدق والانبساط، فاعلم.

 

وفي هذه الآية دليل على أن شهادة العدو على عدوه لا يجوز، وبذلك قال أهل المدينة وأهل الحجاز؛ وروى عن أبي حنيفة جواز ذلك. وحكى ابن بطال عن ابن شعبان أنه قال: أجمع العلماء على أنه لا تجوز شهادة العدو على عدوه في شيء وإن كان عدلا، والعداوة تزيل العدالة فكيف بعداوة كافر.

 

قوله تعالى: « وما تخفي صدورهم أكبر » إخبار وإعلام بأنهم يبطنون من البغضاء أكثر مما يظهرون بأفواههم. وقرأ عبدالله بن مسعود: « قد بدأ البغضاء » بتذكير الفعل؛ لما كانت البغضاء بمعنى البغض.

 

الآية: 119 ( ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور )

 

قوله تعالى: « ها أنتم أولاء تحبونهم » يعني المنافقين؛ دليله قوله تعالى: « وإذا لقوكم قالوا آمنا » ؛ قاله أبو العالية ومقاتل. والمحبة هنا بمعنى المصافاة، أي أنتم أيها المسلمون تصافونهم ولا يصافونكم لنفاقهم. وقيل: المعنى تريدون لهم الإسلام وهم يريدون لكم الكفر. وقيل: المراد اليهود؛ قاله الأكثر. والكتاب اسم جنس؛ قال ابن عباس: يعني بالكتب. واليهود يؤمنون بالبعض؛ كما قال تعالى: « وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه » [ البقرة: 91 ] . « وإذا لقوكم قالوا آمنا » أي بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. « وإذا خلوا » فيما بينهم « عضوا عليكم الأنامل » يعني أطراف الأصابع « من الغيظ » والحنق عليكم فيقول بعضهم لبعض: ألا ترون إلى هؤلاء ظهروا وكثروا. والعض عبارة عن شدة الغيظ مع عدم القدرة على إنفاذه؛ ومنه قول أبي طالب:

يعضون غيظا خَلْفَنا بالأنامل

وقال آخر:

إذا رأوني - أطال الله غيظهم عضوا من الغيظ أطراف الأباهيم

يقال: عض يُعض عضا وعضيضا. والعُضُّ ( بضم العين ) : علف دواب أهل الأمصار مثل الكُسْب والنوى المرضوخ؛ يقال منه: أعض القوم، إذا أكلت إبلهم العض. وبعير عضاضي، أي سمين كأنه منسوب إليه. والعض ( بالكسر ) : الداهي من الرجال والبليغ المكر. وعض الأنامل من فعل المغضب الذي فاته ما لا يقدر عليه، أو نزل به ما لا يقدر على تغييره. وهذا العض هو بالأسنان كعض اليد على فائت قريب الفوات. وكقرع السن النادمة، إلى غير ذلك من عد الحصى والخط في الأرض للمهموم. ويكتب هذا العض بالضاد الساقطة، وعظ الزمان بالظاء المشالة؛ كما قال:

وعظ زمان يا ابن مروان لم يدع من المال إلا مُسْحتا أو مجلف

وواحد الأنامل أنملة ( بضم الميم ) ويقال بفتحها، والضم أشهر. وكان أبو الجوزاء إذا تلا هذه الآية قال: هم الأباضية. قال ابن عطية: وهذه الصفة قد تترتب في كثير من أهل البدع إلى يوم القيامة.

 

قوله تعالى: « قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور » إن قيل: كيف لم يموتوا والله تعالى إذا قال لشيء: كن فيكون. قيل عنه جوابان: أحدهما: قال فيه الطبري وكثير من المفسرين: هو دعاء عليهم. أي قل يا محمد أدام الله غيظكم إلى أن تموتوا. فعلى هذا يتجه أن يدعو عليهم بهذا مواجهة وغير مواجهة بخلاف اللعنة.

الثاني: إن المعنى أخبرهم أنهم لا يدركون ما يؤملون، فإن الموت دون ذلك. فعلى هذا المعنى زال معنى الدعاء وبقي معنى التقريع والإغاظة. ويجري هذا المعنى مع قول مسافر بن أبي عمرو:

ويتمنى في أرومتنا ونفقأ عين من حسدا

وينظر إلى هذا المعنى قوله تعالى: « من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع » [ الحج: 15 ] .

 

الآية: 120 ( إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط )

 

قوله تعالى: « إن تمسسكم حسنة تسؤهم » قرأ السلمي بالياء والباقون بالتاء. واللفظ عام في كل ما يحسن ويسوء. وما ذكره المفسرون من الخصب والجدب واجتماع المؤمنين ودخول الفرقة بينهم إلى غير ذلك من الأقوال أمثلة وليس باختلاف. والمعنى في الآية: أن من كانت هذه صفته من شدة العداوة والحقد والفرح بنزول الشدائد على المؤمنين، لم يكن أهلا لأن يتخذ بطانة، لا سيما في هذا الأمر الجسيم من الجهاد الذي هو مِلاك الدنيا والآخرة؛ ولقد أحسن القائل في قوله:

كل العداوة قد ترجى إفاقتها إلا عداوة من عاداك من حسد

« وإن تصبروا » أي على أذاهم وعلى الطاعة وموالاة المؤمنين. « وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا » يقال: ضاره يضوره ويضيره ضيرا وضورا؛ فشرط تعالى نفي ضررهم بالصبر والتقوى، فكان ذلك تسلية للمؤمنين وتقوية لنفوسهم.

قلت: قرأ الحرميان وأبو عمرو « لا يضركم » من ضار يضير كما ذكرنا؛ ومنه قوله « لا ضير » ، وحذفت الياء لالتقاء الساكنين؛ لأنك لما حذفت الضمة من الراء بقيت الراء ساكنة والياء ساكنة فحذفت الياء، وكانت أولى بالحذف؛ لأن قبلها ما يدل عليها. وحكى الكسائي أنه سمع « ضارَه يضورُه » وأجاز « لا يَضُرْكم » وزعم أن في قراءة أبي بن كعب « لا يضْرُرْكم » . قرأ الكوفيون: « لا يضركم » بضم الراء وتشديدها من ضر يضُر. ويجوز أن يكون مرفوعا على تقدير إضمار الفاء؛ والمعنى: فلا يضركم، ومنه قول الشاعر:

من يفعل الحسنات الله يشكرها

هذا قول الكسائي والفراء، أو يكون مرفوعا على نية التقديم؛ وأنشد سيبويه:

إنك إن يصرع أخوك تصرع

أي لا يضركم أن تصبروا وتتقوا. ويجوز أن يكون مجزوما، وضمت الراء لالتقاء الساكنين على إتباع الضم. وكذلك قراءة من فتح الراء على أن الفعل مجزوم، وفتح « يضركم » لالتقاء الساكنين لخفة الفتح؛ رواه أبو زيد عن المفضل عن عاصم، حكاه المهدوي. وحكى النحاس: وزعم المفضل الضبي عن عاصم « لا يضرِّكم » بكسر الراء لالتقاء الساكنين.

 

الآية: 121 ( وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم )

 

قوله تعالى: « وإذ غدوت من أهلك » العامل في « إذ » فعل مضمر تقديره: واذكر إذ غدوت، يعني خرجت بالصباح. « من أهلك » من منزلك من عند عائشة. « تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم » هذه غزوة أحد وفيها نزلت هذه الآية كلها. وقال مجاهد والحسن ومقاتل والكلبي: هي غزوة الخندق. وعن الحسن أيضا يوم بدر. والجمهور على أنها غزوة أحد؛ يدل عليه قوله تعالى: « إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا » [ آل عمران: 122 ] وهذا إنما كان يوم أحد، وكان المشركون قصدوا المدينة في ثلاثة آلاف رجل ليأخذوا بثأرهم في يوم بدر؛ فنزلوا عند أحد على شفير الوادي بقناة مقابل المدينة، يوم الأربعاء الثاني عشر من شوال سنة ثلاث من الهجرة، على رأس أحد وثلاثين شهرا من الهجرة، فأقاموا هنالك يوم الخميس والنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه أن في سيفه ثلمة، وأن بقرا له تذبح، وأنه أدخل يده في درع حصينة؛ فتأولها أن نفرا من أصحابه يقتلون، وأن رجلا من أهل بيته يصاب، وأن الدرع الحصينة المدينة. أخرجه مسلم. فكان كل ذلك على ما هو معروف مشهور من تلك الغزاة. وأصل التبوء اتخاذ المنزل، بوأته منزلا إذا أسكنته إياه؛ ومنه قوله عليه السلام: ( من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ) أي ليتخذ فيها منزلا. فمعنى « تبوئ المؤمنين » تتخذ لهم مصاف. وذكر البيهقي من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( رأيت فيما يرى النائم كأني مردف كبشا وكأن ضبة سيفي انكسرت فأولت أني أقتل كبش القوم وأولت كسر ضبة سيفي قتل رجل من عترتي ) فقُتل حمزة وقَتل رسول الله صلى الله عليه وسلم طلحة، وكان صاحب اللواء. وذكر موسى بن عقبة عن ابن شهاب: وكان حامل لواء المهاجرين رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنا عاصم إن شاء الله لما معي؛ فقال له طلحة بن عثمان أخو سعيد بن عثمان اللخمي: هل لك يا عاصم في المبارزة ؟ قال نعم؛ فبدره ذلك الرجل فضرب بالسيف على رأس طلحة حتى وقع السيف في لحيته فقتله؛ فكان قتل صاحب اللواء تصديقا لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كأني مردف كبشا ) .

 

الآية: 122 ( إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون )

 

العامل في « إذ - تبوئ » أو « سميع عليم » . والطائفتان: بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، وكانا جناحي العسكر يوم أحد. ومعنى « أن تفشلا » أن تَجبُنا. وفي البخاري عن جابر قال: فينا نزلت « إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما » قال: نحن الطائفتان: بنو حارثة وبنو سلمة، وما نحب أنها لم تنزل؛ لقول الله عز وجل: « والله وليهما » . وقيل: هم بنو الحارث وبنو الخزرج وبنو النبيت، والنبيت هو عمرو بن مالك من بني الأوس. والفشل عبارة عن الجبن؛ وكذلك هو في اللغة. والهم من الطائفتين كان بعد الخروج لما رجع عبدالله بن أبي بمن معه من المنافقين فحفظ الله قلوبهم فلم يرجعوا؛ فذلك قوله تعالى: « والله وليهما » يعني قلوبهما عن تحقيق هذا الهم. وقيل: أرادوا التقاعد عن الخروج، وكان ذلك صغيرة منهم. وقيل: كان ذلك حديث نفس منهم خطر ببالهم فأطلع الله نبيه عليه السلام عليه فازدادوا بصيرة؛ ولم يكن ذلك الخَوَرُ مكتسبا لهم فعصمهم الله، وذم بعضهم بعضا، ونهضوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أطل على المشركين، وكان خروجه من المدينة في ألف، فرجع عنه عبدالله بن أبي بن سلول بثلاثمائة رجل مغاضبا؛ إذ خولف رأيه حين أشار بالقعود والقتال في المدينة إن نهض إليهم العدو، وكان رأيه وافق رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى ذلك أكثر الأنصار، وسيأتي. ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين فاستشهد منهم من أكرمه الله بالشهادة. قال مالك رحمه الله: قتل من المهاجرين يوم أحد أربعة، ومن الأنصار سبعون رضي الله عنهم. والمقاعد: جمع مقعد وهو مكان القعود، وهذا بمنزلة مواقف، ولكن لفظ القعود دال على الثبوت؛ ولا سيما أن الرماة كانوا قعودا. هذا معنى حديث غزاة أحد على الاختصار، وسيأتي من تفصيلها ما فيه شفاء. وكان مع المشركين يومئذ مائة فرس عليها خالد بن الوليد، ولم يكن مع المسلمين يومئذ فرس. وفيها جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه وكسرت رباعيته اليمنى السفلى بحجر وهشمت البيضة من على رأسه صلى الله عليه وسلم، وجزاه عن أمته ودينه بأفضل ما جزى به نبيا من أنبيائه على صبره. وكان الذي تولى ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن قميئة الليثي، وعتبة بن أبي وقاص. وقد قيل: إن عبدالله بن شهاب جد الفقيه محمد بن مسلم بن شهاب هو الذي شج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جبهته. قال الواقدي: والثابت عندنا أن الذي رمى في وجه النبي صلى الله عليه وسلم ابن قميئة، والذي أدمى شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص. قال الواقدي بإسناده عن نافع بن جبير قال: سمعت رجلا من المهاجرين يقول: شهدت أُحُدا فنظرت إلى النبل تأتي من كل ناحية ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطها كل ذلك يصرف عنه. ولقد رأيت عبدالله بن شهاب الزهري يقول يومئذ: دلوني على محمد دلوني على محمد، فلا نجوت إن نجا. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ما معه أحد ثم جاوزه، فعاتبه في ذلك صفوان فقال: والله ما رأيته، أحلف بالله إنه منا ممنوع! خرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله فلم نخلص إلى ذلك. وأكبت الحجارة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سقط في حفرة، كان أبو عامر الراهب قد حفرها مكيدة للمسلمين، فخر عليه السلام على جنبه واحتضنه طلحة حتى قام، ومص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري من جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم الدم، وتشبثت حلقتان من درع المِغْفَر في وجهه صلى الله عليه وسلم فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح وعض عليهما بثنيتيه فسقطتا؛ فكان اهْتم يزينه هَتَمُه رضي الله عنه. وفي هذه الغزاة قتل حمزة رضي الله عنه، قتله وحشي، وكان وحشي مملوكا لجبير بن مطعم. وقد كان جبير قال له: إن قتلت محمدا جعلنا لك أعنة الخيل، وإن أنت قتلت علي بن أبي طالب جعلنا لك مائة ناقة كلها سود الحدق، وإن أنت قتلت حمزة فأنت حر. فقال وحشي: أما محمد فعليه حافظ من الله لا يخلص إليه أحد. وأما علي ما برز إليه أحد إلا قتله. وأما حمزة فرجل شجاع، وعسى أن أصادفه فأقتله. وكانت هند كلما تهيأ وحشي أو مرت به قالت: إيها أبا دسمة اشف واستشف. فكَمِن له خلف صخرة، وكان حمزة حمل على القوم من المشركين؛ فلما رجع من حملته ومر بوحشي زَرَقه بالمِزراق فأصابه فسقط ميتا رحمه الله ورضي عنه. قال ابن إسحاق: فبقرت هند عن كبد حمزة فلاكتها ولم تستطع أن تسيغها فلفظتها ثم علت على صخرة مشرفة فصرخت بأعلى صوتها فقالت:

نحن جزيناكم بيوم بدر والحرب بعد الحرب ذات سعر

ما كان عن عتبة لي من صبر ولا أخي وعمه بكري

شفيت نفسي وقضيت نذري شفيت وحشي غليل صدري

فشكر وحشي عليَّ عمري حتى تَرِمّ أعظمي في قبري

فأجابتها هند بنت أثاثة بن عباد بن عبدالمطلب فقالت:

خزيت في بدر وبعد بدر يا بنت وقَّاع عظيم الكفر

صبحك الله غداة الفجر مِلْهاشميين الطوال الزهر

بكل قَطّاع حُسام يفري حمزة ليثي وعَليٌّ صقري

إذ رام شيب وأبوك غدري فَخَضَبا منه ضواحي النحر

ونذرك السوء فشر نذر

وقال عبدالله بن رواحة يبكي [ يرثي ] حمزة رضي الله عنه:

بكت عيني وحق لها بكاها وما يغني البكاء ولا العويل

على أسد الإله غداة قالوا أحمزة ذاكم الرجل القتيل

أصيب المسلمون به جميعا هناك، وقد أصيب به الرسول

أبا يَعْلى لك الأركان هُدَّت وأنت الماجد البر الوَصول

عليك سلام ربك في جنان مخالطها نعيم لا يزول

ألا يا هاشم الأخيار صبرا فكل فعالكم حسن جميل

رسول الله مصطبر كريم بأمر الله ينطق إذ يقول

ألا من مبلغ عني لؤيا فبعد اليوم دائلة تدول

وقبل اليوم ما عرفوا وذاقوا وقائعنا بها يشفى الغليل

نسيتم ضربنا بقليب بدر غداة أتاكم الموت العجيل

غداة ثوى أبو جهل صريعا عليه الطير حائمة تجول

وعتبة وابنه خرا جميعا وشيبة عضه السيف الصقيل

ومتركنا أمية مجلعبا وفي حيزومه لدن نبيل

وهام بني ربيعة سائلوها ففي أسيافنا منها فلول

ألا يا هند لا تبدي شماتا بحمزة إن عزكم ذليل

ألا يا هند فابكي لا تملي فأنت الواله العَبْرى الهبول

ورثته أيضا أخته صفية، وذلك مذكور في السيرة، رضي الله عنهم أجمعين.

 

قوله تعالى: « وعلى الله فليتوكل المؤمنون » فيه مسألة واحدة، وهي بيان التوكل. والتوكل في اللغة إظهار العجز والاعتماد على الغير. وواكل فلان إذا ضَيّع أمره متكلا على غيره.

واختلف العلماء في حقيقة التوكل؛ فسئل عنه سهل بن عبدالله فقال: قالت فرقة الرضا بالضمان، وقطع الطمع من المخلوقين. وقال قوم: التوكل ترك الأسباب والركون إلى مسبب الأسباب؛ فإذا شغله السبب عن المسبب زاد عنه اسم التوكل. قال سهل: من قال إن التوكل يكون بترك السبب فقد طعن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله عز وجل يقول: « فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا » [ الأنفال: 69 ] فالغنيمة اكتساب. وقال تعالى: « فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان » [ الأنفال: 12 ] فهذا عمل. وقال النبي صلى الله عليه وسلم ( إن الله يحب العبد المحترف ) . وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرضون على السِرية. وقال غيره: وهذا قول عامة الفقهاء، وأن التوكل على الله هو الثقة بالله والإيقان بأن قضاءه ماض، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم في السعي فيما لا بد منه من الأسباب من مطعم ومشرب وتحرز من عدو وإعداد الأسلحة واستعمال ما تقتضيه سنة الله تعالى المعتادة. وإلى هذا ذهب محققو الصوفية، لكنه لا يستحق اسم التوكل عندهم مع الطمأنينة إلى تلك الأسباب والالتفات إليها بالقلوب؛ فإنها لا تجلب نفعا ولا تدفع ضرا، بل السبب والمسبب فعل الله تعالى، والكل منه وبمشيئته؛ ومتى وقع من المتوكل ركون إلى تلك الأسباب فقد انسلخ عن ذلك الاسم. ثم المتوكلون على حالين: الأول: حال المتمكن في التوكل فلا يلتفت إلى شيء من تلك الأسباب بقلبه، ولا يتعاطاه إلا بحكم الأمر. الثاني: حال غير المتمكن وهو الذي يقع له الالتفات إلى تلك الأسباب أحيانا غير أنه يدفعها عن نفسه بالطرق العلمية، والبراهين القطعية، والأذواق الحالية؛ فلا يزال كذلك إلى أن يرقيه الله بجوده إلى مقام المتوكلين المتمكنين، ويلحقه بدرجات العارفين.

 

الآيات: 123 - 125 ( ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون، إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين، بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين )

 

قوله تعالى: « ولقد نصركم الله ببدر » كانت بدر يوم سبعة عشر من رمضان، يوم جمعة لثمانية عشر شهرا من الهجرة، وبدر ماء هنالك وبه سمي الموضع. وقال الشعبي: كان ذلك الماء لرجل من جهينة يسمى بدرا، وبه سمي الموضع. والأول أكثر. وقال الواقدي وغيره: بدر اسم لموضع غير منقول. وسيأتي في قصة بدر في « الأنفال » إن شاء الله تعالى. و « أذلة » معناها قليلون؛ وذلك أنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر أو أربعة عشر رجلا. وكان عدوهم ما بين التسعمائة إلى الألف. و « أذلة » جمع ذليل. واسم الذل في هذا الموضع مستعار، ولم يكونوا في أنفسهم إلا أعزة، ولكن نسبتهم إلى عدوهم وإلى جميع الكفار في أقطار الأرض تقتضي عند التأمل ذلتهم وأنهم يغلبون. والنصر العون؛ فنصرهم الله يوم بدر، وقتل فيه صناديد المشركين، وعلى ذلك اليوم أبتني الإسلام، وكان أول قتال قاتله النبي صلى الله عليه وسلم. وفي صحيح مسلم عن بريدة قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع عشرة غزوة، قاتل في ثمان منهن. وفيه عن ابن إسحاق قال: لقيت زيد بن أرقم فقلت له: كم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال تسع عشرة غزوة. فقلت: فكم غزوه أنت معه ؟ فقال: سبع عشرة غزوة. قال فقلت: فما أول غزوة غزاها ؟ قال: ذات العُسَير أو العشير. وهذا كله مخالف لما عليه أهل التواريخ والسير. قال محمد بن سعد في كتاب الطبقات له: إن غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع وعشرون غزوة، وسراياه ست وخمسون، وفي رواية ست وأربعون، والتي قاتل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر وأحد والمَرْيسيع والخندق وخيبر وقريظة والفتح وحنين والطائف. قال ابن سعد: هذا الذي اجتمع لنا عليه. وفي بعض الروايات أنه قاتل في بني النضير وفي وادي القرى منصرفه من خيبر وفي الغابة. وإذا تقرر هذا فنقول: زيد وبريدة إنما أخبر كل واحد منهما بما في علمه أو شاهده. وقول زيد: « إن أول غزاة غزاها ذات العسيرة » مخالف أيضا لما قال أهل التواريخ والسير. قال محمد بن سعد: كان قبل غزوة العشيرة ثلاث غزوات، يعني غزاها بنفسه. وقال ابن عبدالبر في كتاب الدرر في المغازي والسير. أول غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة وَدّان غزاها بنفسه في صفر؛ وذلك أنه وصل إلى المدينة لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، أقام بها بقية ربيع الأول، وباقي العام كله إلى صفر من سنة اثنتين من الهجرة: ثم خرج في صفر المذكور واستعمل على المدينة سعد بن عبادة حتى بلغ ودّان فوادع بني ضمرة، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق حربا، وهي المسماة بغزوة الأبواء. ثم أقام بالمدينة إلى شهر ربيع الآخر من السنة المذكورة، ثم خرج فيها واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون حتى بلغ بَواط من ناحية رَضْوى، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق حربا، ثم أقام بها بقية ربيع الآخر وبعض جمادى الأولى، ثم خرج غازيا واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبدالأسد، وأخذ على طريق مِلْك إلى العُسَيْرة.

قلت: ذكر ابن إسحاق عن عمار بن ياسر قال: كنت أنا وعلي بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة من بطن ينبع فلما نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بها شهرا فصالح بها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة فوادعهم؛ فقال لي علي بن أبي طالب: هل لك أبا اليقظان أن تأتي هؤلاء؟ نفر من بني مدلج يعملون في عين لهم ننظر كيف يعملون. فأتيناهم فنظرنا إليهم ساعة ثم غشينا النوم فعمدنا إلى صور من النخل في دَقْعاء من الأرض فنمنا فيه؛ فوالله ما أهبنا إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدمه؛ فجلسنا وقد تتربنا من تلك الدقعاء فيومئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: ( ما بالك يا أبا تراب ) ؛ فأخبرناه بما كان من أمرنا فقال: ( ألا أخبركم بأشقى الناس رجلين ) قلنا: بلى يا رسول الله؛ فقال: ( أُحَيْمِر ثمود الذي عقر الناقة والذي يضربك يا علي على هذه - ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على رأسه - حتى يَبَلّ منها هذه ) ووضع يده على لحيته. فقال أبو عمر: فأقام بها بقية جمادى الأولى وليالي من جمادى الآخرة، ووادع فيها بني مدلج ثم رجع ولم يلق حربا. ثم كانت بعد ذلك غزوة بدر الأولى بأيام قلائل، هذا الذي لا يشك فيه أهل التواريخ والسير، فزيد بن أرقم إنما أخبر عما عنده. والله أعلم. ويقال: ذات العسير بالسين والشين، ويزاد عليها هاء فيقال: العشيرة. ثم غزوة بدر الكبرى وهي أعظم المشاهد فضلا لمن شهدها، وفيها أمد الله بملائكته نبيه والمؤمنين في قول جماعة العلماء، وعليه يدل ظاهر الآية، لا في يوم أحد. ومن قال: إن ذلك كان يوم أحد جعل قوله تعالى: « ولقد نصركم الله ببدر » إلى قوله: « تشكرون » اعتراضا بين الكلامين. هذا قول عامر الشعبي، وخالفه الناس.

تظاهرت الروايات بأن الملائكة حضرت يوم بدر وقاتلت؛ ومن ذلك قول أبي أسيد مالك بن ربيعة وكان شهيد بدر: لو كنت معكم الآن ببدر ومعي بصري لأريتكم الشِّعْب الذي خرجت منه الملائكة، لا أشك ولا أمتري. رواه عقيل عن الزهري عن أبي حازم سلمة بن دينار. قال ابن أبي حاتم: لا يعرف للزهري عن أبي حازم غير هذا الحديث الواحد، وأبو أسيد يقال إنه آخر من مات من أهل بدر؛ ذكره أبو عمر في الاستيعاب وغيره. وفي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: ( اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني اللهم إن تَهْلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعْبَد في الأرض ) فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك؛ فأنزل الله عز وجل: « إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين » [ الأنفال: 9 ] فأمده الله تعالى بالملائكة. قال أبو زُمَيْل: فحدثني ابن عباس قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول: أقدِمْ حيزوم؛ فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا، فنظر إليه فإذا هو قد خُطِم أنفه وشق وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك أجمع. فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة ) فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين. وذكر الحديث. وسيأتي تمامه في آخر « الأنفال » إن شاء الله تعالى.

فتظاهرت السنة والقرآن على ما قاله الجمهور، والحمد لله. وعن خارجة بن إبراهيم عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: ( من القائل يوم بدر من الملائكة أقدم حيزوم ) ؟ فقال جبريل: ( يا محمد ما كل أهل السماء أعرف ) . وعن علي رضي الله عنه أنه خطب الناس فقال: بينا أنا أمتح من قليب بدر جاءت ريح شديدة لم أر مثلها قط، ثم ذهبت، ثم جاءت ريح شديدة لم أر مثلها قط إلا التي كانت قبلها. قال: وأظنه ذكر: ثم جاءت ريح شديدة، فكانت الريح الأولى جبريل نزل في ألف من الملائكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الريح الثانية ميكائيل نزل في ألف من الملائكة عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر عن يمينه، وكانت الريح الثالثة إسرافيل نزل في ألف من الملائكة عن ميسرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في الميسرة. وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: لقد رأيتنا يوم بدر وأن أحدنا يشير بسيفه إلى رأس المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه. وعن الربيع بن أنس قال: كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوهم بضرب فوق الأعناق وعلى البنان مثل سمة النار قد أحرق به؛ ذكر جميعه البيهقي رحمه الله. وقال بعضهم: إن الملائكة كانوا يقاتلون وكانت علامة ضربهم في الكفار ظاهرة؛ لأن كل موضع أصابت ضربتهم اشتعلت النار في ذلك الموضع، حتى إن أبا جهل قال لابن مسعود: أنت قتلني؟! إنما قتلني الذي لم يصل سناني إلى سُنْبُك فرسه وإن اجتهدت. وإنما كانت الفائدة في كثرة الملائكة لتسكين قلوب المؤمنين؛ ولأن الله تعالى جعل أولئك الملائكة مجاهدين إلى يوم القيامة؛ فكل عسكر صبر واحتسب تأتيهم الملائكة ويقاتلون معهم. وقال ابن عباس ومجاهد: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر، وفيما سوى ذلك يشهدون ولا يقاتلون إنما يكونون عددا أو مددا. وقال بعضهم: إنما كانت الفائدة في كثرة الملائكة أنهم كانوا يدعون ويسبحون، ويكثرون الذين يقاتلون يومئذ؛ فعلى هذا لم تقاتل الملائكة يوم بدر وإنما حضروا للدعاء بالتثبيت، والأول أكثر. قال قتادة: كان هذا يوم بدر، أمدهم الله بألف ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف؛ فذلك قوله تعالى: « إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين » وقوله: « ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين » [ آل عمران: 124 ] وقوله: « بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين » [ آل عمران: 125 ] فصبر المؤمنون يوم بدر واتقوا الله فأمدهم الله بخمسة آلاف من الملائكة على ما وعدهم؛ فهذا كله يوم بدر. وقال الحسن: فهؤلاء الخمسة آلاف ردء للمؤمنين إلى يوم القيامة. قال الشعبي: بلغ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين؛ فأنزل الله تعالى: « ألن يكفيكم إلى قوله: مسومين » فبلغ كرزا الهزيمة فلم يمدهم ورجع، فلم يمدهم الله أيضا بالخمسة آلاف، وكانوا قد مدوا بألف. وقيل: إنما وعد الله المؤمنين يوم بدر إن صبروا على طاعته، واتقوا محارمه أن يمدهم أيضا في حروبهم كلها، فلم يصبروا ولم يتقوا محارمه إلا في يوم الأحزاب، فأمدهم حين حاصروا قريظة. وقيل: إنما كان هذا يوم أحد، وعدهم الله المدد إن صبروا، فما صبروا فلم يمدهم بملك واحد، ولو أمدوا لما هزموا؛ قاله عكرمة والضحاك. فإن قيل: فقد ثبت عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن يساره يوم بدر رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه أشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد. قيل له: لعل هذا مختص بالنبي صلى الله عليه وسلم، خصه بملكين يقاتلان عنه، ولا يكون هذا إمدادا للصحابة. والله أعلم.

 

نزول الملائكة سبب من أسباب النصر لا يحتاج إليه الرب تعالى، وإنما يحتاج إليه المخلوق فليعلق القلب بالله وليثق به، فهو الناصر بسبب وبغير سبب؛ « إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون » [ يس: 82 ] . ولكن أخبر بذلك ليمتثل الخلق ما أمرهم به من الأسباب التي قد خلت من قبل، « ولن تجد لسنة الله تبديلا » [ الأحزاب: 62 ] ، ولا يقدح ذلك في التوكل. وهو رد على من قال: إن الأسباب إنما سنت في حق الضعفاء لا للأقوياء؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا الأقوياء وغيرهم هم الضعفاء؛ وهذا واضح. و « مد » في الشر و « أمد » في الخير. وقد تقدم في البقرة. وقرأ أبو حيوة « منزلين » بكسر الزاي مخففا، يعني منزلين النصر. وقرأ ابن عامر مشددة الزاي مفتوحة على التكثير. ثم قال: « بلى » وتم الكلام. « إن تصبروا » شرط، أي على لقاء العدو. « وتتقوا » عطف عليه، أي معصيته. والجواب « يمددكم » . ومعنى « من فورهم » من وجههم. هذا عن عكرمة وقتادة والحسن والربيع والسدي وابن زيد. وقيل: من غضبهم؛ عن مجاهد والضحاك. كانوا قد غضبوا يوم أحد ليوم بدر مما لقوا. وأصل الفور القصد إلى الشيء والأخذ فيه بجد؛ وهو من قولهم: فارت القدر تفور فورا وفورانا إذا غلت. والفور الغليان. وفار غضبه إذا جاش. وفعله من فوره أي قبل أن يسكن. والفوّارة ما يفور من القدر. وفي التنزيل « وفار التنور » { هود: 40 ] . قال الشاعر:

تفور علينا قدرهم فنديمها

 

قوله تعالى: « مسومين » بفتح الواو اسم مفعول، وهي قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي ونافع. أي معملين بعلامات. و « مسومين » بكسر الواو اسم فاعل، وهي قراءة أبي عمرو وابن كثير وعاصم؛ فيحتمل من المعنى ما تقدم، أي قد أعلموا أنفسهم بعلامة، وأعلموا خيلهم. ورجح الطبري وغيره هذه القراءة. وقال كثير من المفسرين: مسومين أي مرسلين خيلهم في الغارة. وذكر المهدوي هذا المعنى في « مسومين » بفتح الواو، أي أرسلهم الله تعالى على الكفار. وقاله ابن فورك أيضا. وعلى القراءة الأولى اختلفوا في سيما الملائكة؛ فروى عن علي بن أبي طالب وابن عباس وغيرهما أن الملائكة اعتمت بعمائم بيض قد أرسلوها بين أكتافهم؛ ذكره البيهقي عن ابن عباس وحكاه المهدوي عن الزجاج. إلا جبريل فإنه كان بعمامة صفراء على مثال الزبير بن العوام، وقاله ابن إسحاق. وقال الربيع: كانت سمياهم أنهم كانوا على خيل بُلْق.

قلت: ذكر البيهقي عن سهيل بن عمرو رضي الله عنه قال: لقد رأيت يوم بدر رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض معلمين يقتلون ويأسرون. فقوله: « معلمين » دل على أن الخيل البلق ليست السيما. والله أعلم. وقال مجاهد: كانت خيلهم مجزوزة الأذناب والأعراف معلمة النواصي والأذناب بالصوف والعهن. وروي عن ابن عباس: تسومت الملائكة يوم بدر بالصوف الأبيض في نواصي الخيل وأذنابها. وقال عباد بن عبدالله بن الزبير وهشام بن عروة والكلبي: نزلت الملائكة في سيما الزبير عليهم عمائم صفر مرخاة على أكتافهم. وقال ذلك عبدالله وعروة ابنا الزبير. وقال عبدالله: كانت ملاءة صفراء اعتم بها الزبير رضي الله عنه.

قلت: ودلت الآية على اتخاذ الشارة والعلامة للقبائل والكتائب يجعلها السلطان لهم؛ لتتميز كل قبيلة وكتيبة من غيرها عند الحرب، وعلى فضل الخيل البلق لنزول الملائكة عليها.

قلت: - ولعلها نزلت عليها موافقة لفرس المقداد؛ فإنه كان أبلق ولم يكن لهم فرس غيره، فنزلت الملائكة على الخيل البلق إكراما للمقداد؛ كما نزل جبريل معتجرا بعمامة صفراء على مثال الزبير. والله أعلم.

 

دلت الآية أيضا على لباس الصوف وقد لبسه الأنبياء والصالحون. وروى أبو داود وابن ماجة واللفظ له عن أبي بردة عن أبيه قال قال لي أبي: لو شهدتنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصابتنا السماء لحسبت أن ريحنا ريح الضأن. ولبس صلى الله عليه وسلم جبة رومية من صوف ضيقة الكمين؛ رواه الأئمة. ولبسها يونس عليه السلام؛ رواه مسلم. وسيأتي لهذا المعنى مزيد بيان في « النحل » إن شاء الله تعالى.

 

قلت: وأما ما ذكره مجاهد من أن خيلهم كانت مجزوزة الأذناب والأعراف فبعيد؛ فإن في مصنف أبي داود عن عتبة بن عبدالسلمي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا تقصوا نواصي الخيل ولا معارفها ولا أذنابها فإن أذنابها مذابها ومعارفها دفاؤها ونواصيها معقود فيها الخير ) . فقول مجاهد يحتاج إلى توقيف من أن خيل الملائكة كانت على تلك الصفة. والله أعلم.

ودلت الآية على حسن الأبيض والأصفر من الألوان لنزول الملائكة بذلك، وقد قال ابن عباس: من لبس نعلا أصفر قضيت حاجته. وقال عليه السلام: ( البسوا من ثيابكم البياض فإنه من خير ثيابكم وكفنوا فيه موتاكم وأما العمائم فتيجان العرب ولباسها ) . وروى ركانة - وكان صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم - قال ركانة: وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس ) أخرجه أبو داود. قال البخاري: إسناده مجهول لا يعرف سماع بعضه من بعض.

 

الآيتان: 126 - 127 ( وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم، ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين )

 

قوله تعالى: « وما جعله الله إلا بشرى لكم » الهاء للمدد، وهو الملائكة أو الوعد أو الإمداد، ويدل عليه « يمددكم » أو للتسويم أو للإنزال أو العدد على المعنى؛ لأن خمسة آلاف عدد. « ولتطمئن قلوبكم به » اللام لام كي، أي ولتطمئن قلوبكم به جعله؛ كقوله: « وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا » [ فصلت: 12 ] أي وحفظا لها جعل ذلك. « وما النصر إلا من عند الله » يعني نصر المؤمنين، ولا يدخل في ذلك نصر الكافرين؛ لأن ما وقع لهم من غلبة إنما هو إملاء محفوف بخذلان وسوء عاقبة وخسران. « ليقطع طرفا من الذين كفروا » أي بالقتل. ونظم الآية: ولقد نصركم الله ببدر ليقطع. وقيل: المعنى وما النصر إلا من عند الله ليقطع. ويجوز أن يكون متعلقا بـ « يمددكم » ، أي يمددكم ليقطع. والمعنى: من قتل من المشركين يوم بدر، عن الحسن وغيره. السدي: يعني به من قتل من المشركين يوم أحد وكانوا ثمانية عشر رجلا. ومعنى « يكبتهم » يحزنهم؛ والمكبوت المحزون. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى أبي طلحة فرأى ابنه مكبوتا فقال: ( ما شأنه ) ؟. فقيل: مات بعيره. وأصله فيما ذكر بعض أهل اللغة « يكبدهم » أي يصيبهم بالحزن والغيظ في أكبادهم، فأبدلت الدال تاء، كما قلبت في سَبَتَ رأسه وسبده أي حلقه. كبت الله العدو كبتا إذا صرفه وأذله، كبده، أصابه في كبده؛ يقال: قد أحرق الحزن كبده، وأحرقت العداوة كبده. وتقول العرب للعدو: أسود الكبد؛ قال الأعشى:

فما أجشمت من إتيان قوم هم الأعداء والأكباد سود

كأن الأكباد لما احترقت بشدة العداوة اسودت. وقرأ أبو مجلز « أو يكبدهم » بالدال. والخائب: المنقطع الأمل. خاب يخيب إذا لم ينل ما طلب. والخياب: القَدْح لا يوري.

 

الآيتان: 128 - 129 ( ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون، ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم )

 

ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد، وشج في رأسه، فجعل يسلت الدم عنه ويقول: ( كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله تعالى ) فأنزل الله تعالى: « ليس لك من الأمر شيء » . الضحاك: هَمَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو على المشركين فأنزل الله تعالى: « ليس لك من الأمر شيء » . وقيل: استأذن في أن يدعو في استئصالهم، فلما نزلت هذه الآية علم أن منهم من سيسلم وقد آمن كثير منهم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم. وروى الترمذي عن ابن عامر قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو على أربعة نفر فأنزل الله عز وجل: « ليس لك من الأمر شيء » فهداهم الله للإسلام وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح. وقوله تعالى: « أو يتوب عليهم » قيل: هو معطوف على « ليقطع طرفا » . والمعنى: ليقتل طائفة منهم، أو يحزنهم بالهزيمة أو يتوب عليهم أو يعذبهم. وقد تكون « أو » ها هنا بمعنى « حتى » و « إلا أن » . قال امرؤ القيس:

أو نموت فنعذرا

قال علماؤنا: قوله عليه السلام: ( كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم ) استبعاد لتوفيق من فعل ذلك به. وقوله تعالى: « ليس لك من الأمر شيء » تقريب لما استبعده وإطماع في إسلامهم، ولما أطمع في ذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) كما في صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: ( رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) . قال علماؤنا: فالحاكي في حديث ابن مسعود هو الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو المحكى عنه؛ بدليل ما قد جاء صريحا مبينا أنه عليه الصلاة والسلام لما كسرت رباعيته وشج وجهه يوم أحد شق ذلك على أصحابه شقا شديدا وقالوا: لو دعوت عليهم ! فقال: ( إني لم أبعث لَعّانا ولكني بعثت داعيا ورحمة، اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) . فكأنه عليه السلام أوحى إليه بذلك قبل وقوع قضية أحد، ولم يعين له ذلك النبي؛ فلما وقع له ذلك تعين أنه المعنى بذلك بدليل ما ذكرنا. ويبينه أيضا ما قاله عمر له في بعض كلامه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ! لقد دعا نوح على قومه فقال: « رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا » [ نوح: 26 ] الآية. ولو دعوت علينا مثلها لهلكنا من عند آخرنا؛ فقد وطئ ظهرك وأدمي وجهك وكسرت رباعيتك فأبيت أن تقول إلا خيرا، فقلت: ( رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) . وقوله: ( اشتد غضب الله على قوم كسروا رباعية نبيهم ) يعني بذلك المباشر لذلك، وقد ذكرنا اسمه على اختلاف في ذلك، وإنما قلنا إنه خصوص في المباشر؛ لأنه قد أسلم جماعة ممن شهد أحدا وحسن إسلامهم.

 

زعم بعض الكوفيين أن هذه الآية ناسخة للقنوت الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله بعد الركوع في الركعة الأخيرة من الصبح، واحتج بحديث ابن عمر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في صلاة الفجر بعد رفع رأسه من الركوع فقال: ( اللهم ربنا ولك الحمد في الآخرة - ثم قال - اللهم العن فلانا وفلانا ) فأنزل الله عز وجل « وليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم » الآية. أخرجه البخاري، وأخرجه مسلم أيضا من حديث أبي هريرة أتم منه. وليس هذا موضع نسخ وإنما نبه الله تعالى نبيه على أن الأمر ليس إليه، وأنه لا يعلم من الغيب شيئا إلا ما أعلمه، وأن الأمر كله لله يتوب على من يشاء ويجعل العقوبة لمن يشاء. والتقدير: ليس لك من الأمر شيء ولله ما في السموات وما في الأرض دونك ودونهم يغفر لمن يشاء ويتوب على من يشاء. فلا نسخ، والله أعلم. وبين بقوله: « ليس لك من الأمر شيء » أن الأمور بقضاء الله وقدره ردا على القدرية وغيرهم.

 

واختلف العلماء في القنوت في صلاة الفجر وغيرها؛ فمنع الكوفيون منه في الفجر وغيرها. وهو مذهب الليث ويحيى بن يحيى الليثي الأندلسي صاحب مالك، وأنكره الشعبي. وفي الموطأ عن ابن عمر: أنه كان لا يقنت في شيء من الصلاة. وروى النسائي أنبأنا قتيبة عن خلف عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقنت، وصليت خلف أبي بكر فلم يقنت، وصليت خلف عمر فلم يقنت، وصليت خلف عثمان فلم يقنت وصليت خلف علي فلم يقنت؛ ثم قال: يا بني إنها بدعة. وقيل: يقنت في الفجر دائما وفي سائر الصلوات إذا نزل بالمسلمين نازلة؛ قاله الشافعي والطبري. وقيل: هو مستحب في صلاة الفجر، وروي عن الشافعي. وقال الحسن وسحنون: إنه سنة. وهو مقتضى رواية علي بن زياد عن مالك بإعادة تاركه للصلاة عمدا. وحكى الطبري الإجماع على أن تركه غير مفسد للصلاة. وعن الحسن: في تركه سجود السهو؛ وهو أحد قولي الشافعي. وذكر الدارقطني عن سعيد بن عبدالعزيز فيمن نسي القنوت في صلاة الصبح قال: يسجد سجدتي السهو. واختار مالك قبل الركوع؛ وهو قول إسحاق. وروي أيضا عن مالك بعد الركوع، وروي عن الخلفاء الأربعة، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق أيضا. وروى عن جماعة من الصحابة التخيير في ذلك. وروى الدارقطني بإسناد صحيح عن أنس أنه قال: ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في صلاة الغداة حتى فارق الدنيا. وذكر أبو داود في المراسيل عن خالد بن أبي عمران قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على مضر إذ جاءه جبريل فأومأ إليه أن اسكت فسكت؛ فقال: ( يا محمد إن الله لم يبعثك سبّابا ولا لعّانا وإنما بعثك رحمة ولم يبعثك عذابا، ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ) قال: ثم علمه هذا القنوت فقال: ( اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونؤمن بك ونخنع لك ونخلع ونترك من يكفرك اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد ونرجو رحمتك ونخاف عذابك الجد إن عذابك بالكافرين ملحق ) .

 

الآيات: 130 - 132 ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون، واتقوا النار التي أعدت للكافرين، وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون )

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة » هذا النهي عن أكل الربا اعتراض بيّن أثناء قصة أحد. قال ابن عطية: ولا أحفظ في ذلك شيئا مرويا.

قلت: قال مجاهد: كانوا يبيعون البيع إلى أجل، فإذا حل الأجل زادوا في الثمن على أن يؤخروا؛ فأنزل الله عز وجل: « يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة » قلت وإنما خص الربا من بين سائر المعاصي؛ لأنه الذي أذن الله فيه بالحرب في قوله: « فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله » [ البقرة: 279 ] والحرب يؤذن بالقتل؛ فكأنه يقول: إن لم تتقوا الربا هزمتم وقتلتم. فأمرهم بترك الربا؛ لأنه كان معمولا به عندهم. والله أعلم. و « أضعافا » نصب على الحال و « مضاعفة » نعته. وقرئ « مضعفة » ومعناه: الربا الذي كانت العرب تضعف فيه الدّين، فكان الطالب يقول: أتقضي أم تربي ؟ كما تقدم في « البقرة » . و « مضاعفة » إشارة إلى تكرار التضعيف عاما بعد عام كما كانوا يصنعون؛ فدلت هذه العبارة المؤكدة على شنعة فعلهم وقبحه، ولذلك ذكرت حالة التضعيف خاصة.

 

قوله تعالى: « واتقوا الله » أي في أموال الربا فلا تأكلوها. ثم خوفهم فقال: « واتقوا النار التي أعدت للكافرين » قال كثير من المفسرين: وهذا الوعيد لمن استحل الربا، ومن استحل الربا فإنه يكْفُر ويُكَفّر. وقيل: معناه اتقوا العمل الذي ينزع منكم الإيمان فتستوجبون النار؛ لأن من الذنوب ما يستوجب به صاحبه نزع الإيمان ويخاف عليه؛ من ذلك عقوق الوالدين. وقد جاء في ذلك أثر: أن رجلا كان عاقا لوالديه يقال له علقمة؛ فقيل له عن [ عند ] الموت: قل لا إله إلا الله، فلم يقدر على ذلك حتى جاءته أمه فرضيت عنه. ومن ذلك قطيعة الرحم وأكل الربا والخيانة في الأمانة. وذكر أبو بكر الوراق عن أبي حنيفة أنه قال: أكثر ما ينزع الإيمان من العبد عند الموت. ثم قال أبو بكر: فنظرنا في الذنوب التي تنزع الإيمان فلم نجد شيئا أسرع نزعا للإيمان من ظلم العباد. وفي هذه الآية دليل على أن النار مخلوقة ردا على الجهمية؛ لأن المعدوم لا يكون معدا. ثم قال: « وأطيعوا الله » يعني أطيعوا الله في الفرائض « والرسول » في السنن: وقيل: « أطيعوا الله » في تحريم الربا « والرسول » فيما بلغكم من التحريم. « لعلكم ترحمون » أي كي يرحمكم الله. وقد تقدم.

 

الآية: 133 ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين )

 

قوله تعالى: « وسارعوا » قرأ نافع وابن عامر « سارعوا » بغير واو؛ وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة وأهل الشام. وقرأ باقي السبعة « وسارعوا » . وقال أبو علي: كلا الأمرين شائع مستقيم، فمن قرأ بالواو فلأنه عطف الجملة على الجملة، ومن ترك الواو فلأن الجملة الثانية ملتبسة بالأولى مستغنية بذلك عن العطف بالواو. والمسارعة المبادرة، وهي مفاعلة. وفي الآية حذف. أي سارعوا إلى ما يوجب المغفرة وهي الطاعة. قال أنس بن مالك ومكحول في تفسير « سارعوا إلى مغفرة من ربكم » : معناه إلى تكبيرة الإحرام. وقال علي بن أبي طالب: إلى أداء الفرائض. عثمان بن عفان: إلى الإخلاص. الكلبي: إلى التوبة من الربا. وقيل: إلى الثبات في القتال. وقيل غير هذا. والآية عامة في الجميع، ومعناها معنى « فاستبقوا الخيرات » [ البقرة: 148 ] وقد تقدم.

 

قوله تعالى: « وجنة عرضها السموات والأرض » تقديره كعرض فحذف المضاف؛ كقوله: « ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة » [ لقمان: 28 ] أي إلا كخلق نفس واحدة وبعثها. قال الشاعر:

حسبت بغام راحلتي عناقا وما هي ويب غيرك بالعناق

يريد صوت عناق. نظيره في سورة الحديد « وجنة عرضها كعرض السماء والأرض » [ الحديد: 21 ] .

واختلف العلماء في تأويله؛ فقال ابن عباس: تقرن السموات والأرض بعضها إلى بعض كما تبسط الثياب ويوصل بعضها ببعض؛ فذلك عرض الجنة، ولا يعلم طولها إلا الله. وهذا قول الجمهور، وذلك لا ينكر؛ فإن في حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم ( ما السموات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كدراهم ألقيت في فلاة من الأرض وما الكرسي في العرش إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض ) . فهذه مخلوقات أعظم بكثير جدا من السموات والأرض، وقدرة الله أعظم من ذلك كله. وقال الكلبي: الجنان أربعة: جنة عدن وجنة المأوى وجنة الفردوس وجنة النعيم، وكل جنة منها كعرض السماء والأرض لو وصل بعضها ببعض. وقال إسماعيل السدي: لو كسرت السموات والأرض وصرن خردلا، فبكل خردلة جنة عرضها كعرض السماء والأرض. وفي الصحيح: ( إن أدنى أهل الجنة منزلة من يتمنى ويتمنى حتى إذا انقطعت به الأماني قال الله تعالى: لك ذلك وعشرة أمثاله ) رواه أبو سعيد الخدري، خرجه مسلم وغيره. وقال يعلى بن أبي مرة: لقيت التنوخي رسول هرقل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحمص شيخا كبيرا قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب هرقل، فناول الصحيفة رجلا عن يساره؛ قال: فقلت من صاحبكم الذي يقرأ ؟ قالوا: معاوية؛ فإذا كتاب صاحبي: إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض فأين النار ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار ) . وبمثل هذه الحجة استدل الفاروق على اليهود حين قالوا له: أرأيت قولكم « وجنة عرضها السموات والأرض » فأين النار ؟ فقالوا له: لقد نزعت بما في التوراة. ونبه تعالى بالعرض على الطول لأن الغالب أن الطول يكون أكثر من العرض، والطول إذا ذكر لا يدل على قدر العرض. قال الزهري: إنما وصف عرضها، فأما طولها فلا يعلمه إلا الله؛ وهذا كقوله تعالى: « متكئين على فرش بطائنها من إستبرق » [ الرحمن: 54 ] فوصف البطانة بأحسن ما يعلم من الزينة، إذ معلوم أن الظواهر تكون أحسن وأتقن من البطائن. وتقول العرب: بلاد عريضة، وفلاة عريضة، أي واسعة؛ قال الشاعر:

كأن بلاد الله وهي عريضة على الخائف المطلوب كفة حابل

وقال قوم: الكلام جار على مقطع العرب من الاستعارة؛ فلما كانت الجنة من الاتساع والانفساح في غاية قصوى حسنت العبارة عنها بعرض السموات والأرض؛ كما تقول للرجل: هذا بحر، ولشخص كبير من الحيوان: هذا جبل. ولم تقصد الآية تحديد العرض، ولكن أراد بذلك أنها أوسع شيء رأيتموه. وعامة العلماء على أن الجنة مخلوقة موجودة: لقوله « أعدت للمتقين » وهو نص حديث الإسراء وغيره في الصحيحين وغيرهما. وقالت المعتزلة: إنهما غير مخلوقتين في وقتنا، وإن الله تعالى إذا طوى السموات والأرض ابتدأ خلق الجنة والنار حيث شاء؛ لأنهما دار جزاء بالثواب والعقاب، فخلقتا بعد التكليف في وقت الجزاء؛ لئلا تجتمع دار التكليف ودار الجزاء في الدنيا، كما لم يجتمعا في الآخرة. وقال ابن فورك: الجنة يزاد فيها يوم القيامة. قال ابن عطية: وفي هذا متعلق لمنذر بن سعيد وغيره ممن قال: إن الجنة لم تخلق بعد. قال ابن عطية: وقول ابن فورك « يزاد فيها » إشارة إلى موجود، لكنه يحتاج إلى سند يقطع العذر في الزيادة.

قلت: صدق ابن عطية رضي الله عنه فيما قال: وإذا كانت السموات السبع والأرضون السبع بالنسبة إلى الكرسي كدراهم ألقيت في فلاة من الأرض، والكرسي بالنسبة إلى العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة؛ فالجنة الآن على ما هي عليه في الآخرة عرضها كعرض السموات والأرض؛ إذ العرش سقفها، حسب ما ورد في صحيح مسلم. ومعلوم أن السقف يحتوي على ما تحته ويزيد. وإذا كانت المخلوقات كلها بالنسبة إليه كالحلقة فمن ذا الذي يقدره ويعلم طوله وعرضه إلا الله خالقه الذي لا نهاية لقدرته، ولا غاية لسعة مملكته، سبحانه وتعالى.

 

الآية: 134 ( الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين )

 

قوله تعالى: « الذين ينفقون » هذا من صفة المتقين الذين أعدت لهم الجنة، وظاهر الآية أنها مدح بفعل المندوب إليه. و « السراء » اليسر « والضراء » العسر؛ قاله ابن عباس والكلبي ومقاتل. وقال عبيد بن عمير والضحاك: السراء والضراء الرخاء والشدة. ويقال في حال الصحة والمرض. وقيل: في السراء في الحياة، وفي الضراء يعني يوصي بعد الموت. وقيل: في السراء في العرس والولائم، وفي الضراء في النوائب والمآتم. وقيل: في السراء النفقة التي تسركم؛ مثل النفقة على الأولاد والقرابات، والضراء على الأعداء. ويقال: في السراء ما يضيف به الفتى ويهدى إليه. والضراء ما ينفقه على أهل الضر ويتصدق به عليهم.

قلت: - والآية تعم.

 

قوله تعالى: « والكاظمين الغيظ » وكظم الغيظ رده في الجوف؛ يقال: كظم غيظه أي سكت عليه ولم يظهره مع قدرته على إيقاعه بعدوه، وكظمت السقاء أي ملأته وسددت عليه، والكِظامة ما يسد به مجرى الماء؛ ومنه الكظام للسير الذي يسد به فم الزِّق والقِربة. وكظم البعير جِرته إذا ردها في جوفه؛ وقد يقال لحبسه الجرة قبل أن يرسلها إلى فيه: كظم؛ حكاه الزجاج. يقال: كظم البعير والناقة إذا لم يجترا؛ ومنه قول الراعي:

فأفضن بعد كظومهن بجرة من ذي الأبارق إذ رعين حقيلا

الحقيل: موضع. والحِقيل: نبت. وقد قيل: إنها تفعل ذلك عند الفزع والجهد فلا تجتر؛ قال أعشى باهلة يصف رجلا نحارا للإبل فهي تفزع منه:

قد تكظم البُزْل منه حين تبصره حتى تقطع في أجوافها الجِرَرُ

ومنه: رجل كظيم ومكظوم إذا كان ممتلئا غما وحزنا. وفي التنزيل: « وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم » [ يوسف: 84 ] . « ظل وجهه مسودا وهو كظيم » [ النحل: 58 ] . « إذ نادى وهو مكظوم » [ القلم: 48 ] . والغيظ أصل الغضب، وكثيرا ما يتلازمان لكن فُرقان ما بينهما، أن الغيظ لا يظهر على الجوارح، بخلاف الغضب فإنه يظهر في الجوارح مع فعل ما ولا بد؛ ولهذا جاء إسناد الغضب إلى الله تعالى إذ هو عبارة عن أفعاله في المغضوب عليهم. وقد فسر بعض الناس الغيظ بالغضب؛ وليس بجيد. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « والعافين عن الناس » العفو عن الناس أجل ضروب فعل الخير؛ حيث يجوز للإنسان أن يعفو وحيث يتجه حقه. وكل من استحق عقوبة فتركت له فقد عفي عنه. واختلف في معنى « عن الناس » ؛ فقال أبو العالية والكلبي والزجاج: « والعافين عن الناس » يريد عن المماليك. قال ابن عطية: وهذا حسن على جهة المثال؛ إذ هم الخَدَمَة فهم يذنبون كثيرا والقدرة عليهم متيسرة، وإنفاذ العقوبة سهل؛ فلذلك مثل هذا المفسر به. وروي عن ميمون بن مهران أن جاريته جاءت ذات يوم بصحفة فيها مرقة حارة، وعنده أضياف فعثرت فصبت المرقة عليه، فأراد ميمون أن يضربها، فقالت الجارية: يا مولاي، استعمل قوله تعالى: « والكاظمين الغيظ » قال لها: قد فعلت. فقالت: اعمل بما بعده « والعافين عن الناس » . فقال: قد عفوت عنك. فقالت الجارية: « والله يحب المحسنين » . قال ميمون: قد أحسنت إليك، فأنت حرة لوجه الله تعالى. وروي عن الأحنف بن قيس مثله. وقال زيد بن سلم: « والعافين عن الناس » عن ظلمهم وإساءتهم. وهذا عام، وهو ظاهر الآية. وقال مقاتل بن حيان في هذه الآية: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عند ذلك: ( إن هؤلاء من أمتي قليل إلا من عصمه الله وقد كانوا كثيرا في الأمم التي مضت ) . فمدح الله تعالى الذين يغفرون عند الغضب وأثنى عليهم فقال: « وإذا ما غضبوا هم يغفرون » [ الشورى: 37 ] ، وأثنى على الكاظمين الغيظ بقوله: « والعافين عن الناس » ، وأخبر أنه يحبهم بإحسانهم في ذلك. ووردت في كظم الغيظ والعفو عن الناس وملك النفس عند الغضب أحاديث؛ وذلك من أعظم العبادة وجهاد النفس؛ فقال صلى الله عليه وسلم: ( ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ) . وقال عليه السلام ( ما من جرعة يتجرعها العبد خير له وأعظم أجرا من جرعة غيظ في الله ) . وروى أنس أن رجلا قال: يا رسول الله، ما أشد من كل شيء ؟ قال: ( غضب الله ) . قال فما ينجي من غضب الله؟ قال: ( لا تغضب ) . قال العرجي:

وإذا غضبت فكن وقورا كاظما للغيظ تبصر ما تقول وتسمع

فكفى به شرفا تصبر ساعة يرضى بها عنك الإله وترفع

وقال عروة بن الزبير في العفو:

لن يبلغ المجد أقوام وإن شرفوا حتى يذلوا وإن عزوا لأقوام

ويشتموا فترى الألوان مشرقة لا عفو ذل ولكن عفو إكرام

وروى أبو داود وأبو عيسى الترمذي عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء ) قال: هذا حديث حسن غريب. وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا كان يوم القيامة نادى مناد من كان أجره على الله فليدخل الجنة فيقال من ذا الذي أجره على الله فيقوم العافون عن الناس يدخلون الجنة بغير حساب ) . ذكره الماوردي. وقال ابن المبارك: كنت عند المنصور جالسا فأمر بقتل رجل؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا كان يوم القيامة نادى مناد بين يدي الله عز وجل من كانت له يد عند الله فليتقدم فلا يتقدم إلا من عفا عن ذنب ) ؛ فأمر بإطلاقه.

 

قوله تعالى: « والله يحب المحسنين » أي يثيبهم على إحسانهم. قال سري السقطي: الإحسان أن تحسن وقت الإمكان، فليس كل وقت يمكنك الإحسان؛ قال الشاعر:

بادر بخير إذا ما كنت مقتدرا فليس في كل وقت أنت مقتدر

وقال أبو العباس الجماني فأحسن:

ليس في كل ساعة وأوان تتهيأ صنائع الإحسان

وإذا أمكنت فبادر إليها حذرا من تعذر الإمكان

وقد مضى في « البقرة » القول في المحسن والإحسان فلا معنى للإعادة.

 

الآية: 135 ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون )

 

قوله تعالى: « والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم » ذكر الله تعالى في هذه الآية صنفا، هم دون الصنف الأول فألحقهم به برحمته ومَنِّه؛ فهؤلاء هم التوابون. قال ابن عباس في رواية عطاء: نزلت هذه الآية في نبهان التمار - وكنيته أبو مقبل - أتته امرأة حسناء باع منها تمرا، فضمها إلى نفسه وقبلها فندم على ذلك، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له؛ فنزلت هذه الآية. وذكر أبو داود الطيالسي في مسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: حدثني أبو بكر - وصدق أبو بكر - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من عبد يذنب ذنبا ثم يتوضأ ويصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر له ) - ثم تلا هذه الآية - « والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم » - الآية، والآية الأخرى - « ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه » [ النساء: 110 ] . وخرجه الترمذي وقال: حديث حسن. وهذا عام. وقد تنزل الآية بسبب خاص ثم تتناول جميع من فعل ذلك أو أكثر منه. وقد قيل: إن سبب نزولها أن ثقفيا خرج في غزاة وخلف صاحبا له أنصاريا على أهله، فخانه فيها بأن اقتحم عليها فدفعت عن نفسها فقبل يدها، فندم على ذلك فخرج يسيح في الأرض نادما تائبا؛ فجاء الثقفي فأخبرته زوجته بفعل صاحبه، فخرج في طلبه فأتى به إلى أبي بكر وعمر رجاء أن يجد عندهما فرجا فوبخاه؛ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بفعله؛ فنزلت هذه الآية. والعموم أولى للحديث. وروي عن ابن مسعود أن الصحابة قالوا: يا رسول الله، كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا، حيث كان المذنب منهم تصبح عقوبته مكتوبة على باب داره، وفي رواية: كفارة ذنبه مكتوبة على عتبة داره: اجْدَع أنفك، اقطع أذنك، افعل كذا؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية توسعة ورحمة وعوضا من ذلك الفعل ببني إسرائيل. ويروى أن إبليس بكى حين نزلت هذه الآية. والفاحشة تطلق على كل معصية، وقد كثر اختصاصها بالزنا حتى فسر جابر بن عبدالله والسدي هذه الآية بالزنا. و « أو » في قوله: « أو ظلموا أنفسهم » قيل هي بمعنى الواو؛ والمراد ما دون الكبائر. « ذكروا الله » معناه بالخوف من عقابه والحياء منه. الضحاك: ذكروا العرض الأكبر على الله. وقيل تفكروا في أنفسهم أن الله سائلهم عنه؛ قاله الكلبي ومقاتل. وعن مقاتل أيضا: ذكروا الله باللسان عند الذنوب. « فاستغفروا لذنوبهم » أي طلبوا الغفران لأجل ذنوبهم. وكل دعاء فيه هذا المعنى أو لفظه فهو استغفار. وقد تقدم في صدر هذه السورة سيد الاستغفار وإن وقته الأسحار. فالاستغفار عظيم وثوابه جسيم، حتى لقد روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر له وإن كان قد فر من الزحف ) . وروى مكحول عن أبي هريرة قال: ما رأيت أكثر استغفارا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال مكحول: ما رأيت أكثر استغفارا من أبي هريرة. وكان مكحول كثير الاستغفار. قال علماؤنا: الاستغفار المطلوب هو الذي يحل عقد الإصرار ويثبت معناه في الجنان، لا التلفظ باللسان. فأما من قال بلسانه: أستغفر الله، وقلبه مصر على معصيته فاستغفاره ذلك يحتاج إلى استغفار، وصغيرته لاحقة بالكبائر. وروي عن الحسن البصري أنه قال: استغفارنا يحتاج إلى استغفار.

قلت: هذا يقوله في زمانه، فكيف في زماننا هذا الذي يرى فيه الإنسان مكبا على الظلم ! حريصا عليه لا يقلع، والسُّبْحة في يده زاعما أنه يستغفر الله من ذنبه وذلك استهزاء منه واستخفاف. وفي التنزيل « ولا تتخذوا آيات الله هزوا » [ البقرة: 231 ] . وقد تقدم.

 

قوله تعالى: « ومن يغفر الذنوب إلا الله » أي ليس أحد يغفر المعصية ولا يزيل عقوبتها إلا الله. « ولم يصروا على ما فعلوا » أي ولم يثبتوا ويعزموا على ما فعلوا. وقال مجاهد: أي ولم يمضوا. وقال معبد بن صبيح: صليت خلف عثمان وعلي إلى جانبي، فأقبل علينا فقال: صليت بغير وضوء ثم ذهب فتوضأ وصلى. « ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون » . الإصرار هو العزم بالقلب على الأمر وترك الإقلاع عنه. ومنه صر الدنانير أي الربط عليها؛ قال الحطيئة يصف الخيل:

عوابس بالشُّعْث الكماة إذا ابتغوا عُلالتها بالمحصدات أصرت

أي ثبتت على عدْوِها. وقال قتادة: الإصرار الثبوت على المعاصي؛ قال الشاعر:

يصر بالليل ما تخفي شواكله يا ويح كل مصر القلب ختار

قال سهل بن عبدالله: الجاهل ميت، والناسي نائم، والعاصي سكران، والمصر هالك، والإصرار هو التسويف، والتسويف أن يقول: أتوب غدا؛ وهذا دعوى النفس، كيف يتوب غدا لا يملكه!. وقال غير سهل: الإصرار هو أن ينوي ألاّ يتوب فإذا نوى التوبة النصوح خرج عن الإصرار. وقول سهل أحسن. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا توبة مع إصرار ) .

 

قال علماؤنا: الباعث على التوبة وحل الإصرار إدامة الفكر في كتاب الله العزيز الغفار، وما ذكره الله سبحانه من تفاصيل الجنة ووعد به المطيعين، وما وصفه من عذاب النار وتهدد به العاصين، ودام على ذلك حتى قوي خوفه ورجاؤه فدعا الله رغبا ورهبا؛ والرغبة والرهبة ثمرة الخوف والرجاء، يخاف من العقاب ويرجو الثواب، والله الموفق للصواب. وقد قيل: إن الباعث على ذلك تنبيه إلهي ينبه به من أراد سعادته؛ لقبح الذنوب وضررها إذ هي سموم مهلكة.

قلت: وهذا خلاف في اللفظ لا في المعنى، فإن الإنسان لا يتفكر في وعد الله ووعيده إلا بتنبيهه؛ فإذا نظر العبد بتوفيق الله تعالى إلى نفسه فوجدها مشحونة بذنوب اكتسبها وسيئات اقترفها، وانبعث منه الندم على ما فرط، وترك مثل ما سبق مخافة عقوبة الله تعالى صدق عليه أنه تائب، فإن لم يكن كذلك كان مصرا على المعصية وملازما لأسباب الهلكة. قال سهل بن عبدالله: علامة التائب أن يشغله الذنب على الطعام والشراب؛ كالثلاثة الذين خُلِّفوا.

 

قوله تعالى: « وهم يعلمون » فيه أقوال. فقيل: أي يذكرون ذنوبهم فيتوبون منها. قال النحاس: وهذا قول حسن. وقيل: « وهم يعلمون » أني أعاقب على الإصرار. وقال عبدالله بن عبيد بن عمير: « وهم يعلمون » أنهم إن تابوا تاب الله عليهم. وقيل: « يعلمون » أنهم إن استغفروا غفر لهم. وقيل: « يعلمون » بما حرمت عليهم؛ قاله ابن إسحاق. وقال ابن عباس والحسن ومقاتل والكلبي: « وهم يعلمون » أن الإصرار ضار، وأن تركه خير من التمادي. وقال الحسن بن الفضل: « وهم يعلمون » أن لهم ربا يغفر الذنب.

قلت: وهذا أخذه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل قال: ( أذنب عبد ذنبا فقال اللهم اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال أي رب اغفر لي ذنبي - فذكر مثله مرتين، وفي آخره: اعمل ما شئت فقد غفرت لك ) أخرجه مسلم. وفيه دليل على صحة التوبة بعد نقضها بمعاودة الذنب؛ لأن التوبة الأولى طاعة وقد انقضت وصحت، وهو محتاج بعد مواقعة الذنب الثاني إلى توبة أخرى مستأنفة، والعود إلى الذنب وإن كان أقبح من ابتدائه؛ لأنه أضاف إلى الذنب نقض التوبة، فالعود إلى التوبة أحسن من ابتدائها؛ لأنه أضاف إليها ملازمة الإلحاح بباب الكريم، وإنه لا غافر للذنوب سواه. وقوله في آخر الحديث ( اعمل ما شئت ) أمر معناه الإكرام في أحد الأقوال؛ فيكون من باب قوله: « ادخلوها بسلام » [ الحجر: 46 ] . وآخر الكلام خبر عن حال المخاطب بأنه مغفور له ما سلف من ذنبه، ومحفوظ إن شاء الله تعالى فيما يستقبل من شأنه. ودلت الآية والحديث على عظيم فائدة الاعتراف بالذنب والاستغفار منه، قال صلى الله عليه وسلم: ( إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه ) أخرجاه في الصحيحين. وقال:

يستوجب العفو الفتى إذا اعترف بما جنى من الذنوب واقترف

وقال آخر:

أقرر بذنبك ثم اطلب تجاوزه إن الجحود جحود الذنب ذنبان

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم ) . وهذه فائدة اسم الله تعالى الغفار والتواب، على ما بيناه في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى.

 

الذنوب التي يتاب منها إما كفر أو غيره، فتوبة الكافر إيمانه مع ندمه على ما سلف من كفره، وليس مجرد الإيمان نفس توبة، وغير الكفر إما حق لله تعالى، وإما حق لغيره، فحق الله تعالى يكفي في التوبة منه الترك؛ غير أن منها ما لم يكتف الشرع فيها بمجرد الترك بل أضاف إلى ذلك في بعضها قضاء كالصلاة والصوم، ومنها ما أضاف إليها كفارة كالحنث في الأيمان والظهار وغير ذلك، وأما حقوق الآدميين فلا بد من إيصالها إلي مستحقيها، فإن لم يوجدوا تصدق عنهم، ومن لم يجد السبيل لخروج ما عليه لإعسار فعفو الله مأمول، وفضله مبذول؛ فكم ضمن من التبعات وبدل من السيئات بالحسنات. وستأتي زيادة بيان لهذا المعنى.

 

ليس على الإنسان إذا لم يذكر ذنبه ويعلمه أن يتوب منه بعينه، ولكن يلزمه إذا ذكر ذنبا تاب منه. وقد تأول كثير من الناس فيما ذكر شيخنا أبو محمد عبدالمعطي الإسكندراني رضي الله عنه أن الإمام المحاسبي رحمه الله يرى أن التوبة من أجناس المعاصي لا تصح، وإن الندم على جملتها لا يكفي، بل لا بد أن يتوب من كل فعل بجارحته وكل عقد بقلبه على التعيين. ظنوا ذلك من قوله، وليس هذا مراده، ولا يقتضيه كلامه، بل حكم المكلف إذا عرف حكم أفعاله، وعرف المعصية من غيرها، صحت منه التوبة من جملة ما عرف؛ فإنه إن لم يعرف كون فعله الماضي معصية لا يمكنه أن يتوب منه لا على الجملة ولا على التفصيل؛ ومثاله رجل كان يتعاطى بابا من أبواب الربا ولا يعرف أنه ربا فإذا سمع كلام الله عز وجل: « يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله » [ البقرة: 279 ] عظم عليه هذا التهديد، وظن أنه سالم من الربا، فإذا علم حقيقة الربا الآن، ثم تفكر فيما مضى من أيامه وعلم أنه لابس منه شيئا كثيرا في أوقات متقدمة، صح أن يندم عليه الآن جملة، ولا يلزمه تعيين أوقاته، وهكذا كل ما واقع من الذنوب والسيئات كالغيبة والنميمة وغير ذلك من المحرمات التي لم يعرف كونها محرمة، فإذا فقه العبد وتفقد ما مضى من كلامه تاب من ذلك جملة، وندم على ما فرط فيه من حق الله تعالى، وإذا استحل من كان ظلمه فحالَلَه على الجملة وطابت نفسه بترك حقه جاز؛ لأنه من باب هبة المجهول، هذا مع شح العبد وحرصه على طلب حقه، فكيف بأكرم الأكرمين المتفضل بالطاعات وأسبابها والعفو عن المعاصي صغارها وكبارها. قال شيخنا رحمه الله تعالى: هذا مراد الإمام، والذي يدل عليه كلامه لمن تفقده، وما ظنه به الظان من أنه لا يصح الندم إلا على فعل فعل وحركة حركة وسكنة سكنة على التعيين هو من باب تكليف مالا يطاق، الذي لم يقع شرعا وإن جاز عقلا، ويلزم عنه أن يعرف كم جرعة جرعها في شرب الخمر، وكم حركة تحركها في الزنا، وكم خطوة مشاها إلى محرم، وهذا مالا يطيقه أحد، ولا تتأتى منه توبة على التفصيل. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان من أحكام التوبة وشروطها في « النساء » وغيرها إن شاء الله تعالى.

