الجزء السادس

 

الآيتان: 148 - 149 ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما، إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا )

 

قوله تعالى: « لا يحب الله الجهر بالسوء من القول » وتم الكلام. ثم قال عز وجل: « إلا من ظلم » استثناء ليس من الأول في موضع نصب؛ أي لكن من ظلم فله أن يقول ظلمني فلان. ويجوز أن يكون في موضع رفع ويكون التقدير: لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء إلا من ظلم. وقراءة الجمهور « ظلم » بضم الظاء وكسر اللام؛ ويجوز إسكانها. ومن قرأ « ظلم » بفتح الظاء وفتح اللام وهو زيد بن أسلم وابن أبي إسحاق وغيرهما على ما يأتي، فلا يجوز له أن يسكن اللام لخفة الفتحة. فعلى القراءة الأولى قالت طائفة: المعنى لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول إلا من ظلم فلا يكره له الجهر به. ثم اختلفوا في كيفية الجهر بالسوء وما هو المباح من ذلك؛ فقال الحسن: هو الرجل يظلم الرجل فلا يدع عليه، ولكن ليقل: اللهم أعني عليه، اللهم استخرج حقي، اللهم حل بينه وبين ما يريد من ظلمي. فهذا دعاء في المدافعة وهي أقل منازل السوء. وقال ابن عباس وغيره: المباح لمن ظلم أن يدعو على من ظلمه، وإن صبر فهو خير له؛ فهذا إطلاق في نوع الدعاء على الظالم. وقال أيضا هو والسدي: لا بأس لمن ظلم أن ينتصر ممن ظلمه بمثل ظلمه ويجهر له بالسوء من القول. وقال ابن المستنير: « إلا من ظلم » معناه؛ إلا من أكره على أن يجهر بسوء من القول كفر أو نحوه فذلك مباح. والآية على هذا في الإكراه؛ وكذا قال قطرب: « إلا من ظلم » يريد المكره؛ لأنه مظلوم فذلك موضوع عنه وإن كفر؛ قال: ويجوز أن يكون المعنى « إلا من ظلم » على البدل؛ كأنه قال: لا يحب الله إلا من ظلم، أي لا يحب الله الظالم؛ فكأنه يقول: يحب من ظلم أي يأجر من ظلم. والتقدير على هذا القول: لا يحب الله ذا الجهر بالسوء إلا من ظلم، على البدل. وقال مجاهد: نزلت في الضيافة فرخص له أن يقول فيه. قال ابن جريج عن مجاهد: نزلت في رجل ضاف رجلا بفلاة من الأرض فلم يضيفه فنزلت « إلا من ظلم » ورواه ابن أبي نجيح أيضا عن مجاهد؛ قال: نزلت هذه الآية « لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم » في الرجل يمر بالرجل فلا يضيفه فرخص له أن يقول فيه: إنه لم يحسن ضيافته. وقد استدل من أوجب الضيافة بهذه الآية؛ قالوا: لأن الظلم ممنوع منه فدل على وجوبها؛ وهو قول الليث بن سعد. والجمهور على أنها من مكارم الأخلاق وسيأتي بيانها في « هود » والذي يقتضيه ظاهر الآية أن للمظلوم أن ينتصر من ظالمه - ولكن مع اقتصاد - وإن كان مؤمنا كما قال الحسن؛ فأما أن يقابل القذف بالقذف ونحوه فلا؛ وقد تقدم في « البقرة » . وإن كان كافرا فأرسل لسانك وأدع بما شئت من الهلكة وبكل دعاء؛ كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: ( اللهم أشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف ) وقال: ( اللهم عليك بفلان وفلان ) سماهم. وإن كان مجاهرا بالظلم دعي عليه جهرا، ولم يكن له عرض محترم ولا بدن محترم ولا مال محترم. وقد روي أبو داود عن عائشة قال: سرق لها شيء فجعلت تدعو عليه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تسبخي عنه ) أي لا تخففي عنه العقوبة بدعائك عليه. وروي، أيضا عن عمرو بن الشريد عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته ) . قال ابن المبارك: يحل عرضه يغلظ له، وعقوبته يحبس له. وفي صحيح مسلم ( مطل الغني ظلم ) . فالموسر المتمكن إذا طولب بالأداء ومطل ظلم، وذلك يبيح من عرضه أن يقال فيه: فلان يمطل الناس ويحبس حقوقهم ويبيح للإمام أدبه وتعزيره حتى يرتدع عن ذلك؛ حكي معناه عن سفيان، وهو معنى قول ابن المبارك رضي الله عنهما.

 

وليس من هذا الباب ما وقع في صحيح مسلم من قول العباس في علي رضي الله عنهما بحضرة عمر وعثمان والزبير وعبدالرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن. الحديث. ولم يرد عليه واحد منهم؛ لأنها كانت حكومة، كل واحد منهما يعتقدها لنفسه، حتى أنفذ فيها عليهم عمر الواجب؛ قاله ابن العربي. وقال علماؤنا: هذا إنما يكون فيما إذا استوت المنازل أو تقاربت، وأما إذا تفاوتت، فلا تمكن الغوغاء من أن تستطيل على الفضلاء، وإنما تطلب حقها بمجرد الدعوى من غير تصريح بظلم ولا غضب؛ وهذا صحيح وعليه تدل الآثار. ووجه آخر: وهو أن هذا القول أخرجه من العباس الغضب وصولة سلطة العمومة ! فإن العم صنو الأب، ولا شك أن الأب إذا أطلق هذه الألفاظ على ولده إنما يحمل ذلك منه على أنه قصد الإغلاظ والردع مبالغة في تأديبه، لا أنه موصوف بتلك الأمور؛ ثم أنضاف إلى هذا أنهم في محاجة ولاية دينية؛ فكان العباس يعتقد أن مخالفته فيها لا تجوز، وأن مخالفته فيها تؤدي إلى أن يتصف المخالف بتلك الأمور؛ فأطلقها ببوادر الغضب على هذه الأوجه؛ ولما علم الحاضرون ذلك لم ينكروا عليه؛ أشار إلى هذا المازري والقاضي عياض وغيرهما.

 

فأما من قرأ « ظلم » بالفتح في الظاء واللام - وهي، قراءة زيد بن أسلم، وكان من العلماء بالقرآن بالمدينة بعد محمد بن كعب القرظي، وقراءة ابن أبي إسحاق والضحاك وابن عباس وابن جبير وعطاء بن السائب - فالمعنى: إلا من ظلم في فعل أو قول فاجهروا له بالسوء من القول؛ في معنى النهي عن فعله والتوبيخ له والرد عليه؛ المعنى لا يحب الله أن يقال لمن تاب من النفاق: ألست نافقت ؟ إلا من ظلم، أي أقام على النفاق؛ ودل على هذا قوله تعالى: « إلا الذين تابوا » . قال ابن زيد: وذلك أنه سبحانه لما أخبر عن المنافقين أنهم في الدرك الأسفل من النار كان ذلك جهرا بسوء من القول، ثم قال لهم بعد ذلك: « ما يفعل الله بعذابكم » [ النساء: 147 ] على معنى التأنيس والاستدعاء إلى الشكر والإيمان. ثم قال للمؤمنين: « لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم » في إقامته على النفاق؛ فإنه يقال له: ألست المنافق الكافر الذي لك في الآخرة الدرك الأسفل من النار ؟ ونحو هذا من القول. وقال قوم: معنى الكلام: لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول، ثم استثنى استثناء منقطعا؛ أي لكن من ظلم فإنه يجهر بالسوء ظلما وعدوانا وهو ظالم في ذلك.

قلت: وهذا شأن كثير من الظلمة ودأبهم؛ فإنهم مع ظلمهم يستطيلون بألسنتهم وينالون من عرض مظلومهم ما حرم عليهم. وقال أبو إسحاق الزجاج: يجوز أن يكون المعنى « إلا من ظلم » فقال سوءا؛ فإنه ينبغي أن تأخذوا على يديه؛ ويكون الاستثناء ليس من الأول.

قلت: ويدل على هذا أحاديث منها قوله عليه السلام: ( خذوا على أيدي سفهائكم ) . وقوله: ( انصر أخاك ظالما أو مظلوما ) قالوا: هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما ؟ قال: ( تكفه عن الظلم ) . وقال الفراء: « إلا من ظلم » يعني ولا من ظلم.

 

قوله تعالى: « وكان الله سميعا عليما » تحذير للظالم حتى لا يظلم، وللمظلوم حتى لا يتعدى الحد في الانتصار. ثم أتبع هذا بقوله: « إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء » فندب إلى العفو ورغب فيه. والعفو من صفة الله تعالى مع القدرة على الانتقام؛ وقد تقدم في « آل عمران » فضل العافين عن الناس. ففي هذه الألفاظ اليسيرة معان كثيرة لمن تأملها. وقيل: إن عفوت فإن الله يعفو عنك. روي ابن المبارك قال: حدثني من سمع الحسن يقول: إذا جئت الأمم بين يدي رب العالمين يوم القيامة نودي ليقم من أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا؛ يصدق هذا الحديث قوله تعالى: « فمن عفا وأصلح فأجره على الله » [ الشورى: 40 ] .

 

الآيتان: 150 - 151 ( إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا، أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا )

 

قوله تعالى: « إن الذين يكفرون » لما ذكر المشركين والمنافقين ذكر الكفار من أهل الكتاب، اليهود والنصارى؛ إذ كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبين أن الكفر به كفر بالكل؛ لأنه ما من نبي إلا وقد أمر قومه بالإيمان بحمد صلى الله عليه وسلم وبجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ومعنى « يريدون أن يفرقوا بين الله ورسله » أي بين الإيمان بالله ورسله؛ فنص سبحانه على أن التفريق بين الله ورسله كفر؛ وإنما كان كفرا لأن الله سبحانه فرض على الناس أن يعبدوه بما شرع لهم على ألسنة الرسل، فإذا جحدوا الرسل ردوا عليهم شرائعهم ولم يقبلوها منهم، فكانوا ممتنعين من التزام العبودية التي أمروا بالتزامها؛ فكان كجحد الصانع سبحانه، وجحد الصانع كفر لما فيه من ترك التزام الطاعة والعبودية. وكذلك التفريق بين رسله في الإيمان بهم كفر.

 

قوله تعالى: « ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض » وهم اليهود آمنوا بموسى وكفروا بعيسى ومحمد؛ وقد تقدم هذا من قولهم في « البقرة » . ويقولون لعوامهم: لم نجد ذكر محمد في كتبنا. « ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا » أي يتخذوا بين الإيمان والجحد طريقا، أي دينا مبتدعا بين الإسلام واليهودية. وقال: « ذلك » ولم يقل ذينك؛ لأن ذلك تقع للاثنين ولو كان ذينك لجاز.

 

قوله تعالى: « أولئك هم الكافرون حقا » تأكيد يزيل التوهم في إيمانهم حين وصفهم بأنهم يقولون نؤمن ببعض، وأن ذلك لا ينفعهم إذا كفروا برسوله؛ وإذا كفروا برسوله فقد كفروا به عز وجل، وكفروا بكل رسول مبشر بذلك الرسول؛ فلذلك صاروا الكافرين حقا. « وأعتدنا للكافرين » يقوم مقام المفعول الثاني لأعتدنا؛ أي أعتدنا لجميع أصنافهم « عذابا مهينا » أي مذلا.

 

الآية: 152 ( والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما )

 

يعني به النبي صلى الله عليه وسلم وأمته.

 

الآية: 153 ( يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا )

 

سألت اليهود محمدا صلى الله عليه وسلم أن يصعد إلى السماء وهم يرونه فينزل عليهم كتابا مكتوبا فيما يدعيه على صدقه دفعة واحدة، كما أتى موسى بالتوراة؛ تعنتا له صلى الله عليه وسلم؛ فأعلم الله عز وجل أن آباءهم قد عنتوا موسى عليه السلام بأكبر من هذا « فقالوا أرنا الله جهرة » أي عيانا؛ وقد تقدم في « البقرة » . و « جهرة » نعت لمصدر محذوف أي رؤية جهرة؛ فعوقبوا بالصاعقة لعظم ما جاؤوا به من السؤال والظلم من بعد ما رأوا من المعجزات.

 

قوله تعالى: « ثم اتخذوا العجل » في الكلام حذف تقديره: فأحييناهم فلم يبرحوا فاتخذوا العجل؛ وقد تقدم في « البقرة » ويأتي ذكره في « طه » إن شاء الله. « من بعد ما جاءتهم البينات » أي البراهين والدلالات والمعجزات الظاهرات من اليد والعصا وفلق البحر وغيرها بأنه لا معبود إلا الله عز وجل. « فعفونا عن ذلك » أي عما كان منهم من التعنت. « وآتينا موسى سلطانا مبينا » أي حجة بينة وهي الآيات التي جاء بها؛ وسميت سلطانا لأن من جاء بها قاهر بالحجة، وهي قاهرة للقلوب، بأن تعلم أنه ليس في قوى البشر أن يأتوا بمثلها.

 

الآية: 154 ( ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا )

 

قوله تعالى: « ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم » أي بسبب نقضهم الميثاق الذي أخذ منهم، وهو العمل بما في التوراة؛ وقد تقدم رفع الجبل ودخولهم الباب في « البقرة » . و « سجدا » نصب على الحال. وقرأ ورش وحده « وقلنا لهم لا تعدوا في السبت » بفتح العين من عدا يعدو عدوا وعدوانا وعدوا وعداء، أي باقتناص الحيتان كما تقدم في « البقرة » . والأصل فيه وتعتدوا أدغمت التاء في الدال؛ قال النحاس: ولا يجوز إسكان العين ولا يوصل إلى الجمع بين ساكنين في هذا، والذي يقرأ به إنما يروم الخطأ. « وأخذنا منهم ميثاقا غليظا » يعني العهد الذي أخذ عليهم في التوراة. وقيل: عهد مؤكد باليمين فسمي غليظا لذلك.

 

الآيتان: 155 - 156 ( فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا، وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما )

 

قوله تعالى: « فبما نقضهم ميثاقهم » « فبما نقضهم » خفض بالباء و « ما » زائدة مؤكدة كقوله: « فبما رحمة من الله » [ آل عمران: 159 ] وقد تقدم؛ والباء متعلقة بمحذوف، التقدير: فبنقضهم ميثاقهم لعناهم؛ عن قتادة وغيره. وحذف هذا لعلم السامع. وقال أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي: هو متعلق بما قبله؛ والمعنى فأخذتهم الصاعقة بظلمهم إلى قوله: « فبما نقضهم ميثاقهم » قال: ففسر ظلمهم الذي أخذتهم الصاعقة من أجله بما بعده من نقضهم الميثاق وقتلهم الأنبياء وسائر ما بين من الأشياء التي ظلموا فيها أنفسهم. وأنكر ذلك الطبري وغيره؛ لأن الذين أخذتهم الصاعقة كانوا على عهد موسى، والذين قتلوا الأنبياء ورموا مريم بالبهتان كانوا بعد موسى بزمان، فلم تأخذ الصاعقة الذين أخذتهم برميهم مريم بالبهتان. قال المهدوي وغيره: وهذا لا يلزم؛ لأنه يجوز أن يخبر عنهم والمراد آباؤهم؛ على ما تقدم في « البقرة » . قال الزجاج: المعنى فبنقضهم ميثاقهم حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم؛ لأن هذه القصة ممتدة إلى قوله: « فبظلم من الذين هادوا حرمنا » [ النساء: 160 ] . ونقضهم الميثاق أنه أخذ عليهم أن يبينوا صفة النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: المعنى فبنقضهم ميثاقهم وفعلهم كذا وفعلهم كذا طبع الله على قلوبهم. وقيل: المعنى فبنقضهم لا يؤمنون إلا قليلا؛ والفاء مقحمة. و « كفرهم » عطف، وكذا و « قتلهم » . والمراد « بآيات الله » كتبهم التي حرفوها. و « غلف » جمع غلاف؛ أي قلوبنا أوعية للعلم فلا حاجة بنا إلى علم سوى ما عندنا. وقيل: هو جمع أغلف وهو المغطى بالغلاف؛ أي قلوبنا في أغطية فلا نفقه ما تقول؛ وهو كقوله: « قلوبنا في أكنة » [ فصلت: 5 ] وقد تقدم هذا في « البقرة » وغرضهم بهذا درء حجة الرسل. والطبع الختم؛ وقد تقدم في « البقرة » . « بكفرهم » أي جزاء لهم على كفرهم؛ كما قال: « بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون » [ البقرة: 88 ] أي إلا إيمانا قليلا أي ببعض الأنبياء، وذلك غير نافع لهم. ثم كرر « وبكفرهم » ليخبر أنهم كفروا كفرا بعد كفر. وقيل: المعنى « وبكفرهم » بالمسيح؛ فحذف لدلالة ما بعده عليه، والعامل في « بكفرهم » هو العامل في « بنقضهم » لأنه معطوف عليه، ولا يجوز أن يكون العامل فيه « طبع » . والبهتان العظيم رميها بيوسف النجار وكان من الصالحين منهم. والبهتان الكذب المفرط الذي يتعجب منه وقد تقدم. والله سبحانه وتعالى أعلم.

 

الآيتان: 157 - 158 ( وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا، بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما )

 

قوله تعالى: « وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم » كسرت « إن » لأنها مبتدأة بعد القول وفتحها لغة. وقد تقدم في « آل عمران » اشتقاق لفظ المسيح. « رسول الله » بدل، وإن شئت على معنى أعني. « وما قتلوه وما صلبوه » رد لقولهم. « ولكن شبه لهم » أي ألقي شبهه على غيره كما تقدم في « آل عمران » . وقيل: لم يكونوا يعرفون شخصه وقتلوا الذي قتلوه وهم شاكون فيه؛ كما قال تعالى: « وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه » والإخبار قيل: إنه عن جميعهم. وقيل: إنه لم يختلف فيه إلا عوامهم؛ ومعنى اختلافهم قول بعضهم إنه إله، وبعضهم هو ابن الله. قاله الحسن: وقيل اختلافهم أن عوامهم قالوا قتلنا عيسى. وقال من عاين رفعه إلى السماء: ما قتلناه. وقيل: اختلافهم أن النسطورية من النصارى قالوا: صلب عيسى من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته. وقالت الملكانية: وقع الصلب والقتل على المسيح بكماله ناسوته ولا هوته. وقيل: اختلافهم هو أنهم قالوا: إن كان هذا صاحبنا فأين عيسى ؟ ! وإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا ؟ ! وقيل: اختلافهم هو أن اليهود قالوا: نحن قتلناه؛ لأن يهوذا رأس اليهود هو الذي سعى في قتله. وقالت طائفة من النصارى: بل قتلناه نحن. وقالت طائفة منهم: بل رفعه الله إلى السماء ونحن ننظر إليه. « ما لهم به من علم » من زائدة؛ وتم الكلام. ثم قال عز وجل: « إلا اتباع الظن » استثناء ليس من الأول في موضع نصب، ويجوز أن يكون في موضع رفع على البدل؛ أي ما لهم به من علم إلا اتباع الظن. وأنشد سيبويه:

وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس

 

قوله تعالى: « وما قتلوه يقينا » قال ابن عباس والسدي: المعنى ما قتلوا ظنهم يقينا؛ كقولك: قتلته علما إذا علمته علما تاما؛ فالهاء عائدة على الظن. قال أبو عبيد: ولو كان المعنى وما قتلوا عيسى يقينا لقال: وما قتلوه فقط. وقيل: المعنى وما قتلوا الذي شبه لهم أنه عيسى يقينا؛ فالوقف على هذا على « يقينا » . وقيل: المعنى وما قتلوا عيسى، والوقف على « وما قتلوه » و « يقينا » نعت لمصدر محذوف، وفيه تقديران: أحدهما: أي قالوا هذا قولا يقينا، أو قال الله هذا قولا يقينا. والقول الآخر: أن يكون المعنى وما علموه علما يقينا. النحاس: إن قدرت المعنى بل رفعه الله إليه يقينا فهو خطأ؛ لأنه لا يعمل ما بعد « بل » فيما قبلها لضعفها. وأجاز ابن الأنباري الوقف على « وما قتلوه » على أن ينصب « يقينا » بفعل مضمر هو جواب القسم، تقديره: ولقد صدقتم يقينا أي صدقا يقينا. « بل رفعه الله إليه » ابتداء كلام مستأنف؛ أي إلى السماء، والله تعالى متعال عن المكان؛ وقد تقدم كيفية رفعه في « آل عمران » . « وكان الله عزيزا » أي قويا بالنقمة من اليهود فسلط عليهم بطرس بن استيسانوس الرومي فقتل منهم مقتلة عظيمة. « حكيما » حكم عليهم باللعنة والغضب.

 

الآية: 159 ( وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا )

 

قوله تعالى: « وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته » قال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة: المعنى ليؤمنن بالمسيح « قبل موته » أي الكتابي؛ فالهاء الأولى عائدة على عيسى، والثانية على الكتابي؛ وذلك أنه ليس أحد من أهل الكتاب اليهود والنصارى إلا ويؤمن بعيسى عليه السلام إذا عاين الملك، ولكنه إيمان لا ينفع؛ لأنه إيمان عند اليأس وحين التلبس بحالة الموت؛ فاليهودي يقر في ذلك الوقت بأنه رسول الله، والنصراني يقر بأنه كان رسول الله. وروي أن الحجاج سأل شهر بن حوشب عن هذه الآية فقال: إني لأوتى بالأسير من اليهود والنصارى فآمر بضرب عنقه، وأنظر إليه في ذلك الوقت فلا أرى منه الإيمان؛ فقال له شهر بن حوشب: إنه حين عاين أمر الآخرة يقر بأن عيسى عبدالله ورسوله فيؤمن به ولا ينفعه؛ فقال له الحجاج: من أين أخذت هذا ؟ قال: أخذته من محمد بن الحنفية؛ فقال له الحجاج: أخذت من عين صافية. وروي عن مجاهد أنه قال: ما من أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن بعيسى قبل موته؛ فقيل له: إن غرق أو احترق أو أكله السبع يؤمن بعيسى ؟ فقال: نعم ! وقيل: إن الهاءين جميعا لعيسى عليه السلام؛ والمعنى ليؤمنن به من كان حيا حين نزوله يوم القيامة؛ قال قتادة وابن زيد وغيرهما واختاره الطبري. وروى يزيد بن زريع عن رجل عن الحسن في قوله تعالى: « وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته » قال: قبل موت عيسى؛ والله إنه لحي عند الله الآن؛ ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون؛ ونحوه عن الضحاك وسعيد. بن جبير. وقيل: « ليؤمنن به » أي بمحمد عليه السلام وإن لم يجر له ذكر؛ لأن هذه الأقاصيص أنزلت عليه والمقصود الإيمان به، والإيمان بعيسى يتضمن الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام أيضا؛ إذ لا يجوز أن يفرق بينهم. وقيل: « ليؤمنن به » أي بالله تعالى قبل أن يموت ولا ينفعه الإيمان عند المعاينة. والتأويلان الأولان أظهر. وروى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لينزلن ابن مريم حكما عدلا فليقتلن الدجال وليقتلن الخنزير وليكسرن الصليب وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين ) ، ثم قال أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم « وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته » قال أبو هريرة: قبل موت عيسى؛ يعيدها ثلاث مرات. وتقدير الآية عند سيبويه: وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به. وتقدير الكوفيين: وإن من أهل الكتاب إلا من ليؤمنن به، وفيه قبح، لأن فيه حذف الموصول، والصلة بعض الموصول فكأنه حذف بعض الاسم. »

 

قوله تعالى: « ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا » أي بتكذيب من كذبه وتصديق من صدقه.

 

الآيتان: 160 - 161 ( فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا، وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما )

 

قوله تعالى: « فبظلم من الذين هادوا » قال الزجاج: هذا بدل من « فبما نقضهم » . والطيبات ما نصه في قوله تعالى: « وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر » [ الأنعام: 146 ] . وقدم الظلم على التحريم إذ هو الغرض الذي قصد إلى الإخبار عنه بأنه سبب التحريم. « وبصدهم عن سبيل الله كثيرا » أي وبصدهم أنفسهم وغيرهم عن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم. « وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل » كله تفسير للظلم الذي تعاطوه، وكذلك ما قبله من نقضهم الميثاق وما بعده؛ وقد مضى في « آل عمران » أن اختلاف العلماء في سبب التحريم على ثلاثة أقوال هذا أحدها.

 

قال ابن العربي: لا خلاف في مذهب مالك أن الكفار مخاطبون، وقد بين الله في هذه الآية أنهم قد نهوا عن الربا وأكل الأموال بالباطل؛ فإن كان ذلك خبرا عما نزل على محمد في القرآن وأنهم دخلوا في الخطاب فبها ونعمت، وإن كان خبرا عما أنزل الله على موسى في التوراة، وأنهم بدلوا وحرفوا وعصوا وخالفوا فهل يجوز لنا معاملتهم والقوم قد أفسدوا أموالهم في دينهم أم لا؟ فظنت طائفة أن معاملتهم لا تجوز؛ وذلك لما في أموالهم من هذا الفساد. والصحيح جواز معاملتهم مع رباهم واقتحام ما حرم الله سبحانه عليهم؛ فقد قام الليل القاطع على ذلك قرآنا وسنة؛ قال الله تعالى: « وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم » [ المائدة:5 ] وهذا نص؛ وقد عامل النبي صلى الله عليه وسلم اليهود ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في شعير أخذه لعياله. والحاسم لداء الشك والخلاف اتفاق الأمة على جواز التجارة مع أهل الحرب؛ وقد سافر النبي صلى الله عليه وسلم إليهم تاجرا، وذلك من سفره أمر قاطع على جواز السفر إليهم والتجارة معهم. فإن قيل: كان ذلك قبل النبوة؛ قلنا: إنه لم يتدنس قبل النبوة بحرام - ثبت ذلك تواترا - ولا اعتذر عنه إذ بعث، ولا منع منه إذ نبئ، ولا قطعه أحد من الصحابة في حياته، ولا أحد من المسلمين بعد وفاته؛ فقد كانوا يسافرون في فك الأسرى وذلك واجب، وفي الصلح كما أرسل عثمان وغيره؛ وقد يجب وقد يكون ندبا؛ فأما السفر إليهم لمجرد التجارة فمباح.

 

الآية: 162 ( كن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما )

 

قوله تعالى: « لكن الراسخون في العلم منهم » استثنى مؤمني أهل الكتاب؛ وذلك أن اليهود أنكروا وقالوا: إن هذه الأشياء كانت حراما في الأصل وأنت تحلها ولم تكن حرمت بظلمنا؛ فنزل « لكن الراسخون في العلم » والراسخ هو المبالغ في علم الكتاب الثابت فيه، والرسوخ الثبوت؛ وقد تقدم في « آل عمران » والمراد عبدالله بن سلام وكعب الأحبار ونظراؤهما. « والمؤمنون » أي من المهاجرين والأنصار، أصحاب محمد عليه السلام. « والمقيمين الصلاة » وقرأ الحسن ومالك بن دينار وجماعة: « والمقيمون » على العطف، وكذا هو في حرف عبدالله، وأما حرف أبي فهو فيه « والمقيمين » كما في المصاحف. واختلف في نصبه على أقوال ستة؛ أصحها قول سيبويه بأنه نصب على المدح؛ أي وأعني المقيمين؛ قال سيبويه: هذا باب ما ينتصب على التعظيم؛ ومن ذلك « والمقيمين الصلاة » وأنشد:

وكل قوم أطاعوا أمر سيدهم إلا نميرا أطاعت أمر غاويها

ويروى ( أمر مرشدهم ) .

الظاعنين ولما يظعنوا أحدا والقائلون لمن دار نخليها

وأنشد:

لا يبعدن قومي الذين هم سم العداة وآفة الجزر

النازلين بكل معترك والطيبون معاقد الأزر

قال النحاس: وهذا أصح ما قيل في « المقيمين » . وقال الكسائي: « والمقيمين » معطوف على « ما » . قال النحاس قال الأخفش: وهذا بعيد؛ لأن المعنى يكون ويؤمنون بالمقيمين. وحكى محمد بن جرير أنه قيل له: إن المقيمين ههنا الملائكة عليهم السلام؛ لدوامهم على الصلاة والتسبيح والاستغفار، واختار هذا القول، وحكى أن النصب على المدح بعيد؛ لأن المدح إنما يأتي بعد تمام الخبر، وخبر الراسخين في « أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما » فلا ينتصب « المقيمين » على المدح. قال النحاس: ومذهب سيبويه في قوله: « والمؤتون » رفع بالابتداء. وقال غيره: هو مرفوع على إضمار مبتدأ؛ أي هم المؤتون الزكاة. وقيل: « والمقيمين » عطف على الكاف التي في « قبلك » . أي من قبلك ومن قبل المقيمين. وقيل: « المقيمين » عطف على الكاف التي في « إليك » . وقيل: هو عطف على الهاء والميم، أي منهم ومن المقيمين؛ وهذه الأجوبة الثلاثة لا تجوز؛ لأن فيها عطف مظهر على مضمر مخفوض. والجواب السادس: ما روي أن عائشة رضي الله عنها سئلت عن هذه الآية وعن قوله: « إن هذان لساحران » [ طه: 63 ] ، وقوله: « والصابئون » في « المائدة: 69 ] ، فقالت للسائل: يا ابن أخي الكتاب أخطؤوا. وقال أبان بن عثمان: كان الكاتب يملى عليه فيكتب فكتب » لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون « ثم قال له: ما أكتب ؟ فقيل له: اكتب » والمقيمين الصلاة « فمن ثم وقع هذا. قال القشيري: وهذا المسلك باطل؛ لأن الذين جمعوا الكتاب كانوا قدوة في اللغة، فلا يظن بهم أنهم يدرجون في القرآن ما لم ينزل. وأصح هذه الأقوال قول سيبويه وهو قول الخليل، وقول الكسائي هو اختيار القفال والطبري، والله أعلم.»

 

الآية: 163 ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا )

 

قوله تعالى: « إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح » هذا متصل بقوله: « يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء » [ النساء: 153 ] ، فأعلم تعالى أن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كأمر من تقدمه من الأنبياء. وقال ابن عباس فيما ذكره ابن إسحاق: نزلت في قوم من اليهود - منهم سكين وعدي بن زيد - قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أوحى الله إلى أحد من بعد موسى فكذبهم الله. والوحي إعلام في خفاء؛ يقال: وحى إليه بالكلام يحي وحيا، وأوحى يوحي إيحاء. « إلى نوح » قدمه لأنه أول نبي شرعت على لسانه الشرائع. وقيل غير هذا؛ ذكر الزبير بن بكار حدثني أبو الحسن علي بن المغيرة عن هشام بن محمد بن السائب عن أبيه قال: أول نبي بعثه الله تبارك وتعالى في الأرض إدريس واسمه أخنوخ؛ ثم انقطعت الرسل حتى بعث الله نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ، وقد كان سام بن نوح نبيا، ثم انقطعت الرسل حتى بعث الله إبراهيم نبيا واتخذه خليلا؛ وهو إبراهيم بن تارخ واسم تارخ آزر، ثم بعث إسماعيل بن إبراهيم فمات بمكة، ثم إسحاق بن إبراهيم فمات بالشام، ثم لوط وإبراهيم عمه، ثم يعقوب وهو إسرائيل بن إسحاق ثم يوسف بن يعقوب ثم شعيب بن يوبب، ثم هود بن عبدالله، ثم صالح بن أسف، ثم موسى وهارون ابنا عمران، ثم أيوب ثم الخضر وهو خضرون، ثم داود بن إيشا، ثم سليمان بن داود، ثم يونس بن متى، ثم إلياس، ثم ذا الكفل واسمه عويدنا من سبط يهوذا بن يعقوب؛ قال: وبين موسى بن عمران ومريم بنت عمران أم عيسى ألف سنة وسبعمائة سنة وليسا من سبط؛ ثم محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب النبي صلى الله عليه وسلم. قال الزبير: كل نبي ذكر في القرآن من ولد إبراهيم غير إدريس ونوح ولوط وهود وصالح. ولم يكن من العرب أنبياء إلا خمسة: هود وصالح وإسماعيل وشعيب ومحمد صلى الله عليه وعليهم أجمعين؛ وإنما سموا عربا لأنه لم يتكلم بالعربية غيرهم.

 

قوله تعالى: « والنبيين من بعده » هذا يتناول جميع الأنبياء ثم قال: « وأوحينا إلى إبراهيم » فخص أقواما بالذكر تشريفا لهم؛ كقوله تعالى: « وملائكته ورسله وجبريل ومكيال » ثم قال: « وعيسى وأيوب » قدم عيسى على قوم كانوا قبله؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب، وأيضا فيه تخصيص عيسى ردا على اليهود. وفي هذه الآية تنبيه على قدر نبينا صلى الله عليه وسلم وشرفه، حيث قدمه في الذكر على أنبيائه؛ ومثله قوله تعالى: « وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح » [ الأحزاب: 7 ] ؛ ونوح مشتق من النوح؛ وقد تقدم ذكره موعبا في « آل عمران » وانصرف وهو اسم أعجمي؛ لأنه على ثلاثة أحرف فخف؛ فأما إبراهيم وإسماعيل وإسحاق فأعجمية وهي معرفة ولذلك لم تنصرف، وكذا يعقوب وعيسى وموسى إلا أن عيسى وموسى يجوز أن تكون الألف فيهما للتأنيث فلا ينصرفان في معرفة ولا نكرة؛ فأما يونس ويوسف فروي عن الحسن أنه قرأ « ويونس » بكسر النون وكذا « يوسف » يجعلهما من آنس وآسف، ويجب على هذا أن يصرفا ويهمزا ويكون جمعهما يآنس ويآسف. ومن لم يهمز قال: يونس ويوسف. وحكى أبو زيد: يونس ويوسف بفتح النون والسين؛ قال المهدوي: وكأن « يونس » في الأصل فعل مبني للفاعل، و « يونس » فعل مبني للمفعول، فسمي بهما.

 

قوله تعالى: « وآتينا داود زبورا » الزبور كتاب داود وكان مائة وخمسين سورة ليس فيها حكم ولا حلال ولا حرام، وإنما هي حكم ومواعظ. والزبر الكتابة، والزبور بمعنى المزبور أي المكتوب، كالرسول والركوب والحلوب. وقرأ حمزة « زبورا » بضم الزاي جمع زبر كفلس وفلوس، وزبر بمعنى المزبور؛ كما يقال: هذا الدرهم ضرب الأمير أي مضروبه؛ والأصل في الكلمة التوثيق؛ يقال: بئر مزبورة أي مطوية بالحجارة، والكتاب يسمى زبورا لقوة الوثيقة به. وكان داود عليه السلام حسن الصوت؛ فإذا أخذ في قراءة الزبور اجتمع إليه الإنس والجن والطير والوحش لحسن صوته، وكان متواضعا يأكل من عمل يده؛ روى أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه قال: أن كان داود صلى الله عليه وسلم ليخطب الناس وفي يده القفة من الخوص، فإذا فرغ ناولها بعض من إلى جنبه يبيعها، وكان يصنع الدروع؛ وسيأتي. وفي الحديث: ( الزرقة في العين يمن ) وكان داود أزرق.

 

الآية: 164 ( ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما )

 

قوله تعالى: « ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل » يعني بمكة. « ورسلا » منصوب بإضمار فعل، أي وأرسلنا رسلا؛ لأن معنى « وأوحينا إلى نوح » وأرسلنا نوحا. وقيل: هو منصوب بفعل دل عليه « قصصناهم » أي وقصصنا رسلا؛ ومثله ما أنشد سيبويه:

أصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير إن نفرا

والذئب أخشاه إن مررت به وحدي وأخشى الرياح والمطرا

أي وأخشى الذئب. وفي حرف أبي « ورسل » بالرفع على تقدير ومنهم رسل. ثم قيل: إن الله تعالى لما قص في كتابه بعض أسماء أنبيائه، ولم يذكر أسماء بعض، ولمن ذكر فضل على من لم يذكر. قالت اليهود: ذكر محمد الأنبياء ولم يذكر موسى؛ فنزلت « وكلم الله موسى تكليما » « تكليما » مصدر معناه التأكيد؛ يدل على بطلان من يقول: خلق لنفسه كلاما في شجرة فسمعه موسى، بل هو الكلام الحقيقي الذي يكون به المتكلم متكلما. قال النحاس: وأجمع النحويون على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازا، وأنه لا يجوز في قول الشاعر:

امتلأ الحوض وقال قطني

أن يقول: قال قولا؛ فكذا لما قال: « تكليما » وجب أن يكون كلاما على الحقيقة من الكلام الذي يعقل. وقال وهب بن منبه: إن موسى عليه السلام قال: « يا رب بم اتخذتني كليما » ؟ طلب العمل الذي أسعده الله به ليكثر منه؛ فقال الله تعالى له: أتذكر إذ ند من غنمك جدي فأتبعته أكثر النهار وأتعبك، ثم أخذته وقبلته وضممته إلى صدرك وقلت له: أتعبتني وأتعبت نفسك، ولم تغضب عليه؛ من أجل ذلك اتخذتك كليما.

 

الآية: 165 ( رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما )

 

قوله تعالى: « رسلا مبشرين ومنذرين » هو نصب على البدل من « ورسلا قد قصصناهم » ويجوز أن يكون على إضمار فعل؛ ويجوز نصبه على الحال؛ أي كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده رسلا. « لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل » فيقولوا ما أرسلت إلينا رسولا، وما أنزلت علينا كتابا؛ وفي التنزيل: « وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا » [ الإسراء: 15 ] ، وقوله تعالى: « ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك » [ طه: 134 ] وفي هذا كله دليل واضح أنه لا يجب شيء من ناحية العقل. وروي عن كعب الأحبار أنه قال: كان الأنبياء ألفي ألف ومائتي ألف. وقال مقاتل: كان الأنبياء ألف ألف وأربعمائة ألف وأربعة وعشرين ألفا. وروى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( بعثت على أثر ثمانية آلاف من الأنبياء منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل ) ذكره أبو الليث السمرقندي في التفسير له؛ ثم أسند عن شعبة عن أبي إسحاق عن الحارث الأعور عن أبي ذر الغفاري قال: قلت يا رسول الله كم كانت الأنبياء وكم كان المرسلون ؟ قال: ( كانت الأنبياء مائة ألف نبي وأربعة وعشرين ألف نبي وكان المرسلون ثلاثمائة وثلاثة عشر ) .

قلت: هذا أصح ما روي في ذلك؛ خرجه الآجري وأبو حاتم البستي في المسند الصحيح له.

 

الآية: 166 ( لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا )

 

قوله تعالى: « لكن الله يشهد » رفع بالابتداء، وإن شئت شددت النون ونصبت. وفي الكلام حذف دل عليه الكلام؛ كأن الكفار قالوا: ما نشهد لك يا محمد فيما تقول فمن يشهد لك ؟ فنزل « ولكن الله يشهد » . ومعنى « أنزله بعلمه » أي وهو يعلم أنك أهل لإنزاله عليك؛ ودلت الآية على أنه تعالى عالم بعلم. « والملائكة يشهدون » ذكر شهادة الملائكة ليقابل بها نفي شهادتهم. « وكفى بالله شهيدا » أي كفى الله شاهدا، والباء زائدة.

 

الآية: 167 ( إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا )

 

قوله تعالى: « إن الذين كفروا » يعني اليهود أي ظلموا. « وصدوا عن سبيل الله » أي عن اتباع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بقولهم: ما نجد صفته في كتابنا، وإنما النبوة في ولد هارون وداود، وإن في التوراة أن شرع موسى لا ينسخ. « قد ضلوا ضلالا بعيدا » لأنهم كفروا ومع ذلك منعوا الناس من الإسلام.

 

الآية: 168 - 169 ( إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا، إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا )

 

قوله تعالى: « إن الذين كفروا وظلموا » يعني اليهود؛ أي ظلموا محمدا بكتمان نعته، وأنفسهم إذ كفروا، والناس إذ كتموهم. « لم يكن الله ليغفر لهم » هذا فيمن يموت على كفره ولم يتب.

 

الآية: 170 ( يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما )

 

قوله تعالى: « يا أيها الناس » هذا خطاب للكل. « قد جاءكم الرسول » يريد محمدا عليه الصلاة والسلام. « بالحق » بالقرآن. وقيل: بالدين الحق؛ وقيل: بشهادة أن لا إله إلا الله، وقيل: الباء للتعدية؛ أي جاءكم ومعه الحق؛ فهو في موضع الحال. « فآمنوا خيرا لكم » في الكلام إضمار؛ أي وأتوا خيرا لكم؛ هذا مذهب سيبويه، وعلى قول الفراء نعت لمصدر محذوف؛ أي إيمانا خيرا لكم، وعلى قول أبي عبيدة يكن خيرا لكم.

 

الآية: 171 ( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا )

 

قوله تعالى: « يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم » نهى عن الغلو. والغلو التجاوز في الحد؛ ومنه غلا السعر يغلو غلاء؛ وغلا الرجل في الأمر غلوا، وغلا بالجارية لحمها وعظمها إذا أسرعت الشباب فجاوزت لداتها؛ ويعني بذلك فيما ذكره المفسرون غلو اليهود في عيسى حتى قذفوا مريم، وغلو النصارى فيه حتى جعلوه ربا؛ فالإفراط والتقصير كله سيئة وكفر؛ ولذلك قال مطرف بن عبدالله: الحسنة بين سيئتين؛ وقال الشاعر:

وأوف ولا تستوف حقك كله وصافح فلم يستوف قط كريم

ولا تغل في شيء من الأمر وأقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم

وقال آخر:

عليك بأوساط الأمور فإنها نجاة ولا تركب ذلولا ولا صعبا

وفي صحيح البخاري عنه عليه السلام: ( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى وقولوا عبدالله ورسوله ) .

 

قوله تعالى: « ولا تقولوا على الله إلا الحق » أي لا تقولوا إن له شريكا أو ابنا. ثم بين تعالى حال عيسى عليه السلام وصفته فقال: « إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته »

وفيه ثلاث مسائل:

الأولى: قوله تعالى: « إنما المسيح » المسيح رفع بالابتداء؛ و « عيسى » بدل منه وكذا « ابن مريم » . ويجوز أن يكون خبر الابتداء ويكون المعنى: إنما المسيح ابن مريم. ودل بقوله: « عيسى ابن مريم » على أن من كان منسوبا بوالدته كيف يكون إلها، وحق الإله أن يكون قديما لا محدثا. ويكون « رسول الله » خبرا بعد خبر.

الثانية: لم يذكر الله عز وجل امرأة وسماها باسمها في كتابه إلا مريم ابنة عمران؛ فإنه ذكر اسمها في نحو من ثلاثين موضعا لحكمة ذكرها بعض الأشياخ؛ فإن الملوك والأشراف لا يذكرون حرائرهم في الملأ، ولا يبتذلون أسماءهن؛ بل يكنون عن الزوجة بالعرس والأهل والعيال ونحو ذلك؛ فإن ذكروا الإماء لم يكنوا عنهن ولم يصونوا أسماءهن عن الذكر والتصريح بها؛ فلما قالت النصارى في مريم ما قالت، وفي ابنها صرح الله باسمها، ولم يكن عنها بالأموة والعبودية التي هي صفة لها؛ وأجرى الكلام على عادة العرب في ذكر إمائها.

الثالثة: اعتقاد أن عيسى عليه السلام لا أب له واجب، فإذا تكرر اسمه منسوبا للام استشعرت القلوب ما يجب عليها اعتقاده من نفي الأب عنه، وتنزيه الأم الطاهرة عن مقالة اليهود لعنهم الله. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « وكلمته ألقاها إلى مريم » أي هو مكون بكلمة « كن » فكان بشرا من غير أب؛ والعرب تسمي الشيء باسم الشيء إذا كان صادرا عنه. وقيل: « كلمته » بشارة الله تعالى مريم عليها السلام، ورسالته إليها على لسان جبريل عليه السلام؛ وذلك قوله: « إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه » [ آل عمران: 45 ] . وقيل: « الكلمة » ههنا بمعنى الآية؛ قال الله تعالى: « وصدقت بكلمات ربها » [ التحريم: 12 ] و « ما نفدت كلمات الله » [ لقمان: 27 ] . وكان لعيسى أربعة أسماء؛ المسيح وعيسى وكلمة وروح، وقيل غير هذا مما ليس في القرآن. ومعنى « ألقاها إلى مريم » أمر بها مريم.

 

قوله تعالى: « وروح منه » هذا الذي أوقع النصارى في الإضلال؛ فقالوا: عيسى جزء منه فجهلوا وضلوا؛ وعنه أجوبة ثمانية: الأول: قال أبي بن كعب: خلق الله أرواح بني آدم لما أخذ عليهم الميثاق؛ ثم ردها إلى صلب آدم وأمسك عنده روح عيسى عليه السلام؛ فلما أراد خلقه أرسل ذلك الروح إلى مريم، فكان منه عيسى عليه السلام؛ فلهذا قال: « وروح منه » . وقيل: هذه الإضافة للتفضيل وإن كان جميع الأرواح من خلقه؛ وهذا كقوله: « وطهر بيتي للطائفين » [ الحج: 26 ] ، وقيل: قد يسمى من تظهر منه الأشياء العجيبة روحا، وتضاف إلى الله تعالى فيقال: هذا روح من الله أي من خلقه؛ كما يقال في النعمة إنها من الله. وكان عيسى يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى فاستحق هذا الاسم. وقيل: يسمى روحا بسبب نفخة جبريل عليه السلام، ويسمى النفخ روحا؛ لأنه ريح يخرج من الروح. قال الشاعر - هو ذو الرمة:

فقلت له أرفعها إليك وأحيها بروحك وأقتته لها قيتة قدرا

وقد ورد أن جبريل نفخ في درع مريم فحملت منه بإذن الله؛ وعلى هذا يكون « وروح منه » معطوفا على المضمر الذي هو اسم الله في « ألقاها » التقدير: ألقى الله وجبريل الكلمة إلى مريم. وقيل: « روح منه » أي من خلقه؛ كما قال: « وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه » [ الجاثية: 13 ] أي من خلقه. وقيل: « روح منه » أي رحمة منه؛ فكان عيسى رحمة من الله لمن اتبعه؛ ومنه قوله تعالى: « وأيدهم بروح منه » [ المجادلة: 22 ] أي برحمة، وقرئ: « فروح وريحان » . وقيل: « وروح منه » وبرهان منه؛ وكان عيسى برهانا وحجة على قومه صلى الله عليه وسلم.