 

في قوله تعالى: « ولم يصروا » حجة واضحة ودلالة قاطعة لما قاله سيف السنة، ولسان الأمة القاضي أبو بكر بن الطيب: أن الإنسان يؤاخذ بما وطن عليه بضميره، وعزم عليه بقلبه من المعصية.

قلت: وفي التنزيل: « ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم » [ الحج: 25 ] وقال: « فأصبحت كالصريم » [ القلم: 20 ] . فعوقبوا قبل فعلهم بعزمهم وسيأتي بيانه. وفي البخاري ( إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار ) قالوا: يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول ؟ قال: ( إنه كان حريصا على قتل صاحبه ) . فعلق الوعيد على الحرص وهو العزم وألغى إظهار السلاح، وأنَصُّ من هذا ما خرجه الترمذي من حديث أبي كبشة الأنماري وصححه مرفوعا ( إنما الدنيا لأربعة نفر رجل أعطاه الله مالا وعلما فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعلم الله فيه حقا فهذا بأفضل المنازل، ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا فهو صادق النية يقول لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو نيته فأجرهما سواء، ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما فهو يخبط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه ولا يصل به رحمه ولا يعلم لله فيه حقا فهذا بأخبث المنازل، ورجل لم يؤته الله مالا ولا علما فهو يقول لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو نيته فوزرهما سواء ) . وهذا الذي صار إليه القاضي هو الذي عليه عامة السلف وأهل العلم من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين، ولا يُلتفت إلى خلاف من زعم أن ما يهم الإنسان به وإن وطن عليه لا يؤاخذ به. ولا حجة له في قوله عليه السلام: ( من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه فإن عمِلها كتبت سيئة واحدة ) لأن معنى ( فلم يعملها ) فلم يعزم على عملها بدليل ما ذكرنا، ومعنى ( فإن عملها ) أي أظهرها أو عزم عليها بدليل ما وصفنا. وبالله توفيقنا.

 

الآية: 136 ( أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين )

 

رتب تعالى بفضله وكرمه غفران الذنوب لمن أخلص في توبته ولم يصر على ذنبه. ويمكن أن يتصل هذا بقصة أحد، أي من فر ثم تاب ولم يصر فله مغفرة الله.

 

الآية: 137 ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين )

 

هذا تسلية من الله تعالى للمؤمنين، والسنن جمع سنة وهي الطريق المستقيم. وفلان على السنة أي على طريق الاستواء لا يميل إلى شيء من الأهواء، قال الهذلي:

فلا تجزعن من سنة أنت سرتها فأول راض سنة من يسيرها

والسنة: الإمام المتبع المؤتم به، يقال: سن فلان سنة حسنة وسيئة إذا عمل عملا اقتدي به فيه من خير أو شر، قال لبيد:

من معشر سنت لهم آباؤهم ولكل قوم سنة وإمامها

والسنة الأمة، والسنن الأمم؛ عن المفضل. وأنشد:

ما عاين الناس من فضل كفضلهم ولا رأوا مثلهم في سالف السنن

وقال الزجاج: والمعنى أهل سنن، فحذف المضاف. وقال أبو زيد: أمثال. عطاء: شرائع. مجاهد: المعنى « قد خلت من قبلكم سنن » يعني بالهلاك فيمن كذب قبلكم كعاد وثمود. والعاقبة: آخر الأمر، وهذا في يوم أحد. يقول فأنا أمهلهم وأملي لهم وأستدرجهم حتى يبلغ الكتاب أجله، يعني بنصرة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وهلاك أعدائهم الكافرين.

 

الآية: 138 ( هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين )

 

يعني القرآن، عن الحسن وغيره. وقيل: هذا إشارة إلى قوله: « قد خلت من قبلكم سنن » . والموعظة الوعظ. وقد تقدم.

 

الآية: 139 ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين )

 

عزاهم وسلاهم بما نالهم يوم أحد من القتل والجراح، وحثهم على قتال عدوهم ونهاهم عن العجز والفشل فقال « ولا تهنوا » أي لا تضعفوا ولا تجبنوا يا أصحاب محمد عن جهاد أعدائكم لما أصابكم. « ولا تحزنوا » على ظهورهم، ولا على ما أصابكم من الهزيمة والمصيبة. « وأنتم الأعلون » أي لكم تكون العاقبة بالنصر والظفر « إن كنتم مؤمنين » أي بصدق وَعْدِي. وقيل: « إن » بمعنى « إذ » . قال ابن عباس: انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فبينا هم كذلك إذ أقبل خالد بن الوليد بخيل من المشركين، يريد أن يعلو عليهم الجبل؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اللهم لا يعلُنّ علينا اللهم لا قوة لنا إلا بك اللهم ليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر ) . فأنزل الله هذه الآيات. وثاب نفر من المسلمين رماة فصعدوا الجبل ورموا خيل المشركين حتى هزموهم؛ فذلك قوله تعالى: « وأنتم الأعلون » يعني الغالبين على الأعداء بعد أحد. فلم يخرجوا بعد ذلك عسكرا إلا ظفروا في كل عسكر كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي كل عسكر كان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان فيه واحد من الصحابة كان الظفر لهم، وهذه البلدان كلها إنما افتتحت على عهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ثم بعد انقراضهم ما افتتحت بلدة على الوجه كما كانوا يفتتحون في ذلك الوقت. وفي هذه الآية بيان فضل هذه الأمة؛ لأنه خاطبهم بما خاطب به أنبياءه؛ لأنه قال لموسى: « إنك أنت الأعلى » [ طه: 68 ] وقال لهذه الأمة: « وأنتم الأعلون » . وهذه اللفظة مشتقة من اسمه الأعلى فهو سبحانه العلي، وقال للمؤمنين: « وأنتم الأعلون » .

 

الآية: 140 ( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين )

 

قوله تعالى: « إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله » القرح الجرح. والضم والفتح فيه لغتان عن الكسائي والأخفش؛ مثل عَقْر وعُقْر. الفراء: هو بالفتح الجُرح، وبالضم ألَمُه. والمعنى: إن يمسسكم يوم أحد قرح فقد مس القوم يوم بدر قرح مثله. وقرأ محمد بن السميقع « قرح » بفتح القاف والراء على المصدر. « وتلك الأيام نداولها بين الناس » قيل: هذا في الحرب، تكون مرة للمؤمنين لينصر الله عز وجل دينه، ومرة للكافرين إذا عصى المؤمنون ليبتليهم ويمحص ذنوبهم؛ فأما إذا لم يعصوا فإن حزب الله هم الغالبون. وقيل: « نداولها بين الناس » من فرح وغم وصحة وسقم وغنى وفقر. والدُّولَة الكرة؛ قال الشاعر:

فيوم لنا ويوم علينا ويوم نساء ويوم نسر

 

قوله تعالى: « وليعلم الله الذين آمنوا » معناه، وإنما كانت هذه المداولة ليُرى المؤمن من المنافق فيميز بعضهم من بعض؛ كما قال: « وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين. وليعلم الذين نافقوا » [ آل عمران: 166 - 167 ] . وقيل: ليعلم صبر المؤمنين، العلم الذي يقع عليه الجزاء كما علمه غيبا قبل أن كلفهم. وقد تقدم في « البقرة » هذا المعنى.

 

قوله تعالى: « ويتخذ منكم شهداء » أي يكرمكم بالشهادة؛ أي ليُقتل قوم فيكونوا شهداء على الناس بأعمالهم. وقيل: لهذا قيل شهيد: وقيل: سمي شهيدا لأنه مشهود له بالجنة وقيل: سمي شهيدا لأن أرواحهم احتضرت دار السلام، لأنهم أحياء عند ربهم، وأرواح غيرهم لا تصل إلى الجنة؛ فالشهيد بمعنى الشاهد أي الحاضر للجنة، وهذا هو الصحيح على ما يأتي والشهادة فضلها عظيم، ويكفيك في فضلها قوله تعالى: « إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم » [ التوبة: 111 ] الآية. وقوله: « يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم. تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم » إلى قوله: « ذلك الفوز العظيم » [ الصف: 10 - 11 - 12 ] وفي صحيح البستي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما يجد الشهيد من القتل إلا كما يجد أحدكم من القرحة ) . وروى النسائي عن راشد بن سعد عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال: يا رسول الله، ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: ( كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة ) . وفي البخاري: « من قتل من المسلمين يوم أحد » منهم حمزة واليمان والنضر بن أنس ومصعب بن عمير، حدثني عمرو بن علي أن معاذ بن هشام قال حدثني أبي عن قتادة قال: ما نعلم حيا من أحياء العرب أكثر شهيدا أعز يوم القيامة من الأنصار. قال قتادة: وحدثنا أنس بن مالك أنه قتل منهم يوم أحد سبعون، ويوم بئر معونة سبعون، ويوم اليمامة سبعون. قال: وكان بئر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ويوم اليمامة على عهد أبي بكر يوم مسيلمة الكذاب. وقال أنس: أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب وبه نيف وستون جراحة من طعنة وضربة ورمية، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسحها وهي تلتئم بإذن الله تعالى كأن لم تكن.

 

في قوله تعالى: « ويتخذ منكم شهداء » دليل على أن الإرادة غير الأمر كما يقول أهل السنة؛ فإن الله تعالى نهى الكفار عن قتل المؤمنين: حمزة وأصحابه وأراد قتلهم، ونهى آدم عن أكل الشجرة وأراده فواقعه آدم، وعكسه أنه أمر إبليس بالسجود ولم يرده فامتنع منه؛ وعنه وقعت الإشارة بقوله الحق: « ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم » [ التوبة: 46 ] . وإن كان قد أمر جميعهم بالجهاد، ولكنه خلق الكسل والأسباب القاطعة عن المسير فقعدوا.

 

روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فقال له: ( خَيِّر أصحابك في الأسارى إن شاؤوا القتل وإن شاؤوا الفداء على أن يقتل منهم عام المقبل مثلهم فقالوا الفداء ويقتل منا ) أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن. فأنجز الله وعده بشهادة أوليائه بعد أن خيرهم فاختاروا القتل. « والله لا يحب الظالمين » أي المشركين، أي وإن أنال الكفار من المؤمنين فهو لا يحبهم، وإن أحل ألما بالمؤمنين فإنه يحب المؤمنين.

 

الآية: 141 ( وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين )

 

فيه ثلاثة أقوال: يمحص: يختبر. الثاني: يطهر؛ أي من ذنوبهم فهو على حذف مضاف. المعنى: وليمحص الله ذنوب الذين آمنوا؛ قاله الفراء. الثالث: يمحص يخلص؛ فهذا أغربها. قال الخليل: يقال مَحِصَ الحبل يمحص محصا إذا انقطع وبره؛ ومنه ( اللهم محص عنا ذنوبنا ) أي خلصنا من عقوبتها. وقال أبو إسحاق الزجاج: قرأت على محمد بن يزيد عن الخليل: التمحيص التخليص. يقال: محَّصَه يمحصه مَحْصا إذا خلصه؛ فالمعنى عليه ليبتلي المؤمنين ليثيبهم ويخلصهم من ذنوبهم. « ويمحق الكافرين » أي يستأصلهم بالهلاك.

 

الآية: 142 ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين )

 

قوله: « أم » بمعنى بل. وقيل: الميم زائدة، والمعنى أحسبتم يا من انهزم يوم أحد أن تدخلوا الجنة كما دخل الذين قتلوا وصبروا على ألم الجراح والقتل من غير أن تسلكوا طريقهم وتصبروا صبرهم لا؛ حتى « يعلم الله الذين جاهدوا منكم » أي علم شهادة حتى يقع عليه الجزاء. والمعنى: ولم تجاهدوا فيعلم ذلك منكم؛ فلما بمعنى لم. وفرق سيبويه بين « لم » و « لما » فزعم أن « لم يفعل » نفي فَعَل، وأن: « لماّ يفعل » . نفى قد فعل. « ويعلم الصابرين » منصوب بإضمار أن؛ عن الخليل. وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر « يعلم الصابرين » بالجزم على النسق. وقرئ بالرفع على القطع، أي وهو يعلم. وروى هذه القراءة عبدالوارث عن أبي عمرو. وقال الزجاج. الواو هنا بمعنى حتى، أي ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم حتى يعلم صبرهم كما تقدم آنفا.

 

الآية: 143 ( ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون )

 

قوله تعالى: « ولقد كنتم تتمنون الموت » أي الشهادة من قبل أن تلقوه. وقرأ الأعمش « من قبل أن تلاقوه » أي من قبل القتل. وقيل: من قبل أن تلقوا أسباب الموت وذلك أن كثيرا ممن لم يحضروا بدرا كانوا يتمنون يوما يكون فيه قتال، فلما كان يوم أحد انهزموا، وكان منهم من تجلد حتى قتل، ومنهم أنس بن النضر عم أنس بن مالك، فإنه قال لما انكشف المسلمون: اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، وباشر القتال وقال: إيها إنها ريح الجنة! إني لأجدها، ومضى حتى استشهد. قال أنس: فما عرفناه إلا ببنانه ووجدنا فيه بضعا وثمانين جراحة. وفيه وفي أمثاله نزل « رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه » [ الأحزاب: 23 ] . فالآية عتاب في حق من انهزم، لا سيما وكان منهم حَمْل للنبي صلى الله عليه وسلم على الخروج من المدينة، وسيأتي. وتمني الموت يرجع من المسلمين إلى تمني الشهادة المبنية على الثبات والصبر على الجهاد، لا إلى قتل الكفار لهم؛ لأنه معصية وكفر ولا يجوز إرادة المعصية، وعلى هذا يحمل سؤال المسلمين من الله أن يرزقهم الشهادة، فيسألون الصبر على الجهاد وإن أدى إلى القتل.

 

قوله تعالى: « وأنتم تنظرون » قال الأخفش: هو تكرير بمعنى التأكد لقوله: « فقد رأيتموه » مثل « ولا طائر يطير بجناحيه » [ الأنعام: 38 ] . وقيل: معناه وأنتم بصراء ليس في أعينكم علل؛ كما تقول: قد رأيت كذا وكذا وليس في عينيك علة، أي فقد رأيته رؤية حقيقية؛ وهذا راجع إلى معنى التوكيد. وقال بعضهم: « وأنتم تنظرون » إلى محمد صلى الله عليه وسلم. وفي الآية إضمار، أي فقد رأيتموه وأنتم تنظرون فلم انهزمتم ؟.

 

الآية: 144 ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين )

 

روى أنها نزلت بسبب انهزام المسلمين يوم أحد حين صاح الشيطان: قد قتل محمد. قال عطية العوفي: فقال بعض الناس: قد أصيب محمد فأعطوهم بأيديكم فإنما هم إخوانكم. وقال بعضهم: إن كان محمد قد أصيب ألا تمضون على ما مضى عليه نبيكم حتى تلحقوا به؛ فأنزل الله تعالى في ذلك « وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل » إلى قوله: « فآتاهم الله ثواب الدنيا » [ آل عمران: 148 ] . وما نافية، وما بعدها ابتداء وخبر، وبطل عمل « ما » . وقرأ ابن عباس « قد خلت من قبله رسل » بغير ألف ولام. فأعلم الله تعالى في هذه الآية أن الرسل ليست بباقية في قومها أبدا، وأنه يجب التمسك بما أتت به الرسل وإن فقد الرسول بموت أو قتل. وأكرم نبيه صلى الله عليه وسلم وصفيه باسمين مشتقين من اسمه: محمد وأحمد، تقول العرب: رجل محمود ومحمد إذا كثرت خصاله المحمودة، قال الشاعر:

إلى الماجد القَرْمِ الجواد المحمد

وقد مضى هذا في الفاتحة. وقال عباس بن مرداس:

يا خاتم النُّبآء إنك مرسل بالخير كل هدى السبيل هداكا

إن الإله بنى عليك محبة في خلقه ومحمدا سماكا

فهذه الآية من تتمة العتاب مع المنهزمين، أي لم يكن لهم الانهزام وإن قتل محمد، والنبوة لا تدرأ الموت، والأديان لا تزول بموت الأنبياء. والله أعلم.

 

هذه الآية أدل دليل على شجاعة الصديق وجراءته، فإن الشجاعة والجرأة حدهما ثبوت القلب عند حلول المصائب، ولا مصيبة أعظم من موت النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم بيانه في « البقرة » فظهرت عنده شجاعته وعلمه. قال الناس: لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم عمر، وخرس عثمان، واستخفى علي، واضطرب الأمر فكشفه الصديق بهذه الآية حين قدومه من مسكنه بالسُّنْه، الحديث؛ كذا في البخاري. وفي سنن ابن ماجه عن عائشة قالت: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر عند امرأته ابنة خارجة بالعوالي، فجعلوا يقولون: لم يمت النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو بعض ما كان يأخذه عند الوحي. فجاء أبو بكر فكشف عن وجهه وقبل بين عينيه وقال: أنت أكرم على الله من أن يميتك! مرتين. قد والله مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر في ناحية المسجد يقول: والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يموت حتى يقطع أيدي أناس من المنافقين كثير وأرجلهم. فقام أبو بكر فصعد المنبر فقال: من كان يعبد الله فإن الله حي لم يمت، ومن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات « وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين » . قال عمر: « فلكأني لم أقرأها إلا يومئذ » . ورجع عن مقالته التي قالها فيما ذكر الوائلي أبو نصر عبيدالله في كتابه الإبانة: عن أنس بن مالك أنه سمع عمر بن الخطاب حين بويع أبو بكر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم واستوى على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تشهد قبل أبي بكر فقال: أما بعد فإني قلت لكم أمس مقالة وإنها لم تكن كما قلت، وإني والله ما وجدت المقالة التي قلت لكم في كتاب أنزله الله ولا في عهد عهده إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدبرنا - يريد أن يقول حتى يكون آخرنا موتا - فاختار الله عز وجل لرسوله الذي عنده على الذي عندكم، وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسوله فخذوا به تهتدوا لما هدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الوائلي أبو نصر: المقالة التي قالها ثم رجع عنها هي « أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت ولن يموت حتى يقطع أيدي رجال وأرجلهم » وكان قال ذلك لعظيم ما ورد عليه، وخشي الفتنة وظهور المنافقين، فلما شاهد قوة يقين الصديق الأكبر أبي بكر، وتفوهه بقول الله عز وجل: « كل نفس ذائقة الموت » [ آل عمران: 185 ] وقوله: « إنك ميت وإنهم ميتون » [ الزمر: 30 ] وما قاله ذلك اليوم - تنبه وتثبت وقال: كأني لم أسمع بالآية إلا من أبي بكر. وخرج الناس يتلونها في سكك المدينة، كأنها لم تنزل قط إلا ذلك اليوم. ومات صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين بلا اختلاف، في وقت دخوله المدينة في هجرته حين اشتد الضحاء، ودفن يوم الثلاثاء، وقيل ليلة الأربعاء. وقالت صفية بنت عبدالمطلب ترثي رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ألا يا رسول الله كنت رجاءنا وكنت بنا برا ولم تك جافيا

وكنت رحيما هاديا ومعلما ليَبْك عليك اليوم من كان باكيا

لعمرك ما أبكي النبي لفقده ولكن لما أخشى من الهرْج آتيا

كأن على قلبي لذكر محمد وما خفت من بعد النبي المكاويا

أفاطم صلى الله رب محمد على جدث أمسى بيثرب ثاويا

فدى لرسول الله أمي وخالتي وعمي وآبائي ونفسي وماليا

صدقت وبلغت الرسالة صادقا ومت صليب العود أبلج صافيا

فلو أن رب الناس أبقى نبينا سعدنا، ولكن أمره كان ماضيا

عليك من الله السلام تحية وأدخلت جنات من العدن راضيا

أرى حسنا أيتمته وتركته يبكِّي ويدعو جده اليوم ناعيا

 

فلِم أُخِّر دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال لأهل بيت أخروا دفن ميتهم: ( عجلوا دفن جيفتكم ولا تؤخروها ) . فالجواب من ثلاثة أوجه: الأول: ما ذكرناه من عدم اتفاقهم على موته. الثاني: لأنهم لا يعلمون حيث يدفنونه. قال قوم في البقيع، وقال آخرون في المسجد، وقال قوم: يحبس حتى يحمل إلى أبيه إبراهيم. حتى قال العالم الأكبر: سمعته يقول: ( ما دفن نبي إلا حيث يموت ) ذكره ابن ماجه والموطأ وغيرهما. الثالث: إنهم اشتغلوا بالخلاف الذي وقع بين المهاجرين والأنصار في البيعة، فنظروا فيها حتى استتب الأمر وانتظم الشمل واستوثقت الحال، واستقرت الخلافة في نصابها فبايعوا أبا بكر، ثم بايعوه من الغد بيعة أخرى عن ملأ منهم ورضا؛ فكشف الله به الكربة من أهل الردة، وقام به الدّين، والحمد لله رب العالمين. ثم رجعوا بعد ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنظروا في دفنه وغسلوه وكفنوه. والله أعلم.

 

واختلف هل صلي عليه أم لا، فمنهم من قال: لم يصل عليه أحد، وإنما وقف كل واحد يدعو، لأنه كان أشرف من أن يصلى عليه. وقال ابن العربي: وهذا كلام ضعيف؛ لأن السنة تقام بالصلاة عليه في الجنازة، كما تقام بالصلاة عليه في الدعاء، فيقول: اللهم صل على محمد إلى يوم القيامة، وذلك منفعة لنا. وقيل: لم يصل عليه؛ لأنه لم يكن هناك إمام. وهذا ضعيف لأن الذي كان يقيم بهم الصلاة الفريضة هو الذي كان يؤم بهم في الصلاة. وقيل: صلى عليه الناس أفذاذا؛ لأنه كان آخر العهد به، فأرادوا أن يأخذ كل أحد بركته مخصوصا دون أن يكون فيها تابعا لغيره. والله أعلم بصحة ذلك.

قلت: قد خرج ابن ماجه بإسناد حسن بل صحيح من حديث ابن عباس وفيه: فلما. فرغوا من جهازه يوم الثلاثاء وضع على سريره في بيته، ثم دخل الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالا يصلون عليه، حتى إذا فرغوا أدخلوا النساء، حتى إذا فرغن أدخلوا الصبيان، ولم يؤم الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد. خرجه عن نصر بن علي الجهضمي أنبأنا وهب بن جرير حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق. قال حدثني حسين بن عبدالله عن عكرمة عن ابن عباس، الحديث بطوله.

 

في تغيير الحال بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، عن أنس قال: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وما نفضنا عن النبي صلى الله عليه وسلم الأيدي حتى أنكرنا قلوبنا. أخرجه ابن ماجه، وقال: حدثنا محمد بن بشار أخبرنا عبدالرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر قال: كنا نتقي الكلام والانبساط إلى نسائنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مخافة أن ينزل فينا القرآن، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلمنا. وأسند عن أم سلمة بنت أبي أمية زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: كان الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام المصلي يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع قدميه، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر، فكان الناس إذا قام أحدهم يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع جبينه، فتوفى أبو بكر وكان عمر، فكان الناس إذا قام أحدهم يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع القبلة، فكان عثمان بن عفان فكانت الفتنة فتلفت الناس في الصلاة يمينا وشمالا.

 

قوله تعالى: « أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم » « أفإن مات » شرط « أو قتل » عطف عليه، والجواب « انقلبتم » . ودخل حرف الاستفهام على حرف الجزاء لأن الشرط قد انعقد به وصار جملة واحدة وخبرا واحدا. والمعنى: أفتنقلبون على أعقابكم إن مات أو قتل؟ وكذلك كل استفهام دخل على حرف الجزاء؛ فإنه في غير موضعه، وموضعه أن يكون قبل جواب الشرط. وقوله « انقلبتم على أعقابكم » تمثيل، ومعناه ارتددتم كفارا بعد إيمانكم، قاله قتادة وغيره. ويقال لمن عاد إلى ما كان عليه: انقلب على عقبيه. ومنه « نكص على عقبيه » . وقيل: المراد بالانقلاب هنا الانهزام، فهو حقيقة لا مجاز. وقيل: المعنى فعلتم فعل المرتدين وإن لم تكن ردة.

 

قوله تعالى: « ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا » بل يضر نفسه ويعرضها للعقاب بسبب المخالفة، والله تعالى لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية لغناه. « وسيجزي الله الشاكرين » ، أي الذين صبروا وجاهدوا واستشهدوا. وجاء « وسيجزي الله الشاكرين » بعد قوله: « فلن يضر الله شيئا » فهو اتصال وعد بوعيد.

 

الآية: 145 ( وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين )

 

قوله تعالى: « وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا » هذا حض على الجهاد، وإعلام أن الموت لا بد منه وأن كل إنسان مقتول أو غير مقتول ميت إذا بلغ أجله المكتوب له؛ لأن معنى « مؤجلا » إلى أجل. ومعنى « بإذن الله » بقضاء الله وقدره. و « كتابا » نصب على المصدر، أي كتب الله كتابا مؤجلا. وأجل الموت هو الوقت الذي في معلومه سبحانه، أن روح الحي تفارق جسده، ومتى قتل العبد علمنا أن ذلك أجله. ولا يصح أن يقال: لو لم يقتل لعاش. والدليل على قوله: « كتابا مؤجلا » « إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون » [ الأعراف: 34 ] « إن أجل الله لآت » [ العنكبوت: 5 ] « لكل أجل كتاب » [ الرعد: 38 ] . والمعتزلي يقول: يتقدم الأجل ويتأخر، وإن من قتل فإنما يهلك قبل أجله، وكذلك كل ما ذبح من الحيوان كان هلاكه قبل أجله؛ لأنه يجب على القاتل الضمان والدية. وقد بين الله تعالى في هذه الآية أنه لا تهلك نفس قبل أجلها. وسيأتي لهذا مزيد بيان في « الأعراف » إن شاء الله تعالى. وفيه دليل على كتب العلم وتدوينه. وسيأتي بيانه في « طه » عند قوله. « قال علمها عند ربي في كتاب » [ طه: 52 ] إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها » يعني الغنيمة. نزلت في الذين تركوا المركز طلبا للغنيمة. وقيل: هي عامة في كل من أراد الدنيا دون الآخرة؛ والمعنى نؤته منها ما قسم له. وفي التنزيل: « من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد » [ الإسراء: 18 ] . « ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها » أي نؤته جزاء عمله، على ما وصف الله تعالى من تضعيف الحسنات لمن يشاء. وقيل: لمراد منها عبدالله بن جبير ومن لزم المركز معه حتى قتلوا. « وسنجزي الشاكرين » أي نؤتيهم الثواب الأبدي جزاء لهم على ترك الانهزام، فهو تأكيد لما تقدم من إيتاء مزيد الآخرة. وقيل: « وسنجزي الشاكرين » من الرزق في الدنيا لئلا يتوهم أن الشاكر يحرم ما قسم له مما يناله الكافر.

 

الآيتان: 146 - 147 ( وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين، وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين )

 

قوله تعالى: « وكأين من نبي قُتِل معه ربيون كثير » قال الزهري: صاح الشيطان يوم أحد: قتل محمد؛ فانهزم جماعة من المسلمين. قال كعب بن مالك: فكنت أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأيت عينيه من تحت المغفر تزهران، فناديت بأعلى صوتي: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ إلي أن أسكت، فأنزل الله عز وجل: « وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا » الآية. و « كأين » بمعنى كم. قال الخليل وسيبويه: هي أي دخلت عليها كاف التشبيه وبنيت معها فصار في الكلام معنى وكم وصورت في المصحف نونا؛ لأنها كلمة نقلت عن أصلها فغير لفظها لتغير معناها، ثم كثر استعمالها فتلعبت بها العرب وتصرفت فيها بالقلب والحذف، فحصل فيها لغات أربع قرئ بها. وقرأ ابن كثير « وكائن » مثل وكاعن، على وزن فاعل، وأصله كيء فقلبت الياء ألفا، كما قلبت في ييأس فقيل ياءَسُ؛ قال الشاعر:

وكائن بالأباطح من صديق يراني لو أصبت هو المصابا

وقال آخر:

وكائن رددنا عنكم من مدجج يجيء أمام الركب يردي مقنعا

وقال آخر:

وكائن في المعاشر من أناس أخوهم فوقهم وهم كرام

وقرأ ابن محيصن « وكَئِنْ » مهموزا مقصورا مثل وكَعِن، وهو من كائن حذفت ألفه. وعنه أيضا « وكأْيِن » مثل وكَعْيِن وهو مقلوب كيء المخفف. وقرأ الباقون « كأَيِّنْ » بالتشديد مثل كعين وهو الأصل، قال الشاعر:

كأين من أناس لم يزالوا أخوهم فوقهم وهم كرام

وقال آخر:

كأين من عدو بعزنا وكائِنْ أجَرْنا من ضعيف وخائف

فجمع بين لغتين: كأَيِّنْ وكائِنْ، ولغة خامسة كَيْئِن مثل كيعن، وكأنه مخفف من كيِّىء مقلوب كأيِّن. ولم يذكر الجوهري غير لغتين: كائن مثل كاعن، وكأَيِّن مثل كعين؛ تقول كأين رجلا لقيت؛ بنصب ما بعد كأين على التمييز. وتقول أيضا: كأين من رجل لقيت؛ وإدخال من بعد كأين أكثر من النصب بها وأجود. وبكأين تبيع هذا الثوب ؟ أي بكم تبيع؛ قال ذو الرمة:

وكائن ذعرنا من مهاة ورامح بلاد العدا ليست له ببلاد

قال النحاس: ووقف أبو عمرو « وكأي » بغير نون؛ لأنه تنوين. وروى ذلك سَوْرَة بن المبارك عن الكسائي. ووقف الباقون بالنون اتباعا لخط المصحف. ومعنى الآية تشجيع المؤمنين، والأمر بالاقتداء بمن تقدم من خيار أتباع الأنبياء؛ أي كثير من الأنبياء قتل معه ربيون كثير، أو كثير من الأنبياء قتلوا فما ارتد أممهم؛ قولان: الأول للحسن وسعيد بن جبير. قال الحسن: ما قتل نبي في حرب قط. وقال ابن جبير: ما سمعنا أن نبيا قتل في القتال. والثاني عن قتادة وعكرمة. والوقف - على هذا القول - على « قتل » جائز، وهي قراءة نافع وابن جبير وأبي عمرو ويعقوب. وهي قراءة ابن عباس واختارها أبو حاتم. وفيه وجهان: أحدهما أن يكون « قتل » واقعا على النبي وحده، وحينئذ يكون تمام الكلام عند قوله « قتل » ويكون في الكلام إضمار، أي ومعه ربيون كثير؛ كما يقال: قتل الأمير معه جيش عظيم، أي ومعه جيش. وخرجت معي تجارة؛ أي ومعي. الوجه الثاني أن يكون القتل نال النبي ومن معه من الربيين، ويكون وجه الكلام قتل بعض من كان معه؛ تقول العرب: قتلنا بني تميم وبني سليم، وإنما قتلنا بعضهم. ويكون قوله « فما وهنوا » راجعا إلى من بقي منهم.

قلت: وهذا القول أشبه بنزول الآية وأنسب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل، وقتل معه جماعة من أصحابه. وقرأ الكوفيون وابن عامر « قاتل » وهي قراءة ابن مسعود؛ واختارها أبو عبيد وقال. إن الله إذا حمد من قاتل كان من قُتِل داخلا فيه، وإذا حمد من قُتِل لم يدخل فيه غيرهم؛ فقاتل أعم وأمدح. و « الربيون » بكسر الراء قراءة الجمهور. وقراءة علي رضي الله عنه بضمها. وابن عباس بفتحها؛ ثلاث لغات. والربيون الجماعات الكثيرة؛ عن مجاهد وقتادة والضحاك وعكرمة، واحدهم رُبِّيَ بضم الراء وكسرها؛ منسوب إلى الربة بكسر الراء أيضا وضمها، وهي الجماعة. وقال عبدالله بن مسعود: الربيون الألوف الكثيرة. وقال ابن زيد: الربيون الأتباع. والأول أعرف في اللغة؛ ومنه يقال للخرقة التي تجمع فيها القداح: رِبّة ورُبّة. والرِّباب قبائل تجمعت. وقال أبان بن ثعلب: الرِّبي عشرة آلاف. وقال الحسن: هم العلماء الصُّبُر. ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع والسدي: الجمع الكثير؛ قال حسان:

وإذا معشر تجافوا عن الحـ ـق حملنا عليهم ربيا

وقال الزجاج: ها هنا قراءتان « رُبِّيُّون » بضم الراء « ورِبِّيُّون » بكسر الراء؛ أما الربيون ( بالضم ) : الجماعات الكثيرة. ويقال: عشرة آلاف.

قلت: وقد روي عن ابن عباس « رَبِّيُّون » بفتح الراء منسوب إلى الرب. قال الخليل: الرِّبِّي الواحد من العباد الذين صبروا مع الأنبياء. وهم الربانيون نسبوا إلى التأله والعبادة ومعرفة الربوبية لله تعالى. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله » « وهنوا » أي ضعفوا، وقد تقدم. والوهن: انكسار الجد بالخوف. وقرأ الحسن وأبو السمال « وهنوا » بكسر الهاء وضمها، لغتان عن أبي زيد. وهن الشيء يهن وهنا. وأوهنته أنا ووهنته ضعفته. والواهنة: أسفل الأضلاع وقصارها. والوَهَن من الإبل: الكثيف. والوَهْن: ساعة تمضي من الليل، وكذلك الموهن. وأوهنا صرنا في تلك الساعة؛ أي ما وهنوا لقتل نبيهم، أو لقتل من قُتِل منهم، أي ما وهن باقيهم؛ فحذف المضاف. « وما ضعفوا » أي عن عدوهم. « وما استكانوا » أي لما أصابهم في الجهاد. والاستكانة: الذلة والخضوع؛ وأصلها « اسْتَكَنوا » على افتعلوا؛ فأشبعت فتحة الكاف فتولدت منها ألف. ومن جعلها من الكون فهي استفعلوا؛ والأول أشبه بمعنى الآية. وقرئ « فما وهنوا وما ضَعْفوا » بإسكان الهاء والعين. وحكى الكسائي « ضعفوا » بفتح العين. ثم أخبر تعالى عنهم بعد أن قُتل منهم أو قتل نبيهم بأنهم صبروا ولم يفروا ووطنوا أنفسهم على الموت، واستغفروا ليكون موتهم على التوبة من الذنوب إن رزقوا الشهادة، ودعوا في الثبات حتى لا ينهزموا، وبالنصر على أعدائهم. وخصوا الأقدام بالثبات دون غيرها من الجوارح لأن الاعتماد عليها. يقول: فهلا فعلتم وقلتم مثل ذلك يا أصحاب محمد ؟ فأجاب دعاءهم وأعطاهم النصر والظفر والغنيمة في الدنيا والمغفرة في الآخرة إذا صاروا إليها. وهكذا يفعل الله مع عباده المخلصين التائبين الصادقين الناصرين لدينه، الثابتين عند لقاء عدوه بوعده الحق، وقوله الصدق. « والله يحب الصابرين » يعني الصابرين على الجهاد. وقرأ بعضهم « وما كان قولهم » بالرفع؛ جعل القول اسما لكان؛ فيكون معناه وما كان قولُهم إلا قولَهم: « ربنا اغفر لنا ذنوبنا » ومن قرأ بالنصب جعل القول خبر كان. واسمها « إلا أن قالوا » . « ربنا اغفر لنا ذنوبنا » يعني الصغائر « وإسرافنا » يعني الكبائر. والإسراف: الإفراط في الشيء ومجاوزة الحد. وفي صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو بهذا الدعاء ( اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني ) وذكر الحديث. فعلى الإنسان أن يستعمل ما في كتاب الله وصحيح السنة من الدعاء ويدع ما سواه، ولا يقول أختار كذا؛ فإن الله تعالى قد اختار لنبيه وأوليائه وعلمهم كيف يدعون.

 

الآية: 148 ( فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين )

 

قوله تعالى: « فآتاهم الله » أي أعطاهم « ثواب الدنيا » ، يعني النصر والظفر على عدوهم. « وحسن ثواب الآخرة » يعني الجنة. وقرأ الجحدري « فأثابهم الله » من الثواب. « والله يحب المحسنين » تقدم.

 

الآية: 149 - 150 ( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين، بل الله مولاكم وهو خير الناصرين )

 

لما أمر الله تعالى بالاقتداء بمن تقدم من أنصار الأنبياء حذر طاعة الكافرين؛ يعني مشركي العرب: أبا سفيان وأصحابه. وقيل: اليهود والنصارى. وقال علي رضي الله عنه: يعني المنافقين في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة: ارجعوا إلى دين آبائكم. « يردوكم على أعقابكم »

أي إلى الكفر. « فتنقلبوا خاسرين » أي فترجعوا مغبونين. ثم قال: « بل الله مولاكم » أي متولي نصركم وحفظكم إن أطعتموه. وقرئ « بل الله » بالنصب، على تقدير بل وأطيعوا الله مولاكم.

 

الآية: 151 ( سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين )

 

نظيره « وقذف في قلوبهم الرعب » . وقرأ ابن عامر والكسائي « الرعب » بضم العين؛ وهما لغتان. والرعب: الخوف؛ يقال: رَعَبْته رُعْبا ورُعُبا، فهو مرعوب. ويجوز أن يكون الرعْب مصدرا، والرُّعُب الاسم. وأصله من الملء؛ يقال سيل راعب يملأ الوادي. ورعبت الحوض ملأته. والمعنى: سنملأ قلوب المشركين خوفا وفزعا. وقرأ السختياني « سَيُلْقي » بالياء، والباقون بنون العظمة. قال السدي وغيره: لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين إلى مكة انطلقوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق ندموا وقالوا: بئس ما صنعنا ! قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد تركناهم، ارجعوا فاستأصلوهم؛ فلما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عما هموا به. والإلقاء يستعمل حقيقة في الأجسام؛ قال الله تعالى: « وألقى الألواح » [ الأعراف: 150 ] « فألقوا حبالهم وعصيهم » [ الشعراء: 44 ] « فألقى عصاه » [ الأعراف: 107 ] . قال الشاعر:

فألقت عصاها واستقر بها النوى

ثم قد يستعمل مجازا كما في هذه الآية، وقوله: « وألقيت عليك محبة مني » [ طه: 39 ] . وألقى عليك مسألة.

 

قوله تعالى: « بما أشركوا بالله » تعليل؛ أي كان سبب إلقاء الرعب في قلوبهم إشراكهم؛ فما للمصدر. وبقال أشرك به أي عدل به غيره ليجعله شريكا. « ما لم ينزل به سلطانا » حجة وبيانا، وعذرا وبرهانا؛ ومن هذا قيل للوالي سلطان؛ لأنه حجة الله عز وجل في الأرض. ويقال: إنه مأخوذ من السليط وهو ما يضاء به السراج، وهو دهن السمسم؛ قال امرؤ القيس:

أمال السليط بالذُّبال المفتل

فالسلطان يستضاء به في إظهار الحق وقمع الباطل. وقيل السليط الحديد. والسلاطة الحدة. والسلاطة من التسليط وهو القهر؛ والسلطان من ذلك، فالنون زائدة. فأصل السلطان القوة، فإنه يقهر بها كما يقهر بالسلطان. والسليطة المرأة الصخابة. والسليط الرجل الفصيح اللسان. ومعنى هذا أنه لم تثبت عبادة الأوثان في شيء من الِملل. ولم يدل عقل على جواز ذلك. ثم أخبر الله تعالى عن مصيرهم ومرجعهم فقال: « ومأواهم النار » ثم ذمه فقال: « وبئس مثوى الظالمين » والمثوى: المكان الذي يقام فيه؛ يقال: ثَوَى يَثْوي ثَواء. والمأوى: كل مكان يرجع إليه شيء ليلا أو نهارا.

 

الآية: 152 ( ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين )

 

قال محمد بن كعب القرظي: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد أحد وقد أصيبوا قال بعضهم لبعض: من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر ! فنزلت هذه الآية. وذلك أنهم قتلوا صاحب لواء المشركين وسبعة نفر منهم بعده على اللواء، وكان الظفر ابتداء للمسلمين غير أنهم اشتغلوا بالغنيمة، وترك بعض الرماة أيضا مركزهم طلبا للغنيمة فكان ذلك سبب الهزيمة. روى البخاري عن البراء بن عازب قال: لما كان يوم أحد ولقينا المشركين أجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أناسا من الرماة وأمَّر عليهم عبدالله بن جبير وقال لهم: ( لا تبرحوا من مكانكم إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا وإن رأيتموهم قد ظهروا علينا فلا تعينونا عليهم ) قال: فلما التقى القوم وهزمهم المسلمون حتى نظرنا إلى النساء يشتددن في الجبل، وقد رفعن عن سوقهن قد بدت خلاخلهن فجعلوا يقولون: الغنيمة الغنيمة. فقال لهم عبدالله: أمهلوا ! أما عهد إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تبرحوا، فانطلقوا فلما أتوهم صرف الله وجوههم وقتل من المسلمين سبعون رجلا. ثم إن أبا سفيان بن حرب أشرف علينا وهو في نشز فقال: أفي القوم محمد ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تجيبوه ) حتى قالها ثلاثا. ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ ثلاثا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تجيبوه ) ثم قال: أفي القوم عمر بن الخطاب ؟ ثلاثا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تجيبوه ) ثم التفت إلى أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا. فلم يملك عمر رضي الله عنه نفسه دون أن قال: كذبت يا عدو الله ! قد أبقى الله لك من يخزيك به. فقال: اعْلُ هُبَل؛ مرتين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أجيبوه ) فقالوا: ما نقول يا رسول الله ؟ قال: ( قولوا الله أعلى وأجل ) . قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ( أجيبوه ) . قالوا: ما نقول يا رسول الله ؟ قال: قولوا ( الله مولانا ولا مولى لكم ) . قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، أما إنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني. وفي البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد القتال. وفي رواية عن سعد: عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد. يعني جبريل وميكائيل. وفي رواية أخرى: يقاتلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد القتال ما رأيتهما قبل ذلك اليوم ولا بعده. وعن مجاهد قال: لم تقاتل الملائكة معهم يومئذ، ولا قبله ولا بعده إلا يوم بدر. قال البيهقي: إنما أراد مجاهد أنهم لم يقاتلوا يوم أحد عن القوم حين عصوا الرسول ولم يصبروا على ما أمرهم به. وعن عروة بن الزبير قال: وكان الله عز وجل وعدهم على الصبر والتقوى أن يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين: وكان قد فعل؛ فلما عصوا أمر الرسول وتركوا مصافهم وتركوا الرماة عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ألا يبرحوا من منازلهم، وأرادوا الدنيا، رفع عنهم مدد الملائكة، وأنزل الله تعالى: « ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه » [ آل عمران: 152 ] فصدق الله وعده وأراهم الفتح، فلما عصوا أعقبهم البلاء. وعن عمير بن إسحاق قال: لما كان يوم أحد انكشفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسعد يرمي بين يديه، وفتى ينبل له، كلما ذهبت نبلة أتاه بها. قال ارم أبا إسحاق. فلما فرغوا نظروا من الشاب ؟ فلم يروه ولم يعرفوه. وقال محمد بن كعب: ولما قتل صاحب لواء المشركين وسقط لواؤهم، رفعته عمرة بنت علقمة الحارثية؛ وفي ذلك يقول حسان:

فلولا لواء الحارثية أصبحوا يباعون في الأسواق بيع الجلائب

و « تحسونهم » معناه تقتلونهم وتستأصلونهم؛ قال الشاعر:

حسَسْناهم بالسيف حسا فأصبحت بقيتهم قد شردوا وتبددوا

وقال جرير:

تحسهم السيوف كما تسامى حريق النار في الأجم الحصيد

قال أبو عبيد: الحَسُّ الاستئصال بالقتل؛ يقال: جراد محسوس إذا قتله البرد. والبرد محسة للنبت. أي محرقة له ذاهبة به. وسنة حسوس أي جدبة تأكل كل شيء؛ قال رؤبة:

إذا شكونا سنة حسوسا تأكل بعد الأخضر اليبيسا

وأصله من الحس الذي هو الإدراك بالحاسة. فمعنى حسه أذهب حسه بالقتل. « بإذنه » بعلمه، أو بقضائه وأمره. « حتى إذا فشلتم » أي جبنتم وضعفتم. يقال فشل يفشل فهو فشِل وفشْل. وجواب « حتى » محذوف، أي حتى إذا فشلتم امتحنتم. ومثل هذا جائز كقوله: « فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء » [ الأنعام: 35 ] فافعل. وقال الفراء: جواب « حتى » ، « وتنازعتم » والواو مقحمة زائدة؛ كقوله « فلما أسلما وتله للجبين. وناديناه » [ الصافات: 103 - 104 ] أي ناديناه. وقال امرؤ القيس:

فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى

أي انتحى. وعند هؤلاء يجوز إقحام الواو من « وعصيتم » . أي حتى إذا فشلتم وتنازعتم عصيتم. وعلى هذا فيه تقديم وتأخير، أي حتى إذا تنازعتم وعصيتم فشلتم. وقال أبو علي: يجوز أن يكون الجواب « صرفكم عنهم » ، و « ثم » زائدة، والتقدير حتى إذا فشلتم وتنازعتم وعصيتم صرفكم عنهم وقد أنشد بعض النحويين في زيادتها قول الشاعر:

أراني إذا ما بِتُّ بِتّ على هوى فثُمّ إذا أصبحت أصبحت عاديا

وجوز الأخفش أن تكون زائدة؛ كما في قوله تعالى: « حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم » [ التوبة: 118 ] . وقيل: « حتى » بمعنى « إلى » وحينئذ لا جواب له، أي صدقكم الله وعده إلى أن فشلتم، أي كان ذلك الوعد بشرط الثبات. ومعنى « تنازعتم » اختلفتم؛ يعني الرماة حين قال بعضهم لبعض: نلحق الغنائم. وقال بعضهم: بل نثبت في مكاننا الذي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالثبوت فيه. « وعصيتم » أي خالفتم أمر الرسول في الثبوت. « من بعد ما أراكم ما تحبون » يعني من الغلبة التي كانت للمسلمين يوم أحد أول أمرهم؛ وذلك حين صرع صاحب لواء المشركين على ما تقدم، وذلك أنه لما صرع انتشر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وصاروا كتائب متفرقة فحاسوا العدو ضربا حتى أجهضوهم عن أثقالهم. وحملت خيل المشركين على المسلمين ثلاث مرات كل ذلك تنضح بالنبل فترجع مغلوبة، وحمل المسلمون فنهكوهم قتلا. فلما أبصر الرماة الخمسون أن الله عز وجل قد فتح لإخوانهم قالوا: والله ما نجلس ههنا لشيء، قد أهلك الله العدو وإخواننا في عسكر المشركين. وقال طوائف منهم: علام نقف وقد هزم الله العدو ؟ فتركوا منازلهم التي عهد إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ألا يتركوها، وتنازعوا وفشلوا وعصوا الرسول فأوجفت الخيل فيهم قتلا. وألفاظ الآية تقتضي التوبيخ لهم، ووجه التوبيخ لهم أنهم رأوا مبادئ النصر، فكان الواجب أن يعلموا أن تمام النصر في الثبات لا في الانهزام. ثم بين سبب التنازع. فقال: « منكم من يريد الدنيا » يعني الغنيمة. قال ابن مسعود: ما شعرنا أن أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا وعرضها حتى كان يوم أحد. « ومنكم من يريد الآخرة » وهم الذين ثبتوا في مركزهم، ولم يخالفوا أمر نبيهم صلى الله عليه وسلم مع أميرهم عبدالله بن جبير؛ فحمل خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل عليه، وكانا يومئذ كافرين فقتلوه مع من بقي، رحمهم الله. والعتاب مع من انهزم لا مع من ثبت، فإن من ثبت فاز بالثواب، وهذا كما أنه إذا حل بقوم عقوبة عامة فأهل الصلاح والصبيان يهلكون؛ ولكن لا يكون ما حل بهم عقوبة، بل هو سبب المثوبة. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « ثم صرفكم عنهم ليبتليكم » أي بعد أن استوليتم عليهم ردكم عنهم بالانهزام. ودل هذا على أن المعصية مخلوقة لله تعالى. وقالت المعتزلة: المعنى ثم انصرفتم؛ فإضافته إلى الله تعالى بإخراجه الرعب من قلوب الكافرين من المسلمين ابتلاء لهم. قال القشيري: وهذا لا يغنيهم؛ لأن إخراج الرعب من قلوب الكافرين حتى يستخفوا بالمسلمين قبيح ولا يجوز عندهم، أن يقع من الله قبيح، فلا يبقى لقوله: « ثم صرفكم عنهم » معنى. وقيل: معنى « صرفكم عنهم » أي لم يكلفكم طلبهم.

 

قوله تعالى: « ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين » أي لم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة. والخطاب قيل هو للجميع. وقيل: هو للرماة الذين خالفوا ما أمروا به، واختاره النحاس. وقال أكثر المفسرين: ونظير هذه الآية قوله: « ثم عفونا عنكم » [ البقرة: 52 ] . « والله ذو فضل على المؤمنين » بالعفو والمغفرة. وعن ابن عباس قال: ما نصر النبي صلى الله عليه وسلم في موطن كما نصر يوم أحد، قال: وأنكرنا ذلك، فقال ابن عباس: بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله عز وجل، إن الله عز وجل يقول في يوم أحد: « ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه - يقول ابن عباس: والحَس القتل - حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين » وإنما عنى بهذا الرماة. وذلك أن النبّي صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع ثم قال: ( احموا ظهورنا فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا ) . فلما غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأباحوا عسكر المشركين انكفأت الرماة جميعا فدخلوا في العسكر ينتهبون، وقد التقت صفوف أصحاب النبّي صلى الله عليه وسلم، فهم هكذا - وشبك أصابع يديه - والتبسوا. فلما أخل الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب بعضهم بعضا والتبسوا، وقتل من المسلمين ناس كثير، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أول النهار حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة، وجال المسلمون نحو الجبل، ولم يبلغوا حيث يقول الناس: الغار، إنما كانوا تحت المهراس وصاح الشيطان: قتل محمد. فلم يشك فيه أنه حق، فما زلنا كذلك ما نشك أنه قتل حتى طلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين السعدين، نعرفه بتكفئه إذا مشى. قال: ففرحنا حتى كأنا لم يصبنا ما أصابنا. قال: فرقي نحونا وهو يقول: ( اشتد غضب الله على قوم دموا وجه نبيهم ) . وقال كعب بن مالك: أنا كنت أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين؛ عرفته بعينيه من تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين! ابشروا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقبل. فأشار إليّ أن اسكت.

 

الآية: 153 ( إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون )

 

قوله: « إذ » متعلق بقوله: « ولقد عفا عنكم » . وقراءة العامة « تصعدون » بضم التاء وكسر العين. وقرأ أبو رجاء العطاردي وأبو عبدالرحمن السلمي والحسن وقتادة بفتح التاء والعين، يعني تصعدون الجبل. وقرأ ابن محيصن وشبل « إذ يصعدون ولا يلوون » بالياء فيهما. وقرأ الحسن « تَلُون » بواو واحدة. وروى أبو بكر بن عياش عن عاصم « ولا تلوون » بضم التاء؛ وهي لغة شاذة ذكرها النحاس. وقال أبو حاتم: أصعدت إذا مضيت حيال وجهك، وصعدت إذا ارتقيت في جبل أو غيره. فالإصعاد: السير في مستو من الأرض وبطون الأودية والشعاب. والصعود: الارتفاع على الجبال والسطوح والسلاليم والدرج. فيحتمل أن يكون صعودهم في الجبل بعد إصعادهم في الوادي؛ فيصح المعنى على قراءة « تُصْعِدون » و « تَصْعَدون » . قال قتادة والربيع: أصعدوا يوم أحد في الوادي. وقراءة أبي « إذ تصعدون في الوادي » . قال ابن عباس: صعدوا في أحد فرارا. فكلتا القراءتين صواب؛ كان يومئذ من المنهزمين مصعد وصاعد. والله أعلم. قال القتبي والمبرد: أصعد إذا أبعد في الذهاب وأمعن فيه؛ فكأن الإصعاد إبعاد في الأرض كإبعاد الارتفاع؛ قال الشاعر:

ألا أيهذا السائلي أين أصعدت فإن لها من بطن يثرب موعدا

وقال الفراء: الإصعاد الابتداء في السفر، والانحدار الرجوع منه؛ يقال: أصعدنا من بغداد إلى مكة وإلى خراسان وأشباه ذلك إذا خرجنا إليها وأخذنا في السفر، وانحدرنا إذا رجعنا. وأنشد أبو عبيدة:

قد كنت تبكين على الإصعاد فاليوم سُرِّحْتِ وصاح الحادي

وقال المفضل: صِعِد وأصْعَد وصَعَّد بمعنى واحد. ومعنى « تلوون » تعرجون وتقيمون، أي لا يلتفت بعضكم إلى بعض هربا؛ فإن المعرج على الشيء يلوي إليه عنقه أو عنان دابته. « على أحد » يريد محمدا صلى الله عليه وسلم؛ قاله الكلبي. « والرسول يدعوكم في أخراكم » أي في آخركم؛ يقال: جاء فلان في آخر الناس وأخرة الناس وأخرى الناس وأخريات الناس. وفي البخاري « أُخْراكُم » تأنيث آخركم: حدثنا عمرو بن خالد حدثنا زهير حدثنا أبو إسحاق قال: سمعت البراء بن عازب قال: جعل النبي صلى الله عليه وسلم على الرجالة يوم أحد عبدالله بن جبير وأقبلوا منهزمين فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم. ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلا. قال ابن عباس وغيره: كان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ( أي عباد الله ارجعوا ) وكان دعاءه تغييرا للمنكر، ومحال أن يرى عليه السلام المنكر وهو الانهزام ثم لا ينهى عنه.

قلت: هذا على أن يكون الانهزام معصية وليس كذلك، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « فأثابكم غما بغم » الغم في اللغة: التغطية. غممت الشيء غطيته. ويوم غم وليلة غمة إذا كانا مظلمين. ومنه غم الهلال إذا لم ير، وغمني الأمر يغمني. قال مجاهد وقتادة وغيرهما: الغم الأول القتل والجراح، والغم الثاني الإرجاف بقتل النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ صاح به الشيطان. وقيل: الغم الأول ما فاتهم من الظفر والغنيمة، والثاني ما أصابهم من القتل والهزيمة. وقيل: الغم الأول الهزيمة، والثاني إشراف أبي وسفيان وخالد عليهم في الجبل؛ فلما نظر إليهم المسلمون غمهم ذلك، وظنوا أنهم يميلون عليهم فيقتلونهم فأنساهم هذا ما نالهم؛ فعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اللهم لا يعلن علينا ) كما تقّدم. والباء في « بغم » على هذا بمعنى على. وقيل: هي على بابها، والمعنى أنهم غموا النبّي صلى الله عليه وسلم بمخالفتهم إياه، فأثابهم بذلك غمهم بمن أصيب منهم. وقال الحسن: « فأثابكم غما » يوم أحد « بغم » يوم بدر للمشركين. وسمي الغم ثوابا كما سمي جزاء الذنب ذنبا. وقيل: وقفهم الله على ذنبهم فشغلوا بذلك عما أصابهم.

 

قوله تعالى: « لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون » اللام متعلقة بقوله: « ولقد عفا عنكم » وقيل: هي متعلقة بقوله: « فأثابكم غما بغم » أي كان هذا الغم بعد الغم لكيلا تحزنوا على ما فات من الغنيمة، ولا ما أصابكم من الهزيمة. والأول أحسن. و « ما » في قوله « ما أصابكم » في موضع خفض. وقيل: « لا » صلة. أي لكي تحزنوا على ما فاتكم وما أصابكم عقوبة لكم على مخالفتكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو مثل قوله: « ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك » [ الأعراف: 12 ] أي أن تسجد. وقوله « لئلا يعلم أهل الكتاب » [ الحديد: 29 ] أي ليعلم، وهذا قول المفضل. وقيل: أراد بقوله « فأثابكم غما بغم » أي توالت عليكم الغموم، لكيلا تشتغلوا بعد هذا بالغنائم. « والله خبير بما تعملون » فيه معنى التحذير والوعيد.

 

الآية: 154 ( ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور )

 

قوله تعالى: « ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا » الأمنة والأمن سواء. وقيل: الأمنة إنما تكون مع أسباب الخوف، والأمن مع عدمه. وهي منصوبة بـ « أنزل » ، و « نعاسا » بدل منها. وقيل: نصب على المفعول له؛ كأنه قال: أنزل عليكم للأمنة نعاسا. وقرأ ابن محيصن « أمْنَة » بسكون الميم. تفضل الله تعالى على المؤمنين بعد هذه الغموم في يوم أحد بالنعاس حتى نام أكثرهم؛ وإنما ينعس من يأمن والخائف لا ينام. روى البخاري عن أنس أن أبا طلحة قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد، قال: فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه. « يغشى » قرئ بالياء والتاء. الياء للنعاس، والتاء للأمنة. والطائفة تطلق على الواحد والجماعة « وطائفة قد أهمتهم أنفسهم » يعني المنافقين: معتب بن قشير وأصحابه، وكانوا خرجوا طمعا في الغنيمة وخوف المؤمنين فلم يغشهم النعاس وجعلوا يتأسفون على الحضور، ويقولون الأقاويل. ومعنى « قد أهمتهم أنفسهم » حملتهم على الهم، والهم ما هممت به؛ يقال: أهمني الشيء أي كان من همي. وأمر مهم: شديد. وأهمني الأمر: أقلقني: وهمني: أذابني. والواو في قوله « وطائفة » واو الحال بمعنى إذ، أي إذ طائفة يظنون أن أمر محمد صلى الله عليه وسلم باطل، وأنه لا ينصر. « ظن الجاهلية » أي ظن أهل الجاهلية، فحذف. « يقولون هل لنا من الأمر من شيء » لفظه استفهام ومعناه الجحد، أي ما لنا شيء من الأمر، أي من أمر الخروج، وإنما خرجنا كرها؛ يدل عليه قوله تعالى إخبارا عنهم: « لو كان لنا من الأمر شيء ما قلنا ها هنا » . قال الزبير: أرسل علينا النوم ذلك اليوم، وإني لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني يقول: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا. وقيل: المعنى يقول ليس لنا من الظفر الذي وعدنا به محمد شيء. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « قل إن الأمر كله لله » قرأ أبو عمرو ويعقوب « كله » بالرفع على الابتداء، وخبره « لله » ، والجملة خبر « إن » . وهو كقوله: « ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة » [ الزمر: 60 ] . والباقون بالنصب؛ كما تقول: إن الأمر أجمع لله. فهو توكيد، وهو بمعنى أجمع في الإحاطة والعموم، وأجمع لا يكون إلا توكيدا. وقيل: نعت للأمر. وقال الأخفش: بدل؛ أي النصر بيد الله ينصر من يشاء ويخذل من يشاء. وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله « يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية » يعني التكذيب بالقدر. وذلك أنهم تكلموا فيه، فقال الله تعالى: « قل إن الأمر كله لله » يعني القدر خيره وشره من الله. « يخفون في أنفسهم » أي من الشرك والكفر والتكذيب. « ما لا يبدون لك » يظهرون لك. « يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا » أي ما قتل عشائرنا. فقيل: إن المنافقين قالوا لو كان لنا عقل ما خرجنا إلى قتال أهل مكة، ولما قتل رؤساؤنا. فرد الله عليهم فقال: « قل لو كنتم في بيوتكم لبرز » أي لخرج. « الذين كتب » أي فرض. « عليهم القتل » يعني في اللوح المحفوظ. « إلى مضاجعهم » أي مصارعهم. وقيل: « كتب عليهم القتل » أي فرض عليهم القتال، فعبر عنه بالقتل؛ لأنه قد يؤول إليه. وقرأ أبو حيوة « لبرز » بضم الباء وشد الراء؛ بمعنى يُجعل يَخرج. وقيل: لو تخلفتم أيها المنافقون لبرزتم إلى موطن آخر غيره تصرعون فيه حتى يبتلي الله ما في الصدور ويظهره للمؤمنين. والواو في قوله « وليبتلي » مقحمة كقوله: « وليكون من الموقنين » [ الأنعام: 75 ] أي ليكون، وحذف الفعل الذي مع لام كي. والتقدير « وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم » فرض الله عليكم القتال والحرب ولم ينصركم يوم أحد ليختبر صبركم وليمحص عنكم سيئاتكم إن تبتم وأخلصتم. وقيل: معنى « ليبتلي » ليعاملكم معاملة المختبر. وقيل: ليقع منكم مشاهدة ما علمه غيبا. وقيل: هو على حذف مضاف، والتقدير ليبتلي أولياء الله تعالى. وقد تقّدم معنى التمحيص. « والله عليم بذات الصدور » أي ما فيها من خير وشر. وقيل: ذات الصدور هي الصدور؛ لأن ذات الشيء نفسه.

 

الآية: 155 ( إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم )

 

قوله تعالى: « إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا » هذه الجملة هي خبر « إن الذين تولوا » . والمراد من تولى عن المشركين يوم أحد؛ عن عمر رضي الله عنه وغيره. السدي: يعني من هرب إلى المدينة في وقت الهزيمة دون من صعد الجبل. وقيل: هي في قوم بأعيانهم تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في وقت هزيمتهم ثلاثة أيام ثم انصرفوا. ومعنى « استزلهم الشيطان » استدعى زللهم بأن ذكرهم خطايا سلفت منهم، فكرهوا الثبوت لئلا يقتلوا. وهو معنى « ببعض ما كسبوا » وقيل: « استزلهم » حملهم على الزلل، وهو استفعل من الزلة وهي الخطيئة. وقيل: زل وأزل بمعنى واحد. ثم قيل: كرهوا القتال قبل إخلاص التوبة، فإنما تولوا لهذا، وهذا على القول الأول. وعلى الثاني بمعصيتهم النبي صلى الله عليه وسلم في تركهم المركز وميلهم إلى الغنيمة. وقال الحسن: « ما كسبوا » قبولهم من إبليس ما وسوس إليهم. وقال الكلبي: زين لهم الشيطان أعمالهم. وقيل: لم يكن الانهزام معصية؛ لأنهم أرادوا التحصن بالمدينة، فيقطع العدو طمعه فيهم لما سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل. ويجوز أن يقال: لم يسمعوا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم للهول الذي كانوا فيه. ويجوز أن يقال: زاد عدد العدو على الضعف؛ لأنهم كانوا سبعمائة والعدو ثلاثة آلاف. وعند هذا يجوز الانهزام ولكن الانهزام عن النبي صلى الله عليه وسلم خطأ لا يجوز، ولعلهم توهموا أن النبي صلى الله عليه وسلم انحاز إلى الجبل أيضا. وأحسنها الأول. وعلى الجملة فإن حمل الأمر على ذنب محقق فقد عفا الله عنه، وإن حمل على انهزام مسوغ فالآية فيمن أبعد في الهزيمة وزاد على القدر المسوغ. وذكر أبو الليث السمرقندي نصر بن محمد بن إبراهيم قال: حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا السراج قال حدثنا قتيبة قال حدثنا أبو بكر بن غيلان عن جرير: أن عثمان كان بينه وبين عبدالرحمن بن عوف كلام، فقال له عبدالرحمن بن عوف: أتسبني وقد شهدت بدرا ولم تشهد، وقد بايعت تحت شجرة ولم تبايع، وقد كنت تولى مع من تولى يوم الجمع، يعني يوم أحد. فرد عليه عثمان فقال: أما قولك: أنا شهدت بدرا ولم تشهد، فإني لم أغب عن شيء شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مريضة وكنت معها أمرضها، فضرب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم سهما في سهام المسلمين، وأما بيعة الشجرة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني ربيئة على المشركين بمكة - الربيئة هو الناظر - فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه على شماله فقال: ( هذه لعثمان ) فيمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وشماله خير لي من يميني وشمالي. وأما يوم الجمع فقال الله تعالى: « ولقد عفا الله عنهم » فكنت فيمن عفا الله عنهم. فحج عثمان عبدالرحمن.

قلت: وهذا المعنى صحيح أيضا عن ابن عمر، كما في صحيح البخاري قال: حدثنا عبدان أخبرنا أبو حمزة عن عثمان بن موهب قال: جاء رجل حج البيت فرأى قوما جلوسا فقال: من هؤلاء القعود؟ قالوا: هؤلاء قريش. قال: من الشيخ ؟ قالوا: ابن عمر؛ فأتاه فقال: إني سائلك عن شيء أتحدثني؟ قال: أنشدك بحرمة هذا البيت، أتعلم أن عثمان بن عفان فر يوم أحد؟ قال: نعم. قال: فتعلمه تغيب عن بدر فلم يشهدها؟ قال: نعم. قال: فتعلم أنه تخلف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال نعم. قال: فكبر. قال ابن عمر: تعال لأخبرك ولأبين لك عما سألتني عنه؛ أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه. وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ( إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه ) . وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فإنه لو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان بن عفان لبعثه مكانه، فبعث عثمان وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: ( هذه يد عثمان ) فضرب بها على يده فقال: ( هذه لعثمان ) . اذهب بهذا الآن معك.

قلت: ونظير هذه الآية توبة الله على آدم عليه السلام. وقوله عليه السلام: ( فحج آدم موسى ) أي غلبه بالحجة؛ وذلك أن موسى عليه السلام أراد توبيخ آدم ولومه في إخراج نفسه وذريته من الجنة بسبب أكله من الشجرة؛ فقال له آدم: ( أفتلومني على أمر قدره الله تعالى علي قبل أن أخلق بأربعين سنة تاب علي منه ومن تاب عليه فلا ذنب له ومن لا ذنب له لا يتوجه عليه لوم ) . وكذلك من عفا الله عنه. وإنما كان هذا لإخباره تعالى بذلك، وخبره صدق. وغيرهما من المذنبين التائبين يرجون رحمته ويخافون عذابه، فهم على وجل وخوف ألا تقبل توبتهم، وإن قبلت فالخوف أغلب عليهم إذ لا علم لهم بذلك. فاعلم.

 

الآية: 156 ( يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير )

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا » يعني المنافقين. « وقالوا لإخوانهم » يعني في النفاق أو في النسب في السرايا التي بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى بئر معونة. « لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا » فنهي المسلمون أن يقولوا مثل قولهم. وقوله: « إذا ضربوا » هو لما مضى؛ أي إذ ضربوا؛ لأن في الكلام معنى الشرط من حيث كان « الذين » مبهما غير موقت، فوقع « إذا » موقع « إذ » كما يقع الماضي في الجزاء موضع المستقبل. ومعنى « ضربوا في الأرض » سافروا فيها وساروا لتجارة أو غيرها فماتوا. « أو كانوا غزى » غزاة فقتلوا. والغُزَّى جمع منقوص لا يتغير لفظها في رفع وخفض، وأحدهم غاز، كراكع وركع، وصائم وصوم، ونائم ونوم، وشاهد وشهد، وغائب وغيب. ويجوز في الجمع غزاة مثل قضاة، وغزاء بالمد مثل ضراب وصوام. ويقال: غَزِيّ جمع الغَزَاة. قال الشاعر:

قل للقوافل والغزي إذا غزوا

وروي عن الزهري أنه قرأه « غزى » بالتخفيف. والمعزية المرأة التي غرا زوجها. وأتان مغزية متأخرة النتاج ثم تنتج. وأغزت الناقة إذا عسر لقاحها. والغزو قصد الشيء. والمغزى المقصد. ويقال في النسب إلى الغزو: غَزَوِيُّ.

 

قوله تعالى: « ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم » يعني ظنهم وقولهم. واللام متعلقة بقوله « قالوا » أي ليجعل ظنهم أنهم لو لم يخرجوا ما قتلوا. « حسرة » أي ندامة « في قلوبهم » . والحسرة الاهتمام على فائت لم يقدر بلوغه؛ قال الشاعر:

فواحسرتي لم أقض منها لبانتي ولم أتمتع بالجوار وبالقرب

وقيل: هي متعلقة بمحذوف. والمعنى: لا تكونوا مثلهم « ليجعل الله ذلك » القول « حسرة في قلوبهم » لأنهم ظهر نفاقهم. وقيل: المعنى لا تصدقوهم ولا تلتفتوا إليهم؛ فكان ذلك حسرة في قلوبهم. وقيل: « ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم » يوم القيامة لما هم فيه من الخزي والندامة، ولما فيه المسلمون من النعيم والكرامة.

 

قوله تعالى: « والله يحي ويميت » أي يقدر على أن يحيي من يخرج إلى القتال، ويميت من أقام في أهله. « والله بما تعملون بصير » قرئ بالياء والتاء. ثم أخبر تعالى أن القتل في سبيل الله والموت فيه خير من جميع الدنيا.

الآية [ 157 ] في الصفحة التالية ...

 

الآية: 157 - 158 ( ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون، ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون )

 

جواب الجزاء محذوف، استغني عنه بجواب القسم في قوله: « لمغفرة من الله ورحمة » وكان الاستغناء بجواب القسم أولى؛ لأن له صدر الكلام، ومعناه ليغفرن لكم. وأهل الحجاز يقولون: متم، بكسر الميم مثل نمتم، من مات يمات مثل خفت يخاف. وسفلى مضر يقولون: متم، بضم الميم مثل نمتم، من مات يموت. كقولك كان يكون، وقال يقول. هذا قول الكوفيين وهو حسن. وقوله: « لإلى الله تحشرون » وعظ. وعظهم الله بهذا القول، أي لا تفروا من القتال ومما أمركم به، بل فروا من عقابه وأليم عذابه، فإن مردكم إليه لا يملك لكم أحد ضرا ولا نفعا غيره. والله سبحانه وتعالى أعلم.

 

الآية: 159 ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين )

 

قوله: « ما » صلة فيها معنى التأكيد، أي فبرحمة؛ كقوله: « عما قليل » [ المؤمنون: 40 ] « فبما نقضهم ميثاقهم » [ النساء: 155 ] « جند ما هنالك مهزوم » [ ص: 11 ] . وليست بزائدة على الإطلاق، وإنما أطلق عليها سيبويه معنى الزيادة من حيث زال عملها.. ابن كيسان: « ما » نكرة في موضع جر بالباء « ورحمة » بدل منها. ومعنى الآية: أنه عليه السلام لما رفق بمن تولى يوم أحد ولم يعنفهم بين الرب تعالى أنه إنما فعل ذلك بتوفيق الله تعالى إياه. وقيل: « ما » استفهام. والمعنى: فبأي رحمة من الله لنت لهم؛ فهو تعجيب. وفيه بعد؛ لأنه لو كان كذلك لكان « فبم » بغير ألف. « لنت » من لان يلين لينا وليانا بالفتح. والفظ الغليظ الجافي. فظظت تفظ فظاظة وفظاظا فأنت فظ. والأنثى فظة والجمع أفظاظ. وفي صفة النبي عليه السلام ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق؛ وأنشد المفضل في المذكر:

وليس بفظ في الأداني والأولى يؤمون جدواه ولكنه سهل

وفظ على أعدائه يحذرونه فسطوته حتف ونائله جزل

وقال آخر في المؤنث:

أموت من الضر في منزلي وغيري يموت من الكظه

ودنيا تجود على الجاهلين وهي على ذي النهى فظه

وغلظ القلب عبارة عن تجهم الوجه، وقلة الانفعال في الرغائب، وقلة الإشفاق والرحمة، ومن ذلك قول الشاعر:

يبكى علينا ولا نبكي على أحد؟ لنحن أغلظ أكبادا من الإبل

ومعنى « لانفضوا » لتفرقوا؛ فضضتهم فانفضوا، أي فرقتهم فتفرقوا؛ ومن ذلك قول أبي النجم يصف إبلا:

مستعجلات القيض غير جرد ينفض عنهن الحصى بالصمد

وأصل الفض الكسر؛ ومنه قولهم: لا يفضض الله فاك. والمعنى: يا محمد لولا رفقك لمنعهم الاحتشام والهيبة من القرب منك بعد ما كان من توليهم.