 

قوله تعالى: « فآمنوا بالله ورسله » أي آمنوا بأن الله إله واحد خالق المسيح ومرسله، وآمنوا برسله ومنهم عيسى فلا تجعلوه إلها. « ولا تقولوا » آلهتنا « ثلاثة » عن الزجاج. قال ابن عباس: يريد بالتثليث الله تعالى وصاحبته وابنه. وقال الفراء وأبو عبيد: أي لا تقولوا هم ثلاثة؛ كقوله تعالى: « سيقولون ثلاثة » [ الكهف: 22 ] . قال أبو علي: التقدير ولا تقولوا هو ثالث ثلاثة؛ فحذف المبتدأ والمضاف. والنصارى مع فرقهم مجمعون على التثليث ويقولون: إن الله جوهر واحد وله ثلاثة أقانيم؛ فيجعلون كل أقنوم إلها ويعنون بالأقانيم الوجود والحياة والعلم، وربما يعبرون عن الأقانيم بالأب والابن وروح القدس؛ فيعنون بالأب الوجود، وبالروح الحياة، وبالابن المسيح، في كلام لهم فيه تخبط بيانه في أصول الدين. ومحصول كلامهم يؤول إلى التمسك بأن عيسى إله بما كان يجريه الله سبحانه وتعالى على يديه من خوارق العادات على حسب دواعيه وإرادته؛ وقالوا: قد علمنا خروج هذه الأمور عن مقدور البشر، فينبغي أن يكون المقتدر عليها موصوفا بالإلهية؛ فيقال لهم: لو كان ذلك من مقدوراته وكان مستقلا به كان تخليص نفسه من أعدائه ودفع شرهم عنه من مقدوراته، وليس كذلك؛ فإن اعترفت النصارى بذلك فقد سقط قولهم ودعواهم أنه كان يفعلها مستقلا به؛ وإن لم يسلموا ذلك فلا حجة لهم أيضا؛ لأنهم معارضون بموسى عليه السلام، وما كان يجري على يديه من الأمور العظام، مثل قلب العصا ثعبانا، وفلق البحر واليد البيضاء والمن والسلوى، وغير ذلك؛ وكذلك ما جرى على يد الأنبياء؛ فإن أنكروا ذلك فننكر ما يدعونه هم أيضا من ظهوره على يد عيسى عليه السلام، فلا يمكنهم إثبات شيء من ذلك لعيسى؛ فإن طريق إثباته عندنا نصوص القرآن وهم ينكرون القرآن، ويكذبون من أتى به، فلا يمكنهم إثبات ذلك بأخبار التواتر. وقد قيل: إن النصارى كانوا على دين الإسلام إحدى وثمانين سنة بعدما رفع عيسى؛ يصلون إلى القبلة؛ ويصومون شهر رمضان، حتى وقع فيما بينهم وبين اليهود حرب، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له بولس، قتل جماعة من أصحاب عيسى فقال: إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا وجحدنا وإلى النار مصيرنا، ونحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار؛ وإني أحتال فيهم فأضلهم فيدخلون النار؛ وكان له فرس يقال لها العقاب، فأظهر الندامة ووضع على رأسه التراب وقال للنصارى: أنا بولس عدوكم قد نوديت من السماء أن ليست لك توبة إلا أن تتنصر، فأدخلوه في الكنيسة بيتا فأقام فيه سنة لا يخرج ليلا ولا نهارا حتى تعلم الإنجيل؛ فخرج وقال: نوديت من السماء أن الله قد قبل توبتك فصدقوه وأحبوه، ثم مضى إلى بيت المقدس واستخلف عليهم نسطورا وأعلمه أن عيسى ابن مريم إله، ثم توجه إلى الروم وعلمهم اللاهوت والناسوت وقال: لم يكن عيسى بإنس فتأنس ولا بجسم فتجسم ولكنه ابن الله. وعلم رجلا يقال له يعقوب ذلك؛ ثم دعا رجلا يقال له الملك فقال له؛ إن الإله لم يزل ولا يزال عيسى؛ فلما استمكن منهم دعا هؤلاء الثلاثة واحدا واحدا وقال له: أنت خالصتي ولقد رأيت المسيح في النوم ورضي عني، وقال لكل واحد منهم: إني غدا أذبح نفسي وأتقرب بها، فأدع الناس إلى نحلتك، ثم دخل المذبح فذبح نفسه؛ فلما كان يوم ثالثه دعا كل واحد منهم الناس إلى نحلته، فتبع كل واحد منهم طائفة، فاقتتلوا واختلفوا إلى يومنا هذا، فجميع النصارى من الفرق الثلاث؛ فهذا كان سبب شركهم فيما يقال؛ والله أعلم. وقد رويت هذه القصة في معنى قوله تعالى: « فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة » [ المائدة: 14 ] وسيأتي إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « انتهوا خيرا لكم » « خيرا » منصوب عند سيبويه بإضمار فعل؛ كأنه قال: ائتوا خيرا لكم، لأنه إذا نهاهم عن الشرك فقد أمرهم بإتيان ما هو خير لهم؛ قال سيبويه: ومما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره « انتهوا خيرا لكم » لأنك إذا قلت: انته فأنت تخرجه من أمر وتدخله في أخر؛ وأنشد:

فواعديه سرحتي مالك أو الربا بينهما أسهلا

ومذهب أبي عبيدة: انتهوا يكن خيرا لكم؛ قال محمد بن يزيد: هذا خطأ؛ لأنه يضمر الشرط وجوابه، وهذا لا يوجد في كلام العرب. ومذهب الفراء أنه نعت لمصدر محذوف؛ قال علي بن سليمان: هذا خطأ فاحش؛ لأنه يكون المعنى: انتهوا الانتهاء الذي هو خير لكم.

 

قوله تعالى: « إنما الله إله واحد » هذا ابتداء وخبر؛ و « واحد » نعت له. ويجوز أن يكون « إله » بدلا من اسم الله عز وجل و « واحد » خبره؛ التقدير إنما المعبود واحد. « سبحانه أن يكون له ولد » أي تنزيها عن أن يكون له ولد؛ فلما سقط « عن » كان « أن » في محل النصب بنزع الخافض؛ أي كيف يكون له ولد ؟ وولد الرجل مشبه له، ولا شبيه لله عز وجل. « له ما في السماوات وما في الأرض » فلا شريك له، وعيسى ومريم من جملة ما في السموات وما في الأرض، وما فيهما مخلوق، فكيف يكون عيسى إلها وهو مخلوق ! وإن جاز ولد فليجز أولاد حتى يكون كل من ظهرت عليه معجزة ولدا له. « وكفى بالله وكيلا » أي لأوليائه؛ وقد تقدم.

 

الآية: 172 - 173 ( لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا، فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا )

 

قوله تعالى: « لن يستنكف المسيح » أي لن يأنف ولن يحتشم. « أن يكون عبدا لله » أي من أن يكون؛ فهو في موضع نصب. وقرأ الحسن: « إن يكون » بكسر الهمزة على أنها نفي هو بمعنى « ما » والمعنى ما يكون له ولد؛ وينبغي رفع يكون ولم يذكره الرواة. « ولا الملائكة المقربون » أي من رحمة الله ورضاه؛ فدل بهذا على أن الملائكة أفضل من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين. وكذا « ولا أقول إني ملك » [ هود: 31 ] وقد تقدمت الإشارة إلى هذا المعنى في « البقرة » . « ومن يستنكف » أي يأنف « عن عبادته ويستكبر » فلا يفعلها. « فسيحشرهم إليه » أي إلى المحشر. « جميعا » فيجازي كلا بما يستحق، كما بينه في الآية بعد هذا « فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله » إلى قوله: « نصيرا » . وأصل « يستنكف » نكف، فالياء والسين والتاء زوائد؛ يقال: نكفت من الشيء واستنكفت منه وأنكفته أي نزهته عما يستنكف منه؛ ومنه الحديث سئل عن « سبحان الله » فقال: ( إنكاف الله من كل سوء ) يعني تنزيهه وتقديسه عن الأنداد والأولاد. وقال الزجاج: استنكف أي أنف مأخوذ من نكفت الدمع إذا نحيته بإصبعك عن خدك، ومنه الحديث ( ما ينكف العرق عن جبينه ) أي ما ينقطع؛ ومنه الحديث ( جاء بجيش لا ينكف آخره ) أي لا ينقطع آخره. وقيل: هو من النكف وهو العيب؛ يقال: ما عليه في هذا الأمر نكف ولا وكف أي عيب: أي لن يمتنع المسيح ولن يتنزه من العبودية ولن ينقطع عنها ولن يعيبها.

 

الآية: 174 ( يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا )

 

قوله تعالى: « يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم » يعني محمدا صلى الله عليه وسلم؛ عن الثوري؛ وسماه برهانا لأن معه البرهان وهو المعجزة. وقال مجاهد: البرهان ههنا الحجة؛ والمعنى متقارب؛ فإن المعجزات حجته صلى الله عليه وسلم. والنور المنزل هو القرآن؛ عن الحسن؛ وسماه نورا لأن به تتبين الأحكام ويهتدى به من الضلالة، فهو نور مبين، أي واضح بين.

 

الآية: 175 ( فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما )

 

قوله تعالى: « فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به » أي بالقرآن عن معاصيه، وإذا اعتصموا بكتابه فقد اعتصموا به وبنبيه. وقيل: « اعتصموا به » أي بالله. والعصمة الامتناع، وقد تقدم.

 

قوله تعالى: « ويهديهم » أي وهو يهديهم؛ فأضمر هو ليدل على أن الكلام مقطوع مما قبله. « إليه » أي إلى ثوابه. وقيل: إلى الحق ليعرفوه. « صراطا مستقيما » أي دينا مستقيما. و « صراطا » منصوب بإضمار فعل دل عليه « ويهديهم » التقدير؛ ويعرفهم صراطا مستقيما. وقيل: هو مفعول ثان على تقدير؛ ويهديهم إلى ثوابه صراطا مستقيما. وقيل: هو حال. والهاء في « إليه » قيل: هي للقرآن، وقيل: للفضل، وقيل للفضل والرحمة؛ لأنهما بمعنى الثواب. وقيل: هي لله عز وجل على حذف المضاف كما تقدم من أن المعنى ويهديهم إلى ثوابه. أبو علي: الهاء راجعة إلى ما تقدم من اسم الله عز وجل، والمعنى ويهديهم إلى صراطه؛ فإذا جعلنا « صراطا مستقيما » نصبا على الحال كانت الحال من هذا المحذوف. وفي قوله: « وفضل » دليل على أنه تعالى يتفضل على عباده بثوابه؛ إذ لو كان في مقابلة العمل لما كان فضلا. والله أعلم.

 

الآية: 176 ( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم )

 

قال البراء بن عازب: هذه آخر آية نزلت من القرآن؛ كذا في كتاب مسلم. وقيل: نزلت والنبي صلى الله عليه وسلم متجهز لحجة الوداع، ونزلت بسبب جابر؛ قال جابر بن عبدالله: مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يعوداني ماشيين، فأغمي علي؛ فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صب علي من وضوئه فأفقت، فقلت: يا رسول الله كيف أقضي في مالي ؟ فلم يرد علي شيئا حتى نزلت آية الميراث « يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة » رواه مسلم؛ وقال: آخر آية نزلت: « واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله » [ البقرة: 281 ] وقد تقدم. ومضى في أول السورة الكلام في « الكلالة » مستوفى، وأن المراد بالإخوة هنا الإخوة للأب والأم أو للأب وكان لجابر تسع أخوات.

 

قوله تعالى: « إن امرؤ هلك ليس له ولد » أي ليس له ولد ولا والد؛ فاكتفى بذكر أحدهما؛ قال الجرجاني: لفظ الولد ينطلق على الوالد والمولود، فالوالد يسمى، والدا لأنه ولد، والمولود يسمى ولدا لأنه ولد؛ كالذرية فإنها من ذرا ثم تطلق على المولود وعلى الوالد؛ قال الله تعالى: « وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون » [ يس: 41 ] .

 

والجمهور من العلماء من الصحابة والتابعين يجعلون الأخوات عصبة البنات وإن لم يكن معهن أخ، غير ابن عباس؛ فإنه كان لا يجعل الأخوات عصبة البنات؛ وإليه ذهب داود وطائفة؛ وحجتهم ظاهر قول الله تعالى: « إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك » ولم يورث الأخت إلا إذا لم يكن للميت ولد؛ قالوا: ومعلوم أن الابنة من الولد، فوجب ألا ترث الأخت مع وجودها. وكان ابن الزبير يقول بقول ابن عباس في هذه المسألة حتى أخبره الأسود بن يزيد: أن معاذا قضى في بنت وأخت فجعل المال بينهما نصفين.

 

هذه الآية تسمى بآية الصيف؛ لأنها نزلت في زمن الصيف؛ قال عمر: إني والله لا أدع شيئا أهم إلي من أمر الكلالة، وقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيها، حتى طعن بإصبعه في جنبي أو في صدري ثم قال: ( يا عمر ألا تكفيك آية الصيف التي أنزلت في آخر سورة النساء ) . وعنه رضي الله عنه قال: ثلاث لأن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهن أحب إلي من الدنيا وما فيها: الكلالة والربا والخلافة؛ خرجه ابن ماجة في سننه.

 

طعن بعض الرافضة بقول عمر: ( والله لا أدع ) الحديث.

 

قوله تعالى: « يبين الله لكم أن تضلوا » قال الكسائي: المعنى يبين الله لكم لئلا تضلوا. قال أبو عبيد؛ فحدثت الكسائي بحديث رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا يدعون أحدكم على ولده أن يوافق من الله إجابة ) فاستحسنه. قال النحاس: والمعنى عند أبي عبيد لئلا يوافق من الله إجابة، وهذا القول عند البصريين خطأ صراح؛ لأنهم لا يجيزون إضمار لا؛ والمعنى عندهم: يبين الله لكم كراهة أن تضلوا، ثم حذف؛ كما قال: « واسأل القرية » [ يوسف: 82 ] وكذا معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي كراهية أن يوافق من الله إجابة. « والله بكل شيء عليم » تقدم في غير موضع. والله أعلم.

تمت سورة « النساء » والحمد لله الذي وفق.

 

سورة المائدة

 

بحول الله تعالى وقوته، وهي مدنية بإجماع، وروي أنها نزلت منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية. وذكر النقاش عن أبي سلمة أنه قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية قال: ( يا علي أشعرت أنه نزلت علي سورة المائدة ونعمت الفائدة ) . قال ابن العربي: هذا حديث موضوع لا يحل لمسلم اعتقاده؛ أما إنا نقول: سورة « المائدة، ونعمت الفائدة » فلا نأثره عن أحد ولكنه كلام حسن. وقال ابن عطية: وهذا عندي لا يشبه كلام النبي صلى الله عليه وسلم. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( سورة المائدة تدعى في ملكوت الله المنقذة تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب ) . ومن هذه السورة ما نزل في حجة الوداع، ومنها ما أنزل عام الفتح وهو قوله تعالى: « ولا يجرمنكم شنآن قوم » [ المائدة: 2 ] الآية. وكل ما أنزل من القرآن بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فهو مدني، سواء نزل بالمدينة أو في سفر من الأسفار. وإنما يرسم بالمكي ما نزل قبل الهجرة. وقال أبو ميسرة: « المائدة » من آخر ما نزل ليس فيها منسوخ، وفيها ثمان عشرة فريضة ليست في غيرها؛ وهي: « المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع » [ المائدة: 3 ] ، « وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام » ، « وما علمتم من الجوارح مكلبين » [ المائدة: 4 ] ، « وطعام الذين أوتوا الكتاب » [ المائدة: 5 ] « والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم » [ المائدة: 5 ] ، وتمام الطهور « إذا قمتم إلى الصلاة » [ المائدة: 6 ] ، « والسارق والسارقة » [ المائدة: 38 ] ، « لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم » [ المائدة: 95 ] إلى قوله: « عزيز ذو انتقام » [ المائدة: 95 ] و « ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام » [ المائدة: 103 ] . وقوله تعالى: « شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت » [ المائدة: 106 ] الآية.

قلت: وفريضة تاسعة عشرة وهي قوله جل وعز: « وإذا ناديتم إلى الصلاة » [ المائدة: 58 ] ليس للأذان ذكر في القرآن إلا في هذه السورة، أما ما جاء في سورة « الجمعة » فمخصوص بالجمعة، وهو في هذه السورة عام لجميع الصلوات. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ سورة « المائدة » في حجة الوداع وقال: ( يا أيها الناس إن سورة المائدة من آخر ما نزل فأحلوا حلالها وحرموا حرامها ) ونحوه عن عائشة رضي الله عنها موقوفا؛ قال جبير بن نفير: دخلت على عائشة رضي الله عنها فقالت: هل تقرأ سورة « المائدة » ؟ فقلت: نعم، فقالت: فإنها من آخر ما أنزل الله، فما وجدتم فيها من حلال فأحلوه وما وجدتم فيها من حرام فحرموه. وقال الشعبي: لم ينسخ من هذه السورة إلا قوله: « ولا الشهر الحرام ولا الهدي » [ المائدة: 2 ] الآية. وقال بعضهم: نسخ منها « أو آخران من غيركم » [ المائدة: 106 ] .

 

الآية: 1 ( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد )

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا » قال علقمة: كل ما في القرآن « يا أيها الذين آمنوا » فهو مدني و « يا أيها الناس » [ النساء: 1 ] فهو مكي؛ وهذا خرج على الأكثر، وقد تقدم. وهذه الآية مما تلوح فصاحتها وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذي بصيرة بالكلام؛ فإنها تضمنت خمسة أحكام: الأول: الأمر بالوفاء بالعقود؛ الثاني: تحليل بهيمة الأنعام؛ الثالث: استثناء ما يلي بعد ذلك؛ الرابع: استثناء حال الإحرام فيما يصاد؛ الخامس: ما تقتضيه الآية من إباحة الصيد لمن ليس بمحرم. وحكى النقاش أن أصحاب الكندي قالوا له: أيها الحكيم أعمل لنا مثل هذا القرآن فقال: نعم ! أعمل مثل بعضه؛ فأحتجب أياما كثيرة ثم خرج فقال: والله ما أقدر ولا يطيق هذا أحد؛ إني فتحت المصحف فخرجت سورة « المائدة » فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ونهى عن النكث، وحلل تحليلا عاما، ثم استثنى استثناء بعد استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في أجلاد.

 

قوله تعالى: « أوفوا » يقال: وفى وأوفى لغتان: قال الله تعالى: « ومن أوفى بعهده من الله » [ التوبة: 111 ] ، وقال تعالى: « وإبراهيم الذي وفى » [ النجم: 37 ] وقال الشاعر:

أما ابن طوق فقد أوفى بذمته كما وفى بقلاص النجم حاديها

فجمع بين اللغتين.

 

قوله تعالى: « بالعقود » العقود الربوط، واحدها عقد؛ يقال: عقدت العهد والحبل، وعقدت العسل فهو يستعمل في المعاني والأجسام؛ قال الحطيئة:

قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا

فأمر الله سبحانه بالوفاء بالعقود؛ قال الحسن: يعني بذلك عقود الدين وهي ما عقده المرء على نفسه؛ من بيع وشراء وإجارة وكراء ومناكحة وطلاق ومزارعة ومصالحة وتمليك وتخيير وعتق وتدبير وغير ذلك من الأمور، ما كان ذلك غير خارج عن الشريعة؛ وكذلك ما عقده على نفسه لله من الطاعات، كالحج والصيام والاعتكاف والقيام والنذر وما أشبه ذلك من طاعات ملة الإسلام. وأما نذر المباح فلا يلزم بإجماع من الأمة؛ قال ابن العربي. ثم قيل: إن الآية نزلت في أهل الكتاب؛ لقوله تعالى: « وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه » [ آل عمران: 187 ] . قال ابن جريج: هو خاص بأهل الكتاب وفيهم نزلت. وقيل: هي عامة وهو الصحيح؛ فإن لفظ المؤمنين يعم مؤمني أهل الكتاب؛ لأن بينهم وبين الله عقدا في أداء الأمانة فيما في كتابهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم مأمورون بذلك في قوله: « أوفوا بالعقود » وغير موضع. قال ابن عباس: « أوفوا بالعقود » معناه بما أحل وبما حرم وبما فرض وبما حد في جميع الأشياء؛ وكذلك قال مجاهد وغيره. وقال ابن شهاب: قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتبه لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران وفي صدره: ( هذا بيان للناس من الله ورسوله « يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود » فكتب الآيات فيها إلى قوله: « إن الله سريع الحساب » [ المائدة: 4 ] ) . وقال الزجاج: المعنى أوفوا بعقد الله عليكم وبعقدكم بعضكم على بعض. وهذا كله راجع إلى القول بالعموم وهو الصحيح في الباب؛ قال صلى الله عليه وسلم: ( المؤمنون عند شروطهم ) وقال: ( كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط ) فبين أن الشرط أو العقد الذي يجب الوفاء به ما وافق كتاب الله أي دين الله؛ فإن ظهر فيها ما يخالف رد؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ) . ذكر ابن إسحاق قال: اجتمعت قبائل من قريش في دار عبدالله بن جدعان - لشرفه ونسبه - فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو غيرهم إلا قاموا معه حتى ترد عليه مظلمته؛ فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، وهو الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان جلفا ما أحب أن لي به خمر النعم ولو أدعي به في الإسلام لأجبت ) . وهذا الحلف هو المعنى المراد في قوله عليه السلام: ( وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة ) لأنه موافق للشرع إذ أمر بالانتصاف من الظالم؛ فأما ما كان من عهودهم الفاسدة وعقودهم الباطلة على الظلم والغارات فقد هدمه الإسلام والحمد لله. قال ابن إسحاق: تحامل الوليد بن عتبة على الحسين بن علي في مال له - لسلطان الوليد؛ فإنه كان أميرا على المدينة - فقال له الحسين: أحلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن بسيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لأدعون بحلف الفضول. قال عبدالله بن الزبير: وأنا أحلف بالله لئن دعاني لآخذن بسيفي ثم لأقومن معه حتى ينتصف من حقه أو نموت جميعا؛ وبلغت المسور بن مخرمة فقال مثل ذلك؛ وبلغت عبدالرحمن بن عثمان بن عبيدالله التيمي فقال مثل ذلك؛ فلما بلغ ذلك الوليد أنصفه.

 

قوله تعالى: « أحلت لكم بهيمة الأنعام » الخطاب لكل من ألتزم الإيمان على وجهه وكماله؛ وكانت للعرب سنن في الأنعام من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، يأتي بيانها؛ فنزلت هذه الآية رافعة لتلك الأوهام الخيالية، والآراء الفاسدة الباطلة. واختلف في معنى « بهيمة الأنعام » والبهيمة اسم لكل ذي أربع؛ سميت بذلك لإبهامها من جهة نقص نطقها وفهمها وعدم تمييزها وعقلها؛ ومنه باب مبهم أي مغلق، وليل بهيم، وبهمة للشجاع الذي لا يدرى من أين يؤتى له. و « الأنعام » : الإبل والبقر والغنم، سميت بذلك للين مشيها؛ قال الله تعالى: « والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع » [ النحل: 5 ] إلى قوله: « وتحمل أثقالكم » [ النحل: 7 ] ، وقال تعالى: « ومن الأنعام حمولة وفرشا » [ الأنعام: 142 ] يعني كبارا وصغارا؛ ثم بينها فقال: « ثمانية أزواج » [ الأنعام: 143 ] إلى قوله: « أم كنتم شهداء » [ البقرة: 133 ] وقال تعالى: « وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها » [ النحل: 80 ] يعني الغنم « وأوبارها » يعني الإبل « وأشعارها » يعني المعز؛ فهذه ثلاثة أدلة تنبئ عن تضمن اسم الأنعام لهذه الأجناس؛ الإبل والبقر والغنم؛ وهو قول ابن عباس والحسن. قال الهروي: وإذا قيل النعم فهو الإبل خاصة. وقال الطبري: وقال قوم « بهيمة الأنعام » وحشيها كالظباء وبقر الوحش والحمر وغير ذلك. وذكره غير الطبري والربيع وقتادة والضحاك، كأنه قال: أحلت لكم الأنعام، فأضيف الجنس إلى أخص منه. قال ابن عطية: وهذا قول حسن؛ وذلك أن الأنعام هي الثمانية الأزواج، وما أنضاف إليها من سائر الحيوان يقال له أنعام بمجموعه معها، وكأن المفترس كالأسد وكل ذي ناب خارج عن حد الأنعام؛ فبهيمة الأنعام هي الراعي من ذوات الأربع.

قلت: فعلى هذا يدخل فيها ذوات الحوافر لأنها راعية غير مفترسة وليس كذلك؛ لأن الله تعالى قال: « والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع » [ النحل: 5 ] ثم عطف عليها قوله: « والخيل والبغال والحمير » [ النحل: 8 ] فلما استأنف ذكرها وعطفها على الأنعام دل على أنها ليست منها؛ والله أعلم. وقيل: « بهيمة الأنعام » ما لم يكن صيدا؛ لأن الصيد يسمى وحشا لا بهيمة، وهذا راجع إلى القول الأول. وروي عن عبدالله بن عمر أنه قال: « بهيمة الأنعام » الأجنة التي تخرج عند الذبح من بطون الأمهات؛ فهي تؤكل دون ذكاة، وقاله ابن عباس وفيه بعد؛ لأن الله تعالى قال: « إلا ما يتلى عليكم » وليس في الأجنة ما يستثنى؛ قال مالك: ذكاة الذبيحة ذكاة لجنينها إذا لم يدرك حيا وكان قد نبت شعره وتم خلقه؛ فإن لم يتم خلقه ولم ينبت شعره لم يؤكل إلا أن يدرك حيا فيذكى، وإن بادروا إلى تذكيته فمات بنفسه، فقيل: هو ذكي. وقيل: ليس بذكي؛ وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى:

 

قوله تعالى: « إلا ما يتلى عليكم » أي يقرأ عليكم في القرآن والسنة من قوله تعالى: « حرمت عليكم الميتة » [ المائدة: 3 ] وقوله عليه الصلاة والسلام: ( وكل ذي ناب من السباع حرام ) . فإن قيل: الذي يتلى علينا الكتاب ليس السنة؛ قلنا: كل سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهي من كتاب الله؛ والدليل عليه أمران: أحدهما: حديث العسيف ( لأقضين بينكما بكتاب الله ) والرجم ليس منصوصا في كتاب الله. الثاني: حديث ابن مسعود: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله؛ الحديث. وسيأتي في سورة « الحشر » . ويحتمل « إلا ما يتلى عليكم » الآن أو « ما يتلى عليكم » فيما بعد من مستقبل الزمان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيكون فيه دليل على جواز تأخير البيان عن وقت لا يفتقر فيه إلى تعجيل الحاجة.