 

في قوله تعالى: « فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر » قال العلماء: أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه الأوامر التي هي بتدريج بليغ؛ وذلك أنه أمره بأن يعفو عنهم ما له في خاصته عليهم من تبعة؛ فلما صاروا في هذه الدرجة أمره أن يستغفر فيما لله عليهم من تبعة أيضا، فإذا صاروا في هذه الدرجة صاروا أهلا للاستشارة في الأمور. قال أهل اللغة: الاستشارة مأخوذة من قول العرب: شرت الدابة وشورتها إذا علمت خبرها بجري أو غيره. ويقال للموضع الذي تركض فيه: مشوار. وقد يكون من قولهم: شرت العسل واشترته فهو مشور ومشتار إذا أخذته من موضعه، قال عدي بن زيد:

في سماع يأذن الشيخ له وحديث مثل ماذي مشار

 

قال ابن عطية: والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام؛ من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب. هذا ما لا خلاف فيه. وقد مدح الله المؤمنين بقوله: « وأمرهم شورى بينهم » [ الشورى: 38 ] . قال أعرابي: ما غبنت قط حتى يغبن قومي؛ قيل: وكيف ذلك؟ قال لا أفعل شيئا حتى أشاورهم. وقال ابن خويز منداد: واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وفيما أشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها. وكان يقال: ما ندم من استشار. وكان يقال: من أعجب برأيه ضل.

 

قوله تعالى: « وشاورهم في الأمر » يدل على جواز الاجتهاد في الأمور والأخذ بالظنون مع إمكان الوحي؛ فإن الله أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم في ذلك. واختلف أهل التأويل في المعنى الذي أمر الله نبيه عليه السلام أن يشاور فيه أصحابه؛ فقالت طائفة: ذلك في مكائد الحروب، وعند لقاء العدو، وتطييبا لنفوسهم، ورفعا لأقدارهم، وتألفا على دينهم، وإن كان الله تعالى قد أغناه عن رأيهم بوحيه. روي هذا عن قتادة والربيع وابن إسحاق والشافعي. قال الشافعي: هو كقوله ( والبكر تستأمر ) تطيبا لقلبها؛ لا أنه واجب. وقال مقاتل وقتادة والربيع: كانت سادات العرب إذا لم يشاوروا في الأمر شق عليهم: فأمر الله تعالى؛ نبيه عليه السلام أن يشاورهم في الأمر: فإن ذلك أعطف لهم عليه وأذهب لأضغانهم، وأطيب لنفوسهم. فإذا شاورهم عرفوا إكرامه لهم. وقال آخرون: ذلك فيما لم يأته فيه وحي. روي ذلك عن الحسن البصري والضحاك قالا: ما أمر الله تعالى نبيه بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم، وإنما أراد أن يعلمهم ما في المشاورة من الفضل، ولتقتدي به أمته من بعده. وفي قراءة ابن عباس: « وشاورهم في بعض الأمر » ولقد أحسن القائل:

شاور صديقك في الخفي المشكل واقبل نصيحة ناصح متفضل

فالله قد أوصى بذاك نبيه في قوله: ( شاورهم ) و ( توكل )

جاء في مصنف أبي داود عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( المستشار مؤتمن ) . قال العلماء: وصفة المستشار إن كان في الأحكام أن يكون عالما دينا، وقلما يكون ذلك إلا في عاقل. قال الحسن: ما كمل دين امرئ ما لم يكمل عقله. فإذا استشير من هذه صفته واجتهد في الصلاح وبذل جهده فوقعت الإشارة خطأ فلا غرامة عليه؛ قاله الخطابي وغيره.

 

وصفة المستشار في أمور الدنيا أن يكون عاقلا مجربا وادا في المستشير. قال:

شاور صديقك في الخفي المشكل

وقد تقدم. وقال آخر:

وإن باب أمر عليك التوى فشاور لبيبا ولا تعصه

في أبيات. والشورى بركة. وقال عليه السلام: ( ما ندم من استشار ولا خاب من استخار ) . وروى سهل بن سعد الساعدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما شقي قط عبد بمشورة وما سعد باستغناء رأي ) . وقال بعضهم: شاور من جرب الأمور؛ فإنه يعطيك من رأيه ما وقع عليه غاليا وأنت تأخذه مجانا. وقد جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة - وهي أعظم النوازل - شورى. قال البخاري: وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها. وقال سفيان الثوري: ليكن أهل مشورتك أهل التقوى والأمانة، ومن يخشى الله تعالى. وقال الحسن: والله ما تشاور قوم بينهم إلا هداهم لأفضل ما يحضر بهم. وروي عن علّي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما من قوم كانت لهم مشورة فحضر معهم من اسمه أحمد أو محمد فأدخلوه في مشورتهم إلا خير لهم ) .

والشورى مبنية على اختلاف الآراء، والمستشير ينظر في ذلك الخلاف، وينظر أقربها قولا إلى الكتاب والسنة إن أمكنه، فإذا أرشده الله تعالى إلى ما شاء منه عزم عليه وأنفذه متوكلا عليه، إذ هذه غاية الاجتهاد المطلوب؛ وبهذا أمر الله تعالى نبيه في هذه الآية.

 

قوله تعالى: « فإذا عزمت فتوكل على الله » قال قتادة: أمر الله تعالى نبيه عليه السلام إذا عزم على أمر أن يمضي فيه ويتوكل على الله، لا على مشاورتهم. والعزم هو الأمر المروى المنقح، وليس ركوب الرأي دون روية عزما، إلا على مقطع المشيحين من فتاك العرب؛ كما قال:

إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ونكب عن ذكر العواقب جانبا

ولم يستشر في رأيه غير نفسه ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا

وقال النقاش: العزم والحزم واحد، والحاء مبدلة من العين. قال ابن عطية: وهذا خطأ؛ فالحزم جودة النظر في الأمر وتنقيحه والحذر من الخطأ فيه. والعزم قصد الإمضاء؛ والله تعالى يقول: « وشاورهم في الأم فإذا عزمت » . فالمشاورة وما كان في معناها هو الحزم. والعرب تقول: قد أحزم لو أعزم. وقرأ جعفر الصادق وجابر بن زيد: « فإذا عزمت » بضم التاء. نسب العزم إلى نفسه سبحانه إذ هو بهدايته وتوفيقه؛ كما قال: « وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى » [ الأنفال: 17 ] . ومعنى الكلام أي عزمت لك ووفقتك وأرشدتك « فتوكل على الله » . والباقون بفتح التاء. قال المهلب: وامتثل هذا النبي صلى الله عليه وسلم من أمر ربه فقال: ( لا ينبغي لنبي يلبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله ) . أي ليس ينبغي له إذا عزم أن ينصرف؛ لأنه نقض للتوكل الذي شرطه الله عز وجل مع العزيمة. فلبسه لأمته صلى الله عليه وسلم حين أشار عليه بالخروج يوم أحد من أكرمه الله بالشهادة فيه، وهم صلحاء المؤمنين ممن كان فاتته بدر: يا رسول الله اخرج بنا إلى عدونا؛ دال على العزيمة. وكان صلى الله عليه وسلم أشار بالقعود، وكذلك عبدالله بن أبي أشار بذلك وقال: أقم يا رسول الله ولا تخرج إليهم بالناس، فإن هم أقاموا أقاموا بشر مجلس، وإن جاؤونا إلى المدينة قاتلناهم في الأفنية وأفواه السكك، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من الآطام، فوالله ما حاربنا قط عدو في هذه المدينة إلا غلبناه، ولا خرجنا منها إلى عدو إلا غلبنا. وأبى هذا الرأي من ذكرنا، وشجعوا الناس ودعوا إلى الحرب. فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة، ودخل إثر صلاته بيته ولبس سلاحه، فندم أولئك القوم وقالوا: أكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما خرج عليهم في سلاحه قالوا: يا رسول الله، أقم إن شئت فإنا لا نريد أن نكرهك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا ينبغي لنبي إذا لبس سلاحه أن يضعها حتى يقاتل ) .

 

قوله تعالى: « فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين » التوكل: الاعتماد على الله مع إظهار العجز، والاسم التكلان. يقال منه: اتكلت عليه في أمري، وأصله: « أو تكلت » قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، ثم أبدلت منها التاء وأدغمت في تاء الافتعال. ويقال: وكلته بأمري توكيلا، والاسم الوكالة بكسر الواو وفتحها.

واختلف العلماء في التوكل؛ فقالت طائفة من المتصوفة: لا يستحقه إلا من لم يخالط قلبه خوف غير الله من سبع أو غيره، وحتى يترك السعي في طلب الرزق لضمان الله تعالى. وقال عامة الفقهاء: ما تقدم ذكره عند قوله تعالى: « وعلى الله فليتوكل المؤمنون » [ آل عمران: 160 ] . وهو الصحيح كما بيناه. وقد خاف موسى وهارون بإخبار الله تعالى عنهما في قوله « لا تخافا » . وقال: « فأوجس في نفسه خيفة موسى 0 قلنا لا تخف » [ طه: 67 - 68 ] . وأخبر عن إبراهيم بقوله: « فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف » [ هود: 70 ] . فإذا كان الخليل وموسى والكليم قد خافا - وحسبك بهما - فغيرهما أولى. وسيأتي بيان هذا المعنى.

 

الآية: 160 ( إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون )

 

قوله تعالى: « إن ينصركم الله فلا غالب لكم » أي عليه توكلوا فإنه إن يعنكم ويمنعكم من عدوكم لن تغلبوا. « وإن يخذلكم » يترككم من معونته. « فمن ذا الذي ينصركم من بعده » أي لا ينصركم أحد من بعده، أي من بعد خذلانه إياكم؛ لأنه قال: « وإن يخذلكم » والخذلان ترك العون. والمخذول: المتروك لا يعبأ به. وخذلت الوحشية أقامت على ولدها في المرعى وتركت صواحباتها؛ فهي خذول. قال طرفة:

خذول تراعي ربوبا بخميلة تناول أطراف البرير وترتدي

وقال أيضا:

نظرت إليك بعين جارية خذلت صواحبها على طفل

وقيل: هذا من المقلوب؛ لأنها هي المخذولة إذا تركت. وتخاذلت رجلاه إذا ضعفتا. قال: وخذول الرجل من غير كسح ورجل خذلة للذي لا يزال يخذل. والله أعلم.

 

الآية: 161 ( وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون )

 

لما أخل الرماة يوم أحد بمراكزهم - على ما تقّدم - خوفا من أن يستولي المسلمون على الغنيمة فلا يصرف إليهم شيء، بين الله سبحانه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجور في القسمة؛ فما كان من حقكم أن تتهموه. وقال الضحاك: بل السبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث طلائع في بعض غزواته ثم غنم قبل مجيئهم؛ فقسم للناس ولم يقسم للطلائع؛ فأنزل الله عليه عتابا: « وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل » أي يقسم لبعض ويترك بعضا. وروي نحو هذا القول عن ابن عباس. وقال ابن عباس أيضا وعكرمة وابن جبير وغيرهم: نزلت بسبب قطيفة حمراء فقدت في المغانم يوم بدر؛ فقال بعض من كان مع النبّي صلى الله عليه وسلم: لعل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أخذها، فنزلت الآية أخرجه أبو داود والترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب. قال ابن عطية: قيل كانت هذه المقالة من مؤمنين لم يظنوا أن في ذلك حرجا. وقيل: كانت من المنافقين. وقد روي أن المفقود كان سيفا. وهذه الأقوال تخرج على قراءة « يغل » بفتح الياء وضم الغين. وروى أبو صخر عن محمد بن كعب « وما كان لنبي أن يغل » قال: تقول وما كان لنبي أن يكتم شيئا من كتاب الله. وقيل: اللام فيه منقولة، أي وما كان نبي ليغل؛ كقوله: « ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه » [ مريم: 35 ] . أي ما كان الله ليتخذ ولدا. وقرئ « يغل » بضم الياء وفتح الغين. وقال ابن السكيت: لم نسمع في المغنم إلا غل غلولا، وقرئ وما كان لنبي أن يغل ويغل. قال: فمعنى « يغل » يخون، ومعنى « يغل » يخون، ويحتمل معنيين: أحدهما يخان أي يؤخذ من غنيمته، والآخر يخون أن ينسب إلى الغلول: ثم قيل: إن كل من غل شيئا في خفاء فقد غل يغل غلولا: قال ابن عرفة: سميت غلولا لأن الأيدي مغلولة منها، أي ممنوعة. وقال أبو عبيد: الغلول من المغنم خاصة، ولا نراه من الخيانة ولا من الحقد. ومما يبين ذلك أنه يقال من الخيانة: أغل يغل، ومن الحقد: غل يغل بالكسر، ومن الغلول: غل يغل بالضم. وغل البعير أيضا يغل غلة إذا لم يقض ريه وأغل الرجل خان، قال النمر:

جزى الله عنا حمزة ابنة نوفل جزاء مغل بالأمانة كاذب

وفي الحديث: ( لا إغلال ولا إسلال ) أي لا خيانة ولا سرقة، ويقال: لا رشوة. وقال شريح: ليس على المستعير غير المغل ضمان. وقال صلى الله عليه وسلم: ( ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن ) من رواه بالفتح فهو من الضغن. وغل دخل يتعدى ولا يتعدى؛ يقال: غل فلان المفاوز، أي دخلها وتوسطها. وغل من المغنم غلولا، أي خان. وغل الماء بين الأشجار إذا جرى فيها؛ يغل بالضم في جميع ذلك. وقيل: الغلول في اللغة أن يأخذ من المغنم شيئا يستره عن أصحابه؛ ومنه تغلغل الماء في الشجر إذا تخللها. والغلل: الماء الجاري في أصول الشجر، لأنه مستتر بالأشجار، كما قال:

لعب السيول به فأصبح ماؤه غللا يقطع في أصول الخروع

ومنه الغلالة للثوب الذي يلبس تحت الثياب. والغال: أرض مطمئنة ذات شجر. ومنابت السلم والطلح يقال لها: غال. والغال أيضا نبت، والجمع غلان بالضم. وقال بعض الناس: إن معنى « يغل » يوجد غالا؛ كما تقول: أحمدت الرجل وجدته محمودا. فهذه القراءة على هذا التأويل ترجع إلى معنى « يغل » بفتح الياء وضم الغين. ومعنى « يغل » عند جمهور أهل العلم أي ليس لأحد أن يغله، أي يخونه في الغنيمة. فالآية في معنى نهي الناس عن الغلول في الغنائم، والتوعد عليه. وكما لا يجوز أن يخان النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يخان غيره، ولكن خصه بالذكر لأن الخيانة معه أشد وقعا وأعظم وزرا؛ لأن المعاصي تعظم بحضرته لتعين توقيره. والولاة إنما هم على أمر النبي صلى الله عليه وسلم فلهم حظهم من التوقير. وقيل: معنى « يغل » أي ما غل نبي قط، وليس الغرض النهي.

 

قوله تعالى: « ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة » أي يأتي به حاملا له على ظهره ورقبته، معذبا بحمله وثقله، ومرعوبا بصوته، وموبخا بإظهار خيانته على رؤوس الأشهاد؛ على ما يأتي. وهذه الفضيحة التي يوقعها الله تعالى بالغال نظير الفضيحة التي توقع بالغادر، في أن ينصب له لواء عند أسته بقدر غدرته. وجعل الله تعالى هذه المعاقبات حسبما يعهده البشر ويفهمونه؛ ألا ترى إلى قول الشاعر:

أسمي ويحك هل سمعت بغدرة رفع اللواء لنا بها في المجمع

وكانت العرب ترفع للغادر لواء، وكذلك يطاف بالجاني مع جنايته. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ثم قال: ( لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة علي رقبته بعيرا له رغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك ) وروى أبو داود عن سمرة بن جندب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصاب غنيمة أمر بلالا فنادى في الناس فيجيؤون بغنائمهم فيخمسه ويقسمه، فجاء رجل يوما بعد النداء بزمام من الشعر فقال: يا رسول الله هذا كان فيما أصبناه من الغنيمة. فقال: ( أسمعت بلالا ينادي ثلاثا ) ؟ قال: نعم. قال: ( فما منعك أن تجيء به ) ؟ فاعتذر إليه. فقال: ( كلا أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله منك ) . قال بعض العلماء: أراد يوافي بوزر ذلك يوم القيامة، كما قال في آية أخرى: « وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون » [ الأنعام: 31 ] . وقيل: الخبر محمول على شهرة الأمر؛ أي يأتي يوم القيامة قد شهر الله أمره كما يشهر لو حمل بعيرا له رغاء أو فرسا له حمحمة.

قلت: وهذا عدول عن الحقيقة إلى المجاز والتشبيه، وإذا دار الكلام بين الحقيقة والمجاز فالحقيقة الأصل كما في كتب الأصول. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالحقيقة، ولا عطر بعد عروس. ويقال: إن من غل شيئا في الدنيا يمثل له يوم القيامة في النار، ثم يقال له: انزل إليه فخذه، فيهبط إليه، فإذا انتهى إليه حمله، حتى إذا انتهى إلى الباب سقط عنه إلى أسفل جهنم، فيرجع إليه فيأخذه؛ لا يزال هكذا إلى ما شاء الله. ويقال « يأت بما غل » يعني تشهد عليه يوم القيامة تلك الخيانة والغلول.

 

قال العلماء: والغلول كبيرة من الكبائر؛ بدليل هذه الآية وما ذكرناه من حديث أبي هريرة: أنه يحمله على عنقه. وقد قال صلى الله عليه وسلم في مدعم: ( والذي نفسي بيده أن الشملة التي أخذ يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا ) قال: فلما سمع الناس ذلك جاء رجل بشراك أو شراكين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( شراك أو شراكان من نار ) . أخرجه الموطأ. فقوله عليه السلام: ( والذي نفسي بيده ) وامتناعه من الصلاة على من غل دليل على تعظيم الغلول وتعظيم الذنب فيه وأنه من الكبائر، وهو من حقوق الآدميين ولا بد فيه من القصاص بالحسنات والسيئات، ثم صاحبه في المشيئة. وقوله: ( شراك أو شراكان من نار ) مثل قوله: ( أدوا الخياط والمخيط ) . وهذا يدل على أن القليل والكثير لا يحل أخذه في الغزو قبل المقاسم، إلا ما أجمعوا عليه من أكل المطاعم في أرض الغزو ومن الاحتطاب والاصطياد. وقد روي عن الزهري أنه قال: لا يؤخذ الطعام في أرض العدو إلا بإذن الإمام. وهذا لا أصل له؛ لأن الآثار تخالفه، على ما يأتي. قال الحسن: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتحوا المدينة أو الحصن أكلوا من السويق والدقيق والسمن والعسل. وقال إبراهيم: كانوا يأكلون من أرض العدو الطعام في أرض الحرب ويعلفون قبل أن يخمسوا. وقال عطاء: في الغزاة يكونون في السرية فيصيبون أنحاء السمن والعسل والطعام فيأكلون، وما بقي ردوه إلى إمامهم؛ وعلى هذا جماعة العلماء.

 

وفي هذا الحديث دليل على أن الغال لا يحرق متاعه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحرق متاع الرجل الذي أخذ الشملة، ولا أحرق متاع صاحب الخرزات الذي ترك الصلاة عليه، ولو كان حرق متاعه واجبا لفعله صلى الله عليه وسلم، ولو فعله لنقل ذلك في الحديث. وأما ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا وجدتم الرجل قد غل فأحرقوا متاعه واضربوه ) . فرواه أبو داود والترمذي من حديث صالح بن محمد بن زائدة، وهو ضعيف لا يحتج به. قال الترمذي: سألت محمدا - يعني البخاري - عن هذا الحديث فقال: إنما روى هذا صالح بن محمد وهو أبو واقد الليثي وهو منكر الحديث. وروى أبو داود أيضا عنه قال: غزونا مع الوليد بن هشام ومعنا سالم بن عبدالله بن عمر وعمر بن عبدالعزيز، فغل رجل متاعا فأمر الوليد بمتاعه فأحرق، وطيف به ولم يعطه سهمه. قال أبو داود: وهذا أصح الحديثين. وروي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر حرقوا متاع الغال وضربوه. قال أبو داود: وزاد فيه علّي بن بحر عن الوليد - ولم أسمعه منه - : ومنعوه سهمه. قال أبو عمر: قال بعض رواة هذا الحديث: واضربوا عنقه وأحرقوا متاعه. وهذا الحديث يدور على صالح بن محمد وليس ممن يحتج به. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ) وهو ينفي القتل في الغلول. وروى ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس على الخائن ولا على المنتهب ولا على المختلس قطع ) . وهذا يعارض حديث صالح بن محمد وهو أقوى من جهة الإسناد. والغال خائن في اللغة والشريعة وإذا انتفى عنه القطع فأحرى القتل. وقال الطحاوي: لو صح حديث صالح المذكور احتمل أن يكون حين كانت العقوبات في الأموال؛ كما قال في مانع الزكاة: ( إنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات الله تعالى ) . وكما قال أبو هريرة في ضالة الإبل المكتومة: فيها غرامتها ومثله معها. وكما روى عبدالله بن عمرو بن العاص في الثمر المعلق غرامة مثليه وجلدات نكال وهذا كله منسوخ، والله أعلم.

 

فإذا غل الرجل في المغنم ووجد أخذ منه، وأدب وعوقب بالتعزير. وعند مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم والليث: لا يحرق متاعه. وقال الشافعي والليث وداود: إن كان عالما بالنهي عوقب. وقال الأوزاعي: يحرق متاع الغال كله إلا سلاحه وثيابه التي عليه وسرجه، ولا تنزع منه دابته، ولا يحرق الشيء الذي غل. وهذا قول أحمد وإسحاق، وقاله الحسن، إلا أن يكون حيوانا أو مصحفا. وقال ابن خويز منداد: وروي أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ضربا الغال وأحرقا متاعه. قال ابن عبدالبر: وممن قال يحرق رحل الغال ومتاعه مكحول وسعيد بن عبدالعزيز. وحجة من ذهب إلى هذا حديث صالح المذكور. وهو عندنا حديث لا يجب به انتهاك حرمة، ولا إنفاذ حكم؛ لما يعارضه من الآثار التي هي أقوى منه. وما ذهب إليه مالك ومن تابعه من هذه المسألة أصح من جهة النظر وصحيح الأثر. والله أعلم.

 

لم يختلف مذهب مالك في العقوبة على البدن، فأما في المال فقال في الذمي يبيع الخمر من المسلم: تراق الخمر على المسلم، وينزع الثمن من الذمي عقوبة له؛ لئلا يبيع الخمر من المسلمين. فعلى هذا يجوز أن يقال: تجوز العقوبة في المال. وقد أراق عمر رضي الله عنه لبنا شيب بماء.

 

أجمع العلماء على أن للغال أن يرد جميع ما غل إلى صاحب المقاسم قبل أن يفترق الناس إن وجد السبيل إلى ذلك، وإنه إذا فعل ذلك فهي توبة له، وخروج عن ذنبه. واختلفوا فيما يفعل به إذا افترق أهل العسكر ولم يصل إليه؛ فقال جماعة من أهل العلم: يدفع إلى الإمام خمسه ويتصدق بالباقي. هذا مذهب الزهري ومالك والأوزاعي والليث والثوري؛ وروي عن عبادة بن الصامت ومعاوية والحسن البصري. وهو يشبه مذهب ابن مسعود وابن عباس؛ لأنهما كانا يريان أن يتصدق بالمال الذي لا يعرف صاحبه؛ وهو مذهب أحمد بن حنبل. وقال الشافعّي: ليس له الصدقة بمال غيره. قال أبو عمر: فهذا عندي فيما يمكن وجود صاحبه والوصول إليه أو إلى ورثته، وأما إن لم يكن شيء من ذلك فإن الشافعي لا يكره الصدقة حينئذ إن شاء الله. وقد أجمعوا في اللقطة على جواز الصدقة بها بعد التعريف لها وانقطاع صاحبها، وجعلوه إذا جاء - مخيرا بين الأجر والضمان، وكذلك المغصوب. وبالله التوفيق. وفي تغريم الغلول دليل على اشتراك الغانمين في الغنيمة، فلا يحل لأحد أن يستأثر بشيء منها دون الآخر؛ فمن غصب شيئا منها أدب اتفاقا، على ما تقّدم.

وإن وطئ جارية أو سرق نصابا فاختلف العلماء في إقامة الحد عليه؛ فرأى جماعة أنه لا قطع عليه.

 

ومن الغلول هدايا العمال، وحكمه في الفضيحة في الآخرة حكم الغال. روى أبو داود في سننه ومسلم في صحيحه عن أبي حميد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية قال ابن السرح ابن الأتبية على الصدقة، فجاء فقال: هذا لكم وهذا أهدي لي. فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: ( ما بال العامل نبعثه فيجيء فيقول هذا لكم وهذا أهدي لي ألا جلس في بيت أمه أو أبيه فينظر أيهدى إليه أم لا، لا يأتي أحد منكم بشيء من ذلك إلا جاء به يوم القيامة إن كان بعيرا فله رغاء وإن كانت بقرة فلها خوار أو شاة تيعر ) - ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه ثم قال: - ( اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت ) . وروى أبو داود عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول ) . وروى أيضا عن أبي مسعود الأنصاري قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعيا ثم قال: ( انطلق أبا مسعود ولا ألفينك يوم القيامة تأتي على ظهرك بعير من إبل الصدقة له رغاء قد غللته ) . قال: إذا لا أنطلق. قال: ( إذا لا أكرهك ) . وقد قيد هذه الأحاديث ما رواه أبو داود أيضا عن المستورد بن شداد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من كان لنا عاملا فليكتسب زوجة فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادما فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكنا ) . قال فقال أبو بكر: أخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من اتخذ غير ذلك فهو غال سارق ) . والله أعلم.

 

ومن الغلول حبس الكتب عن أصحابها، ويدخل غيرها في معناها. قال الزهري: إياك وغلول الكتب. فقيل له: وما غلول الكتب؟ قال: حبسها عن أصحابها. وقد قيل في تأويل قوله تعالى: « وما كان لنبي أن يغل » أن يكتم شيئا من الوحي رغبة أو رهبة أو مداهنة. وذلك أنهم كانوا يكرهون ما في القرآن من عيب دينهم وسب آلهتهم، فسألوه أن يطوي ذلك؛ فأنزل الله هذه الآية؛ قاله محمد بن بشار. وما بدأنا به قول الجمهور.

 

قوله تعالى: « ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون » تقدم القول فيه.

 

الآية: 162 - 163 ( أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير، هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون )

 

قوله تعالى: « أفمن اتبع رضوان الله » يريد بترك الغلول والصبر على الجهاد. « كمن باء بسخط من الله » يريد بكفر أو غلول أو تول عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحرب. « ومأواه جهنم » أي مثواه النار، أي إن لم يتب أو يعفو الله عنه. « وبئس المصير » أي المرجع. وقرئ رضوان بكسر الراء وضمها كالعدوان والعدوان. ثم قال تعالى: « هم درجات عند الله » أي ليس من اتبع رضوان الله كمن باء بسخط منه. قيل: « هم درجات » متفاوتة، أي هم مختلفو المنازل عند الله؛ فلمن اتبع رضوانه الكرامة والثواب العظيم، ولمن باء بسخط منه المهانة والعذاب الأليم. ومعنى « هم درجات » - أي ذوو درجات. أو على درجات، أو في درجات، أو لهم درجات. وأهل النار أيضا ذوو درجات؛ كما قال: ( وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح ) . فالمؤمن والكافر لا يستويان في الدرجة؛ ثم المؤمنون يختلفون أيضا، فبعضهم أرفع درجة من بعض، وكذلك الكفار. والدرجة الرتبة، ومن الدرج؛ لأنه يطوى رتبة بعد رتبة. والأشهر في منازل جهنم دركات؛ كما قال: « إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار » [ النساء: 145 ] فلمن لم يغل درجات في الجنة، ولمن غل دركات في النار. قال أبو عبيدة: جهنم أدراك، أي منازل؛ يقال لكل منزل منها: درك ودرك. والدرك إلى أسفل، والدرج إلى أعلى.

 

الآية: 164 ( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين )

 

بين الله تعالى عظيم منته عليهم ببعثه محمدا صلى الله عليه وسلم. والمعنى في المنة فيه أقوال: منها أن يكون معنى « بشر مثلهم » أي بشر مثلهم. فلما أظهر البراهين وهو بشر مثلهم علم أن ذلك من عند الله. وقيل: « من أنفسهم » منهم. فشرفوا به صلى الله عليه وسلم، فكانت تلك المنة. وقيل: « من أنفسهم » ليعرفوا حاله ولا تخفى عليهم طريقته. وإذا كان محله فيهم هذا كانوا أحق بأن يقاتلوا عنه ولا ينهزموا دونه. وقرئ في الشواذ « من أنفسهم » ( بفتح الفاء ) يعني من أشرفهم؛ لأنه من بني هاشم، وبنو هاشم أفضل من قريش، وقريش أفضل من العرب، والعرب أفضل من غيرهم. ثم قيل: لفظ المؤمنين عام ومعناه خاص في العرب؛ لأنه ليس حّي من أحياء العرب إلا وقد ولده صلى الله عليه وسلم، ولهم فيه نسب؛ إلا بني تغلب فإنهم كانوا نصارى فطهره الله من دنس النصرانية. وبيان هذا التأويل قوله تعالى: « هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم » [ الجمعة: 2 ] . وذكر أبو محمد عبدالغني قال: حدثنا أبو أحمد البصري حدثنا أحمد بن علّي بن سعيد القاضي أبو بكر المروزي حدثنا يحيى بن معين حدثنا هشام بن يوسف عن عبدالله بن سليمان النوفلي عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها: « لقد مّن الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم » قالت: هذه للعرب خاصة. وقال آخرون: أراد به المؤمنين كلهم. ومعنى « من أنفسهم » أنه واحد منهم وبشر ومثلهم، وإنما أمتاز عنهم بالوحي؛ وهو معنى قوله « لقد جاءكم رسول من أنفسكم » [ التوبة: 128 ] وخص المؤمنين بالذكر لأنهم المنتفعون به، فالمنة عليهم أعظم. وقوله تعالى: « يتلو عليهم » « يتلو » في موضع نصب نعت لرسول، ومعناه يقرأ. والتلاوة القراءة. « ويعلمهم الكتاب والحكمة » تقدم في ( البقرة ) . ومعنى: « وإن كانوا من قبل » أي ولقد كانوا من قبل، أي من قبل محمد، وقيل: « إن » بمعنى ما، واللام في الخبر بمعنى إلا. أي وما كانوا من قبل إلا في ضلال مبين. ومثله « وإن كنتم من قبله لمن الضالين » [ البقرة: 198 ] أي وما كنتم من قبله إلا من الضالين. وهذا مذهب الكوفيين. وقد تقّدم في « البقرة » معنى هذه الآية.

 

الآية: 165 ( أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير )

 

قوله تعالى: « أولما » الألف للاستفهام، والواو للعطف. « مصيبة » أي غلبة. « قد أصبتم مثليها » يوم بدر بأن قتلتم منهم سبعين وأسرتم سبعين. والأسير في حكم المقتول؛ لأن الآسر يقتل أسيره إن أراد. أي فهزمتموهم يوم بدر ويوم أحد أيضا في الابتداء، وقتلتم فيه قريبا من عشرين، قتلتم منهم في يومين، ونالوا منكم في يوم أحد. « قلتم أنى هذا » أي من أين أصابنا هذا الانهزام والقتل، ونحن نقاتل في سبيل الله، ونحن مسلمون، وفينا النبّي والوحي، وهم مشركون. « قل هو من عند أنفسكم » يعني مخالفة الرماة. وما من قوم أطاعوا نبيهم في حرب إلا نصروا؛ لأنهم إذا أطاعوا فهم حزب الله، وحزب الله هم الغالبون. وقال قتادة والربيع بن أنس: يعني سؤالهم النبّي صلى الله عليه وسلم أن يخرج بعد ما أراد الإقامة بالمدينة. وتأوّلها في الرؤيا التي رآها درعا حصينة. علّي بن أبي طالب رضي الله عنه: هو اختيارهم الفداء يوم بدر على القتل. وقد قيل لهم: إن فاديتم الأسارى قتل منكم على عّدتهم. وروى البيهقي عن علّي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال النبّي صلى الله عليه وسلم في الأسارى يوم بدر: ( إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم فاديتموهم واستمتعتم بالفداء واستشهد منكم بعّدتهم ) . فكان آخر السبعين ثابت بن قيس قتل يوم اليمامة. فمعنى « من عند أنفسكم » على القولين الأولين بذنوبكم. وعلى القول الأخير باختياركم.

 

الآية: 166 - 167 ( وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين، وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون )

 

قوله تعالى: « وما أصابكم يوم التقى الجمعان » يعني يوم أحد من القتل والجرح والهزيمة. « فبإذن الله » أي بعلمه. وقيل: بقضائه وقدره. قال القفال: أي فبتخليته بينكم وبينهم، لا أنه أراد ذلك. وهذا تأويل المعتزلة. ودخلت الفاء في « فبإذن الله » لأن « ما » بمعنى الذي. أي والذي أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله؛ فأشبه الكلام معنى الشرط، كما قال سيبويه: الذي قام فله درهم. « وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا » أي ليميز. وقيل ليرى. وقيل: ليظهر إيمان المؤمنين بثبوتهم في القتال، وليظهر كفر المنافقين بإظهارهم الشماتة فيعلمون ذلك.

والإشارة بقوله: « نافقوا وقيل لهم » هي إلى عبدالله بن أبّي وأصحابه الذين انصرفوا معه عن نصرة النبّي صلى الله عليه وسلم، وكانوا ثلاثمائة. فمشى في أثرهم عبدالله بن عمرو بن حرام الأنصاري، أبو جابر بن عبدالله، فقال لهم: اتقوا الله ولا تتركوا نبيكم، وقاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، ونحو هذا من القول. فقال له ابن أبّي: ما أرى أن يكون قتال، ولو علمنا أن يكون قتال لكنا معكم. فلما يئس منهم عبدالله قال: اذهبوا أعداء الله فسيغني الله رسوله عنكم. ومضى مع النبي صلى الله عليه وسلم واستشهد رحمه الله تعالى.

 

واختلف الناس في معنى قوله: « أو ادفعوا » فقال السدي وابن جريج وغيرهما: كثروا سوادنا وإن لم تقاتلوا معنا؛ فيكون ذلك دفعا وقمعا للعدو؛ فإن السواد إذا كثر حصل دفع العّدو. وقال أنس بن مالك: رأيت يوم القادسية عبدالله بن أم مكتوم الأعمى وعليه درع يجر أطرافها، وبيده راية سوداء؛ فقيل له: أليس قد أنزل الله عذرك؟ قال: بلى! ولكني أكثر سواد المسلمين بنفسي. وروي عنه أنه قال: فكيف بسوادي في سبيل الله! وقال أبو عون الأنصاري: معنى « أو ادفعوا » رابطوا. وهذا قريب من الأّول. ولا محالة أن المرابط مدافع؛ لأنه لولا مكان المرابطين في الثغور لجاءها العدو. وذهب قوم من المفسرين إلى أن قول عبدالله بن عمرو « أو ادفعوا » إنما هو استدعاء إلى القتال حمية؛ لأنه استدعاهم إلى القتال في سبيل الله، وهي أن تكون كلمة الله هي العليا، فلما رأى أنهم ليسوا على ذلك عرض عليهم الوجه الذي يحشمهم ويبعث الأنفة. أي أو قاتلوا دفاعا عن الحوزة. ألا ترى أن قزمان قال: والله ما قاتلت إلا عن أحساب قومي. وألا ترى أن بعض الأنصار قال يوم أحد لما رأى قريشا قد أرسلت الظهر في زروع قناة، أترعى زروع بني قيلة ولما نضارب؟ والمعنى إن لم تقاتلوا في سبيل الله فقاتلوا دفعا عن أنفسكم وحريمكم.

 

قوله تعالى: « هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان » أي بينوا حالهم، وهتكوا أستارهم، وكشفوا عن نفاقهم لمن كان يظن أنهم مسلمون؛ فصاروا أقرب إلى الكفر في ظاهر الحال، وإن كانوا كافرين على التحقيق. وقوله تعالى: « يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم » أي أظهروا الإيمان، وأضمروا الكفر. وذكر الأفواه تأكيد؛ مثل قوله: « يطير بجناحيه » [ الأنعام: 38 ] .

 

الآية: 168 ( الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين )

 

قوله تعالى: « الذين قالوا لإخوانهم » معناه لأجل إخوانهم، وهم الشهداء المقتولون من الخزرج؛ وهم إخوة نسب ومجاورة، لا إخوة الدين. أي قالوا لهؤلاء الشهداء: لو قعدوا، أي بالمدينة ما قتلوا. وقيل: قال عبدالله بن أبّي وأصحابه لإخوانهم، أي لأشكالهم من المنافقين: لو أطاعونا، هؤلاء الذين قتلوا، لما قتلوا. وقوله: « لو أطاعونا » يريد في ألا يخرجوا إلى قريش. وقوله: أي قالوا هذا القول وقعدوا بأنفسهم عن الجهاد؛ فرد الله عليهم بقوله: « قل فادرؤوا » أي قل لهم يا محمد: إن صدقتم فادفعوا الموت عن أنفسكم. والدرء الدفع. بين بهذا أن الحذر لا ينفع من القدر، وأن المقتول يقتل بأجله، وما علم الله وأخبر به كائن لا محالة. وقيل: مات يوم قيل هذا، سبعون منافقا. وقال أبو الليث السمرقندي: سمعت بعض المفسرين بسمرقند يقول: لما نزلت الآية « قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت » مات يومئذ سبعون نفسا من المنافقين.

 

الآية: 169 - 170 ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون )

 

لما بين الله تعالى أن ما جرى يوم أحد كان امتحانا يميز المنافق من الصادق، بين أن من لم ينهزم فقتل له الكرامة والحياة عنده. والآية في شهداء أحد. وقيل: نزلت في شهداء بئر معونة. وقيل: بل هي عامة في جميع الشهداء. وفي مصنف أبي داود بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا من يبلغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عند الحرب فقال الله سبحانه أنا أبلغهم عنكم ) - قال - فأنزل الله ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا... ) إلى آخر الآيات. وروى بقّي بن مخلد عن جابر قال: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( يا جابر ما لي أراك منكسا مهتما ) ؟ قلت: يا رسول الله، استشهد أبي وترك عيالا وعليه دين؛ فقال: ( ألا أبشرك بما لقي الله عز وجل به أباك ) ؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: ( إن الله أحيا أباك وكلمه كفاحا وما كلم أحد قط إلا من وراء حجاب فقال له يا عبدي تمن أعطك قال يا رب فردني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية فقال الرب تبارك وتعالى أنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون قال يا رب فأبلغ من ورائي ) فأنزل الله عز وجل « ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله » الآية. أخرجه ابن ماجه في سننه، والترمذي في جامعه وقال: هذا حديث حسن غريب. وروى وكيع عن سالم بن الأفطس عن سعيد بن جبير « ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء » قال: لما أصيب حمزة بن عبدالمطلب ومصعب بن عمير ورأوا ما رزقوا من الخير قالوا: ليت إخواننا يعلمون ما أصابنا من الخير كي يزدادوا في الجهاد رغبة؛ فقال الله تعالى أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله تعالى: « ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا - إلى قوله: لا يضيع أجر المؤمنين » . وقال أبو الضحى: نزلت هذه الآية في أهل أحد خاصة. والحديث الأول يقتضي صحة هذا القول. وقال بعضهم: نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر رجلا؛ ثمانية من الأنصار، وستة من المهاجرين. وقيل: نزلت في شهداء بئر معونة، وقصتهم مشهورة ذكرها محمد بن إسحاق وغيره. وقال آخرون: إن أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة وسرور تحسروا وقالوا: نحن في النعمة والسرور، وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا في القبور. فأنزل الله تعالى هذه الآية تنفيسا عنهم وإخبارا عن حال قتلاهم.

قلت: وبالجملة وإن كان يحتمل أن يكون النزول بسبب المجموع فقد أخبر الله تعالى فيها عن الشهداء أنهم أحياء في الجنة يرزقون، ولا محالة أنهم ماتوا وأن أجسادهم في التراب، وأرواحهم حية كأرواح سائر المؤمنين، وفضلوا بالرزق في الجنة من وقت القتل حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم.

وقد اختلف العلماء في هذا المعنى. فالذي عليه المعظم هو ما ذكرناه، وأن حياة الشهداء محققة. ثم منهم من يقول: ترد إليهم الأرواح في قبورهم فينعمون، كما يحيا الكفار في قبورهم فيعذبون. وقال مجاهد: يرزقون من ثمر الجنة، أي يجدون ريحها وليسوا فيها. وصار قوم إلى أن هذا مجاز، والمعنى أنهم في حكم الله مستحقون للتنعم في الجنة. وهو كما يقال: ما مات فلان، أي ذكره حّي؛ كما قيل:

موت التقي حياة لا فناء لها قد مات قوم في الناس أحياء

فالمعنى أنهم يرزقون الثناء الجميل. وقال آخرون: أرواحهم في أجواف طير خضر وأنهم يرزقون في الجنة ويأكلون ويتنعمون. وهذا هو الصحيح من الأقوال؛ لأن ما صح به النقل فهو الواقع. وحديث ابن عباس نص يرفع الخلاف. وكذلك حديث ابن مسعود خرجه مسلم. وقد أتينا على هذا المعنى مبينا في كتاب « التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة » . والحمد لله. وقد ذكرنا هناك كم الشهداء، وأنهم مختلفو الحال. وأما من تأول في الشهداء أنهم أحياء بمعنى أنهم سيحيون فبعيد يرده القرآن والسنة؛ فإن قوله تعالى: « بل أحياء » دليل على حياتهم، وأنهم يرزقون ولا يرزق إلا حّي. وقد قيل: إنه يكتب لهم في كل سنة ثواب غزوة؛ ويشركون في ثواب كل جهاد كان بعدهم إلى يوم القيامة؛ لأنهم سنوا أمر الجهاد. نظيرة قوله تعالى: « من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا » [ المائدة: 32 ] . على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى. وقيل: لأن أرواحهم تركع وتسجد تحت العرش إلى يوم القيامة، كأرواح الأحياء المؤمنين الذين باتوا على وضوء. وقيل: لأن الشهيد لا يبلى في القبر ولا تأكله الأرض. وقد ذكرنا هذا المعنى في « التذكرة » وأن الأرض لا تأكل الأنبياء والشهداء والعلماء والمؤذنين المحتسبين وحملة القرآن.

 

إذا كان الشهيد حيا حكما فلا يصلى عليه، كالحّي حسا. وقد اختلف العلماء في غسل الشهداء والصلاة عليهم؛ فذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة والثوري إلى غسل جميع الشهداء والصلاة عليهم؛ إلا قتيل المعترك في قتال العدو خاصة؛ لحديث جابر قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أدفنوهم بدمائهم ) يعني يوم أحد ولم يغسلهم، رواه البخاري. وروى أبو داود عن ابن عباس قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم. وبهذا قال أحمد وإسحاق والأوزاعي وداود بن علّي وجماعة فقهاء الأمصار وأهل الحديث وابن علية. وقال سعيد بن المسيب والحسن: يغسلون. قال أحدهما: إنما لم تغسل شهداء أحد لكثرتهم والشغل عن ذلك. قال أبو عمر: ولم يقل بقول سعيد والحسن هذا أحد من فقهاء الأمصار إلا عبيدالله بن الحسن العنبري، وليس ما ذكروا من الشغل عن غسل شهداء أحد علة؛ لأن كل واحد منهم كان له ولي يشتغل به ويقوم بأمره. والعلة في ذلك - والله أعلم - ما جاء في الحديث في دمائهم ( أنها تأتي يوم القيامة كريح المسك ) فبان أن العلة ليست الشغل كما قال من قال في ذلك، وليس لهذه المسألة مدخل في القياس والنظر، وإنما هي مسألة اتباع للأثر الذي نقله الكافة في قتلى أحد لم يغسلوا. وقد احتج بعض المتأخرين ممن ذهب مذهب الحسن بقوله عليه السلام في شهداء أحد. ( أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة ) . قال: وهذا يدل على خصوصهم وأنه لا يشركهم في ذلك غيرهم. قال أبو عمر: وهذا يشبه الشذوذ، والقول بترك غسلهم أولى؛ لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في قتلى أحد وغيرهم. وروى أبو داود عن جابر قال: رمي رجل بسهم في صدره أو في حلقه فمات فأدرج في ثيابه كما هو. قال: ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

وأما الصلاة عليهم فاختلف العلماء في ذلك أيضا؛ فذهب مالك والليث والشافعي وأحمد وداود إلى أنه لا يصلى عليهم؛ لحديث جابر قال: كان النبّي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول: ( أيهما أكثر أخذا للقرآن ) ؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد وقال: ( أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة ) وأمر بدفنهم بدمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم. وقال فقهاء الكوفة والبصرة والشام: يصلى عليهم. ورووا آثارا كبيرة أكثرها مراسيل أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على حمزة وعلى سائر شهداء أحد.

 

وأجمع العلماء على أن الشهيد إذا حمل حيا ولم يمت في المعترك وعاش وأكل فإنه يصلى عليه؛ كما قد صنع بعمر رضي الله عنه.

واختلفوا فيمن قتل مظلوما كقتيل الخوارج وقطاع الطريق وشبه ذلك؛ فقال أبو حنيفة والثوري: كل من قتل مظلوما لم يغسل، ولكنه يصلى عليه وعلى كل شهيد؛ وهو قول سائر أهل العراق. ورووا من طرق كثير صحاح عن زيد بن صوحان، وكان قتل يوم الجمل: لا تنزعوا عني ثوبا ولا تغسلوا عني دما. وثبت عن عمار بن ياسر أنه قال مثل قول زيد بن صوحان. وقتل عمار بن ياسر بصفين ولم يغسله علّي. وللشافعي قولان: أحدهما - يغسل كجميع الموتى إلا من قتله أهل الحرب؛ وهذا قول مالك. قال مالك: لا يغسل من قتله الكفار ومات في المعترك. وكان مقتول غير قتيل المعترك - قتيل الكفار - فإنه يغسل ويصلى عليه. وهذا قول أحمد بن حنبل رضي الله عنه. والقول الآخر للشافعّي - لا يغسل قتيل البغاة. وقول مالك أصح؛ فإن غسل الموتى قد ثبت بالإجماع ونقل الكافة. فواجب غسل كل ميت إلا من أخرجه إجماع أو سنة ثابتة. وبالله التوفيق.

 

العدو إذا صبح قوما في منزلهم ولم يعلموا به فقتل منهم فهل يكون حكمه حكم قتيل المعترك، أو حكم سائر الموتى؛ وهذه المسألة نزلت عندنا بقرطبة أعادها الله: أغار العدو - قصمه الله - صبيحة الثالث من رمضان المعظم سنة سبع وعشرين وستمائة والناس في أجرانهم على غفلة، فقتل وأسر، وكان من جملة من قتل والدي رحمه الله؛ فسألت شيخنا المقرئ الأستاذ أبا جعفر أحمد المعروف بأبي حجة فقال؛ غسله وصلى عليه، فإن أباك لم يقتل في المعترك بين الصفين. ثم سألت شيخنا ربيع بن عبدالرحمن بن أحمد بن ربيع بن أبّي فقال: إن حكمه حكم القتلى في المعترك. ثم سألت قاضي الجماعة أبا الحسن علّي بن قطرال وحوله جماعة من الفقهاء فقالوا: غسله وكفنه وصلى عليه؛ ففعلت. ثم بعد ذلك وقفت على المسألة في « التبصرة » لأبي الحسن اللخمّي وغيرها. ولو كان ذلك قبل ذلك ما غسلته، وكنت دفنته بدمه في ثيابه.

 

هذه الآية تدل على عظيم ثواب القتل في سبيل الله والشهادة فيه حتى أنه يكفر الذنوب؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: ( القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين كذلك قال لي جبريل عليه السلام آنفا ) . قال علماؤنا ذكر الدين تنبيه على ما في معناه من الحقوق المتعلقة بالذمم، كالغصب وأخذ المال بالباطل وقتل العمد وجراحه وغير ذلك من التبعات، فإن كل هذا أولى ألا يغفر بالجهاد من الدين فإنه أشد، والقصاص في هذا كله بالحسنات والسيئات حسبما وردت به السنة الثابتة. روى عبدالله بن أنيس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( يحشر الله العباد - أو قال الناس، شك همام، وأومأ بيده إلى الشام - عراة غرلا بهما. قلنا: ما بهم؟ قال: ليس معهم شيء فيناديهم بصوت يسمعه من قرب ومن بعد أنا الملك أنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة حتى اللطمة. قال قلنا: كيف وإنما نأتي الله حفاة عراة غرلا. قال: بالحسنات والسيئات ) . أخرجه الحارث بن أبي أسامة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال: ( أتدرون من المفلس ) ؟. قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: ( إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياه فطرحت عليه ثم طرح في النار ) . وقال صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده لو أن رجلا قتل في سبيل الله ثم أحيي ثم قتل ثم أحيي ثم قتل وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى عنه ) . وروى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( نفس المؤمن معلقة ما كان عليه دين ) . وقال أحمد بن زهير: سئل يحيى بن معين عن هذا الحديث فقال: هو صحيح. فإن قيل: فهذا يدل على أن بعض الشهداء لا يدخلون الجنة من حين القتل، ولا تكون أرواحهم في جوف طير كما ذكرتكم، ولا يكونون في قبورهم، فأين يكونون؟ قلنا: قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أرواح الشهداء على نهر بباب الجنة يقال له بارق يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا ) فلعلهم هؤلاء. والله أعلم. ولهذا قال الإمام أبو محمد بن عطية: وهؤلاء طبقات وأحوال مختلفة يجمعها أنهم « يرزقون » . وقد أخرج الإمام أبو عبدالله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني في سننه عن سليم بن عامر قال: سمعت أبا أمامة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( شهيد البحر مثل شهيدي البر والمائدة في البحر كالمتشحط في دمه في البر وما بين الموجتين كقاطع الدنيا في طاعة الله وإن الله عز وجل وكل ملك الموت بقبض الأرواح إلا شهداء البحر فإنه سبحانه يتولى قبض أرواحهم ويغفر لشهيد البر الذنوب كلها إلا الدين ويغفر لشهيد البحر الذنوب كلها والدين ) .

 

الدين الذي يحبس به صاحبه عن الجنة - والله أعلم - هو الذي قد ترك له وفاء ولم يوص به. أو قدر على الأداء فلم يؤده، أو أدانه في سرف أو في سفه ومات ولم يوفه. وأما من أدان في حق واجب لفاقة وعسر ومات ولم يترك وفاء فإن الله لا يحبسه عن الجنة إن شاء الله؛ لأن على السلطان فرضا أن يؤدي عنه دينه، إما من جملة الصدقات، أو من سهم الغارمين، أو من الفيء الراجع على المسلمين. قال صلى الله عليه وسلم: ( من ترك دينا أو ضياعا فعلى الله ورسوله ومن ترك مالا فلورثته ) . وقد زدنا هذا الباب بيانا في كتاب ( التذكرة ) والحمد لله.

 

قوله تعالى: « عند ربهم يرزقون » فيه حذف مضاف تقديره عند كرامة ربهم. و « عند » هنا تقتضي غاية القرب، فهي كـ ( لدى ) ولذلك لم تصغر فيقال! عنيد؛ قال سيبويه. فهذه عندية الكرامة لا عندية المسافة والقرب. « يرزقون » هو الرزق المعروف في العادات. ومن قال: هي حياة الذكر قال: يرزقون الثناء الجميل. والأول الحقيقة. وقد قيل: إن الأرواح تدرك في تلك الحال التي يسرحون فيها من روائح الجنة وطيبها ونعيمها وسرورها ما يليق بالأرواح؛ مما ترتزق وتنتعش به. وأما اللذات الجسمانية فإذا أعيدت تلك الأرواح إلى أجسادها استوفت من النعيم جميع ما أعد الله لها. وهذا قول حسن، وإن كان فيه نوع من المجاز، فهو الموافق لما اخترناه. والموفق الإله. و « فرحين » نصب في موضع الحال من المضمر في « يرزقون » ويجوز في الكلام « فرحون » على النعت لأحياء. وهو من الفرح بمعنى السرور. والفضل في هذه الآية هو النعيم المذكور. وقرأ ابن السميقع « فارحين » بالألف وهما لغتان، كالفره والفاره، والحذر والحاذر، والطمع والطامع، والبخل والباخل. قال النحاس: ويجوز في غير القرآن رفعه، يكون نعتا لأحياء.

 

قوله تعالى: « ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم » المعنى لم يلحقوا بهم في الفضل، وإن كان لهم فضل. وأصله من البشرة؛ لأن الإنسان إذا فرح ظهر أثر السرور في وجهه. وقال السدي.: يؤتى الشهيد بكتاب فيه ذكر من يقدم عليه من إخوانه، فيستبشر كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدنيا. وقال قتادة وابن جريح والربيع وغيرهم: استبشارهم بأنهم يقولون: إخواننا الذين تركنا خلفنا في الدنيا يقاتلون في سبيل الله مع نبيهم، فيستشهدون فينالون من الكرامة مثل ما نحن فيه؛ فيسرون ويفرحون لهم بذلك. وقيل: إن الإشارة بالاستبشار للذين لم يلحقوا بهم إلى جميع المؤمنين وإن لم يقتلوا، ولكنهم لما عاينوا ثواب الله وقع اليقين بأن دين الإسلام هو الحق الذي يثيب الله عليهم؛ فهم فرحون لأنفسهم بما آتاهم الله من فضله، مستبشرون للمؤمنين بأن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ذهب إلى هذا المعنى الزجاج وابن فورك.

 

الآية: 171 ( يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين )

 

أي بجنة من الله. ويقال: بمغفرة من الله. « وفضل » هذا لزيادة البيان. والفضل داخل في النعمة، وفيه دليل على اتساعها، وأنها ليست كنعم الدنيا. وقيل: جاء الفضل بعد النعمة على وجه التأكيد؛ روى الترمذي عن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( للشهيد عند الله ست خصال - كذا في الترمذي وابن ماجه « ست » ، وهي في العدد سبع - يغفر له في أول دفعة ويرى مقعده من الجنة ويجار من عذاب القبر ويأمن من الفزع الأكبر ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ويشفع في سبعين من أقاربه ) قال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وهذا تفسير للنعمة والفضل. والآثار في هذا المعنى كثيرة. وروي عن مجاهد أنه قال: السيوف مفاتيح الجنة. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أكرم الله تعالى الشهداء بخمس كرامات لم يكرم بها أحدأ من الأنبياء ولا أنا أحدها أن جميع الأنبياء قبض أرواحهم ملك الموت وهو الذي سيقبض روحي وأما الشهداء فالله هو الذي يقبض أرواحهم بقدرته كيف يشاء ولا يسلط على أرواحهم ملك الموت، والثاني أن جميع الأنبياء قد غسلوا بعد الموت وأنا أغسل بعد الموت والشهداء لا يغسلون ولا حاجة لهم إلى ماء الدنيا، والثالث أن جميع الأنبياء قد كفنوا وأنا أكفن والشهداء لا يكفنون بل يدفنون في ثيابهم، والرابع أن الأنبياء لما ماتوا سموا أمواتا وإذا مت يقال قد مات والشهداء لا يسمون موتى، والخامس أن الأنبياء تعطى لهم الشفاعة يوم القيامة وشفاعتي أيضا يوم القيامة وأما الشهداء فإنهم يشفعون في كل يوم فيمن يشفعون ) .

 

قوله تعالى: « وأن الله » قرأه الكسائي بكسر الألف، والباقون بالنصب؛ فمن قرأ بالنصب فمعناه يستبشرون بنعمة من الله ويستبشرون بأن الله لا يضيع أجر المؤمنين. ومن قرأ بالكسر فعلى الابتداء. ودليله قراءة ابن مسعود « والله لا يضيع أجر المؤمنين » .

 

الآية: 172 ( الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم )

 

قوله: « الذين » في موضع رفع على الابتداء، وخبره « من بعد ما أصابهم القرح » . ويجوز أن يكون في موضع خفض، بدل من المؤمنين، أو من « الذين لم يلحقوا » . « استجابوا » بمعنى أجابوا والسين والتاء زائدتان. ومنه قوله:

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

وفي الصحيحين عن عروة بن الزبير قال: قالت لي عائشة رضي الله عنها: كان أبوك من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح. لفظ مسلم. وعنه عائشة: يا ابن أختي كان أبواك - تعني الزبير وأبا بكر - من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح. وقالت: لما انصرف المشركون من أحد وأصاب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما أصابهم خاف أن يرجعوا فقال: ( من ينتدب لهؤلاء حتى يعلموا أن بنا قوة ) قال فانتدب أبو بكر والزبير في سبعين؛ فخرجوا في آثار القوم، فسمعوا بهم وانصرفوا بنعمة من الله وفضل. وأشارت عائشة رضي الله عنها إلى ما جرى في غزوة حمراء الأسد، وهي على نحو ثمانية أميال من المدينة؛ وذلك أنه لما كان في يوم الأحد، وهو الثاني من يوم أحد، نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بإتباع المشركين، وقال: ( لا يخرج معنا إلا من شهدها بالأمس ) فنهض معه مائتا رجل من المؤمنين. في البخاري فقال: ( من يذهب في إثرهم ) فانتدب منهم سبعون رجلا. قال: كان فيهم أبو بكر والزبير على ما تقّدم، حتى بلغ حمراء الأسد، مرهبا للعدو؛ فربما كان فيهم المثقل بالجراح لا يستطيع المشي ولا يجد مركوبا، فربما يحمل على الأعناق؛ وكل ذلك امتثال لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ورغبة في الجهاد. وقيل: إن الآية نزلت في رجلين من بني عبدالأشهل كانا مثخنين بالجراح؛ يتوكأ أحدهما على صاحبه، وخرجا مع النبّي صلى الله عليه وسلم؛ فلما وصلوا حمراء الأسد، لقيهم نعيم بن مسعود فأخبرهم أن أبا سفيان بن حرب ومن معه من قريش قد جمعوا جموعهم، وأجمعوا رأيهم على أن يأتوا إلى المدينة فيستأصلوا أهلها؛ فقالوا ما أخبرنا الله عنهم: « حسبنا الله ونعم الوكيل » . وبينا قريش قد أجمعوا على ذلك إذ جاءهم معبد الخزاعّي، وكانت خزاعة حلفاء النبّي صلى الله عليه وسلم وعيبة نصحه، وكان قد رأى حال أصحاب النبّي صلى الله عليه وسلم وما هم عليه؛ ولما رأى عزم قريش على الرجوع ليستأصلوا أهل المدينة احتمله خوف ذلك، وخالص نصحه للنبّي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على أن خوف قريشا بأن قال لهم: قد تركت محمدا وأصحابه بحمراء الأسد في جيش عظيم، قد اجتمع له من كان تخلف عنه، وهم قد تحرقوا عليكم؛ فالنجاء النجاء! فإني أنهاك عن ذلك، فوالله لقد حملني ما رأيت أن قلت فيه أبياتا من الشعر. قال: وما قلت؟ قال: قلت:

كادت تهد من الأصوات راحلتي إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل

تردي بأسد كرام لا تنابلة عند اللقاء ولا ميل معازيل

فظلت عدوا أظن الأرض مائلة لما سموا برئيس غير مخذول

فقلت ويل ابن حرب من لقائكم إذا تغطمت البطحاء بالخيل

إني نذير لأهل البسل ضاحية لكل ذي إربة منهم ومعقول

من جيش أحمد لا وخش قنابله وليس يوصف ما أنذرت بالقيل

قال: فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه، وقذف الله في قلوبهم الرعب، ورجعوا إلى مكة خائفين مسرعين، ورجع النبّي صلى الله عليه وسلم في أصحابه إلى المدينة منصورا؛ كما قال الله تعالى: « فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء » [ آل عمران: 174 ] أي قتال ورعب. واستأذن جابر بن عبدالله إلى النبّي صلى الله عليه وسلم في الخروج معه فأذن له. وأخبرهم تعالى أن الأجر العظيم قد تحصل لهم بهذه القفلة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إنها غزوة ) . هذا تفسير الجمهور لهذه الآية. وشذ مجاهد وعكرمة رحمهما الله تعالى فقالا: إن هذه الآية من قوله: « الذين قال لهم الناس » إلى قوله: « عظيم » [ آل عمران: 173 - 174 ] إنما نزلت في خروج النبّي صلى الله عليه وسلم إلى بدر الصغرى. وذلك أنه خرج لميعاد أبي سفيان في أحد، إذ قال: موعدنا بدر من العام المقبل. فقال النبّي صلى الله عليه وسلم: ( قولوا نعم ) فخرج النبّي صلى الله عليه وسلم قبل بدر، وكان بها سوق عظيم، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه دراهم؛ وقرب من بدر فجاءه نعيم بن مسعود الأشجعّي، فأخبره أن قريشا قد اجتمعت وأقبلت لحربه هي ومن انضاف إليها، فأشفق المسلمون من ذلك، لكنهم قالوا: « حسبنا الله ونعم الوكيل » فصمموا حتى أتوا بدرا فلم يجدوا أحدا، ووجدوا السوق فاشتروا بدراهمهم أدما وتجارة، وانقلبوا ولم يلقوا كيدا، وربحوا في تجارتهم؛ فلذلك قوله تعالى: « فانقلبوا بنعمة من الله وفضل » أي وفضل في تلك التجارات. والله أعلم.

 

الآية: 173 ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل )

 

اختلف في قوله تعالى: « الذين قال لهم الناس » فقال مجاهد ومقاتل وعكرمة والكلبّي: هو نعيم بن مسعود الأشجعّي. واللفظ عام ومعناه خاص؛ كقوله: « أم يحسدون الناس » [ النساء: 54 ] يعني محمدا صلى الله عليه وسلم. السدي: هو أعرابي جعل له جعل على ذلك. وقال ابن إسحاق وجماعة: يريد الناس ركب عبد القيس، مروا بأبي سفيان فدسهم إلى المسلمين ليثبطوهم. وقيل: الناس هنا المنافقون. قال السدي: لما تجهز النبّي صلى الله عليه وسلم وأصحابه للمسير إلى بدر الصغرى لميعاد أبي سفيان أتاهم المنافقون وقالوا: نحن أصحابكم الذين نهيناكم عن الخروج إليهم وعصيتمونا، وقد قاتلوكم في دياركم وظفروا؛ فإن أتيتموهم في ديارهم فلا يرجع منكم أحد. فقالوا: « حسبنا الله ونعم الوكيل » . وقال أبو معشر: دخل ناس من هذيل من أهل تهامة المدينة، فسألهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي سفيان فقالوا: « قد جمعوا لكم » جموعا كثيرة « فاخشوهم » أي فخافوهم واحذروهم؛ فإنه لا طاقة لكم بهم. فالناس على هذه الأقوال على بابه من الجمع. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « فزادهم إيمانا » أي فزادهم قول الناس إيمانا، أي تصديقا ويقينا في دينهم، وإقامة على نصرتهم، وقوة وجراءة واستعدادا. فزيادة الإيمان على هذا هي في الأعمال. وقد اختلف العلماء في زيادة الإيمان ونقصانه على أقوال. والعقيدة في هذا على أن نفس الإيمان الذي هو تاج واحد، وتصديق واحد بشيء مّا، إنما هو معنى فرد، لا يدخل معه زيادة إذا حصل، ولا يبقى منه شيء إذا زال؛ فلم يبق إلا أن تكون الزيادة والنقصان في متعلقاته دون ذاته. فذهب جمع من العلماء إلى أنه يزيد وينقص من حيث الأعمال الصادرة عنه، لا سيما أن كثيرا من العلماء يوقعون اسم الإيمان على الطاعات؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( الإيمان بضع وسبعون بابا فأعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ) أخرجه الترمذي، وزاد مسلم ( والحياء شعبة من الإيمان ) وفي حديث علّي رضي الله عنه: إن الإيمان ليبدو لمظة بيضاء في القلب، كلما أزداد الإيمان ازدادت اللمظة. وقوله « لمظة » قال الأصمعّي: اللمظة مثل النكتة ونحوها من البياض؛ ومنه قيل: فرس ألمظ، إذا كان بجحفلته شيء من بياض. والمحدثون يقولون « لمظة » بالفتح. وأما كلام العرب فبالضم؛ مثل شبهة ودهمة وخمرة. وفيه حجة على من أنكر أن يكون الإيمان يزيد وينقص. ألا تراه يقول: كلما ازداد الإيمان ازدادت اللمظة حتى يبيض القلب كله. وكذلك النفاق يبدو لمظة سوداء في القلب كلما ازداد النفاق أسود القلب حتى يسود القلب كله. ومنهم من قال: إن الإيمان عرض، وهو لا يثبت زمانين؛ فهو للنبّي صلى الله عليه وسلم وللصلحاء متعاقب، فيزيد باعتبار توالي أمثاله على قلب المؤمن، وباعتبار دوام حضوره. وينقص بتوالي الغفلات على قلب المؤمن. أشار إلى هذا أبو المعالي. وهذا المعنى موجود في حديث الشفاعة، حديث أبي سعيد الخدري أخرجه مسلم. وفيه: ( فيقول المؤمنون يا ربنا إخواننا كانوا يصومون ويصلون ويحجون فقال لهم أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ثم يقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به فيقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدا ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه ) وذكر الحديث. وقد قيل: إن المراد بالإيمان في هذا الحديث أعمال القلوب؛ كالنية والإخلاص والخوف والنصيحة وشبه ذلك. وسّماها إيمانا لكونها في محل الإيمان أو عني بالإيمان، على عادة العرب في تسمية الشيء باسم الشيء إذا جاوره، أو كان منه بسبب. دليل هذا التأويل قول الشافعي بعد إخراج من كان في قلبه مثقال ذرة من خير: ( لم نذر فيها خيرا ) مع أنه تعالى يخرج بعد ذلك جموعا كثيرة ممن يقول لا إله إلا الله، وهم مؤمنون قطعا؛ ولو لم يكونوا مؤمنين لما أخرجهم. ثم إن عدم الوجود الأول الذي يركب عليه المثل لم تكن زيادة ولا نقصان. وقدر ذلك في الحركة. فإن الله سبحانه إذا خلق علما فردا وخلق معه مثله أو أمثاله بمعلومات فقد زاد علمه؛ فإن أعدم الله الأمثال فقد نقص، أي زالت الزيادة. وكذلك إذا خلق حركة وخلق معها مثلها أو أمثالها. وذهب قوم من العلماء إلى أن زيادة الإيمان ونقصه إنما هو طريق الأدلة، فتزيد الأدلة عند واحد فيقال في ذلك: إنها زيادة في الإيمان؛ وبهذا المعنى - على أحد الأقوال - فضل الأنبياء على الخلق، فإنهم علموه من وجوه كثيرة، أكثر من الوجوه التي علمه الخلق بها. وهذا القول خارج عن مقتضى الآية؛ إذ لا يتصور أن تكون الزيادة فيها من جهة الأدلة. وذهب قوم: إلى أن الزيادة في الإيمان إنما هي بنزول الفرائض والأخبار في مدة النبّي صلى الله عليه وسلم، وفي المعرفة بها بعد الجهل غابر الدهر. وهذا إنما هو زيادة إيمان؛ فالقول فيه إن الإيمان يزيد قول مجازي، ولا يتصور فيه النقص على هذا الحّد، وإنما يتصور بالإضافة إلى من علم. فاعلم.

 

قوله تعالى: « وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل » أي كافينا الله. وحسب مأخوذ من الإحساب، وهو الكفاية. قال الشاعر:

فتملأ بيتنا أقطا وسمنا وحسبك من غنى شبع وري

روى البخاري عن ابن عباس قال في قوله تعالى: « الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم - إلى قوله: - وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل » قالها إبراهيم الخليل عليه السلام حين ألقي في النار. وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم. والله أعلم.

 

الآية: 174 ( فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم )

 

قال علماؤنا: لما فوضوا أمورهم إليه، واعتمدوا بقلوبهم عليه، أعطاهم من الجزاء أربعة معان: النعمة، والفضل، وصرف السوء، واتباع الرضا. فرضاهم عنه، ورضي عنهم.

 

الآية: 175 ( إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين )

 

قال ابن عباس وغيره: المعنى يخوفكم أولياءه؛ أي بأوليائه، أو من أوليائه؛ فحذف حرف الجر ووصل الفعل إلى الاسم فنصب. كما قال تعالى: « لينذر بأسا شديدا » [ الكهف: 2 ] أي لينذركم ببأس شديد؛ أي يخوف المؤمن بالكافر. وقال الحسن والسدي: المعنى يخوف أولياءه المنافقين؛ ليقعدوا عن قتال المشركين. فأما أولياء الله فإنهم لا يخافونه إذا خوفهم. وقد قيل: إن المراد هذا الذي يخوفكم بجمع الكفار شيطان من شياطين الإنس؛ إما نعيم بن مسعود أو غيره، على الخلاف في ذلك كما تقّدم. « فلا تخافوهم » أي لا تخافوا الكافرين المذكورين في قوله: « إن الناس قد جمعوا لكم » . أو يرجع إلى الأولياء إن قلت: إن المعنى يخوف بأوليائه أي يخوفكم أولياءه.

 

قوله تعالى: « وخافون » أي خافوني في ترك أمري إن كنتم مصدقين بوعدي. والخوف في كلام العرب الذعر. وخاوفني فلان فخفته، أي كنت أشد خوفا منه. والخوفاء المفازة لا ماء بها. ويقال: ناقة خوفاء وهي الجرباء. والخافة كالخريطة من الأدم يشتار فيها العسل. قال سهل بن عبدالله: اجتمع بعض الصديقين إلى إبراهيم الخليل فقالوا: ما الخوف؟ فقال: لا تأمن حتى تبلغ المأمن. قال سهل: وكان الربيع بن خيثم إذا مر بكير يغشى عليه؛ فقيل لعلّي بن أبي طالب ذلك؛ فقال: إذا أصابه ذلك فأعلموني. فأصابه فأعلموه، فجاءه فأدخل يده في قميصه فوجد حركته عالية فقال: أشهد أن هذا أخوف أهل زمانكم. فالخائف من الله تعالى هو أن يخاف أن يعاقبه إما في الدنيا وإما في الآخرة؛ ولهذا قيل: ليس الخائف الذي يبكي ويمسح عينيه، بل الخائف الذي يترك ما يخاف أن يعذب عليه. ففرض الله تعالى على العباد أن يخافوه فقال: وقال: « وإياي فارهبون » . ومدح المؤمنين بالخوف فقال: « يخافون ربهم من فوقهم » [ النحل: 50 ] . ولأرباب الإشارات في الخوف عبارات مرجعها إلى ما ذكرنا. قال الأستاذ أبو علّي الدقاق: دخلت على أبي بكر بن فورك رحمه الله عائدا، فلما رأني دمعت عيناه، فقلت له: إن الله يعافيك ويشفيك. فقال لي: أترى أني أخاف من الموت؟ إنما أخاف مما وراء الموت. وفي سنن ابن ماجه عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرشات ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله والله لوددت أني كنت شجرة تعضد « . خّرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب. ويروى من غير هذا الوجه أن أبا ذر قال: ( لوددت أني كنت شجرة تعضد ) . والله أعلم.»

 

الآية: 176 ( ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم )

 

قوله تعالى: « ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر » هؤلاء قوم أسلموا ثم ارتدوا خوفا من المشركين؛ فاغتم النبّي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: « ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر » . وقال الكلبّي: يعني به المنافقين ورؤساء اليهود؛ كتموا صفة النبّي صلى الله عليه وسلم في الكتاب فنزلت. ويقال: إن أهل الكتاب لما لم يؤمنوا شق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الناس ينظرون إليهم ويقولون إنهم أهل كتاب؛ فلو كان قوله حقا لاتبعوه، فنزلت « ولا يحزنك » . قراءة نافع بضم الياء وكسر الزاي حيث وقع إلا في - الأنبياء - « لا يحزنهم الفزع الأكبر » فإنه بفتح الياء وبضم الزاي. وضده أبو جعفر. وقرأ ابن محيض كلها بضم الياء وكسر الزاي. والباقون كلها بفتح الياء وضم الزاي. وهما لغتان: حزنني الأمر يحزنني، وأحزنني أيضا وهي لغة قليلة؛ والأولى أفصح اللغتين؛ قاله النحاس. وقال الشاعر في أحزن:

مضى صحبي وأحزنني الديار

وقراءة العامة « يسارعون » . وقرأ طلحة « يسرعون في الكفر » . قال الضحاك: هم كفار قريش. وقال غيره: هم المنافقون. وقيل: هو ما ذكرناه قبل. وقيل: هو عام في جميع الكفار. ومسارعتهم في الكفر المظاهرة على محمد صلى الله عليه وسلم. قال القشيري: والحزن على كفر الكافر طاعة؛ ولكن النبّي صلى الله عليه وسلم كان يفرط في الحزن على كفر قومه، فنهي عن ذلك؛ كما قال: « فلا تذهب نفسك عليهم حسرات » [ فاطر: 8 ] وقال: « فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا » [ الكهف: 6 ] .

 

قوله تعالى: « إنهم لن يضروا الله شيئا » أي لا ينقصون من ملك الله وسلطانه شيئا؛ يعني لا ينقص بكفرهم. وكما روي عن أبي ذر عن النبّي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا. يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم. يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم. يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) . خرجه مسلم في صحيحه والترمذي وغيرهما، وهو حديث عظيم فيه طول يكتب كله. وقيل: معنى « لن يضروا الله شيئا » أي لن يضروا أولياء الله حين تركوا نصرهم إذ كان الله عز وجل ناصرهم.

 

قوله تعالى: « يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم » أي نصيبا.

والحظ النصيب والجد. يقال: فلان أحظ من فلان، وهو محظوظ. وجمع الحظ أحاظ على غير قياس. قال أبو زيد: يقال رجل حظيظ، أي جديد إذا كان ذا حظ من الرزق. وحظظت في الأمر أحظ. وربما جمع الحظ أحظا. أي لا يجعل لهم نصيبا في الجنة. وهو نص في أن الخير والشر بإرادة الله تعالى.

 

الآية: 177 ( إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم )

 

قوله تعالى: « إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان » تقدم في البقرة. « لن يضروا الله شيئا » كرر للتأكيد. وقيل: أي من سوء تدبيره استبدال الإيمان بالكفر وبيعه به؛ فلا يخاف جانبه ولا تدبير. وانتصب « شيئا » في الموضعين لوقوعه موقع المصدر؛ كأنه قال: لن يضروا الله ضررا قليلا ولا كثيرا. ويجوز انتصابه على تقدير حذف الباء؛ كأنه قال: لن يضروا الله بشيء.

 

الآية: 178 ( ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين )

 

قوله تعالى: « ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم » الإملاء طول العمر

ورغد العيش. والمعنى: لا يحسبن هؤلاء الذين يخوفون المسلمين؛ فإن الله قادر على إهلاكهم، وإنما يطول أعمارهم ليعملوا بالمعاصي، لا لأنه خير لهم. ويقال: « أنما نملي لهم » بما أصابوا من الظفر يوم أحد لم يكن ذلك خيرا لأنفسهم؛ وإنما كان ذلك ليزدادوا عقوبة. وروي عن ابن مسعود أنه قال: ما من أحد بر ولا فاجر إلا والموت خير له؛ لأنه إن كان برا فقد قال الله تعالى: « وما عند الله خير للأبرار » [ آل عمران: 198 ] وإن كان فاجرا فقد قال الله: وقرأ ابن عامر وعاصم « لا يحسبن » بالياء ونصب السين. وقرأ حمزة: بالتاء ونصب السين. والباقون: بالياء وكسر السين. فمن قرأ بالياء فالذين فاعلون. أي فلا يحسبن الكفار. و « أنما نملي لهم خير لأنفسهم » تسد مسد المفعولين. و « ما » بمعنى الذي، والعائد محذوف، و « خير » خبر « أن » . ويجوز أن تقدر « ما » والفعل مصدرا؛ والتقدير ولا يحسبن الذين كفروا أن إملاءنا لهم خير لأنفسهم. ومن قرأ بالتاء فالفعل هو المخاطب، وهو محمد صلى الله عليه وسلم. و « الذين » نصب على المفعول الأول لتحسب. وأن وما بعدها بدل من الذين، وهي تسد مسد المفعولين، كما تسد لو لم تكن بدلا. ولا يصلح أن تكون « أن » وما بعدها مفعولا ثانيا لتحسب؛ لأن المفعول الثاني في هذا الباب هو الأول في المعنى؛ لأن حسب وأخواتها داخلة على المبتدأ والخبر؛ فيكون التقدير؛ ولا تحسبن أنما نملي لهم خير. هذا قول الزجاج. وقال أبو علّي: لو صح هذا لقال « خيرا » بالنصب؛ لأن « أن » تصير بدلا من « الذين كفروا » ؛ فكأنه قال: لا تحسبن إملاء الذين كفروا خيرا؛ فقوله « خيرا » هو المفعول الثاني لحسب. فإذا لا يجوز أن يقرأ « لا تحسبن » بالتاء إلا أن تكسر « إن في » أنما « وتنصب خيرا، ولم يرو ذلك عن حمزة، والقراءة عن حمزة بالتاء؛ فلا تصح هذه القراءة إذا. وقال الفراء والكسائي: قراءة حمزة جائزة على التكرير؛ تقديره ولا تحسبن الذي كفروا، ولا تحسبن أنما نملي لهم خيرا، فسدت « أن » مسد المفعولين لتحسب الثاني، وهي وما عملت مفعول ثان لتحسب الأول. قال القشيري: وهذا قريب مما ذكره الزجاج في دعوى البدل، والقراءة صحيحة. فإذا غرض أبي علّي تغليط الزجاج. قال النحاس: وزعم أبو حاتم أن قراءة حمزة بالتاء هنا، وقوله: » ولا يحسبن الذين يبخلون « [ آل عمران: 180 ] لحن لا يجوز. وتبعه على ذلك جماعة.»

قلت: وهذا ليس بشيء؛ لما تقدم بيانه من الإعراب، ولصحة القراءة وثبوتها نقلا. وقرأ يحيى بن وثاب « إنما نملي لهم » بكسر إن فيهما جميعا. قال أبو جعفر: وقراءة يحيي حسنة. كما تقول: حسبت عمرا أبوه خالد. قال أبو حاتم وسمعت الأخفش يذكر كسر « إن » يحتج به لأهل القدر؛ لأنه كان منهم. ويجعل على التقديم والتأخير « ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم ليزدادوا إثما إنما نملي لهم خير لأنفسهم » . قال: ورأيت في مصحف في المسجد الجامع قد زادوا فيه حرفا فصار « إنما نملي لهم إيمانا » فنظر إليه يعقوب القارئ فتبين اللحن فحكه. والآية نص في بطلان مذهب القدرية؛ لأنه أخبر أنه يطيل أعمارهم ليزدادوا الكفر بعمل المعاصي، وتوالي أمثاله على القلب. كما تقدم بيانه في ضده وهو الإيمان. وعن ابن عباس قال: ما من بر ولا فاجر إلا والموت خير له ثم تلا « إنما نملي لهم ليزدادوا لهم إثما » وتلا « وما عند الله خير للأبرار » أخرجه رزين.

 

الآية: 179 ( ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم )

 

قال أبو العالية: سأل المؤمنون أن يعطوا علامة يفرقون بها بين المؤمن والمنافق؛ فأنزل الله عز وجل الآية. واختلفوا من المخاطب بالآية على أقوال. فقال ابن عباس والضحاك ومقاتل والكلبّي وأكثر المفسرين: الخطاب للكفار والمنافقين. أي ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه من الكفر والنفاق وعداوة النبّي صلى الله عليه وسلم. قال الكلبّي: إن قريشا من أهل مكة قالوا للنبّي صلى الله عليه وسلم: الرجل منا تزعم أنه في النار، وأنه إذا ترك ديننا واتبع دينك قلت هو من أهل الجنة! فأخبرنا عن هذا من أين هو؟ وأخبرنا من يأتيك منا؟ ومن لم يأتك؟. فأنزل الله عز وجل « ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه » من الكفر والنفاق.

 

قوله تعالى: « حتى يميز الخبيث من الطيب » وقيل: هو خطاب للمشركين. والمراد بالمؤمنين في قوله: « ليذر المؤمنين » من في الأصلاب والأرحام ممن يؤمن. أي ما كان الله ليذر أولادكم الذين حكم لهم بالإيمان على ما أنتم عليه من الشرك، حتى يفرق بينكم وبينهم؛ وعلى هذا « وما كان الله ليطلعكم » كلام مستأنف. وهو قول ابن عباس وأكثر المفسرين. وقيل: الخطاب للمؤمنين. أي وما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من اختلاط المؤمن بالمنافق، حتى يميز بينكم بالمحنة والتكليف؛ فتعرفوا المنافق الخبيث، والمؤمن الطيب. وقد ميز يوم أحد بين الفريقين. وهذا قول أكثر أهل المعاني. « وما كان الله ليطلعكم على الغيب » يا معشر المؤمنين. أي ما كان الله ليعين لكم المنافقين حتى تعرفوهم، ولكن يظهر ذلك لكم بالتكليف والمحنة، وقد ظهر ذلك في يوم أحد؛ فإن المنافقين تخلفوا وأظهروا الشماتة، فما كنتم تعرفون هذا الغيب قبل هذا، فالآن قد أطلع الله محمدا عليه السلام وصحبه على ذلك. وقيل: معنى « ليطلعكم » أي وما كان الله ليعلمكم ما يكون منهم. فقوله: « وما كان الله ليطلعكم على الغيب » على هذا متصل، وعلى القولين الأولين منقطع. وذلك أن الكفار لما قالوا: لم لم يوح إلينا؟ قال: « وما كان الله ليطلعكم على الغيب » أي على من يستحق النبوة، حتى يكون الوحي باختياركم. « ولكن الله يجتبي » أي يختار. « من رسله » لإطلاع غيبه « من يشاء » يقال: طلعت على كذا واطلعت عليه، وأطلعت عليه غيري؛ فهو لازم ومتعد. وقرئ « حتى يميِّز » بالتشديد من ميز، وكذا في « الأنفال » وهي قراءة حمزة. والباقون « يميز » بالتخفيف من ماز يميز. يقال: مزت الشيء بعضه من بعض أميزه ميزا، وميزته تمييزا. قال أبو معاذ: مزت الشيء أميزه ميزا إذا فرقت بين شيئين. فإن كانت أشياء قلت: ميزتها تمييزا. ومثله إذا جعلت الواحد شيئين قلت: فرقت بينهما، مخففا؛ ومنه فرق الشعر. فإن جعلته أشياء قلت: فرقته تفريقا.

قلت: ومنه امتاز القوم، تميز بعضهم عن بعض. ويكاد يتميز: يتقطع؛ وبهذا فسر قوله تعالى: « تكاد تميز من الغيظ » [ الملك: 8 ] وفي الخبر ( من ماز أذى عن الطريق فهو له صدقة ) .

 

قوله تعالى: « فآمنوا بالله ورسله » يقال: إن الكفار لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبين لهم من يؤمن منهم، فأنزل الله « فآمنوا بالله ورسله » يعني لا تشتغلوا بما لا يعنيكم، واشتغلوا بما يعنيكم وهو الإيمان. « فآمنوا » أي صدقوا، أي عليكم التصديق لا التشوف إلى اطلاع الغيب. « وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم » أي الجنة. ويذكر أن رجلا كان عند الحجاج بن يوسف الثقفي منجما؛ فأخذ الحجاج حصيات بيده قد عرف عددها فقال للمنجم: كم في يدي؟ فحسب فأصاب المنجم. فأغفله الحجاج وأخذ حصيات لم يعدهن فقال للمنجم: كم في يدي؟ فحسب فأخطأ، ثم حسب أيضا فأخطأ؛ فقال: أيها الأمير، أظنك لا تعرف عدد ما في يدك؟ قال لا: قال: فما الفرق بينهما؟ فقال: إن ذاك أحصيته فخرج عن حد الغيب، فحسبت فأصبت، وإن هذا لم تعرف عددها فصار غيبا، ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى. وسيأتي هذا الباب في « الأنعام » إن شاء الله تعالى.

 

الآية: 180 ( ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير )

 

قوله تعالى: « ولا يحسبن الذين » « الذين » في موضع رفع، والمفعول الأول محذوف. قال الخليل وسيبويه والفراء المعنى البخل خيرا لهم، أي لا يحسبن الباخلون البخل خيرا لهم. وإنما حذف لدلالة يبخلون على البخل؛ وهو كقوله: من صدق كان خيرا له. أي كان له الصدق خيرا له. ومن هذا قول الشاعر:

إذا نهي السفيه جرى إليه وخالف والسفيه إلى خلاف

فالمعنى: جرى: إلى السفه؛ فالسفيه دل على السفه. وأما قراءة حمزة بالتاء فبعيدة جدا؛ قاله النحاس. وجوازها أن يكون التقدير: لا تحسبن بخل الذين يبخلون هو خيرا لهم. قال الزجاج: وهي مثل « واسأل القرية » . و « هو » في قوله « هو خيرا لهم » فاصلة عند البصريين. وهي العماد عند الكوفيين. قال النحاس: ويجوز في العربية « هو خير لهم » ابتداء وخبر.

 

قوله تعالى: « بل هو شر لهم » ابتداء وخبر، أي البخل شر لهم. والسين في « سيطوقون » سين الوعيد، أي سوف يطوقون؛ قاله المبرد. وهذه الآية نزلت في البخل بالمال والإنفاق في سبيل الله، وأداء الزكاة المفروضة. وهذه كقوله: « ولا ينفقونها في سبيل الله » [ التوبة: 34 ] الآية. ذهب إلى هذا جماعة من المتأولين، منهم ابن مسعود وابن عباس وأبو وائل وأبو مالك والسدي والشعبي قالوا: ومعنى « سيطوقون ما بخلوا به » هو الذي ورد في الحديث عن أبي هريرة عن النبّي صلى الله عليه وسلم قال: ( من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه ثم يقول أنا مالك أنا كنزك - ثم تلا هذه الآية - « ولا يحسبن الذين يبخلون » الآية ) . أخرجه النسائي. وخرجه ابن ماجه عن ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من أحد لا يؤدي زكاة ماله إلا مثل له يوم القيامة شجاع أقرع حتى يطوق به في عنقه ) ثم قرأ علينا النبي صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله تعالى: « ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله » الآية. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل ما عنده فيبخل به عليه إلا أخرج له يوم القيامة شجاع من النار يتلمظ حتى يطوقه ) . وقال ابن عباس أيضا: إنما نزلت في أهل الكتاب وبخلهم ببيان ما علموه من أمر محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ذلك مجاهد وجماعة من أهل العلم. ومعنى « سيطوقون » على هذا التأويل سيحملون عقاب ما بخلوا به؛ فهو من الطاقة كما قال تعالى: « وعلى الذين يطيقونه » [ البقرة: 184 ] وليس من التطويق. وقال إبراهيم النخعي: معنى « سيطوقون » سيجعل لهم يوم القيامة طوق من النار. وهذا يجري مع التأويل الأول أي قول السدي. وقيل: يلزمون أعمالهم كما يلزم الطوق العنق؛ يقال: طوق فلان عمله طوق الحمامة، أي ألزم عمله. وقد قال تعالى: « وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه » [ الإسراء: 13 ] . ومن هذا المعنى قول عبدالله بن جحش لأبي سفيان:

أبلغ أبا سفيان عن أمر عواقبه ندامه

دار ابن عمك بعتها تقتضي بها عنك الغرامه

وحليفكم بالله رب الناس مجتهد القسامة

اذهب بها أذهب بها طوقتها طوق الحمامة

وهذا يجري مع التأويل الثاني. والبخل والبخل في اللغة أن يمنع الإنسال الحق الواجب عليه. فأما من منع مالا يجب عليه فليس ببخيل؛ لأنه لا يذم بذلك. وأهل الحجاز يقولون: يبخلون وقد بخلوا. وسائر العرب يقولون: بخلوا يبخلون؛ حكاه النحاس. وبخل يبخل بخلا وبخلا؛ عن ابن فارس.

 

في ثمرة البخل وفائدته. وهو ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: ( من سيدكم؟ ) قالوا الجد بن قيس على بخل فيه. فقال صلى الله عليه وسلم: ( وأي داء أدوى من البخل ) قالوا: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: ( إن قوما نزلوا بساحل البحر فكرهوا لبخلهم نزول الأضياف بهم فقالوا: ليبعد الرجال منا عن النساء حتى يعتذر الرجال إلى الأضياف ببعد النساء؛ وتعتذر النساء ببعد الرجال؛ ففعلوا وطال ذلك بهم فاشتغل الرجال بالرجال والنساء بالنساء ) ذكره الماوردي في كتاب « أدب الدنيا والدين » . والله أعلم.

 

واختلف في البخل والشح؛ هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين. فقيل: البخل الامتناع من إخراج ما حصل عندك. والشح: الحرص على تحصيل ما ليس عندك. وقيل: إن الشح هو البخل مع حرص. وهو الصحيح لما رواه مسلم عن جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم ) . وهذا يرد قول من قال: إن البخل منع الواجب، والشح منع المستحب. إذ لو كان الشح منع المستحب لما دخل تحت هذا الوعيد العظيم، والذم الشديد الذي فيه هلاك الدنيا والآخرة. ويؤيد هذا المعنى ما رواه النسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ( لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري رجل مسلم أبدأ ولا يجتمع شح وإيمان في قلب رجل مسلم أبدا ) . وهذا يدل على أن الشح أشد في الذم من البخل؛ إلا أنه قد جاء ما يدل على مساواتهما وهو قوله - وقد سئل؛ أيكون المؤمن بخيلا؟ قال: ( لا ) وذكر الماوردي في كتاب « أدب الدنيا والدين » أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: ( من سيدكم ) قالوا: الجد بن قيس عل بخل فيه؛ الحديث. وقد تقدم.

 

قوله تعالى: « ولله ميراث السماوات والأرض » أخبر تعالى ببقائه ودوام ملكه. وأنه في الأبد كهو في الأزل غني عن العالمين، فيرث الأرض بعد فناء خلقه وزوال أملاكهم؛ فتبقى الأملاك والأموال لا مدعى فيها. فجرى هذا مجرى الوراثة في عادة الخلق، وليس هذا بميراث في الحقيقة؛ لأن الوارث في الحقيقة هو الذي يرث شيئا لم يكن ملكه من قبل، والله سبحانه وتعالى مالك السموات والأرض وما بينهما، وكانت السموات وما فيها، والأرض وما فيها له، وإن الأموال كانت عارية عند أربابها؛ فإذا ماتوا ردت العارية إلى صاحبها الذي كانت له في الأصل. ونظير هذه الآية قوله تعالى: « إنا نحن نرث الأرض ومن عليها » [ مريم: 40 ] الآية. والمعنى في الآيتين أن الله تعالى أمر عباده بأن ينفقوا ولا يبخلوا قبل أن يموتوا ويتركوا ذلك ميراثا لله تعالى، ولا ينفعهم إلا ما أنفقوا.

 

الآية: 181 - 182 ( لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق، ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد )

 

قوله تعالى: « لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء » ذكر تعالى قبيح قول الكفار ولا سيما اليهود. وقال أهل التفسير: لما أنزل الله « من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا » [ البقرة: 245 ] قال قوم من اليهود - منهم حيي بن أخطب؛ في قول الحسن. وقال عكرمة وغيره: هو فنحاص بن عازوراء - إن الله فقير ونحن أغنياء يقترض منا. وإنما قالوا هذا تمويها على ضعفائهم، لا أنهم يعتقدون هذا؛ لأنهم أهل كتاب. ولكنهم كفروا بهذا القول؛ لأنهم أرادوا تشكيك الضعفاء منهم ومن المؤمنين، وتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم. أي إنه فقير على قول محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه اقترض منا. « سنكتب ما قالوا » سنجازيهم عليه. وقيل: سنكتبه في صحائف أعمالهم، أي نأمر الحفظة بإثبات قولهم حتى يقرؤوه يوم القيامة في كتبهم التي يؤتونها؛ حتى يكون أوكد للحجة عليهم. وهذا كقوله: « وإنا له كاتبون » [ الأنبياء: 94 ] . وقيل: مقصود الكتابة الحفظ، أي سنحفظ ما قالوا لنجازيهم. « وما » في قوله « ما قالوا » في موضع نصب بـ « سنكتب » . وقرأ الأعمش وحمزة « سيكتب » بالياء؛ فيكون « ما » اسم ما لم يسم فاعله. واعتبر حمزة ذلك بقراءة ابن مسعود: « و يقال ذوقوا عذاب الحريق » .

 

قوله تعالى: « وقتلهم الأنبياء » أي ونكتب قتلهم الأنبياء، أي رضاهم بالقتل. والمراد قتل أسلافهم الأنبياء؛ لكن لما رضوا بذلك صحت الإضافة إليهم. وحسن رجل عند الشعبي، قتل عثمان رضي الله عنه فقال له الشعبي: شركت في دمه. فجعل الرضا بالقتل قتلا؛ رضي الله عنه.

قلت: وهذه مسألة عظمى، حيث يكون الرضا بالمعصية معصية. وقد روى أبو داود عن، العرس بن عميرة الكندي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها - وقال مرة فأنكرها - كمن غاب عنها ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها ) . وهذا نص. قوله تعالى: « بغير حق » تقدم معناه في البقرة. « ونقول ذوقوا عذاب الحريق » أي يقال لهم في جهنم، أو عند الموت، أو عند الحساب هذا. ثم هذا القول من الله تعالى، أو من الملائكة؛ قولان. وقراءة ابن مسعود « ويقال » . والحريق اسم للملتهبة من النار، والنار تشمل الملتهبة وغير الملتهبة. قوله تعالى: « ذلك بما قدمت أيديكم » أي ذلك العذاب بما سلف من الذنوب. وخص الأيدي بالذكر ليدل على تولي الفعل ومباشرته؛ إذ قد يضاف الفعل إلى الإنسان بمعنى أنه أمر به؛ كقوله: « يذبح أبناءهم » [ القصص: 4 ] وأصل « أيديكم » أيديكم فحذفت الضمة لثقلها. والله أعلم.

 

الآية: 183 - 184 ( الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين، فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤوا بالبينات والزبر والكتاب المنير )

 

قوله تعالى: « الذين » في موضع خفض بدلا من « الذين » في قوله عز وجل « لقد سمع الله قول الذين قالوا » أو نعت « للعبيد » أو خبر ابتداء، أي هم الذين قالوا. وقال الكلب وغيره. نزلت في كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، ووهب بن يهوذا وفنحاص بن عازوراء وجماعة أتوا النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقالوا له: أتزعم أن الله أرسلك إلينا، وإنه أنزل علينا كتابا عهد إلينا فيه ألا نؤمن لرسول يزعم أنه من عند الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار، فإن جئنا به صدقناك. فأنزل الله هذه الآية. فقيل: كان هذا في التوراة، ولكن كان تمام الكلام: حتى يأتيكم المسيح ومحمد فإذا أتياكم فآمنوا بهما من غير قربان. وقيل: كان أمر القرابين ثابتا إلى أن نسخت على لسان عيسى ابن مريم. وكان النبي منهم يذبح ويدعو فتنزل نار بيضاء لها دوي وحفيف لا دخان لها، فتأكل القربان. فكان هذا القول دعوى من اليهود؛ إذ كان ثم استثناء فأخفوه، أو نسخ، فكانوا في تمسكهم بذلك متعنتين، ومعجزات النبي صلى الله عليه وسلم دليل قاطع في إبطال دعواهم، وكذلك معجزات عيسى؛ ومن وجب صدقه وجب تصديقه. ثم قال تعالى: إقامة للحجة عليهم. « قل » يا محمد « قد جاءكم » يا معشر اليهود « رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم » من القربان « فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين » يعني زكريا ويحيى وشعيا، وسائر من قتلوا من الأنبياء عليهم السلام ولم تؤمنوا بهم. أراد بذلك أسلافهم. وهذه الآية هي التي تلاها عامر الشعبي رضي الله عنه، فاحتج بها على الذي حسن قتل عثمان رضي الله عنه كما بيناه. وإن الله تعالى سمى اليهود قتلة لرضاهم بفعل أسلافهم، وإن كان بينهم نحو من سبعمائة سنة. والقربان ما يتقرب به إلى الله تعالى من نسك وصدقة وعمل صالح؛ وهو فعلان من القربة. ويكون اسما ومصدرا؛ فمثال الاسم السلطان والبرهان. والمصدر العدوان والخسران. وكان عيسى بن عمر يقرأ « بقربان » بضم الراء اتباعا لضمة القاف؛ كما قيل في جمع ظلمة: ظلمات، وفي حجرة حجرات. ثم قال تعالى معزيا لنبيه ومؤنسا له. « فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤوا بالبينات » أي بالدلالات. « والزبر » أي الكتب المزبورة، يعني المكتوبة. والزبر جمع زبور وهو الكتاب. وأصله من زبرت أي كتبت. وكل زبور فهو كتاب؛ قال امرؤ القيس:

لمن طلل أبصرته فشجاني كخط زبور في عسيب يماني

وأنا أعرف تزبرتي أي كتابتي. وقيل: الزبور من الزبر بمعنى الزجر. وزبرت الرجل انتهرته. وزبرت البئر: طويتها بالحجارة. وقرأ ابن عامر « بالزبر وبالكتاب المنير » بزيادة باء في الكلمتين. وكذلك هو في مصاحف أهل الشام. « والكتاب المنير » أي الواضح المضيء؛ من قولك: أنرت الشيء أنيره، أي أوضحته: يقال: نار الشيء وأناره ونوره واستناره بمعنى، وكل واحد منهما لازم ومتعد. وجمع بين الزبر والكتاب - وهما بمعنى - لاختلاف لفظهما، وأصلها كما ذكرنا.

 

الآية: 185 ( كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور )

 

لما أخبر جل وتعالى عن الباخلين وكفرهم في قولهم: « إن الله فقير ونحن أغنياء » وأمر المؤمنين بالصبر على أذاهم في قوله: « لتبلون » [ آل عمران: 186 ] الآية - بين أن ذلك مما ينقضي ولا يدوم؛ فإن أمد الدنيا قريب، ويوم القيامة يوم الجزاء. « ذائقة الموت » من الذوق، وهذا مما لا محيص عنه للإنسان، ولا محيد عنه لحيوان. وقد قال أمية بن أبي الصلت:

من لم يمت عبطة يمت هرما للموت كأس والمرء ذائقها

وقال آخر:

الموت باب وكل الناس داخله فليت شعري بعد الباب ما الدار

 

قراءة العامة « ذائقة الموت » بالإضافة. وقرأ الأعمش ويحيى وابن أبي إسحاق « ذائقة الموت » بالتنوين ونصب الموت. قالوا: لأنها لم تذق بعد. وذلك أن اسم الفاعل على ضربين: أحدهما أن يكون بمعنى المضي. والثاني بمعنى الاستقبال؛ فإن أردت الأول لم يكن فيه إلا الإضافة إلى ما بعده؛ كقولك: هذا ضارب زيد أمس، وقاتل بكر أمس؛ لأنه يجري مجرى الاسم الجامد وهو العلم، نحو غلام زيد، وصاحب بكر. قال الشاعر:

الحافظ عورة العشيرة لا يأتيهم من ورائهم وكف

وإن أردت الثاني جاز الجر. والنصب والتنوين فيما هذا سبيله هو الأصل؛ لأنه يجري مجرى الفعل المضارع فإن كان الفعل غير متعد، لم يتعد نحو قاتم زيد. وإن كان متعديا عديته ونصبت به، فتقول. زيد ضارب عمروا بمعنى يضرب عمروا. ويجوز حذف التنوين والإضافة تخفيفا، كما قال المرار « : »

سل الهموم بكل معطي رأسه ناج مخالط صهبة متعيس

مغتال أحبله مبين عنقه في منكب زبن المطي عرندس

فحذف التنوين تخفيفا، والأصل: معط رأسه بالتنوين والنصب، ومثل هذا أيضا في التنزيل قوله تعالى « هل هن كاشفات ضره » [ الزمر: 38 ] وما كان مثله.

 

ثم اعلم أن للموت أسبابا وأمارات، فمن علامات موت المؤمن عرق الجبين. أخرجه النسائي من حديث بريدة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « المؤمن يموت بعرق الجبين » . وقد بيناه في « التذكرة » فإذا احتضر لقن الشهادة؛ لقوله عليه السلام: ( لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ) لتكون آخر كلامه فيختم له بالشهادة؛ ولا يعاد عليه منها لئلا يضجر. ويستحب قراءة « يس » ذلك الوقت؛ لقوله عليه السلام: « اقرؤوا يس على موتاكم » أخرجه أبو داود. وذكر الآجري في كتاب النصيحة من حديث أم الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من ميت يقرأ عنده سورة يس إلا هون عليه الموت ) . فإذا قضي وتبع البصر الروح كما أخبر صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم وارتفعت العبادات وزال التكليف، توجهت على الأحياء أحكام؛ منها تغميضه، وإعلام إخوانه الصلحاء بموته؛ وكرهه قوم وقالوا: هو من النعي. والأول أصح، وقد بيناه في غير هذا الموضع. ومنها الأخذ في تجهيزه بالغسل والدفن لئلا يسرع إليه التغير؛ قال صلى الله عليه وسلم لقوم أخروا دفن ميتهم: ( عجلوا بدفن جيفتكم ) وقال: ( أسرعوا بالجنازة ) الحديث، وسيأتي.

 

فأما غسله فهو سنة لجميع المسلمين حاشا الشهيد على ما تقدم. قيل: غسله واجب قاله القاضي عبدالوهاب. والأول: مذهب الكتاب، وعلى هذين القولين العلماء. وسبب الخلاف قوله عليه السلام لأم عطية في غسلها ابنته زينب، على ما في كتاب مسلم. وقيل: هي أم كلثوم، على ما في كتاب أبي داود: ( اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك ) الحديث. وهو الأصل عند العلماء في غسل الموتى. فقيل: المراد بهذا الأمر بيان حكم الغسل فيكون واجبا. وقيل: المقصود منه تعليم كيفية الغسل فلا يكون فيه ما يدل على الوجوب. قالوا ويدل عليه قوله: ( إن رأيتن ذلك ) وهذا يقتضي إخراج ظاهر الأمر عن الوجوب؛ لأنه فوضه إلى نظرهن. قيل لهم: هذا فيه بعد؛ لأن ردك ( إن رأيتن ) إلى الأمر، ليس السابق إلى الفهم بل السابق رجوع هذا الشرط إلى أقرب مذكور، وهو ( أكثر من ذلك ) أو إلى التخيير في الأعداد. وعلى الجملة فلا خلاف في أن غسل الميت مشروع معمول به في الشريعة لا يترك. وصفته كصفة غسل الجنابة على ما هو معروف. ولا يجاوز السبع غسلات في غسل الميت بإجماع؛ على ما حكاه أبو عمر. فإن خرج منه شيء بعد السبع غسل الموضع وحده، وحكمه حكم الجنب إذا أحدث بعد غسله. فإذا فرغ من غسله كفنه في ثيابه.

والتكفين واجب عند عامة العلماء، فإن كان له مال فمن رأس ماله عند عامة العلماء إلا ما حكي عن طاوس أنه قال: من الثلث كان المال قليلا أو كثيرا. فإن كان الميت ممن تلزم غيره نفقته في حياته من سيد إن كان عبدا أو أب أو زوج أو ابن؛ فعلى السيد باتفاق، وعلى الزوج والأب والابن باختلاف. ثم على بيت المال أو على جماعة المسلمين على الكفاية. والذي يتعين منه بتعيين الفرض ستر العورة؛ فإن كان فيه فضل غير أنه لا يعم جميع الجسد غطى رأسه ووجهه إكراما لوجهه وسترا لما يظهر من تغير محاسنه. والأصل في هذا قصة مصعب بن عمير، فإنه ترك يوم أحد نمرة كان إذا غطى رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطي رجلاه خرج رأسه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ضعوها مما يلي رأسه واجعلوا على رجليه من الإذخر ) أخرج الحديث مسلم. والوتر مستحب عند كافة العلماء في الكفن، وكلهم مجمعون على أنه ليس فيه حد. والمستحب منه البياض قال صلى الله عليه وسلم: ( البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم ) أخرجه أبو داود. وكفن صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف. والكفن في غير البياض جائز إلا أن يكون حريرا أو خزا. فإن تشاح الورثة في الكفن قضي عليهم في مثل لباسه في جمعته وأعياده قال صلى الله عليه وسلم: ( إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه ) أخرجه مسلم. إلا أن يوصي بأقل من ذلك. فإن أوصى بسرف قيل: يبطل الزائد. وقيل: يكون في الثلث. والأول أصح؛ لقوله تعالى: « ولا تسرفوا » [ الأنعام: 141 ] . وقال أبو بكر: إنه للمهلة. فإذا فرغ من غسله وتكفينه ووضع على سريره واحتمله الرجال على أعناقهم

 

فالحكم الإسراع في المشي؛ لقوله عليه السلام: ( أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه وإن تكن غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم ) . لا كما يفعله اليوم الجهال في المشي رويدا والوقوف بها المرة بعد المرة، وقراءة القرآن بالألحان إلى ما لا يحل ولا يجوز حسب ما يفعله أهل الديار المصرية بموتاهم. روى النسائي: أخبرنا محمد بن عبدالأعلى قال حدثنا خالد قال أنبأنا عيينة بن عبدالرحمن قال حدثني أبي قال: شهدت جنازة عبدالرحمن بن سمرة وخرج زياد يمشي بين يدي السرير، فجعل رجال من أهل عبدالرحمن ومواليهم يستقبلون السرير ويمشون على أعقابهم ويقولون: رويدا رويدا، بارك الله فيكم! فكانوا يدبون دبيبا، حتى إذا كنا ببعض طريق المريد لحقنا أبو بكرة رضي الله عنه على بغلة فلما رأى الذين يصنعون حمل عليهم ببغلته وأهوى إليهم بالسوط فقال: خلوا! فوالذي أكرم وجه أبي القاسم صلى الله عليه وسلم لقد رأينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنها لنكاد نرمل بها رملا، فانبسط القوم. وروى أبو ماجدة عن ابن مسعود قال سألنا نبينا صلى الله عليه سلم عن المشي مع الجنازة فقال: ( دون الخبب إن يكن خيرا يعجل إليه وإن يكن غير ذلك فبعدا لأهل النار ) الحديث. قال أبو عمر: والذي عليه جماعة العلماء في ذلك الإسراع فوق السجية قليلا، والعجلة أحب إليهم من الإبطاء. ويكره الإسراع الذي يشق على ضعفة الناس ممن يتبعها. وقال إبراهيم النخعي: بطئوا بها قليلا ولا تدبوا دبيب اليهود والنصارى. وقد تأول قوم الإسراع في حديث أبي هريرة تعجيل الدفن لا المشي، وليس بشيء لما ذكرنا. وبالله التوفيق.

 

وأما الصلاة عليه فهي واجبة على الكفاية كالجهاد. هذا هو المشهور من مذاهب العلماء: مالك وغيره؛ لقوله في النجاشي: ( قوموا فصلوا عليه ) . وقال أصبغ: إنها سنة. وروى عن مالك. وسيأتي لهذا المعنى زيادة بيان في « براءة » .

 

وأما دفنه في التراب ودسه وستره فذلك واجب؛ لقوله تعالى: « فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه » [ المائدة: 31 ] . وهناك يذكر حكم بنيان القبر وما يستحب منه، وكيفية جعل الميت فيه. ويأتي في « الكهف » حكم بناء المسجد عليه، إن شاء الله تعالى.

فهذه جملة من أحكام الموتى وما يجب لهم على الأحياء. وعن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا ) أخرجه مسلم. وفي سنن النسائي عنها أيضا قالت: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم هالك بسوء فقال: ( لا تذكروا هلكاكم إلا بخير ) .

 

قوله تعالى: « وإنما توفون أجوركم يوم القيامة » فأجر المؤمن ثواب، وأجر الكافر عقاب، ولم يعتد بالنعمة والبلية في الدنيا أجرا وجزاء؛ لأنها عرصة الفناء. « فمن زحزح عن النار » أي أبعد. « وأدخل الجنة فقد فاز » ظفر بما يرجو، ونجا مما يخاف. وروى الأعمش عن زيد بن وهب عن عبدالرحمن بن عبد رب الكعبة عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من سره أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتأته منيته وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويأتي إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه ) . عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها اقرؤوا إن شئتم « فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز » ) .

 

قوله تعالى: « وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور » أي تغر المؤمن وتخدعه فيظن طول البقاء وهي فانية. والمتاع ما يتمتع به وينتفع؛ كالفأس والقدر والقصعة ثم يزول ولا يبقى ملكه؛ قاله أكثر المفسرين. قال الحسن: كخضرة النبات، ولعب البنات لا حاصل له. وقال قتادة: هي متاع متروك توشك أن تضمحل بأهلها؛ فينبغي للإنسان أن يأخذ من هذا المتاع بطاعة الله سبحانه ما استطاع. ولقد أحسن من قال:

هي الدار دار الأذى والقذى ودار الفناء ودار الغير

فلو نلتها بحذافيرها لمت ولم تقض منها الوطر

أيا من يؤمل طول الخلود وطول الخلود عليه ضرر

إذا أنت سبت وبان الشباب فلا خير في العيش بعد الكبر

والغرور ( بفتح الغين ) الشيطان؛ يغر الناس بالتمنية والمواعيد الكاذبة. قال ابن عرفة: الغرور ما رأيت له ظاهرا تحبه، وفيه باطن مكروه أو مجهول. والشيطان غرور؛ لأنه يحمل على محاب النفس، ووراء ذلك ما يسوء. قال: ومن هذا بيع الغرر، وهو ما كان له ظاهر بيع يغر وباطن مجهول.

 

الآية: 186 ( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور )

 

هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته والمعنى: لتختبرن ولتمتحنن في أموالكم بالمصائب والأرزاء بالإنفاق في سبيل الله وسائر تكاليف الشرع. والابتلاء في الأنفس بالموت والأمراض وفقد الأحباب. وبدأ بذكر الأموال لكثرة المصائب بها. « ولتسمعن » إن قيل: لم ثبتت الواو في « لتبلون » وحذفت من « ولتسمعن » ؛ فالجواب أن الواو في « لتبلون » قبلها فتحة فحركت لالتقاء الساكنين، وخصت بالضمة لأنها واو الجمع، ولم يجز حذفها لأنها ليس قبلها ما يدل عليها، وحذفت من « ولتسمعن » لأن قبلها ما يدل عليها. ولا يجوز همز الواو في « لتبلون » لأن حركتها عارضة؛ قال النحاس وغيره. ويقال للواحد من المذكر: لتبلين يا رجل. وللاثنين: لتبليان يا رجلان. ولجماعة الرجال: لتبلون. ونزلت بسبب أن أبا بكر رضي الله عنه سمع يهوديا يقول: إن الله فقير ونحن أغنياء. ردا على القرآن واستخفافا به حين أنزل الله « من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا » [ البقرة: 245 ] فلطمه؛ فشكاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت. قيل: إن قائلها فنحاص اليهودي؛ عن عكرمة. الزهري: هو كعب بن الأشرف نزلت بسببه؛ وكان شاعرا، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويؤلب عليه كفار قريش، ويشبب بنساء المسلمين حتى بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة وأصحابه فقتله القتلة المشهورة في السير وصحيح الخبر. وقيل غير هذا. وكان صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كان بها اليهود والمشركون، فكان هو وأصحابه يسمعون أذى كثيرا.، في الصحيحين أنه عليه السلام مر بابن أبي وهو عليه السلام على حمار فدعاه إلى الله تعالى فقال ابن أبي: إن كان ما تقول حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا! ارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص عليه. وقبض على أنفه لئلا يصيبه غبار الحمار، فقال ابن رواحة: نعم يا رسول الله، فاغشنا في مجالسنا فإنا نحب ذلك. واستب المشركون الذين كانوا حول ابن أبي والمسلمون، وما زال النبي صلى الله عليه وسلم يسكنهم حتى سكنوا. ثم دخل على سعد بن عبادة يعوده وهو مريض، فقال: ( ألم تسمع ما قال فلان ) فقال سعد: أعف عنه واصفح، فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاءك الله بالحق الذي نزل، وقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة؛ فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق به، فذلك فعل به ما رأيت. فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزلت هذه الآية. قيل: هذا أن قبل نزول القتال، وندب الله عباده إلى الصبر والتقوى وأخبر أنه من عزم الأمور. وكذا في البخاري في سياق الحديث، إن ذلك كان قبل نزول القتال. والأظهر أنه ليس بمنسوخ؛ فإن الجدال بالأحسن والمداراة أبدا مندوب إليها، وكان عليه السلام مع الأمر بالقتال يوادع اليهود ويداريهم، ويصفح عن المنافقين، وهذا بين. ومعنى « عزم الأمور » شدها وصلابتها. وقد تقدم.

 

الآية: 187 ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون )

 

قوله تعالى: « وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب » هذا متصل بذكر اليهود؛ فإنهم أمروا بالإيمان بمحمد عليه السلام وبيان أمره، فكتموا نعته. فالآية توبيخ لهم، ثم مع ذلك هو خبر عام لهم ولغيرهم. قال الحسن وقتادة: هي في كل من أوتي علم شيء من الكتاب. فمن علم شيئا فليعلمه، وإياكم وكتمان العلم فإنه هلكة. وقال محمد بن كعب: لا يحل لعالم أن يسكت على علمه، ولا للجاهل أن يسكت على جهله؛ قال الله تعالى: « وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب » الآية. وقال: « فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون » [ النحل: 42 ] . وقال أبو هريرة: لولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء؛ ثم تلا هذه الآية « وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب » . وقال الحسن بن عمارة: أتيت الزهري بعد ما ترك الحديث، فألفيته على بابه فقلت: إن رأيت أن تحدثني. فقال: أما علمت أني تركت الحديث؟ فقلت: إما أن تحدثني وإما أن أحدثك. قال حدثني. قلت: حدثني الحكم بن عتيبة عن يحيى بن الجزار قال سمعت علي بن أبي طالب يقول: ما أخذ الله على الجاهلين أن يتعلموا حتى أخذ على العلماء أن يعلموا. قال: فحدثني أربعين حديثا.

 

الهاء في قوله: « لتبيننه للناس » ترجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإن لم يجر له ذكر. وقيل: ترجع إلى الكتاب؛ ويدخل فيه بيان أمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه في الكتاب. « ولا تكتمونه » ولم يقل تكتمنه لأنه في معنى الحال، أي لتبيننه غير كاتمين. وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وأهل مكة « لتبيننه » بالتاء على حكاية الخطاب. والباقون بالياء لأنهم غيب. وقرأ ابن عباس « وإذ أخذ الله ميثاق النبيين ليبيننه » . فيجيء قوله « فنبذوه » عائدا على الناس الذين بين لهم الأنبياء. وفي قراءة ابن مسعود « ليبينونه » دون النون الثقيلة. والنبذ الطرح. وقد تقدم بيانه في « البقرة » . « وراء ظهورهم » مبالغة في الإطراح، ومنه « واتخذتموه وراءكم ظهريا » [ هود: 92 ] وقد تقدم في « البقرة » بيانه أيضا. وتقدم معنى قوله: « واشتروا به ثمنا قليلا » في « البقرة » فلا معنى لإعادته. « فبئس ما يشترون » تقدم أيضا. والحمد لله.

 

الآية: 188 ( لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم )

 

أي بما فعلوا من القعود في التخلف عن الغزو وجاؤوا به من العذر. ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن رجالا من المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قدم النبي صلى الله عليه وسلم اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا؛ فنزلت « لا تحسبن الذين يفرحون بما أوتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا » الآية. وفي الصحيحين أيضا أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل له: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون. فقال ابن عباس: مالكم ولهذه الآية! إنما أنزلت هذه الآية في أهل الكتاب. ثم تلا ابن عباس « وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه » و « لا تحسبن الذين يفرحون بما أوتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا » . وقال ابن عباس: سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره؛ فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم إياه، وما سألهم عنه. وقال محمد بن كعب القرظي: نزلت في علماء بني إسرائيل الذين كتموا الحق، وأتوا ملوكهم من العلم ما يوافقهم في باطلهم، « واشتروا به ثمنا قليلا » أي بما أعطاهم الملوك من الدنيا؛ فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: « لا تحسبن الذين يفرحون بما أوتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم » . فأخبر أن لهم عذابا أليما بما أفسدوا من الدين على عباد الله. وقال الضحاك: إن اليهود كانوا يقولون للملوك إنا نجد في كتابنا أن الله يبعث نبينا في آخر الزمان يختم به النبوة؛ فلما بعثه الله سألهم الملوك أهو هذا الذي تجدونه في كتابكم؟ فقال اليهود طمعا في أموال الملوك: هو غير ذلك، فأعطاهم الملوك الخزائن؛ فقال الله تعالى: « لا تحسبن الذين يفرحون بما أوتوا » الملوك من الكذب حتى يأخذوا عرض الدنيا. والحديث الأول خلاف مقتضى الحديث الثاني. ويحتمل أن يكون نزولها على السببين لاجتماعهما في زمن واحد، فكانت جوابا للفريقين. والله أعلم. وقوله: واستحمدوا بذلك إليه، أي طلبوا أن يحمدوا. وقول مروان: لئن كان كل امرئ منا إلخ دليل على أن للعموم صيغا مخصوصة، وأن « الذين » منها. وهذا مقطوع به من تفهم ذلك من القرآن والسنة. وقوله تعالى: « ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا » إذا كانت الآية في أهل الكتاب لا في المنافقين المتخلفين؛ لأنهم كانوا يقولون: نحن على دين إبراهيم ولم يكونوا على دينه، وكانوا يقولون: نحن أهل الصلاة والصوم والكتاب؛ يريدون أن يحمدوا بذلك. و « الذين » فاعل بيحسبن بالياء. وهي قراءة نافع وابن عامر وابن كثير وأبي عمرو؛ أي لا يحسبن الفارحون فرحهم منجيا لهم من العذاب. وقيل: المفعول الأول محذوف، وهو أنفسهم. والثاني « بمفازة » . وقرأ الكوفيون « تحسبن » بالتاء على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي لا تحسبن يا محمد الفارحين بمفازة من العذاب. وقوله « فلا تحسبنهم » بالتاء وفتح الباء، إعادة تأكيد، ومفعوله الأول الهاء والميم، والمفعول الثاني محذوف؛ أي كذلك، والفاء عاطفة أو زائدة على بدل الفعل الثاني من الأول. وقرأ الضحاك وعيسى بن عمر بالتاء وضم الباء « فلا تحسبنهم » أراد محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وقرأ مجاهد وابن كثير وأبو عمرو ويحيى بن يعمر بالياء وضم الباء خبرا عن الفارحين؛ أي فلا يحسبن أنفسهم؛ « بمفازة » المفعول الثاني. ويكون « فلا يحسبنهم » تأكيدا. وقيل: « الذين » فاعل بـ « يحسبن » ومفعولاها محذوفان لدلالة « يحسبنهم » عليه؛ كما قال الشاعر:

بأي كتاب أم بأية آية ترى حبهم عارا على وتحسب

استغنى بذكر مفعول الواحد عن ذكر مفعول، الثاني، و « بمفازة » الثاني، وهو بدل من الفعل الأول فأغنى لإبداله منه عن ذكر مفعوليه، والفاء زائدة. وقيل: قد تجيء هذه الأفعال ملغاة لا في حكم الجمل المفيدة نحو قول الشاعر:

وما خلت أبقى بيننا من مودة عراض المذاكي المسنفات القلائصا

المذاكي: الخيل التي قد أتي عليها بعد قروحها سنة أو سنتان؛ الواحد مذك، مثل المخلف من الإبل؛ وفي المثل جري المذكيات غلاب، والمسنفات اسم مفعول؛ يقال: سنفت البعير أسنفه سنفا إذا كففته بزمامه وأنت راكبه، وأسنف البعير لغة في سنفه، وأسنف البعير بنفسه إذا رفع رأسه؛ يتعدى ولا يتعدى. وكانت العرب تركب الإبل وتجنب الخيل؛ تقول: الحرب لا تبقي مودة. وقال كعب بن أبي سلمى:

أرجو وآمل أن تدنو موتها وما إخال لدنيا منك تنويل

وقرأ جمهور القراء السبعة وغيرهم « أتوا » بقصر الألف، أي بما جاؤوا به من الكذب والكتمان. وقرأ مروان بن الحكم والأعمش وإبراهيم النخعي « آتوا » بالمد، بمعنى أعطوا: وقرأ سعيد بن جبير « أوتوا » على ما لم يسو فاعله؛ أي أعطوا. والمفازة المنجاة، مفعلة من فاز يفوز إذا نجا؛ أي ليسوا بفائزين. وسمي موضع المخاوف مفازة على جهة التفاؤل؛ قاله الأصمعي. وقيل: لأنها موضع تفويز ومظنة هلاك؛ تقول العرب: فوز الرجل إذا مات. قال ثعلب: حكيت لابن الأعرابي قول الأصمعي فقال أخطأ، قال لي أبو المكارم: إنما سميت مفازة؛ لأن من قطعها فاز. وقال الأصمعي: سمي اللديغ سليما تفاؤلا. قال ابن الأعرابي: لأنه مستسلم لما أصابه. وقيل: لا تحسبنهم بمكان بعيد من العذاب؛ لأن الفوز التباعد عن المكروه. والله أعلم.

 

الآية: 189 ( ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير )

 

هذا احتجاج على الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء، وتكذيب لهم. وقيل: المعنى لا تظنن الفرحين ينجون من العذاب؛ فإن لله كل شيء، وهم في قبضة القدير؛ فيكون معطوفا على، الكلام الأول، أي إنهم لا ينجون من عذابه، يأخذهم متى شاء. « والله على كل شيء » أي ممكن « قدير » وقد مضى في « البقرة » .

 

الآية: 190 ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب )

 

قوله تعالى: « إن في خلق السماوات والأرض » تقدم معنى هذه الآية في « البقرة » في غير موضع. فختم تعالى هذه السورة بالأمر بالنظر والاستدلال في آياته؛ إذ لا تصدر إلا عن حي قيوم قدير وقدوس سلام غني عن العالمين؛ حتى يكون إيمانهم مستندا إلى اليقين لا إلى التقليد. « لآيات لأولى الألباب » الذين يستعملون عقولهم في تأمل الدلائل. وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لما نزلت هذه الآية على النبي قام يصلى، فأتاه بلال يؤذنه بالصلاة، فرآه يبكي فقال: يا رسول الله، أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر! فقال: ( يا بلال، أفلا أكون عبدا شكورا ولقد أنزل الله على الليلة آية « إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب » - ثم قال: ( ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها ) .

 

قال العلماء: يستحب لمن انتبه من نومه أن يمسح على وجهه، ويستفتح قيامه بقراءة هذه العشر الآيات اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما وسيأتي؛ ثم يصلي ما كتب له، فيجمع بين التفكر والعمل، وهو أفضل العمل على ما يأتي بيانه في هذه الآية بعد هذا. وروي عن أب هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ عشر آيات من آخر سورة « آل عمران » كل ليلة، خرجه أبو نصر الوائلي السجستاني الحافظ في كتاب « الإبانة » من حديث سليمان بن موسى عن مظاهر بن أسلم المخزومي عن المقبري عن أبي هريرة. وقد تقدم أول السورة عن عثمان قال: من قرأ آخر آل عمران في ليلة كتب له قيام ليلة.

 

الآية: 191 ( الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار )

 

قوله تعالى: « الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم » ذكر تعالى ثلاث هيئات لا يخلو ابن آدم منها في غالب أمره، فكأنها تحصر زمانه. ومن هذا المعنى قول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه. أخرجه مسلم. فدخل في ذلك كونه على الخلاء وغير ذلك. وقد اختلف العلماء في هذا؛ فأجاز ذلك عبدالله بن عمرو وابن سيرين والنخعي، وكره ذلك ابن عباس وعطاء والشعبي. والأول أصح لعموم الآية والحديث. قال النخعي: لا بأس بذكر. الله في الخلاء فإنه يصعد. المعنى: تصعد به الملائكة مكتوبا في صحفهم؛ فحذف المضاف. دليله قوله تعالى: « ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد » [ ق: 18 ] . وقال: « وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين » [ الانفطار: 10 - 11 ] . لأن الله عز وجل أمر عباده بالذكر على كل حال ولم يستثن فقال: « اذكروا الله ذكرا كثيرا » [ الأحزاب: 41 ] وقال: « فاذكروني أذكركم » [ البقرة: 152 ] وقال: « إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا » [ الكهف: 3 ] فع. فذاكر الله تعالى على كل حالاته مثاب مأجور إن شاء الله تعالى. وذكر أبو نعيم قال: حدثنا أبو بكر بن مالك حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان عن عطاء بن أبي مروان عن أبيه عن كعب الأحبار قال قال موسى عليه السلام: ( يا رب أقريب أنت فأناجيك أم بعيد فأناديك قال: يا موسى أنا جليس من ذكرني قال: يا رب فإنا نكون من الحال على حال نجلك ونعظمك أن نذكرك قال: وما هي؟ قال: الجنابة والغائط قال: يا موسى اذكرني على كل حال ) . وكراهية من كره ذلك إما لتنزيه ذكر الله تعالى في المواضع المرغوب عن ذكره فيها ككراهية قراءة القرآن في الحمام، وإما إبقاء على الكرام الكاتبين على أن يحلهم موضع الأقذار والأنجاس لكتابة ما يلفظ به. والله أعلم. و « قياما وقعودا » نصب على الحال. « وعلى جنوبهم » في موضع الحال؛ أي ومضطجعين ومثله قوله تعالى: « دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما » [ يونس: 12 ] على العكس؛ أي دعانا مضطجعا على جنبه. وذهب، جماعة من المفسرين منهم الحسن وغيره إلى أن قوله « يذكرون الله » إلى آخره، إنما هو عبارة عن الصلاة؛ أي لا يضيعونها، ففي حال العذر يصلونها قعودا أو على جنوبهم. وهي مثل قوله تعالى: « فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم » [ النساء: 103 ] في قول ابن مسعود على، ما يأتي بيانه. وإذا كانت الآية في الصلاة ففقهها أن الإنسان يصلى قائما، فإن لم يستطع فقاعدا، فإن لم يستطع فعلى جنبه؛ كما ثبت عن عمران بن حصين قال: كان بي البواسير فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فقال: ( صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب ) رواه الأئمة: وقد كان صلى الله عليه وسلم يصلي قاعدا قبل موته بعام في النافلة؛ على ما في صحيح مسلم. وروى النسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي متربعا. قال أبو عبدالرحمن: لا أعلم أحد روى هذا الحديث غير أبي داود الحفري وهو ثقة، ولا أحسب هذا الحديث إلا خطأ. والله أعلم.

 

واختلف العلماء في كيفية صلاة المريض والقاعد وهيئتها؛ فذكر ابن عبدالحكم عن مالك أنه يتربع في قيامه، وقال البويطي عن الشافعي فإذا أراد السجود تهيأ للسجود على قدر ما يطيق، قال: وكذلك المتنفل. ونحوه قول الثوري، وكذلك قال الليث وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد. وقال الشافعي في رواية المزني: يجلس في صلاته كلها كجلوس التشهد. وروى هذا عن مالك وأصحابه؛ والأول المشهور وهو ظاهر المدونة. وقال أبو حنيفة وزفر: يجلس كجلوس التشهد، وكذلك يركع سجد.

 

قال: فإن لم يستطع القعود صلى على جنبه أو ظهره على التخيير؛ هذا مذهب المدونة وحكى ابن حبيب عن ابن القاسم يصلي على ظهره، فإن لم يستطع فعلى جنبه الأيمن ثم على جنبه الأيسر. وفي كتاب ابن المواز عكسه، يصلي على جنبه الأيمن، وإلا فعلى الأيسر، وإلا فعلى الظهر. وقال سحنون: يصلي على الأيمن كما يجعل في لحده، وإلا فعلى ظهره وإلا فعلى الأيسر. وقال مالك وأبو حنيفة: إذا صلى مضطجعا تكون رجلاه مما يلي القبلة. والشافعي والثوري: يصلي على جنبه ووجهه إلى القبلة.

 

فإن قوي لخفة المرض وهو في الصلاة؛ قال ابن القاسم: إنه يقوم فيما بقي من صلاته ويبني على ما مضى؛ وهو قول الشافعي وزفر والطبري. وقال أبو حنيفة وصاحباه يعقوب ومحمد فيمن صلى مضطجعا ركعة ثم صح: إنه يستقبل الصلاة من أولها، ولو كان قاعدا يركع ويسجد ثم صح بنى في قول أبي حنيفة ولم يبن في قول محمد. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا افتتح الصلاة قائما ثم صار إلى حد الإيماء فليبن؛ وروي عن أبي يوسف. وقال مالك في المريض الذي لا يستطيع الركوع ولا السجود وهو يستطيع القيام والجلوس: إنه يصلي قائما ويومئ إلى الركوع، فإذا أراد السجود جلس وأومأ إلى السجود؛ وهو قول أبي يوسف وقياس قول الشافعي وقال، أبو حنيفة وأصحابه: يصلي قاعدا.

 

وأما صلاة الراقد الصحيح فروي عن حديث عمران بن حصين زيادة ليست موجودة في غيره، وهي « صلاة الراقد مثل نصف صلاة القاعد » . قال أبو عمر: وجمهور أهل العلم لا يجيزون النافل مضطجعا؛ وهو حديث لم يروه إلا حسين المعلم وهو حسين بن ذكوان عن عبدالله بن بريدة عن عمران بن حصين، وقد اختلف على حسين في إسناده ومتنه اختلافا يوجب التوقف عنه، وإن صح فلا أدري ما وجهه؛ فإن كان أحد من أهل العلم قد أجاز النافلة مضطجعا لمن قدر على القعود أو على القيام فوجهه هذه الزيادة في هذا الخبر، وهي حجة لمن ذهب إلى ذلك. لان أجمعوا على كراهة النافلة راقدا لمن قدر على القعود أو القيام، فحديث حسين هذا إما غلط وإما منسوخ وقيل: المراد بالآية الذين يستدلون بخلق السموات والأرض على أن المتغير لا بد له من مغير، وذلك المغير يجب أن يكون قادرا على الكمال، وله أن يبعث الرسل، فإن بعث رسولا ودل على صدقه بمعجزة واحدة لم يبق لأحد عذر؛ فهؤلاء الذين يذكرون الله على كل حال. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « ويتفكرون في خلق السماوات والأرض » قد بينا معنى « ويذكرون » وهو إما ذكر باللسان وإما الصلاة فرضها ونفلها؛ فعطف تعالى عبادة أخرى على إحداهما بعبادة أخرى، وهي التفكر في قدرة الله تعالى ومخلوقاته والعبر الذي بث؛ ليكون ذلك أزيد بصائرهم:

وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد

وقيل: « يتفكرون » عطف على الحال. وقيل: يكون منقطعا؛ والأول أشبه. والفكرة: تردد القلب في الشيء؛ يقال: تفكر، ورجل فكير كثير الفكر، ومر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم يتفكرون في الله فقال: ( تفكروا في الخلق، ولا تتفكروا في الخالق فإنكم لا تقدرون قدره ) وإنما التفكر والاعتبار وانبساط الذهن في المخلوقات كما قال: « ويتفكرون في خلق السموات والأرض » . وحكي أن سفيان الثوري رضي الله عنه صلى خلف المقام ركعتين، ثم رفع رأسه إلى السماء فلما رأى الكواكب غشي عليه، وكان يبول الدم من طول حزنه وفكرته. وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء فقال أشهد أن لك، ربا وخالقا اللهم اغفر لي فنظر الله إليه فغفر له ) وقال صلى الله عليه وسلم: ( لا عبادة كتفكر ) . وروي عنه عليه السلام قال: ( تفكر ساعة خير من عبادة سنة ) . وروى ابن القاسم عن مالك قال: قيل لأم الدرداء: ما كان أكثر شأن أبي الدرداء؟ قالت: كان أكثر شأنه التفكر. قيل له: أفترى التفكر عمل من الأعمال؟ قال: نعم، هو اليقين. وقيل لابن المسيب في الصلاة بين الظهر والعصر، قال: ليست هذه عبادة، إنما العبادة الورع عما حرم الله والتفكر في أمر الله. وقال الحسن: تفكر ساعة خير من قيام ليلة؛ وقال ابن العباس وأبو الدرداء. وقال الحسن: الفكرة مرآة المؤمن ينظر فيها إلى حسناته وسيئاته. ومما يتفكر فيه مخاوف الآخرة من الحشر والنشر والجنة ونعيمها والنار وعذابها. ويروى أن أبا سليمان الداراني رضي الله عنه أخذ قدح الماء ليتوضأ لصلاة الليل وعنده ضيف، فرآه لما أدخل أصبعه في أذن القدح أقام لذلك متفكرا حتى طلع الفجر؛ فقال له: ما هذا يا أبا سليمان؟ قال: إني لما طرحت أصبعي في أذن القدح تفكرت في قول الله تعالى « إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون » [ المؤمن: 71 ] تفكرت، في حالي وكيف أتلقى الغل إن طرح في عنقي يوم القيامة، فما زلت في ذلك حتى أصبحت. قال ابن عطية: « وهذا نهاية الخوف، وخير الأمور أوساطها، وليس علماء الأمة الذين هم الحجة على هذا المنهاج، وقراءة علم كتاب الله تعالى ومعاني سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن يفهم ويرجى نفعه أفضل من هذا » . قال ابن العربي: اختلف الناس أي العملين أفضل: التفكر أم الصلاة؛ فذهب الصوفية إلى أن التفكر أفضل؛ فإنه يثمر المعرفة وهو أفضل، المقامات الشرعية. وذهب الفقهاء إلى أن الصلاة أفضل؛ لما ورد في الحديث من الحث عليها والدعاء إليها والترغيب فيها. وفي الصحيحين عن ابن عباس أنه بات عند خالته ميمونة، وفيه: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح النوم عن وجهه ثم قرأ الآيات العشر الخواتم من سورة آل عمران، وقام إلى شن معلق فتوضأ وضوءا خفيفا ثم صلى ثلاث عشرة ركعة؛ الحديث. فانظروا رحمكم الله إلى جمعه بين التفكر في المخلوقات ثم إقباله على صلاته بعده؛ وهذه السنة هي التي يعتمد عليها. فأما طريقة الصوفية أن يكون الشيخ منهم يوما وليلة وشهرا مفكرا لا يفتر؛ فطريقة بعيدة عن الصواب غير لائقة بالبشر، ولا مستمرة على السنن. قال ابن عطية: وحدثني أبي عن بعض علماء المشرق قال: كنت بائتا في مسجد الأقدام بمصر فصليت العتمة فرأيت رجلا قد اضطجع في كساء له مسجى بكسائه حتى أصبح، وصلينا نحن تلك الليلة؛ فلما أقيمت صلاة الصبح قام ذلك الرجل فاستقبل القبلة وصلى مع الناس، فاستعظمت جراءته في الصلاة بغير وضوء؛ فلما فرغت الصلاة خرج فتبعته لأعظه، فلما دنوت منه سمعته ينشد شعرا:

مسجى الجسم غائب حاضر منتبه القلب صامت ذاكر

منقبض في الغيوب منبسط كذاك من كان عارفا ذاكر

يبيت في ليله أخا فكر فهو مدى الليل نائم ماهر

قال: فعلمت أنه ممن يعبد بالفكرة، فانصرفت عنه.

 

قوله تعالى: « ربنا ما خلقت هذا باطلا » أي يقولون: ما خلقته عبثا وهزلا، بل خلقته دليلا على قدرتك وحكمتك. والباطل: الزائل الذاهب. ومنه قول لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

أي زائل. و « باطلا » نصب لأنه نعت مصدر محذوف؛ أي خلقا باطلا وقيل: أنتصب على نزع الخافض، أي ما خلقتها للباطل. وقيل: على المفعول الثاني، ويكون خلق بمعنى جعل. « سبحانك » أسند النحاس عن موسى بن طلحة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى « سبحان الله » فقال: ( تنزيه الله عن السوء ) وقد تقدم في « البقرة » معناه مستوفى. « وقنا عذاب النار » أجرنا من عذابها، وقد تقدم.

 

الآية: 192 ( ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار )

 

قوله تعالى: « ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته » أي أذللته وأهنته. وقال المفضل أي أهلكته؛ وأنشد:

أخزى الإله من الصليب عبيده واللابسين قلانس الرهبان

وقيل: فضحته وأبعدته؛ يقال: أخزاه الله: أبعده ومقته. والاسم الخزي. قال ابن السكيت: خزي يخزي خزيا إذا وقع في بلية. وقد تمسك بهذه الآية أصحاب الوعيد وقالوا: من أدخل النار ينبغي إلا يكون مؤمنا؛ لقوله تعالى: « فقد أخزيته » فإن الله يقول: « يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه » [ التحريم: 8 ] . وما قالوه مردود؛ لقيام الأدلة على أن من ارتكب كبيرة لا يزول عنه اسم الإيمان، كما تقدم ويأتي. والمراد من قوله: « من تدخل النار » من تخلد في النار؛ قاله أنس بن مالك. وقال قتادة: تدخل مقلوب تخلد، ولا نقول كما قال أهل حروراء. وقال سعيد بن المسيب: الآية خاصة في قوم لا يخرجون من النار؛ ولهذا قال: « وما للظالمين من أنصار » أي الكفار. وقال أهل المعاني،: الخزي يحتمل أن يكون بمعنى الحياء؛ يقال: خزي يخزى إذا استحيا، فهو خزيان. قال ذو الرمة:

خزاية أدركته عند جولته من جانب الحيل مخلوطا بها الغضب

فخزي المؤمنين يومئذ استحياؤهم في دخول النار من سائر أهل الأديان إلى أن يخرجوا منها. والخزي للكافرين هو إهلاكهم فيها من غير موت؛ والمؤمنون يموتون، فافترقوا. كذا ثبت في صحيح السنة من حديث أبي سعيد الخدري، أخرجه مسلم، وقد تقدم ويأتي.

 

الآية: 193 ( ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار )

 

قوله تعالى: « ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان » أي محمدا صلى الله عليه وسلم؛ قاله ابن مسعود وابن عباس وأكثر المفسرين. وقال قتادة ومحمد بن كعب القرظي: هو القرآن، وليس كلهم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم. دليل هذا القول ما أخبر الله تعالى عن مؤمني الجن إذ قالوا: « إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد » [ الجن: 1 - 2 ] . وأجاب الأولون فقالوا: من سمع القرآن فكأنما لقي النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهذا صحيح معنى. وأن من « آمنوا » في موضع نصب على حذف حرف الخفض، أي بأن أمنوا. وفي الكلام تقديم وتأخير، أي سمعنا مناديا للإيمان ينادي؛ عن أبي عبيدة. وقيل: اللام بمعنى إلى، أي إلى الإيمان؛ كقوله: « ثم يعودون لما نهوا عنه » [ المجادلة: 8 ] . وقوله: « بأن ربك أوحى لها » [ الزلزلة: 5 ] وقوله: « الحمد لله الذي هدانا لهذا » [ الأعراف: 43 ] أي إلى هذا، ومثله كثير. وقيل: هي لام أجل، أي لأجل الإيمان.

 

قوله تعالى: « ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا » تأكيد ومبالغة في الدعاء. ومعنى اللفظين واحد؛ فإن الغفر والكفر: الستر. « وتوفنا مع الأبرار » أي أبرارا مع الأنبياء، أي في جملتهم. واحدهم وبر وبار وأصله من الاتساع؛ فكأن البر متسع في طاعة الله ومتسعة له رحمة الله.

 

الآية: 194 ( ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد )

 

قوله تعالى: « ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك » أي على ألسنة رسلك؛ مثل « واسأل القرية » . وقرأ الأعمش والزهري « رسلك » بالتخفيف، وهو ما ذكر من استغفار الأنبياء والملائكة للمؤمنين؛ والملائكة يستغفرون لمن في الأرض. وما ذكر من دعاء نوح للمؤمنين ودعاء إبراهيم واستغفار النبي صلى الله عليه وسلم لأمته. « ولا تخزنا » أي لا تعذبنا ولا تهلكنا ولا تفضحنا، ولا تهنا ولا تبعدنا ولا تمقتنا يوم القيامة « إنك لا تخلف الميعاد » . إن قيل: ما وجه قولهم « ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك » [ آل عمران: 194 ] وقد علموا أنه لا يخلف الميعاد؛ فالجواب من ثلاثة أوجه:

الأول: أن الله سبحانه وعد من آمن بالجنة، فسألوا أن يكونوا ممن وعد بذلك دون الخزي: والعقاب.

الثاني: أنهم دعوا بهذا الدعاء على جهة العبادة والخضوع؛ والدعاء مخ العبادة. وهذا كقوله « قال رب احكم بالحق » [ الأنبياء: 112 ] وإن كان هو لا يقضي إلا بالحق.

الثالث: سألوا أن يعطوا ما وعدوا به من النصر على عدوهم معجلا؛ لأنها حكاية عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فسألوه ذلك إعزازا للدين. والله أعلم. وروى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من وعده الله عز وجل على عمل ثوابا فهو منجز له رحمة ومن وعده على عمل عقابا فهو فيه بالخيار ) . والعرب تذم بالمخالفة في الوعد وتمدح بذلك في الوعيد؛ حتى قال قائلهم:

ولا يرهب ابن العم ما عشت صولتي ولا أختفي من خشية المتهدد

وإني متى أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

 

الآية: 195 ( فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب )

 

قوله تعالى: « فاستجاب لهم ربهم » أي أجابهم. قال الحسن: ما زالوا يقولون ربنا ربنا حتى استجاب لهم. وقال جعفر الصادق: من حزبه أمر فقال خمس مرات ربنا أنجاه لله مما يخاف وأعطاه ما أراد. قيل: وكيف ذلك ؟ قال: اقرؤوا إن شئتم « الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم » إلى قوله: « إنك لا تخلف الميعاد » [ آل عمران: 191 - 194 ] .

 

قوله تعالى: « أني » أي بأني. وقرأ عيسى بن عمر « إني » بكسر الهمزة، أي فقال: إني. وروى الحاكم أبو عبدالله في صحيحه عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله، ألا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء ؟ فأنزل الله تعالى: « فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من: ذكر أو أنثى » الآية. وأخرجه الترمذي. ودخلت « من » للتأكيد؛ لأن قبلها حرف نفي. وقال الكوفيون: هي للتفسير ولا يجوز حذفها؛ لأنها دخلت لمعنى لا يصلح الكلام إلا به، وإنما تحذف إذا كان تأكيدا للجحد. « بعضكم من بعض » ابتداء وخبر، أي دينكم واحد. وقيل: بعضكم من بعض في الثواب والأحكام والنصرة وشبه ذلك. وقال الضحاك: رجالكم شكل نسائكم في الطاعة، ونساؤكم شكل رجالكم في الطاعة؛ نظيرها قوله عز وجل: « والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض » [ التوبة: 71 ] . ويقال: فلان مني، أي على مذهبي وخلقي.

 

قوله تعالى: « فالذين هاجروا » ابتداء وخبر، أي هجروا أوطانهم وساروا إلى المدينة. « وأخرجوا من ديارهم » في طاعة الله عز وجل. « وقاتلوا » أي وقاتلوا أعدائي. « وقتلوا » أي في سبيلي. وقرأ ابن كثير وابن عامر: « وقاتلوا وقتلوا » على التكثير. وقرأ الأعمش « وقتلوا وقاتلوا » لأن الواو لا تدل على أن الثاني بعد الأول. وقيل: في الكلام إضمار قد، أي قتلوا وقد قاتلوا؛ ومنه قول الشاعر:

تصابى وأمسى علاه الكبر

أي وقد علاه الكبر. وقيل: أي وقد قاتل من بقي منهم؛ تقول العرب: قتلنا بني تميم، وإنما قتل بعضهم. وقال امرؤ القيس:

فإن تقاتلونا نقتلكم

وقرأ عمر بن عبدالعزيز: « وقتلوا وقتلوا » خفيفة بغير ألف. « لأكفرن عنهم سيئاتهم » أي لأسترنها عليهم في الآخرة، فلا أوبخهم بها ولا أعاقبهم عليها. « ثوابا من عند الله » مصدر مؤكد عند البصريين؛ لأن معنى « لأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار » لأثيبنهم ثوابا. الكسائي: انتصب على القطع. الفراء: على التفسير. « والله عنده حسن الثواب » أي حسن الجزاء؛ وهو ما يرجع على العامل من جراء عمله؛ من ثاب يثوب.