 

قوله تعالى: « غير محلي الصيد » أي ما كان صيدا فهو حلال في الإحلال دون الإحرام، وما لم يكن صيدا فهو حلال في الحالين. واختلف النحاة في « إلا ما يتلى » هل هو استثناء أو لا ؟ فقال البصريون: هو استثناء من « بهيمة الأنعام » و « غير محلي الصيد » استثناء آخر أيضا منه؛ فالاستثناءان جميعا من قوله: « بهيمة الأنعام » وهي المستثنى منها؛ التقدير: إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد وأنتم محرمون؛ بخلاف قوله: « إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين. إلا آل لوط » [ الحجر: 58 - 59 ] على ما يأتي. وقيل: هو مستثنى مما يليه من الاستثناء؛ فيصير بمنزلة قوله عز وجل: « إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين » ولو كان كذلك لوجب إباحة الصيد في الإحرام؛ لأنه مستثنى من المحظور إذ كان قوله تعالى: « إلا ما يتلى عليكم » مستثنى من الإباحة؛ وهذا وجه ساقط؛ فإذا معناه أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلي الصيد وأنتم حرم إلا ما يتلى عليكم سوى الصيد. ويجوز أن يكون معناه أيضا أوفوا بالعقود غير محلي الصيد وأحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم. وأجاز الفراء أن يكون « إلا ما يتلى عليكم » في موضع رفع على البدل على أن يعطف بإلا كما يعطف بلا؛ ولا يجيزه البصريون إلا في النكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس نحو جاء القوم إلا زيد. والنصب عنده بأن « غير محلي الصيد » نصب على الحال مما في « أوفوا » ؛ قال الأخفش: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود غير محلي الصيد. وقال غيره: حال من الكاف والميم في « لكم » والتقدير: أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلي الصيد. ثم قيل: يجوز أن يرجع الإحلال إلى الناس، أي لا تحلوا الصيد في حال الإحرام، ويجوز أن يرجع إلى الله تعالى أي أحللت لكم البهيمة إلا ما كان صيدا في وقت الإحرام؛ كما تقول: أحللت لك كذا غير مبيح لك يوم الجمعة. فإذا قلت يرجع إلى الناس فالمعنى: غير محلين الصيد، فحذفت النون تخفيفا.

 

قوله تعالى: « وأنتم حرم » يعني الإحرام بالحج والعمرة؛ يقال: رجل حرام وقوم حرم إذا أحرموا بالحج؛ ومنه قول الشاعر:

فقلت لها فيئي إليك فإنني حرام وأني بعد ذاك لبيب

أي ملب، وسمي ذلك إحراما لما يحرمه من دخل فيه على نفسه من النساء والطيب وغيرهما. ويقال: أحرم دخل في الحرم؛ فيحرم صيد الحرم أيضا. وقرأ الحسن وإبراهيم ويحيى بن وثاب « حرم » بسكون الراء؛ وهي لغة تميمية يقولون في رسل: رسل وفي كتب كتب ونحوه.

 

قوله تعالى: « إن الله يحكم ما يريد » تقوية لهذه الأحكام الشرعية المخالفة لمعهود أحكام العرب؛ أي فأنت يا محمد السامع لنسخ تلك التي عهدت من أحكامهم تنبه، فإن الذي هو مالك الكل « يحكم ما يريد » « لا معقب لحكمه » [ الرعد: 41 ] يشرع ما يشاء كما يشاء.

 

الآية: 2 ( يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب )

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله » خطاب للمؤمنين حقا؛ أي لا تتعدوا حدود الله في أمر من الأمور. والشعائر جمع شعيرة على وزن فعيلة. وقال ابن فارس: ويقال للواحدة شعارة؛ وهو أحسن. والشعيرة البدنة تهدى، وإشعارها أن يجز سنامها حتى يسيل منه الدم فيعلم أنها هدي. والإشعار الإعلام من طريق الإحساس؛ يقال: أشعر هديه أي جعل له علامة ليعرف أنه هدي؛ ومنه المشاعر المعالم، واحدها مشعر وهي المواضع التي قد أشعرت بالعلامات. ومنه الشعر، لأنه يكون بحيث يقع الشعور؛ ومنه الشاعر؛ لأنه يشعر بفطنته لما لا يفطن له غيره؛ ومنه الشعير لشعرته التي في رأسه؛ فالشعائر على قول ما أشعر من الحيوانات لتهدى إلى بيت الله، وعلى قول جميع مناسك الحج؛ قال ابن عباس. وقال مجاهد: الصفا والمروة والهدي والبدن كل ذلك من الشعائر. وقال الشاعر:

نقتلهم جيلا فجيلا تراهم شعائر قربان بها يتقرب

وكان المشركون يحجون ويعتمرون ويهدون فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم؛ فأنزل الله تعالى: « لا تحلوا شعائر الله » . وقال عطاء بن أبي رباح: شعائر الله جميع ما أمر الله به ونهى عنه. وقال الحسن: دين الله كله؛ كقوله: « ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب » [ الحج: 32 ] أي دين الله.

قلت: وهذا القول هو الراجح الذي يقدم على غيره لعمومه. وقد اختلف العلماء في إشعار الهدي فأجازه الجمهور؛ ثم اختلفوا في أي جهة يشعر؛ فقال الشافعي وأحمد وأبو ثور: يكون في الجانب الأيمن؛ وروي عن ابن عمر. وثبت عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أشعر ناقته في صفحة سنامها الأيمن؛ أخرجه مسلم وغيره وهو الصحيح. وروي أنه أشعر بدنه من الجانب الأيسر؛ قال أبو عمر بن عبدالبر: هذا عندي حديث منكر من حديث ابن عباس؛ والصحيح حديث مسلم عن ابن عباس، قال: ولا يصح عنه غيره. وصفحة السنام جانبه، والسنام أعلى الظهر. وقالت طائفة: يكون في الجانب الأيسر؛ وهو قول مالك، وقال: لا بأس به في الجانب الأيمن. وقال مجاهد: من أي الجانبين شاء؛ وبه قال أحمد في أحد قوليه. ومنع من هذا كله أبو حنيفة وقال: إنه تعذيب للحيوان، والحديث يرد عليه؛ وأيضا فذلك يجري مجرى الوسم الذي يعرف به الملك كما تقدم؛ وقد أوغل ابن العربي على أبي حنيفة في الرد والإنكار حين لم ير الإشعار فقال: كأنه لم يسمع بهذه الشعيرة في الشريعة ! لهي أشهر منه في العلماء.

قلت: والذي رأيته منصوصا في كتب علماء الحنفية الإشعار مكروه من قول أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد ليس بمكروه ولا سنة بل هو مباح؛ لأن الإشعار لما كان إعلاما كان سنة بمنزلة التقليد، ومن حيث أنه جرح ومثلة كان حراما، فكان مشتملا على السنة والبدعة فجعل مباحا. ولأبي حنيفة أن الإشعار مثلة وأنه حرام من حيث إنه تعذيب الحيوان فكان مكروها، وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان في أول الابتداء حين كانت العرب تنتهب كل مال إلا ما جعل هديا، وكانوا لا يعرفون الهدي إلا بالإشعار ثم زال لزوال العذر؛ هكذا روي عن ابن عباس. وحكي عن الشيخ الإمام أبي منصور الماتريدي رحمه الله تعالى أنه قال: يحتمل أن أبا حنيفة كره إشعار أهل زمانه وهو المبالغة في البضع على وجه يخاف منه السراية، أما ما لم يجاوز الحد فعل كما كان يفعل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حسن؛ وهكذا ذكر أبو جعفر الطحاوي. فهذا اعتذار علماء الحنفية لأبي حنيفة عن الحديث الذي ورد في الإشعار، فقد سمعوه ووصل إليهم وعلموه؛ قالوا: وعلى القول بأنه مكروه لا يصير به أحد محرما؛ لأن مباشرة المكروه لا تعد من المناسك.

 

قوله تعالى: « ولا الشهر الحرام » اسم مفرد يدل على الجنس في جميع الأشهر الحرم وهي أربعة: واحد فرد وثلاثة سرد، يأتي بيانها في « براءة » ؛ والمعنى: لا تستحلوها للقتال ولا للغارة ولا تبدلوها؛ فإن استبدالها استحلال، وذلك ما كانوا يفعلونه من النسيء؛ وكذلك قوله: « ولا الهدي ولا القلائد » أي لا تستحلوه، وهو على حذف مضاف أي ولا ذوات القلائد جمع قلادة. فنهى سبحانه عن استحلال الهدي جملة، ثم ذكر المقلد منه تأكيدا ومبالغة في التنبيه على الحرمة في التقليد.

 

قوله تعالى: « ولا الهدي ولا القلائد » الهدي ما أهدي إلى بيت الله تعالى من ناقة أو بقرة أو شاة؛ الواحدة هدية وهدية وهدي. فمن قال: أراد بالشعائر المناسك قال: ذكر الهدي تنبيها على تخصيصها. ومن قال: الشعائر الهدي قال: إن الشعائر ما كان مشعرا أي معلما بإسالة الدم من سنامه، والهدي ما لم يشعر، اكتفى فيه بالتقليد. وقيل: الفرق أن الشعائر هي البدن من الأنعام. والهدي البقر والغنم والثياب وكل ما يهدى. وقال الجمهور: الهدي عاما في جميع ما يتقرب به من الذبائح والصدقات؛ ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: ( المبكر إلى الجمعة كالمهدي بدنة ) إلى أن قال: ( كالهدي بيضة ) فسماها هديا؛ وتسمية البيضة هديا لا محمل له إلا أنه أراد به الصدقة؛ وكذلك قال العلماء: إذا قال جعلت ثوبي هديا فعليه أن يتصدق به؛ إلا أن الإطلاق إنما ينصرف إلى أحد الأصناف الثلاثة من الإبل والبقر والغنم، وسوقها إلى الحرم وذبحها فيه، وهذا إنما تلقي من عرف الشرع في قوله تعالى: « فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي » [ البقرة: 196 ] وأراد به الشاة؛ وقال تعالى: « يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة » [ المائدة: 95 ] وقال تعالى: « فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي » [ البقرة: 196 ] وأقله شاة عند الفقهاء. وقال مالك: إذا قال ثوبي هدي يجعل ثمنه في هدي. « والقلائد » ما كان الناس يتقلدونه أمنة لهم؛ فهو على حذف مضاف، أي ولا أصحاب القلائد ثم نسخ. قال ابن عباس: آيتان نسختا من « المائدة » آية القلائد وقوله: « فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم » [ المائدة: 42 ] فأما القلائد فنسخها الأمر بقتل المشركين حيث كانوا وفي أي شهر كانوا. وأما الأخرى فنسخها قوله تعالى: « وأن احكم بينهم بما أنزل الله » [ المائدة: 49 ] على ما يأتي. وقيل: أراد بالقلائد نفس القلائد؛ فهو نهي عن أخذ لحاء شجر الحرم حتى يتقلد به طلبا للأمن؛ قاله مجاهد وعطاء ومطرف بن الشخير. والله أعلم. وحقيقة الهدي كل معطى لم يذكر معه عوض. وأتفق الفقهاء على أن من قال: لله علي هدي أنه يبعث بثمنه إلى مكة. وأما القلائد فهي كل ما علق على أسنمة الهدايا وأعناقها علامة أنه لله سبحانه؛ من نعل أو غيره، وهي سنة إبراهيمية بقيت في الجاهلية وأقرها الإسلام، وهي سنة البقر والغنم. قالت عائشة رضي الله عنها: أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة إلى البيت غنما فقلدها؛ أخرجه البخاري ومسلم؛ وإلى هذا صار جماعة من العلماء: الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وابن حبيب؛ وأنكره مالك وأصحاب الرأي وكأنهم لم يبلغهم هذا الحديث في تقليد الغنم، أو بلغ لكنهم ردوه لانفراد الأسود به عن عائشة رضي الله عنها؛ فالقول به أولى. والله أعلم. وأما البقر فإن كانت لها أسنمة أشعرت كالبدن؛ قال ابن عمر؛ وبه قال مالك. وقال الشافعي: تقلد وتشعر مطلقا ولم يفرقوا. وقال سعيد بن جبير: تقلد ولا تشعر؛ وهذا القول أصح إذ ليس لها سنام، وهي أشبه بالغنم منها بالإبل. والله أعلم.

 

واتفقوا فيمن قلد بدنة على نية الإحرام وساقها أنه يصير محرما؛ قال الله تعالى: « لا تحلوا شعائر الله » إلى أن قال: « فاصطادوا » ولم يذكر الإحرام لكن لما ذكر التقليد عرف أنه بمنزلة الإحرام.

فإن بعث بالهدي ولم يسق بنفسه لم يكن محرما؛ لحديث عائشة قالت: أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي؛ ثم قلدها بيديه، ثم بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أحله الله له حتى نحر الهدي؛ أخرجه البخاري، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وجمهور العلماء. وروي عن ابن عباس أنه قال: يصير محرما؛ قال ابن عباس: من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر الهدي؛ رواه البخاري؛ وهذا مذهب ابن عمر وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير، وحكاه الخطابي عن أصحاب الرأي؛ واحتجوا بحديث جابر بن عبدالله قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم جالسا فقد قميصه من جيبه ثم أخرجه من رجليه، فنظر القوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( إني أمرت ببدني التي بعثت بها أن تقلد وتشعر على مكان كذا وكذا فلبست قميصي ونسيت فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي ) وكان بعث ببدنه وأقام بالمدينة. في إسناده عبدالرحمن بن عطاء بن أبي لبيبة وهو ضعيف. فإن قلد شاة وتوجه معها فقال الكوفيون: لا يصير محرما؛ لأن تقليد الشاة ليس بمسنون ولا من الشعائر؛ لأنه يخاف عليها الذئب فلا تصل إلى الحرم بخلاف البدن؛ فإنها تترك حتى ترد الماء وترعى الشجر وتصل إلى الحرم. وفي صحيح البخاري عن عائشة أم المؤمنين قالت: فتلت قلائدها من عهن كان عندي. العهن الصوف المصبوغ؛ ومنه قوله تعالى: « وتكون الجبال كالعهن المنفوش » [ القارعة: 5 ] .

 

ولا يجوز بيع الهدي ولا هبته إذا قلد أو أشعر؛ لأنه قد وجب، وإن مات موجبه لم يورث عنه ونفذ لوجهه؛ بخلاف الأضحية فإنها لا تجب إلا بالذبح خاصة عند مالك إلا أن يوجبها بالقول؛ فإن أوجبها بالقول قبل الذبح فقال: جعلت هذه الشاة أضحية تعينت؛ وعليه؛ إن تلفت ثم وجدها أيام الذبح أو بعدها ذبحها ولم يجز له بيعها؛ فإن كان اشترى أضحية غيرها ذبحهما جميعا في قول أحمد وإسحاق. وقال الشافعي: لا بدل عليه إذا ضلت أو سرقت، إنما الإبدال في الواجب. وروي عن ابن عباس أنه قال: إذا ضلت فقد أجزأت. ومن مات يوم النحر قبل أن يضحي كانت ضحيته موروثة عنه كسائر ماله بخلاف الهدي. وقال أحمد وأبو ثور: تذبح بكل حال. وقال الأوزاعي: تذبح إلا أن يكون عليه دين لا وفاء له إلا من تلك الأضحية فتباع في دينه. ولو مات بعد ذبحها لم يرثها عنه ورثته، وصنعوا بها من الأكل والصدقة ما كان له أن يصنع بها، ولا يقتسمون لحمها على سبيل الميراث. وما أصاب الأضحية قبل الذبح من العيوب كان على صاحبها بدلها بخلاف الهدي، هذا تحصيل مذهب مالك. وقد قيل في الهدي على صاحبه البدل؛ والأول أصوب. والله أعلم. قال أبو الليث السمرقندي: وقوله تعالى: « ولا الشهر الحرام » منسوخ بقوله: « وقاتلوا المشركين كافة » [ التوبة: 36 ] وقوله: « ولا الهدي ولا القلائد » محكم لم ينسخ؛ فكل من قلد الهدي ونوى الإحرام صار محرما لا يجوز له أن يحل بدليل هذه الآية؛ فهذه الأحكام معطوف بعضها على بعض؛ بعضها منسوخ وبعضها غير منسوخ.

 

قوله تعالى: « ولا آمين البيت الحرام » يعني القاصدين له؛ من قولهم أممت كذا أي قصدته. وقرأ الأعمش: « ولا آمي البيت الحرام » بالإضافة كقوله: « غير محلي الصيد » والمعنى: لا تمنعوا الكفار القاصدين البيت الحرام على جهة التعبد والقربة؛ وعليه فقيل: ما في هذه الآيات من نهي عن مشرك، أو مراعاة حرمة له بقلادة، أو أم البيت فهو كله منسوخ بآية السيف في قوله: « فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم » [ التوبة: 5 ] وقوله: « فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا » [ التوبة: 28 ] فلا يمكن المشرك من الحج، ولا يؤمن في الأشهر الحرم وإن أهدى وقلد وحج؛ روي عن ابن عباس وقاله ابن زيد على ما يأتي ذكره. وقال قوم: الآية محكمة لم تنسخ وهي في المسلمين، وقد نهى الله عن إخافة من يقصد بيته من المسلمين. والنهي عام في الشهر الحرام وغيره؛ ولكنه خص الشهر الحرام بالذكر تعظيما وتفضيلا؛ وهذا يتمشى على قول عطاء؛ فإن المعنى لا تحلوا معالم الله، وهي أمره ونهيه وما أعلمه الناس فلا تحلوه؛ ولذلك قال أبو ميسرة: هي محكمة. وقال مجاهد: لم ينسخ منها إلا « القلائد » وكان الرجل يتقلد بشيء من لحاء الحرم فلا يقرب فنسبخ ذلك. وقال ابن جريج: هذه الآية نهي عن الحجاج أن تقطع سبلهم. وقال ابن زيد: نزلت الآية عام الفتح ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة؛ جاء أناس من المشركين يحجون ويعتمرون فقال المسلمون: يا رسول الله إنما هؤلاء مشركون فلن ندعهم إلا أن نغير عليهم؛ فنزل القرآن « ولا آمين البيت الحرام » . وقيل: كان هذا لأمر شريح بن ضبيعة البكري - ويلقب بالحطم - أخذته جند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في عمرته فنزلت هذه الآية، ثم نسخ هذا الحكم كما. ذكرنا. وأدرك الحطم هذا ردة اليمامة فقتل مرتدا وقد روي من خبره أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وخلف خيله خارج المدينة فقال: إلام تدعو الناس ؟ فقال: ( إلى شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ) فقال: حسن، إلا أن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم ولعلي أسلم وآتي بهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: ( يدخل عليكم رجل يتكلم بلسان شيطان ) ثم خرج من عنده فقال عليه الصلاة والسلام: ( لقد دخل بوجه كافر وخرج بقفا غادر وما الرجل بمسلم ) . فمر بسرح المدينة فاستاقه؛ فطلبوه فعجزوا عنه، فانطلق وهو يقول:

قد لفها الليل بسواق حطم ليس براعي إبل ولا غنم

ولا بجزار على ظهر وضم باتوا نياما وابن هند لم ينم بات يقاسيها غلام كالزلم خدلج الساقين خفاق القدم

فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام القضة سمع تلبية حجاج اليمامة فقال: ( هذا الحطم وأصحابه ) . وكان قد قلد ما نهب من سرح المدينة وأهداه إلى مكة، فتوجهوا في طلبه؛ فنزلت الآية، أي لا تحلوا ما أشعر لله وإن كانوا مشركين؛ ذكره ابن عباس.

 

وعلى أن الآية محكمة قوله تعالى: « لا تحلوا شعائر الله » يوجب إتمام أمور المناسك؛ ولهذا قال العلماء: إن الرجل إذا دخل في الحج ثم أفسده فعليه أن يأتي بجميع أفعال الحج، ولا يجوز أن يترك شيئا منها وإن فسد حجه؛ ثم عليه القضاء في السنة الثانية.

 

قوله تعالى: « يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا » قال فيه جمهور المفسرين: معناه يبتغون الفضل والأرباح في التجارة، ويبتغون مع ذلك رضوانه في ظنهم وطمعهم. وقيل: كان منهم من يبتغي التجارة، ومنهم من يطلب بالحج رضوان الله وإن كان لا يناله؛ وكان من العرب من يعتقد جزاء بعد الموت، وأنه يبعث، ولا يبعد أن يحصل له نوع تخفيف في النار. قال ابن عطية: هذه الآية استئلاف من الله تعالى للعرب ولطف بهم؛ لتنبسط النفوس، وتتداخل الناس، ويردون الموسم فيستمعون القرآن، ويدخل الإيمان في قلوبهم وتقوم عندهم الحجة كالذي كان. وهذه الآية نزلت عام الفتح فنسخ الله ذلك كله بعد عام سنة تسع؛ إذ حج أبو بكر ونودي الناس بسورة « براءة » .

 

قوله تعالى: « وإذا حللتم فاصطادوا » أمر إباحة - بإجماع الناس - رفع ما كان محظورا بالإحرام؛ حكاه كثير من العلماء وليس بصحيح، بل صيغة « أفعل » الواردة بعد الحظر على أصلها من الوجوب؛ وهو مذهب القاضي أبي الطيب وغيره؛ لأن المقتضي للوجوب قائم وتقدم الحظر لا يصلح مانعا؛ دليله قوله تعالى: « فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين » [ التوبة: 5 ] فهذه « أفعل » على الوجوب؛ لأن المراد بها الجهاد، وإنما فهمت الإباحة هناك وما كان مثله من قوله: « فإذا قضيت الصلاة فانتشروا » [ الجمعة: 10 ] « فإذا تطهرن فأتوهن » من النظر إلى المعنى والإجماع، لا من صيغة الأمر. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام » أي لا يحملنكم؛ عن ابن عباس وقتادة، وهو قول الكسائي وأبي العباس. وهو يتعدى إلى مفعولين؛ يقال: جرمني كذا على بغضك أي حملني عليه؛ قال الشاعر:

ولقد طعنت أبا عيينة طعنة جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا

وقال الأخفش: أي ولا يحقنكم. وقال أبو عبيدة والفراء: معنى « لا يجرمنكم » أي لا يكسبنكم بغض قوم أن تعتدوا الحق إلى الباطل، والعدل إلى الظلم، قال عليه السلام: ( أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ) وقد مضى القول في هذا. ونظير هذه الآية « فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم » [ البقرة: 194 ] وقد تقدم مستوفى. ويقال: فلان جريمة أهله أي كاسبهم، فالجريمة والجارم بمعنى الكاسب وأجرم فلان أي أكتسب الإثم. ومنه قول الشاعر:

جريمة ناهض في رأس نيق ترى لعظام ما جمعت صليبا

معناه كاسب قوت، والصليب الودك، وهذا هو الأصل في بناء ج ر م. قال ابن فارس: يقال جرم وأجرم، ولا جرم بمنزلة قولك: لا بد ولا محالة؛ وأصلها من جرم أي أكتسب، قال:

جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا

وقال آخر:

يا أيها المشتكي عكلا وما جرمت إلى القبائل من قتل وإباس

ويقال: جرم يجرم جرما إذا قطع؛ قال الرماني علي بن عيسى: وهو الأصل؛ فجرم بمعنى حمل على الشيء لقطعه من غيره، وجرم بمعنى كسب لانقطاعه إلى الكسب، وجرم بمعنى حق لأن الحق يقطع عليه. وقال الخليل: « لا جرم أن لهم النار » [ النحل: 62 ] لقد حق أن لهم العذاب. وقال الكسائي: جرم وأجرم لغتان بمعنى واحد، أي أكتسب. وقرأ ابن مسعود « يجرمنكم » بضم الياء، والمعنى أيضا لا يكسبنكم؛ ولا يعرف البصريون الضم، وإنما يقولون: جرم لا غير. والشنآن البغض. وقرئ بفتح النون وإسكانها؛ يقال: شنئت الرجل أشنؤه شنأ وشنأة وشنانا وشنانا بجزم النون، كل ذلك إذا أبغضته؛ أي لا يكسبنكم بغض قوم بصدهم إياكم أن تعتدوا؛ والمراد بغضكم قوما، فأضاف المصدر إلى المفعول. قال ابن زيد: لما صد المسلمون عن البيت عام الحديبية مر بهم ناس من المشركين يريدون العمرة؛ فقال المسلمون: نصدهم كما صدنا أصحابهم، فنزلت هذه الآية؛ أي لا تعتدوا على هؤلاء، ولا تصدوهم « أن صدوكم » أصحابهم، بفتح الهمزة مفعول من أجله؛ أي لأن صدوكم. وقرأ أبو عمرو وابن كثير بكسر الهمزة « إن صدوكم » وهو اختيار أبي عبيد. وروي عن الأعمش « إن يصدوكم » . قال ابن عطية: فإن للجزاء؛ أي إن وقع مثل هذا الفعل في المستقبل. والقراءة الأولى أمكن في المعنى. وقال النحاس: وأما « إن صدوكم » بكسر « إن » فالعلماء الجلة بالنحو والحديث والنظر يمنعون القراءة بها لأشياء: منها أن الآية نزلت عام الفتح سنة ثمان، وكان المشركون صدوا المسلمين عام الحديبية سنة ست، فالصد كان قبل الآية؛ وإذا قرئ بالكسر لم يجز أن يكون إلا بعده؛ كما تقول: لا تعط فلانا شيئا إن قاتلك؛ فهذا لا يكون إلا للمستقبل، وإن فتحت كان للماضي، فوجب على هذا ألا يجوز إلا « أن صدوكم » . وأيضا فلو لم يصح هذا الحديث لكان الفتح واجبا؛ لأن قوله: « لا تحلوا شعائر الله » إلى آخر الآية يدل على أن مكة كانت في أيديهم، وأنهم لا ينهون عن هذا إلا وهم قادرون على الصد عن البيت الحرام، فوجب من هذا فتح « أن » لأنه لما مضى.