 

الآيتان: 196 - 197 ( لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد، متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد )

 

قوله تعالى: « لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد » قيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد الأمة. وقيل: للجميع. وذلك أن المسلمين قالوا: هؤلاء الكفار لهم تجائر وأموال واضطراب في البلاد، وقد هلكنا نحن من الجوع؛ فنزلت هذه الآية. أي لا يغرنكم سلامتهم بتقلبهم في أسفارهم. « متاع قليل » أي تقلبهم متاع قليل. وقرأ يعقوب « يغرنك » ساكنة النون؛ وأنشد:

لا يغرنك عشاء ساكن قد يوافي بالمنيات السحر

ونظير هذه الآية قوله تعالى: « فلا يغررك تقلبهم في البلاد » [ المؤمن: 4 ] . والمتاع: ما يعجل الانتفاع به؛ وسماه قليلا لأنه فان، وكل فان وإن كان كثيرا فهو قليل. وفي صحيح الترمذي عن المستورد الفهري قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بماذا يرجع ) . قيل: ( يرجع ) بالياء والتاء. « وبئس المهاد » أي بئس ما مهدوا لأنفسهم بكفرهم، وما مهد الله لهم من النار.

 

في هذه الآية وأمثالها كقوله: « أنما نملي لهم خير » [ آل عمران: 178 ] الآية. « وأملي لهم إن كيدي متين » [ الأعراف: 183 ] . « أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين » [ المؤمنون: 55 ] . « سنستدرجهم من حيث لا يعلمون » [ الأعراف: 182 ] دليل على أن الكفار غير. منعم عليهم في الدنيا؛ لأن حقيقة النعمة الخلوص من شوائب الضرر العاجلة والآجلة، ونعم الكفار. مشوبة بالآلام والعقوبات، فصار كمن قدم بين يدي غيره حلاوة من عسل فيها السم، فهو وإن استلذ آكله لا يقال: أنعم عليه؛ لأن فيه هلاك روحه. ذهب إلى هذا جماعة من العلماء، وهو قول الشيخ أبي الحسن الأشعري. وذهب جماعة منهم سيف السنة ولسان الأمة القاضي أبو بكر: إلى أن الله أنعم عليهم في الدنيا. قالوا: وأصل النعمة من النعمة بفتح النون، وهي لين العيش؛ ومنه قوله تعالى: « ونعمة كانوا فيها فاكهين » [ الدخان: 27 ] . يقال: دقيق ناعم، إذا بولغ في طحنه وأجيد سحقه. وهذا هو الصحيح، والدليل عليه أن الله تعالى أوجب على الكفار أن يشكروه وعلى جميع المكلفين فقال: « فاذكروا آلاء الله » [ الأعراف: 74 ] . « واشكروا لله » [ البقرة: 172 ] والشكر لا يكون إلا على نعمة. وقال: « وأحسن كما أحسن الله إليك » [ القصص: 77 ] وهذا خطاب لقارون. وقال: « وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة » [ النحل: 112 ] الآية. فنبه سبحانه أنه قد أنعم عليهم نعمة دنياوية فجحدوها. وقال: « يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها » [ النحل: 83 ] وقال: « يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم » [ فاطر: 3 ] . وهذا عام في الكفار وغيرهم. فأما إذا قدم لغيره طعاما فيه سم فقد رفق به في الحال؛ إذ لم يجرعه السم بحتا؛ بل دسه في الحلاوة، فلا يستبعد أن يقال: قد أنعم عليه، وإذا ثبت هذا فالنعم ضربان: نعم نفع ونعم دفع؛ فنعم النفع ما وصل إليهم من فنون اللذات، ونعم الدفع ما صرف عنهم من أنواع الآفات. فعلى هذا قد أنعم على الكفار نعم الدفع قولا واحدا؛ وهو ما زوي عنهم من الآلام والأسقام، ولا خلاف بينهم في أنه لم ينعم عليهم نعمة دينه. والحمد لله.

 

الآية: 198 ( لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار )

 

قوله تعالى: « لكن الذين اتقوا ربهم » استدراك بعد كلام تقدم فيه معنى النفي؛ لأن معنى ما تقدم ليس لهم في تقلبهم في البلاد كبير الانتفاع، لكن المتقون لهم الانتفاع الكبير والخلد الدائم. فموضع « لكن » رفع بالابتداء. وقرأ يزيد بن القعقاع « لكن » بتشديد النون.

 

قوله تعالى: « نزلا من عند الله » نزلا مثل ثوابا عند البصريين، وعند الكسائي يكون مصدرا. الفراء: هو مفسر. وقرأ الحسن والنخعي « نزلا » بتخفيف الزاي استثقالا لضمتين، وثقله الباقون. والنزل ما يهيأ للنزيل، والنزيل الضيف. قال الشاعر:

نزيل القوم أعظمهم حقوقا وحق الله في حق النزيل

والجمع الأنزال. وحظ نزيل: مجتمع. والنزل: أيضا الريع؛ يقال؛ طعام النزل والنزل.

 

قلت: ولعل النزل - والله أعلم - ما جاء في صحيح مسلم من حديث ثوبان مولى وسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة الحبر الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( هم في الظلمة دون الجسر ) قال: فمن أول الناس إجازة ؟ قال: ( فقراء المهاجرين ) قال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال ( زيادة كبد النون ) قال: فما غذاؤهم على إثرها ؟ فقال: ( ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها ) قال: فما شرابهم عليه ؟ قال: ( من عين فيها تسمى سلسبيلا ) وذكر الحديث. قال أهل اللغة: والتحفة ما يتحف به الإنسان من الفواكه. والطرف محاسنه وملاطفه، وهذا مطابق لما ذكرناه في النزل، والله أعلم. وزيادة الكبد: قطعة منه كالأصبع. قال الهروي: « نزلا من عند الله » أي ثوابا. وقيل رزقا. « وما عند الله خير للأبرار » أي مما يتقلب به الكفار في الدنيا. والله أعلم.

 

الآية: 199 ( وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب )

 

قوله تعالى: « وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله » قال جابر بن عبدالله وأنس وابن عباس وقتادة والحسن: نزلت في النجاشي، وذلك أنه لما مات نعاه جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال النبي لأصحابه: ( قوموا فصلوا على أخيكم النجاشي ) ؛ فقال بعضهم لبعض: يأمرنا أن نصلي على علج من علوج الحبشة؛ فأنزل الله تعالى « وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم » . قال الضحاك: « وما أنزل إليكم » القرآن. « وما أنزل إليهم » التوراة والإنجيل. وفي التنزيل: « أولئك يؤتون أجرهم مرتين » [ القصص: 54 ] . وفي صحيح مسلم: « ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين - فذكر - رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم أدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران ) وذكر الحديث. وقد تقدم في » البقرة « الصلاة عليه وما للعلماء في الصلاة على الميت الغائب، فلا معنى للإعادة. وقال مجاهد وابن جريج وابن زيد: نزلت في مؤمني أهل الكتاب، وهذا عام والنجاشي واحد منهم. واسمه أصحمة، وهو بالعربية عطية. » خاشعين « أذلة، ونصب على الحال من المضمر الذي في » يؤمن « . وقيل: من الضمير في » إليهم « أو في » إليكم « . وما في الآية بين، وقد تقدم.»

 

الآية: 200 ( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون )

 

ختم تعالى السورة بما تضمنته هذه الآية العاشرة من الوصاة التي جمعت الظهور في الدنيا على الأعداء والفوز بنعيم الآخرة؛ فحض على الصبر على الطاعات وعن الشهوات، والصبر الحبس، وقد تقدم في « البقرة » بيانه. وأمر بالمصابرة فقيل: معناه مصابرة الأعداء؛ قاله زيد بن أسلم. وقال الحسن: على الصلوات الخمس. وقيل: إدامة مخالفة النفس عن شهواتها فهي تدعو وهو ينزع. وقال عطاء والقرظي: صابروا الوعد الذي وعدتم. أي لا تيأسوا وانتظروا الفرج؛ قال صلى الله عليه وسلم: ( انتظار الفرج بالصبر عبادة ) . واختار هذا القول أبو عمر رحمه الله. والأول قول الجمهور؛ ومنه قول عنترة:

فلم أر حيا صابروا مثل صبرنا ولا كافحوا مثل الذين نكافح

فقوله « صابروا مثل صبرنا » أي صابروا العدو في الحرب ولم يبد منهم جبن ولا خور. والمكافحة: المواجهة والمقبلة في الحرب؛ ولذلك اختلفوا في معنى قوله « ورابطوا » فقال جمهور الأمة: رابطوا أعدائكم بالخيل، أي ارتبطوها كما يرتبطها أعداءكم؛ ومنه قوله تعالى: « ومن رباط الخيل » [ الأنفال: 60 ] وفي الموطأ عن مالك عن زيد بن أسلم قال: كتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعا الروم وما يتخوف منهم؛ فكتب إليه عمر: أما بعد، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة يجعل الله له بعدها فرجا، وإنه لن يغلب عسر يسرين، وإن الله تعالى يقول في كتابه « يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون » وقال أبو سلمة بن عبدالرحمن: هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة، ولم يكن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه؛ رواه الحاكم أبو عبدالله في صحيحه. واحتج أبو سلمة بقوله عليه السلام: ( ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط ) ثلاثا؛ رواه مالك. قال ابن عطية: والقول الصحيح هو أن الرباط هو الملازمة في سبيل الله. أصلها من ربط الخيل، ثم سمي كل ملازم لثغر من ثغور الإسلام مرابطا، فارسا كان أو راجلا. واللفظ مأخوذ من الربط. وقول النبي صلى الله عليه وسلم ( فذلكم الرباط ) إنما هو تشبيه بالرباط في سبيل الله. والرباط اللغوي هو الأول؛ وهذا كقوله: ( ليس الشديد بالصرعة ) وقوله ( ليس المسكين بهذا الطواف ) إلى غير ذلك.

قلت: قوله « والرباط اللغوي هو الأول » ليس بمسلم، فإن الخليل بن أحمد أحد أئمة اللغة وثقاتها قد قال: الرباط ملازمة الثغور، ومواظبة الصلاة أيضا، فقد حصل أن انتظار الصلاة رباط لغوي حقيقة؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأكثر من هذا ما قاله الشيباني أنه يقال: ماء مترابط أي دائم لا ينزح؛ حكاه ابن فارس وهو يقتضي تعدية الرباط لغة إلى غير ما ذكرناه. فإن المرابطة عند العرب: العقد على الشيء حتى لا ينحل، فيعود إلى ما كان صبر عنه، فيحبس القلب على النية الحسنة والجسم على فعل الطاعة. ومن أعظمها وأهمها ارتباط الخيل في سبيل الله كما نص عليه في التنزيل في قوله: « ومن رباط الخيل » [ الأنفال: 60 ] على ما يأتي. وارتباط النفس على الصلوات كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم؛ رواه أبو هريرة وجابر ولا عطر بعد عروس.

 

المرابط في سبيل الله عند الفقهاء هو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة ما؛ قاله محمد بن المواز ورواه. وأما سكان الثغور دائما بأهليهم الذين يعمرون ويكتسبون هنالك، فهم وإن كانوا حماة فليسوا بمرابطين. قال ابن عطية. وقال ابن خويز منداد: وللرباط حالتان: حالة يكون الثغر مأمونا منيعا يجوز سكناه بالأهل والولد. وإن كان غير مأمون جاز أن يرابط فيه بنفسه إذا كان من أهل القتال، ولا ينقل إليه الأهل والولد لئلا يظهر العدو فيسبي ويسترق. والله أعلم.

 

جاء في فضل الرباط أحاديث كثيرة، منها ما رواه البخاري عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رباط يوم في سبيل الله خير عند الله من الدنيا وما فيها ) . وفي صحيح مسلم عن سلمان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن الفتان ) . وروى أبو داود في سننه عن فضالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كل ميت يختم على عمله إلا المرابط فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فتان القبر ) . وفي هذين الحديثين دليل على أن الرباط أفضل الأعمال التي يبقى ثوابها بعد الموت؛ كما جاء في حديث العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة إلا من صدق جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ) وهو حديث صحيح انفرد بإخراجه مسلم؛ فإن الصدقة الجارية والعلم المنتفع به والولد الصالح يدعو لأبويه ينقطع ذلك بنفاد الصدقات وذهاب العلم وموت الولد. والرباط يضاعف أجره إلى يوم القيامة؛ لأنه لا معنى للنماء إلا المضاعفة، وهي غير موقوفة على سبب فتنقطع بانقطاعه، بل هي فضل دائم من الله تعالى إلى يوم القيامة. وهذا لأن أعمال البر كلها لا يتمكن منها إلا بالسلامة من العدو والتحرز منه بحراسة بيضة الدين وإقامة شعائر الإسلام. وهذا العمل الذي يجري عليه ثوابه هو ما كان يعمله من الأعمال الصالحة؛ خرجه ابن ماجة بإسناد صحيح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من مات مرابطا في سبيل الله أجرى عليه أجر عمله الصالح الذي كان يعمل وأجرى عليه رزقه وأمن من الفتان وبعثه الله يوم القيامة آمنا من الفزع ) . وفي هذا الحديث قيد ثان وهو الموت حالة الرباط. والله أعلم.

وروي عن عثمان بن عفان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من رابط ليلة في سبيل الله كانت له كألف ليلة صيامها وقيامها ) . وروي عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لرباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسبا من غير شهر رمضان أعظم أجرا من عبادة مائة سنة صيامها وقيامها ورباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسبا من شهر رمضان أفضل عند الله وأعظم أجرا - أراه قال: من عبادة ألف سنة صيامها وقيامها فإن رده الله إلى أهله سالما لم تكتب عليه سيئة ألف سنة وتكتب له الحسنات ويجرى له أجر الرباط إلى يوم القيامة ) . ودل هذا الحديث على أن رباط يوم في شهر رمضان يحصل له من الثواب الدائم وإن لم يمت مرابطا. والله أعلم. وعن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( حرس ليلة في سبيل الله أفضل من صيام رجل وقيامه في أهله ألف سنة السنة ثلاثمائة يوم وستون يوما واليوم كألف سنة ) .

قلت: وجاء في انتظار الصلاة بعد الصلاة أنه رباط؛ فقد يحصل لمنتظر الصلوات ذلك الفضل إن شاء الله تعالى. وقد روى أبو نعيم الحافظ قال حدثنا سليمان بن أحمد قال حدثنا علي بن عبدالعزيز قال حدثنا حجاج بن المنهال وحدثنا أبو بكر بن مالك قال: حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال حدثني الحسن بن موسى قال حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أبي أيوب الأزدي عن نوف البكالي عن عبدالله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ذات ليلة المغرب فصلينا معه فعقب من عقب ورجع من رجع، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يثوب الناس لصلاة العشاء، فجاء وقد حضره الناس رافعا أصبعه وقد عقد تسعا وعشرين يشير بالسبابة إلى السماء فحسر ثوبه عن ركبتيه وهو يقول: ( أبشروا معشر المسلمين هذا ربكم قد فتح بابا من أبواب السماء يباهي بكم الملائكة يقول يا ملائكتي انظروا إلى عبادي هؤلاء قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى ) . ورواه حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن مطرف بن عبدالله: أن نوفا وعبدالله بن عمرو اجتمعا فحدث نوف عن التوراة وحدث عبدالله بن عمرو بهذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. « واتقوا الله » أي لم تؤمروا بالجهاد من غير تقوى. « لعلكم تفلحون » لتكونوا على رجاء من الفلاح. وقيل: لعل بمعنى لكي. والفلاح البقاء، وقد مضى هذا كله في ( البقرة ) مستوفى، والحمد لله.

 

 

سورة النساء

 

وهي مدنية إلا آية واحدة نزلت بمكة عام الفتح في عثمان بن طلحة الحجبي وهي قوله: « إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها » [ النساء: 58 ] على ما يأتي بيانه. قال النقاش: وقيل: نزلت عند هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة. وقد قال بعض الناس: إن قوله تعالى: « يا أيها الناس » حيث وقع إنما هو مكي؛ وقاله علقمة وغيره، فيشبه أن يكون صدر السورة مكيا، وما نزل بعد الهجرة فإنما هو مدني. وقال النحاس: هذه السورة مكية.

قلت: والصحيح الأول، فإن في صحيح البخاري عن عائشة أنها قالت: ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ تعني قد بنى بها. ولا خلاف بين العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بنى بعائشة بالمدينة. ومن تبين أحكامها علم أنها مدنية لا شك فيها. وأما من قال: إن قوله. « يا أيها الناس » مكي حيث وقع فليس بصحيح؛ فإن البقرة مدنية وفيها قوله: « يا أيها الناس » في موضعين، وقد تقدم. والله أعلم

 

الآية: 1 ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا )

 

قوله تعالى: « يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم » قد مضى في « البقرة » اشتقاق « الناس » ومعنى التقوى والرب والخلق والزوج والبث، فلا معنى للإعادة. وفي الآية تنبيه على الصانع. وقال « واحدة » على تأنيث لفظ النفس. ولفظ النفس يؤنث وإن عني به مذكر. ويجوز في الكلام « من نفس واحد » وهذا على مراعاة المعنى؛ إذ المراد بالنفس آدم عليه السلام؛ قاله مجاهد وقتادة. وهي قراءة ابن أبي عبلة « واحد » بغير هاء. « وبث » معناه فرق ونشر في الأرض؛ ومنه « وزرابي مبثوثة » [ الغاشية: 16 ] وقد تقدم في « البقرة » . و « منهما » يعني آدم وحواء. قال مجاهد: خلقت حواء من مقصيرى آدم. وفي الحديث: ( خلقت المرأة من ضلع عوجاء ) ، وقد مضى في البقرة. « رجالا كثيرا ونساء » حصر ذريتهما في نوعين؛ فاقتضى أن الخنثى ليس بنوع، لكن له حقيقة ترده إلى هذين النوعين وهي الآدمية فيلحق بأحدهما، على ما تقدم ذكره في « البقرة » من اعتبار نقص الأعضاء وزيادتها.

 

قوله تعالى: « واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام » كرر الاتقاء تأكيدا وتنبيها لنفوس المأمورين. و « الذي » في موضع نصب على النعت. « والأرحام » معطوف. أي اتقوا الله أن تعصوه، واتقوا الأرحام أن تقطعوها. وقرأ أهل المدينة « تسّاءلون » بإدغام التاء في السين. وأهل الكوفة بحذف التاء، لاجتماع تاءين، وتخفيف السين؛ لأن المعنى يعرف؛ وهو كقوله: « ولا تعاونوا على الإثم » [ المائدة: 2 ] و « تنزل » وشبهه. وقرأ إبراهيم النخعي وقتادة والأعمش وحمزة « الأرحام » بالخفض. وقد تكلم النحويون في ذلك. فأما البصريون فقال رؤساؤهم: هو لحن لا تحل القراءة به. وأما الكوفيون فقالوا: هو قبيح؛ ولم يزيدوا على هذا ولم يذكروا علة قبحه؛ قال النحاس: فيما علمت.

وقال سيبويه: لم يعطف على المضمر المخفوض؛ لأنه بمنزلة التنوين، والتنوين لا يعطف عليه. وقال جماعة: هو معطوف على المكني؛ فإنهم كانوا يتساءلون بها، يقول الرجل: سألتك بالله والرحم؛ هكذا فسره الحسن والنخعي ومجاهد، وهو الصحيح في المسألة، على ما يأتي. وضعفه أقوام منهم الزجاج، وقالوا: يقبح عطف الاسم الظاهر على المضمر في الخفض إلا بإظهار الخافض؛ كقوله « فخسفنا به وبداره الأرض » [ القصص: 81 ] ويقبح « مررت به وزيد » . قال الزجاج عن المازني: لأن المعطوف والمعطوف عليه شريكان. يحل كل واحد منهما محل صاحبه؛ فكما لا يجوز « مررت بزيد وك » كذلك لا يجوز « مررت بك وزيد » . وأما سيبويه فهي عنده قبيحة ولا تجوز إلا في الشعر؛ كما قال:

فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا فاذهب فما بك والأيام من عجب

عطف « الأيام » على الكاف في « بك » بغير الباء للضرورة. وكذلك قول الآخر:

نعلق في مثل السواري سيوفنا وما بينها والكعب مهوى نفانف

عطف « الكعب » على الضمير في « بينها » ضرورة. وقال أبو علي: ذلك ضعيف في القياس. وفي كتاب التذكرة المهدية عن الفارسي أن أبا العباس المبرد قال: لو صليت خلف إمام يقرأ « ما أنتم بمصرخي » [ إبراهيم: 22 ] و « اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام » لأخذت نعلي ومضيت. قال الزجاج: قراءة حمزة مع ضعفها وقبحها في العربية خطأ عظيم في أصول أمر الدين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تحلفوا بآبائكم ) فإذا لم يجز الحلف بغير الله فكيف يجوز بالرحم. ورأيت إسماعيل بن إسحاق يذهب إلى أن الحلف بغير الله أمر عظيم، وإنه خاص لله تعالى. قال النحاس: وقول بعضهم « والأرحام » قسم خطأ من المعنى والإعراب؛ لأن الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على النصب. وروى شعبة عن عون بن أبي جحيفة عن المنذر بن جرير عن أبيه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى جاء قوم من مضر حفاة عراة، فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغير لما رأى من فاقتهم؛ ثم صلى الظهر وخطب الناس فقال: ( يا أيها الناس اتقوا ربكم، إلى: والأرحام ) ؛ ثم قال: ( تصدق رجل بديناره تصدق رجل بدرهمه تصدق رجل بصاع تمره... ) وذكر الحديث. فمعنى هذا على النصب؛ لأنه حضهم على صلة أرحامهم. وأيضا فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ( من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ) . فهذا يرد قول من قال: المعنى أسألك بالله وبالرحم. وقد قال أبو إسحاق: معنى « تساءلون به » يعني تطلبون حقوقكم به. ولا معنى للخفض أيضا مع هذا.

قلت: هذا ما وقفت عليه من القول. لعلماء اللسان في منع قراءة « والأرحام » بالخفض، واختاره ابن عطية. ورده الإمام أبو نصر عبدالرحيم بن عبدالكريم القشيري، واختار العطف فقال: ومثل هذا الكلام مردود عند أئمة الدين؛ لأن القراءات التي قرأ بها أئمة القراء ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم تواترا يعرفه أهل الصنعة، وإذا ثبت شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن رد ذلك فقد رد على النبي صلى الله عليه وسلم، واستقبح ما قرأ به، وهذا مقام محذور، ولا يقلد فيه أئمة اللغة والنحو؛ فإن العربية تتلقى من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يشك أحد في فصاحته. وأما ما ذكر من الحديث ففيه نظر؛ لأنه عليه السلام قال لأبي العشراء: ( وأبيك لو طعنت في خاصرته ) . ثم النهي إنما جاء في الحلف بغير الله، وهذا توسل إلى الغير بحق الرحم فلا نهي فيه. قال القشيري: وقد قيل هذا إقسام بالرحم، أي اتقوا الله وحق الرحم؛ كما تقول: افعل كذا وحق أبيك. وقد جاء في التنزيل: « والنجم » ، والطور، والتين، لعمرك « وهذا تكلف »

وقلت: لا تكلف فيه فإنه لا يبعد أن يكون « والأرحام » من هذا القبيل، فيكون أقسم بها كما أقسم بمخلوقاته الدالة على وحدانيته وقدرته تأكيدا لها حتى قرنها بنفسه. والله أعلم. ولله أن يقسم بما شاء ويمنع ما شاء ويبيح ما شاء، فلا يبعد أن يكون قسما. والعرب تقسم بالرحم. ويصح أن تكون الباء مرادة فحذفها كما حذفها في قوله:

مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ولا ناعب إلا ببين غرابها

فجر وإن لم يتقدم باء. قال ابن الدهان أبو محمد سعيد بن مبارك: والكوفي يجيز عطف الظاهر على المجرور ولا يمنع منه. ومنه قوله:

آبك أيه بي أو مصدر من حمر الجلة جأب حشور

ومنه:

فاذهب فما بك والأيام من عجب

وقول الآخر:

وما بينها والكعب غوط نفانف

ومنه:

فحسبك والضحاك سيف مهند

وقول الآخر:

وقد رام آفاق السماء فلم يجد له مصعدا فيها ولا الأرض مقعدا

وقول الآخر:

ما إن بها والأمور من تلف ما حم من أمر غيبه وقعا

وقول الآخر:

أمر على الكتيبة لست أدري أحتفي كان فيها أم سواها

فـ « سواها » مجرور الموضع بفي. وعلى هذا حمل بعضهم قوله تعالى: « وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين » [ الحجر: 20 ] فعطف على الكاف والميم. وقرأ عبدالله بن يزيد « والأرحام » بالرفع على الابتداء، والخبر مقدر، تقديره: والأرحام أهل أن توصل. ويحتمل أن يكون إغراء؛ لأن من العرب من يرفع المغرى. وأنشد الفراء:

إن قوما منهم عمير وأشباه عمير ومنهم السفاح

لجديرون باللقاء إذا قال أخو النجدة السلاح السلاح

وقد قيل: إن « والأرحام » بالنصب عطف على موضع به؛ لأن موضعه نصب، ومنه قوله:

فلسنا بالجبال ولا الحديدا

وكانوا يقولون: أنشدك بالله والرحم. والأظهر أنه نصب بإضمار فعل كما ذكرنا.

 

اتفقت الملة على أن صلة الرحم واجبة وأن قطيعتها محرمة. وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسماء وقد سألته أأصل أمي ( نعم صلي أمك ) فأمرها بصلتها وهي كافرة. فلتأكيدها دخل الفضل في صلة الكافر، حتى انتهى الحال بأبي حنيفة وأصحابه فقالوا بتوارث ذوي الأرحام إن لم يكن عصبة ولا فرض مسمى، ويعتقون على من اشتراهم من ذوي رحمهم لحرمة الرحم؛ وعضدوا ذلك بما رواه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من ملك ذا رحم محرم فهو حر ) . وهو قول أكثر أهل العلم. روي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبدالله بن مسعود، ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة. وهو قول الحسن البصري وجابر بن زيد وعطاء والشعبي والزهري، وإليه ذهب الثوري وأحمد وإسحاق. ولعلمائنا في ذلك ثلاثة أقوال: الأول - أنه مخصوص بالآباء والأجداد. الثاني - الجناحان يعني الإخوة. الثالث - كقول أبي حنيفة. وقال الشافعي: لا يعتق عليه إلا أولاده وآباؤه وأمهاته، ولا يعتق عليه إخوته ولا أحد من ذوي قرابته ولحمته. والصحيح الأول للحديث الذي ذكرناه وأخرجه الترمذي والنسائي. وأحسن طرقه رواية النسائي له؛ رواه من حديث ضمرة عن سفيان عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من ملك ذا رحم محرم فقد عتق عليه ) . وهو حديث ثابت بنقل العدل عن العدل ولم يقدح فيه أحد من الأئمة بعلة توجب تركه؛ غير أن النسائي قال في آخره: هذا حديث منكر. وقال غيره: تفرد به ضمرة. وهذا هو معنى المنكر والشاذ في اصطلاح المحدثين. وضمرة عدل ثقة، وانفراد الثقة بالحديث لا يضره. والله أعلم.

 

واختلفوا من هذا الباب في ذوي المحارم من الرضاعة. فقال أكثر أهل العلم لا يدخلون في مقتضى الحديث. وقال شريك القاضي بعتقهم. وذهب أهل الظاهر وبعض المتكلمين إلى أن الأب لا يعتق على الابن إذا ملكه؛ واحتجوا بقوله عليه السلام: ( لا يجزي ولد والدا إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه ) . قالوا: فإذا صح الشراء فقد ثبت الملك، ولصاحب الملك التصرف. وهذا جهل منهم بمقاصد الشرع؛ فإن الله تعالى يقول: « وبالوالدين إحسانا » [ الإسراء: 23 ] فقد قرن بين عبادته وبين الإحسان للوالدين في الوجوب، وليس من الإحسان أن يبقى والده في ملكه وتحت سلطانه؛ فإذا يجب عليه عتقه إما لأجل الملك عملا بالحديث ( فيشتريه فيعتقه ) ، أو لأجل الإحسان عملا بالآية. ومعنى الحديث عند الجمهور أن الولد لما تسبب إلى عتق أبيه باشترائه نسب الشرع العتق إليه نسبة الإيقاع منه. وأما اختلاف العلماء فيمن يعتق بالملك، فوجه القول الأول ما ذكرناه من معنى الكتاب والسنة، ووجه الثاني إلحاق القرابة القريبة المحرمة بالأب المذكور في الحديث، ولا أقرب للرجل من ابنه فيحمل على الأب، والأخ يقاربه في ذلك لأنه يدلي بالأبوة؛ فإنه يقول: أنا ابن أبيه. وأما القول الثالث فمتعلقه حديث ضمرة وقد ذكرناه. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « والأرحام » الرحم اسم لكافة الأقارب من غير فرق بين المحرم وغيره. وأبو حنيفة يعتبر الرحم المحرم في منع الرجوع في الهبة، ويجوز الرجوع في حق بني الأعمام مع أن القطيعة موجودة والقرابة حاصلة؛ ولذلك تعلق بها الإرث والولاية وغيرهما من الأحكام. فاعتبار المحرم زيادة على نص الكتاب من غير مستند. وهم يرون ذلك نسخا، سيما وفيه إشارة إلى التعليل بالقطيعة، وقد جوزوها في حق بني الأعمام وبني الأخوال والخالات. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « إن الله كان عليكم رقيبا » ( أي حفيظا ) ؛ عن ابن عباس ومجاهد. ابن زيد: عليما. وقيل: « رقيبا » حافظا؛ قيل: بمعنى فاعل. فالرقيب من صفات الله تعالى، والرقيب: الحافظ والمنتظر؛ تقول رقبت أرقب رقبة ورقبانا إذا انتظرت. والمرقب: المكان العالي المشرف، يقف عليه الرقيب. والرقيب: السهم الثالث من السبعة التي لها أنصباء. ويقال: إن الرقيب ضرب من الحيات، فهو لفظ مشترك. والله أعلم.

 

الآية: 2 ( وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا )

 

قوله تعالى: « وآتوا اليتامى أموالهم » وأراد باليتامى الذين كانوا أيتاما؛ كقوله: « وألقي السحرة ساجدين » [ الأعراف: 120 ] ولا سحر مع السجود، فكذلك لا يتم مع البلوغ. وكان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم: « يتيم أبي طالب » استصحابا لما كان. « وآتوا » أي أعطوا. والإيتاء الإعطاء. ولفلان أتو، أي عطاء. أبو زيد: أتوت الرجل آتوه إتاوة، وهي الرشوة. واليتيم من لم يبلغ الحلم، وقد تقدم في « البقرة » مستوفى. وهذه الآية خطاب للأولياء والأوصياء. نزلت - في قول مقاتل والكلبي - في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ اليتيم طلب المال فمنعه عمه؛ فنزلت، فقال العم: نعوذ بالله من الحوب الكبير! ورد المال. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من يوق شح نفسه ورجع به هكذا فإنه يحل داره ) يعني جنته. فلما قبض الفتى المال أنفقه في سبيل الله، فقال عليه السلام: ( ثبت الأجر وبقي الوزر ) . فقيل: كيف يا رسول الله؟ فقال: ( ثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على والده ) لأنه كان مشركا.

 

وإيتاء اليتامى أموالهم يكون بوجهين: أحدهما - إجراء الطعام والكسوة ما دامت الولاية؛ إذ لا يمكن إلا ذلك لمن لا يستحق الأخذ الكلى والاستبداد كالصغير والسفيه الكبير. الثاني - الإيتاء بالتمكن وإسلام المال إليه، وذلك عند الابتلاء والإرشاد، وتكون تسميته مجازا، المعنى: الذي كان يتيما، وهو استصحاب الاسم؛ كقوله تعالى: « وألقي السحرة ساجدين » [ الأعراف: 120 ] أي الذين كانوا سحرة. وكان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم: « يتيم أبي طالب » . فإذا تحقق الولي رشده حرم عليه إمساك ماله عنه وكان عاصيا. وقال أبو حنيفة: إذا بلغ خمسا وعشرين سنة أعطي ماله كله على كل حال، لأنه يصير جدا.

قلت: لما لم يذكر الله تعالى في هذه الآية إيناس الرشد وذكره في قوله تعالى: « وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم » [ النساء: 6 ] . قال أبو بكر الرازي الحنفي في أحكام القرآن: لما لم يقيد الرشد في موضع وقيد في موضع وجب استعمالهما، فأقول: إذا بلغ خمسا وعشرين سنة وهو سفيه لم يؤنس منه الرشد، وجب دفع المال إليه، وإن كان دون ذلك لم يجب، عملا بالآيتين. وقال أبو حنيفة: لما بلغ رشده صار يصلح أن يكون جدا فإذا صار يصلح أن يكون جدا فكيف يصح إعطاؤه المال بعلة اليتم وباسم اليتيم؟! وهل ذلك إلا في غاية البعد؟. قال ابن العربي: وهذا باطل لا وجه له؛ لا سيما على أصله الذي يرى المقدرات لا تثبت قياسا وإنما تؤخذ من جهة النص، وليس في هذه المسألة. وسيأتي ما للعلماء في الحجر إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب » أي لا تتبدلوا الشاة السمينة من مال اليتيم بالهزيلة، ولا الدرهم الطيب بالزيف. وكانوا في الجاهلية لعدم الدين لا يتحرجون عن أموال اليتامى، فكانوا يأخذون الطيب والجيد من أموال اليتامى ويبدلونه بالرديء من أموالهم؛ ويقولون: اسم باسم ورأس برأس؛ فنهاهم الله عن ذلك. هذا قول سعيد بن المسيب والزهري والسدي والضحاك وهو ظاهر الآية. وقيل: المعنى لا تأكلوا أموال اليتامى وهي محرمة خبيثة وتدعوا الطيب وهو مالكم. وقال مجاهد وأبو صالح وباذان: لا تتعجلوا أكل الخبيث من أموالهم وتدعوا انتظار الرزق الحلال من عند الله. وقال ابن زيد: كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والصبيان ويأخذ الأكبر الميراث. عطاء: لا تربح على يتيمك الذي عندك وهو غر صغير. وهذان القولان خارجان عن ظاهر الآية؛ فإنه يقال: تبدل الشيء بالشيء أي أخذه مكانه. ومنه البدل.

 

قوله تعالى: « ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم » قال مجاهد: وهذه الآية ناهية عن الخلط في الإنفاق؛ فإن العرب كانت تخلط نفقتها بنفقة أيتامها فنهوا عن ذلك، ثم نسخ بقوله « وإن تخالطوهم فإخوانكم » [ البقرة: 220 ] . وقال ابن فورك عن الحسن: تأول الناس في هذه الآية النهي عن الخلط فاجتنبوه من قبل أنفسهم، فخفف عنهم في آية البقرة. وقالت طائفة من المتأخرين: إن « إلى » بمعنى مع، كقوله تعالى: « من أنصاري إلى الله » [ الصف: 14 ] . وأنشد القتبي:

يسدون أبواب القباب بضمر إلى عنن مستوثقات الأواصر

وليس بجيد. وقال الحذاق: « إلى » على بابها وهي تتضمن الإضافة، أي لا تضيفوا أموالهم وتضموها إلى أموالكم في الأكل. فنهوا أن يعتقدوا أموال اليتامى كأموالهم فيتسلطوا عليها بالأكل والانتفاع.

 

قوله تعالى: « إنه كان حوبا كبيرا » « إنه » أي الأكل « كان حوبا كبيرا » ( أي إثما كبيرا ) ؛ عن ابن عباس والحسن وغيرهما. يقال: حاب الرجل يحوب حوبا إذا أثم. وأصله الزجر للإبل؛ فسمي الإثم حوبا؛ لأنه يزجر عنه وبه. ويقال في الدعاء: اللهم اغفر حوبتي؛ أي إثمي. والحوبة أيضا الحاجة. ومنه في الدعاء: إليك أرفع حوبتي؛ أي حاجتي. والحوب الوحشة؛ ومنه قوله عليه السلام لأبي أيوب: ( إن طلاق أم أيوب لحوب ) . وفيه ثلاث لغات « حوبا » بضم الحاء وهي قراءة العامة ولغة أهل الحجاز. وقرأ الحسن « حوبا » بفتح الحاء. وقال الأخفش: وهي لغة تميم. مقاتل: لغة الحبش.

والحوب المصدر، وكذلك الحيابة. والحوب الاسم. وقرأ أبي بن كعب « حابا » على المصدر مثل القال. ويجوز أن يكون اسما مثل الزاد. والحوأب ( بهمزة بعد الواو ) . المكان الواسع. والحوأب ماء أيضا. ويقال: ألحق الله به الحوبة أي المسكنة والحاجة؛ ومنه قولهم: بات بحيبة سوء. وأصل الياء الواو. وتحوب فلان أي تعبد وألقى الحوب عن نفسه. والتحوب أيضا التحزن. وهو أيضا الصياح الشديد؛ كالزجر، وفلان يتحوب من كذا أي يتوجع وقال طفيل:

فذوقوا كما ذقنا غداة محجر من الغيظ في أكبادنا والتحوب

 

الآية: 3 ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا )

 

قوله تعالى: « وإن خفتم » شرط، وجوابه « فانكحوا » . أي إن خفتم ألا تعدلوا في مهورهن وفي النفقة عليهن « فانكحوا ما طاب لكم » أي غيرهن. وروى الأئمة واللفظ لمسلم عن عروة بن الزبير عن عائشة في قول الله تعالى: « وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع » قالت: يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليها تشاركه في ماله فيعجبه مالها وجمالها فيريد وليها أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن من الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن. وذكر الحديث. وقال ابن خويز منداد: ولهذا قلنا إنه يجوز أن يشتري الوصي من مال اليتيم لنفسه، ويبيع من نفسه من غير محاباة. وللموكل النظر فيما اشترى وكيله لنفسه أو باع منها. وللسلطان النظر فيما يفعله الوصي من ذلك. فأما الأب فليس لأحد عليه نظر ما لم تظهر عليه المحاباة فيعترض عليه السلطان حينئذ؛ وقد مضى في « البقرة » القول في هذا. وقال الضحاك والحسن وغيرهما: إن الآية ناسخة لما كان في الجاهلية وفي أول الإسلام؛ من أن للرجل أن يتزوج من الحرائر ما شاء، فقصرتهن الآية على أربع. وقال ابن عباس وابن جبير وغيرهما: ( المعنى وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فكذلك خافوا في النساء ) ؛ لأنهم كانوا يتحرجون في اليتامى ولا يتحرجون في النساء و « خفتم » من الأضداد؛ فإنه يكون المخوف منه معلوم الوقوع، وقد يكون مظنونا؛ فلذلك اختلف العلماء في تفسير هذا الخوف. فقال أبو عبيدة: « خفتم » بمعنى أيقنتم. وقال آخرون: « خفتم » ظننتم. قال ابن عطية: وهذا الذي اختاره الحذاق، وأنه على بابه من الظن لا من اليقين. التقدير من غلب على ظنه التقصير في القسط لليتيمة فليعدل عنها. و « تقسطوا » معناه تعدلوا. يقال: أقسط الرجل إذا عدل. وقسط إذا جار وظلم صاحبه. قال الله تعالى: « وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا » [ الجن: 15 ] يعني الجائرون. وقال عليه السلام: ( المقسطون في الدين على منابر من نور يوم القيامة ) يعني العادلين. وقرأ ابن وثاب والنخعي « تقسطوا » بفتح التاء من قسط على تقدير زيادة « لا » كأنه قال: وإن خفتم أن تجوروا.

 

قوله تعالى: « فانكحوا ما طاب لكم من النساء » إن قيل: كيف جاءت « ما » للآدميين وإنما أصلها لما لا يعقل؛ فعنه أجوبة خمسة: الأول - أن « من » و « ما » قد يتعاقبان؛ قال الله تعالى: « والسماء وما بناها » [ الشمس: 5 ] أي ومن بناها. وقال « فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع » [ النور:45 ] . فما ههنا لمن يعقل وهن النساء؛ لقوله بعد ذلك « من النساء » مبينا لمبهم. وقرأ ابن أبي عبلة « من طاب » على ذكر من يعقل. الثاني: قال البصريون: « ما » تقع للنعوت كما تقع لما لا يعقل يقال: ما عندك؟ فيقال: ظريف وكريم. فالمعنى فانكحوا الطيب من النساء؛ أي الحلال، وما حرمه الله فليس بطيب. وفي التنزيل « وما رب العالمين » فأجابه موسى على وفق ما سأل؛ وسيأتي. الثالث: حكى بعض الناس أن « ما » في هذه الآية ظرفية، أي ما دمتم تستحسنون النكاح قال ابن عطية: وفي هذا المنزع ضعف. جواب رابع: قال الفراء « ما » ههنا مصدر. وقال النحاس: وهذا بعيد جدا؛ لا يصح فانكحوا الطيبة. قال الجوهري: طاب الشيء يطيب طيبة وتطيابا. قال علقمة:

كأن تطيابها في الأنف مشموم

جواب خامس: وهو أن المراد بما هنا العقد؛ أي فانكحوا نكاحا طيبا. وقراءة ابن أبي عبلة ترد هذه الأقوال الثلاثة. وحكى أبو عمرو بن العلاء أن أهل مكة إذا سمعوا الرعد قالوا: سبحان ما سبح له الرعد. أي سبحان من سبح له الرعد. ومثله قولهم: سبحان ما سخركن لنا. أي من سخركن. واتفق كل من يعاني العلوم على أن قوله تعالى: « وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى » ليس له مفهوم؛ إذ قد أجمع المسلمون على أن من لم يخف القسط في اليتامى له أن ينكح أكثر من واحدة: اثنتين أو ثلاثا أو أربعا كمن خاف. فدل على أن الآية نزلت جوابا لمن خاف ذلك، وأن حكمها أعم من ذلك.

 

تعلق أبو حنيفة بهذه الآية في تجويزه نكاح اليتيمة قبل البلوغ. وقال: إنما تكون يتيمة قبل البلوغ، وبعد البلوغ هي امرأة مطلقة لا يتيمة؛ بدليل أنه لو أراد البالغة لما نهى عن حطها عن صداق مثلها؛ لأنها تختار ذلك فيجوز إجماعا. وذهب مالك والشافعي والجمهور من العلماء إلى أن ذلك لا يجوز حتى تبلغ وتستأمر؛ لقوله تعالى: « ويستفتونك في النساء » [ النساء: 127 ] والنساء اسم ينطلق على الكبار كالرجال في الذكور، واسم الرجل لا يتناول الصغير؛ فكذلك اسم النساء، والمرأة لا يتناول الصغيرة. وقد قال: « في يتامى النساء » [ النساء: 127 ] والمراد به هناك اليتامى هنا؛ كما قالت عائشة رضي الله عنها. فقد دخلت اليتيمة الكبيرة في الآية فلا تزوج إلا بإذنها، ولا تنكح الصغيرة إذ لا إذن لها، فإذا بلغت جاز نكاحها لكن لا تزوج إلا بإذنها. كما رواه الدارقطني من حديث محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر قال: زوجني خالي قدامة بن مظعون بنت أخيه عثمان بن مظعون، فدخل المغيرة بن شعبة على أمها، فأرغبها في المال وخطبها إليها، فرفع شأنها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال قدامة: يا رسول الله ابنة أخي وأنا وصي أبيها ولم أقصر بها، زوجتها من قد علمت فضله وقرابته. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنها يتيمة واليتيمة أولى بأمرها ) فنزعت مني وزوجها المغيرة بن شعبة. قال الدارقطني: لم يسمعه محمد بن إسحاق من نافع، وإنما سمعه من عمر بن حسين عنه. ورواه ابن أبي ذئب عن عمر بن حسين عن نافع عن عبدالله بن عمر: أنه تزوج بنت خاله عثمان بن مظعون قال: فذهبت أمها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن ابنتي تكره ذلك. فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يفارقها ففارقها. وقال: ( ولا تنكحوا اليتامى حتى تستأمروهن فإذا سكتن فهو إذنها ) . فتزوجها بعد عبدالله المغيرة بن شعبة. فهذا يرد ما يقوله أبو حنيفة من أنها إذا بلغت لم تحتج إلى ولي، بناء على أصله في عدم اشتراط الولي في صحة النكاح. وقد مضى في « البقرة » ذكره؛ فلا معنى لقولهم: إن هذا الحديث محمول على غير البالغة لقوله ( إلا بإذنها ) فإنه كان لا يكون لذكر اليتيم معنى والله أعلم.

 

وفي تفسير عائشة للآية من الفقه ما قال به مالك صداق المثل، والرد إليه فيما فسد من الصداق ووقع الغبن في مقداره؛ لقولها: ( بأدنى من سنة صداقها ) . فوجب أن يكون صداق المثل معروفا لكل صنف من الناس على قدر أحوالهم. وقد قال مالك: للناس مناكح عرفت لهم وعرفوا لها. أي صدقات وأكفاء. وسئل مالك عن رجل زوج ابنته غنية من ابن أخ له فقير فاعترضت أمها فقال: إني لأرى لها في ذلك متكلما. فسوغ لها في ذلك الكلام حتى يظهر هو من نظره ما يسقط اعتراض الأم عليه. وروى « لا أرى » بزيادة الألف والأول أصح. وجائز لغير اليتيمة أن تنكح بأدنى من صداق مثلها؛ لأن الآية إنما خرجت في اليتامى. هذا مفهومها وغير اليتيمة بخلافها.

فإذا بلغت اليتيمة وأقسط الولي في صداقها جاز له أن يتزوجها، ويكون هو الناكح والمنكح على ما فسرته عائشة. وبه قال أبو حنيفة والأوزاعي والثوري وأبو ثور، وقاله من التابعين الحسن وربيعة، وهو قول الليث. وقال زفر والشافعي: لا يجوز له أن يتزوجها إلا بإذن السلطان، أو يزوجها منه ولي لها هو أقعد بها منه؛ أو مثله في القعود؛ وأما أن يتولى طرفي العقد بنفسه فيكون ناكحا منكحا فلا. واحتجوا بأن الولاية شرط من شروط العقد لقوله عليه السلام: ( لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل ) . فتعديد الناكح والمنكح والشهود واجب؛ فإذا اتحد اثنان منهم سقط واحد من المذكورين. وفي المسألة قول ثالث، وهو أن تجعل أمرها إلى رجل يزوجها منه. روي هذا عن المغيرة بن شعبة، وبه قال أحمد، ذكره ابن المنذر.

 

قوله تعالى: « ما طاب لكم من النساء » معناه ما حل لكم؛ عن الحسن وابن جبير وغيرهما. واكتفى بذكر من يجوز نكاحه؛ لأن المحرمات من النساء كثير. وقرأ ابن إسحاق والجحدري وحمزة « طاب » « بالإمالة » وفي مصحف أبي « طيب » بالياء؛ فهذا دليل الإمالة. « من النساء » دليل على أنه لا يقال نساء إلا لمن بلغ الحلم. وواحد النساء نسوة، ولا واحد لنسوة من لفظه، ولكن يقال امرأة.

 

قوله تعالى: « مثنى وثلاث ورباع » وموضعها من الإعراب نصب على البدل من « ما » وهي نكرة لا تنصرف؛ لأنها معدولة وصفة؛ كذا قال أبو علي. وقال الطبري: هي معارف؛ لأنها لا يدخلها الألف واللام، وهي بمنزلة عمر في التعريف؛ قال الكوفي. وخطأ الزجاج هذا القول. وقيل: لم ينصرف؛ لأنه معدول عن لفظه ومعناه، فأحاد معدول عن واحد واحد، ومثنى معدولة عن اثنين اثنين، وثلاث معدولة عن ثلاثة ثلاثة، ورباع عن أربعة أربعة. وفي كل واحد منها لغتان: فعال ومفعل؛ يقال أحاد وموحد وثناء ومثنى وثلاث ومثلث ورباع ومربع، وكذلك إلى معشر وعشار. وحكى أبو إسحاق الثعلبي لغة ثالثة: أحد وثنى وثلث وربع مثل عمر وزفر. وكذلك قرأ النخعي في هذه الآية. وحكى المهدوي عن النخعي وابن وثاب « ثلاث وربع » بغير ألف في ربع فهو مقصور من رباع استخفافا؛ كما قال:

أقبل سيل جاء من عند الله يحرد حرد الجنة المغلة

قال الثعلبي: ولا يزاد من هذا البناء على الأربع إلا بيت جاء عن الكميت:

فلم يستريثوك حتى رميـ ـت فوق الرجال خصالا عشارا

يعني طعنت عشرة. وقال ابن الدهان: وبعضهم يقف على المسموع وهو من أحاد إلى رباع ولا يعتبر بالبيت لشذوذه. وقال أبو عمرو بن الحاجب: ويقال أحاد وموحد وثناء ومثنى وثلاث ومثلث ورباع ومربع. وهل يقال فيما عداه إلى التسعة أو لا يقال؟ فيه خلاف أصحها أنه لم يثبت. وقد نص البخاري في صحيحه على ذلك. وكونه معدولا عن معناه أنه لا يستعمل في موضع تستعمل فيه الأعداد غير المعدولة؛ تقول: جاءني اثنان وثلاثة، ولا يجوز مثنى وثلاث حتى يتقدم قبله جمع، مثل جاءني القوم أحاد وثناء وثلاث ورباع من غير تكرار. وهي في موضع الحال هنا وفي الآية، وتكون صفة؛ ومثال كون هذه الأعداد صفة يتبين في قوله تعالى: « أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع » [ فاطر: 1 ] فهي صفة للأجنحة وهي نكرة. وقال ساعدة بن جؤية:

ولكنما أهلي بواد أنيسه ذئاب تبغي الناس مثنى وموحد

وأنشد الفراء:

قتلنا به من بين مثنى وموحد بأربعة منكم وآخر خامس

فوصف ذئابا وهي نكرة بمثنى وموحد، وكذلك بيت الفراء؛ أي قتلنا به ناسا، فلا تنصرف إذا هذه الأسماء في معرفة ولا نكرة. وأجاز الكسائي والفراء صرفه في العدد على أنه نكرة. وزعم الأخفش أنه إن سمى به صرفه في المعرفة والنكرة؛ لأنه قد زال عنه العدل.

 

اعلم أن هذا العدد مثنى وثلاث ورباع لا يدل على إباحة تسع، كما قال من بعد فهمه للكتاب والسنة، وأعرض عما كان عليه سلف هذه الأمة، وزعم أن الواو جامعة؛ وعضد ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم نكح تسعا، وجمع بينهن في عصمته. والذي صار إلى هذه الجهالة، وقال هذه المقالة الرافضة وبعض أهل الظاهر؛ فجعلوا مثنى مثل اثنين، وكذلك ثلاث ورباع. وذهب بعض أهل الظاهر أيضا إلى أقبح منها، فقالوا بإباحة الجمع بين ثمان عشرة؛ تمسكا منه بأن العدل في تلك الصيغ يفيد التكرار والواو للجمع؛ فجعل مثنى بمعنى اثنين اثنين وكذلك ثلاث ورباع. وهذا كله جهل باللسان والسنة، ومخالفة لإجماع الأمة، إذ لم يسمع عن أحد من الصحابة ولا التابعين أنه جمع في عصمته أكثر من أربع. وأخرج مالك في موطئه، والنسائي والدارقطني في سننهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لغيلان بن أمية الثقفي وقد أسلم وتحته عشر نسوة: ( اختر منهن أربعا وفارق سائرهن ) . في كتاب أبي داود عن الحارث بن قيس قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( اختر منهن أربعا ) . وقال مقاتل: إن قيس بن الحارث كان عنده ثمان نسوة حرائر؛ فلما نزلت هذه الآية أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلق أربعا ويمسك أربعا. كذا قال: « قيس بن الحارث » ، والصواب أن ذلك كان حارث بن قيس الأسدي كما ذكر أبو داود. وكذا روى محمد بن الحسن في كتاب السير الكبير: أن ذلك كان حارث بن قيس، وهو المعروف عند الفقهاء. وأما ما أبيح من ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فذلك من خصوصياته؛ على ما يأتي بيانه في « الأحزاب » . وأما قولهم: إن الواو جامعة؛ فقد قيل ذلك، لكن الله تعالى خاطب العرب بأفصح اللغات. والعرب لا تدع أن تقول تسعة وتقول اثنين وثلاثة وأربعة. وكذلك تستقبح ممن يقول: اعط فلانا أربعة ستة ثمانية، ولا يقول ثمانية عشر. وإنما الواو في هذا الموضع بدل؛ أي انكحوا ثلاثا بدلا من مثنى، ورباع بدلا من ثلاث؛ ولذلك عطف بالواو ولم يعطف بأو. ولو جاء بأو لجاز إلا يكون لصاحب المثنى ثلاث، ولا لصاحب الثلاث رباع. وأما قولهم: إن مثنى تقتضي اثنين، وثلاث ثلاثة، ورباع أربعة، فتحكم بما لا يوافقهم أهل اللسان عليه، وجهالة منهم. وكذلك جهل الآخرين، بأن مثنى تقتضي اثنين اثنين، وثلاث ثلاثة ثلاثة، ورباع أربعة أربعة، ولم يعلموا أن اثنين اثنين.، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا، حصر للعدد. ومثنى وثلاث ورباع بخلافها. ففي العدد المعدول عند العرب زيادة معنى ليست في الأصل؛ وذلك أنها إذا قالت: جاءت الخيل مثنى، إنما تعني بذلك اثنين اثنين؛ أي جاءت مزدوجة. قال الجوهري: وكذلك معدول العدد. وقال غيره: إذا قلت جاءني قوم مثنى أو ثلاث أو أحاد أو عشار، فإنما تريد أنهم جاؤوك واحدا واحدا، أو اثنين اثنين، أو ثلاثة ثلاثة، أو عشرة عشرة، وليس هذا المعنى في الأصل؛ لأنك إذا قلت جاءني قوم ثلاثة ثلاثة، أو قوم عشرة عشرة، فقد حصرت عدة القوم بقولك ثلاثة وعشرة. فإذا قلت جاؤوني رباع وثناء فلم تحصر عدتهم. وإنما تريد أنهم جاؤوك أربعة أربعة أو اثنين اثنين. وسواء كثر عددهم أو قل في هذا الباب، فقصرهم كل صيغة على أقل ما تقتضيه بزعمه تحكم.

 

وأما اختلاف علماء المسلمين في الذي يتزوج خامسة وعنده أربع: فقال مالك والشافعي: عليه الحد إن كان عالما. وبه قال أبو ثور. وقال الزهري: يرجم إذا كان عالما، وإن كان جاهلا أدنى الحدين الذي هو الجلد، ولها مهرها ويفرق بينهما ولا يجتمعان أبدا. وقالت طائفة: لا حد عليه في شيء من ذلك. هذا قول النعمان. وقال يعقوب ومحمد: يحد في ذات المحرم ولا يحد في غير ذلك من النكاح. وذلك مثل أن يتزوج مجوسية أو خمسة في عقدة أو تزوج متعة أو تزوج بغير شهود، أو أمة تزوجها بغير إذن مولاها. وقال أبو ثور: إذا علم أن هذا لا يحل له يجب أن يحد فيه كله إلا التزوج بغير شهود. وفيه قول ثالث قاله النخعي في الرجل ينكح الخامسة متعمدا قبل أن تنقضي عدة الرابعة من نسائه: جلد مائة ولا ينفى. فهذه فتيا علمائنا في الخامسة على ما ذكره ابن المنذر فكيف بما فوقها.

 

ذكر الزبير بن بكار حدثني إبراهيم الحزامي عن محمد بن معن الغفاري قال: أتت امرأة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فقالت: يا أمير المؤمنين، إن زوجي يصوم النهار ويقوم الليل وأنا أكره أن أشكوه، وهو يعمل بطاعة الله عز وجل. فقال لها: نعم الزوج زوجك: فجعلت تكرر عليه القول وهو يكرر عليها الجواب. فقال له كعب الأسدي: يا أمير المؤمنين، هذه المرأة تشكو زوجها في مباعدته إياها عن فراشه. فقال عمر: ( كما فهمت كلامها فاقض بينهما ) . فقال كعب: علي بزوجها، فأتي به فقال له: إن امرأتك هذه تشكوك. قال: أفي طعام أم شراب؟ قال لا. فقالت المرأة:

يا أيها القاضي الحكيم رشده ألهى خليلي عن فراشي مسجده

زهده في مضجعي تعبده فاقض القضا كعب ولا تردده

نهاره وليله ما يرقده فلست في أمر النساء أحمده

فقال زوجها:

زهدني في فرشها وفي الحجل أني امرؤ أذهلني ما قد نزل

في سورة النحل وفي السبع الطول وفي كتاب الله تخويف جلل

فقال كعب:

إن لها عليك حقا يا رجل نصيبها في أربع لمن عقل

فأعطها ذاك ودع عنك العلل

ثم قال: إن الله عز وجل قد أحل لك من النساء مثنى وثلاث ورباع، فلك ثلاثة أيام ولياليهن تعبد فيهن ربك. فقال عمر: ( والله ما أدري من أي أمريك أعجب؟ أمن فهمك أمرهما أم من حكمك بينهما؟ اذهب فقد وليتك قضاء البصرة ) . وروى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة حدثنا أنس بن مالك قال: أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة تستعدي زوجها، فقالت: ليس لي ما للنساء؛ زوجي يصوم الدهر. قال: ( لك يوم وله يوم، للعبادة يوم وللمرأة يوم ) .

 

قوله تعالى: « فإن خفتم ألا تعدلوا » قال الضحاك وغيره: في الميل والمحبة والجماع والعشرة والقسم بين الزوجات الأربع والثلاث والاثنتين « فواحدة » فمنع من الزيادة التي تؤدي إلى ترك العدل في القسم وحسن العشرة. وذلك دليل على وجوب ذلك، والله أعلم. وقرئت بالرفع، أي فواحدة فيها كفاية أو كافية. وقال الكسائي: فواحدة تقنع. وقرئت بالنصب بإضمار فعل، أي فانكحوا واحدة.

 

قوله تعالى: « أو ما ملكت أيمانكم » يريد الإماء. وهو عطف على « فواحدة » أي إن خاف ألا يعدل في واحدة فما ملكت يمينه. وفي هذا دليل على ألا حق لملك اليمين في الوطء ولا القسم؛ لأن المعنى « فإن خفتم ألا تعدلوا » في القسم « فواحدة أو ما ملكت أيمانكم » فجعل ملك اليمين كله بمنزلة واحدة، فانتفى بذلك أن يكون للإماء حق في الوطء أو في القسم. إلا أن ملك اليمين في العدل قائم بوجوب حسن الملكة والرفق بالرقيق. وأسند تعالى الملك إلى اليمين إذ هي صفة مدح، واليمين مخصوصة بالمحاسن لتمكنها. ألا ترى أنها المنفقة؟ كما قال عليه السلام: ( حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ) وهي المعاهدة المبايعة، وبها سميت الألية يمينا، وهي المتلقية لرايات المجد؛ كما قال:

إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين

 

قوله تعالى: « ذلك أدنى ألا تعولوا » أي ذلك أقرب إلى ألا تميلوا عن الحق وتجوروا؛ عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. يقال: عال الرجل يعول إذا جار ومال. ومنه قولهم: عال السهم عن الهدف مال عنه. قال ابن عمر: ( إنه لعائل الكيل والوزن ) ؛ قال الشاعر:

قالوا اتبعنا رسول الله واطرحوا قول الرسول وعالوا في الموازين

أي جاروا. وقال أبو طالب:

بميزان صدق لا يغل شعيرة له شاهد من نفسه غير عائل

يريد غير مائل. وقال آخر:

ثلاثة أنفس وثلاث ذود لقد عال الزمان على عيالي

أي جار ومال. وعال الرجل يعيل إذا افتقر فصار عالة. ومنه قوله تعالى: « وإن خفتم عيلة » [ التوبة: 28 ] . ومنه قول الشاعر:

وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل

وهو عائل وقوم عيلة، والعيلة والعالة الفاقة، وعالني الشيء يعولني إذا غلبني وثقل علي، وعال الأمر اشتد وتفاقم. وقال الشافعي: « ألا تعولوا » [ النساء: 3 ] ألا تكثر عيالكم. قال الثعلبي: وما قال هذا غيره، وإنما يقال: أعال يعيل إذا كثر عيال. وزعم ابن العربي أن عال على سبعة معان لا ثامن لها، يقال: عال مال، الثاني زاد، الثالث جار، الرابع افتقر، الخامس أثقل؛ حكاه ابن دريد. قالت الخنساء:

ويكفي العشيرة ما عالها

السادس عال قام بمؤونة العيال؛ ومنه قوله عليه السلام: ( وابدأ بمن تعول ) . السابع عال غلب؛ ومنه عيل صبره. أي غلب. ويقال: أعال الرجل كثر عيال. وأما عال بمعنى كثر عياله فلا يصح.

قلت: أما قول الثعلبي « ما قاله غيره » فقد أسنده الدارقطني في سننه عن زيد بن أسلم، وهو قول جابر بن زيد؛ فهذان إمامان من علماء المسلمين وأئمتهم قد سبقا الشافعي إليه. وأما ما ذكره ابن العربي من الحصر وعدم الصحة فلا يصح. وقد ذكرنا: عال الأمر اشتد وتفاقم؛ حكاه الجوهري. وقال الهروي في غريبه: « وقال أبو بكر: يقال عال الرجل في الأرض يعيل فيها أي ضرب فيها. وقال الأحمر: يقال عالني الشيء يعيلني عيلا ومعيلا إذا أعجزك » . وأما عال كثر عياله فذكره الكسائي وأبو عمر الدوري وابن الأعرابي. قال الكسائي أبو الحسن علي بن حمزة: العرب تقول عال يعول وأعال يعيل أي كثر عياله. وقال أبو حاتم: كان الشافعي أعلم بلغة العرب منا، ولعله لغة. قال الثعلبي المفسر: قال أستاذنا أبو القاسم بن حبيب: سألت أبا عمر الدوري عن هذا وكان إماما في اللغة غير مدافع فقال: هي لغة حمير؛ وأنشد:

وإن الموت يأخذ كل حي بلا شك وإن أمشى وعالا

يعني وإن كثرت ماشيته وعياله. وقال أبو عمرو بن العلاء: لقد كثرت وجوه العرب حتى خشيت أن آخذ عن لاحن لحنا. وقرأ طلحة بن مصرف « ألا تعيلوا » وهي حجة الشافعي رضي الله عنه. قال ابن عطية: وقدح الزجاج وغيره في تأويل عال من العيال بأن قال: إن الله تعالى قد أباح كثرة السواري وفي ذلك تكثير العيال، فكيف يكون أقرب إلى ألا يكثر العيال. وهذا القدح غير صحيح؛ لأن السراري إنما هي مال يتصرف فيه بالبيع، وإنما العيال القادح الحرائر ذوات الحقوق الواجبة. وحكى ابن الأعرابي أن العرب تقول: عال الرجل إذا كثر عياله.

 

تعلق بهذه الآية من أجاز للمملوك أن يتزوج أربعا، لأن الله تعالى قال: « فانكحوا ما طاب لكم من النساء » يعني ما حل « مثنى وثلاث ورباع » ولم يخص عبدا من حر. وهو قول داود والطبري وهو المشهور عن مالك وتحصيل مذهبه على ما في موطئه، وكذلك روى عنه ابن القاسم وأشهب. وذكر ابن المواز أن ابن وهب روى عن مالك أن العبد لا يتزوج إلا اثنتين؛ قال وهو قول الليث. قال أبو عمر: قال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري والليث بن سعد: لا يتزوج العبد أكثر من اثنتين؛ وبه قال أحمد وإسحاق. وروي عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبدالرحمن بن عوف في العبد لا ينكح أكثر من اثنتين؛ ولا أعلم لهم مخالفا من الصحابة. وهو قول الشعبي وعطاء وابن سيرين والحكم وإبراهيم وحماد. والحجة لهذا القول القياس الصحيح على طلاقه وحده. وكل من قال حده نصف حد الحر، وطلاقه تطليقتان، وإيلاؤه شهران، ونحو ذلك من أحكامه فغير بعيد أن يقال: تناقض في قوله « ينكح أربعا » والله أعلم.

 

الآية: 4 ( وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا )

 

قوله تعالى: « وآتوا النساء صدقاتهن » الصدقات جمع، الواحدة صدقة. قال الأخفش: وبنو تميم يقولون صدقة والجمع صدقات، وإن شئت فتحت وإن شئت أسكنت. قال المازني: يقال صداق المرأة بالكسر، ولا يقال بالفتح. وحكى يعقوب وأحمد بن يحيى بالفتح عن النحاس. والخطاب في هذه الآية للأزواج؛ قال ابن عباس وقتادة وابن زيد وابن جريج. ( أمرهم الله تعالى بأن يتبرعوا بإعطاء المهور نحلة منهم لأزواجهم ) . وقيل: الخطاب للأولياء؛ قاله أبو صالح. وكان الولي يأخذ مهر المرأة ولا يعطيها شيئا، فنهوا عن ذلك وأمروا أن يدفعوا ذلك إليهن. قال في رواية الكلبي: أن أهل الجاهلية كان الولي إذا زوجها فإن كانت معه في العشرة لم يعطها من مهرها كثيرا ولا قليلا، وإن كانت غريبة حملها على بعير إلى زوجها ولم يعطها شيئا غير ذلك البعير؛ فنزل: « وآتوا النساء صدقاتهن نحلة » . وقال المعتمر بن سليمان عن أبيه: زعم حضرمي المراد بالآية المتشاغرون الذين كانوا يتزوجون امرأة بأخرى، فأمروا أن يضربوا المهور. والأول أظهر؛ فإن الضمائر واحدة وهي بجملتها للأزواج فهم المراد؛ لأنه قال: « وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى » إلى قوله: « وآتوا النساء صدقاتهن نحلة » . وذلك يوجب تناسق الضمائر وأن يكون الأول فيها هو الآخر.

 

هذه الآية تدل على وجوب الصداق للمرأة، وهو مجمع عليه ولا خلاف فيه إلا ما روي عن بعض أهل العلم من أهل العراق أن السيد إذا زوج عبده من أمته أنه لا يجب فيه صداق؛ وليس بشيء؛ لقوله تعالى « وآتوا النساء صدقاتهن نحلة » فعم. وقال: « فانكحوهن بإذن أهلهن وأتوهن أجورهن بالمعروف » [ النساء: 25 ] . وأجمع العلماء أيضا أنه لا حد لكثيره، واختلفوا في قليله على ما يأتي بيانه في قوله: « وآتيتم إحداهن قنطارا » [ النساء: 20 ] . وقرأ الجمهور « صَدُقاتهن » بفتح الصاد وضم الدال. وقرأ قتادة « صُدْقاتهن » بضم الصاد وسكون الدال. وقرأ النخعي وابن وثاب بضمهما والتوحيد « صُدُقَتَهُنّ »

 

قوله تعالى: « نحلة » النِّحلة والنُّحلة، بكسر النون وضمها لغتان. وأصلها من العطاء؛ نحلت فلانا شيئا أعطيته. فالصداق عطية من الله تعالى للمرأة. وقيل: « نحلة » أي عن طيب نفس من الأزواج من غير تنازع. وقال قتادة: معنى « نحلة » فريضة واجبة. ابن جريج وابن زيد: فريضة مسماة. قال أبو عبيد: ولا تكون النحلة إلا مسماة معلومة. وقال الزجاج: « نحلة » تدينا. والنحلة الديانة والملة. يقال. هذا نحلته أي دينه. وهذا يحسن مع كون الخطاب للأولياء الذين كانوا يأخذونه في الجاهلية، حتى قال بعض النساء في زوجها:

لا يأخذ الحلوان من بناتنا

تقول: لا يفعل ما يفعله غيره. فانتزعه الله منهم وأمر به للنساء. و « نحلة » منصوبة على أنها حال من الأزواج بإضمار فعل من لفظها تقديره أنحلوهن نحلة. وقيل: هي نصب وقيل على التفسير. وقيل: هي مصدر على غير الصدر في موضع الحال.

 

قوله تعالى: « فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا » مخاطبة للأزواج، ويدل بعمومه على أن هبة المرأة صداقها لزوجها بكرا كانت أو ثيبا جائزة؛ وبه قال جمهور الفقهاء. ومنع مالك من هبة البكر الصداق لزوجها وجعل ذلك للولي مع أن الملك لها. وزعم الفراء أنه مخاطبة للأولياء؛ لأنهم كانوا يأخذون الصداق ولا يعطون المرأة منه شيئا، فلم يبح لهم منه إلا ما طابت به نفس المرأة. والقول الأول أصح؛ لأنه لم يتقدم للأولياء ذكر، والضمير في « منه » عائد على الصداق. وكذلك قال عكرمة وغيره. وسبب الآية فيما ذكر أن قوما تحرجوا أن يرجع إليهم شيء مما دفعوه إلى الزوجات فنزلت « فإن طبن لكم » .

 

واتفق العلماء على أن المرأة المالكة لأمر نفسها إذا وهبت صداقها لزوجها نفذ ذلك عليها، ولا رجوع لها فيه. إلا أن شريحا رأى الرجوع لها فيه، واحتج بقوله: « فإن طبن لكم عنه شيء منه نفسا » وإذا كانت طالبة له لم تطب به نفسا. قال ابن العربي: وهذا باطل؛ لأنها قد طابت وقد أكل فلا كلام لها؛ إذ ليس المراد صورة الأكل، وإنما هو كناية عن الإحلال والاستحلال، وهذا بين.

فإن شرطت عليه عند عقد النكاح ألا يتزوج عليها، وحطت عنه لذلك شيئا من صداقها، ثم تزوج عليها فلا شيء لها عليه في رواية ابن القاسم؛ لأنها شرطت عليه ما لا يجوز شرطه. كما اشترط أهل بريرة أن تعتقها عائشة والولاء لبائعها، فصحح النبي صلى الله عليه وسلم العقد وأبطل الشرط. كذلك ههنا يصح إسقاط بعض الصداق عنه وتبطل الزيجة. قال ابن عبدالحكم: إن كان بقي من صداقها مثل صداق مثلها أو أكثر لم ترجع عليه بشيء، وإن كانت وضعت عنه شيئا من صداقها فتزوج عليها رجعت عليه بتمام صداق مثلها؛ لأنه شرط على نفسه شرطا وأخذ عنه عوضا كان لها واجبا أخذه منه، فوجب عليه الوفاء لقوله عليه السلام: ( المؤمنون عند شروطهم ) .

 

وفي الآية دليل على أن العتق لا يكون صداقا؛ لأنه ليس بمال؛ إذ لا يمكن المرأة هبته ولا الزوج أكله. وبه قال مالك وأبو حنيفة وزفر ومحمد والشافعي. وقال أحمد بن حنبل وإسحاق ويعقوب: يكون صداقا ولا مهر لها غير العتق؛ على حديث صفية - رواه الأئمة - أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتقها وجعل عتقها صداقها. وروي عن أنس أنه فعله، وهو راوي حديث صفية. وأجاب الأولون بأن قالوا: لا حجة في حديث صفية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخصوصا في النكاح بأن يتزوج بغير صداق، وقد أراد زينب فحرمت على زيد فدخل عليها بغير ولي ولا صداق. فلا ينبغي الاستدلال بمثل هذا؛ والله أعلم.

 

قوله تعالى: « نفسا » قيل: هو منصوب على البيان. ولا يجيز سيبويه ولا الكوفيون أن يتقدم ما كان منصوبا على البيان، وأجاز ذلك المازني وأبو العباس المبرد إذا كان العامل فعلا. وأنشد:

وما كان نفسا بالفراق تطيب

وفي التنزيل « خشعا أبصارهم يخرجون » [ القمر: 7 ] فعلى هذا يجوز « شحما تفقأت. ووجها حسنت » . وقال أصحاب سيبويه: إن « نفسا » منصوبة بإضمار فعل تقديره أعني نفسا، وليست منصوبة على التمييز؛ وإذا كان هذا فلا حجة فيه. وقال الزجاج. الرواية:

وما كان نفسي...

واتفق الجميع على أنه لا يجوز تقديم المميز إذا كان العامل غير متصرف كعشرين درهما.

 

قوله تعالى: « فكلوه » ليس المقصود صورة الأكل، وإنما المراد به الاستباحة بأي طريق كان، وهو المعني بقوله في الآية التي بعدها « إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما » [ النساء: 10 ] . وليس المراد نفس الأكل؛ إلا أن الأكل لما كان أوفى أنواع التمتع بالمال عبر عن التصرفات بالأكل. ونظيره قوله تعالى: « إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع » [ الجمعة: 9 ] يعلم أن صورة البيع غير مقصودة، وإنما المقصود ما يشغله عن ذكر الله تعالى مثل النكاح وغيره؛ ولكن ذكر البيع لأنه أهم ما يشتغل به عن ذكر الله تعالى.

 

قوله تعالى: « هنيئا مريئا » منصوب على الحال من الهاء في « كلوه » وقيل: نعت لمصدر محذوف، أي أكلا هنيئا بطيب الأنفس. هنأه الطعام والشراب يهنوه، وما كان هنيئا؛ ولقد هنؤ، والمصدر الهنء. وكل ما لم يأت بمشقة ولا عناء فهو هنيء. وهنيء اسم فاعل من هنؤ كظريف من ظرف. وهنئ يهنأ فهو هنيء على فعل كزمن. وهنأني الطعام ومرأني على الإتباع؛ فإذا لم يذكر « هنأني » قلت: أمرأني الطعام بالألف، أي انهضم. قال أبو علي: وهذا كما جاء في الحديث ( ارجعن مأزورات غير مأجورات ) . فقلبوا الواو من « موزورات » ألفا إتباعا للفظ مأجورات. وقال أبو العباس عن ابن الأعرابي: يقال هنيء وهنأني ومرأني وأمرأني ولا يقال مرئني؛ حكاه الهروي. وحكى القشيري أنه يقال: هنئني ومرئني بالكسر يهنأني ويمرأني، وهو قليل. وقيل: « هنيئا » لا إثم فيه، و « مريئا » لا داء فيه. قال كثير:

هنيئا مريئا غير داء مخامر لعزة من أعراضنا ما استحلت

ودخل رجل على علقمة وهو يأكل شيئا وهبته امرأته من مهرها فقال له: كل من الهنيء المريء. وقيل: الهنيء الطيب المساغ الذي لا ينغصه شيء، والمريء المحمود العاقبة، التام الهضم الذي لا يضر ولا يؤذي. يقول: لا تخافون في الدنيا به مطالبة، ولا في الآخرة تبعة. يدل عليه ما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن هذه الآية « فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه » فقال: ( إذا جادت لزوجها بالعطية طائعة غير مكرهة لا يقضي به عليكم سلطان، ولا يؤاخذكم الله تعالى به في الآخرة ) وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ( إذا اشتكى أحدكم شيئا فليسأل امرأته درهما من صداقها ثم ليشتر به عسلا فليشربه بماء السماء؛ فيجمع الله عز وجل له الهنيء والمريء والماء المبارك ) . والله أعلم.

 

الآية: 5 ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا )

 

لما أمر الله تعالى بدفع أموال اليتامى إليهم في قوله: « وآتوا اليتامى أموالهم » وإيصال الصدقات إلى الزوجات، بين أن السفيه وغير البالغ لا يجوز دفع ماله إليه. فدلت الآية على ثبوت الوصي والولي والكفيل للأيتام. وأجمع أهل العلم على أن الوصية إلى المسلم الحر الثقة العدل جائزة. واختلفوا في الوصية إلى المرأة الحرة؛ فقال عوام أهل العلم: الوصية لها جائزة. واحتج أحمد بأن عمر رضي الله عنه أوصى إلى حفصة. وروي عن عطاء بن أبي رباح أنه قال في رجل أوصى إلى امرأته قال: لا تكون المرأة وصيا؛ فإن فعل حولت إلى رجل من قومه. واختلفوا في الوصية إلى العبد؛ فمنعه الشافعي وأبو ثور ومحمد ويعقوب. وأجازه مالك والأوزاعي وابن عبدالحكم. وهو قول النخعي إذا أوصى إلى عبده. وقد مضى القول في هذا في « البقرة » مستوفى.

 

قوله تعالى: « السفهاء » قد مضى في « البقرة » معنى السفه لغة. واختلف العلماء في هؤلاء السفهاء، من هم؟ فروى سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال: هم اليتامى لا تؤتوهم أموالكم. قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في الآية. وروى إسماعيل بن أبي خالد عن أبي مالك قال: هم الأولاد الصغار، لا تعطوهم أموالكم فيفسدوها وتبقوا بلا شيء. وروى سفيان عن حميد الأعرج عن مجاهد قال: هم النساء. قال النحاس وغيره: وهذا القول لا يصح؛ إنما تقول العرب في النساء سفائه أو سفيهات؛ لأنه الأكثر في جمع فعيلة. ويقال: لا تدفع مالك مضاربة ولا إلى وكيل لا يحسن التجارة. وروي عن عمر أنه قال: من لم يتفقه فلا يتجر في سوقنا؛ فذلك قوله تعالى: « ولا تؤتوا السفهاء أموالكم » يعني الجهال بالأحكام. ويقال: لا تدفع إلى الكفار؛ ولهذا كره العلماء أن يوكل المسلم ذميا بالشراء والبيع، أو يدفع إليه مضاربة. وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: ( السفهاء هنا كل من يستحق الحجر ) . وهذا جامع. وقال ابن خويز منداد: وأما الحجر على السفيه فالسفيه له أحوال: حال يحجر عليه لصغره، وحالة لعدم عقله بجنون أو غيره، وحالة لسوء نظره لنفسه في ماله. فأما المغمى عليه فاستحسن مالك ألا يحجر عليه لسرعة زوال ما به. والحجر يكون مرة في حق الإنسان ومرة في حق غيره؛ فأما المحجور عليه في حق نفسه من ذكرنا. والمحجور عليه في حق غيره العبد والمديان والمريض في الثلثين، والمفلس وذات الزوج لحق الزوج، والبكر في حق نفسها. فأما الصغير والمجنون فلا خلاف في الحجر عليهما. وأما الكبير فلأنه لا يحسن النظر لنفسه في ماله، ولا يؤمن منه إتلاف ماله في غير وجه، فأشبه الصبي؛ وفيه خلاف يأتي. ولا فرق بين أن يتلف ماله في المعاصي أو القرب والمباحات. واختلف أصحابنا إذا أتلف ماله في القرب؛ فمنهم من حجر عليه، ومنهم من لم يحجر عليه. والعبد لا خلاف فيه. والمديان ينزع ما بيده لغرمائه؛ لإجماع الصحابة، وفعل عمر ذلك بأسيفع جهينة؛ ذكره مالك في الموطأ. والبكر ما دامت في الخدر محجور عليها؛ لأنها لا تحسن النظر لنفسها. حتى إذا تزوجت ودخل إليها الناس، وخرجت وبرز وجهها عرفت المضار من المنافع. وأما ذات الزوج فلأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يجوز لامرأة ملك زوجها عصمتها قضاء في مالها إلا في ثلثها ) .

قلت: وأما الجاهل بالأحكام وإن كان غير محجور عليه لتنميته لماله وعدم تدبيره، فلا يدفع إليه المال؛ لجهله بفاسد البياعات وصحيحها وما يحل وما يحرم منها. وكذلك الذمي مثله في الجهل بالبياعات ولما يخاف من معاملته بالربا وغيره. والله أعلم.

واختلفوا في وجه إضافة المال إلى المخاطبين على هذا، وهي للسفهاء؛ فقيل: أضافها إليهم لأنها بأيديهم وهم الناظرون فيها فنسبت إليهم اتساعا؛ كقوله تعالى: « فسلموا على أنفسكم » [ النور: 61 ] وقوله « فاقتلوا أنفسكم » [ البقرة:54 ] . وقيل: أضافها إليهم لأنها من جنس أموالهم؛ فإن الأموال جعلت مشتركة بين الخلق تنتقل من يد إلى يد، ومن ملك إلى ملك، أي هي لهم إذا احتاجوها كأموالكم التي تقي أعراضكم وتصونكم وتعظم أقداركم، وبها قوام أمركم.

وقول ثان قاله أبو موسى الأشعري وابن عباس والحسن وقتادة: ( أن المراد أموال المخاطبين حقيقة ) . قال ابن عباس: ( لا تدفع مالك الذي هو سبب معيشتك إلى امرأتك وابنك وتبقى فقيرا تنظر إليهم وإلى ما في أيديهم؛ بل كن أنت الذي تنفق عليهم ) . فالسفهاء على هذا هم النساء والصبيان؛ صغار ولد الرجل وامرأته. وهذا يخرج مع قول مجاهد وأبي مالك في السفهاء.

ودلت الآية على جواز الحجر على السفيه؛ لأمر الله عز وجل بذلك في قوله: « ولا تؤتوا السفهاء أموالكم » وقال « فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا » [ البقرة: 282 ] . فأثبت الولاية على السفيه كما أثبتها على الضعيف. وكان معنى الضعيف راجعا إلى الصغير، ومعنى السفيه إلى الكبير البالغ؛ لأن السفه اسم ذم ولا يذم الإنسان على ما لم يكتسبه، والقلم مرفوع عن غير البالغ، فالذم والحرج منفيان عنه؛ قاله الخطابي.

 

واختلف العلماء في أفعال السفيه قبل الحجر عليه؛ فقال مالك وجميع أصحابه غير ابن القاسم: إن فعل السفيه وأمره كله جائز حتى يضرب الإمام على يده. وهو قول الشافعي وأبي يوسف. وقال ابن القاسم: أفعال غير جائزة وإن لم يضرب عليه الإمام. وقال أصبغ: إن كان ظاهر السفه فأفعاله مردودة، وإن كان غير ظاهر السفه فلا ترد أفعاله حتى يحجر عليه الإمام. واحتج سحنون لقول مالك بأن قال: لو كانت أفعال السفيه مردودة قبل الحجر ما أحتاج السلطان أن يحجر على أحد. وحجة ابن القاسم ما رواه البخاري من حديث جابر أن رجلا أعتق عبدا ليس له مال غيره فرده النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن حجر عليه قبل ذلك.

 

واختلفوا في الحجر على الكبير؛ فقال مالك وجمهور الفقهاء: يحجر عليه. وقال أبو حنيفة: لا يحجر على من بلغ عاقلا إلا أن يكون مفسدا لماله؛ فإذا كان كذلك منع من تسليم المال إليه حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة، فإذا بلغها سلم إليه بكل حال، سواء كان مفسدا أو غير مفسد؛ لأنه يحبل منه لاثنتي عشرة سنة، ثم يولد له لستة أشهر فيصير جدا وأبا، وأنا أستحي أن أحجر على من يصلح أن يكون جدا. وقيل عنه: إن في مدة المنع من المال إذا بلغ مفسدا ينفذ تصرفه على الإطلاق، وإنما يمنع من تسليم المال احتياطا. وهذا كله ضعيف في النظر والأثر. وقد روى الدارقطني: حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن الصواف أخبرنا حامد بن شعيب أخبرنا شريح بن يونس أخبرنا يعقوب بن إبراهيم - هو أبو يوسف القاضي - أخبرنا هشام بن عروة عن أبيه أن عبدالله بن جعفر أتى الزبير فقال: إني اشتريت بيع كذا وكذا، وإن عليا يريد أن يأتي أمير المؤمنين فيسأله أن يحجر علي فيه. فقال الزبير: أنا شريكك في البيع. فأتى علي عثمان فقال: إن ابن جعفر اشترى بيع كذا وكذا فاحجر عليه. فقال الزبير: فأنا شريكه في البيع. فقال عثمان: كيف أحجر على رجل في بيع شريكه فيه الزبير؟ قال يعقوب: أنا آخذ بالحجر وأراه، وأحجر وأبطل بيع المحجور عليه وشراءه، وإذا اشترى أو باع قبل الحجر أجزت بيعه. قال يعقوب بن إبراهيم: وإن أبا حنيفة لا يحجر ولا يأخذ بالحجر. فقول عثمان: كيف أحجر على رجل، دليل على جواز الحجر على الكبير؛ فإن عبدالله بن جعفر ولدته أمه بأرض الحبشة، وهو أول مولود ولد في الإسلام بها، وقدم مع أبيه على النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر فسمع منه وحفظ عنه. وكانت خيبر سنة خمس من الهجرة. وهذا يرد على أبي حنيفة قوله. وستأتي حجته إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « التي جعل الله لكم قياما » أي لمعاشكم وصلاح دينكم. وفي « التي » ثلاث لغات: التي واللت بكسر التاء واللت بإسكانها. وفي تثنيتها أيضا ثلاث لغات: اللتان واللتا بحذف النون واللتان بشد النون. وأما الجمع فتأتي لغاته في موضعه من هذه السورة إن شاء الله تعالى.

والقيام والقوام: ما يقيمك بمعنى. يقال: فلان قيام أهله وقوام بيته، وهو الذي يقيم شأنه، أي يصلحه. ولما انكسرت القاف من قوام أبدلوا الواو ياء. وقراءة أهل المدينة « قيما » بغير ألف. قال الكسائي والفراء: قيما وقواما بمعنى قياما، وانتصب عندهما على المصدر. أي ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي تصلح بها أموركم فيقوموا بها قياما. وقال الأخفش: المعنى قائمة بأموركم. يذهب إلى أنها جمع. وقال البصريون: قيما جمع قيمة؛ كديمة وديم، أي جعلها الله قيمة للأشياء. وخطأ أبو علي هذا القول وقال: هي مصدر كقيام وقوام وأصلها قوم، ولكن شذت في الرد إلى الياء كما شذ قولهم: جياد في جمع جواد ونحوه. وقوما وقواما وقياما معناها ثباتا في صلاح الحال ودواما في ذلك. وقرأ الحسن والنخعي « اللاتي » جعل على جمع التي، وقراءة العامة « التي » على لفظ الجماعة. قال الفراء: الأكثر في كلام العرب « النساء اللواتي، والأموال التي » وكذلك غير الأموال؛ ذكره النحاس.

 

قوله تعالى: « وارزقوهم فيها واكسوهم » قيل: معناه اجعلوا لهم فيها أو افرضوا لهم فيها. وهذا فيمن يلزم الرجل نفقته وكسوته من زوجته وبنيه الأصاغر. فكان هذا دليلا على وجوب نفقة الولد على الوالد والزوجة على زوجها. وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أفضل الصدقة ما ترك غنى واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول تقول المرأة إما أن تطعمني وإما أن تطلقني ويقول العبد أطعمني واستعملني ويقول الابن أطعمني إلى من تدعني ) ؟ فقالوا: يا أبا هريرة، سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، هذا من كيس أبي هريرة!. قال المهلب: النفقة على الأهل والعيال واجبة بإجماع؛ وهذا الحديث حجة في ذلك.

 

قال ابن المنذر: واختلفوا في نفقة من بلغ من الأبناء ولا مال له ولا كسب؛ فقالت طائفة: على الأب أن ينفق على ولده الذكور حتى يحتلموا، وعلى النساء حتى يتزوجن ويدخل بهن. فإن طلقها بعد البناء أو مات عنها فلا نفقة لها على أبيها. وإن طلقها قبل البناء فهي على نفقتها.

 

ولا نفقة لولد الولد على الجد؛ هذا قول مالك. وقالت طائفة: ينفق على ولد ولده حتى يبلغوا الحلم والمحيض. ثم لا نفقة عليه إلا أن يكونوا زمنى، وسواء في ذلك الذكور والإناث ما لم يكن لهم أموال، وسواء في ذلك ولده أو ولد ولده وإن سفلوا ما لم يكن لهم أب دونه يقدر على النفقة عليهم؛ هذا قول الشافعي. وأوجبت طائفة النفقة لجميع الأطفال والبالغين من الرجال والنساء إذا لم يكن لهم أموال يستغنون بها عن نفقة الوالد؛ على ظاهر قوله عليه السلام لهند: ( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ) . وفي حديث أبي هريرة ( يقول الابن أطعمني إلى من تدعني؟ ) يدل على أنه إنما يقول ذلك من لا طاقة له على الكسب والتحرف. ومن بلغ سن الحلم فلا يقول ذلك؛ لأنه قد بلغ حد السعي على نفسه والكسب لها، بدليل قوله تعالى: « حتى إذا بلغوا النكاح » [ النساء: 6 ] الآية. فجعل بلوغ النكاح حدا في ذلك. وفي قوله: ( تقول المرأة إما أن تطعمني وإما أن تطلقني ) يرد على من قال: لا يفرق بالإعسار ويلزم المرأة الصبر؛ وتتعلق النفقة بذمته بحكم الحاكم. هذا قول عطاء والزهري. وإليه ذهب الكوفيون متمسكين بقوله تعالى: « وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة » [ البقرة: 280 ] . قالوا: فوجب أن ينظر إلى أن يوسر. وقوله تعالى: « وأنكحوا الأيامى منكم » [ النور: 32 ] الآية. قالوا: فندب تعالى إلى إنكاح الفقير؛ فلا يجوز أن يكون الفقر سببا للفرقة وهو مندوب منعه إلى النكاح. ولا حجة لهم في هذه الآية على ما يأتي بيانه في موضعها. والحديث نص في موضع الخلاف. وقيل: الخطاب لولي اليتيم لينفق عليه من ماله الذي له تحت نظره؛ على ما تقدم من الخلاف في إضافة المال. فالوصي ينفق على اليتيم على قدر ماله وحاله؛ فإن كان صغيرا وماله كثير اتخذ له ظئرا وحواضن ووسع عليه في النفقة. وإن كان كبيرا قدر له ناعم اللباس وشهي الطعام والخدم. وإن كان دون ذلك فبحسبه. وإن كان دون ذلك فخشن الطعام واللباس قدر الحاجة. فإن كان اليتيم فقيرا لا مال له وجب على الإمام القيام به من بيت المال؛ فإن لم يفعل الإمام وجب ذلك على المسلمين الأخص به فالأخص. وأمه أخص به فيجب عليها إرضاعه والقيام به. ولا ترجع عليه ولا على أحد. وقد مضى في البقرة عند قوله: « والوالدات يرضعن أولادهن » [ البقرة: 233 ] .

 

قوله تعالى: « وقولوا لهم قولا معروفا » أراد تليين الخطاب والوعد الجميل. واختلف في القول المعروف؛ فقيل: معناه ادعوا لهم: بارك الله فيكم، وحاطكم وصنع لكم، وأنا ناظر لك، وهذا الاحتياط يرجع نفعه إليك. وقيل: معناه وعدوهم وعدا حسنا؛ أي إن رشدتم دفعنا إليكم أموالكم. ويقول الأب لابنه: مالي إليك مصيره، وأنت إن شاء الله صاحبه إذا ملكت رشدك وعرفت تصرفك.

 

الآية: 6 ( وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا )

 

قوله تعالى: « وابتلوا اليتامى » الابتلاء الاختبار؛ وقد تقدم. وهذه الآية خطاب للجميع في بيان كيفية دفع أموالهم. وقيل: إنها نزلت في ثابت بن رفاعة وفي عمه. وذلك أن رفاعة توفي وترك ابنه وهو صغير، فأتى عم ثابت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابن أخي يتيم في حجري فما يحل لي من ماله، ومتى أدفع إليه ماله؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.

 

واختلف العلماء في معنى الاختبار؛ فقيل: هو أن يتأمل الوصي أخلاق يتيمه، ويستمع إلى أغراضه، فيحصل له العلم بنجابته، والمعرفة بالسعي في مصالحه وضبط ماله، والإهمال لذلك. فإذا توسم الخير قال علماؤنا وغيرهم: لا بأس أن يدفع إليه شيئا من ماله يبيح له التصرف فيه، فإن نماه وحسن النظر فيه فقد وقع الاختبار، ووجب على الوصي تسليم جميع ماله إليه. وإن أساء النظر فيه وجب عليه إمساك ماله عنده. وليس في العلماء من يقول: إنه إذا اختبر الصبي فوجده رشيدا ترتفع الولاية عنه، وأنه يجب دفع ماله إليه وإطلاق يده في التصرف؛ لقوله تعالى: « حتى إذا بلغوا النكاح » . وقال جماعة من الفقهاء: الصغير لا يخلو من أحد أمرين؛ إما أن يكون غلاما أو جارية؛ فإن كان غلاما رد النظر إليه في نفقة الدار شهرا، أو أعطاه شيئا نزرا يتصرف فيه؛ ليعرف كيف تدبيره وتصرفه، وهو مع ذلك يراعيه لئلا يتلفه؛ فإن أتلفه فلا ضمان على الوصي. فإذا رآه متوخيا سلم إليه ماله وأشهد عليه. وإن كانت جارية رد إليها ما يرد إلى ربة البيت من تدبير بيتها والنظر فيه، في الاستغزال والاستقصاء على الغزالات في دفع القطن وأجرته، واستيفاء الغزل وجودته. فإن رآها رشيدة سلم أيضا إليها مالها وأشهد عليها. وإلا بقيا تحت الحجر حتى يؤنس رشدهما. وقال الحسن ومجاهد وغيرهما: اختبروهم في عقولهم وأديانهم وتنمية أموالهم.

 

قوله تعالى: « حتى إذا بلغوا النكاح » أي الحلم؛ لقوله تعالى: « وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم » [ النور: 59 ] أي البلوغ، وحال النكاح. والبلوغ يكون بخمسة أشياء: ثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء، واثنان يختصان بالنساء وهما الحيض والحبل. فأما الحيض والحبل فلم يختلف العلماء في أنه بلوغ، وأن الفرائض والأحكام تجب بهما. واختلفوا في الثلاثة؛ فأما الإثبات والسن فقال الأوزاعي والشافعي وابن حنبل: خمس عشرة سنة بلوغ لمن لم يحتلم. وهو قول ابن وهب وأصبغ وعبدالملك بن الماجشون وعمر بن عبدالعزيز وجماعة من أهل المدينة، واختاره ابن العربي. وتجب الحدود والفرائض عندهم على من بلغ هذا السن. قال أصبغ بن الفرج: والذي نقول به إن حد البلوغ الذي تلزم به الفرائض والحدود خمس عشرة سنة؛ وذلك أحب ما فيه إلي وأحسنه عندي؛ لأنه الحد الذي يسهم فيه في الجهاد ولمن حضر القتال. واحتج بحديث ابن عمر إذ عرض يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجيز، ولم يجز يوم أحد؛ لأنه كان ابن أربع عشرة سنة. أخرجه مسلم. قال أبو عمر بن عبدالبر: هذا فيمن عرف مولده، وأما من جهل مولده وعدة سنه أو جحده فالعمل فيه بما روى نافع عن أسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى أمراء الأجناد: ( ألا تضربوا الجزية إلا على من جرت عليه المواسي ) . وقال عثمان في غلام سرق: انظروا إن كان قد اخضر مئزره فاقطعوه. وقال عطية القرظي: عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة؛ فكل من أنبت منهم قتله بحكم سعد بن معاذ، ومن لم ينبت منهم استحياه؛ فكنت فيمن لم ينبت فتركني. وقال مالك وأبو حنيفة وغيرهما: لا يحكم لمن لم يحتلم حتى يبلغ ما لم يبلغه أحد إلا احتلم، وذلك سبع عشرة سنة؛ فيكون عليه حينئذ الحد إذا أتى ما يجب عليه الحد. وقال مالك مرة: بلوغه أن يغلظ صوته وتنشق أرنبته. وعن أبي حنيفة رواية أخرى: تسع عشرة سنة؛ وهي الأشهر. وقال في الجارية: بلوغها لسبع عشرة سنة وعليها النظر. وروى اللؤلئي عنه ثمان عشرة سنة. وقال داود: لا يبلغ بالسن ما لم يحتلم ولو بلغ أربعين سنة. فأما الإنبات فمنهم من قال: يستدل به على البلوغ؛ روي عن ابن القاسم وسالم، وقال مالك مرة، والشافعي في أحد قوليه، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور. وقيل: هو بلوغ؛ إلا أنه يحكم به في الكفار فيقتل من أنبت ويجعل من لم ينبت في الذراري؛ قاله الشافعي في القول الآخر؛ لحديث عطية القرظي. ولا اعتبار بالخضرة والزغب، وإنما يترتب الحكم على الشعر. وقال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول: العمل عندي على حديث عمر بن الخطاب: لو جرت عليه المواسي لحددته. قال أصبغ: قال لي ابن القاسم وأحب إلي ألا يقام عليه الحد إلا باجتماع الإنبات والبلوغ. وقال أبو حنيفة: لا يثبت بالإنبات حكم، وليس هو ببلوغ ولا دلالة على البلوغ. وقال الزهري وعطاء: لا حد على من لم يحتلم؛ وهو قول الشافعي، ومال إليه مالك مرة، وقال به بعض أصحابه. وظاهره عدم اعتبار الإنبات والسن. قال ابن العربي: « إذا لم يكن حديث ابن عمر دليلا في السن فكل عدد يذكرونه من السنين فإنه دعوى، والسن التي أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من سن لم يعتبرها، ولا قام في الشرع دليل عليها، وكذلك اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم الإنبات في بني قريظة؛ فمن عذيري ممن ترك أمرين اعتبرهما النبي صلى الله عليه وسلم فيتأوله ويعتبر ما لم يعتبره النبي صلى الله عليه وسلم لفظا، ولا جعل الله له في الشريعة نظرا » .

قلت: هذا قوله هنا، وقال في سورة الأنفال عكسه؛ إذ لم يعرج على حديث ابن عمر هناك، وتأوله كما تأول علماؤنا، وأن موجبه الفرق بين من يطيق القتال ويسهم له وهو ابن خمس عشرة سنة، ومن لا يطيقه فلا يسهم له فيجعل في العيال. وهو الذي فهمه عمر بن عبدالعزيز من الحديث. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم » « آنستم » أي أبصرتم ورأيتم؛ ومنه قوله تعالى: « آنس من جانب الطور نارا » [ 29 القصص ] أي أبصر ورأى. قال الأزهري: تقول العرب اذهب فاستأنس هل ترى أحدا؛ معناه تبصر. قال النابغة:

... على مستأنس وحد

أراد ثورا وحشيا يتبصر هل يرى قانصا فيحذره. وقيل: آنست وأحسست ووجدت بمعنى واحد؛ ومنه قوله تعالى: « فإن آنستم منهم رشدا » أي علمتم. والأصل فيه أبصرتم. وقراءة العامة « رشدا » بضم الراء وسكون الشين. وقرأ السلمي وعيسى والثقفي وابن مسعود رضي الله عنهم « رشدا » بفتح الراء والشين، وهما لغتان. وقيل: رشدا مصدر رشد. ورشدا مصدر رشد، وكذلك الرشاد. والله أعلم.

 

واختلف العلماء في تأويل « رشدا » فقال الحسن وقتادة وغيرهما: صلاحا في العقل والدين. وقال ابن عباس والسدي والثوري: ( صلاحا في العقل وحفظ المال ) . قال سعيد بن جبير والشعبي: إن الرجل ليأخذ بلحيته وما بلغ رشده؛ فلا يدفع إلى اليتيم ماله وإن كان شيخا حتى يؤنس منه رشده. وهكذا قال الضحاك: لا يعطى اليتيم وإن بلغ مائة سنة حتى يعلم منه إصلاح ماله. وقال مجاهد: « رشدا » يعني في العقل خاصة. وأكثر العلماء على أن الرشد لا يكون إلا بعد البلوغ، وعلى أنه إن لم يرشد بعد بلوغ الحلم وإن شاخ لا يزول الحجر عنه؛ وهو مذهب مالك وغيره. وقال أبو حنيفة: لا يحجر على الحر البالغ إذا بلغ مبلغ الرجال، ولو كان أفسق الناس وأشدهم تبذيرا إذا كان عاقلا. وبه قال زفر بن الهذيل؛ وهو مذهب النخعي. واحتجوا في ذلك بما رواه قتادة عن أنس أن حبان بن منقذ كان يبتاع وفي عقدته ضعف، فقيل: يا رسول الله احجر عليه؛ فإنه يبتاع وفي عقدته ضعف. فاستدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( لا تبع ) . فقال: لا أصبر. فقال له: ( فإذا بايعت فقل لا خلابة ولك الخيار ثلاثا ) . قالوا: فلما سأل القوم الحجر عليه لما كان في تصرفه من الغبن ولم يفعل عليه السلام، ثبت أن الحجر لا يجوز. وهذا لا حجة لهم فيه؛ لأنه مخصوص بذلك على ما بيناه في البقرة، فغيره بخلافه. وقال الشافعي: إن كان مفسدا لماله ودينه، أو كان مفسدا لماله دون دينه حجر عليه، وإن كان مفسدا لدينه مصلحا لماله فعلى وجهين: أحدهما يحجر عليه؛ وهو اختيار أبي العباس بن شريح. والثاني لا حجر عليه؛ وهو اختيار إسحاق المروزي، والأظهر من مذهب الشافعي. قال الثعلبي: وهذا الذي ذكرناه من الحجر على السفيه قول عثمان وعلي والزبير وعائشة وابن عباس وعبدالله بن جعفر رضوان الله عليهم، ومن التابعين شريح، وبه قال الفقهاء: مالك وأهل المدينة والأوزاعي وأهل الشام وأبو يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق وأبو ثور. قال الثعلبي: وادعى أصحابنا الإجماع في هذه المسألة.

 

إذا ثبت هذا فاعلم أن دفع المال يكون بشرطين: إيناس الرشد والبلوغ، فإن وجد أحدهما دون الآخر لم يجز تسليم المال، كذلك نص الآية. وهو رواية ابن القاسم وأشهب وابن وهب عن مالك في الآية. وهو قول جماعة الفقهاء إلا أبا حنيفة وزفر والنخعي فإنهم أسقطوا إيناس الرشد ببلوغ خمس وعشرين سنة. قال أبو حنيفة: لكونه جدا وهذا يدل على ضعف قوله، وضعف ما احتج به أبو بكر الرازي في أحكام القرآن له من استعمال الآيتين حسب ما تقدم؛ فإن هذا من باب المطلق والمقيد، والمطلق يرد إلى المقيد باتفاق أهل الأصول. وماذا يغني كونه جدا إذا كان غير جد، أي بخت. إلا أن علماءنا شرطوا في الجارية دخول الزوج بها مع البلوغ، وحينئذ يقع الابتلاء في الرشد. ولم يره أبو حنيفة والشافعي، ورأوا الاختبار في الذكر والأنثى على ما تقدم. وفرق علماؤنا بينهما بأن قالوا: الأنثى مخالفة للغلام لكونها محجوبة لا تعاني الأمور ولا تبرز لأجل البكارة فلذلك وقف فيها على وجود النكاح؛ فبه تفهم المقاصد كلها. والذكر بخلافها؛ فإنه بتصرفه وملاقاته للناس من أول نشئه إلى بلوغه يحمل له الاختبار، ويكمل عقله بالبلوغ، فيحصل له الغرض. وما قاله الشافعي أصوب؛ فإن نفس الوطء بإدخال الحشفة لا يزيدها في رشدها إذا كانت عارفة بجميع أمورها ومقاصدها، غير مبذرة لمالها. ثم زاد علماؤنا فقالوا: لا بد بعد دخول زوجها من مضي مدة من الزمان تمارس فيها الأحوال. قال ابن العربي: وذكر علماؤنا في تحديدها أقوالا عديدة؛ منها الخمسة الأعوام والستة والسبعة في ذات الأب. وجعلوا في اليتيمة التي لا أب لها ولا وصي عليها عاما واحدا بعد الدخول، وجعلوا في المولى عليها مؤبدا حتى يثبت رشدها. وليس في هذا كله دليل، وتحديد الأعوام في ذات الأب عسير؛ وأعسر منه تحديد العام في اليتيمة. وأما تمادي الحجر في المولى عليها حتى يتبين رشدها فيخرجها الوصي عنه، أو يخرجها الحكم منه فهو ظاهر القرآن. والمقصود من هذا كله داخل تحت قوله تعالى: « فإن آنستم منهم رشدا » فتعين اعتبار الرشد ولكن يختلف إيناسه بحسب اختلاف حال الراشد. فاعرفه وركب عليه واجتنب التحكم الذي لا دليل عليه.

 

واختلفوا فيما فعلته ذات الأب في تلك المدة؛ فقيل: هو محمول على الرد لبقاء الحجر، وما عملته بعده فهو محمول على الجواز. وقال بعضهم: ما عملته في تلك المدة محمول على الرد إلا أن يتبين فيه السداد، وما عملته بعد ذلك محمول على الإمضاء حتى يتبين فيه السفه.

واختلفوا في دفع المال إلى المحجور عليه هل يحتاج إلى السلطان أم لا؟ فقالت فرقة: لا بد من رفعه إلى السلطان، ويثبت عنده رشده ثم يدفع إليه ماله. وقالت فرقة: ذلك موكول إلى اجتهاد الوصي دون أن يحتاج إلى رفعه إلى السلطان. قال ابن عطية: والصواب في أوصياء زماننا ألا يستغنى عن رفعه إلى السلطان وثبوت الرشد عنده، لما حفظ من تواطؤ الأوصياء على أن يرشد الصبي، ويبرأ المحجور عليه لسفهه وقلة تحصيله في ذلك الوقت.

 

فإذا سلم المال إليه بوجود الرشد، ثم عاد إلى السفه بظهور تبذير وقلة تدبير عاد إليه الحجر عندنا، وعند الشافعي في أحد قوليه. وقال أبو حنيفة: لا يعود؛ لأنه بالغ عاقل؛ بدليل جواز إقراره في الحدود والقصاص. ودليلنا قوله تعالى: « ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما » [ النساء: 5 ] وقال تعالى: « فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل » [ البقرة: 282 ] ولم يفرق بين أن يكون محجورا سفيها أو يطرأ ذلك عليه بعد الإطلاق.

 

ويجوز للوصي أن يصنع في مال اليتيم ما كان للأب أن يصنع من تجارة وإبضاع وشراء وبيع. وعليه أن يؤدي الزكاة من سائر أمواله: عين وحرث وماشية وفطرة. ويؤدي عنه أروش الجنايات وقيم المتلفات، ونفقة الوالدين وسائر الحقوق اللازمة. ويجوز أن يزوجه ويؤدي عنه الصداق، ويشتري له جارية يتسررها، ويصالح له وعليه على وجه النظر له. وإذا قضى الوصي بعض الغرماء وبقي من المال بقية تفي ما عليه من الدين كان فعل الوصي جائزا. فإن تلف باقي المال فلا شيء لباقي الغرماء على الوصي ولا على الذين اقتضوا. وإن اقتضى الغرماء جميع المال ثم أتى غرماء آخرون فإن كان عالما بالدين الباقي أو كان الميت معروفا بالدين الباقي ضمن الوصي لهؤلاء الغرماء ما كان يصيبهم في المحاصة، ورجع على الذين اقتضوا دينهم بذلك. وإن لم يكن عالما بذلك، ولا كان الميت معروفا بالدين فلا شيء على الوصي. وإذا دفع الوصي دين الميت بغير إشهاد ضمن. وأما إن أشهد وطال الزمان حتى مات الشهود فلا شيء عليه. وقد مضى في البقرة عند قوله تعالى: « وإن تخالطوهم فإخوانكم » [ البقرة: 220 ] من أحكام الوصي في الإنفاق وغيره ما فيه كفاية، والحمد لله.

 

قوله تعالى: « ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا » ليس يريد أن أكل مالهم من غير إسراف جائز، فيكون له دليل خطاب، بل المراد ولا تأكلوا أموالهم فإنه إسراف. فنهى الله سبحانه وتعالى الأوصياء عن أكل أموال اليتامى بغير الواجب المباح لهم؛ على ما يأتي بيانه. والإسراف في اللغة الإفراط ومجاوزة الحد. وقد تقدم في آل عمران والسرف الخطأ في الإنفاق. ومنه قول الشاعر:

أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية ما في عطائهم من ولا سرف

أي ليس يخطئون مواضع العطاء. وقال آخر:

وقال قائلهم والخيل تخبطهم أسرفتم فأجبنا أننا سرف

قال النضر بن شميل: السرف التبذير، والسرف الغفلة. وسيأتي لمعنى الإسراف زيادة بيان في « الأنعام » إن شاء الله تعالى. « وبدارا » معناه ومبادرة كبرهم، وهو حال البلوغ. والبدار والمبادرة كالقتال والمقاتلة. وهو معطوف على « إسرافا » . و « أن يكبروا » في موضع نصب بـ « بدارا » ، أي لا تستغنم مال محجورك فتأكله وتقول أبادر كبره لئلا يرشد ويأخذ ماله ) ؛ عن ابن عباس وغيره.

 

قوله تعالى: « ومن كان غنيا فليستعفف » بين الله تعالى ما يحل لهم من أموالهم؛ فأمر الغني بالإمساك وأباح للوصي الفقير أن يأكل من مال وليه بالمعروف. يقال: عف الرجل عن الشيء واستعف إذا أمسك. والاستعفاف عن الشيء تركه. ومنه قوله تعالى: « وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا » [ النور: 33 ] . والعفة: الامتناع عما لا يحل ولا يجب فعله. روى أبو داود من حديث حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني فقير ليس لي شيء ولي يتيم. قال: فقال: ( كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مباذر ولا متأثل ) .

 

واختلف العلماء من المخاطب والمراد بهذه الآية؟ ففي صحيح مسلم عن عائشة في قوله تعالى: « ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف » قالت: نزلت في ولي اليتيم الذي يقوم عليه ومصلحه إذا كان محتاجا جاز أن يأكل منه. في رواية: بقدر ماله بالمعروف. وقال بعضهم: المراد اليتيم إن كان غنيا وسع عليه وأعف عن ماله، وإن كان فقيرا أنفق عليه بقدره؛ قال ربيعة ويحيى بن سعيد. والأول قول الجمهور وهو الصحيح؛ لأن اليتيم لا يخاطب بالتصرف في ماله لصغره ولسفهه. والله أعلم.

 

واختلف الجمهور في الأكل بالمعروف ما هو؟ فقال قوم: ( هو القرض إذا احتاج ويقضى إذا أيسر ) ؛ قاله عمر بن الخطاب وابن عباس وعبيدة وابن جبير والشعبي ومجاهد وأبو العالية، وهو قول الأوزاعي. ولا يستسلف أكثر من حاجته. قال عمر: ( ألا إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة الولي من مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف؛ فإذا أيسرت قضيت ) . روى عبدالله بن المبارك عن عاصم عن أبي العالية « ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف » قال: قرضا - ثم تلا « فإذا دفعتم إليهم أموالهم فاشهدوا عليهم » . وقول ثان - روي عن إبراهيم وعطاء والحسن البصري والنخعي وقتادة: لا قضاء على الوصي الفقير فيما يأكل بالمعروف؛ لأن ذلك حق النظر، وعليه الفقهاء. قال الحسن: هو طعمة من الله له؛ وذلك أنه يأكل ما يسد جوعته، ويكتسي ما يستر عورته، ولا يلبس الرفيع من الكتان ولا الحلل. والدليل على صحة هذا القول إجماع الأمة على أن الإمام الناظر للمسلمين لا يجب عليه غرم ما أكل بالمعروف؛ لأن الله تعالى قد فرض سهمه في مال الله. فلا حجة لهم في قول عمر: ( فإذا أيسرت قضيت ) - أن لو صح. وقد روي عن ابن عباس وأبي العالية والشعبي أن ( الأكل بالمعروف هو كالانتفاع بألبان المواشي، واستخدام العبيد، وركوب الدواب إذا لم يضر بأصل المال؛ كما يهنأ الجرباء، وينشد الضالة، ويلوط الحوض، ويجذ التمر. فأما أعيان الأموال وأصولها فليس للوصي أخذها ) . وهذا كله يخرج مع قول الفقهاء: إنه يأخذ بقدر أجر عمله؛ وقالت به طائفة وأن ذلك هو المعروف، ولا قضاء عليه، والزيادة على ذلك محرمة. وفرق الحسن بن صالح بن حي - ويقال ابن حيان - بين وصي الأب والحاكم؛ فلوصي الأب أن يأكل بالمعروف، وأما وصي الحاكم فلا سبيل له إلى المال بوجه؛ وهو القول الثالث. وقول رابع روي عن مجاهد قال: ليس له أن يأخذ قرضا ولا غيره. وذهب إلى أن الآية منسوخة، نسخها قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم » [ النساء: 29 ] وهذا ليس بتجارة. وقال زيد بن أسلم: إن الرخصة في هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: « إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما » [ النساء: 10 ] الآية. وحكى بشر بن الوليد عن ابن يوسف قال: لا أدري، لعل هذه الآية منسوخة بقوله عز وجل: « يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم » [ النساء: 29 ] . وقول خامس - وهو الفرق بين الحضر والسفر؛ فيمنع إذا كان مقيما معه في المصر. فإذا احتاج أن يسافر من أجله فله أن يأخذ ما يحتاج إليه، ولا يقتني شيئا؛ قاله أبو حنيفة وصاحباه أبو يوسف ومحمد. وقول سادس - قال أبو قلابة: فليأكل بالمعروف مما يجني من الغلة؛ فأما المال الناض فليس له أن يأخذ منه شيئا قرضا ولا غيره.

وقول سابع - روى عكرمة عن ابن عباس « ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف » قال: ( إذا احتاج واضطر ) . وقال الشعبي: كذلك إذا كان منه بمنزلة الدم ولحم الخنزير أخذ منه؛ فإن وجد أوفى. قال النحاس: وهذا لا معنى له لأنه إذا اضطر هزا الاضطرار كان له أخذ ما يقيمه من مال يتيمه أو غيره من قريب أو بعيد. وقال ابن عباس أيضا والنخعي: ( المراد أن يأكل الوصي بالمعروف من مال نفسه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم؛ فيستعفف الغنى بغناه، والفقير يقتر على نفسه حتى لا يحتاج إلى مال يتيمه ) . قال النحاس: وهذا من أحسن ما روي في تفسير الآية؛ لأن أموال الناس محظورة لا يطلق شيء منها إلا بحجة قاطعة.

قلت: وقد اختار هذا القول الكيا الطبري في أحكام القرآن له؛ فقال: « توهم متوهمون من السلف بحكم الآية أن للوصي أن يأكل من مال الصبي قدرا لا ينتهى إلى حد السرف، وذلك خلاف ما أمر الله تعالى به من قوله: - » لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم « ولا يتحقق ذلك في مال اليتيم. فقوله: » ومن كان غنيا فليستعفف « يرجع إلى أكل مال نفسه دون مال اليتيم. فمعناه ولا تأكلوا أموال اليتيم مع أموالكم، بل اقتصروا على أكل أموالكم. وقد دل عليه قوله تعالى: » ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا « [ النساء: 2 ] وبان بقوله تعالى: » ومن كان غثيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف « الاقتصار على البلغة، حتى لا يحتاج إلى أكل مال اليتيم؛ فهذا تمام معنى الآية. فقد وجدنا آيات محكمات تمنع أكل مال الغير دون رضاه، سيما في حق اليتيم. وقد وجدنا هذه الآية محتملة للمعاني، فحملها على موجب الآيات المحكمات متعين. فإن قال من ينصر مذهب السلف: إن القضاة يأخذون أرزاقهم لأجل عملهم للمسلمين، فهلا كان الوصي كذلك إذا عمل لليتيم، ولم لا يأخذ الأجرة بقدر عمله؟ قيل له: اعلم أن أحدا من السلف لم يجوز للوصي أن يأخذ من مال الصبي مع غنى الوصي، بخلاف القاضي؛ فذلك فارق بين المسألتين. وأيضا فالذي يأخذه الفقهاء والقضاة والخلفاء القائمون بأمور الإسلام لا يتعين له مالك. وقد جعل الله ذلك المال الضائع لأصناف بأوصاف، والقضاة من جملتهم، والوصي إنما يأخذ بعمله مال شخص معين من غير رضاه؛ وعمله مجهول وأجرته مجهولة وذلك بعيد عن الاستحقاق. »

قلت: وكان شيخنا الإمام أبو العباس يقول: إن كان مال اليتيم كثيرا يحتاج إلى كبير قيام عليه بحيث يشغل الولي عن حاجاته ومهماته فرض له فيه أجر عمله، وإن كان تافها لا يشغله عن حاجاته فلا يأكل منه شيئا؛ غير أنه يستحب له شرب قليل اللبن وأكل القليل من الطعام والسمن، غير مضر به ولا مستكثر له، بل على ما جرت العادة بالمسامحة فيه. قال شيخنا: وما ذكرته من الأجرة، ونيل اليسير من التمر واللبن كل واحد منهما معروف؛ فصلح حمل الآية على ذلك. والله أعلم.

قلت: والاحتراز عنه أفضل، إن شاء الله.

وأما ما يأخذه قاضي القسمة ويسميه رسما ونهب أتباعه فلا أدرى له وجها ولا حلا، وهم داخلون في عموم قوله تعالى: « إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا » [ النساء: 10 ] .

 

قوله تعالى: « فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم » أمر الله تعالى بالإشهاد تنبيها على التحصين وزوالا للتهم. وهذا الإشهاد مستحب عند طائفة من العلماء؛ فإن القول قول الوصي؛ لأنه أمين. وقالت طائفة: هو فرض؛ وهو ظاهر الآية، وليس بأمين فيقبل قوله، كالوكيل إذا زعم أنه قد رد ما دفع إليه أو المودع، وإنما هو أمين للأب، ومتى ائتمنه الأب لا يقبل قوله على غير. ألا ترى أن الوكيل لو أدعى أنه قد دفع لزيد ما أمره به بعدالته لم يقبل قوله إلا ببينة؛ فكذلك الوصي. ورأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن جبير أن هذا الإشهاد إنما هو على دفع الوصي في يسره ما استقرضه من مال يتيمه حالة فقره. قال عبيدة: هذه الآية دليل على وجوب القضاء على من أكل؛ المعنى: فإذا اقترضتم أو أكلتم فأشهدوا إذا غرمتم. والصحيح أن اللفظ يعم هذا وسواه. والظاهر أن المراد إذا أنفقتم شيئا على المولى عليه فأشهدوا، حتى ولو وقع خلاف أمكن إقامة البينة؛ فإن كل مال قبض على وجه الأمانة بإشهاد لا يبرأ منه إلا بالإشهاد على دفعه، لقوله تعالى: « فأشهدوا » فإذا دفع لمن دفع إليه بغير إشهاد فلا يحتاج في دفعها لإشهاد إن كان قبضها بغير إشهاد. والله أعلم.

 

كما على الوصي والكفيل حفظ مال يتيمه والتثمير له، كذلك عليه حفظ الصبي في بدنه. فالمال يحفظه بضبطه، والبدن يحفظه بأدبه. وقد مضى هذا المعنى في « البقرة » . وروي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن في حجري يتيما أآكل من ماله؟ قال: ( نعم غير متأثل مالا ولا واق مالك بماله ) . قال: يا رسول الله، أفأضربه؟ قال: ( ما كنت ضاربا منه ولدك ) . قال ابن العربي: وإن لم يثبت مسندا فليس يجد أحد عنه ملتحدا.

 

قوله تعالى: « وكفى بالله حسيبا » أي كفى الله حاسبا لأعمالكم ومجازيا بها. ففي هذا وعيد لكل جاحد حق. والباء زائدة، وهو في موضع رفع.

 

الآية: 7 ( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا )

 

لما ذكر الله تعالى أمر اليتامى وصله بذكر المواريث. ونزلت الآية في أوس بن ثابت الأنصاري، توفي وترك امرأة يقال لها: أم كجة وثلاث بنات له منها؛ فقام رجلان هما ابنا عم الميت ووصياه يقال لهما: سويد وعرفجة؛ فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته وبناته شيئا، وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير وإن كان ذكرا، ويقولون: لا يعطى إلا من قاتل على ظهور الحيل، وطاعن بالرمح، وضارب بالسيف، وحاز الغنيمة. فذكرت أم كجة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهما، فقالا: يا رسول الله، ولدها لا يركب فرسا، ولا يحمل كلا ولا ينكأ عدوا. فقال عليه السلام: ( انصرفا حتى أنظر ما يحدث الله لي فيهن ) . فأنزل الله هذه الآية ردا عليهم، وإبطالا لقولهم وتصرفهم بجهلهم؛ فإن الورثة الصغار كان ينبغي أن يكونوا أحق بالمال من الكبار، لعدم تصرفهم والنظر في مصالحهم، فعكسوا الحكم، وأبطلوا الحكمة فضلوا بأهوائهم، وأخطؤوا في آرائهم وتصرفاتهم.

 

قال علماؤنا: في هذه الآية فوائد ثلاث: الأولى: بيان علة الميراث وهي القرابة. الثانية: عموم القرابة كيفما تصرفت من قريب أو بعيد. الثالثة: إجمال النصيب المفروض. وذلك مبين في آية المواريث؛ فكان في هذه الآية توطئة للحكم، وإبطال لذلك الرأي الفاسد حتى وقع البيان الشافي.

 

الثالثة: ثبت أن أبا طلحة لما تصدق بماله - بئر حاء - وذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( اجعلها في فقراء أقاربك ) فجعلها لحسان وأبي. قال أنس: ( وكانا أقرب إليه مني ) . قال أبو داود: بلغني عن محمد بن عبدالله الأنصاري أنه قال: أبو طلحة الأنصاري زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار. وحسان بن ثابت بن المنذر بن حرام يجتمعان في الأب الثالث وهو حرام. وأبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار. قال الأنصاري: بين أبى طلحة وأبي ستة آباء. قال: وعمرو بن مالك يجمع حسان وأبي بن كعب وأبا طلحة. قال أبو عمر: في هذا ما يقضي على القرابة أنها ما كانت في هذا القعدد ونحوه، وما كان دونه فهو أحرى أن يلحقه اسم القرابة.

 

الرابعة: قوله تعالى: « مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا » أثبت الله تعالى للبنات نصيبا في الميراث ولم يبين كم هو؛ فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى سويد وعرفجة ألا يفرقا من مال أوس شيئا؛ فإن الله جعل لبناته نصيبا ولم يبين كم هو حتى أنظر ما ينزل ربنا. فنزلت « يوصيكم الله في أولادكم » [ النساء: 11 ] إلى قوله تعالى: « الفوز العظيم » [ النساء: 13 ] فأرسل إليهما ( أن أعطيا أم كجة الثمن مما ترك أوس، ولبناته الثلثين، ولكما بقية المال ) .

 

الخامسة: استدل علماؤنا بهذه الآية في قسمة المتروك على الفرائض إذا كان فيه تغيير عن حاله، كالحمام والبيت وبيدر الزيتون والدار التي تبطل منافعها بإقرار أهل السهام فيها. فقال مالك: يقسم ذلك وإن لم يكن في نصيب أحدهم ما ينتفع به؛ لقوله تعالى: « مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا » . وهو قول ابن كنانة، وبه قال الشافعي، ونحوه قول أبي حنيفة. قال أبو حنيفة: في الدار الصغيرة بين اثنين فطلب أحدهما القسمة وأبى صاحبه قسمت له. وقال ابن أبي ليلى: إن كان فيهم من لا ينتفع بما يقسم له فلا يقسم. وكل قسم يدخل فيه الضرر على أحدهما دون الآخر فإنه لا يقسم؛ وهو قول أبي ثور. قال ابن المنذر: وهو أصح القولين. ورواه ابن القاسم عن مالك فيما ذكر ابن العربي. قال ابن القاسم: وأنا أرى أن كل ما لا ينقسم من الدور والمنازل والحمامات، وفي قسمته الضرر ولا ينتفع به إذا قسم، أن يباع ولا شفعة فيه؛ لقوله عليه السلام: ( الشفعة في كل ما لا يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة ) . فجعل عليه السلام الشفعة في كل ما يتأتى فيه إيقاع الحدود، وعلق الشفعة فيما لم يقسم مما يمكن إيقاع الحدود فيه. هذا دليل الحديث.

قلت: ومن الحجة لهذا القول ما خرجه الدارقطني من حديث ابن جريج أخبرني صديق بن موسى عن محمد بن أبي بكر عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا تعضية على أهل الميراث إلا ما حمل القسم ) . قال أبو عبيد: هو أن يموت الرجل ويدع شيئا إن قسم بين ورثته كان في ذلك ضرر على جميعهم أو على بعضهم. يقول: فلا يقسم؛ وذلك مثل الجوهرة والحمام والطيلسان وما أشبه ذلك. والتعضية التفريق؛ يقال: عضيت الشيء إذا فرقته. ومنه قوله تعالى: « الذين جعلوا القرآن عضين » [ الحجر: 91 ] . وقال تعالى: « غير مضار » [ النساء: 12 ] فنفى المضارة. وكذلك قال عليه السلام: ( لا ضرر ولا ضرار ) . وأيضا فإن الآية ليس فيها تعرض للقسمة، وإنما اقتضت الآية وجوب الحظ والنصيب للصغير والكبير قليلا كان أو كثيرا، ردا على الجاهلية فقال: « للرجال نصيب » « وللنساء نصيب » [ النساء: 32 ] وهذا ظاهر جدا. فأما إبراز ذلك النصيب فإنما يؤخذ من دليل آخر؛ وذلك بأن يقول الوارث: قد وجب لي نصيب بقول الله عز وجل فمكنوني منه؛ فيقول له شريكه: أما تمكينك على الاختصاص فلا يمكن؛ لأنه يؤدي إلى ضرر بيني وبينك من إفساد المال، وتغيير الهيئة، وتنقيص القيمة؛ فيقع الترجيح. والأظهر سقوط القسمة فيه يبطل المنفعة وينقص المال مع ما ذكرناه من الدليل. والله الموفق.

قال الفراء: « نصيبا مفروضا » هو كقولك: قسما واجبا، وحقا لازما؛ فهو اسم في معنى المصدر فلهذا انتصب. الزجاج: أنتصب على الحال. أي لهؤلاء أنصباء في حال الفرض. الأخفش: أي جعل الله لهم نصيبا. والمفروض: المقدر: الواجب.

 

الآية: 8 ( وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا )

 

بين الله تعالى أن من لم يستحق شيئا إرثا وحضر القسمة، وكان من الأقارب أو اليتامى والفقراء الذين لا يرثون أن يكرموا ولا يحرموا، إن كان المال كثيرا؛ والاعتذار إليهم إن كان عقارا أو قليلا الرضخ. وإن كان عطاء من القليل ففيه أجر عظيم؛ درهم يسبق مائة ألف. فالآية على هذا القول محكمة؛ قاله ابن عباس. وامتثل ذلك جماعة من التابعين: عروة بن الزبير وغيره، وأمر به أبو موسى الأشعري وروي عن ابن عباس ( أنها منسوخة نسخها قوله تعالى: « يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين » [ النساء: 11 ] ) وقال سعيد بن المسيب: نسخها آية الميراث والوصية. وممن قال إنها منسوخة أبو مالك وعكرمة والضحاك. والأول أصح؛ فإنها مبينة استحقاق الورثة لنصيبهم، واستحباب المشاركة لمن لا نصيب له ممن حضرهم. قال ابن جبير: ضيع الناس هذه الآية. قال الحسن: ولكن الناس شحوا. وفي البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى: « وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين » قال: ( هي محكمة وليست بمنسوخة ) . وفي رواية قال: ( إن ناسا يزعمون أن هذه الآية نسخت، لا والله ما نسخت ولكنها مما تهاون بها؛ هما واليان: وال يرث وذلك الذي يرزق، ووال لا يرث وذلك الذي يقول بالمعروف، ويقول: لا أملك لك أن أعطيك ) . قال ابن عباس: ( أمر الله المؤمنين عند قسمة مواريثهم أن يصلوا أرحامهم، ويتاماهم ومساكينهم من الوصية، فإن لم تكن وصية وصل لهم من الميراث ) . قال النحاس: فهذا أحسن ما قيل في الآية، أن يكون على الندب والترغيب في فعل الخير، والشكر لله عز وجل. وقالت طائفة: هذا الرضخ واجب على جهة الفرض، تعطي الورثة لهذه الأصناف ما طابت به نفوسهم، كالماعون والثوب الخلق وما خف. حكى هذا القول ابن عطية والقشيري. والصحيح أن هذا على الندب؛ لأنه لو كان فرضا لكان استحقاقا في التركة ومشاركة في الميراث، لأحد الجهتين معلوم وللآخر مجهول. وذلك مناقض للحكمة، وسبب للتنازع والتقاطع. وذهبت فرقة إلى أن المخاطب والمراد في الآية المحتضرون الذين يقسمون أموالهم بالوصية، لا الورثة. وروي عن ابن عباس وسعيد بن المسيب وابن زيد. ( فإذا أراد المريض أن يفرق ماله بالوصايا وحضره من لا يرث ينبغي له ألا يحرمه ) . وهذا والله أعلم - يتنزل حيث كانت الوصية واجبة، ولم تنزل آية الميراث. والصحيح الأول وعليه المعول.

 

فإذا كان الوارث صغيرا لا يتصرف في ماله؛ فقالت طائفة: يعطي ولي الوارث الصغير من مال محجوره بقدر ما يرى. وقيل: لا يعطي بل يقول لمن حضر القسمة: ليس لي شيء من هذا المال إنما هو لليتيم، فإذا بلغ عرفته حقكم. فهذا هو القول المعروف. وهذا إذا لم يوص الميت له بشيء؛ فإن أوصى يصرف له ما أوصى. ورأى عبيدة ومحمد بن سيرين أن الرزق في هذه الآية أن يصنع لهم طعاما يأكلونه؛ وفعلا ذلك، ذبحا شاة من التركة، وقال عبيدة: لولا هذه الآية لكان هذا من مالي. وروى قتادة عن يحيى بن يعمر قال: ثلاث محكمات تركهن الناس: هذه الآية، وآية الاستئذان « يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم » [ النور: 58 ] ، وقوله: « يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى » [ الحجرات: 13 ] .

 

قوله تعالى: « منه » الضمير عائد على معنى القسمة؛ إذ هي بمعنى المال والميراث؛ لقوله تعالى: « ثم استخرجها من وعاء أخيه » [ يوسف: 76 ] أي السقاية؛ لأن الصواع مذكر. ومنه قوله عليه السلام: ( واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب ) فأعاد مذكرا على معنى الدعاء. وكذلك قوله لسويد بن طارق الجعفي حين سأل عن الخمر ( إنه ليس بدواء ولكنه داء ) فأعاد الضمير على معنى الشراب. ومثله كثير. يقال: قاسمه المال وتقاسماه واقتسماه، والاسم القسمة مؤنثة؛ والقسم مصدر قسمت الشيء فانقسم، والموضع مقسم مثل مجلس، وتقسمهم الدهر فتقسموا، أي فرقهم فتفرقوا. والتقسيم التفريق. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « وقولوا لهم قولا معروفا » قال سعيد بن جبير: يقال لهم خذوا بورك لكم. وقيل: قولوا مع الرزق وددت أن لو كان أكثر من هذا. وقيل: لا حاجة مع الرزق إلى عذر، نعم إن لم يصرف إليهم شيء فلا أقل من قول جميل ونوع اعتذار.

 

الآية: 9 ( وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا )

 

قوله تعالى: « وليخش » حذفت الألف من « ليخش » للجزم بالأمر، ولا يجوز عند سيبويه إضمار لام الأمر قياسا على حروف الجر إلا في ضرورة الشعر. وأجاز الكوفيون حذف اللام مع الجزم؛ وأنشد الجميع:

محمد تفد نفسك كل نفس إذا ما خفت من شيء تبالا

أراد لتفد، ومفعول « يخش » محذوف لدلالة الكلام عليه. و « خافوا » جواب « لو » . التقدير لو تركوا لخافوا. ويجوز حذف اللام في جواب « لو » . وهذه الآية قد اختلف العلماء في تأويلها؛ فقالت طائفة: ( هذا وعظ للأوصياء، أي افعلوا باليتامى ما تحبون أن يفعل بأولادكم من بعدكم ) ؛ قاله ابن عباس. ولهذا قال الله تعالى: « إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما » [ النساء: 10 ] . وقالت طائفة: المراد جميع الناس، أمرهم باتقاء الله في الأيتام وأولاد الناس؛ وإن لم يكونوا في حجورهم. وأن يشددوا لهم القول كما يريد كل واحد منهم أن يفعل بولده بعده. ومن هذا ما حكاه الشيباني قال: كنا على قسطنطينية في عسكر مسلمة بن عبدالملك، فجلسنا يوما في جماعة من أهل العلم فيهم ابن الديلمي، فتذاكروا ما يكون من أهوال آخر الزمان. فقلت له: يا أبا بشر، ودي ألا يكون لي ولد. فقال لي: ما عليك ! ما من نسمة قضى الله بخروجها من رجل إلا خرجت، أحب أو كره، ولكن إذا أردت أن تأمن عليهم فاتق الله في غيرهم؛ ثم تلا الآية. وفي رواية: ألا أدلك على أمر إن أنت أدركته نجاك الله منه، وإن تركت ولدا من بعدك حفظهم الله فيك؟ فقلت: بلى ! فتلا هذه الآية « وليخش الذين لو تركوا » إلى آخرها.

قلت: ومن هذا المعنى ما روى محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أحسن الصدقة جاز على الصراط ومن قضى حاجة أرملة أخلف الله في تركته ) . وقول ثالث قاله جمع من المفسرين: هذا في الرجل يحضره الموت فيقول له من بحضرته عند وصيته: إن الله سيرزق ولدك فأنظر لنفسك، وأوص بمالك في سبيل الله، وتصدق وأعتق. حتى يأتي على عامة ماله أو يستغرقه فيضر ذلك بورثته؛ فنهوا عن ذلك. فكأن الآية تقول لهم: ( كما تخشون على ورثتكم وذريتكم بعدكم، فكذلك فاخشوا على ورثة غيركم ولا تحملوه على تبذير ماله ) ؛ قاله ابن عباس وقتادة والسدي وابن جبير والضحاك ومجاهد. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: ( إذا حضر الرجل الوصية فلا ينبغي أن يقول أوص بمالك فإن الله تعالى رازق ولدك، ولكن يقول قدم لنفسك واترك لولدك ) ؛ فذلك قوله تعالى: « فليتقوا الله » . وقال مقسم وحضرمي: نزلت في عكس هذا، وهو أن يقول للمحتضر من يحضره: أمسك على ورثتك، وأبق لولدك فليس أحد أحق بمالك من أولادك، وينهاه عن الوصية، فيتضرر بذلك ذوو القربى وكل من يستحق أن يوصى له؛ فقيل لهم: كما تخشون على ذريتكم وتسرون بأن يحسن إليهم، فكذلك سددوا القول في جهة المساكين واليتامى، واتقوا الله في ضررهم. وهذان القولان مبنيان على وقت وجوب الوصية قبل نزول آية المواريث؛ روي عن سعيد بن جبير وابن المسيب. قال ابن عطية: وهذان القولان لا يطرد واحد منهما في كل الناس، بل الناس صنفان؛ يصلح لأحدهما القول الواحد، ولآخر القول الثاني. وذلك أن الرجل إذا ترك ورثته مستقلين بأنفسهم أغنياء حسن أن يندب إلى الوصية، ويحمل على أن يقدم لنفسه. وإذا ترك ورثة ضعفاء مهملين مقلين حسن أن يندب إلى الترك لهم والاحتياط؛ فإن أجره في قصد ذلك كأجره في المساكين، فالمراعاة إنما هو الضعف فيجب أن يمال معه.

قلت: وهذا التفصيل صحيح؛ لقوله عليه السلام لسعد: ( إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ) . فإن لم يكن للإنسان ولد، أو كان وهو غني مستقل بنفسه وماله عن أبيه فقد أمن عليه؛ فالأولى بالإنسان حينئذ تقديم ماله بين يديه حتى لا ينفقه من بعده فيما لا يصلح، فيكون وزره عليه.

 

قوله تعالى: « وليقولوا قولا سديدا » السديد: العدل والصواب من القول؛ أي مروا المريض بأن يخرج من ماله ما عليه من الحقوق الواجبة، ثم يوصي لقرابته بقدر ما لا يضر بورثته الصغار. وقيل: المعنى قولوا للميت قولا عدلا، وهو أن يلقنه بلا إله إلا الله، ولا يأمره بذلك، ولكن يقول ذلك في نفسه حتى يسمع منه ويتلقن. هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ) ولم يقل مروهم؛ لأنه لو أمر بذلك لعله يغضب ويجحد. وقيل: المراد اليتيم؛ أن لا ينهروه ولا يستخفوا به.

 

الآية: 10 ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا )

 

قوله تعالى: « إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما » روي أنها نزلت في رجل من غطفان يقال له: مرثد بن زيد، ولي مال ابن أخيه وهو يتيم صغير فأكله؛ فأنزل الله تعالى فيه هذه الآية، قال مقاتل بن حيان؛ ولهذا قال الجمهور: إن المراد الأوصياء الذين يأكلون ما لم يبح لهم من مال اليتيم. وقال ابن زيد: نزلت في الكفار الذين كانوا لا يورثون النساء ولا الصغار. وسمي أخذ المال على كل وجوهه أكلا؛ لما كان المقصود هو الأكل وبه أكثر إتلاف الأشياء. وخص البطون بالذكر لتبيين نقصهم، والتشنيع عليهم بضد مكارم الأخلاق. وسمى المأكول نارا بما يؤول إليه؛ كقوله تعالى: « إني أراني أعصر خمرا » [ يوسف: 36 ] أي عنبا. وقيل: نارا أي حراما؛ لأن الحرام يوجب النار، فسماه الله تعالى باسمه. وروى أبو سعيد الخدري قال: حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة أسري به قال: ( رأيت قوما لهم مشافر كمشافر الإبل وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار يخرج من أسافلهم فقلت يا جبريل من هؤلاء قال هم الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ) . فدل الكتاب والسنة على أن أكل مال اليتيم من الكبائر. وقال صلى الله عليه وسلم: ( اجتنبوا السبع الموبقات ) وذكر فيها ( وأكل مال اليتيم ) .

 

قوله تعالى: « وسيصلون سعيرا » وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية ابن عباس بضم الياء على اسم ما لم يسم فاعله؛ من أصلاه الله حر النار إصلاء. قال الله تعالى: « سأصليه سقر » [ المدثر: 26 ] . وقرأ أبو حيوة بضم الياء وفتح الصاد وتشديد اللام من التصلية لكثرة الفعل مرة بعد أخرى. دليله قوله تعالى: « ثم الجحيم صلوه » [ الحاقة: 31 ] . ومنه قولهم: صليته مرة بعد أخرى. وتصليت: استدفأت بالنار. قال:

وقد تصليت حر حربهم كما تصلى المقرور من قرس

وقرأ الباقون بفتح الياء من صلي النار يصلاها صلى وصلاة. قال الله تعالى: « لا يصلاها إلا الأشقى » [ الليل: 15 ] . والصلاء هو التسخن بقرب النار أو مباشرتها؛ ومنه قول الحارث بن عباد:

لم أكن من جناتها علم الله وإني لحرها اليوم صال

والسعير: الجمر المشتعل.

 

وهذه آية من آيات الوعيد، ولا حجة فيها لمن يكفر بالذنوب. والذي يعتقده أهل السنة أن ذلك نافذ على بعض العصاة فيصلى ثم يحترق ويموت؛ بخلاف أهل النار لا يموتون ولا يحيون، فكأن هذا جمع بين الكتاب والسنة، لئلا يقع الخبر فيهما على خلاف مخبره، ساقط بالمشيئة عن بعضهم؛ لقوله تعالى: « إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء » [ النساء: 48 ] . وهكذا القول في كل ما يرد عليك من هذا المعنى. روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أما أهل النار الذين هم أهلها فيها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم - أو قال بخطاياهم - فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن بالشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ) . فقال رجل من القوم كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان يرعى بالبادية.

الآية [ 11 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات: 11 - 14 ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما، ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم، تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم، ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين )

 

قوله تعالى: « يوصيكم الله في أولادكم » بين تعالى في هذه الآية ما أجمله في قوله: « للرجال نصيب » [ النساء: 32 ] و « للنساء نصيب » فدل هذا على جواز تأخير البيان عن وقت السؤال. وهذه الآية ركن من أركان الدين، وعمدة من عمد الأحكام، وأم من أمهات الآيات؛ فإن الفرائض عظيمة القدر حتى أنها ثلث العلم، وروي نصف العلم. وهو أول علم ينزع من الناس وينسى. رواه الدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تعلموا الفرائض وعلموه الناس فإنه نصف العلم وهو أول شيء ينسى وهو أول شيء ينتزع من أمتي ) . وروي أيضا عن عبدالله بن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( تعلموا القرآن وعلموه الناس وتعلموا الفرائض وعلموها الناس وتعلموا العلم وعلموه الناس فإني امرؤ مقبوض وإن العلم سيقبض وتظهر الفتن حتى يختلف الاثنان في الفريضة لا يجدان من يفصل بينهما ) . وإذا ثبت هذا فاعلم أن الفرائض كان جل علم الصحابة، وعظيم مناظرتهم، ولكن الخلق ضيعوه. وقد روى مطرف عن مالك، قال عبدالله بن مسعود: ( من لم يتعلم الفرائض والطلاق والحج فبم يفضل أهل البادية؟ ) وقال ابن وهب عن مالك: كنت أسمع ربيعة يقول: ( من تعلم الفرائض من غير علم بها من القرآن ما أسرع ما ينساها ) . قال مالك: وصدق.

 

روى أبو داود والدارقطني عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة ) . قال الخطابي أبو سليمان: الآية المحكمة هي كتاب الله تعالى: واشترط فيها الإحكام؛ لأن من الآي ما هو منسوخ لا يعمل به، وإنما يعمل بناسخه. والسنة القائمة هي الثابتة مما جاء عنه صلى الله عليه وسلم من السنن الثابتة. وقوله: ( أو فريضة عادلة ) يحتمل وجهين من التأويل:

أحدهما: أن يكون من العدل في القسمة؛ فتكون معدلة عل الأنصباء والسهام المذكورة في الكتاب والسنة.

والوجه الآخر: أن تكون مستنبطة من الكتاب والسنة ومن معناهما؛ فتكون هذه الفريضة تعدل ما اخذ من الكتاب والسنة إذ كانت في معنى ما أخذ عنهما نصا. روى عكرمة قال: أرسل ابن عباس إلى زيد بن ثابت يسأل عن امرأة تركت زوجها وأبويها. قال: للزوج النصف، وللأم ثلث ما بقي. فقال: تجده في كتاب الله أو تقول برأي؟ قال: أقوله برأي؛ لا أفضل أما على أب. قال أبو سليمان: فهذا من باب تعديل الفريضة إذا لم يكن فيها نص؛ وذلك أنه اعتبرها بالمنصوص عليه، وهو قوله تعالى: « وورثه أبواه فلأمه الثلث » . فلما وجد نصيب الأم الثلث، وكان باقي المال هو الثلثان للأب، قاس النصف الفاضل من المال بعد نصيب الزوج على كل المال إذا لم يكن مع الوالدين ابن أو ذو سهم؛ فقسمه بينهما على ثلاثة، للأم سهم وللأب سهمان وهو الباقي. وكان هذا أعدل في القسمة من أن يعطي الأم من النصف الباقي ثلث جميع المال، وللأب ما بقي وهو السدس، ففضلها عليه فيكون لها وهي مفضولة في أصل الموروث أكثر مما للأب وهو المقدم والمفضل في الأصل. وذلك أعدل مما ذهب إليه ابن عباس من توفير الثلث على الأم، وبخس الأب حقه برده إلى السدس؛ فترك قوله وصار عامة الفقهاء إلى زيد. قال أبو عمر: وقال عبدالله بن عباس رضي الله عنه في زوج وأبوين: ( للزوج النصف، وللأم ثلث جميع المال، وللأب ما بقي ) . وقال في امرأة وأبوين: ( للمرأة الربع، وللأم ثلث جميع المال، والباقي للأب ) . وبهذا قال شريح القاضي ومحمد بن سيرين وداود بن علي، وفرقة منهم أبو الحسن محمد بن عبدالله الفرضي المصري المعروف بابن اللبان في المسألتين جميعا. وزعم أنه قياس قول علي في المشتركة. وقال في موضع آخر: إنه قد روي ذلك عن علي أيضا. قال أبو عمر: المعروف المشهور عن علي وزيد وعبدالله وسائر الصحابة وعامة العلماء ما رسمه مالك. ومن الحجة لهم على ابن عباس: ( أن الأبوين إذا اشتركا في الوراثة، ليس معهما غيرهما، كان للأم الثلث وللأب الثلثان ) . وكذلك إذا اشتركا في النصف الذي يفضل عن الزوج، كانا فيه كذلك على ثلث وثلثين. وهذا صحيح في النظر والقياس.