 

قوله تعالى: « أن تعتدوا »

في موضع نصب؛ لأنه مفعول به، أي لا يجرمنكم شنآن قوم الاعتداء.

وأنكر أبو حاتم وأبو عبيد « شنآن » بإسكان النون؛ لأن المصادر إنما تأتي في مثل هذا متحركة؛ وخالفهما غيرهما وقال: ليس هذا مصدرا ولكنه اسم الفاعل على وزن كسلان وغضبان.

 

قوله تعالى: « وتعاونوا على البر والتقوى » قال الأخفش: هو مقطوع من أول الكلام، وهو أمر لجميع الخلق بالتعاون على البر والتقوى؛ أي ليعن بعضكم بعضا، وتحاثوا على ما أمر الله تعالى وأعملوا به، وانتهوا عما نهى الله عنه وامتنعوا منه؛ وهذا موافق لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الدال على الخير كفاعله ) . وقد قيل: الدال على الشر كصانعه. ثم قيل: البر والتقوى لفظان بمعنى واحد، وكرر باختلاف اللفظ تأكيدا ومبالغة، إذ كل بر تقوى وكل تقوى بر. قال ابن عطية: وفي هذا تسامح ما، والعرف في دلالة هذين اللفظين أن البر يتناول الواجب والمندوب إليه، والتقوى رعاية الواجب، فإن جعل أحدهما بدل الآخر فبتجوز. وقال الماوردي: ندب الله سبحانه إلى التعاون بالبر وقرنه بالتقوى له؛ لأن في التقوى رضا الله تعالى، وفي البر رضا الناس، ومن جمع بين رضا الله تعالى ورضا الناس فقد تمت سعادته وعمت نعمته. وقال ابن خويز منداد في أحكامه: والتعاون على البر والتقوى يكون بوجوه؛ فواجب على العالم أن يعين الناس بعلمه فيعلمهم، ويعينهم الغني بماله، والشجاع بشجاعته في سبيل الله، وأن يكون المسلمون متظاهرين كاليد الواحدة ( المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم ) . ويجب الإعراض عن المتعدي وترك النصرة له ورده عما هو عليه. ثم نهى فقال: « ولا تعاونوا على الإثم والعدوان » وهو الحكم اللاحق عن الجرائم، وعن « العدوان » وهو ظلم الناس. ثم أمر بالتقوى وتوعد توعدا مجملا فقال: « واتقوا الله إن الله شديد العقاب » .

 

الآية: 6 ( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون )

 

ذكر القشيري وابن عطية أن هذه الآية نزلت في قصة عائشة حين فقدت العقد في غزوة المريسيع، وهي آية الوضوء. قال ابن عطية: لكن من حيث كان الوضوء متقررا عندهم مستعملا، فكأن الآية لم تزدهم فيه إلا تلاوته، وإنما أعطتهم الفائدة والرخصة في التيمم. وقد ذكرنا في آية « النساء » خلاف هذا، والله أعلم. ومضمون هذه الآية داخل فيما أمر به من الوفاء بالعقود وأحكام الشرع، وفيما ذكر من إتمام النعمة؛ فإن هذه الرخصة من إتمام النعم.

 

واختلف العلماء في المعنى المراد بقوله: « إذا قمتم إلى الصلاة » على أقوال؛ فقالت طائفة: هذا لفظ عام في كل قيام إلى الصلاة، سواء كان القائم متطهرا أو محدثا؛ فإنه ينبغي له إذا قام إلى الصلاة أن يتوضأ، وكان عل يفعله ويتلو هذه الآية؛ ذكره أبو محمد الدرامي في مسنده. وروي مثله عن عكرمة. وقال ابن سيرين: كان الخلفاء يتوضؤون لكل صلاة.

قلت: فالآية على هذا محكمة لا نسخ فيها. وقالت طائفة: الخطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ قال عبدالله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة فشق ذلك عليه؛ فأمر بالسواك ورفع عنه الوضوء إلا من حدث. وقال علقمة بن الفغواء عن أبيه - وهو من الصحابة، وكان دليل رسول الله صلى الله عليه وملم إلى تبوك: نزلت هذه الآية رخصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان لا يعمل عملا إلا وهو على وضوء، ولا يكلم أحدا ولا يرد سلاما إلى غير ذلك؛ فأعلمه الله بهذه الآية أن الوضوء إنما هو قيام إلى الصلاة فقط دون سائر الأعمال. وقالت طائفة: المراد بالآية الوضوء لكل صلاة طلبا للفضل؛ وحملوا الأمر على الندب، وكان كثير من الصحابة منهم ابن عمر يتوضؤون لكل صلاة طلبا للفضل، وكان عليه الصلاة والسلام يفعل ذلك إلى أن جمع يوم الفتح بين الصلوات الخمس بوضوء واحد، إرادة البيان لأمته صلى الله عليه وسلم.

قلت: وظاهر هذا القول أن الوضوء لكل صلاة قبل ورود الناسخ كان مستحبا لا إيجابا وليس كذلك؛ فإن الأمر إذا ورد، مقتضاه الوجوب؛ لا سيما عند الصحابة رضوان الله عليهم، على ما هو معروف من سيرتهم. وقال آخرون: إن الفرض في كل وضوء كان لكل صلاة ثم نسخ في فتح مكة؛ وهذا غلط لحديث أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة، وأن أمته كانت على خلاف ذلك، وسيأتي؛ ولحديث سويد بن النعمان أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وهو بالصهباء العصر والمغرب بوضوء واحد؛ وذلك في غزوة خيبر، وهي سنة ست، وقيل: سنة سبع، وفتح مكة كان في سنة ثمان؛ وهو حديث صحيح رواه مالك في موطئه، وأخرجه البخاري ومسلم؛ فبان بهذين الحديثين أن الفرض لم يكن قبل الفتح لكل صلاة. فإن قيل: فقد روى مسلم عن بريدة بن الحصيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد، ومسح على خفيه، فقال عمر رضي الله عنه: لقد صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه؛ فقال: ( عمدا صنعته يا عمر ) . فلم سأله عمر واستفهمه؟ قيل له: إنما سأله لمخالفته عادته منذ صلاته بخيبر؛ والله أعلم. وروى الترمذي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة طاهرا وغير طاهر؛ قال حميد: قلت لأنس: وكيف كنتم تصنعون أنتم؟ قال: كنا نتوضأ وضوءا واحدا؛ قال: حديث حسن صحيح؛ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الوضوء على الوضوء نور ) فكان عليه السلام يتوضأ مجددا لكل صلاة، وقد سلم عليه وجل وهو يبول فلم يرد عليه حتى تيمم ثم رد السلام وقال: ( إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر ) رواه الدارقطني. وقال السدي وزيد بن أسلم: معنى الآية « إذا قمتم إلى الصلاة » يريد من المضاجع يعني النوم، والقصد بهذا التأويل أن يعم الأحداث بالذكر، ولا سيما النوم الذي هو مختلف فيه هل هو حدث في نفسه أم لا؟ وفي الآية على هذا التأويل تقديم وتأخير؛ التقدير: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة من النوم، أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء - يعني الملامسة الصغرى - فاغسلوا؛ فتمت أحكام المحدث حدثا أصغر. ثم قال: « وإن كنتم جنبا فاطهروا » فهذا حكم نوع آخر؛ ثم قال للنوعين جميعا: « وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا » [ النساء: 43 ] . وقال بهذا التأويل محمد بن مسلمة من أصحاب مالك - رحمه الله - وغيره. وقال جمهور أهل العلم: معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة محدثين؛ وليس في الآية على هذا تقديم وتأخير، بل ترتب في الآية حكم واجد الماء إلى قوله: فاطهروا « ودخلت الملامسة الصغرى في قوله » محدثين « . ثم ذكر بعد قوله: « وإن كنتم جنبا فاطهروا » حكم عادم الماء من النوع جميعا، وكانت الملامسة هي الجماع، ولا بد أن يذكر الجنب العادم الماء كما ذكر الواجد؛ وهذا تأويل الشافعي وغيره؛ وعليه تجيء أقوال الصحابة كسعد بن أبي وقاص وابن عباس وأبي موسى الأشعري وغيرهم.»

قلت: وهذان التأويلان أحسن ما قيل في الآية؛ والله أعلم. ومعنى « إذا قمتم » إذا أردتم، كما قال تعالى: « فإذا قرأت القرآن فاستعذ » [ النحل: 98 ] ، أي إذا أردت؛ لأن الوضوء حالة القيام إلى الصلاة لا يمكن.

 

قوله تعالى: « فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين »

ذكر تعالى أربعة أعضاء: الوجه وفرضه الغسل واليدين كذلك والرأس وفرضه المسح اتفاقا واختلف في الرجلين على ما يأتي، لم يذكر سواها فدل ذلك على أن ما عداها آداب وسنن. والله أعلم. ولا بد في غسل الوجه من نقل الماء إليه، وإمرار اليد عليه؛ وهذه حقيقة الغسل عندنا، وقد بيناه في « النساء » . وقال غيرنا: إنما عليه إجراء الماء وليس عليه دلك بيده؛ ولا شك أنه إذا انغمس الرجل في الماء وغمس وجهه أو يده ولم يدلك يقال: غسل وجهه ويده، ومعلوم أنه لا يعتبر في ذلك غير حصول الاسم، فإذا حصل كفى. والوجه في اللغة مأخوذ من المواجهة، وهو عضو مشتمل على أعضاء وله طول وعرض؛ فحده في الطول من مبتدأ سطح الجبهة إلى منتهى اللحيين، ومن الأذن إلى الأذن في العرض، وهذا في الأمرد؛ وأما الملتحي فإذا اكتسى الذقن بالشعر فلا يخلو أن يكون خفيفا أو كثيفا؛ فإن كان الأول بحيث تبين منه البشرة فلا بد من إيصال الماء إليها، وإن كان كثيفا فقد انتقل الفرض إليه كشعر الرأس؛ ثم ما زاد على الذقن من الشعر واسترسل من اللحية، فقال سحنون عن ابن القاسم: سمعت مالكا سئل: هل سمعت بع أهل العلم يقول إن اللحية من الوجه فليمر عليها الماء؟ قال: نعم، وتخليلها في الوضوء ليس من أمر الناس، وعاب ذلك على من فعله. وذكر ابن القاسم أيضا عن مالك قال: يحرك المتوضئ ظاهر لحيته من غير أن يدخل يده فيها؛ قال: وهي مثل أصابع الرجلين. قال ابن عبدالحكم: تخليل اللحية واجب في الوضوء والغسل. قال أبو عمر: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خلل لحيته في الوضوء من وجوه كلها ضعيفة. وذكر ابن خويز منداد: أن الفقهاء اتفقوا على أن تخليل اللحية ليس بواجب في الوضوء، إلا شيء روي عن سعيد بن جبير؛ قوله: ما بال الرجل يغسل لحيته قبل أن تنبت فإذا نبتت لم يغسلها، وما بال الأمرد يغسل ذقنه ولا يغسله ذو اللحية؟ قال الطحاوي: التيمم واجب فيه مسح البشرة قبل نبات الشعر في الوجه ثم سقط بعده عند جميعهم. فكذلك الوضوء. قال أبو عمر: من جعل غسل اللحية كلها واجبا جعلها وجها؛ لأن الوجه مأخوذ من المواجهة، والله قد أمر بغسل الوجه أمرا مطلقا لم يخص صاحب لحية من أمرد؛ فوجب غسلها بظاهر القرآن لأنها بدل من البشرة.

قلت: واختار هذا القول ابن العربي وقال: وبه أول؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغسل لحيته، خرجه الترمذي وغيره؛ فعين المحتمل بالفعل. وحكى ابن المنذر عن إسحاق أن من ترك تخليل لحيته عامدا أعاد. وروى الترمذي عن عثمان بن عفان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته؛ قال: هذا حديث حسن صحيح؛ قال أبو عمر: ومن لم يوجب غسل ما انسدل من اللحية ذهب إلى أن الأصل المأمور بغسله البشرة، فوجب غسل ما ظهر فوق البشرة، وما انسدل من اللحية ليس تحته ما يلزم غسله، فيكون غسل اللحية بدلا منه. واختلفوا أيضا في غسل ما وراء العذار إلى الأذن؛ فروى ابن وهب عن مالك قال: ليس ما خلف الصدغ الذي من وراء شعر اللحية إلى الذقن من الوجه. قال أبو عمر: لا أعلم أحدا من فقهاء الأمصار قال بما رواه ابن وهب عن مالك. وقال أبو حنيفة وأصحابه: البياض بين العذار والأذن من الوجه. وغسله واجب؛ ونحوه قال الشافعي وأحمد. وقيل: يغسل البياض استحبابا؛ قال ابن العربي: والصحيح عندي أنه لا يلزم غسله إلا للأمرد لا للمعذر.

قلت: وهو اختيار القاضي عبدالوهاب؛ وسبب الخلاف هل تقع عليه المواجهة أم لا؟ والله أعلم. وبسبب هذا الاحتمال اختلفوا هل يتناول الأمر بغسل الوجه باطن الأنف والفم أم لا؟ فذهب أحمد بن حنبل وإسحاق وغيرهما إلى وجوب ذلك في الوضوء والغسل، إلا أن أحمد قال: يعيد من ترك الاستنشاق في وضوئه ولا يعيد من ترك المضمضة. وقال عامة الفقهاء: هما سنتان في الوضوء والغسل؛ لأن الأمر إنما يتناول الظاهر دون الباطن، والعرب لا تسمي وجها إلا ما وقعت به المواجهة، ثم إن الله تعالى لم يذكرهما في كتابه، ولا أوجبهما المسلمون، ولا لتفق الجميع عليه؛ والفرائض لا تثبت إلا من هذه الوجوه. وقد مضى هذا المعنى في « النساء » . وأما العينان فالناس كلهم مجمعون على أن داخل العينين لا يلزم غسله، إلا ما روي عن عبدالله بن عمر أنه كان ينضح الماء في عينيه؛ وإنما سقط غسلهما للتأذي بذلك والحرج به؛ قال ابن العربي: ولذلك كان عبدالله بن عمر لما عمي يغسل عينيه إذ كان لا يتأذى بذلك؛ وإذا تقرر هذا من حكم الوجه فلا بد من غسل جزء من الرأس مع الوجه من غير تحديد، كما لا بد على القول بوجوب عموم الرأس من مسح جزء معه من الوجه لا يتقدر؛ وهذا ينبني على أصل من أصول الفقه وهو: « أن ما لا يتم الواجب إلا به اجب مثله » والله أعلم.

 

وجمهور العلماء على أن الوضوء لا بد فيه من نية؛ لقول عليه السلام: ( إنما الأعمال بالنيات ) . قال البخاري: فدخل فيه الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة والحج والصوم والأحكام؛ وقال الله تعالى: « قل كل يعمل على شاكلته » [ الإسراء: 84 ] ، يعني على نيته. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولكن جهاد ونية ) . وقال كثير من الشافعية: لا حاجة إلى نية؛ وهو قول الحنفية؛ قالوا: لا تجب النية إلا في الفروض التي هي مقصودة لأعيانها ولم تجعل سببا لغيرها، فأما ما كان شرطا لصحة فعل آخر فليس يجب ذلك فيه بنفس ورود الأمر إلا بدلالة تقارنه، والطهارة شرط؛ فإن من لا صلاة عليه لا يجب عليه فرض الطهارة، كالحائض والنفساء. احتج علماؤنا وبعض الشافعية بقوله تعالى: « إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم » فلما وجب فعل الغسل كانت النية شرطا في صحة الفعل؛ أن الفرض من قبل الله تعالى فينبغي أن يجب فعل ما أمر الله به؛ فإذا قلنا: إن النية لا تجب عليه لم يجب عليه القصد إلى فعل ما أمره الله تعالى، ومعلوم أن الذي اغتسل تبردا أو لغرض ما، قصد أداء الواجب؛ وصح في الحديث أن الوضوء يكفر؛ فلو صح بغير نية لما كفر. وقال تعالى: « وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين » [ البينة: 5 ] .

 

قال ابن العربي، قال بعض علمائنا: إن من خرج إلى النهر بنية الغسل أجزأه، وإن عزبت نيته في الطريق، ولو خرج إلى الحمام فعزبت في أثناء الطريق بطلت النية. قال القاضي أبو بكر بن العربي رضي الله عنه: فركب على هذا سفاسفة المفتين أن نية الصلاة تتخرج على القولين، وأوردوا فيها نصا عمن لا يفرق بين الظن واليقين بأنه قال: يجوز أن تتقدم فيها النية على التكبير؛ ويا لله ويا للعالمين من أمة أرادت أن تكون مفتية مجتهدة فما وفقها الله ولا سددها؛ اعلموا رحمكم الله أن النية في الوضوء مختلف في وجوبها بين العلماء، وقد اختلف فيها قول مالك؛ فلما نزلت عن مرتبة الاتفاق سومح في تقديمها في بعض المواضع، فأما الصلاة فلم يختلف أحد من الأئمة فيها، وهي أصل مقصود، فكيف يحمل الأصل المقصود المتفق عليه على الفرع التابع المختلف فيه! هل هذا إلا غاية الغباوة؟ وأما الصوم فإن الشرع رفع الحرج فيه لا كان ابتداؤه في وقت الغفلة بتقديم النية عليه.

 

قوله تعالى: « وأيديكم إلى المرافق » واختلف الناس في دخول المرافق في التحديد؛ فقال قوم: نعم؛ لأن ما بعد « إلى » إذا كان من نوع ما قبلها دخل فيه؛ قال سيبويه وغيره، وقد مضى هذا في « البقرة » مبينا. وقيل: لا يدخل المرفقان في الغسل؛ والروايتان مرويتان عن مالك؛ الثانية لأشهب؛ والأولى عليها أكثر العلماء وهو الصحيح؛ لما رواه الدارقطني عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه. وقد قال بعضهم: إن « إلى » بمعنى مع، كقولهم: الذود إلى الذود إبل، أي مع الذود، وهذا لا يحتاج إليه كما بيناه في « النساء » ؛ ولأن اليد عند العرب تقع على أطراف الأصابع إلى الكتف، وكذلك الرجل تقع على الأصابع إلى أصل الفخذ؛ فالمرفق داخل تحت اسم اليد، فلو كان المعنى مع المرافق لم يفد، فلما قال: « إلى » اقتطع من حد المرافق عن الغسل، وبقيت المرافق مغسولة إلى الظفر، وهذا كلام صحيح يجري على الأصول لغة ومعنى؛ قال ابن العربي: وما فهم أحد مقطع المسألة إلا القاضي أبو محمد فإنه قان: إن قوله « إلى المرافق » حد للمتروك من اليدين لا للمغسول فيه؛ ولذلك تدخل المرافق في الغسل.

قلت: وما كان اليد والرجل تنطلق في اللغة على ما ذكرنا كان أبو هريرة يبلغ بالوضوء إبطه وساقه ويقول: سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول: ( تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء ) . قال القاضي عياض: والناس مجمعون على خلاف هذا، وألا يتعدى بالوضوء حدوده؛ لقوله عليه السلام: ( فمن زاد فقد تعدى وظلم ) . وقال غيره: كان هذا الفعل مذهبا له ومما انفرد به، ولم يحكه عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما استنبطه من قوله عليه السلام: ( أنتم الغر المحجلون ) ومن قوله: ( تبلغ الحلية ) كما ذكر.

 

قوله تعالى: « وامسحوا برؤوسكم » تقدم في « النساء » أن المسح لفظ مشترك. وأما الرأس فهو عبارة عن الجملة التي يعلمها الناس ضرورة ومنها الوجه، فلما ذكره الله عز وجل في الوضوء وعين الوجه للغسل بقي باقيه للمسح، ولو لم يذكر الغسل للزم مسح جميعه، ما عليه شعر من الرأس وما فيه العينان والأنف والفم؛ وقد أشار مالك في وجوب مسح الرأس إلى ما ذكرناه؛ فإنه سئل عن الذي يترك بعض رأسه في الوضوء فقال: أرأيت إن ترك غسل بعض وجهه أكان يجزئه؟ ووضح بهذا الذي ذكرناه أن الأذنين من الرأس، وأن حكمهما حكم الرأس خلافا للزهري، حيث قال: هما من الوجه يغسلان معه، وخلافا للشعبي، حيث قال: ما أقبل منهما من الوجه وظاهرهما من الرأس؛ وهو قول الحسن وإسحاق، وحكاه ابن أبي هريرة عن الشافعي، وسيأتي بيان حجتهما؛ وإنما سمي الرأس رأسا لعلوه ونبات الشعر فيه، ومنه رأس الجبل؛ وإنما قلنا إن الرأس اسم لجملة أعضاء لقول الشاعر:

إذا احتملوا رأسي وفي الرأس أكثري وغودر عند الملتقى ثم سائري

 

واختلف العلماء في تقدير مسحه على أحد عشر قولا؛ ثلاثة لأبي حنيفة، وقولان للشافعي، وستة أقوال لعلمائنا؛ والصحيح منها واحد وهو وجوب التعميم لما ذكرناه. وأجمع العلماء على أن مسح رأسه كله فقد أحسن وفعل ما يلزمه؛ والباء مؤكدة زائدة ليست للتبعيض: والمعنى وامسحوا رؤوسكم. وقيل: دخولها حسن كدخولها في التيمم في قوله: « فامسحوا بوجوهكم » فلو كان معناها التبعيض لإفادته في ذلك الموضع، وهذا قاطع. وقيل: إنما دخلت لتفيد معنى بديعا وهو أن الغسل لغة يقتضي مغسولا به، والمسح لغة لا يقتضي ممسوحا به؛ فلو قال: وامسحوا رؤوسكم لأجزأ المسح باليد إمرارا من غير شيء على الرأس؛ فدخلت الباء لتفيد ممسوحا به وهو الماء، فكأنه قال: وامسحوا برؤوسكم الماء؛ وذلك فصيح في اللغة على وجهين؛ إما على القلب كما أنشد سيبويه:

كنواح ريش حمامة بخديه ومسحت باللثتين عصف الإثمد

واللثة هي الممسوحة بعصف الإثمد فقلب، وإما على الاشتراك في الفعل والتساوي في نسبته كقول الشاعر:

مثل القنافذ هداجون قد بلغت نجران أو بلغت سوءاتهم هجر

فهذا ما لعلمائنا في معنى الباء. وقال الشافعي: احتمل قول الله تعالى: « وامسحوا برؤوسكم » بعض الرأس ومسح جميعه فدلت السنة أن مسح بعضه يجزئ، وهو أن النبي صلى الله علبه وسلم مسح بناصيته؛ وقال في موضع آخر: فإن قيل قد قال الله عز وجل: « فامسحوا بوجوهكم » في التيمم أيجزئ بعض الوجه فيه؟ قيل له: مسح الوجه في التيمم بدل من غسله؛ فلا بد أن يأتي بالمسح على جميع موضع الغسل منه، ومسح الرأس أصل؛ فهذأ فرق ما بينهما. أجاب علماؤنا عن الحديث بأن قالوا: لعل النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لعذر لا سيما وكان هذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم في السفر وهو مظنة الأعذار، وموضع الاستعجال والاختصار، وحذف كثير من الفرائض لأجل المشقات والأخطار؛ ثم هو لم يكتف بالناصية حتى مسح على العمامة؛ أخرجه مسلم من حديث المغيرة بن شعبة؛ فلو لم يكن مسح جميع الرأس واجبا لما مسح على العمامة؛ والله أعلم.