 

واختلفت الروايات في سبب نزول آية المواريث؛ فروى الترمذي وأبو داود وابن ماجة والدارقطني عن جابر بن عبدالله أن امرأة سعد بن الربيع قالت: يا رسول الله، إن سعدا هلك وترك بنتين وأخاه، فعمد أخوه فقبض ما ترك سعد، وإنما تنكح النساء على أموالهن؛ فلم يجبها في مجلسها ذلك. ثم جاءته فقالت: يا رسول الله، ابنتا سعد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ادع لي أخاه ) فجاء فقال له: ( ادفع إلى ابنته الثلثين وإلى امرأته الثمن ولك ما بقي ) . لفظ أبي داود. في رواية الترمذي وغيره: فنزلت آية المواريث. قال: هذا حديث صحيح. وروى جابر أيضا قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في بني سلمة يمشيان، فوجداني لا أعقل، فدعا بماء فتوضأ، ثم رش علي منه فأفقت. فقلت: كيف أصنع في مالي يا رسول الله؟ فنزلت « يوصيكم الله في أولادكم » . أخرجاه في الصحيحين. وأخرجه الترمذي وفيه « فقلت يا نبي الله كيف أقسم مالي بين ولدي؟ فلم يرد علي شيئا فنزلت » يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين « الآية. قال: » حديث حسن صحيح « . وفي البخاري عن ابن عباس ( أن نزول ذلك كان من أجل أن المال كان للولد، والوصية للوالدين؛ فنسخ ذلك بهذه الآيات ) . وقال مقاتل والكلبي: نزلت في أم كجة؛ وقد ذكرناها. السدي: نزلت بسبب بنات عبدالرحمن بن ثابت أخي حسان بن ثابت. وقيل: إن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون إلا من لاقى الحروب وقاتل العدو؛ فنزلت الآية تبيينا أن لكل صغير وكبير حظه. ولا يبعد أن يكون جوابا للجميع؛ ولذلك تأخر نزولها. والله أعلم. قال الكيا الطبري: وقد ورد في بعض الآثار أن ما كانت الجاهلية تفعله من ترك توريث الصغير كان في صدر الإسلام إلى أن نسخته هذه الآية ولم يثبت عندنا اشتمال الشريعة على ذلك، بل ثبت خلافه؛ فإن هذه الآية نزلت في ورثة سعد بن الربيع. وقيل: نزلت في ورثة ثابت بن قيس بن شماس. والأول أصح عند أهل النقل. فاسترجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الميراث من العم، ولو كان ذلك ثابتا من قبل في شرعنا ما استرجعه. ولم يثبت قط في شرعنا أن الصبي ما كان يعطى الميراث حتى يقاتل على الفرس ويذب عن الحريم. »

قلت: وكذلك قال القاضي أبو بكر بن العربي قال: ودل نزول هذه الآية على نكتة بديعة؛ وهو أن ما كانت عليه الجاهلية تفعله من أخذ المال لم يكن في صدر الإسلام شرعا مسكوتا مقرا عليه؛ لأنه لو كان شرعا مقرا عليه لما حكم النبي صلى الله عليه وسلم على عم الصبيتين برد ما أخذ من مالهما؛ لأن الأحكام إذا مضت وجاء النسخ بعدها إنما يؤثر في المستقبل فلا ينقض به ما تقدم وإنما كانت ظلامة رفعت. قاله ابن العربي.

 

قوله تعالى: « يوصيكم الله في أولادكم » قالت الشافعية: قول الله تعالى « يوصيكم الله في أولادكم » حقيقة في أولاد الصلب، فأما ولد الابن فإنما يدخل فيه بطريق المجاز؛ فإذا حلف أن لا ولد له وله ولد ابن لم يحنث؛ وإذا أوصى لولد فلان لم يدخل فيه ولد ولده. وأبو حنيفة يقول: إنه يدخل فيه إن لم يكن له ولد صلب. ومعلوم أن الألفاظ لا تتغير بما قالوه.

 

قال ابن المنذر: لما قال تعالى: « يوصيكم الله في أولادكم » فكان الذي يجب على ظاهر الآية أن يكون الميراث لجميع الأولاد، المؤمن منهم والكافر؛ فلما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا يرث المسلم الكافر علم أن الله أراد بعض الأولاد دون بعض، فلا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم على ظاهر الحديث.

قلت: ولما قال تعالى: « في أولادكم » دخل فيهم الأسير في أيدي الكفار؛ فإنه يرث ما دام تعلم حياته على الإسلام. وبه قال كافة أهل العلم، إلا النخعي فإنه قال: لا يرث الأسير. فأما إذا لم تعلم حياته فحكمه حكم المفقود. ولم يدخل في عموم الآية ميراث النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: ( لا نورث ما تركنا صدقة ) وسيأتي بيانه في « مريم » إن شاء الله تعالى. وكذلك لم يدخل القاتل عمدا لأبيه أو جده أو أخيه أو عمه بالسنة وإجماع الأمة، وأنه لا يرث من مال من قتله ولا من ديته شيئا؛ على ما تقدم بيانه في البقرة. فإن قتله خطأ فلا ميراث له من الدية، ويرث من المال في قول مالك، ولا يرث في قول الشافعي وأحمد وسفيان وأصحاب الرأي، من المال ولا من الدية شيئا؛ حسبما تقدم بيانه في البقرة. وقول مالك أصح، وبه قال إسحاق وأبو ثور. وهو قول سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح ومجاهد والزهري والأوزاعي وابن المنذر؛ لأن ميراث من ورثه الله تعالى في كتابه ثابت لا يستثنى منه إلا بسنة أو إجماع. وكل مختلف فيه فمردود إلى ظاهر الآيات التي فيها المواريث.

 

اعلم أن الميراث كان يستحق في أول الإسلام بأسباب: منها الحلف والهجرة والمعاقدة، ثم نسخ على ما يأتي بيانه في هذه السورة عند قوله تعالى: « ولكل جعلنا موالي » [ النساء: 33 ] . إن شاء الله تعالى. وأجمع العلماء على أن الأولاد إذا كان معهم من له فرض مسمى أعطيه، وكان ما بقي من المال للذكر مثل حظ الأنثيين؛ لقوله عليه السلام: ( ألحقوا الفرائض بأهلها ) رواه الأئمة. يعني الفرائض الواقعة في كتاب الله تعالى. وهي ستة: النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس. فالنصف فرض خمسة: ابنة الصلب، وابنة الابن، والأخت الشقيقة، والأخت للأب، والزوج. وكل ذلك إذا انفردوا عمن يحجبهم عنه. والربع فرض الزوج مع الحاجب، وفرض الزوجة والزوجات مع عدمه. والثمن فرض الزوجة والزوجات مع الحاجب. والثلثان فرض أربع: الاثنتين فصاعدا من بنات الصلب، وبنات الابن، والأخوات الأشقاء، أو للأب. وكل هؤلاء إذا انفردن عمن يحجبهن عنه. والثلث فرض صنفين: الأم مع عدم الولد، وولد الابن، وعدم الاثنين فصاعدا من الإخوة والأخوات، وفرض الاثنين فصاعدا من ولد الأم. وهذا هو ثلث كل المال. فأما ثلث ما يبقى فذلك للأم في مسألة زوج أو زوجة وأبوان؛ فللأم فيها ثلث ما يبقى. وقد تقدم بيانه. وفي مسائل الجد مع الإخوة إذا كان معهم ذو سهم وكان ثلث ما يبقى أحظى له. والسدس فرض سبعة: الأبوان والجد مع الولد وولد الابن، والجدة والجدات إذا اجتمعن، وبنات الابن مع بنت الصلب، والأخوات للأب مع الأخت الشقيقة، والواحد من ولد الأم ذكرا كان أو أنثى. وهذه الفرائض كلها مأخوذة من كتاب الله تعالى إلا فرض الجدة والجدات فإنه مأخوذ من السنة. والأسباب الموجبة لهذه الفروض بالميراث ثلاثة أشياء: نسب ثابت، ونكاح منعقد، وولاء عتاقة. وقد تجتمع الثلاثة الأشياء فيكون الرجل زوج المرأة ومولاها وابن عمها. وقد يجتمع فيه منها شيئان لا أكثر، مثل أن يكون زوجها ومولاها، أو زوجها وابن عمها؛ فيرث بوجهين ويكون له جميع المال إذا انفرد: نصفه بالزوجية ونصفه بالولاء أو بالنسب. ومثل أن تكون المرأة ابنة الرجل ومولاته، فيكون لها أيضا المال إذا انفردت: نصفه بالنسب ونصفه بالولاء.

 

ولا ميراث إلا بعد أداء الدين والوصية؛ فإذا مات المتوفى أخرج من تركته الحقوق المعينات، ثم ما يلزم من تكفينه وتقبيره، ثم الديون على مراتبها، ثم يخرج من الثلث الوصايا، وما كان في معناها على مراتبها أيضا، ويكون الباقي ميراثا بين الورثة. وجملتهم سبعة عشر. عشرة من الرجال: الابن وابن الابن وإن سفل، والأب وأب الأب وهو الجد وإن علا، والأخ وابن الأخ، والعم وابن العم، والزوج ومولى النعمة. ويرث من النساء سبع: البنت وبنت الابن وان سفلت، والأم والجدة وإن علت، والأخت والزوجة، ومولاة النعمة وهي المعتقة. وقد نظمهم بعض الفضلاء فقال:

والوارثون إن أردت جمعهم مع الإناث الوارثات معهم

عشرة من جملة الذكران وسبع أشخاص من النسوان

وهم، وقد حصرتهم في النظم الابن وابن الابن وابن العم

والأب منهم وهو في الترتيب والجد من قبل الأخ القريب

وابن الأخ الأدنى أجل والعم والزوج والسيد ثم الأم

وابنة الابن بعدها والبنت وزوجة وجدة وأخت

والمرأة المولاة أعني المعتقه خذها إليك عدة محققه

 

لما قال تعالى: « في أولادكم » يتناول كل ولد كان موجودا أو جنينا في بطن أمه، دنيا أو بعيدا، من الذكور أو الإناث ما عدا الكافر كما تقدم. قال بعضهم: ذلك حقيقة في الأذنين مجاز في الأبعدين. وقال بعضهم: هو حقيقة في الجميع؛ لأنه من التولد، غير أنهم يرثون على قدر القرب منه؛ قال الله تعالى: « يا بني آدم » [ الأعراف: 26 ] . وقال عليه السلام: ( أنا سيد ولد آدم ) قال: ( يا بني إسماعيل ارموا فإن أباكم كان راميا ) إلا أنه غلب عرف الاستعمال في إطلاق ذلك على الأعيان الأدنين على تلك الحقيقة؛ فإن كان في ولد الصلب ذكر لم يكن لولد الولد شيء، وهذا مما أجمع عليه أهل العلم. وإن لم يكن في ولد الصلب ذكر وكان في ولد الولد بدء بالبنات للصلب، فأعطين إلى مبلغ الثلثين، ثم أعطي الثلث الباقي لولد الولد إذا استووا في القعدد، أو كان الذكر أسفل ممن فوقه من البنات، للذكر مثل حظ الأنثيين. هذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي. وبه قال عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم؛ إلا ما يروى عن ابن مسعود أنه قال: ( إن كان الذكر من ولد الولد بإزاء الولد الأنثى رد عليها، وإن كان أسفل منها يرد عليها ) ؛ مراعيا في ذلك قوله تعالى: « فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك » [ النساء:11 ] فلم يجعل للبنات وإن كثرن إلا الثلثين.

قلت: هكذا ذكر ابن العربي هذا التفصيل عن ابن مسعود، والذي ذكره ابن المنذر والباجي عنه: ( أن ما فضل عن بنات الصلب لبني الابن دون بنات الابن ) ، ولم يفصلا. وحكاه ابن المنذر عن أبي ثور. ونحوه حكى أبو عمر، قال أبو عمر: وخالف في ذلك ابن مسعود فقال: وإذا استكمل البنات الثلثين فالباقي لبني الابن دون أخواتهم، ودون من فوقهم من بنات الابن، ومن تحتهم. وإلى هذا ذهب أبو ثور وداود بن علي. وروي مثله عن علقمة. وحجة من ذهب هذا المذهب حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر ) خرجه البخاري ومسلم وغيرهما. ومن حجة الجمهور قول الله عز وجل: « يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين » لأن ولد الولد ولد. ومن جهة النظر والقياس أن كل من يعصب من في درجته في جملة المال فواجب أن يعصبه في الفاضل من المال؛ كأولاد الصلب. فوجب بذلك أن يشرك ابن الابن أخته، كما يشرك الابن للصلب أخته. فإن احتج لأبي ثور وداود أن بنت الابن لما لم ترث شيئا من الفاضل بعد الثلثين منفردة لم يعصبها أخوها. فالجواب أنها إذا كان معها أخوها قويت به وصارت عصبة معه. وظاهر قوله تعالى: « يوصيكم الله في أولادكم » وهي من الولد.

 

قوله تعالى: « فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك » الآية. فرض الله تعالى للواحدة النصف، وفرض لما فوق الثنتين الثلثين، ولم يفرض للثنتين فرضا منصوصا في كتابه؛ فتكلم العلماء في الدليل الذي يوجب لهما الثلثين ما هو؟ فقيل: الإجماع وهو مردود؛ لأن الصحيح عن ابن عباس أنه أعطى البنتين النصف؛ لأن الله عز وجل قال: « فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك » [ النساء: 11 ] وهذا شرط وجزاء. قال: فلا أعطي البنتين الثلثين. وقيل: أعطيتا الثلثين بالقياس على الأختين؛ فإن الله سبحانه لما قال في آخر السورة: « وله أخت فلها نصف ما ترك » [ النساء: 176 ] وقال تعالى: « فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك » [ النساء: 176 ] فألحقت الابنتان بالأختين في الاشتراك في الثلثين، وألحقت الأخوات إذا زدن على اثنتين بالبنات في الاشتراك في الثلثين. واعترض هذا بأن ذلك منصوص عليه في الأخوات، والإجماع منعقد عليه فهو مسلم بذلك. وقيل: في الآية ما يدل على أن للبنتين الثلثين، وذلك أنه لما كان للواحدة مع أخيها الثلث إذا انفردت، علمنا أن للاثنتين الثلثين. احتج بهذه الحجة، وقال هذه المقالة إسماعيل القاضي وأبو العباس المبرد. قال النحاس: وهذا الاحتجاج عند أهل النظر غلط؛ لأن الاختلاف في البنتين وليس في الواحدة. فيقول مخالفه: إذا ترك بنتين وابنا فللبنتين النصف؛ فهذا دليل على أن هذا فرضهم. وقيل: « فوق » زائدة أي إن كن نساء اثنتين. كقوله تعالى: « فاضربوا فوق الأعناق » [ الأنفال: 12 ] أي الأعناق. ورد هذا القول النحاس وابن عطية وقالا: هو خطأ؛ لأن الظروف وجميع الأسماء لا يجوز في كلام العرب أن تزاد لغير معنى. قال ابن عطية: ولأن قوله تعالى: « فاضربوا فوق الأعناق » هو الفصيح، وليست فوق زائدة بل هي محكمة للمعنى؛ لأن ضربة العنق إنما يجب أن تكون فوق العظام في المفصل دون الدماغ. كما قال دريد بن الصمة: أخفض عن الدماغ وارفع عن العظم، فهكذا كنت أضرب أعنان الأبطال. وأقوى الاحتجاج في أن للبنتين الثلثين الحديث الصحيح المروي في سبب النزول. ولغة أهل الحجاز وبني أسد الثلث والربع إلى العشر. ولغة بني تميم وربيعة الثلث بإسكان اللام إلى العشر. ويقال: ثلث القوم أثلثهم، وثلثت الدراهم أثلثها إذا تممتها ثلاثة، وأثلثت هي؛ إلا أنهم قالوا في المائة والألف: أمأيتها وآلفتها وأمأت وآلفت.

 

قوله تعالى: « وإن كانت واحدة فلها النصف » قرأ نافع وأهل المدينة « واحدة » بالرفع على معنى وقعت وحدثت، فهي كانت التامة؛ كما قال الشاعر:

إذا كان الشتاء فأدفئوني فإن الشيخ يهرمه الشتاء

والباقون بالنصب. قال النحاس: وهذه قراءة حسنة. أي وإن كانت المتروكة أو المولودة « واحدة » مثل « فإن كن نساء » . فإذا كان مع بنات الصلب بنات ابن، وكان بنات الصلب اثنتين فصاعدا حجبن بنات الابن أن يرثن بالفرض؛ لأنه لا مدخل لبنات الابن أن يرثن بالفرض في غير الثلثين. فإن كانت بنت الصلب واحدة فإن ابنة الابن أو بنات الابن يرثن مع بنات الصلب تكملة الثلثين؛ لأنه فرض يرثه البنتان فما زاد. وبنات الابن يقمن مقام البنات عند عدمهن. وكذلك أبناء البنين يقومون مقام البنين في الحجب والميراث. فلما عدم من يستحق منهن السدس كان ذلك لبنت الابن، وهي أولى بالسدس من الأخت الشقيقة للمتوفى. على هذا جمهور الفقهاء من الصحابة والتابعين؛ إلا ما يروى عن أبي موسى وسليمان بن أبي ربيعة أن للبنت النصف، والنصف الثاني للأخت، ولا حق في ذلك لبنت الابن. وقد صح عن أبي موسى ما يقتضي أنه رجع عن ذلك؛ رواه البخاري: حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا أبو قيس سمعت هزيل بن شرحبيل يقول: سئل أبو موسى عن ابنة وابنة ابن وأخت. فقال: ( للابنة النصف، وللأخت النصف ) ؛ وأت ابن مسعود فإنه سيتابعني. فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى فقال: ( لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين ! أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم: للابنة النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت ) . فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود فقال: ( لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم ) . فإن كان مع بنت الابن أو بنات الابن ابن في درجتها أو أسفل منها عصبها، فكان النصف الثاني بينهما، للذكر مثل حظ الأنثيين بالغا ما بلغ - خلافا لابن مسعود على ما تقدم إذا استوفى بنات الصلب، أو بنت الصلب وبنات الابن الثلثين وكذلك يقول في الأخت لأب وأم، وأخوات وإخوة لأب: للأخت من الأب والأم النصف، والباقي للإخوة والأخوات، ما لم يصبهن من المقاسمة أكثر من السدس؛ فإن أصابهن أكثر من السدس أعطاهن السدس تكملة الثلثين، ولم يزدهن على ذلك. وبه قال أبو ثور.

 

إذا مات الرجل وترك زوجته حبلى فإن المال يوقف حتى يتبين ما تضع. وأجمع أهل العلم على أن الرجل إذا مات وزوجته حبلى أن الولد الذي في بطنها يرث ويورث إذا خرج حيا واستهل. وقالوا جميعا: إذا خرج ميتا لم يرث؛ فإن خرج حيا ولم يستهل فقالت طائفة: لا ميراث له وإن تحرك أو عطس ما لم يستهل. هذا قول مالك والقاسم بن محمد وابن سيرين والشعبي والزهري وقتادة. وقالت طائفة: إذا عرفت حياة المولود بتحريك أو صياح أو رضاع أو نفس فأحكامه أحكام الحي. هذا قول الشافعي وسفيان الثوري والأوزاعي. قال ابن المنذر: الذي قال الشافعي يحتمل النظر، غير أن الخبر يمنع منه وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخا من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه ) . وهذا خبر، ولا يقع على الخبر النسخ.

 

لما قال تعالى: « في أولادكم » تناول الخنثى وهو الذي له فرجان. وأجمع العلماء على أنه يورث من حيث يبول؛ إن بال من حيث يبول الرجل ورث ميراث رجل، وإن بال من حيث تبول المرأة ورث ميراث المرأة. قال ابن المنذر: ولا أحفظ عن مالك فيه شيئا، بل قد ذكر ابن القاسم أنه هاب أن يسأل مالكا عنه. فإن بال منهما معا فالمعتبر سبق البول؛ قاله سعيد بن المسيب وأحمد وإسحاق. وحكي ذلك عن أصحاب الرأي. وروى قتادة عن سعيد بن المسيب أنه قال في الخنثى: يورثه من حيث يبول؛ فإن بال منهما جميعا فمن أيهما سبق، فإن بال منهما معا فنصف ذكر ونصف أنثى. وقال يعقوب ومحمد: من أيهما خرج أكثر ورث؛ وحكي عن الأوزاعي. وقال النعمان: إذا خرج منهما معا فهو مشكل، ولا أنظر إلى أيهما أكثر. وروي عنه أنه وقف عنه إذا كان هكذا. وحكي عنه قال: إذا أشكل يعطى أقل النصيبين. وقال يحيى بن آدم: إذا بال من حيث يبول الرجل ويحيض كما تحيض المرأة ورث من حيث يبول؛ لأن في الأثر: يورث من مباله. وفي قول الشافعي: إذا خرج منهما جميعا ولم يسبق أحدهما الآخر يكون مشكلا، ويعطى من الميراث ميراث أنثى، وموقف الباقي بينه وبين سائر الورثة حتى يتبين أمره أو يصطلحوا؛ وبه قال أبو ثور. وقال الشعبي: يعطي نصف ميراث الذكر، ونصف ميراث الأنثى؛ وبه قال الأوزاعي، وهو مذهب مالك. قال ابن شاس في جواهره الثمينة، على مذهب مالك عالم المدينة: الخنثى يعتبر إذا كان ذا فرجين فرج المرأة وفرج الرجل بالمبال منهما؛ فيعطى الحكم لما بال منه فإن بال منهما اعتبرت الكثرة من أيهما، فإن تساوى الحال اعتبر السبق، فإن كان ذلك منهما معا اعتبر نبات اللحية أو كبر الثديين ومشابهتهما لثدي النساء، فإن اجتمع الأمران اعتبر الحال عند البلوغ، فإن وجد الحيض حكم به، وإن وجد الاحتلام وحده حكم به، فإن اجتمعا فهو مشكل. وكذلك لو لم يكن فرج، لا المختص بالرجال ولا المختص بالنساء، بل كان له مكان يبول منه فقط انتظر به البلوغ؛ فإن ظهرت علامة مميزة وإلا فهو مشكل. ثم حيث حكمنا بالإشكال فميراثه نصف نصيبي ذكر وأنثى.

قلت: هذا الذي ذكروه من العلامات في الخنثى المشكل. وقد أشرنا إلى علامة في « البقرة » وصدر هذه السورة تلحقه بأحد النوعين، وهي اعتبار الأضلاع؛ وهي مروية عن علي رضي الله عنه وبها حكم. وقد نظم بعض الفضلاء العلماء حكم الخنثى في أبيات كثيرة أولها:

وأنه معتبر الأحوال بالثدي واللحية والمبال

وفيها يقول:

وإن يكن قد استوت حالاته ولم تبن وأشكلت آياته

فحظه من مورث القريب ستة أثمان من النصيب

هذا الذي استحق للإشكال وفيه ما فيه من النكال

وواجب في الحق ألا ينكحا ما عاش في الدنيا وألا ينكحا

إذ لم يكن من خالص العيال ولا اغتدى من جملة الرجال

وكل ما ذكرته في النظم قد قاله سراة أهل العلم

وقد أبى الكلام فيه قوم منهم ولم يجنح إليه لوم

لفرط ما يبدو من الشناعة في ذكره وظاهر البشاعه

وقد مضى في شأنه الخفي حكم الإمام المرتضى علي

بأنه إن نقصت أضلاعه فللرجال ينبغي إتباعه

في الإرث والنكاح والإحرام في الحج والصلاة والأحكام

وإن تزد ضلعا على الذكران فإنها من جملة النسوان

لأن للنسوان ضلعا زائده على الرجال فاغتنمها فائدة

إذ نقصت من آدم فيما سبق لخلق حواء وهذا القول حق

عليه مما قاله الرسول صلى عليه ربنا دليل

قال أبو الوليد بن رشد: ولا يكون الخنثى المشكل زوجا ولا زوجة، ولا أبا ولا أما. وقد قيل: إنه قد وجد من له ولد من بطنه وولد من ظهره. قال ابن رشد: فإن صح ورث من ابنه لصلبه ميراث الأب كاملا، ومن ابنه لبطنه ميراث الأم كاملا. وهذا بعيد، والله أعلم. وفي سنن الدارقطني عن أبي هانئ عمر بن بشير قال: سئل عامر الشعبي عن مولود ليس بذكر ولا أنثى، ليس له ما للذكر ولا ما للأنثى، يخرج من سرته كهيئة البول والغائط؛ فسئل عامر عن ميراثه فقال عامر: نصف حظ الذكر ونصف حظ الأنثى.

 

قوله تعالى: « ولأبويه » أي لأبوي الميت. وهذا كناية عن غير مذكور، وجاز ذلك لدلالة الكلام عليه؛ كقوله: « حتى توارت بالحجاب » [ ص: 32 ] و « إنا أنزلناه في ليلة القدر » [ القدر:1 ] . و « السدس » رفع بالابتداء، وما قبله خبره: وكذلك « الثلث. والسدس » . وكذلك « نصف ما ترك » وكذلك « فلكم الربع » . وكذلك « لهن الربع » . و « فلهن الثمن » وكذلك « فلكل واحد منهما السدس » . والأبوان تثنية الأب والأبة. واستغني بلفظ الأم عن أن يقال لها أبة. ومن العرب من يجري المختلفين مجرى المتفقين؛ فيغلب أحدهما على الآخر لخفته أو شهرته. جاء ذلك مسموعا في أسماء صالحة؛ كقولهم للأب والأم: أبوان. وللشمس والقمر: القمران. ولليل والنهار: الملوان. وكذلك العمران لأبى بكر وعمر رضي الله عنهما. غلبوا القمر على الشمس لخفة التذكير، وغلبوا عمر على أبي بكر لأن أيام عمر امتدت فاشتهرت. ومن زعم أنه أراد بالعمرين عمر بن الخطاب وعمر بن عبدالعزيز فليس قوله بشيء؛ لأنهم نطقوا بالعمرين قبل أن يروا عمر بن عبدالعزيز؛ قال ابن الشجري. ولم يدخل في قوله تعالى: « ولأبويه » من علا من الآباء دخول من سفل من الأبناء في قوله « أولادكم » ؛ لأن قوله: « ولأبويه » لفظ مثنى لا يحتمل العموم والجمع أيضا؛ بخلاف قوله « أولادكم » . والدليل على صحة هذا قوله تعالى: « فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث » والأم العليا جدة ولا يفرض لها الثلث بإجماع، فخروج الجدة عن هذا اللفظ مقطوع به، وتناوله للجد مختلف فيه. فممن قال هو أب وحجب به الإخوة أبو بكر الصديق رضي الله عنه ولم يخالفه أحد من الصحابة في ذلك أيام حياته، واختلفوا في ذلك بعد وفاته؛ فممن قال إنه أب ابن عباس وعبدالله بن الزبير وعائشة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وأبو الدرداء وأبو هريرة، كلهم يجعلون الجد عند عدم الأب كالأب سواء، يحجبون به الإخوة كلهم ولا يرثون معه شيئا. وقال عطاء وطاوس والحسن وقتادة. وإليه ذهب أبو حنيفة وأبو ثور وإسحاق. والحجة لهم قوله تعالى: « ملة أبيكم إبراهيم » [ الحج: 78 ] « يا بني آدم » [ الأعراف: 26 ] ، وقوله عليه السلام: ( يا بني إسماعيل ارموا فإن أباكم كان راميا ) . وذهب علي بن أبي طالب وزيد وابن مسعود إلى توريث الجد مع الإخوة، ولا ينقص من الثلث مع الإخوة للأب والأم أو للأب إلا مع ذوي الفروض؛ فإنه لا ينقص معهم من السدس شيئا في قول زيد. وهو قول مالك والأوزاعي وأبي وسف ومحمد والشافعي. وكان علي يشرك بين الإخوة والجد إلى السدس ولا ينقصه من السدس شيئا مع ذوي الفرائض وغيرهم. وهو قول ابن أبي ليلى وطائفة. وأجمع العلماء على أن الجد لا يرث مع الأب وأن الابن يحجب أباه. وأنزلوا الجد بمنزلة الأب في الحجب والميراث إذا لم يترك المتوفى أبا أقرب منه في جميع المواضع. وذهب الجمهور إلى أن الجد يسقط بني الإخوة من الميراث؛ إلا ما روي عن الشعبي عن علي أنه أجرى بني الإخوة في المقاسمة مجرى الإخوة. والحجة لقول الجمهور أن هذا ذكر لا يعصب أخته فلا يقاسم الجد كالعم وابن العم. قال الشعبي: أول جد ورث في الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ مات ابن لعاصم بن عمر وترك أخوين فأراد عمر أن يستأثر بمال فاستشار عليا وزيدا في ذلك فمثلا له مثلا فقال: ( لولا أن رأيكما اجتمع ما رأيت أن يكون ابني ولا أكون أباه ) . روى الدارقطني عن زيد بن ثابت أن عمر بن الخطاب استأذن عليه يوما فأذن له، ورأسه في يد جارية له ترجله، فنزع رأسه؛ فقال له عمر: دعها ترجلك. فقال: يا أمير المؤمنين، لو أرسلت إلي جئتك. فقال عمر: إنما الحاجة لي، إني جئتك لتنظر في أمر الجد. فقال زيد: لا والله ! ما تقول فيه. فقال عمر: ليس هو بوحي حتى نزيد فيه وننقص، إنما هو شيء تراه، فإن رأيته وافقني تبعته، وإلا لم يكن عليك فيه شيء. فأبى زيد، فخرج مغضبا وقال: قد جئتك وأنا أظن ستفرغ من حاجتي. ثم أتاه مرة أخرى في الساعة التي أتاه في المرة الأولى، فلم يزل به حتى قال: فسأكتب لك فيه. فكتبه في قطعة قتب وضرب له مثلا. إنما مثله مثل شجرة تنبت على ساق واحدة، فخرج فيها غصن ثم خرج في غصن غصن آخر؛ فالساق يسقي الغصن، فإن قطعت الغصن الأول رجع الماء إلى الغصن، وإن قطعت الثاني رجع الماء إلى الأول. فأتى به فخطب الناس عمر ثم قرأ قطعة القتب عليهم ثم قال: إن زيد بن ثابت قد قال في الجد قولا وقد أمضيته. قال: وكان عمر أول جد كان؛ فأراد أن يأخذ المال كله، مال ابن ابنه دون إخوته، فقسمه بعد ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

 

وأما الجدة فأجمع أهل العلم على أن للجدة السدس إذا لم يكن للميت أم. وأجمعوا على أن الأم تحجب أمها وأم الأب. وأجمعوا على أن الأب لا يحجب أم الأم. واختلفوا في توريث الجدة وابنها حي؛ فقالت طائفة: ( لا ترث الجدة وابنها حي ) . روي عن زيد بن ثابت وعثمان وعلي. وبه قال مالك والثوري والأوزاعي وأبو ثور وأصحاب الرأي. وقالت طائفة: ( ترث الجدة مع ابنها ) . روي عن عمر وابن مسعود وعثمان وعلي وأبي موسى الأشعري، وقال به شريح وجابر بن زيد وعبيدالله بن الحسن وشريك وأحمد وإسحاق وابن المنذر. وقال: كما أن الجد لا يحجبه إلا الأب كذلك الجدة لا يحجبها إلا الأم. وروى الترمذي عن عبدالله قال في الجدة مع ابنها: ( إنها أول جدة أطعمها رسول الله صلى الله عليه وسلم سدسا مع ابنها وابنها حي ) . والله أعلم.

 

واختلف العلماء في توريث الجدات؛ فقال مالك: لا يرث إلا جدتان، أم أم وأم أب وأمهاتهما. وكذلك روى أبو ثور عن الشافعي، وقال به جماعة من التابعين. فإن انفردت إحداهما فالسدس لها، وإن اجتمعتا وقرابتهما سواء فالسدس بينهما. وكذلك إن كثرن إذا تساوين في القعدد؛ وهذا كله مجمع عليه. فإن قربت التي من قبل الأم كان لها السدس دون غيرها، وإن قربت التي من قبل الأب كان بينها وبين التي من قبل الأم وإن بعدت. ولا ترث إلا جدة واحدة من قبل الأم. ولا ترث الجدة أم أب الأم على حال. هذا مذهب زيد بن ثابت، وهو أثبت ما روي عنه في ذلك. وهو قول مالك وأهل المدينة. وقيل: إن الجدات أمهات؛ فإذا اجتمعن فالسدس لأقربهن؛ كما أن الآباء إذا اجتمعوا كان أحدهم بالميراث أقربهم؛ فكذلك البنون والإخوة، وبنو الإخوة وبنو العم إذا اجتمعوا كان أحقهم بالميراث أقربهم؛ فكذلك الأمهات. قال ابن المنذر: وهذا أصح، وبه أقول. وكان الأوزاعي يورث ثلاث جدات: واحدة من قبل الأم واثنتين من قبل الأب. وهو قول أحمد بن حنبل؛ رواه الدارقطني عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا وروي عن زيد بن ثابت عكس هذا؛ أنه كان يورث ثلاث جدات: اثنتين من جهة الأم وواحدة من قبل الأب. وقول علي رضي الله عنه كقول زيد هذا. وكانا يجعلان السدس لأقربهما، من قبل الأم كانت أو من قبل الأب. ولا يشركها فيه من ليس في قعددها، وبه يقول الثوري وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور. وأما عبدالله بن مسعود وابن عباس فكانا يورثان الجدات الأربع؛ وهو قول الحسن البصري ومحمد بن سيرين وجابر بن زيد. قال ابن المنذر: وكل جدة إذا نسبت إلى المتوفى وقع في نسبها أب بين أمين فليست ترث، في قول كل من يحفظ عنه من أهل العلم.

 

قوله تعالى: « لكل واحد منهما السدس » فرض تعالى لكل واحد من الأبوين مع الولد السدس؛ وأبهم الولد فكان الذكر والأنثى فيه سواء. فإن مات رجل وترك ابنا وأبوين فلأبويه لكل واحد منهما السدس، وما بقي فللابن. فإن ترك ابنة وأبوين فللابنة النصف وللأبوين السدسان، وما بقي فلأقرب عصبة وهو الأب؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر ) . فاجتمع للأب الاستحقاق بجهتين: التعصيب والفرض. « فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث » فأخبر جل ذكره أن الأبوين إذا ورثاه أن للأم الثلث. ودل بقوله: « وورثه أبواه » وإخباره أن للأم الثلث، أن الباقي وهو الثلثان للأب. وهذا كما تقول لرجلين: هذا المال بينكما، ثم تقول لأحدهما: أنت يا فلان لك منه ثلث؛ فإنك حددت للآخر منه الثلثين بنص كلامك؛ ولأن قوة الكلام في قوله: « وورثه أبواه » يدل على أنهما منفردان عن جميع أهل السهام من ولد وغيره، وليس في هذا اختلاف.

قلت: وعلى هذا يكون الثلثان فرضا للأب مسمى لا يكون عصبة، وذكر ابن العربي أن المعنى في تفضيل الأب بالثلث عند عدم الولد الذكورية والنصرة، ووجوب المؤنة عليه، وثبتت الأم على سهم لأجل القرابة.

قلت: وهذا منتقض؛ فإن ذلك موجود مع حياته فلم حرم السدس. والذي يظهر أنه إنما حرم السدس في حياته إرفاقا بالصبي وحياطة على ماله؛ إذ قد يكون إخراج جزء من مال إجحافا به. أو أن ذلك تعبد، وهو أولى ما يقال. والله الموفق.

إن قيل: ما فائدة زيادة الواو في قوله: « وورثه أبواه » ، وكان ظاهر الكلام أن يقول: فإن لم يكن له ولد ورثه أبواه. قيل له: أراد بزيادتها الإخبار ليبين أنه أمر مستقر ثابت، فيخبر عن ثبوته واستقراره، فيكون حال الوالدين عند انفرادهما كحال الولدين، للذكر مثل حظ الأنثيين. ويجتمع للأب بذلك فرضان السهم والتعصيب إذ يحجب الإخوة كالولد. وهذا عدل في الحكم، ظاهر في الحكمة. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « فلأُمه الثلث » قرأ أهل الكوفة « فلإِمه الثلث » وهى لغة حكاها سيبويه. قال الكسائي: هي لغة كثير من هوازن وهذيل؛ ولأن اللام لما كانت مكسورة وكانت متصلة بالحرف كرهوا ضمة بعد كسرة، فأبدلوا من الضمة كسرة؛ لأنه ليس في الكلام فعل. ومن ضم جاء به على الأصل؛ ولأن اللام تنفصل لأنها داخلة على الاسم. قال جميعه النحاس.

 

قوله تعالى: « فإن كان له إخوة فلأمه السدس » الإخوة يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس، وهذا هو حجب النقصان، وسواء كان الإخوة أشقاء أو للأب أو للأم، ولا سهم لهم. وروي عن ابن عباس أنه كان يقول: ( السدس الذي حجب الإخوة الأم عنه هو للإخوة ) . وروي عنه مثل قول الناس ( إنه للأب ) . قال قتادة: وإنما أخذه الأب دونهم؛ لأنه يمونهم ويلي نكاحهم والنفقة عليهم. وأجمع أهل العلم على أن أخوين فصاعدا ذكرانا كانوا أو إناثا من أب وأم، أو من أب أو من أم يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس؛ إلا ما روي عن ابن عباس أن ( الاثنين من الإخوة في حكم الواحد، ولا يحجب الأم أقل من ثلاثة ) . وقد صار بعض الناس إلى أن الأخوات لا يحجبن الأم من الثلث إلى السدس؛ لأن كتاب الله في الإخوة وليست قوة ميراث الإناث مثل قوة ميراث الذكور حتى تقتضي العبرة الإلحاق. قال الكيا الطبري: ومقتضى أقوالهم ألا يدخلن مع الإخوة؛ فإن لفظ الإخوة بمطلقه لا يتناول الأخوات، كما أن لفظ البنين لا يتناول البنات. وذلك يقتضي ألا تحجب الأم بالأخ الواحد والأخت من الثلث إلى السدس؛ وهو خلاف إجماع المسلمين. وإذا كن مرادات بالآية مع الإخوة كن مرادات على الانفراد. واستدل الجميع بأن أقل الجمع اثنان؛ لأن التثنية جمع شيء إلى مثله، فالمعنى يقتضي أنها جمع. وقال عليه السلام: ( الاثنان فما فوقهما جماعة ) . وحكي عن سيبويه أنه قال: سألت الخليل عن قوله « ما أحسن وجوههما » ؟ فقال: الاثنان جماعة. وقد صح قول الشاعر:

ومهمهين قذفين مرتين ظهراهما مثل ظهور الترسين

وأنشد الأخفش:

لما أتتنا المرأتان بالخبر فقلن إن الأمر فينا قد شهر

وقال آخر:

يحيى بالسلام غني قوم ويبخل بالسلام على الفقير

أليس الموت بينهما سواء إذا ماتوا وصاروا في القبور

ولما وقع الكلام في ذلك بين عثمان وابن عباس قال له عثمان: ( إن قومك حجبوها - يعني قريشا - وهم أهل الفصاحة والبلاغة ) . وممن قال: ( إن أقل الجمع ثلاثة ) - وإن لم يقل به هنا - ابن مسعود والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « من بعد وصية يوصي بها أو دين » قرأ ابن كثير ( أبو عمرو وابن عامر وعاصم « يوصى » بفتح الصاد. الباقون بالكسر، وكذلك الآخر. واختلفت الرواية فيهما عن عاصم. والكسر اختيار أبي عبيد وأبي حاتم؛ لأنه جرى ذكر الميت قبل هذا. قال الأخفش: وتصديق ذلك قوله تعالى: « يوصين » و « توصون » .

 

إن قيل: ما الحكمة في تقديم ذكر الوصية على ذكر الدين، والدين مقدم عليها بإجماع. وقد روى الترمذي عن الحارث عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية، وأنتم تقرون الوصية قبل الدين. قال: والعمل على هذا عند عامة أهل العلم أنه يبدأ بالدين قبل الوصية. وروى الدارقطني من حديث عاصم بن ضمرة عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الدين قبل الوصية وليس لوارث وصية ) . رواه عنهما أبو إسحاق الهمداني. فالجواب من أوجه خمسة: الأول: إنما قصد تقديم هذين الفصلين على الميراث ولم يقصد ترتيبهما في أنفسهما؛ فلذلك تقدمت الوصية في اللفظ. جواب ثان: لما كانت الوصية أقل لزوما من الدين قدمها اهتماما بها؛ كما قال تعالى: « لا يغادر صغيرة ولا كبيرة » [ الكهف: 49 ] . جواب ثالث: قدمها لكثرة وجودها ووقوعها؛ فصارت كاللازم لكل ميت مع نص الشرع عليها، وأخر الدين لشذوذه، فإنه قد يكون وقد لا يكون. فبدأ بذكر الذي لا بد منه، وعطف بالذي قد يقع أحيانا. ويقوى هذا: العطف بأو، ولو كان الدين راتبا لكان العطف بالواو. جواب رابع: إنما قدمت الوصية إذ هي حظ مساكين وضعفاء، وأخر الدين إذ هو حظ غريم يطلبه بقوة وسلطان وله فيه مقال. جواب خامس: لما كانت الوصية ينشئها من قبل نفسه قدمها، والدين ثابت مؤدى ذكره أو لم يذكره.

 

ولما ثبت هذا تعلق الشافعي بذلك في تقديم دين الزكاة والحج على الميراث فقال: إن الرجل إذا فرط في زكاته وجب أخذ ذلك من رأس ماله. وهذا ظاهر ببادئ الرأي؛ لأنه حق من الحقوق فيلزم أداؤه عنه بعد الموت كحقوق الآدميين لا سيما والزكاة مصرفها إلى الآدمي. وقال أبو حنيفة ومالك: إن أوصى بها أديت من ثلثه، وإن سكت عنها لم يخرج عنه شيء. قالوا: لأن ذلك موجب لترك الورثة فقراء؛ إلا أنه قد يتعمد ترك الكل حتى إذا مات استغرق ذلك جميع ماله فلا يبقى للورثة حق.

 

قوله تعالى: « آباؤكم وأبناؤكم » رفع بالابتداء والخبر مضمر، تقديره: هم المقسوم عليهم وهم المعطون. « لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا » قيل: في الدنيا بالدعاء والصدقة؛ كما جاء في الأثر ( إن الرجل ليرفع بدعاء ولده من بعده ) . وفي الحديث الصحيح ( إذا مات الرجل انقطع عمله إلا من ثلاث - فذكر - أو ولد صالح يدعو له ) . وقيل: ( في الآخرة؛ فقد يكون الابن أفضل فيشفع في أبيه ) ؛ عن ابن عباس والحسن. وقال بعض المفسرين: إن الابن إذا كان أرفع من درجة أبيه في الآخرة سأل الله فرفع إليه أباه، وكذلك الأب إذا كان أرفع من ابنه؛ وسيأتي في « الطور » بيانه. وقيل: في الدنيا والآخرة؛ قال ابن زيد. واللفظ يقتضي ذلك.

 

قوله تعالى: « فريضة » نصب على المصدر المؤكد، إذ معنى « يوصيكم » يفرض عليكم. وقال مكي وغيره: هي حال مؤكدة؛ والعامل « يوصيكم » وذلك ضعيف. والآية متعلقة بما تقدم؛ وذلك أنه عرف العباد أنهم كفوا مؤنة الاجتهاد في إيصاء القرابة مع اجتماعهم في القرابة، أي أن الآباء والأبناء ينفع بعضهم بعضا في الدنيا بالتناصر والمواساة، وفي الآخرة بالشفاعة. وإذا تقرر ذلك في الآباء والأبناء تقرر ذلك في جميع الأقارب؛ فلو كان القسمة موكولة إلى الاجتهاد لوجوب النظر في غنى كل واحد منهم. وعند ذلك يخرج الأمر عن الضبط إذ قد يختلف الأمر، فبين الرب تبارك وتعالى أن الأصلح للعبد ألا يوكل إلى اجتهاده في مقادير المواريث، بل بين المقادير شرعا. « إن الله كان عليما » أي بقسمة المواريث « حكيما » حكم في قسمتها وبينها لأهلها. وقال الزجاج: « عليما » أي بالأشياء قبل خلقها « حكيما » فيما يقدره ويمضيه منها. وقال بعضهم: إن الله سبحانه لم يزل ولا يزال، والخبر منه بالماضي كالخبر منه بالاستقبال. ومذهب سيبويه أنهم رأوا حكمة وعلما فقيل لهم: إن الله عز وجل كان كذلك لم يزل على ما رأيتم.

 

قوله تعالى: « ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين » الخطاب للرجال. والولد هنا بنو الصلب وبنو بنيهم وإن سفلوا، ذكرانا وإناثا واحدا فما زاد بإجماع. وأجمع العلماء على أن للزوج النصف مع عدم الولد أو ولد الولد، وله مع وجوده الربع. وترث المرأة من زوجها الربع مع فقد الولد، والثمن مع وجوده. وأجمعوا على أن حكم الواحدة من الأزواج والثنتين والثلاث والأربع في الربع إن لم يكن له ولد، وفي الثمن إن كان له ولد واحد، وأنهن شركاء في ذلك؛ لأن الله عز وجل لم يفرق بين حكم الواحدة منهن وبين حكم الجميع، كما فرق بين حكم الواحدة من البنات والواحدة من الأخوات وبين حكم الجميع منهن.

 

قوله تعالى: « وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة » الكلالة مصدر؛ من تكلله النسب أي أحاط به. وبه سمي الإكليل، وهي منزلة من منازل القمر لإحاطتها بالقمر إذا احتل بها. ومنه الإكليل أيضا وهو التاج والعصابة المحيطة بالرأس. ( فإذا مات الرجل وليس له ولد ولا والد فورثته كلالة ) . هذا قول أبي بكر الصديق وعمر وعلي وجمهور أهل العلم. وذكر يحيى بن آدم عن شريك وزهير وأبي الأحوص عن أبي إسحاق عن سليمان بن عبد قال: ما رأيتهم إلا وقد تواطؤوا وأجمعوا على أن الكلالة من مات ليس له ولد ولا والد. وهكذا قال صاحب كتاب العين وأبو منصور اللغوي وابن عرفة والقتبي وأبو عبيد وابن الأنباري. فالأب والابن طرفان للرجل؛ فإذا ذهبا تكلله النسب. ومنه قيل: روضة مكللة إذا حفت بالنور. وأنشدوا:

مسكنه روضة مكللة عم بها الأيهقان والذرق

يعني نبتين. وقال امرؤ القيس:

أصاح ترى برقا أريك وميضه كلمع اليدين في حبي مكلل

فسموا القرابة كلالة؛ لأنهم أطافوا بالميت من جوانبه وليسوا منه ولا هو منهم، وإحاطتهم به أنهم ينتسبون معه. كما قال أعرابي: مالي كثير ويرثني كلالة متراخ نسبهم. وقال الفرزدق:

ورثتم قناة المجد لا عن كلالة عن ابني مناف عبد شمس وهاشم

وقال آخر:

وإن أبا المرء أحمى له ومولى الكلالة لا يغضب

وقيل: إن الكلالة مأخوذة من الكلال وهو الإعياء؛ فكأنه يصير الميراث إلى الوارث عن بعد وإعياء. قال الأعشى:

فآليت لا أرثي لها من كلالة ولا من وجى حتى تلاقي محمدا

وذكر أبو حاتم والأثرم عن أبى عبيدة قال: الكلالة كل من لم يرثه أب أو ابن أو أخ فهو عند العرب كلالة. قال أبو عمر: ذكر أبي عبيدة الأخ هنا مع الأب والابن في شرط الكلالة غلط لا وجه له، ولم يذكره في شرط الكلالة غيره. وروي عن عمر بن الخطاب أن ( الكلالة من لا ولد له خاصة ) ؛ وروي عن أبي بكر ثم رجعا عنه. وقال ابن زيد: الكلالة الحي والميت جميعا. وعن عطاء: الكلالة المال. قال ابن العربي: وهذا قول طريف لا وجه له.

قلت: له وجه متبين بالإعراب آنفا. وروي عن ابن الأعرابي أن الكلالة بنو العم الأباعد. وعن السدي أن الكلالة الميت. وعنه مثل قول الجمهور. وهذه الأقوال تتبين وجوهها بالإعراب؛ فقرأ بعض الكوفيين « يورث كلالة » بكسر الراء وتشديدها. وقرأ الحسن وأيوب « يورث » بكسر الراء وتخفيفها، على اختلاف عنهما. وعلى هاتين القراءتين لا تكون الكلالة إلا الورثة أو المال. كذلك حكى أصحاب المعاني؛ فالأول من ورث، والثاني من أورث. و « كلالة » مفعوله و « كان » بمعنى وقع. ومن قرأ « يورث » بفتح الراء احتمل أن تكون الكلالة المال، والتقدير: يورث وراثة كلالة فتكون نعتا لمصدر محذوف. ويجوز أن تكون الكلالة اسما للورثة وهي خبر كان؛ فالتقدير: ذا ورثة. ويجوز أن تكون تامة بمعنى وقع، و « يورث » نعت لرجل، و « رجل » رفع بكان، و « كلالة » نصب على التفسير أو الحال؛ على أن الكلالة هو الميت، التقدير: وإن كان رجل يورث متكلل النسب إلى الميت.

 

ذكر الله عز وجل في كتابه الكلالة في موضعين: آخر السورة وهنا، ولم يذكر في الموضعين وارثا غير الإخوة. فأما هذه الآية فأجمع العلماء على أن الإخوة فيها عني بها الإخوة للأم؛ لقوله تعالى: « فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث » . وكان سعد بن أبي وقاص يقرأ « وله أخ أو أخت من أمه » . ولا خلاف بين أهل العلم أن الإخوة للأب والأم أو الأب ليس ميراثهم كهذا؛ فدل إجماعهم على أن الإخوة المذكورين في آخر السورة هم إخوة المتوفى لأبيه وأمه أو لأبيه؛ لقوله عز وجل « وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين » [ النساء: 176 ] . ولم يختلفوا أن ميراث الإخوة للأم ليس هكذا؛ فدلت الآيتان أن الإخوة كلهم جميعا كلالة. وقال الشعبي: ( الكلالة ما كان سوى الولد والوالد من الورثة إخوة أو غيرهم من العصبة ) . كذلك قال علي وابن مسعود وزيد وابن عباس، وهو القول الأول الذي بدأنا به. قال الطبري: والصواب أن الكلالة هم الذين يرثون الميت من عدا ولده ووالده، لصحة خبر جابر: فقلت يا رسول الله إنما يرثني كلالة، أفأوصي بمالي كله؟ قال: ( لا ) .

 

قال أهل اللغة: يقال رجل كلالة وامرأة كلالة. ولا يثنى ولا يجمع؛ لأنه مصدر كالوكالة والدلالة والسماحة والشجاعة. وأعاد ضمير مفرد في قوله: « وله أخ » ولم يقل لهما. ومضى ذكر الرجل والمرأة على عادة العرب إذا ذكرت اسمين ثم أخبرت عنهما وكانا في الحكم سواء ربما أضافت إلى أحدهما وربما أضافت إليهما جميعا؛ تقول: من كان عنده غلام وجارية فليحسن إليه وإليها وإليهما وإليهم؛ قال الله تعالى: « واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة » [ البقرة: 45 ] . وقال تعالى: « إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما » [ النساء: 135 ] ويجوز أولى بهم؛ عن الفراء وغيره. ويقال في امرأة: مرأة، وهو الأصل. وأخ أصله أخو، يدل عليه أخوان؛ فحذف منه وغير على غير قياس. قال الفراء ضم أول أخت، لأن المحذوف منها واو، وكسر أول بنت؛ لأن المحذوف منها ياء. وهذا الحذف والتعليل على غير قياس أيضا.

 

قوله تعالى: « فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث » هذا التشريك يقتضي التسوية بين الذكر والأنثى وإن كثروا. وإذا كانوا يأخذون بالأم فلا يفضل الذكر على الأنثى. وهذا إجماع من العلماء، وليس في الفرائض موضع يكون فيه الذكر والأنثى سواء إلا في ميراث الإخوة للأم. فإذا ماتت امرأة وتركت زوجها وأمها وأخاها لأمها فللزوج النصف وللأم الثلث وللأخ من الأم السدس. فإن تركت أخوين وأختين - والمسألة بحالها - فللزوج النصف وللأم السدس وللأخوين والأختين الثلث، وقد تمت الفريضة. وعلى هذا عامة الصحابة؛ لأنهم حجبوا الأم بالأخ والأخت من الثلث إلى السدس. وأما ابن عباس فإنه لم ير العول ولو جعل للأم الثلث لعالت المسألة، وهو لا يرى ذلك. والعول مذكور في غير هذا الموضع، ليس هذا موضعه. فإن تركت زوجها وإخوة لأم وأخا لأب وأم؛ فللزوج النصف، ولإخوتها لأمها الثلث، وما بقي فلأخيها لأمها وأبيها. وهكذا من له فرض مسمى أعطيه، والباقي للعصبة إن فضل. فإن تركت ستة إخوة مفترقين فهذه الحمارية، وتسمى أيضا المشتركة. قال قوم: ( للإخوة للأم الثلث، وللزوج النصف، وللأم السدس ) ، وسقط الأخ والأخت من الأب والأم، والأخ والأخت من الأب. روي عن علي وابن مسعود وأبي موسى والشعبي وشريك ويحيى بن آدم، وبه قال أحمد بن حنبل واختاره ابن المنذر؛ لأن الزوج والأم والأخوين للأم أصحاب فرائض مسماة ولم يبق للعصبة شيء. وقال قوم: ( الأم واحدة، وهب أن أباهم كان حمارا ! وأشركوا بينهم في الثلث ) ؛ ولهذا سميت المشتركة والحمارية. روي هذا عن عمر وعثمان وابن مسعود أيضا وزيد بن ثابت ومسروق وشريح، وبه قال مالك والشافعي وإسحاق. ولا تستقيم هذه المسألة أن لو كان الميت رجلا. فهذه جملة من علم الفرائض تضمنتها الآية، والله الموفق للهداية.

وكانت الوراثة في الجاهلية بالرجولية والقوة، وكانوا يورثون الرجال دون النساء؛ فأبطل الله عز وجل ذلك بقوله: « للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب » [ النساء: 32 ] كما تقدم. وكانت الوراثة أيضا في الجاهلية وبدء الإسلام بالمحالفة، قال الله عز وجل: « والذين عقدت أيمانكم » [ النساء: 33 ] على ما يأتي بيانه. ثم صارت بعد المحالفة بالهجرة؛ قال الله تعالى: « والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا » [ الأنفال: 72 ] وسيأتي. وهناك يأتي القول في ذوي الأرحام وميراثهم، إن شاء الله تعالى. وسيأتي في سورة « النور » ميراث ابن الملاعنة وولد الزنا والمكاتب بحول الله تعالى. والجمهور من العلماء على أن الأسير المعلوم حياته أن ميراثه ثابت؛ لأنه داخل في جملة المسلمين الذين أحكام الإسلام جارية عليهم. وقد روي عن سعيد بن المسيب أنه قال في الأسير في يد العدو: لا يرث. وقد تقدم ميراث المرتد في سورة « البقرة » والحمد لله.

 

قوله تعالى: « غير مضار » نصب على الحال والعامل « يوصي » . أي يوصي بها غير مضار، أي غير مدخل الضرر على الورثة. أي لا ينبغي أن يوصي بدين ليس عليه ليضر بالورثة؛ ولا يقر بدين. فالإضرار راجع إلى الوصية والدين؛ أما رجوعه إلى الوصية فبأن يزيد على الثلث أو يوصي لوارث، فإن زاد فإنه يرد، إلا أن يجيزه الورثة؛ لأن المنع لحقوقهم لا لحق الله تعالى. وإن أوصى لوارث فإنه يرجع ميراثا. وأجمع العلماء على أن الوصية للوارث لا تجوز. وقد تقدم هذا في « البقرة » . وأما رجوعه إلى الدين فبالإقرار في حالة لا يجوز له فيها؛ كما لو أقر في مرضه لوارثه أو لصديق ملاطف؛ فإن ذلك لا يجوز عندنا. وروي عن الحسن أنه قرأ « غير مضار وصية من الله » على الإضافة. قال النحاس: وقد زعم بعض أهل اللغة أن هذا لحن؛ لأن اسم الفاعل لا يضاف إلى المصدر. والقراءة حسنة على حذف، والمعنى: غير مضار ذي وصية، أي غير مضار بها ورثته في ميراثهم. وأجمع العلماء على أن إمراره بدين لغير وارث حال المرض جائز إذا لم يكن عليه دين في الصحة.

 

فإن كان عليه دين في الصحة ببينة وأقر لأجنبي بدين؛ فقالت طائفة: يبدأ بدين الصحة؛ هذا قول النخعي والكوفيين. قالوا: فإذا استوفاه صاحبه فأصحاب الإقرار في المرض يتحاصون. وقالت طائفة: هما سواء إذا كان لغير وارث. هذا قول الشافعي وأبي ثور وأبي عبيد، وذكر أبو عبيد إنه قول أهل المدينة ورواه عن الحسن.

 

قد مضى في « البقرة » الوعيد في الإضرار في الوصية ووجوهها. وقد روى أبو داود من حديث شهر بن حوشب ( وهو مطعون فيه ) عن أبى هريرة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الرجل أو المرأة ليعمل بطاعة الله ستين سنه ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار ) . قال: وقرأ علي أبو هريرة من ههنا « من بعد وصية يوصي بها أو دين غير مضار » حتى بلغ « ذلك الفوز العظيم » . وقال ابن عباس: ( الإضرار في الوصية من الكبائر ) ؛ ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن مشهور مذهب مالك وابن القاسم أن الموصي لا يعد فعله مضارة في ثلثه؛ لأن ذلك حقه فله التصرف فيه كيف شاء. وفي المذهب قوله: أن ذلك مضارة ترد. وبالله التوفيق.

 

قوله تعالى: « وصية » نصب على المصدر في موضع الحال والعامل « يوصيكم » ويصح أن يعمل فيها « مضار » والمعنى أن يقع الضرر بها أو بسببها فأوقع عليها تجوزا، قال ابن عطية؛ وذكر أن الحسن بن أبي الحسن قرأ « غير مضار وصية » بالإضافة؛ كما تقول: شجاع حرب. وبضة المتجرد؛ في قول طرفة بن العبد. والمعنى على ما ذكرناه من التجوز في اللفظ لصحة المعنى. « والله عليم حليم » يعني عليم بأهل الميراث حليم على أهل الجهل منكم. وقرأ بعض المتقدمين « والله عليم حكيم » [ النساء: 26 ] يعني حكيم بقسمة الميراث والوصية.

 

قوله تعالى: « تلك حدود الله » و « تلك » بمعنى هذه، أي هذه أحكام الله قد بينها لكم لتعرفوها وتعملوا بها. « ومن يطع الله ورسوله » في قسمة المواريث فيقر بها ويعمل بها كما أمره الله تعالى « يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار » جملة في موضع نصب على النعت لجنات. وقوله « ومن يعص الله ورسوله » يريد في قسمة المواريث فلم يقسمها ولم يعمل بها « ويتعد حدوده » أي يخالف أمره « يدخله نارا خالدا فيها » . والعصيان إن أريد به الكفر فالخلود على بابه، وإن أريد به الكبائر وتجاوز أوامر الله تعالى فالخلود مستعار لمدة ما. كما تقول: خلد الله ملكه. وقال زهير:

ولا خالدا إلا الجبال الرواسيا

وقد تقدم هذا المعنى في غير موضع. وقرأ نافع وابن عامر « ندخله » بالنون في الموضعين، على معنى الإضافة إلى نفسه سبحانه. الباقون بالياء كلاهما؛ لأنه سبق ذكر اسم الله تعالى أي يدخله الله.

 

الآية: 15 ( واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا )

 

لما ذكر الله تعالى في هذه السورة الإحسان إلى النساء وإيصال صدقاتهن إليهن، وانجر الأمر إلى ذكر ميراثهن مع مواريث الرجال، ذكر أيضا التغليظ عليهن فيما يأتين به من الفاحشة، لئلا تتوهم المرأة أنه يسوغ لها ترك التعفف.

 

قوله تعالى: « واللاتي » « اللاتي » جمع التي، وهو اسم مبهم للمؤنث، وهي معرفة ولا يجوز نزع الألف واللام منه للتنكير، ولا يتم إلا بصلته؛ وفيه ثلاث لغات كما تقدم. ويجمع أيضا « اللات » بحذف الياء وإبقاء الكسرة؛ و « اللائي » بالهمزة وإثبات الياء، و « اللاء » بكسر الهمزة وحذف الياء، و « اللا » بحذف الهمزة. فإن جمعت الجمع قلت في اللاتي: اللواتي، وفي اللاء: اللوائي. وقد روي عنهم « اللوات » بحذف الياء وإبقاء الكسرة؛ قال ابن الشجري. قال الجوهري: أنشد أبو عبيد:

من اللواتي والتي واللات زعمن أن قد كبرت لدات

واللوا بإسقاط التاء. وتصغير التي اللتيا بالفتح والتشديد؛ قال الراجز:

بعد اللتيا واللتيا والتي

وبعض الشعراء أدخل على « التي » حرف النداء، وحروف النداء لا تدخل على ما فيه الألف واللام إلا في قولنا: يا الله وحده؛ فكأنه شبهها به من حيث كانت الألف واللام غير مفارقتين لها. وقال:

من أجلك يالتي تيمت قلبي وأنت بخيلة بالود عني

ويقال: وقع في اللتيا والتي؛ وهما اسمان من أسماء الداهية.

 

قوله تعالى: « يأتين الفاحشة » الفاحشة في هذا الموضع الزنا، والفاحشة الفعلة القبيحة، وهي مصدر كالعاقبة والعافية. وقرأ ابن مسعود « بالفاحشة » بباء الجر.

قوله تعالى: « من نسائكم » إضافة في معنى الإسلام وبيان حال المؤمنات؛ كما قال « واستشهدوا شهيدين من رجالكم » [ البقرة: 282 ] لأن الكافرة قد تكون من نساء المسلمين بنسب ولا يلحقها هذا الحكم.

 

قوله تعالى: « فاستشهدوا عليهن أربعة منكم » أي من المسلمين، فجعل الله الشهادة على الزنا خاصة أربعة تغليظا على المدعي وسترا على العباد. وتعديل الشهود بالأربعة في الزنا حكم ثابت في التوراة والإنجيل والقرآن؛ قال الله تعالى: « والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة » [ النور: 4 ] وقال هنا: « فاستشهدوا عليهن أربعة منكم » . وروى أبو داود عن جابر بن عبدالله قال: جاءت اليهود برجل وامرأة منهم قد زنيا فقال: النبي صلى الله عليه وسلم ( ائتوني بأعلم رجلين منكم ) فأتوه بابني صوريا فنشدهما: ( كيف تجدان أمر هذين في التوراة؟ ) قالا: نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما. قال: ( فما يمنعكما أن ترجموهما ) ؛ قالا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل؛ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود، فجاؤوا فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما. وقال قوم: إنما كان الشهود في الزنا أربعة ليترتب شاهدان على كل واحد من الزانيين كسائر الحقوق؛ إذ هو حق يؤخذ من كل واحد منهما؛ وهذا ضعيف؛ فإن اليمين تدخل في الأموال واللوث في القسامة ولا مدخل لواحد منهما هنا.

ولا بد أن يكون الشهود ذكورا؛ لقوله: « منكم » ولا خلاف فيه بين الأمة. وأن يكونوا عدولا؛ لأن الله تعالى شرط العدالة في البيوع والرجعة، وهذا أعظم، وهو بذلك أولى. وهذا من حمل المطلق على المقيد بالدليل، على ما هو مذكور في أصول الفقه. ولا يكونون ذمة، وإن كان الحكم على ذمية، وسيأتي ذلك في « المائدة » وتعلق أبو حنيفة بقوله: « أربعة منكم » في أن الزوج إذا كان أحد الشهود في القذف لم يلاعن. وسيأتي بيانه في « النور » إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت » هذه أول عقوبات الزناة؛ وكان هذا في ابتداء الإسلام؛ قال عبادة بن الصامت والحسن ومجاهد حتى نسخ بالأذى الذي بعده، ثم نسخ ذلك بآية « النور » وبالرجم في الثيب. وقالت فرقة: بل كان الإيذاء هو الأول ثم نسخ بالإمساك، ولكن التلاوة أخرت وقدمت؛ ذكره ابن فورك، وهذا الإمساك والحبس في البيوت كان في صدر الإسلام قبل أن يكثر الجناة، فلما كثروا وخشي قوتهم اتخذ لهم سجن؛ قاله ابن العربي.

 

واختلف العلماء هل كان هذا السجن حدا أو وعدا بالحد على قولين: أحدهما: أنه توعد بالحد، والثاني: أنه حد؛ قال ابن عباس والحسن. زاد ابن زيد: وأنهم منعوا من النكاح حتى يموتوا عقوبة لهم حين طلبوا النكاح من غير وجهه. وهذا يدل على أنه كان حدا بل أشد؛ غير أن ذلك الحكم كان ممدودا إلى غاية وهو الأذى في الآية الأخرى، على اختلاف التأويلين في أيهما قبل؛ وكلاهما ممدود إلى غاية وهي قوله عليه السلام في حديث عبادة بن الصامت: ( خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ) . وهذا نحو قوله تعالى: « ثم أتموا الصيام إلى الليل » [ البقرة: 187 ] فإذا جاء الليل ارتفع حكم الصيام لانتهاء غايته لا لنسخه. هذا قول المحققين المتأخرين من الأصوليين، فإن النسخ إنما يكون في القولين المتعارضين من كل وجه اللذين لا يمكن الجمع بينهما، والجمع ممكن بين الحبس والتعيير والجلد والرجم، وقد قال بعض العلماء: أن الأذى والتعيير باق مع الجلد؛ لأنهما لا يتعارضان بل يحملان على شخص واحد. وأما الحبس فمنسوخ بإجماع، وإطلاق المتقدمين النسخ على مثل هذا تجوز. والله أعلم.

 

الآية: 16 ( واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما )

 

قوله تعالى: « واللذان » « اللذان » تثنية الذي، وكان القياس أن يقال: اللذيان كرحيان ومصطفيان وشجيان. قال سيبويه: حذفت الياء ليفرق بين الأسماء المتمكنة والأسماء المبهمات. وقال أبو علي: حذفت الياء تخفيفا، إذ قد أمن اللبس في اللذان؛ لأن النون لا تنحذف، ونون التثنية في الأسماء المتمكنة قد تنحذف مع الإضافة في رحياك ومصطفيا القوم؛ فلو حذفت الياء لاشتبه المفرد بالاثنين. وقرأ ابن كثير « اللذان » بتشديد النون؛ وهي لغة قريش؛ وعلته أنه جعل التشديد عوضا من ألف « ذا » على ما يأتي بيانه في سورة « القصص » عند قوله تعالى: « فذانك برهانان » [ القصص: 32 ] . وفيها لغة أخرى « اللذا » بحذف النون. هذا قول الكوفيين. وقال البصريون: إنما حذفت النون لطول الاسم بالصلة. وكذلك قرأ « هذان » و « فذانك برهانان » بالتشديد فيهما. والباقون بالتخفيف. وشدد أبو عمرو « فذانك برهانان » وحدها. و « اللذان » رفع بالابتداء. قال سيبويه: المعنى وفيما يتلى عليكم اللذان يأتيانها، أي الفاحشة « منكم » . ودخلت الفاء في « فآذوهما » لأن في الكلام معنى الأمر؛ لأنه لما وصل الذي بالفعل تمكن فيه معنى الشرط؛ إذ لا يقع عليه شيء بعينه، فلما تمكن الشرط والإبهام فيه جرى مجرى الشرط فدخلت الفاء، ولم يعمل فيه ما قبله من الإضمار كما لا يعمل في الشرط ما قبله؛ فلما لم يحسن إضمار الفعل قبلهما لينصبا رفعا بالابتداء؛ وهذا اختيار سيبويه. ويجوز النصب على تقدير إضمار فعل، وهو الاختيار إذا كان في الكلام معنى الأمر والنهي نحو قولك: اللذين عندك فأكرمهما.

 

قوله تعالى: « فآذوهما » قال قتادة والسدي: معناه التوبيخ والتعيير. وقالت فرقة: هو السب والجفاء دون تعيير. ابن عباس: النيل باللسان والضرب بالنعال. قال النحاس: وزعم قوم أنه منسوخ. قلت: رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: « واللاتي يأتين الفاحشة » و « اللذان يأتيانها » كان في أول الأمر فنسختهما الآية التي في « النور » . قال النحاس: وقيل وهو أولى: إنه ليس بمنسوخ، وأنه واجب أن يؤدبا بالتوبيخ فيقال لهما: فجرتما وفسقتما وخالفتما أمر الله عز وجل.

 

واختلف العلماء في تأويل قوله تعالى: « واللاتي » وقوله: « واللذان » فقال مجاهد وغيره: الآية الأولى في النساء عامة محصنات وغير محصنات، والآية الثانية في الرجال خاصة. وبين لفظ التثنية صنفي الرجال من أحصن ومن لم يحصن؛ فعقوبة النساء الحبس، وعقوبة الرجال الأذى. وهذا قول يقتضيه اللفظ، ويستوفي نص الكلام أصناف الزناة. ويؤيده من جهة اللفظ قوله في الأولى: « من نسائكم » وفي الثانية « منكم » ؛ واختاره النحاس ورواه عن ابن عباس. وقال السدي وقتادة وغيرهما: الأولى في النساء المحصنات. يريد: ودخل معهن من أحصن من الرجال بالمعنى، والثانية في الرجل والمرأة البكرين. قال ابن عطية: ومعنى هذا القول تام إلا أن لفظ الآية يقلق عنه. وقد رجحه الطبري، وأباه النحاس وقال: تغليب المؤنث على المذكر بعيد؛ لأنه لا يخرج الشيء إلى المجاز ومعناه صحيح في الحقيقة. وقيل: كان الإمساك للمرأة الزانية دون الرجل؛ فخصت المرأة بالذكر في الإمساك ثم جمعا في الإيذاء. قال قتادة: كانت المرأة تحبس ويؤذيان جميعا؛ وهذا لأن الرجل يحتاج إلى السعي والاكتساب.

 

واختلف العلماء أيضا في القول بمقتضى حديث عبادة الذي هو بيان لأحكام الزناة على ما بيناه؛ فقال بمقتضاه علي بن أبي طالب لا اختلاف عنه في ذلك، وأنه جلد شراحة الهمدانية مائة ورجمها بعد ذلك، وقال: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بهذا القول الحسن البصري والحسن بن صالح بن حي وإسحاق. وقال جماعة من العلماء: بل على الثيب الرجم بلا جلد. وهذا يروى عن عمر وهو قول الزهري والنخعي ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وأحمد وأبي ثور؛ متمسكين بأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامدية ولم يجلدهما، وبقوله عليه السلام لأنيس: ( اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ) ولم يذكر الجلد؛ فلو كان مشروعا لما سكت عنه. قيل لهم: إنما سكت عنه؛ لأنه ثابت بكتاب الله تعالى، فليس يمتنع أن يسكت عنه لشهرته والتنصيص عليه في القرآن؛ لأن قوله تعالى: « الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة » [ النور: 2 ] يعم جميع الزناة. والله أعلم. ويبين هذا فعل علي بأخذه عن الخلفاء رضي الله عنهم ولم ينكر عليه فقيل له: عملت بالمنسوخ وتركت الناسخ. وهذا واضح.

 

واختلفوا في نفي البكر مع الجلد؛ فالذي عليه الجمهور أنه ينفى مع الجلد؛ قاله الخلفاء الراشدون: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وهو قول ابن عمر رضوان الله عليهم أجمعين، وبه قال عطاء وطاوس وسفيان ومالك وابن أبي ليلى والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور. وقال بتركه حماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن. والحجة للجمهور حديث عبادة المذكور، وحديث أبي هريرة وزيد بن خالد، حديث العسيف وفيه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله أما غنمك وجاريتك فرد عليك ) وجلد ابنه مائة وغربه عاما. أخرجه الأئمة. احتج من لم ير نفيه بحديث أبي هريرة في الأمة، ذكر فيه الجلد دون النفي. وذكر عبدالرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: غرب عمر ربيعة بن أبي أمية بن خلف في الخمر إلى خيبر فلحق بهرقل فتنصر؛ فقال عمر: لا أغرب مسلما بعد هذا. قالوا: ولو كان التغريب حدا لله تعالى ما تركه عمر بعد. ثم إن النص الذي في الكتاب إنما هو الجلد، والزيادة على النص نسخ؛ فيلزم عليه نسخ القاطع بخبر الواحد. والجواب: أما حديث أبي هريرة فإنما هو في الإماء لا في الأحرار. وقد صح عن عبدالله بن عمر أنه ضرب أمته في الزنا ونفاها. وأما حديث عمر وقوله: لا أغرب بعده مسلما، فيعني في الخمر - والله أعلم - لما رواه نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب وغرب، وأن أبا بكر ضرب وغرب، وأن عمر ضرب وغرب. أخرجه الترمذي في جامعه، والنسائي في سننه عن أبي كريب محمد بن العلا الهمداني عن عبدالله بن إدريس عن عبيدالله بن عمر عن نافع. قال الدارقطني: تفرد به عبدالله بن إدريس ولم يسنده عنه أحد من الثقات غير أبي كريب، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النفي فلا كلام لأحد معه، ومن خالفته السنة خاصمته. وبالله التوفيق.

وأما قولهم: الزيادة على النص نسخ، فليس بمسلم، بل زيادة حكم آخر مع الأصل. ثم هو قد زاد الوضوء بالنبيذ بخبر لم يصح على الماء، واشترط الفقر في القربى؛ إلى غير ذلك مما ليس منصوصا عليه في القرآن. وقد مضى هذا المعنى في البقرة ويأتي.

 

القائلون بالتغريب في يختلفوا في تغريب الذكر الحر، واختلفوا في تغريب العبد والأمة؛ فممن رأى التغريب فيهما ابن عمر جلد مملوكة له في الزنا ونفاها إلى فدك وبه قال الشافعي وأبو ثور والثوري والطبري وداود. واختلف قول الشافعي في نفي العبد، فمرة قال: أستخير الله في نفي العبد، ومرة قال: ينفى نصف سنة، ومرة قال: ينفى سنة إلى غير بلده؛ وبه قال الطبري.

واختلف أيضا قوله في نفي الأمة على قولين. وقال مالك: ينفى الرجل ولا تنفى المرأة ولا العبد، ومن نفي حبس في الموضع الذي ينفى إليه. وينفى من مصر إلى الحجاز وشغب وأسوان ونحوها، ومن المدينة إلى خيبر وفدك؛ وكذلك فعل عمر بن عبدالعزيز. ونفى علي من الكوفة إلى البصرة. وقال الشافعي: أقل ذلك يوم وليلة. قال ابن العربي: كان أصل النفي أن بني إسماعيل أجمع رأيهم على أن من أحدث حدثا في الحرم غرب منه، فصارت سنة فيهم يدينون بها؛ فلأجل ذلك استن الناس إذا أحدث أحد حدثا غرب عن بلده، وتمادى ذلك في الجاهلية إلى أن جاء الإسلام فأقره في الزنا خاصة. احتج من لم ير النفي على العبد بحديث أبي هريرة في الأمة؛ ولأن تغريبه عقوبة لمالكه تمنعه من منافعه في مدة تغريبه، ولا يناسب ذلك تصرف الشرع، فلا يعاقب غير الجاني. وأيضا فقد سقط عنه الجمعة والحج والجهاد الذي هو حق لله تعالى لأجل السيد؛ فكذلك التغريب. والله أعلم.

والمرأة إذا غربت ربما يكون ذلك سببا لوقوعها فيما أخرجت من سببه وهو الفاحشة، وفي التغريب سبب لكشف عورتها وتضييع لحالها؛ ولأن الأصل منعها من الخروج من بيتها وأن صلاتها فيه أفضل. وقال صلى الله عليه وسلم: ( أعروا النساء يلزمن الحجال ) فحصل من هذا تخصيص عموم حديث التغريب بالمصلحة المشهود لها بالاعتبار. وهو مختلف فيه عند الأصوليين والنظار. وشذت طائفة فقالت: يجمع الجلد والرجم على الشيخ، ويجلد الشاب؛ تمسكا بلفظ « الشيخ » في حديث زيد بن ثابت أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة » خرجه النسائي. وهذا فاسد؛ لأنه قد سماه في الحديث الآخر « الثيب » .

 

قوله تعالى: « فإن تابا » أي من الفاحشة. « وأصلحا » يعني العمل فيما بعد ذلك. « فأعرضوا عنهما » أي اتركوا أذاهما وتعييرهما. وإنما كان هذا قبل نزول الحدود. فلما نزلت الحدود نسخت هذه الآية. وليس المراد بالإعراض الهجرة، ولكنها متاركة معرض؛ وفي ذلك احتقار لهم بسبب المعصية المتقدمة، وبحسب الجهالة في الآية الأخرى. والله تواب أي راجع بعباده عن المعاصي.

 

الآيتان: 17 - 18 ( إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما، وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما )

 

قوله تعالى: « إنما التوبة على الله » قيل: هذه الآية عامة لكل من عمل ذنبا. وقيل: لمن جهل فقط، والتوبة لكل من عمل ذنبا في موضع آخر. واتفقت الأمة على أن التوبة فرض على المؤمنين؛ لقوله تعالى: « وتوبوا إلى الله جميعا آيه المؤمنون » . [ النور: 31 ] . وتصح من ذنب مع الإقامة على غيره من غير نوعه خلافا للمعتزلة في قولهم: لا يكون تائبا من أقام على ذنب. ولا فرق بين معصية ومعصية - هذا مذهب أهل السنة. وإذا تاب العبد فالله سبحانه بالخيار إن شاء قبلها، وإن شاء لم يقبلها. وليس قبول التوبة واجبا على الله من طريق العقل كما قال المخالف؛ لأن من شرط الواجب أن يكون أعلى رتبة من الموجب عليه، والحق سبحانه خالق الخلق ومالكهم، والمكلف لهم؛ فلا يصح أن يوصف بوجوب شيء عليه، تعالى عن ذلك، غير أنه قد أخبر سبحانه وهو الصادق في وعده بأنه يقبل التوبة عن العاصين من عباده بقوله تعالى: « وهو يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات » [ الشورى: 25 ] .

وقوله: « ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده » [ التوبة: 104 ] وقوله: « وإني لغفار لمن تاب » [ طه: 82 ] فإخباره سبحانه وتعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يقتضي وجوب تلك الأشياء. والعقيدة أنه لا يجب عليه شيء عقلا؛ فأما السمع فظاهره قبول توبة التائب. قال أبو المعالي وغيره: وهذه الظواهر إنما تعطي غلبة ظن، لا قطعا على الله تعالى بقبول التوبة. قال ابن عطية: وقد خولف أبو المعالي وغيره في هذا المعنى. فإذا فرضنا رجلا قد تاب توبة نصوحا تامة الشروط فقال أبو المعالي: يغلب على الظن قبول توبته. وقال غيره: يقطع على الله تعالى بقبول توبته كما أخبر عن نفسه جل وعز. قال ابن عطية: وكان أبي رحمه الله يميل إلى هذا القول ويرجحه، وبه أقول، والله تعالى أرحم بعباده من أن ينخرم في هذا التائب المفروض معنى قوله: « وهو الذي يقبل التوبة عن عباده » [ الشورى: 25 ] وقوله تعالى: « وإني لغفار » [ طه: 82 ] . وإذا تقرر هذا فاعلم أن في قوله « على الله » حذفا وليس على ظاهره، وإنما المعنى على فضل الله ورحمته بعباده. وهذا نحو قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: ( أتدري ما حق العباد على الله ) ؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: ( أن يدخلهم الجنة ) . فهذا كله معناه: على فضله ورحمته بوعده الحق وقوله الصدق. دليله قوله تعالى: « كتب على نفسه الرحمة » [ الأنعام: 12 ] أي وعد بها. وقيل: « على » ههنا معناها « عند » والمعنى واحد، التقدير: عند الله، أي إنه وعد ولا خلف في وعده أنه يقبل التوبة إذا كانت بشروطها المصححة لها؛ وهي أربعة: الندم بالقلب، وترك المعصية في الحال، والعزم على ألا يعود إلى مثلها، وأن يكون ذلك حياء من الله تعالى لا من غيره؛ فإذا اختل شرط من هذه الشروط لم تصح التوبة. وقد قيل من شروطها: الاعتراف بالذنب وكثرة الاستغفار، وقد تقدم في « آل عمران » كثير من معاني التوبة وأحكامها. ولا خلاف فيما أعلمه أن التوبة لا تسقط حدا؛ ولهذا قال علماؤنا: إن السارق والسارقة والقاذف متى تابوا وقامت الشهادة عليهم أقيمت عليهم الحدود. وقيل: « على » بمعنى « من » أي إنما التوبة من الله للذين؛ قاله أبو بكر بن عبدوس، والله أعلم. وسيأتي في « التحريم » الكلام في التوبة النصوح والأشياء التي يتاب منها.

 

قوله تعالى: « للذين يعملون السوء بجهالة » السوء في هذه الآية، و « الأنعام » . « أنه من عمل منكم سوءا بجهالة » [ الأنعام: 54 ] يعم الكفر والمعاصي؛ فكل من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته. قال قتادة: أجمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أن كل معصية فهي بجهالة، عمدا كانت أو جهلا؛ وقال ابن عباس وقتادة والضحاك ومجاهد والسدي. وروي عن الضحاك ومجاهد أنهما قالا: الجهالة هنا العمد. وقال عكرمة: أمور الدنيا كلها جهالة؛ يريد الخاصة بها الخارجة عن طاعة الله. وهذا القول جار مع قوله تعالى: « إنما الحياة الدنيا لعب ولهو » [ محمد: 36 ] . وقال الزجاج: يعني قوله « بجهالة » اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية. وقيل: « بجهالة » أي لا يعلمون كنه العقوبة؛ ذكره ابن فورك. قال ابن عطية: وضعف قوله هذا ورد عليه.

 

قوله تعالى: « ثم يتوبون من قريب » قال ابن عباس والسدي: معناه قبل المرض والموت. وروي عن الضحاك أنه قال: كل ما كان قبل الموت فهو قريب. وقال أبو مجلز والضحاك أيضا وعكرمة وابن زيد وغيرهم: قبل المعاينة للملائكة والسوق، وأن يغلب المرء على نفسه. ولقد أحسن محمود الوراق حيث قال:

قدم لنفسك توبة مرجوة قبل الممات وقبل حبس الألسن

بادر بها غلق النفوس فإنها ذخر وغنم للمنيب المحسن

قال علماؤنا رحمهم الله: وإنما صحت التوبة منه في هذا الوقت؛ لأن الرجاء باق ويصح منه الندم والعزم على ترك الفعل. وقد روى الترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ) . قال: هذا حديث حسن غريب. ومعنى ما لم يغرغر: ما لم تبلغ روحه حلقومه؛ فيكون بمنزلة الشيء الذي يتغرغر به. قال الهروي وقيل: المعنى يتوبون على قرب عهد من الذنب من غير إصرار. والمبادر في الصحة أفضل، وألحق لأمله من العمل الصالح. والبعد كل البعد الموت؛ كما قال:

وأين مكان البعد إلا مكانيا

وروى صالح المري عن الحسن قال: من عير أخاه بذنب قد تاب إلى الله منه ابتلاه الله به. وقال الحسن أيضا: إن إبليس لما هبط قال: بعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام الروح في جسده. قال الله تعالى: ( فبعزتي لا أحجب التوبة عن ابن آدم ما لم تغرغر نفسه ) .

 

قوله تعالى: « وليست التوبة » نفى سبحانه أن يدخل في حكم التائبين من حضره الموت وصار في حين اليأس؛ كما كان فرعون حين صار في غمرة الماء والغرق فلم ينفعه ما أظهر من الإيمان؛ لأن التوبة في ذلك الوقت لا تنفع، لأنها حال زوال التكليف. وبهذا قال ابن عباس وابن زيد وجمهور المفسرين. وأما الكفار يموتون على كفرهم فلا توبة لهم في الآخرة، وإليهم الإشارة بقوله تعالى: « أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما » وهو الخلود. وإن كانت الإشارة بقوله إلى الجميع فهو في جهة العصاة عذاب لا خلود معه؛ وهذا على أن السيئات ما دون الكفر؛ أي ليست التوبة لمن عمل دون الكفر من السيئات ثم تاب عند الموت، ولا لمن مات كافرا فتاب يوم القيامة. وقد قيل: إن السيئات هنا الكفر، فيكون المعنى وليست التوبة للكفار الذين يتوبون عند الموت، ولا للذين يموتون وهم كفار. وقال أبو العالية: نزل أول الآية في المؤمنين « إنما التوبة على الله » . والثانية في المنافقين. « وليست التوبة للذين يعملون السيئات » يعني قبول التوبة للذين أصروا على فعلهم. « حتى إذا حضر أحدهم الموت » يعني الشرق والنزع ومعاينة ملك الموت. « قال إني تبت الآن » فليس لهذا توبة. ثم ذكر توبة الكفار فقال تعالى: « ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما » أي وجيعا دائما. وقد تقدم.

 

الآية: 19 ( يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا )

 

قوله تعالى: « لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها » هذا متصل بما تقدم ذكره من الزوجات. والمقصود نفي الظلم عنهن وإضرارهن؛ والخطاب للأولياء. و « أن » في موضع رفع بـ « يحل » ؛ أي لا يحل لكم وراثة النساء. و « كرها » مصدر في موضع الحال. واختلفت الروايات وأقوال المفسرين في سبب نزولها؛ فروى البخاري عن ابن عباس « يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن » قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاؤوا زوجوها، وإن شاؤوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية في ذلك. وأخرجه أبو داود بمعناه. وقال الزهري وأبو مجلز: كان من عادتهم إذا مات الرجل يلقي ابنه من غيرها أو أقرب عصبته ثوبه على المرأة فيصير أحق بها من نفسها ومن أوليائها؛ فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الذي أصدقها الميت، وان شاء زوجها من غيره وأخذ صداقها ولم يعطها شيئا؛ وإن شاء عضلها لتفتدى منه بما ورثته من الميت أو تموت فيرثها، فأنزل الله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها » . فيكون المعنى: لا يحل لكم أن ترثوهن من أزواجهن فتكونوا أزواجا لهن. وقيل: كان الوارث إن سبق فألقى عليها ثوبا فهو أحق بها، وإن سبقته فذهبت إلى أهلها كانت أحق بنفسها؛ قال السدي. وقيل: كان يكون عند الرجل عجوز ونفسه تتوق إلى الشابة فيكره فراق العجوز لمالها فيمسكها ولا يقربها حتى تفتدي منه بمالها أو تموت فيرث مالها. فنزلت هذه الآية. وأمر الزوج أن يطلقها إن كره صحبتها ولا يمسكها كرها؛ فذلك قوله تعالى: « لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها » . والمقصود من الآية إذهاب ما كانوا عليه في جاهليتهم، وألا تجعل النساء كالمال يورثن عن الرجال كما يورث المال. « وكرها » بضم الكاف قراءة حمزة والكسائي، الباقون بالفتح، وهما لغتان. وقال القتبي: الكره ( بالفتح ) بمعنى الإكراه، والكره ( بالضم ) المشقة. يقال: لتفعل ذلك طوعا أو كرها، يعني طائعا أو مكرها. والخطاب للأولياء. وقيل: لأزواج النساء إذا حبسوهن مع سوء العشرة طماعية إرثها، أو يفتدين ببعض مهورهن، وهذا أصح. واختاره ابن عطية قال: ودليل ذلك قوله تعالى: « إلا أن يأتين بفاحشة ) وإذا أتت بفاحشة فليس للولي حبسها حتى يذهب بمالها إجماعا من الأمة، وإنما ذلك للزوج، على ما يأتي بيانه في المسألة بعد هذا. »

 

قوله تعالى: « ولا تعضلوهن » قد تقدم معنى العضل وأنه المنع في « البقرة » . « إلا أن يأتين بفاحشة مبينة » اختلف الناس في معنى الفاحشة؛ فقال الحسن: هو الزنا، وإذا زنت البكر فإنها تجلد مائة وتنفى سنة، وترد إلى زوجها ما أخذت منه. وقال أبو قلابة؛ إذا زنت امرأة الرجل فلا بأس أن يضارها ويشق عليها حتى تفتدي منه. وقال السدي: إذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن. وقال ابن سيرين وأبو قلابة: لا يحل له أن يأخذ منها فدية إلا أن يجد على بطنها رجلا، قال الله تعالى: « إلا أن يأتين بفاحشة مبينة » . وقال ابن مسعود وابن عباس والضحاك وقتادة: الفاحشة المبينة في هذه الآية البغض والنشوز، قالوا: فإذا نشزت حل له أن يأخذ مالها؛ وهذا هو مذهب مالك. قال ابن عطية: إلا أني لا أحفظ له نصا في الفاحشة في الآية. وقال قوم: الفاحشة البذاء باللسان وسوء العشرة قولا وفعلا؛ وهذا في معنى النشوز. ومن أهل العلم من يجيز أخذ المال من الناشز على جهة الخلع؛ إلا أنه يرى ألا يتجاوز ما أعطاها ركونا إلى قوله تعالى: « لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن » . وقال مالك وجماعة من أهل العلم: للزوج أن يأخذ من الناشز جميع ما تملك. قال ابن عطية: والزنا أصعب على الزوج من النشوز والأذى، وكل ذلك فاحشة تحل أخذ المال. قال أبو عمر: قول ابن سيرين وأبي قلابة عندي ليس بشيء؛ لأن الفاحشة قد تكون البذاء والأذى؛ ومنه قيل للبذيء: فاحش ومتفحش، وعلى أنه لو أطلع منها على الفاحشة كان له لعانها، وإن شاء طلقها؛ وأما أن يضارها حتى تفتدي منه بمالها فليس له ذلك، ولا أعلم أحدا قال: له أن يضارها ويسيء إليها حتى تختلع منه إذا وجدها تزني غير أبي قلابة. والله أعلم. وقال الله عز وجل: « فإن خفتم ألا يقيما حدود الله » [ البقرة: 229 ] يعني في حسن العشرة والقيام بحق الزوج وقيامه بحقها « فلا جناح عليهما فيما افتدت به » [ البقرة: 229 ] وقال الله عز وجل: « فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا » [ النساء: 4 ] فهذه الآيات أصل هذا الباب. وقال عطاء الخراساني: كان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة أخذ منها ما ساق إليها وأخرجها، فنسخ ذلك بالحدود. وقول رابع « إلا أن يأتين بفاحشة مبينة » إلا أن يزنين فيحبسن في البيوت، فيكون هذا قبل النسخ، وهذا في معنى قول عطاء، وهو ضعيف.

 

وإذا تنزلنا على القول بأن المراد بالخطاب في العضل الأولياء ففقهه أنه متى صح في ولي أنه عاضل نظر القاضي في أمر المرأة وزوجها. إلا الأب في بناته؛ فإنه إن كان في عضله صلاح فلا يعترض، قولا واحدا، وذلك بالخاطب والخاطبين وإن صح عضله ففيه قولان في مذهب مالك: أنه كسائر الأولياء، يزوج القاضي من شاء التزويج من بناته وطلبه. والقول الآخر - لا يعرض له: يجوز أن يكون « تعضلوهن » جزما على النهى، فتكون الواو عاطفة جملة كلام مقطوعة من الأولى، ويجوز أن يكون نصبا عطفا على « أن ترثوا » فتكون الواو مشتركة عطفت فعلا على فعل. وقرأ ابن مسعود « ولا أن تعضلوهن » فهذه القراءة تقوي احتمال النصب، وأن العضل مما لا يجوز بالنص.

 

قوله تعالى: « مبينة » بكسر الياء قراءة نافع وأبي عمرو، والباقون بفتح الياء. وقرأ ابن عباس « مبينة » بكسر الباء وسكون الياء، من أبان الشيء، يقال: أبان الأمر بنفسه، وأبنته وبين وبينته، وهذه القراءات كلها لغات فصيحة.

 

قوله تعالى: « وعاشروهن بالمعروف » أي على ما أمر الله به من حسن المعاشرة. والخطاب للجميع، إذ لكل أحد عشرة، زوجا كان أو وليا؛ ولكن المراد بهذا الأمر في الأغلب الأزواج، وهو مثل قوله تعالى: « فإمساك بمعروف » [ البقرة: 229 ] . وذلك توفية حقها من المهر والنفقة، وألا يعبس في وجهها بغير ذنب، وأن يكون منطلقا في القول لا فظا ولا غليظا ولا مظهرا ميلا إلى غيرها. والعشرة: المخالطة والممازجة. ومنه قول طرفة:

فلئن شطت نواها مرة لعلى عهد حبيب معتشر

جعل الحبيب. جمعا كالخليط والغريق. وعاشره معاشرة، وتعاشر القوم واعتشروا. فأمر الله سبحانه بحسن صحبة النساء إذا عقدوا عليهن لتكون أدمة ما بينهم وصحبتهم على الكمال، فإنه أهدأ للنفس وأهنأ للعيش. وهذا واجب على الزوج ولا يلزمه في القضاء. وقال بعضهم: هو أن يتصنع لها كما تتصنع له. وقال يحيى بن عبدالرحمن الحنظلي: أتيت محمد بن الحنفية فخرج إلي في ملحفة حمراء ولحيته تقطر من الغالية، فقلت: ما هذا؟ قال: إن هذه الملحفة ألقتها علي امرأتي ودهنتني بالطيب، وإنهن يشتهين منا ما نشتهيه منهن. وقال ابن عباس رضي الله عنه: إني أحب أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين المرأة لي. وهذا داخل فيما ذكرناه. قال ابن عطية: وإلى معنى الآية ينظر قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فاستمتع بها وفيها عوج ) أي لا يكن منك سوء عشرة مع اعوجاجها؛ فعنها تنشأ المخالفة وبها يقع الشقاق، وهو سبب الخلع.

 

واستدل علماؤنا بقوله تعالى: « وعاشروهن بالمعروف » على أن المرأة إذا كانت لا يكفيها خادم واحد أن عليه أن يخدمها قدر كفايتها، كابنة الخليفة والملك وشبههما ممن لا يكفيها خادم واحد، وأن ذلك هو المعاشرة بالمعروف. وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يلزمه إلا خادم واحد - وذلك يكفيها خدمة نفسها، وليس في العالم امرأة إلا وخادم واحد يكفيها؛ وهذا كالمقاتل تكون له أفراس عدة فلا يسهم له إلا لفرس واحد؛ لأنه لا يمكنه القتال إلا على فرس واحد. قال علماؤنا: وهذا غلط؛ لأن مثل بنات الملوك اللاتي لهن خدمة كثيرة لا يكفيها خادم واحد؛ لأنها تحتاج من غسل ثيابها لإصلاح مضجعها وغير ذلك إلى ما لا يقوم به الواحد، وهذا بين. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « فإن كرهتموهن » أي لدمامة أو سوء خلق من غير ارتكاب فاحشة أو نشوز؛ فهذا يندب فيه إلى الاحتمال، فعسى أن يؤول الأمر إلى أن يرزق الله منها أولادا صالحين. و « أن » رفع بـ « عسى » وأن والفعل مصدر.

قلت: ومن هذا المعنى ما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها آخر ) أو قال ( غيره ) . المعنى: أي لا يبغضها بغضا كليا يحمله على فراقها. أي لا ينبغي له ذلك بل يغفر سيئتها لحسنتها ويتغاضى عما يكره لما يحب. وقال مكحول: سمعت ابن عمر يقول: إن الرجل ليستخير الله تعالى فيخار له، فيسخط على ربه عز وجل فلا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو قد خير له. وذكر ابن العربي قال أخبرني أبو القاسم بن حبيب بالمهدية، عن أبي القاسم السيوري عن أبي بكر بن عبدالرحمن حيث قال: كان الشيخ أبو محمد بن أبي زيد من العلم والدين في المنزلة والمعرفة. وكانت له زوجة سيئة العشرة وكانت تقصر في حقوقه وتؤذيه بلسانها؛ فيقال له في أمرها ويعذل بالصبر عليها، فكان يقول: أنا رجل قد أكمل الله علي النعمة في صحة بدني ومعرفتي وما ملكت يميني، فلعلها بعثت عقوبة على ذنبي فأخاف إن فارقتها أن تنزل بي عقوبة هي أشد منها. قال علماؤنا: في هذا دليل على كراهة الطلاق مع الإباحة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الله لا يكره شيئا أباحه إلا الطلاق والأكل وإن الله ليبغض المِعى إذا امتلأ ) .

 

الآيتان: 20 - 21 ( وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا، وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا )

 

لما مضى في الآية المتقدمة حكم الفراق الذي سببه المرأة، وأن للزوج أخذ المال منها عقب ذلك بذكر الفراق الذي سببه الزوج، وبين أنه إذا أراد الطلاق من غير نشوز وسوء عشرة فليس له أن يطلب منها مالا.

واختلف العلماء إذا كان الزوجان يريدان الفراق وكان منهما نشوز وسوء عشرة؛ فقال مالك رضي الله عنه: للزوج أن يأخذ منها إذا تسببت في الفراق ولا يراعى تسببه هو. وقال جماعة من العلماء: لا يجوز له أخذ المال إلا أن تنفرد هي بالنشوز وتطلبه في ذلك.

 

قوله تعالى: « وآتيتم إحداهن قنطارا » فيها دليل على جواز المغالاة في المهور؛ لأن الله تعالى لا يمثل إلا بمباح. وخطب عمر رضي الله عنه فقال: ألا لا تغالوا في صدقات النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله؛ ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا بناته فوق اثنتي عشرة أوقية. فقامت إليه امرأة فقالت: يا عمر، يعطينا الله وتحرمنا! أليس الله سبحانه وتعالى يقول: « وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا » ؟ فقال عمر: أصابت امرأة وأخطأ عمر. وفي رواية فأطرق عمر ثم قال: كل الناس أفقه منك يا عمر !. وفي أخرى: امرأة أصابت ورجل أخطأ. وترك الإنكار. أخرجه أبو حاتم البستي في صحيح مسنده عن أبي العجفاء السلمي قال: خطب عمر الناس، فذكره إلى قوله: اثنتي عشرة أوقية، ولم يذكر: فقامت إليه امرأة. إلى آخره. وأخرجه ابن ماجة في سننه عن أبي العجفاء، وزاد بعد قوله: أوقية. وأن الرجل ليثقل صدقة امرأته حتى تكون لها عداوة في نفسه، ويقول: قد كلفت إليك علق القربة - أو عرق القربة؛ وكنت رجلا عربيا مولدا ما أدري ما علق القربة أو عرق القربة. قال الجوهري: وعلق القربة لغة في عرق القربة. قال غيره: ويقال علق القربة عصامها الذي تعلق به. يقول كلفت إليك حتى عصام القربة. وعرق القربة ماؤها؛ يقول: جشمت إليك حتى سافرت واحتجت إلى عرق القربة، وهو ماؤها في السفر. ويقال: بل عرق القربة أن يقول: نصبت لك وتكلفت حتى عرقت عرق القربة، وهو سيلانها. وقيل: إنهم كانوا يتزودون الماء فيعلقونه على الإبل يتناوبونه فيشق على الظهر؛ ففسر به اللفظان: العرق والعلق. وقال الأصمعي: عرق القربة كلمة معناها الشدة. قال: ولا أدري ما أصلها. قال الأصمعي: وسمعت ابن أبي طرفة وكان من أفصح من رأيت يقول: سمعت شيخاننا يقولون: لقيت من فولان عرق القربة، يعنون الشدة. وأنشدني لابن الأحمر:

ليست بمشتمة تعد وعفوها عرق السقاء على القعود اللاغب

قال أبو عبيد: أراد أنه يسمع الكلمة تغيظه وليست بشتم فيؤاخذ صاحبها بها، وقد أبلغت إليه كعرق القربة، فقال: كعرق السقا لما لم يمكنه الشعر؛ ثم قال: على القعود اللاغب، وكان معناه أن تعلق القربة على القعود في أسفارهم. وهذا المعنى شبيه بما كان الفراء يحكيه؛ زعم أنهم كانوا في المفاوز في أسفارهم يتزودون الماء فيعلقونه على الإبل يتناوبونه؛ فكان في ذلك تعب ومشقة على الظهر. وكان الفراء يجعل هذا التفسير في علق القربة باللام. وقال قوم: لا تعطى الآية جواز المغالاة بالمهور؛ لأن التمثيل بالقنطار إنما هو على جهة المبالغة؛ كأنه قال: وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد. وهذا كقوله: ( من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة ) . ومعلوم أنه لا يكون مسجد كمفحص قطاة. وقد قال صلى الله عليه وسلم لابن أبي حدرد وقد جاء يستعينه في مهره، فسأله عنه فقال: مائتين؛ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ( كأنكم تقطعون الذهب والفضة من عرض الحرة أو جبل ) . فاستقرأ بعض الناس من هذا منع المغالاة بالمهور؛ وهذا لا يلزم، وإنكار النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الرجل المتزوج ليس إنكارا لأجل المغالاة والإكثار في المهور، وإنما الإنكار لأنه كان فقيرا في تلك الحال فأحوج نفسه إلى الاستعانة والسؤال، وهذا مكروه باتفاق. وقد أصدق عمر أم كلثوم بنت علي من فاطمة رضوان الله عليهم أربعين ألف درهم. وروى أبو داود عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: ( أترضى أن أزوجك فلانة ) ؟ قال: نعم. وقال للمرأة: ( أترضين أن أزوجك فلانا ) ؟ قالت: نعم. فزوج أحدهما من صاحب؛ فدخل بها الرجل ولم يفرض لها صداقا ولم يعطها شيئا، وكان ممن شهد الحديبية وله سهم بخيبر؛ فلما حضرته الوفاة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجني فلانة ولم أفرض لها صداقا ولم أعطها شيئا، وإني أشهدكم أني قد أعطيتها من صداقها سهمي بخيبر؛ فأخذت سهمها فباعته بمائة ألف. وقد أجمع العلماء على ألا تحديد في أكثر الصداق؛ لقوله تعالى: « وآتيتم إحداهن قنطارا » واختلفوا في أقله، وسيأتي عند قوله تعالى: « أن تبتغوا بأموالكم » [ النساء: 24 ] . ومضى القول في تحديد القنطار في « آل عمران » . وقرأ ابن محيصن « وآتيتم احداهن » بوصل ألف « إحداهن » وهي لغة؛ ومنه قول الشاعر:

وتسمع من تحت العجاج لها ازملا

وقول الآخر:

إن لم أقاتل فألبسوني برقعا

 

قوله تعالى: « فلا تأخذوا منه شيئا » قال بكر بن عبدالله المزني: لا يأخذ الزوج من المختلعة شيئا؛ لقول الله تعالى: « فلا تأخذوا » ، وجعلها ناسخة لآية « البقرة » . وقال ابن زيد وغيره: هي منسوخة بقوله تعالى في سورة البقرة « ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا » [ البقرة: 229 ] . والصحيح أن هذه الآيات محكمة وليس فيها ناسخ ولا منسوخ وكلها يبنى بعضها على بعض. قال الطبري: هي محكمة، ولا معنى لقول بكر: إن أرادت هي العطاء؛ فقد جوز النبي صلى الله عليه وسلم لثابت أن يأخذ من زوجته ما ساق إليها. « بهتانا » مصدر في موضع الحال « وإثما » معطوف عليه « مبينا » من نعته.

 

قوله تعالى: « وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض » تعليل لمنع الأخذ مع الخلوة. وقال بعضهم: الإفضاء إذا كان معها في لحاف واحد جامع أو لم يجامع؛ حكاه الهروي وهو قول الكلبي. وقال الفراء: الإفضاء أن يخلو الرجل والمرأة وأن يجامعها. وقال ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم: الإفضاء في هذه الآية الجماع. قال ابن عباس: ولكن الله كريم يكنى. وأصل الإفضاء في اللغة المخالطة؛ ويقال للشيء المختلط: فضا. قال الشاعر:

فقلت لها يا عمتي لك ناقتي وتمر فضا في عيبتي وزبيب

ويقال: القوم فوضى فضا، أي مختلطون لا أمير عليهم. وعلى أن معنى « أفضى » خلا وإن لم يكن جامع، هل يتقرر المهر بوجود الخلوة أم لا؟ اختلف علماؤنا في ذلك على أربعة أقوال: يستقر بمجرد الخلوة. لا يستقر إلا بالوطء. يستقر بالخلوة في بيت الإهداء. التفرقة بين بيته وبيتها. والصحيح استقراره بالخلوة مطلقا، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، قالوا: إذا خلا بها خلوة صحيحة يجب كمال المهر والعدة دخل بها أو لم يدخل بها؛ لما رواه الدارقطني عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من كشف خمار امرأة ونظر إليها وجب الصداق ) . وقال عمر: إذا أغلق بابا وأرخى سترا ورأى عورة فقد وجب الصداق وعليها العدة ولها الميراث. وعن علي: إذا أغلق بابا وأرخى سترا ورأى عورة فقد وجب الصداق. وقال مالك: إذا طال مكثه معها مثل السنة ونحوها، واتفقا على ألا مسيس وطلبت المهر كله كان لها. وقال الشافعي: لا عدة عليها ولها نصف المهر. وقد مضى في « البقرة » .

 

قوله تعالى: « وأخذن منكم ميثاقا غليظا » فيه ثلاثة أقوال. قيل: هو قوله عليه السلام: ( فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ) . قاله عكرمة والربيع. الثاني: قوله تعالى: « فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان » [ البقرة: 229 ] قاله الحسن وابن سيرين وقتادة والضحاك والسدي. الثالث: عقدة النكاح قول الرجل: نكحت وملكت عقدة النكاح؛ قال مجاهد وابن زيد. وقال قوم: الميثاق الغليظ الولد. والله أعلم.

 

الآية: 22 ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا )

 

قوله تعالى: « ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء » يقال: كان الناس يتزوجون امرأة الأب برضاها بعد نزول قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها » [ النساء: 19 ] حتى نزلت هذه الآية: « ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم » فصار حراما في الأحوال كلها؛ لأن النكاح يقع على الجماع والتزوج، فإن كان الأب تزوج امرأة أو وطئها بغير نكاح حرمت على ابنه؛ على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « ما نكح » قيل: المراد بها النساء. وقيل: العقد، أي نكاح آباؤكم الفاسد المخالف لدين الله؛ إذ الله قد أحكم وجه النكاح وفصل شروطه. وهو اختيار الطبري. فـ « من » متعلقة بـ « تنكحوا » و « ما نكح » مصدر. قال: ولو كان معناه ولا تنكحوا النساء اللاتي نكح آباؤكم لوجب أن يكون موضع « ما » « من » . فالنهي على هذا إنما وقع على ألا ينكحوا مثل نكاح آبائهم الفاسد. والأول أصح، وتكون « ما » بمعنى « الذي » و « من » . والدليل عليه أن الصحابة تلقت الآية على ذلك المعنى؛ ومنه استدلت على منع نكاح الأبناء حلائل الآباء. وقد كان في العرب قبائل قد اعتادت أن يخلف ابن الرجل على امرأة أبيه، وكانت هذه السيرة في الأنصار لازمة، وكانت في قريش مباحة مع التراضي. ألا ترى أن عمرو بن أمية خلف على امرأة أبيه بعد موته فولدت له مسافرا وأبا معيط، وكان لها من أمية أبو العيص وغيره؛ فكان بنو أمية إخوة مسافر وأبي معيط وأعمامهما. ومن ذلك صفوان بن أمية بن خلف تزوج بعد أبيه امرأته فاخته بنت الأسود بن المطلب بن أسد، وكان أمية قتل عنها. ومن ذلك منظور بن زبان خلف على مليكة بنت خارجة، وكانت تحت أبيه زبان بن سيار. ومن ذلك حصن بن أبي قيس تزوج امرأة أبيه كبيشة بنت معن. والأسود بن خلف تزوج امرأة أبيه. وقال الأشعث بن سوار: توفي أبو قيس وكان من صالحي الأنصار فخطب ابنه قيس امرأة أبيه فقالت: إني أعدك ولدا، ولكني آتي وسول الله صلى الله عليه وسلم استأمره؛ فأتته فأخبرته فأنزل الله هذه الآية. وقد كان في العرب من تزوج ابنته، وهو حاجب بن زرارة تمجس وفعل هذه الفعلة؛ ذكر ذلك النضر بن شميل في كتاب المثالب. فنهى الله المؤمنين عما كان عليه آباؤهم من هذه السيرة.

 

قوله تعالى: « إلا ما قد سلف » أي تقدم ومضى. والسلف؛ من تقدم من آبائك وذوي قرابتك. وهذا استثناء منقطع، أي لكن ما قد سلف فاجتنبوه ودعوه. وقيل: « إلا » بمعنى بعد، أي بعد ما سلف؛ كما قال تعالى: « لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى » [ الدخان: 56 ] أي بعد الموتة الأولى. وقيل: « إلا ما قد سلف » أي ولا ما سلف؛ كقوله تعالى: « وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ » [ النساء: 92 ] يعني ولا خطأ. وقيل: في الآية تقديم وتأخير، معناه: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا إلا ما قد سلف. وقيل: في الآية إضمار لقوله « ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء » فإنكم إن فعلتم تعاقبون وتؤاخذون إلا ما قد سلف.

 

قوله تعالى: « إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا » عقب بالذم البالغ المتتابع، وذلك دليل على أنه فعل انتهى من القبح إلى الغاية. قال أبو العباس: سألت ابن الأعرابي عن نكاح المقت فقال: هو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه إذا طلقها أو مات عنها؛ ويقال لهذا الرجل: الضيزن. وقال ابن عرفة: كانت العرب إذا تزوج الرجل امرأة أبيه فأولدها قيل للولد: المقتي. وأصل المقت البغض؛ من مقته يمقته مقتا فهو ممقوت ومقيت. فكانت العرب تقول للرجل من امرأة أبيه: مقيت؛ فسمى تعالى هذا النكاح « مقتا » إذ هو ذا مقت يلحق فاعله. وقيل: المراد بالآية النهي عن أن يطأ الرجل امرأة وطئها الآباء، إلا ما قد سلف من الآباء في الجاهلية من الزنى بالنساء لا على وجه المناكحة فإنه جائز لكم زواجهن. وأن تطؤوا بعقد النكاح ما وطئه آباؤكم من الزنى؛ قال ابن زيد. وعليه فيكون الاستثناء متصلا، ويكون أصلا في أن الزنى لا يحرم على ما يأتي بيانه. والله أعلم.

 

الآية: 23 ( حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما )

 

قوله تعالى: « حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم » أي نكاح أمهاتكم ونكاح بناتكم؛ فذكر الله تعالى في هذه الآية ما يحل من النساء وما يحرم، كما ذكر تحريم حليلة الأب. فحرم الله سبعا من النسب وستا من رضاع وصهر، وألحقت السنة المتواترة سابعة؛ وذلك الجمع بين المرأة وعمتها، ونص عليه الإجماع. وثبتت الرواية عن ابن عباس قال: حرم من النسب سبع ومن الصهر سبع، وتلا هذه الآية. وقال عمرو بن سالم مولى الأنصار مثل ذلك، وقال: السابعة قوله تعالى: « والمحصنات » . فالسبع المحرمات من النسب: الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات، وبنات الأخ وبنات الأخت. والسبع المحرمات بالصهر والرضاع: الأمهات من الرضاعة والأخوات من الرضاعة، وأمهات النساء والربائب وحلائل الأبناء والجمع بين الأختين، والسابعة « ولا تنكحوا ما نكح آبائكم » . قال الطحاوي: وكل هذا من المحكم المتفق عليه، وغير جائز نكاح واحدة منهن بإجماع إلا أمهات النساء اللواتي لم يدخل بهن أزواجهن؛ فإن جمهور السلف ذهبوا إلى أن الأم تحرم بالعقد على الابنة، ولا تحرم الابنة إلا بالدخول بالأم؛ وبهذا قول جمعي أئمة الفتوى بالأمصار. وقالت طائفة من السلف: الأم والربيبة سواء، لا تحرم منهما واحدة إلا بالدخول بالأخرى.

قالوا: ومعنى قوله: « وأمهات نسائكم » أي اللاتي دخلتم بهن. « وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن » . وزعموا أن شرط الدخول راجع إلى الأمهات والربائب جميعا؛ رواه خلاس عن علي بن أبي طالب. وروي عن ابن عباس وجابر وزيد بن ثابت، وهو قول ابن الزبير ومجاهد. قال مجاهد: الدخول مراد في النازلتين؛ وقول الجمهور مخالف لهذا وعليه الحكم والفتيا، وقد شدد أهل العراق فيه حتى قالوا: لو وطئها بزنى أو قبلها أو لمسها بشهوة حرمت عليه ابنتها. وعندنا وعند الشافعي إنما تحرم بالنكاح الصحيح؛ والحرام لا يحرم الحلال على ما يأتي. وحديث خلاس عن علي لا تقوم به حجة، ولا تصح روايته عند أهل العلم بالحديث، والصحيح عنه مثل قول الجماعة. قال ابن جريج: قلت لعطاء الرجل ينكح المرأة ثم لا يراها ولا يجامعها حتى يطلقها أو تحل له أمها؟ قال: لا، هي مرسلة دخل بها أو لم يدخل. فقلت له: أكان ابن عباس يقرأ: « وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن » ؟ قال: لا لا. وروى سعيد عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: « وأمهات نسائكم » قال: هي مبهمة لا تحل بالعقد على الابنة؛ وكذلك روى مالك في موطئه عن زيد بن ثابت، وفيه: « فقال زيد لا، الأم مبهمة ليس فيها شرط وإنما الشرط في الربائب » . قال ابن المنذر: وهذا هو الصحيح؛ لدخول جميع أمهات النساء في قوله تعالى: « وأمهات نسائكم » . ويؤيد هذا القول من جهة الإعراب أن الخبرين إذا اختلفا في العامل لم يكن نعتهما واحدا؛ فلا يجوز عند النحويين مررت بنسائك وهربت من نساء زيد الظريفات، على أن تكون « الظريفات » نعتا لنسائك ونساء زيد؛ فكذلك الآية لا يجوز أن يكون « اللاتي » من نعتهما جميعا؛ لأن الخبرين مختلفان، ولكنه يجوز على معنى أعني. وأنشد الخليل وسيبويه:

إن بها أكتل أو رزاما خويربين ينقفان الهاما

خويربين يعني لصين، بمعنى أعني. وينقفان: يكسران؛ نقفت رأسه كسرته. وقد جاء صريحا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالبنت أو لم يدخل وإذا تزوج الأم فلم يدخل بها ثم طلقها فإن شاء تزوج البنت ) أخرجه في الصحيحين

وإذا تقرر هذا وثبت فاعلم أن التحريم ليس صفة للأعيان، والأعيان ليست موردا للتحليل والتحريم ولا مصدرا، وإنما يتعلق التكليف بالأمر والنهي بأفعال المكلفين من حركة وسكون؛ لكن الأعيان لما كانت موردا للأفعال أضيف الأمر والنهي والحكم إليها وعلق بها مجازا على معنى الكناية بالمحل عن الفعل الذي يحل به.

 

قوله تعالى: « أمهاتكم » تحريم الأمهات عام في كل حال لا يتخصص بوجه من الوجوه؛ ولهذا يسميه أهل العلم المبهم، أي لا باب فيه ولا طريق إليه لانسداد التحريم وقوته؛ وكذلك تحريم البنات والأخوات ومن ذكر من المحرمات. والأمهات جمع أمهة؛ يقال: أم وأمهة بمعنى واحد، وجاء القرآن بهما. وقد تقدم في الفاتحة بيانه. وقيل: إن أصل أم أمهة على وزن فعلة مثل قبرة وحمرة لطيرين، فسقطت وعادت في الجمع. قال الشاعر:

أمهتي خندف والدوس أبي

وقيل: أصل الأم أمة، وأنشدوا:

تقبلتها عن أمة لك طالما تثوب إليها في النوائب أجمعا

ويكون جمعها أمات. قال الراعي:

كانت نجائب منذر ومحرق أماتهن وطرقهن فحيلا

فالأم اسم لكل أنثى لها عليك ولادة؛ فيدخل في ذلك الأم دنية، وأمهاتها وجداتها وأم الأب وجداته وإن علون. والبنت اسم لكل أنثى لك عليها ولادة، وإن شئت قلت: كل أنثى يرجع نسبها إليك بالولادة بدرجة أو درجات؛ فيدخل في ذلك بنت الصلب وبناتها وبنات الأبناء وإن نزلن. والأخت اسم لكل أنثى جاورتك في أصليك أو في أحدهما والبنات جمع بنت، والأصل بنية، والمستعمل ابنة وبنت. قال الفراء: كسرت الباء من بنت لتدل الكسرة على الياء، وضمت الألف من أخت لتدل على حذف الواو، فإن أصل أخت أخوة، والجمع أخوات. والعمة اسم لكل أنثى شاركت أباك أو جدك في أصليه أو في أحدهما. وإن شئت قلت: كل ذكر رجع نسبه إليك فأخته عمتك. وقد تكون العمة من جهة الأم، وهي أخت أب أمك. والخالة اسم لكل أنثى شاركت أمك في أصليها أو في أحدهما. وإن شئت قلت: كل أنثى رجع نسبها إليك بالولادة فأختها خالتك. وقد تكون الخالة من جهة الأب وهي أخت أم أبيك. وبنت الأخ اسم لكل أنثى لأخيك عليها ولادة بواسطة أو مباشرة؛ وكذلك بنت الأخت. فهذه السبع المحرمات من النسب. وقرأ نافع - في رواية أبي بكر بن أبي أويس - بتشديد الخاء من الأخ إذا كانت فيه الألف واللام مع نقل الحركة.

 

قوله تعالى: « وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم » وهي في التحريم مثل من ذكرنا؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) . وقرأ عبدالله « وأمهاتكم اللائي » بغير تاء؛ كقوله تعالى: « واللائي يئسن من المحيض » [ الطلاق: 4 ] قال الشاعر:

من اللاء لم يحججن يبغين حسبة ولكن ليقتلن البريء المغفلا

« أرضعنكم » فإذا أرضعت المرأة طفلا حرمت عليه لأنها أمه، وبنتها لأنها أخته، وأختها لأنها خالته، وأمها لأنها جدته، وبنت زوجها صاحب اللبن لأنها أخته، وأخته لأنها عمته، وأمه لأنها جدته، وبنات بنيها وبناتها لأنهن بنات إخوته وأخواته.

 

قال أبو نعيم عبيدالله بن هشام الحلبي: سئل مالك عن المرأة أيحج معها أخوها من الرضاعة؟ قال: نعم. قال أبو نعيم: وسئل مالك عن امرأة تزوجت فدخل بها زوجها. ثم جاءت امرأة فزعمت أنها أرضعتهما؛ قال: يفرق بينهما، وما أخذت من شيء له فهو لها، وما بقي عليه فلا شيء عليه. ثم قال مالك: إن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن مثل هذا فأمر بذلك؛ فقالوا: يا رسول الله، إنها امرأة ضعيفة؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أليس يقال إن فلانا تزوج أخته ) ؟

 

التحريم بالرضاع إنما يحصل إذا اتفق الإرضاع في الحولين؛ كما تقدم في « البقرة » . ولا فرق بين قليل الرضاع وكثيره عندنا إذا وصل إلى الأمعاء ولو مصة واحدة. واعتبر الشافعي في الإرضاع شرطين: أحدهما خمس رضعات؛ لحديث عائشة قالت: كان فيما أنزل الله عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ من القرآن. موضع الدليل منه أنها أثبتت أن العشر نسخن بخمس، فلو تعلق التحريم بما دون الخمس لكان ذلك نسخا للخمس. ولا يقبل على هذا خبر واحد ولا قياس؛ لأنه لا ينسخ بهما. وفي حديث سهلة ( أرضعيه خمس رضعات يحرم بهن ) . الشرط الثاني: أن يكون في الحولين، فإن كان خارجا عنهما لم يحرم؛ لقوله تعالى: « حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة » [ البقرة: 233 ] . وليس بعد التمام والكمال شيء. واعتبر أبو حنيفة بعد الحولين ستة أشهر. ومالك الشهر ونحوه. وقال زفر: ما دام يجتزئ باللبن ولم يفطم فهو رضاع وإن أتى عليه ثلاث سنين. وقال الأوزاعي: إذا فطم لسنة واستمر فطامه فليس بعده رضاع. وانفرد الليث بن سعد من بين العلماء إلى أن رضاع الكبير يوجب التحريم؛ وهو قول عائشة رضي الله عنها؛ وروي عن أبي موسى الأشعري، وروي عنه ما يدل على رجوعه عن ذلك، وهو ما رواه أبو حصين عن أبي عطية قال: قدم رجل بامرأته من المدينة فوضعت وتورم ثديها، فجعل يمصه ويمجه فدخل في بطنه جرعة منه؛ فسأل أبا موسى فقال: بانت منك، وأت ابن مسعود فأخبره، ففعل؛ فأقبل بالأعرابي إلى أبي موسى الأشعري وقال: أرضيعا ترى هذا الأشمط ! إنما يحرم من الرضاع ما ينبت اللحم والعظم. فقال الأشعري: لا تسألوني عن شيء وهذا الحبر بين أظهركم. فقوله: « لا تسألوني » يدل على أنه رجع عن ذلك. واحتجت عائشة بقصة سالم مولى أبي حذيفة وأنه كان رجلا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لسهلة بنت سهيل: ( أرضعيه ) خرجه الموطأ وغيره. وشذت طائفة فاعتبرت عشر رضعات؛ تمسكا بأنه كان فيما أنزل: عشر رضعات. وكأنهم لم يبلغهم الناسخ. وقال داود: لا يحرم إلا بثلاث رضعات؛ واحتج بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تحرم الإملاجة والإملاجتان ) . خرجه مسلم. وهو مروى عن عائشة وابن الزبير، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد، وهو تمسك بدليل الخطاب، وهو مختلف فيه. وذهب من عدا هؤلاء من أئمة الفتوى إلى أن الرضعة الواحدة تحرم إذا تحققت كما ذكرنا؛ متمسكين بأقل ما ينطلق عليه اسم الرضاع. وعضد هذا بما وجد من العمل عليه بالمدينة وبالقياس على الصهر؛ بعلة أنه معنى طارئ يقتضي تأبيد التحريم فلا يشترط فيه العدد كالصهر. وقال الليث بن سعد: وأجمع المسلمون على أن قليل الرضاع وكثيره يحرم في المهد ما يفطر الصائم. قال أبو عمر. لم يقف الليث على الخلاف في ذلك.

قلت: وأنص ما في هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا تحرم المصة ولا المصتان ) أخرجه مسلم في صحيحه. وهو يفسر معنى قوله تعالى: « وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم » أي أرضعنكم ثلاث رضعات فأكثر؛ غير أنه يمكن أن يحمل على ما إذا لم يتحقق وصوله إلى جوف الرضيع؛ لقوله: « عشر رضعات معلومات. وخمس رضعات معلومات » . فوصفها بالمعلومات إنما هو تحرز مما يتوهم أو يشك في وصوله إلى الجوف. ويفيد دليل خطابه أن الرضعات إذا كانت غير معلومات لم تحرم. والله أعلم. وذكر الطحاوي أن حديث الإملاجة والإملاجتين لا يثبت؛ لأنه مرة يرويه ابن الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومرة يرويه عن عائشة، ومرة يرويه عن أبيه؛ ومثل هذا الاضطراب يسقطه. وروي عن عائشة أنه لا يحرم إلا سبع رضعات. وروي عنها أنها أمرت أختها « أم كلثوم » أن ترضع سالم بن عبدالله عشر رضعات. وروي عن حفصة مثله، وروي عنها ثلاث، وروي عنها خمس؛ كما قال الشافعي رضي الله عنه، وحكي عن إسحاق.

 

قوله تعالى: « وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم » استدل به من نفى لبن الفحل، وهو سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وأبو سلمة بن عبدالرحمن، وقالوا: لبن الفحل لا يحرم شيئا من قبل الرجل. وقال الجمهور: قوله تعالى: « وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم » يدل على أن الفحل أب؛ لأن اللبن منسوب إليه فإنه در بسبب ولده. وهذا ضعيف؛ فإن الولد خلق من ماء الرجل والمرأة جميعا، واللبن من المرأة ولم يخرج من الرجل، وما كان من الرجل إلا وطء هو سبب لنزول الماء منه، وإذا فصل الولد خلق الله اللبن من غير أن يكون مضافا إلى الرجل بوجه ما؛ ولذلك لم يكن للرجل حق في اللبن، وإنما اللبن لها، فلا يمكن أخذ ذلك من القياس على الماء. وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) يقتضي التحريم من الرضاع، ولا يظهر وجه نسبة الرضاع إلى الرجل مثل ظهور نسبة الماء إليه والرضاع منها. نعم، الأصل فيه حديث الزهري وهشام بن عروة عن عروة عن عائشة رضي الله عنها: أن أفلح أخا القعيس جاء يستأذن عليها، وهو عمها من الرضاعة بعد أن نزل الحجاب. قالت: فأبيت أن آذن له؛ فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته فقال: ( ليلج عليك فإنه عمك تربت يمينك ) . وكان أبو القعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة رضي الله عنها؛ وهذا أيضا خبر واحد. ويحتمل أن يكون « أفلح » مع أبي بكر رضيعي لبان فلذلك قال: ( ليلج عليك فإنه عمك ) . وبالجملة فالقول فيه مشكل والعلم عند الله، ولكن العمل عليه، والاحتياط في التحريم أولى، مع أن قوله تعالى: « وأحل لكم ما وراء ذلكم » يقوي قول المخالف.

 

قوله تعالى: « وأخواتكم من الرضاعة » وهي الأخت لأب وأم، وهي التي أرضعتها أمك بلبان أبيك؛ سواء أرضعتها معك أو ولدت قبلك أو بعدك. والأخت من الأب دون الأم، وهي التي أرضعتها زوجة أبيك. والأخت من الأم دون الأب، وهي التي أرضعتها أمك بلبان رجل آخر. ثم ذكر التحريم بالمصاهرة فقال تعالى: « وأمهات نسائكم » والصهر أربع: أم المرأة وابنتها وزوجة الأب وزوجة الابن. فأم المرأة تحرم بمجرد العقد الصحيح على ابنتها على ما تقدم

 

قوله تعالى: « وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن » هذا مستقل بنفسه. ولا يرجع قوله: « من نسائكم اللاتي دخلتم بهن » إلى الفريق الأول، بل هو راجع إلى الربائب، إذ هو أقرب مذكور كما تقدم. والربيبة: بنت امرأة الرجل من غيره؛ سميت بذلك لأنه يربيها في حجره فهي مربوبة، فعيلة بمعنى مفعولة. واتفق الفقهاء على أن الربيبة تحرم على زوج أمها إذا دخل بالأم، وإن لم تكن الربيبة في حجره. وشذ بعض المتقدمين وأهل الظاهر فقالوا: لا تحرم عليه الربيبة إلا أن تكون في حجر المتزوج بأمها؛ فلو كانت في بلد آخر وفارق الأم بعد الدخول فله أن يتزوج بها؛ واحتجوا بالآية فقالوا: حرم الله تعالى الربيبة بشرطين: أحدهما: أن تكون في حجر المتزوج بأمها. والثاني: الدخول بالأم؛ فإذا عدم أحد الشرطين لم يوجد التحريم. واحتجوا بقوله عليه السلام: ( لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها ابنة أخي من الرضاعة ) فشرط الحجر. ورووا عن علي بن أبي طالب إجازة ذلك. قال ابن المنذر والطحاوي: أما الحديث عن علي فلا يثبت؛ لأن راويه إبراهيم بن عبيد عن مالك بن أوس عن علي، وإبراهيم هذا لا يعرف، وأكثر أهل العلم قد تلقوه بالدفع والخلاف. قال أبو عبيد: ويدفعه قوله: ( فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن ) فعم. ولم يقل: اللائي في حجري، ولكنه سوى بينهن في التحريم. قال الطحاوي: وإضافتهن إلى الحجور إنما ذلك على الأغلب مما يكون عليه الربائب؛ لا أنهن لا يحرمن إذا لم يكن كذلك.

 

قوله تعالى: « فإن لم تكونوا دخلتم بهن » يعني بالأمهات. « فلا جناح عليكم » يعني في نكاح بناتهن إذا طلقتموهن أو متن عنكم. وأجمع العلماء على أن الرجل إذا تزوج المرأة ثم طلقها أو ماتت قبل أن يدخل بها حل له نكاح ابنتها. واختلفوا في معنى الدخول بالأمهات الذي يقع به تحريم الربائب؛ فروي عن ابن عباس أنه قال: الدخول الجماع؛ وهو قول طاوس وعمرو بن دينار وغيرهما. واتفق مالك والثوري وأبو حنيفة والأوزاعي والليث على أنه إذا مسها بشهوه حرمت عليه أمها وابنتها وحرمت على الأب والابن، وهو أحد قولي الشافعي. واختلفوا في النظر؛ فقال مالك: إذا نظر إلى شعرها أو صدرها أو شيء من محاسنها للذة حرمت عليه أمها وابنتها. وقال الكوفيون: إذا نظر إلى فرجها للشهوة كان بمنزلة اللمس للشهوة. وقال الثوري: يحرم إذا نظر إلى فرجها متعمدا أو لمسها؛ ولم يذكر الشهوة. وقال ابن أبي ليلى: لا تحرم بالنظر حتى يلمس؛ وهو قول الشافعي. والدليل على أن بالنظر يقع التحريم أن فيه نوع استمتاع فجرى مجرى النكاح؛ إذ الأحكام تتعلق بالمعاني لا بالألفاظ. وقد يحتمل أن يقال: إنه نوع من الاجتماع بالاستمتاع؛ فإن النظر اجتماع ولقاء، وفيه بين المحبين استمتاع؛ وقد بالغ في ذلك الشعراء فقالوا:

أليس الليل يجمع أم عمرو وإيانا فذاك بنا تدان

نعم، وترى الهلال كما أراه ويعلوها النهار كما علاني

فكيف بالنظر والمجالسة والمحادثة واللذة.

 

قوله تعالى: « وحلائل أبنائكم » الحلائل جمع حليلة، وهي الزوجة. سميت حليلة لأنها تحل مع الزوج حيث حل؛. فهي فعيلة بمعنى فاعلة. وذهب الزجاج وقوم إلى أنها من لفظة الحلال؛ فهي حليلة بمعنى محللة. وقيل: لأن كل واحد منهما يحل إزار صاحبه.

أجمع العلماء على تحريم ما عقد عليه الآباء على الأبناء، وما عقد عليه الأبناء على الآباء، كان مع العقد وطء أو لم يكن؛ لقوله تعالى: « ولا تنكحوا ما نكح آبائكم من النساء » وقوله تعالى: « وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم » ؛ فإن نكح أحدهما نكاحا فاسدا حرم على الآخر العقد عليها كما يحرم بالصحيح؛ لأن النكاح الفاسد لا يخلو: إما أن يكون متفقا على فساده أو مختلفا فيه. فإن كان متفقا على فساده لم يوجب حكما وكان وجوده كعدمه. وإن كان مختلفا فيه فيتعلق به من الحرمة ما يتعلق بالصحيح؛ لاحتمال أن يكون نكاحا فيدخل تحت مطلق اللفظ. والفروج إذا تعارض فيها التحريم والتحليل غلب التحريم. والله أعلم. قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من علماء الأمصار على أن الرجل إذا وطئ امرأة بنكاح فاسد أنها تحرم على أبيه وابنه وعلى أجداده وولد ولده.

 

وأجمع العلماء على أن عقد الشراء على الجارية لا يحرمها على أبيه وابنه؛ فإذا اشترى الرجل جارية فلمس أو قبل حرمت على أبيه وابنه، لا أعلمهم يختلفون فيه؛ فوجب تحريم ذلك تسليما لهم. ولما اختلفوا في تحريمها بالنظر دون اللمس لم يجز ذلك لاختلافهم. قال ابن المنذر: ولا يصح عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلناه. وقال يعقوب ومحمد: إذا نظر رجل في فرج امرأة من شهوة حرمت على أبيه وابنه، وتحرم عليه أمها وابنتها. وقال مالك: إذا وطئ الأمة أو قعد منها مقعدا لذلك وإن لم يفض إليها، أو قبلها أو باشرها أو غمزها تلذذا فلا تحل لابنه. وقال الشافعي: إنما تحرم باللمس ولا تحرم بالنظر دون اللمس؛ وهو قول الأوزاعي

 

واختلفوا في الوطء بالزنى هل يحرم أم لا؛ فقال أكثر أهل العلم: لو أصاب رجل امرأة بزنى لم يحرم عليه نكاحها بذلك؛ وكذلك لا تحرم عليه امرأته إذا زنى بأمها أو بابنتها، وحسبه أن يقام عليه الحد، ثم يدخل بامرأته. ومن زنى بامرأة ثم أراد نكاح أمها أو ابنتها لم تحرما عليه بذلك. وقالت طائفة: تحرم عليه. روي هذا القول عن عمران بن حصين؛ وبه قال الشعبي وعطاء والحسن وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي، وروي عن مالك؛ وأن الزنى يحرم الأم والابنة وأنه بمنزلة الحلال، وهو قول أهل العراق. والصحيح من قول مالك وأهل الحجاز: أن الزنى لا حكم له؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: « وأمهات نسائكم » وليست التي زنى بها من أمهات نسائه، ولا ابنتها من ربائبه. وهو قول الشافعي وأبي ثور. لأنه لما ارتفع الصداق في الزنى ووجوب العدة والميراث ولحقوق الولد ووجوب الحد ارتفع أن يحكم له بحكم النكاح الجائز. وروى الدارقطني من حديث الزهري عن عروة عن عائشة قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل زنى بامرأة فأراد أن يتزوجها أو ابنتها فقال: ( لا يحرم الحرام الحلال إنما يحرم ما كان بنكاح ) . ومن الحجة للقول الآخر إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن جريج وقوله: ( يا غلام من أبوك ) قال: فلان الراعي. فهذا يدل على أن الزنى يحرم كما يحرم الوطء الحلال؛ فلا تحل أم المزني بها ولا بناتها لآباء الزاني ولا لأولاده؛ وهي رواية ابن القاسم في المدونة. ويستدل به أيضا على أن المخلوقة من ماء الزنى لا تحل للزاني بأمها، وهو المشهور. قال عليه السلام: ( لا ينظر الله إلى رجل نظر إلى فرج امرأة وابنتها ) ولم يفصل بين الحلال والحرام. وقال عليه السلام: ( لا ينظر الله إلى من كشف قناع امرأة وابنتها ) . قال ابن خويز منداد: ولهذا قلنا إن القبلة وسائر وجوه الاستمتاع ينشر الحرمة. وقال عبدالملك الماجشون: إنها تحل؛ وهو الصحيح لقوله تعالى: « وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا » [ الفرقان: 54 ] يعني بالنكاح الصحيح، على ما يأتي في « الفرقان » بيانه. ووجه التمسك من الحديث على تلك المسألتين أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكى عن جريج أنه نسب ابن الزنى للزاني، وصدق الله نسبته بما خرق له من العادة في نطق الصبي بالشهادة له بذلك؛ وأخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم عن جريج في معرض المدح وإظهار كرامته؛ فكانت تلك النسبة صحيحة بتصديق الله تعالى وبإخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ فثبتت البنوة وأحكامها.

فإن قيل: فيلزم على هذا أن تجري أحكام البنوة والأبوة من التوارث والولايات وغير ذلك، وقد اتفق المسلمون على أنه لا توارث بينهما فلم تصح تلك النسبة؟

فالجواب: إن ذلك موجب ما ذكرناه. وما انعقد عليه الإجماع من الأحكام استثنيناه، وبقي الباقي على أصل ذلك الدليل، والله أعلم.

 

واختلف العلماء أيضا من هذا الباب في مسألة اللائط؛ فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم: لا يحرم النكاح باللواط. وقال الثوري: إذا لعب بالصبي حرمت عليه أمه؛ وهو قول أحمد بن حنبل. قال: إذا تلوط بابن امرأته أو أبيها أو أخيها حرمت عله امرأته. وقال الأوزاعي: إذا لاط بغلام وولد للمفجور به بنت لم يجز للفاجر أن يتزوجها؛ لأنها بنت من قد دخل به. وهو قول أحمد بن حنبل.

 

قوله تعالى: « الذين من أصلابكم » تخصيص ليخرج عنه كل من كانت العرب تتبناه ممن ليس للصلب. ولما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم امرأة زيد بن حارثة قال المشركون: تزوج امرأة ابنه ! وكان عليه السلام تبناه؛ على ما يأتي بيانه في « الأحزاب » . وحرمت حليلة الابن من الرضاع وإن لم يكن للصلب - بالإجماع المستند إلى قوله عليه السلام: ( يحرم الرضاع ما يحرم من النسب ) .

 

قوله تعالى: « وأن تجمعوا بين الأختين » موضع « أن » رفع على العطف على « حرمت عليكم أمهاتكم » . والأختان لفظ يعم الجميع بنكاح وبملك يمين. وأجمعت الأمة على منع جمعهما في عقد واحد من النكاح لهذه الآية، وقوله عليه السلام: ( لا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن ) . واختلفوا في الأختين بملك اليمين؛ فذهب كافة العلماء إلى أنه لا يجوز الجمع بينهما بالملك في الوطء، وإن كان يجوز الجمع بينهما في الملك بإجماع؛ وكذلك المرأة وابنتها صفقة واحدة. واختلفوا في عقد النكاح على أخت الجارية التي وطئها؛ فقال الأوزاعي: إذا وطئ جارية له بملك اليمين لم يجز له أن يتزوج أختها. وقال الشافعي: ملك اليمين لا يمنع نكاح الأخت. قال أبو عمر: من جعل عقد النكاح كالشراء أجازه، ومن جعله كالوطء لم يجزه. وقد أجمعوا على أنه لا يجوز العقد على أخت الزوجة؛ لقول الله تعالى: « وأن تجمعوا بين الأختين » يعني الزوجتين بعقد النكاح. فقف على ما اجتمعوا عليه وما اختلفوا فيه يتبين لك الصواب إن شاء الله. والله أعلم.

 

شذ أهل الظاهر فقالوا: يجوز الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء؛ كما يجوز الجمع بينهما في الملك. واحتجوا بما روي عن عثمان في الأختين من ملك اليمين: « حرمتهما آية وأحلتهما آية » . ذكره عبدالرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن قبيصة بن ذؤيب أن عثمان بن عفان سئل عن الأختين مما ملكت اليمين فقال: لا آمرك ولا أنهاك أحلتهما آية وحرمتهما آية. فخرج السائل فلقي رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال معمر: أحسبه قال علي - قال: وما سألت عنه عثمان؟ فأخبره بما سأل وبما أفتاه؛ فقال له: لكني أنهاك، ولو كان لي عليك سبيل ثم فعلت لجعلتك نكالا. وذكر الطحاوي والدارقطني عن علي وابن عباس مثل قول عثمان. والآية التي أحلتهما قوله تعالى: « وأحل لكم ما وراء ذلكم » . ولم يلتفت أحد من أئمة الفتوى إلى هذا القول؛ لأنهم فهموا من تأويل كتاب الله خلافه، ولا يجوز عليهم تحريف التأويل. وممن قال ذلك من الصحابة: عمر وعلي وابن مسعود وعثمان وابن عباس وعمار وابن عمر وعائشة وابن الزبير؛ وهؤلاء أهل العلم بكتاب الله، فمن خالفهم فهو متعسف في التأويل. وذكر ابن المنذر أن إسحاق بن راهويه حرم الجمع بينهما بالوطء، وأن جمهور أهل العلم كرهوا ذلك، وجعل مالكا فيمن كرهه. ولا خلاف في جواز جمعهما في الملك، وكذلك الأم وابنتها. قال ابن عطية: ويجيء من قول إسحاق أن يرجم الجامع بينهما بالوطء، وتستقرأ الكراهية من قول مالك: إنه إذا وطئ واحدة ثم وطئ الأخرى وقف عنهما حتى يحرم إحداهما؛ فلم يلزمه حدا. قال أبو عمر: ( أما قول علي لجعلته نكالا ) ولم يقل لحددته حد الزاني؛ فلأن من تأول آية أو سنة ولم يطأ عند نفسه حراما فليس بزان بإجماع وإن كان مخطئا، إلا أن يدعي من ذلك ما لا يعذر بجهله. وقول بعض السلف في الجمع بين الأختين بملك اليمين: ( أحلتهما آية وحرمتهما آية ) معلوم محفوظ؛ فكيف يحد حد الزاني من فعل ما فيه مثل هذا من الشبهة القوية؟ وبالله التوفيق.

 

واختلف العلماء إذا كان يطأ واحدة ثم أراد أن يطأ الأخرى؛ فقال علي وابن عمر والحسن البصري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق: لا يجوز له وطء الثانية حتى يحرم فرج الأخرى بإخراجها من ملكه ببيع أو عتق، أو بأن يزوجها. قال ابن المنذر: وفيه قول ثان لقتادة، وهو أنه إذا كان يطأ واحدة وأراد وطء الأخرى فإنه ينوي تحريم الأولى على نفسه وألا يقربها، ثم يمسك عنهما حتى يستبرئ الأولى المحرمة، ثم يغشى الثانية. وفيه قول ثالث: وهو إذا كان عنده أختان فلا يقرب واحدة منهما. هكذا قال الحكم وحماد؛ وروي معنى ذلك عن النخعي. ومذهب مالك: إذا كان أختان عند رجل بملك فله أن يطأ أيتهما شاء، والكف عن الأخرى موكول إلى أمانته. فإن أراد وطء الأخرى فيلزمه أن يحرم على نفسه فرج الأولى بفعل يفعله من إخراج عن الملك: إما بتزويج أو بيع أو عتق إلى أجل أو كتابة أو إخدام طويل. فإن كان يطأ إحداهما ثم وثب على الأخرى دون أن يحرم الأولى وقف عنهما، ولم يجز له قرب إحداهما حتى يحرم الأخرى؛ ولم يوكل ذلك إلى أمانته؛ لأنه متهم فيمن قد وطئ؛ ولم يكن قبل متهما إذ كان لم يطأ إلا الواحدة. ومذهب الكوفيين في هذا الباب: الثوري وأبي حنيفة وأصحابه أنه إن وطئ إحدى أمتيه لم يطأ الأخرى؛ فإن باع الأولى أو زوجها ثم رجعت إليه أمسك عن الأخرى؛ وله أن يطأها ما دامت أختها في العدة من طلاق أو وفاة. فأما بعد انقضاء العدة فلا، حتى يملك فرج التي يطأ غيره؛ وروي معنى ذلك عن علي رضي الله عنه. قالوا: لأن الملك الذي منع وطء الجارية في الابتداء موجود، فلا فرق بين عودتها إليه وببن بقائها في ملكه. وقول مالك حسن؛ لأنه تحريم صحيح في الحال ولا يلزم مراعاة المال؛ وحسبه إذا حرم فرجها عليه ببيع أو بتزويج أنها حرمت عليه في الحال. ولم يختلفوا في العتق؛ لأنه لا يتصرف فيه بحال؛ وأما الكاتبة فقد تعجز فترجع إلى ملكه. فإن كان عند رجل أمة يطؤها ثم تزوج أختها ففيها في المذهب ثلاثة أقوال في النكاح. الثالث: في المدونة أنه يوقف عنهما إذا وقع عقد النكاح حتى يحرم إحداهما مع كراهية لهذا النكاح؛ إذ هو عقد في موضع لا يجوز فيه الوطء. وفي هذا ما يدل على أن ملك اليمين لا يمنع النكاح؛ كما تقدم عن الشافعي. وفي الباب بعينه قول آخر: أن النكاح لا ينعقد؛ وهو معنى قول الأوزاعي. وقال أشهب في كتاب الاستبراء: عقد النكاح في الواحدة تحريم لفرج المملوكة.

 

وأجمع العلماء على أن الرجل إذا طلق زوجته طلاقا يملك رجعتها أنه ليس له أن ينكح أختها أو أربعا سواها حتى تنقضي عدة المطلقة. واختلفوا إذا طلقها طلاقا لا يملك رجعتها؛ فقالت طائفة: ليس له أن ينكح أختها ولا رابعة حتى تنقضي عدة التي طلق؛ وروي عن علي وزيد بن ثابت، وهو مذهب مجاهد وعطاء بن أبي رباح والنخعي، وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وأصحاب الرأي. وقالت طائفة: له أن ينكح أختها وأربعا سواها؛ وروي عن عطاء، وهي أثبت الروايتين عنه، وروي عن زيد بن ثابت أيضا؛ وبه قال سعيد بن المسيب والحسن والقاسم وعروة بن الزبير وابن أبي ليلى والشافعي وأبو ثور وأبو عبيد. قال ابن المنذر: ولا أحسبه إلا قول مالك وبه نقول.

 

قوله تعالى: « إلا ما قد سلف » يحتمل أن يكون معناه معنى قوله: « إلا ما قد سلف » في قوله: « ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف » . ويحتمل معنى زائدا وهو جواز ما سلف، وأنه إذا جرى الجمع في الجاهلية كان النكاح صحيحا، وإذا جرى في الإسلام خير بين الأختين؛ على ما قاله مالك والشافعي، من غير إجراء عقود الكفار على موجب الإسلام ومقتضى الشرع؛ وسواء عقد عليهما عقدا واحدا جمع به بينهما أو جمع بينهما في عقدين. وأبو حنيفة يبطل نكاحهما إن جمع في عقد واحد. وروى هشام بن عبدالله عن محمد بن الحسن أنه قال: كان أهل الجاهلية يعرفون هذه المحرمات كلها التي ذكرت في هذه الآية إلا اثنتين؛ إحداهما نكاح امرأة الأب، والثانية، الجمع بين الأختين؛ ألا ترى أنه قال: « ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف » . « وان تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف » ولم يذكر في سائر المحرمات « إلا ما قد سلف » . والله أعلم.