 

وجمهور العلماء على أن مسحة واحدة موعبة كاملة تجزئ. وقال الشافعي: يمسح رأسه ثلاثا؛ وروي عن أنس وسعيد بن جبير وعطاء. وكان ابن سيرين يمسح مرتين. قال أبو داود: وأحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة؛ فإنهم ذكروا الوضوء ثلاثا، قالوا فيها: ومسح برأسه ولم يذكروا عددا.

 

واختلفوا من أين يبدأ بمسحه؛ فقال مالك: يبدأ بمقدم رأسه، ثم يذهب بيديه إلى مؤخره، ثم يردهما إلى مقدمه؛ على حديث عبدالله بن زيد أخرجه مسلم؛ وبه يقول الشافعي وابن حنبل. وكان الحسن بن حي يقول: يبدأ مؤخر الرأس؛ على حديث الربيع بنت معوذ بن عفراء؛ وهو حديث يختلف في ألفاظه، وهو يدور. على عبدالله بن محمد بن عقيل وليس بالحافظ عندهم؛ أخرجه أبو داود من رواية بشر بن المفضل عن عبدالله عن الربيع، وروي ابن عجلان عنه عن الربيع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ عندنا فمسح الرأس كله من قرن الشعر كل ناحية بمنصب الشعر، لا يحرك الشعر عن هيئته؛ ورويت هذه الصفة عن ابن عمر، وأنه كان يبدأ من وسط رأسه. وأصح ما في هذا الباب حديث عبدالله بن زيد؛ وكل من أجاز بعض الرأس فإنما يرى ذلك البعض في مقدم الرأس. وروي عن إبراهيم والشعبي أنهما قالا: أي نواحي رأسك مسحت أجزأ عنك. ومسح عمر اليافوخ فقط. والإجماع منعقد على استحسان المسح باليدين معا، وعلى الإجزاء إن مسح بيد واحدة. واختلف فيمن مسح بإصبع واحدة حتى عم ما يرى أنه يجزئه من الرأس؛ فالمشهور أن ذلك يجزئ، وهو قول سفيان الثوري؛ قال سفيان: إن مسح رأسه بإصبع واحدة أجزأه. وقيل: إن ذلك لا يجزئ؛ لأنه خروج عن سنة المسح وكأنه لعب، إلا أن يكون ذلك عن ضرورة مرض فينبغي ألا تل يختلف في الإجزاء. قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: لا يجزئ مسح الرأس بأقل من ثلاث أصابع؛ واختلفوا في رد اليدين على شعر الرأس هل هو فرض أو سنة - بعد الإجماع على أن المسحة الأولى فرض بالقرآن - فالجمهور على أنه سنة. وقيل: هو فرض.

 

فلو غسل متوضئ رأسه بدل المسح فقال ابن العربي: لا نعلم خلافا أن ذلك يجزئه، إلا ما أخبرنا الإمام فخر الإسلام الشاشي في الدرس عن أبي العباس ابن القاص من أصحابهم قال: لا يجزئه، وهذا تولج في مذهب الداودية الفاسد من أتباع الظاهر المبطل للشريعة الذي ذمه الله في قوله: « يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا » [ الروم: 7 ] ، وقال تعالى: « أم بظاهر من القول » [ الرعد: 33 ] وإلا فقد جاء هذا الغسل بما أمر وزيادة. فإن قيل: هذه زيادة خرجت عن اللفظ المتعبد به؛ قلنا: ولم يخرج عن معناه في إيصال الفعل إلى المحل؛ وكذلك لو مسح رأسه ثم حلقه لم يكن عليه إعادة المسح.

 

وأما الأذنان فهما الرأس عند مالك وأحمد والثوري وأبي حنيفة وغيرهم، ثم اختلفوا في تجديد الماء؛ فقال مالك وأحمد: يستأنف لهما ماء جديدا سوى الماء الذي مسح به الرأس، على ما فعل ابن عمر؛ وهكذا قال الشافعي في تجديد الماء، وقال: هما سنة على حالهما لا من الوجه ولا من الرأس؛ لاتفاق العلماء على أنه لا يحلق ما عليهما من الشعر في الحج؛ وقول أبي ثور في هذا كقول الشافعي. وقال الثوري وأبو حنيفة: يمسحان مع الرأس بماء واحد؛ وروي عن جماعة من السلف مثل هذا القول من الصحابة والتابعين. وقال داود: إن مسح أذنيه فحسن، وإلا فلا شيء عليه؛ إذ ليستا مذكورتين في القرآن. قيل له: اسم الرأس تضمنهما كما بيناه. وقد جاءت الأحاديث الصحيحة في كتاب النسائي وأبي داود وغيرهما بأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح ظاهرهما وباطنهما، وأدخل أصابعه في صماخيه، وإنما يدل عدد ذكرهما من الكتاب على أنهما ليستا بفرض كغسل الوجه واليدين، وثبتت سنة مسحهما بالسنة. وأهل العلم يكرهون للمتوضئ ترك مسح أذنيه ويجعلونه تارك سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يوجبون عليه إعادة إلا إسحاق فإنه قال: إن ترك مسح أذنيه لم يجزه. وقال أحمد: إن تركهما عمدا أحببت أن يعيد. وروي عن علي بن زياد من أصحاب مالك أنه قال: من ترك سنة من سنن الوضوء أو الصلاة عامدا أعاد؛ وهذا عند الفقهاء ضعيف، وليس لقائله سلف ولا له حظ من النظر، ولو كان كذلك لم يعرف الفرض الواجب من غيره؛ والله أعلم. احتج قال: هما من الوجه بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في سجوده: ( سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره ) فأضاف السمع إلى الوجه فثبت أن يكون لهما حكم الوجه. وفى مصنف أبي داود من حديث عثمان: فغسل بطونهما وظهورهما مرة واحدة، ثم غسل رجليه ثم قال: أين السائلون عن الوضوء؟ هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ. احتج من قال: يغسل ظاهرهما مع الوجه، وباطنها يمس مع الرأس بأن الله عز وجل قد أمر بغسل الوجه وأمر بمسح الرأس؛ فما واجهك من الأذنين وجب غسله؛ لأنه من الوجه وما لم يواجهك وجب مسحه لأنه من الرأس، وهذا ترده الآثار بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسح ظاهر أذنيه وباطنهما من حديث علي وعثمان وابن عباس والربيع وغيرهم. احتج من قال: هما من الرأس بقوله صلى الله عليه وسلم من حديث الصنابحي: ( فإذا مسح رأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج أذنيه ) الحديث أخرجه مالك.

 

قوله تعالى: « وأرجلكم » قرأ نافع وابن عامر والكسائي « وأرجلكم » بالنصب؛ وروى الوليد بن مسلم عن نافع أنه قرأ « وأرجلكم » بالرفع وهي قراءة الحسن والأعمش سليمان؛ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة « وأرجلكم » بالخفض ويحسب هذه القراءات اختلف الصحابة والتابعون؛ فمن قرأ بالنصب جعل العام « اغسلوا » وبنى على أن الفرض في الرجلين الغسل دون المسح، وهذا مذهب الجمهور والكافة من العلماء، وهو الثابت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، واللازم من قول في غير ما حديث، وقد رأى قوما يتوضؤون وأعقابهم تلوح فنادى بأعلى صوته ( ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء ) . ثم إن الله حدهما فقال: « إلى الكعبين » كما قال في اليدين « إلى المرافق » فدل على وجوب غسلهما؛ والله أعلم. ومن قرأ بالخفض جعل العامل الباء، قال ابن العربي: اتفقت العلماء على وجوب غسلهما، وما علمت من رد ذلك سوى الطبري من فقهاء المسلمين، والرافضة من غيرهم، وتعلق الطبري بقراءة الخفض.

قلت: قد روي عن ابن عباس أنه قال: الوضوء غسلتان ومسحتان. وروي أن الحجاج خطب بالأهواز فذكر الوضوء فقال: اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم، فإنه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيهما. فسمع ذلك أنس بن مالك فقال: صدق الله وكذب الحجاج؛ قال الله وتعالى: « وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم » . قال: وكان إذا مسح رجليه بلهما، وروي عن أنس أيضا أنه قال: نزل القرآن بالمسح والسنة بالغسل. وكان عكرمة يمسح رجليه وقال: ليس في الرجلين غسل إنما نزل فيه المسح. وقال عامر الشعبي: نزل جبريل بالمسح؛ ألا ترى أن التيمم يمسح فيه ما كان غسلا، ويلغي ما كان مسحا. وقال قتادة: افترض الله غسلتين ومسح. وذهب ابن جرير الطبري إلى أن فرضهما التخيير بين الغسل والمسح، وجعل القراءتين كالروايتين؛ قال النحاس: ومن أحسن ما قيل فيه؛ أن المسح والغسل واجبان جميعا، فالمسح واجب على قراءة من قرأ بالخفض، والغسل واجب على قراءة من قرأ بالنصب، والقراءتان بمنزلة آيتين. قال ابن عطية: وذهب قوم ممن يقرأ بالكسر إلى أن المسح في الرجلين هو الغسل.

قلت: وهو الصحيح؛ فإن لفظ المسح مشترك، يطلق بمعنى المسح ويطلق بمعنى الغسل؛ قال الهروي: أخبرنا الأزهري أخبرنا أبو بكر محمد بن عثمان بن سعيد الداري عن أبي حاتم عن أبي زيد الأنصاري قال: المسح في كلام العرب يكون غسلا ويكون مسحا، ومنه يقال للرجل إذا توضأ فغسل أعضاءه: قد تمسح؛ ويقال: مسح الله ما بك إذا غسلك وطهرك من الذنوب، فإذا ثبت بالنقل عن العرب أن المسح يكون بمعنى الغسل فترجح قول من قال: إن المراد بقراءة الخفض الغسل؛ بقراءة النصب التي لا احتمال فيها، وبكثرة الأحاديث الثابتة بالغسل، والتوعد على ترك غسلها في أخبار صحاح لا تحصى كثرة أخرجها الأئمة؛ ثم إن المسح في الرأس إنما دخل بين ما يغسل لبيان الترتيب على أنه مفعول قبل الرجلين، التقدير فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برؤوسكم؛ فلما كان الرأس مفعولا قبل الرجلين قدم عليهما في التلاوة - والله أعلم - لا أنهما مشتركان مع الرأس لتقدمه عليهما في صفة التطهير. وقد روى عاصم بن كليب عن أبي عبدالرحمن السلمي قال: قرأ الحسن والحسين - رحمة الله عليهما - ( وأرجلكم ) فسمع علي ذلك وكان يقضي بين الناس فقال: ( وأرجلكم ) هذا من المقدم والمؤخر من الكلام. وروى أبو إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال: اغسلوا الأقدام إلى الكعبين. وكذا روي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قرأ ( وأرجلكم ) بالنصب. وقد قيل: إن الخفض في الرجلين إنما جاء مقيد لمسحهما لكن إذا كان عليهما خفان، وتلقينا هذا القيد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لم يصح عنه أنه مسح رجليه إلا وعليهما خفان، فبين صلى الله عليه وسلم بفعله الحال التي غسل فيه الرجل والحال التي تمسح فيه، وهذا حسن. فإن قيل: إن المسح على الخفين منسوخ بسورة ( المائدة ) - وقد قال ابن عباس، ورد المسح أبو هريرة وعائشة، وأنكره مالك في رواية عنه - فالجواب أن من نفى شيئا وأثبته غيره فلا حجة للنافي، وقد أثبت المسح على الخفين عدد كثير من الصحابة وغيرهم، وقد قال الحسن: حدثني سبعون رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم مسحوا على الخفين؛ وقد ثبت بالنقل الصحيح عن همام قال: بال جرير ثم توضأ ومسح على خفيه؛ قال إبراهيم النخعي: وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه. وقال إبراهيم النخعي: كان يعجبهم هذا الحديث؛ لأن إسلام جرير كان بعد نزول ( المائدة ) وهذا نص يرد ما ذكروه وما احتجوا به من رواية الواقدي عن عبدالحميد بن جعفر عن أبيه أن جريرا أسلم في ستة عشر من شهر رمضان، وأن ( المائدة ) نزلت في ذي الحجة يوم عرفات، وهذا حديث لا يثبت لوهاه ؟؟؛ وإنما نزل منها يوم عرفة « اليوم أكملت لكم دينكم » على ما تقدم؛ قال أحمد بن حنبل: أنا استحسن حديث جرير في المسح على الخفين؛ لأن إسلامه كان بعد نزول ( المائدة ) وأما ما روي عن أبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما فلا يصح، أما عائشة فلم يكن عندها بذلك علم؛ ولذلك ردت السائل إلى علي رضي الله عنه وأحالته عليه فقالت: سله فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ الحديث. وأما مالك فما روي عنه من الإنكار فهو منكر لا يصح، والصحيح ما قاله عند موته لابن نافع قال: إني كنت أخذ في خاصة نفسي بالطهور ولا أرى من مسح مقصرا فيما بجب عليه. وعلى هذا حمل أحمد بن حنبل ما رواه ابن وهب عنه أنه قال: لا أمسح في حضر ولا سفر. قال أحمد: كما روي عن ابن عمر أنه أمرهم أن يمسحوا خفافهم وخلع هو وتوضأ وقال: حبب إلى الوضوء؛ ونحوه عن أبي أيوب. وقال أحمد رضي الله عنه: فمن ترك ذلك على نحو ما تركه ابن عمر وأبو أيوب ومالك لم أنكره عليه، وصلينا خلفه ولم نعبه، إلا أن يترك ذلك ولا يراه كما صنع أهل البدع، فلا صلى خلفه. واله أعلم. وقد قيل: إن قوله « وأرجلكم » معطوف على اللفظ دون المعنى، وهذا أيضا يدل على الغسل فإن المراعى المعنى لا اللفظ، وإنما خفض للجوار كما تفعل العرب؛ وقد جاء هذا في القرآن وغيره قال الله تعالى: « يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس » [ الرحمن: 35 ] بالجر لأن النحاس الدخان. وقال: « بل هو قرآن مجيد. في لوح محفوظ » [ البروج: 21 - 22 ] بالجر. قال امرؤ القيس:

كبير أناس في بجاد مزمل

فخفض مزمل بالجوار، وأن المزمل الرجل وإعرابه الرفع؛ قال زهير:

لعب الزمان بها وغيرها بعدي سوافي المور والقطر

قال أبو حاتم: كان الوجه القطر بالرفع ولكنه جره على جوار المور؛ كما قالت العرب: هذا جحر ضب خرب؛ فجروه وإنما هو رفع. وهذا مذهب الأخفش وأبي عبيدة ورده النحاس وقال: هذا القول غلط عظيم؛ لأن الجوار لا يكون في الكلام أن يقاس عليه، وإنما هو غلط ونظيره الإقواء.

قلت: والقاطع في الباب من أن فرض الرجلين الغسل ما قدمناه، وما ثبت من قول عليه الصلاة والسلام ( ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار ) فخوفنا بذكر النار عل مخالفة مراد الله عز وجل، ومعلوم أن النار لا يعذب بها إلا من ترك الواجب، ومعلوم أن المسح ليس شأنه الاستيعاب ولا خلاف بين القائلين بالمسح على الرجلين أن ذلك على ظهورهما لا على بطونهما، فتبين بهذا الحديث بطلان قول من قال بالمسح، إذ لا مدخل لمسح: بطونهما عندهم، وإنما ذلك درك بالغسل لا بالمسح. ودليل آخر من وجهة الإجماع؛ وذلك أنهم اتفقوا على أن من غسل قدميه فقد أدى الواجب عليه، واختلفوا فيمن مسح قدميه؛ فاليقين ما أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه. ونقل الجمهور كافة عن كافة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أنه كان يغسل رجليه في وضوئه مرة واثنتين وثلاثا حتى ينقيهما؛ وحسبك بهذا حجة في الغسل مع ما بيناه، فقد وضح وظهر أن قراءة الخفض المعني فيها الغسل لا المسح كما ذكرنا، وأن العامل في قوله « وأرجلكم » قوله: « فاغسلوا » والعرب قد تعطف الشيء على الشيء بفعل ينفرد به أحدهما تقول: أكلت الخبز واللبن أي وشربت اللبن؛ ومنه قول الشاعر:

علفتها تبنا وماء باردا

وقال آخر:

ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا

وقال آخر:

. ....... وأطفلت بالجلهتين ظباؤها ونعامها

وقال آخر:

شراب ألبان وتمر وإقط

التقدير: علفتها تبنا وسقيتها ماء. ومتقلدا سيفا وحاملا رمحا. وأطفلت بالجهلتين ظباؤها وفرخت نعامها؛ والنعام لا يطفل إنما يفرخ. وأطفلت كان لها أطفال، والجهلتان جنبتا الوادي. وشراب ألبان وأكل تمر؛ فيكون قوله: « وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم » عطف بالغسل على المسح حملا على المعنى والمراد الغسل؛ والله أعلم.

 

قوله تعالى: « إلى الكعبين » روى البخاري: حدثني موسى قال أنبأنا وهيب عن عمرو - هو ابن يحيى - عن أبيه قال شهدت عمرو بن أبي حسن سأل عبدالله بن زيد عن وضوء النبي صلى الله عليه وسلم فدعا بتور من ماء، فتوضأ لهم وضوء النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأكفأ على يده من التور فغسل يديه ثلاثا، ثم أدخل يده في التور فمضمض واستنشق واستنثر ثلاث غرفات، ثم أدخل يده فغسل وجهه ثلاثا، ثم أدخل يديه فغسل يديه إلى المرفقين ثلاثا، ثم أدخل يده فمسح رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة، ثم غسل رجليه إلى الكعبين؛ فهذا الحديث دليل على أن الباء في قوله « وامسحوا برؤوسكم » زائدة لقوله: فمسح رأسه ولم يقل برأسه، وأن مسح الرأس مرة، وقد جاء مبينا في كتاب مسلم من حديث عبدالله بن زيد في تفسير قوله: فأقبل بهما وأدبر، وبدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه. واختلف العلماء في الكعبين فالجمهور على أنهما العظمان الناتئان في جنبي الرجل. وأنكر الأصمعي فول الناس: إن الكعب في ظهر القدم؛ قال في ( الصحاح ) وروي عن ابن القاسم، وبه قال محمد بن الحسن؛ قال ابن عطية: ولا أعلم أحدا جعل حد الوضوء إلى هذا، ولكن عبدالوهاب في التلقين جاء في ذلك بلفظ فيه تخليط وإيهام؛ وقال الشافعي رحمه الله: لم أعلم مخالفا في أن الكعبين هما العظمان في مجمع مفصل الساق؛ وروى الطبري عن يونس عن أشهب عن مالك قال: الكعبان اللذان يجب الوضوء لأيهما هما العظمان الملتصقان بالساق المحاذيان للعقب، وليس الكعب بالظاهر في وجه القدم.

قلت: هذا هو الصحيح لغة وسنة فإن الكعب في كلام العرب مأخوذ من العلو ومنه سميت الكعبة؛ وكعبت المرأة إذا فلك ثديها، وكعب القناة أنبوبها، وأنبوب ما بين كل عقدتين كعب، وقد يستعمل في الشرف والمجد تشبيها، ومنه الحديث: ( والله لا يزال كعبك عاليا ) . وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو دواد عن النعمان بن بشير ( والله لتقيمن صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم ) ، قال: فرأيت الرجل يلصق منكبه بمنكب صاحبه، وركبته بركبة صاحبه وكعبه بكعبه والعقب هو مؤخر الرجل تحت العرقوب، والعرقوب هو مجمع مفصل الساق والقدم، ومنه الحديث ( ويل للعراقيب من النار ) يعني إذا لم تغسل؛ كما قال: ( ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار ) . الخامسة عشرة: قال ابن وهب عن مالك: ليس على أحد تخليل أصابع رجليه في الوضوء ولا في الغسل، ولا خير في الجفاء والغلو؛ قال ابن وهب: تخليل أصابع الرجلين مرغب فيه ولا بد من ذلك في أصابع اليدين؛ وقال ابن القاسم عن مالك: من لم يخلل أصابع رجليه فلا شيء عليه. وقال محمد بن خالد عن ابن القاسم عن مالك نيمن توضأ على نهر فحرك رجليه: إنه لا يجزئه حتى يغسلهما بيديه؛ قال ابن القاسم: وإن قدر على غسل إحداهما بالأخرى أجزأه.

قلت: الصحيح أنه لا يجزئه فيهما إلا غسل ما بينهما كسائر الرجل إذ ذلك من الرجل، كما أن ما بين أصابع اليد من اليد، ولا اعتبار بانفراج أصابع اليدين وانضمام أصابع الرجلين، فإن الإنسان مأمور بغسل الرجل جميعها كما هو مأمور بغسل اليد جميعها. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره، مع ما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام كان يغسل رجليه؛ وهذا يقتضي العموم. وقد كان مالك رحمه الله في آخر عمره يدلك أصابع رجليه بخنصره أو ببعض أصابعه لحديث حدثه به ابن وهب عن ابن لهيعة والليث بن سعد عن يزيد بن عمرو الغفاري عن أبي عبدالرحمن الحبلي عن المستورد بن شداد القرشي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ فيخلل بخنصره ما بين أصابع رجليه؛ قال ابن وهب، فقال لي مالك: إن هذا لحسن، وما سمعته قط إلا الساعة؛ قال ابن وهب: وسمعته سئل بعد ذلك عن تخليل الأصابع في الوضوء فأمر به. وقد روى حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خللوا بين الأصابع لا تخللها النار ) وهذا نص في الوعيد على ترك التخليل؛ فثبت ما قلناه. والله الموفق.

 

ألفاظ الآية تقتضي الموالاة بين الأعضاء، وهي إتباع المتوضئ الفعل الفعل إلى آخره من غير تراخ بين أبعاضه، ولا فصل بفعل ليس منه؛ واختلف العلماء في ذلك؛ فقال ابن أبي سلمة وابن وهب: ذلك من فروض الوضوء في الذكر والنسيان، فمن فرق بين أعضاء وضوئه متعمدا أو ناسيا لم يجزه. وقال ابن عبدالحكم: يجزئه ناسيا ومتعمدا. وقال مالك في « المدونة » وكتاب محمد: إن الموالاة ساقطة؛ وبه قال الشافعي. وقال مالك وابن القاسم: إن فرقه متعمدا لم يجزه ويجزئه ناسيا؛ وقال مالك في رواية ابن حبيب: يجزئه في المغسول ولا يجزئه في الممسوح؛ فهذه خمسة أقوال ابتنيت على أصلين: الأول: أن الله سبحانه وتعالى أمر أمرا مطلقا فوال أو فرق، وإنما المقصود وجود الغسل في جميع الأعضاء عند القيام إلى الصلاة. والثاني: أنها عبادات ذات أركان مختلفة فوجب فيها التوالي كالصلاة؛ وهذا أصح. والله أعلم.

 

وتتضمن ألفاظ الآية أيضا الترتيب وقد اختلف فيه؛ فقال الأبهري: الترتيب سنة، وظاهر المذهب أن التنكيس للناسي يجزئ، واختلف في العامد فقيل: يجزئ ويرتب في المستقبل. وقال أبو بكر القاضي وغيره: لا يجزئ لأنه عابت، وإلى هذا ذهب الشافعي وسائر أصحابه، وبه يقول أحمد بن حنبل وأبو عبيد القاسم بن سلام وإسحاق وأبو ثور، وإليه ذهب أبو مصعب صاحب مالك وذكره في مختصره، وحكاه عن أهل المدينة ومالك معهم في أن من قدم في الوضوء يديه على وجهه، ولم يتوضأ على ترتيب الآية فعليه الإعادة لما صلى بذلك الوضوء. وذهب مالك في أكثر الروايات عنه وأشهرها أن « الواو » لا توجب التعقيب ولا تعطى رتبة، وبذلك قال أصحابه وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي والليث بن سعد والمزني وداود بن علي؛ قال الكيا الطبري ظاهر قوله تعالى: « فاغسلوا وجوهكم وأيديكم » يقتضي الإجزاء فرق أو جمع أو والى على ما هو الصحيح من مذهب الشافعي، وهو مذهب الأكثرين من العلماء. قال أبو عمر: إلا أن مالكا يستحب له استئناف الوضوء على النسق لما يستقبل من الصلاة، ولا يرى ذلك واجبا عليه؛ هذا تحصيل مذهبه. وقد روي علي بن زياد عن مالك قال: من غسل ذراعيه ثم وجهه ثم ذكر مكانه أعاد غسل ذراعيه، وإن لم يذكر حتى صلى أعاد الوضوء والصلاة؛ قال علي ثم قال بعد ذلك: لا يعيد الصلاة ويعيد الوضوء لما يستأنف. وسبب الخلاف ما قال بعضهم: إن « الفاء » توجب التعقيب في قوله: « فاغسلوا » فإنها لما كانت جوابا للشرط ربطت المشروط به، فاقتضت الترتيب في الجميع؛ وأجيب بأنه إنما اقتضت البداءة في الوجه إذ هو جزاء الشرط وجوابه، وإنما كنت تقتضي الترتيب في الجميع لو كان جواب الشرط معنى واحدا، فإذا كنت جملا كلها جوابا لم تبال بأيه بدأت، إذ المطلوب تحصيلها. قيل: إن الترتيب إنما جاء من قبل الواو؛ وليس كذلك لأنك تقول: تقاتل زيد وعمرو، وتخاصم بكر وخالد، فدخولها في باب المفاعلة يخرجها عن الترتيب. والصحيح أن يقال: إن الترتيب متلقي من وجوه أربعة: الأول: أن يبدأ بما بدأ الله به كم قال عليه الصلاة والسلام حين حج: ( نبدأ بما بدأ الله به ) . الثاني: من إجماع السلف فإنهم كانوا يرتبون. الثالث: من تشبيه الوضوء بالصلاة. الرابع: من مواظبة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك. احتج من أجاز ذلك بالإجماع على أن لا ترتيب في غسل أعضاء الجنابة، فكذلك غسل أعضاء الوضوء؛ لأن المعنى في ذلك الغسل لا التبدية. وروي عن علي أنه قال: ما أبالي إذا أتممت وضوئي بأي أعضائي بدأت. وعن عبدالله بن مسعود قال: لا بأس أن تبدأ برجليك قبل يديك؛ قال الدارقطني: هذا مرسل ولا يثبت، والأولى وجوب الترتيب. والله أعلم.

 

إذا كان في الاشتغال بالوضوء فوات الوقت لم يتيمم عند أكثر العلماء، ومالك يجوز التيمم في مثل ذلك؛ لأن التيمم إنما جاء في الأصل لحفظ وقت الصلاة، ولولا ذلك لوجب تأخير الصلاة إلى حين وجود الماء. احتج الجمهور بقوله تعالى: « فلم تجدوا ماء فتيمموا » وهذا واجد، فقد عدم شرط صحة التيمم فلا يتيمم.

 

وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن إزالة النجاسة ليست بواجبة؛ لأنه قال: « إذ قمتم إلى الصلاة » ولم يذكر الاستنجاء وذكر الوضوء، فلو كانت إزالتها واجبة لكانت أول مبدوء به؛ وهو قول أصحاب أبي حنيفة، وهي رواية أشهب عن مالك. وقال ابن وهب عن مالك: إزالتها واجبة في الذكر والنسيان؛ وهو قول الشافعي. وقال ابن القاسم: تجب إزالتها مع الذكر، وتسقط مع النسيان. وقال أبو حنيفة: تجب إزالة النجاسة إذا زادت على قدر الدرهم البغلي - يريد الكبير الذي هو على هيئة المثقال - قياسا على فم المخرج المعتاد الذي عفي عنه. والصحيح رواية ابن وهب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صاحبي القبرين: ( إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستبرئ من بوله ) ولا يعذب إلا على ترك الواجب؛ ولا حجة في ظاهر القرآن؛ لأن الله سبحانه وتعالى إنما بين من آية الوضوء صفة الوضوء خاصة، ولم يتعرض لإزالة النجاسة ولا غيرها.

 

ودلت الآية أيضا على المسح على الخفين كما بينا، ولمالك في ذلك ثلاث روايات: الإنكار مطلقا كما يقول الخوارج، وهذه الرواية منكرة وليست بصحيحة. وقد تقدم. الثانية: يمسح في السفر دون الحضر؛ لأن أكثر الأحاديث بالمسح إنما هي في السفر؛ وحديث السباطة يدل على جواز المسح في الحضر، أخرجه مسلم من حديث حذيفة قال: فلقد رأيتني أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نتماشى؛ فأتى سباطة قوم خلف حائط، فقام كما يقوم أحدكم فبال فانتبذت منه، فأشار إلى فجئت فقمت عند عقبه حتى فرغ - زاد في رواية - فتوضأ ومسح على خفيه. ومثله حديث شريح بن هانئ قال: أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين فقالت: عليك بابن أبي طالب فسله؛ فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فسألناه فقال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم سافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوما وليلة؛ - وهي الرواية الثالثة - يمسح حضرا وسفرا؛ وقد تقدم ذكرها.

 

ويمسح المسافر عند مالك على الخفين بغير توقيت، وهو قول الليث بن سعد؛ قال ابن وهب سمعت مالكا يقول: ليس عند أهل بلدنا في ذلك وقت. وروي أبو داود من حديث أبي بن عمارة أنه قال: يا رسول الله أمسح على الخفين؟ قال: ( نعم ) قال: يوما؟ قال: ( يوما ) قال: ويومين؟ قال: ( ويومين ) قال: وثلاثة أيام؟ قال: ( نعم وما شئت ) وفي رواية ( نعم وما بدا لك ) . قال أبو داود: وقد اختلف في إسناده وليس بالقوي. وقال الشافعي وأحمد بن حنبل والنعمان والطبري: يمسح المقيم يوما وليلة، والمسافر ثلاثة أيام على حديث شريح وما كان مثله؛ وروي عن مالك في رسالته إلى هرون أو بعض الخلفاء، وأنكرها أصحابه.

 

والمسح عند جميعهم لمن لبس خفيه على وضوء؛ لحديث المغيرة بن شعبة أنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في مسير - الحديث - وفيه؛ فأهويت لأزرع خفيه فقال: ( دعهما فإني أدخلتهم طاهرتين ) ومسح عليهما. ورأى أصبغ أن هذه طهارة التيمم، وهذا بناء منه على أن التيمم يرفع الحدث. وشذ داود فقال: المراد بالطهارة ههنا هي الطهارة من النجس فقط؛ فإذا كانت رجلاه طاهرتين من النجاسة جاز المسح على الخفين. وسبب الخلاف الاشتراك في اسم الطهارة.

 

ويجوز عند مالك المسح على الخف وإن كان فيه خرق يسير: قال ابن خويز منداد: معناه أن يكون الخرق لا يمنع من الانتفاع به ومن لبسه، ويكون مثله يمشى فيه. وبمثل قول مالك هذا قال الليث والثوري والشافعي والطبري؛ وقد روي عن الثوري والطبري إجازة المسح على الخف المخرق جملة. وقال الأوزاعي: يمسح على الخف وعلى ما ظهر من القدم؛ وهو قول الطبري. وقال أبو حنيفة: إذا كان ما ظهر من الرجل أقل من ثلاث أصابع مسح، ولا يمسح ذا ظهر ثلاث؛ وهذا تحديد يحتاج إلى توقيف. ومعلوم أن أخفاف الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم من التابعين كانت لا تسلم من الخرق اليسير، وذلك متجاوز عند الجمهور منهم. وروي عن الشافعي إذا كان الخرق في مقدم الرجل أنه لا يجوز المسح عليه. وقال الحسن بن حي: يمسح على الخف إذا كان ما ظهر منه يغطيه الجورب، فإن ظهر شيء من القدم لم يمسح، قال أبو عمر: هذا على مذهبه في المسح على الجوربين إذا كانا ثخينين؛ وهو قول الثوري وأبي يوسف ومحمد ولا يجوز المسح على الجوربين عند أبي حنيفة والشافعي إلا أن يكونا مجلدين، وهو أحد قولي مالك. وله قول آخر أنه لا يجوز المسح على الجوربين وإن كانا مجلدين. وفي كتاب أبي داود عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين والنعلين؛ قال أبو داود: وكان عبدالرحمن بن مهدي لا يحدث بهذا الحديث؛ لأن المعروف عن المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين؛ وروي هذا الحديث عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس بالقوي ولا بالمتصل. قال أبو داود: ومسح على الجوربين علي بن أبي طالب وأبو مسعود والبراء بن عازب وأنس بن مالك وأبو أمامة وسهل بن سعد وعمرو بن حريث؛ وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس؛ رضي الله عنهم أجمعين.

قلت: وأما المسح على النعلين فروى أبو محمد الدرامي في مسنده حدثنا أبو نعيم أخبرنا يونس عن أبي إسحاق عن عبد خير قال: رأيت عليا توضأ ومسح على النعلين فوسع ثم قال: لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتموني فعلت لرأيت أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما؛ قال أبو محمد الدارمي رحمه الله: هذا الحديث منسوخ بقوله تعالى: « فامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين » .

قلت: وقول علي - رضي الله عنه - لرأيت أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما مثله قال في المسح على الخفين، أخرجه أبو داود عنه قال: لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه. قال مالك والشافعي فيمن مسح ظهور خفيه دون بطونهما: إن ذلك يجزئه؛ إلا أن مالكا قال: من فعل ذلك أعاد في الوقت؛ ومن مسح على باطن الخفين دون ظاهرهما يجزه؛ وكان عليه الإعادة في الوقت وبعده؛ وكذلك قال جميع أصحاب مالك إلا شيء روي عن أشهب أنه قال: باطن الخفين وظاهرهما سواء، ومن مسح باطنهما دون ظاهرهما لم يعد إلا في الوقت. وروي عن الشافعي أنه قال يجزئه مسح بطونهما دون ظهورهما؛ والمشهور من مذهبه أنه مسح بطونهما واقتصر عليهما لم يجزه وليس بماسح. وقال أبو حنيفة والثوري: يمسح ظاهري الخفين دون باطنهما؛ وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق وجماعة، والمختار عند مالك والشافعي وأصحابهما مسح الأعلى والأسفل، وهو قول ابن عمر وابن شهاب؛ لما رواه أبو داود والدارقطني عن المغيرة بن شعبة قال: وضأت رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فمسح أعلى الخف وأسفله؛ قال أبو داود: روي أن ثورا لم يسمع هذا الحديث من رجاء بن حيوة.

 

واختلفوا فيمن نزع خفيه وقد مسح عليهما على أقوال ثلاثة: الأول: يغسل رجليه مكانه وإن أخر استأنف الوضوء؛ قاله مالك والليث، وكذلك قال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم؛ وروي عن الأوزاعي والنخعي ولم يذكروا مكانه. الثاني: يستأنف الوضوء؛ قاله الحسن بن حي الأوزاعي والنخعي ولم يذكروا مكانه. الثاني: يستأنف الوضوء؛ قاله ابن أبي ليلى والحسن البصري، وهي رواية عن إبراهيم النخعي رضي الله عنهم.

 

قوله تعالى: « وإن كنتم جنبا فاطهروا » وقد مضى في « النساء » معنى الجنب. و « اطهروا » أمر بالاغتسال بالماء؛ ولذلك رأى عمر وابن مسعود - رضي الله عنهما - أن الجنب لا تيمم البتة بل يدع الصلاة حتى يجد الماء. وقال الجمهور من الناس: بل هذه العبارة هي لواجد الماء، وقد ذكر الجنب بعد في أحكام عادم الماء بقوله: « أو لامستم النساء » والملامسة هنا الجماع؛ وقد صح عن عمر وابن مسعود أنهما رجعا إلى ما عليه الناس وأن الجنب يتيمم. وحديث عمران بن حصين نص في ذلك، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا معتزلا لم يصل في القوم فقال: ( يا فلان ما منعك أن تصلي في القوم ) فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء. قال: ( عليك بالصعيد فإنه يكفيك ) أخرجه البخاري.

 

قوله تعالى: « وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط » تقدم في « النساء » مستوفى، ونزيد هنا مسألة أصولية أغفلناها هناك، وهي تخصيص العموم بالعادة الغالبة، فإن الغائط كناية عن الأحداث الخارجة من المخرجين كما بيناه في « النساء » فهو عام، غير أن جل علمائنا خصصوا ذلك بالأحداث المعتادة الخارجة على الوجه المعتاد، فلو خرج غير المعتاد كالحصى والدود، أو خرج المعتاد على وجه السل والمرض لم يكن شيء من ذلك ناقضا. وإنما صاروا إلى اللفظ؛ لأن اللفظ مهما تقرر لمدلوله عرف غالب في الاستعمال، سبق ذلك الغالب لفهم السامع حالة الإطلاق، وصار غيره مما وضع له اللفظ بعيدا عن الذهن، فصار غير مدلول له، وصار الحال فيه كالحال في الدابة؛ فإنها إذا أطلقت سبق منها الذهن إلى ذوات الأربع، ولم تخطر النملة ببال السامع فصارت غير مرادة ولا مدلولة لذلك اللفظ ظاهرا. والمخالف يقول: لا يلزم من أسبقية الغالب أن يكون النادر غير مراد؛ فإن تناول اللفظ لهما واحد وضعا، وذلك يدل على شعور المتكلم بهما قصدا؛ والأول أصح، وتتمته في كتب الأصول.

 

قوله تعالى: « أو لامستم النساء » روي عبيدة عن عبدالله بن مسعود أنه قال: القبلة من اللمس، وكل ما دون الجماع لمس؛ وكذلك قال ابن عمر واختاره محمد بن يزيد قال: لأن قد ذكر في أول الآية ما يجب على من جامع في قوله: « وإن كنتم جنبا فاطهروا » . وقال عبدالله بن عباس: اللمس والمس والغشيان الجماع، ولكنه عز وجل يكني. وقال مجاهد في قوله عز وجل: « وإذا مروا باللغو مروا كراما » [ الفرقان: 72 ] قال: إذا ذكروا النكاح كنوا عنه؛ وقد مضى في « النساء » القول في هذا الباب مستوفى والحمد لله.

 

قوله تعالى: « فلم تجدوا ماء » قد تقدم في « النساء » أن عدمه يترتب للصحيح الحاضر أن يسجن أو يربط، وهو الذي يقال فيه: إنه إن لم يجد ماء ولا ترابا وخشي خروج الوقت؛ اختلف الفقهاء في حكمه على أربعة أقوال: الأول: قال ابن خويز منداد: الصحيح على مذهب مالك بأنه لا يصلي ولا شيء عليه؛ قال: ورواه المدنيون عن مالك؛ قال: وهو الصحيح من المذهب. وقال ابن القاسم: يصلي ويعيد؛ وهو قول الشافعي. وقال أشهب: يصلي ولا يعيد. وقال أصبغ: لا يصلي ولا يقضي؛ وبه قال أبو حنيفة. قال أبو عمر بن عبدالبر: ما أعرف كيف أقدم بن خويز منداد على أن جعل الصحيح من المذهب ما ذكر، وعلى خلافه جمهور السلف وعامة الفقهاء وجماعة المالكيين. وأظنه ذهب إلى ظاهر حديث مالك في قوله: وليسوا على ماء - الحديث - ولم يذكر أنهم صلوا؛ وهذا لا حجة فيه. وقده ذكر هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في هذا الحديث أنهم صلوا بغير وضوء ولم يذكر إعادة؛ وقد ذهب إلى هذا طائفة من الفقهاء. قال أبو ثور: وهو القياس.

قلت: وقد احتج المزني فيما ذكره الكيا الطبري بما ذكر في قصة القلادة عن عائشة رضي الله عنها حين ضلت، وأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين بعثهم لطلب القلادة صلوا بغير تيمم ولا وضوء وأخبروه بذلك، ثم نزلت آية التيمم ولم ينكر عليهم فعلها بلا وضوء ولا تيمم، والتيمم متى لم مشروعا فقد صلوا بلا طهارة أصلا. ومنه قال المزني: ولا إعادة، وهو نص في جواز الصلاة مع عدم الطهارة مطلقا عند تعذر الوصول إليها؛ قال أبو عمر: ولا ينبغي حمله على المغمي عليه لأن المغمى عليه مغلوب على عقله وهذا معه عقله. وقال ابن القاسم وسائر العلماء: الصلاة عليه واجبة إذا كان معه عقله، فإذا زال المانع له توضأ أو تيمم وصلى. وعن الشافعي روايتان؛ المشهور عنه يصلي كما هو ويعيد؛ قال المزني: إذا كان محبوسا لا يقدر على تراب نظيف صلى وأعاد؛ وهو قول أبي يوسف ومحمد والثوري والطبري. وقال زفر بن الهذيل: المحبوس في الحضر لا يصلي وإن وجد ترابا نظيفا. وهذا على أصله فإنه لا يتيمم عنده في الحضر كما تقدم. وقال أبو عمر: من قال يصلي كما هو ويعيد إذا قدر على الطهارة فإنهم احتاطوا للصلاة بغير طهور؛ قالوا: وقوله عليه السلام: ( لا يقبل الله صلاة بغير طهور ) لمن قدر على طهور؛ فأما من لم يقدر فليس كذلك؛ لأن الوقت فرض وهو قادر عليه فيصلي كما قدر في الوقت ثم يعيد، فيكون قد أخذ بالاحتياط في الوقت والطهارة جميعا. وذهب الذين قالوا لا يصلي لظاهر هذا الحديث؛ وهو قول مالك وابن نافع وأصبغ قالوا: من عدم الماء والصعيد لم يصل ولم يقض إن خرج وقت الصلاة؛ لأن عدم قبولها لعدم شروطها يدل على أنه غير مخاطب بها حالة عدم شروطها فلا يترتب شيء في الذمة فلا يقضي؛ قاله غير أبي عمر، وعلى هذا تكون الطهارة من شروط الوجوب.

 

قوله تعالى: « فتيمموا صعيدا طيبا » قد مضى في « النساء » اختلافهم في الصعيد، وحديث عمران بن حصين نص على ما يقول مالك، إذ لو كان الصعيد التراب لقال عليه السلام للرجل عليك بالتراب فإنه يكفيك، فلما قال: ( عليك بالصعيد ) أحال على وجه الأرض. والله أعلم. « فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه » تقدم في « النساء » الكلام فيه فتأمله هناك.

 

وإذا انتهى القول بنا في الآي إلى هنا فاعلم أن العلماء تكلموا في فضل الوضوء والطهارة وهي خاتمة الباب: قال صلى الله عليه وسلم: ( الطهور شطر الإيمان ) أخرجه مسلم من حديث أبي مالك الأشعري، وقد تقدم في « البقرة » الكلام فيه؛ قال ابن العربي: والوضوء أصل في الدين، وطهارة المسلمين، وخصوصا لهذه الأمة في العالمين. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وقال: ( هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي ووضوء أبي إبراهيم ) وذلك لا يصح؛ قال غيره: ليس هذا بمعارض لقوله عليه السلام: ( لكم سيما ليست لغيركم ) فإنهم كانوا يتوضؤون، وإنما الذي خص به هذه الأمة الغرة والتحجيل لا بالوضوء، وهما تفضل من الله تعالى اختص بهما هذه الأمة شرفا لها ولنبيها صلى الله عليه وسلم كسائر فضائلها على سائر الأمم، كما فضل نبيها صلى الله عليه وسلم بالمقام المحمود وغيره على سائر الأنبياء؛ والله أعلم. قال أبو عمر: وقد يجوز أن يكون الأنبياء يتوضؤون فيكتسبون بذلك الغرة والتحجيل ولا يتوضأ أتباعهم، كما جاء عن موسى عليه السلام قال: « يا رب أجد أمة كلهم كالأنبياء فاجعلها أمتي » فقال له: « تلك أمة محمد » في حديث فيه طول. وقد روى سالم بن عبدالله بن عمر عن كعب الأحبار أنه سمع رجلا يحدث أنه رأى رؤيا في المنام أن الناس قد جمعوا للحساب؛ ثم دعي الأنبياء مع كل نبي أمته، وأنه رأى لكل نبي نورين يمشي بينهما، ولم اتبعه من أمته نورا واحدا يمشي به، حتى دعي بمحمد صلى الله عليه وسلم فإذا شعر رأسه ووجهه نور كله يراه كل من نظر إليه، وإذا لمن اتبعه من أمته نوران كنور الأنبياء؛ فقال له كعب وهو لا يشعر أنها رؤيا: من حدثك بهذا الحديث وما علمك به؟ فأخبره أنها رؤيا؛ فأنشده كعب، الله الذي لا إله إلا هو لقد رأيت ما تقول في منامك؟ فقال: نعم والله لقد رأيت ذلك؛ فقال كعب: والذي نفسي بيده - أو قال والذي بعث محمدا بالحق - إن هذه لصفة أحمد وأمته، وصفة الأنبياء في كتاب الله، لكأن ما تقوله من التوراة. أسنده في كتاب « التمهيد » قال أبو عمر: وقد قيل إن سائر الأمم كانوا يتوضؤون والله أعلم؛ وهذا لا أعرفه من وجه صحيح. وخرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو آخر قطر الماء فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا ضل رجليه خرجت كل خطيئة كان مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر السماء حتى يخرج نقيا من الذنوب ) . وحديث مالك عن عبدالله الصنابحي أكمل، والصواب أبو عبدالله لا عبدالله، وهو مما وهم فيه مالك، واسمه عبدالرحمن بن عسيلة تابع شامي كبير لإدراكه أول خلافة أبي بكر؛ قال أبو عبدالله الصنابحي: قدمت مهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن فلما وصلنا الجحفة إذا براكب قلنا له ما الخبر؟ قال: دفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ ثلاثة أيام. وهذه الأحاديث وما كان في معناها من حديث عمرو بن عبسة وغيره تفيدك أن المراد بها كون الوضوء مشروعا عبادة لدحض الآثام؛ وذلك يقتضي افتقاره إلى نية شرعية؛ لأنه شرع لمحو الإثم ورفع الدرجات عند الله تعالى.

 

قوله تعالى: « ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج » أي من ضيق في الدين؛ دليله قوله تعالى: « وما جعل عليكم في الدين من حرج » [ الحج: 78 ] . و « من » صلة أي ليجعل عليكم حرجا. « ولكن يريد ليطهركم » أي من الذنوب كما ذكرنا من حديث أبي هريرة والصنابحي. وقيل: من الحدث والجنابة. وقيل: لتستحقوا الوصف بالطهارة التي يوصف بها أهل الطاعة. وقرأ سعيد بن المسيب « ليطهركم » والمعنى واحد، كما يقال: نجاه وأنجاه. « وليتم نعمته عليكم » أي بالترخيص في التيمم عند المرض والسفر. وقيل: بتبيان الشرائع. وقيل: بغفران الذنوب؛ وفي الخبر ( تمام النعمة دخول الجنة والنجاة من النار ) . « لعلكم تشكرون » أي لتشكروا نعمته فتقبلوا على طاعته.

 

الآية: 7 ( واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور )

 

قوله تعالى: « واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به » قيل: هو الميثاق الذي في قوله عز وجل: « وإذ أخذ ربك من بني آدم » [ الأعراف: 172 ] ؛ قال مجاهد وغيره. ونحن وإن لم نذكره فقد أخبرنا الصادق به، فيجوز أن نؤمر بالوفاء به. وقيل: هو خطاب لليهود بحفظ ما أخذ عليهم في التوراة؛ والذي عليه الجمهور من المفسرين كابن عباس والسدي هو العهد والميثاق الذي جرى لهم مع النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره إذ قالوا: سمعنا وأطعنا، كما جرى ليلة العقبة وتحت الشجرة، وأضافه تعالى إلى نفسه كما قال: « إنما يبايعون الله » [ الفتح: 10 ] فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم ونساءهم وأبناءهم، وأن يرحل إليهم هو وأصحابه، وكان أول من بايعه البراء بن معرور، وكان له في تلك الليلة المقام المحمود في التوثق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والشد لعقد أمره، وهو القائل: والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر. الخبر المشهور في سيرة ابن إسحاق. ويأتي ذكر بيعة الرضوان في موضعها. وقد اتصل هذا بقوله تعالى: « أوفوا بالعقود » [ المائدة: 1 ] فوفوا بما قالوا؛ جزاهم الله تعالى عنهم وعن الإسلام خيرا، ورضي الله عنهم وأرضاهم. « واتقوا الله » أي في مخالفته أنه عالم بكل شيء.

الآية [ 8 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات: 8 - 10 ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون، وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم، والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم )

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين » الآية تقدم معناها في « النساء » . والمعنى: أتمم عليك نعمتي فكونوا قوامين لله، أي لأجل ثواب الله؛ فقوموا بحقه، وأشهدوا بالحق من غير ميل إلى أقاربكم، وحيف على أعدائكم. « ولا يجرمنكم شنآن قوم » على ترك العدل وإيثار العدوان على الحق. وفي هذا دليل على نفوذ حكم العدو على عدوه في الله تعالى ونفوذ شهادته عليه؛ لأنه أمر بالعدل وإن أبغضه، ولو كان حكمه عليه وشهادته لا تجوز فيه مع البغض له لما كان لأمره بالعدل فيه وجه. ودلت الآية أيضا على أن كفر الكافر لا يمنع من العدل عليه، وأن يقتصر بهم على المستحق من القتال والاسترقاق، وأن المثلة بهم غير جائزة وإن قتلوا نساءنا وأطفالنا وغمونا بذلك؛ فليس لنا أن نقتلهم بمثله قصدا لإيصال الغم والحزن إليهم؛ وإليه أشار عبدالله بن رواحة بقوله في القصة المشهورة: هذا معنى الآية. وتقدم في صدر هذه السورة معنى قوله: « لا يجر منكم شنآن قوم » . وقرئ « ولا يجرمنكم » قال الكسائي: هما لغتان. وقال الزجاج: معنى « لا يجر منكم » لا يدخلنكم في الجرم؛ كما تقول: آثمني أي أدخلني في الإثم. ومعنى « هو أقرب للتقوى » أي لأن تتقوا الله. وقيل: لأن تتقوا النار. ومعنى « لهم مغفرة وأجر عظيم » أي قال الله في حق المؤمنين: « لهم مغفرة وأجر عظيم » أي لا تعرف كنهه أفهام الخلق؛ كما قال: « فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين » [ السجدة: 17 ] . وإذا قال الله تعالى: « أجر عظيم » و « أجر كريم » [ يس: 11 ] و « أجر كبير » [ هود: 11 ] فمن ذا الذي يقدر قدره؟. ولما كان الوعد من قبيل القول حسن إدخال اللام في قوله: « لهم مغفرة » وهو في موضع نصب؛ لأنه وقع موقع الموعود به، على معنى وعدهم أن لهم مغفرة أو وعدهم مغفرة إلا أن الجملة وقعت موقع المفرد؛ كما قال الشاعر:

وجدنا الصالحين لهم جزاء وجنات وعينا سلسبيلا

وموضع الجملة نصب؛ ولذلك عطف عليها بالنصب. وقيل: هو في موضع رفع على أن يكون الموعود به محذوفا؛ على تقدير لهم مغفرة وأجر عظيم فيما وعدهم به. وهذا المعنى عن الحسن.

نزلت في بني النضير. وقيل في جميع الكفار.

 

الآية: 11 ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون )

 

قال جماعة: نزلت بسبب فعل الأعرابي في غزوة ذات الرقاع حين اخترط سيف النبي صلى الله عليه وسلم وقال: من يعصمك مني يا محمد؟ كما تقدم في « النساء » . وفي البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس فاجتمعوا وهو جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبه. وذكر الواقدي وابن أبي حاتم أنه أسلم. وذكر قوم أنه ضرب برأسه في ساق شجرة حتى مات. وفي البخاري في غزوة ذات الرقاع أن اسم الرجل غورث بن الحارث ( بالغين منقوطة مفتوحة وسكون الواو بعدها راء وثاء مثلثة ) وقد ضم بعضهم الغين، والأول صح. وذكر أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي، وأبو عبدالله محمد بن عمر الواقدي أن اسمه دعثور بن الحارث، وذكر أنه أسلم كما تقدم. وذكر محمد بن إسحاق أن اسمه عمرو بن جحاش وهو أخو بني النضير. وذكر بعضهم أن قصة عمرو بن جحاش في غير هذه القصة. والله أعلم. وقال قتادة ومجاهد وغيرهما: نزلت في قوم من اليهود جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية فهموا بقتله صلى الله عليه وسلم الله منهم. قال القشيري: وقد تنزل الآية في قصة ثم ينزل ذكرها مرة أخرى لادكار ما سبق. « أن يبسطوا إليكم أيديهم » أي بالسوء. « فكف أيديهم عنكم » أي منعهم.

 

الآية: 12 ( ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل )

 

قال ابن عطية: هذه الآيات المتضمنة الخبر عن نقضهم مواثيق الله تعالى تقوي أن الآية المتقدمة في كف الأيدي إنما كانت في بني النضير، واختلف أهل التأويل في كيفية بعث هؤلاء النقباء بعد الإجماع على أن النقيب كبير القوم، القائم بأمورهم الذي ينقب عنها وعن مصالحهم فيها. والنقاب: الرجل العظيم الذي هو في الناس على هذه الطريقة؛ ومنه قيل في عمر رضي الله عنه: إنه كان لنقابا. فالنقباء الضمان، واحدهم نقيب، وهو شاهد القوم وضمينهم؛ يقال: نقب عليهم، وهو حسن النقيبة أي حسن الخليقة. والنقب والنقب الطريق في الجبل. وإنما قيل: نقيب لأنه يعلم دخيلة أمر القوم، ويعرف مناقبهم وهو الطريق إلى معرفة أمورهم. وقال قوم: القباء الأمناء على قومهم؛ وهذا كله قريب بعضه من بعض. والنقيب أكبر مكانة من العريف. قال عطاء بن يسار: حملة القرآن عرفاء أهل الجنة؛ ذكره الدرامي في مسنده. قال قتادة - رحمه الله وغيره: هؤلاء النقباء قوم كبار من كل سبط، تكفل كل واحد بسبطه بأن يؤمنوا ويتقوا الله؛ ونحو هذا كان النقباء ليلة العقبة؛ بايع فيها سبعون رجلا وامرأتان. فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم من السبعين اثني عشر رجلا، وسماهم القباء اقتداء بموسى صلى الله عليه وسلم. وقال الربيع والسدي وغيرهما: إنما بعث النقباء من بني إسرائيل أمناء على الاطلاع على الجبارين والسبر لقوتهم ومنعتهم؛ فساروا ليختبروا حال من بها، ويعلموه بما اطلعوه عليه فيها حتى ينظر في الغزو إليهم؛ فأطلعوا من الجبارين على قوة عظيمة - على ما يأتي - وظنوا أنهم لا قبل لهم بها؛ فتعاقدوا بينهم على أن يخفوا ذلك عن بني إسرائيل، وأن يعلموا به موسى عليه السلام، فلما انصرفوا إلى بني إسرائيل خان منهم عشرة فعرفوا قراباتهم، ومن وثقوه على سرهم؛ ففشا الخبر حتى أعوج أمر بني إسرائيل فقالوا: « فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون » [ المائدة: 24 ] .

 

ففي الآية دليل على قبول خبر الواحد فيما يفتقر إليه المرء، ويحتاج إلى اطلاعه من حاجاته الدينية والدنيوية؛ فتركب عليه الأحكام، ويرتبط به الحلال والحرام؛ وقد جاء أيضا مثله في الإسلام؛ قال صلى الله عليه وسلم لهوازن: ( ارجعوا حتى يرفع إينا عرفاؤكم أمركم ) . أخرجه البخاري.

 

وفيها أيضا دليل على اتخاذ الجاسوس. والتجسس: التبحث. وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبسة عينا؛ أخرجه مسلم. وسيأتي حكم الجاسوس في « الممتحنة » إن شاء الله تعالى. وأما أسماء نقباء بني إسرائيل فقد ذكر أسماءهم محمد بن حبيب في « المحبر » فقال: من سبط روبيل شموع بن ركوب، ومن سبط شمعون شوقوط بن حوري، ومن سبط يهوذا كالب بن يوقنا، ومن سبط الساحر يوغول بن يوسف، ومن سبط أفراثيم بن يوسف يوشع بن النون، ومن سبط بنيامين يلظى بن روقو، ومن سبط ربالون كرابيل بن سودا ومن سبط منشا بن يوسف كدي بن سوشا، ومن سبط دان عمائيل بن كسل، ومن سبط شير ستور بن ميخائيل، ومن سبط نفتال يوحنا بن وقوشا، ومن سبط كاذ كوال بن موخى؛ فالمؤمنان منهم يوشع وكالب، ودعا موسى عليه السلام على الآخرين فهلكوا مسخوطا عليهم؛ قاله الماوردي. وأما نقباء ليلة العقبة فمذكورون في سيرة ابن إسحاق فلينظروا هناك.

 

قوله تعالى: « وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة » الآية. قال الربيع بن أنس: قال ذلك للنقباء. وقال غيره: قال ذلك لجميع يني إسرائيل. وكسرت « إن » لأنها مبتدأة. « معكم » لأنه ظرف، أي بالنصر والعون. ثم ابتدأ فقال: « لئن أقمتم الصلاة » إلى أن قال « لأكفرن عنكم سيئاتكم » أي إن فعلتم ذلك « ولأدخلنكم جنات » واللام في « لئن » لام توكيد ومعناها القسم؛ وكذا « لأكفرن عنكم » ، « ولأدخلنكم » . وقيل: المعنى لئن أقمتم الصلاة لأكفرن عنكم سيئاتكم، وتضمن شرطا آخر لقوله: « لأكفرن » أي إن فعلتم ذلك كفر. وقيل: قوله « لئن أقمتم الصلاة » جزاء لقوله: « إني معكم » وشرط لقوله: « لأكفرن » والتعزير: التعظيم والتوقير؛ وأنشد أبو عبيدة:

وكم من ماجد لهم كريم ومن ليث يعزر في الندي

أي يعظم ويوقر. والتعزير: الضرب دون الحد، والرد؛ تقول: عزرت فلانا إذا أدبته ورددت عن القبيح. فقوله: « عزرتموهم » أي رددتم عنهم أعداءهم. « وأقرضتم الله قرضا حسنا » يعني الصدقات؛ ولم يقل إقراضا، وهذا مما جاء من المصدر بخلاف المصدر كقوله: « والله أنبتكم من الأرض نباتا » [ نوح: 17 ] ، « فتقبلها ربها بقبول حسن » [ آل عمران: 37 ] وقد تقدم. ثم قيل: « حسنا » أي طيبة بها نفوسكم. وقيل: يبتغون بها وجه الله. وقيل: حلالا. وقيل: « قرضا » اسم لا مصدر. « فمن كفر بعد ذلك منكم » أي بعد الميثاق. « فقد ضل سواء السبيل » أي أخطأ قصد الطريق. والله أعلم.

 

الآية: 13 ( فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين )

 

قوله تعالى: « فبما نقضهم ميثاقهم » أي فبنقضهم ميثاقهم، « ما » زائدة للتوكيد، عن قتادة وسائر أهل العلم؛ وذلك أنها تؤكد الكلام بمعنى تمكنه في النفس من جهة حسن النظم، ومن جهة تكثيره للتوكيد؛ كما قال:

لشيء ما يسود من يسود

فالتأكيد بعلامة موضوعة كالتأكيد بالتكرير. « لعناهم » قال ابن عباس: عذبناهم بالجزية. وقال الحسن ومقاتل: بالمسخ. عطاء: أبعدناهم؛ واللعن الإبعاد والطرد من الرحمة. « وجعلنا قلوبهم قاسية » أي صلبة لا تعي خيرا ولا تفعله؛ والقاسية والعاتية بمعنى واحد. وقرأ الكسائي وحمزة: « قسية » بتشديد الياء من غير ألف؛ وهي قراءة ابن مسعود والنخعي ويحيى بن وثاب. والعام القسي الشديد الذي لا مطر فيه. وقيل: هو من الدراهم القسيات أي الفاسدة الرديئة؛ فمعنى « قسية » على هذا ليست بخالصة الإيمان، أي فيها نفاق. قال النحاس: وهذا قول حسن؛ لأنه يقال: درهم قسي إذا كان مغشوشا بنحاس أو غيره. يقال: درهم قسي ( مخفف السين مشدد الياء ) مثال شقي أي زائف؛ ذكر ذلك أبو عبيد وأنشد:

لها صواهل في صم السلام كما صاح القسيات في أيدي الصياريف

يصف وقع المساحي في الحجارة. وقال الأصمعي وأبو عبيد: درهم قسي كأنه معرب قاشي. قال القشيري: وهذا بعيد؛ لأنه ليس في القرآن ما ليس من لغة العرب، بل الدرهم القسي من القسوة والشدة أيضا؛ لأن ما قلت نقرته يقسوا ويصلب. وقرأ الأعمش: « قسية » بتخفيف الياء على وزن فعلة نحو عمية وشجية؛ من قسي يقسى لا من قسا يقسو. وقرأ الباقون على وزن فاعلة؛ وهو اختيار أبي عبيد؛ وهما لغتان مثل العلية والعالية، والزكية والزاكية. قال أبو جعفر النحاس: أولى ما فيه أن تكون قسية بمعنى قاسية، إلا أن فعيلة أبلغ من فاعلة. فالمعنى: جعلنا قلوبهم غليظة نابية عن الإيمان والتوفيق لطاعتي؛ لأن القوم لم يوصفوا بشيء من الإيمان فتكون قلوبهم موصوفة بأن إيمانها خالطه كفر، كالدراهم القسية التي خالطها غش. قال الراجز:

قد قسوت وقست لداتي

 

قوله تعالى: « يحرفون الكلم عن مواضعه » أي يتأولونه على غير تأويله، ويلقون ذلك إلى العوام. وقيل: معناه يبدلون حروفه. « ويحرفون » في موضع نصب، أي جعلنا قلوبهم قاسية محرفين. وقرأ السلمي والنخعي « الكلام » بالألف وذلك أنهم غيروا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم. « ونسوا حظا مما ذكروا به » أي نسوا عهد الله الذي أخذه الأنبياء عليهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم.، وبيان نعته. « ولا تزال تطلع » أي وأنت يا محمد لا تزال الآن تقف « على خائنة منهم » والخائنة الخيانة؛ قال قتادة. وهذا جائز في اللغة، ويكون مثل قولهم: قائلة بمعنى قيلولة. وقيل: هو نعت لمحذوف والتقدير فرقة خائنة. وقد تقع « خائنة » للواحد كما يقال: رجل نسابة وعلامة؛ فخائنة على هذا للمبالغة؛ يقال: رجل خائنة إذا بالغت في وصفه بالخيانة. قال الشاعر:

حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن للغدر خائنة مغل الإصبع

قال ابن عباس: « على خائنة » أي معصية. وقيل: كذب وفجور. وكانت خيانتهم نقضهم العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومظاهرتهم المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كيوم الأحزاب وغير ذلك من همهم بقتله وسبه. « إلا قليلا منهم » لم يخونوا فهو استثناء من الهاء والميم اللتين في « خائنة منهم » . « فاعف عنهم واصفح » في معناه قولان: فاعف عنهم واصفح ما دام بينك وبينهم عهد وهم أهل الذمة. والقول الآخر إنه منسوخ بآية السيف. وقيل: بقوله عز وجل « وإما تخافن من قوم خيانة » [ الأنفال:58 ] .

 

الآيات: 8 - 10 ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون، وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم، والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم )

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين » الآية تقدم معناها في « النساء » . والمعنى: أتمم عليك نعمتي فكونوا قوامين لله، أي لأجل ثواب الله؛ فقوموا بحقه، وأشهدوا بالحق من غير ميل إلى أقاربكم، وحيف على أعدائكم. « ولا يجرمنكم شنآن قوم » على ترك العدل وإيثار العدوان على الحق. وفي هذا دليل على نفوذ حكم العدو على عدوه في الله تعالى ونفوذ شهادته عليه؛ لأنه أمر بالعدل وإن أبغضه، ولو كان حكمه عليه وشهادته لا تجوز فيه مع البغض له لما كان لأمره بالعدل فيه وجه. ودلت الآية أيضا على أن كفر الكافر لا يمنع من العدل عليه، وأن يقتصر بهم على المستحق من القتال والاسترقاق، وأن المثلة بهم غير جائزة وإن قتلوا نساءنا وأطفالنا وغمونا بذلك؛ فليس لنا أن نقتلهم بمثله قصدا لإيصال الغم والحزن إليهم؛ وإليه أشار عبدالله بن رواحة بقوله في القصة المشهورة: هذا معنى الآية. وتقدم في صدر هذه السورة معنى قوله: « لا يجر منكم شنآن قوم » . وقرئ « ولا يجرمنكم » قال الكسائي: هما لغتان. وقال الزجاج: معنى « لا يجر منكم » لا يدخلنكم في الجرم؛ كما تقول: آثمني أي أدخلني في الإثم. ومعنى « هو أقرب للتقوى » أي لأن تتقوا الله. وقيل: لأن تتقوا النار. ومعنى « لهم مغفرة وأجر عظيم » أي قال الله في حق المؤمنين: « لهم مغفرة وأجر عظيم » أي لا تعرف كنهه أفهام الخلق؛ كما قال: « فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين » [ السجدة: 17 ] . وإذا قال الله تعالى: « أجر عظيم » و « أجر كريم » [ يس: 11 ] و « أجر كبير » [ هود: 11 ] فمن ذا الذي يقدر قدره؟. ولما كان الوعد من قبيل القول حسن إدخال اللام في قوله: « لهم مغفرة » وهو في موضع نصب؛ لأنه وقع موقع الموعود به، على معنى وعدهم أن لهم مغفرة أو وعدهم مغفرة إلا أن الجملة وقعت موقع المفرد؛ كما قال الشاعر:

وجدنا الصالحين لهم جزاء وجنات وعينا سلسبيلا

وموضع الجملة نصب؛ ولذلك عطف عليها بالنصب. وقيل: هو في موضع رفع على أن يكون الموعود به محذوفا؛ على تقدير لهم مغفرة وأجر عظيم فيما وعدهم به. وهذا المعنى عن الحسن.

نزلت في بني النضير. وقيل في جميع الكفار.

 

الآية: 11 ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون )

 

قال جماعة: نزلت بسبب فعل الأعرابي في غزوة ذات الرقاع حين اخترط سيف النبي صلى الله عليه وسلم وقال: من يعصمك مني يا محمد؟ كما تقدم في « النساء » . وفي البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس فاجتمعوا وهو جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبه. وذكر الواقدي وابن أبي حاتم أنه أسلم. وذكر قوم أنه ضرب برأسه في ساق شجرة حتى مات. وفي البخاري في غزوة ذات الرقاع أن اسم الرجل غورث بن الحارث ( بالغين منقوطة مفتوحة وسكون الواو بعدها راء وثاء مثلثة ) وقد ضم بعضهم الغين، والأول صح. وذكر أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي، وأبو عبدالله محمد بن عمر الواقدي أن اسمه دعثور بن الحارث، وذكر أنه أسلم كما تقدم. وذكر محمد بن إسحاق أن اسمه عمرو بن جحاش وهو أخو بني النضير. وذكر بعضهم أن قصة عمرو بن جحاش في غير هذه القصة. والله أعلم. وقال قتادة ومجاهد وغيرهما: نزلت في قوم من اليهود جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية فهموا بقتله صلى الله عليه وسلم الله منهم. قال القشيري: وقد تنزل الآية في قصة ثم ينزل ذكرها مرة أخرى لادكار ما سبق. « أن يبسطوا إليكم أيديهم » أي بالسوء. « فكف أيديهم عنكم » أي منعهم.

 

الآية: 12 ( ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل )

 

قال ابن عطية: هذه الآيات المتضمنة الخبر عن نقضهم مواثيق الله تعالى تقوي أن الآية المتقدمة في كف الأيدي إنما كانت في بني النضير، واختلف أهل التأويل في كيفية بعث هؤلاء النقباء بعد الإجماع على أن النقيب كبير القوم، القائم بأمورهم الذي ينقب عنها وعن مصالحهم فيها. والنقاب: الرجل العظيم الذي هو في الناس على هذه الطريقة؛ ومنه قيل في عمر رضي الله عنه: إنه كان لنقابا. فالنقباء الضمان، واحدهم نقيب، وهو شاهد القوم وضمينهم؛ يقال: نقب عليهم، وهو حسن النقيبة أي حسن الخليقة. والنقب والنقب الطريق في الجبل. وإنما قيل: نقيب لأنه يعلم دخيلة أمر القوم، ويعرف مناقبهم وهو الطريق إلى معرفة أمورهم. وقال قوم: القباء الأمناء على قومهم؛ وهذا كله قريب بعضه من بعض. والنقيب أكبر مكانة من العريف. قال عطاء بن يسار: حملة القرآن عرفاء أهل الجنة؛ ذكره الدرامي في مسنده. قال قتادة - رحمه الله وغيره: هؤلاء النقباء قوم كبار من كل سبط، تكفل كل واحد بسبطه بأن يؤمنوا ويتقوا الله؛ ونحو هذا كان النقباء ليلة العقبة؛ بايع فيها سبعون رجلا وامرأتان. فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم من السبعين اثني عشر رجلا، وسماهم القباء اقتداء بموسى صلى الله عليه وسلم. وقال الربيع والسدي وغيرهما: إنما بعث النقباء من بني إسرائيل أمناء على الاطلاع على الجبارين والسبر لقوتهم ومنعتهم؛ فساروا ليختبروا حال من بها، ويعلموه بما اطلعوه عليه فيها حتى ينظر في الغزو إليهم؛ فأطلعوا من الجبارين على قوة عظيمة - على ما يأتي - وظنوا أنهم لا قبل لهم بها؛ فتعاقدوا بينهم على أن يخفوا ذلك عن بني إسرائيل، وأن يعلموا به موسى عليه السلام، فلما انصرفوا إلى بني إسرائيل خان منهم عشرة فعرفوا قراباتهم، ومن وثقوه على سرهم؛ ففشا الخبر حتى أعوج أمر بني إسرائيل فقالوا: « فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون » [ المائدة: 24 ] .

 

ففي الآية دليل على قبول خبر الواحد فيما يفتقر إليه المرء، ويحتاج إلى اطلاعه من حاجاته الدينية والدنيوية؛ فتركب عليه الأحكام، ويرتبط به الحلال والحرام؛ وقد جاء أيضا مثله في الإسلام؛ قال صلى الله عليه وسلم لهوازن: ( ارجعوا حتى يرفع إينا عرفاؤكم أمركم ) . أخرجه البخاري.

 

وفيها أيضا دليل على اتخاذ الجاسوس. والتجسس: التبحث. وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبسة عينا؛ أخرجه مسلم. وسيأتي حكم الجاسوس في « الممتحنة » إن شاء الله تعالى. وأما أسماء نقباء بني إسرائيل فقد ذكر أسماءهم محمد بن حبيب في « المحبر » فقال: من سبط روبيل شموع بن ركوب، ومن سبط شمعون شوقوط بن حوري، ومن سبط يهوذا كالب بن يوقنا، ومن سبط الساحر يوغول بن يوسف، ومن سبط أفراثيم بن يوسف يوشع بن النون، ومن سبط بنيامين يلظى بن روقو، ومن سبط ربالون كرابيل بن سودا ومن سبط منشا بن يوسف كدي بن سوشا، ومن سبط دان عمائيل بن كسل، ومن سبط شير ستور بن ميخائيل، ومن سبط نفتال يوحنا بن وقوشا، ومن سبط كاذ كوال بن موخى؛ فالمؤمنان منهم يوشع وكالب، ودعا موسى عليه السلام على الآخرين فهلكوا مسخوطا عليهم؛ قاله الماوردي. وأما نقباء ليلة العقبة فمذكورون في سيرة ابن إسحاق فلينظروا هناك.

 

قوله تعالى: « وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة » الآية. قال الربيع بن أنس: قال ذلك للنقباء. وقال غيره: قال ذلك لجميع يني إسرائيل. وكسرت « إن » لأنها مبتدأة. « معكم » لأنه ظرف، أي بالنصر والعون. ثم ابتدأ فقال: « لئن أقمتم الصلاة » إلى أن قال « لأكفرن عنكم سيئاتكم » أي إن فعلتم ذلك « ولأدخلنكم جنات » واللام في « لئن » لام توكيد ومعناها القسم؛ وكذا « لأكفرن عنكم » ، « ولأدخلنكم » . وقيل: المعنى لئن أقمتم الصلاة لأكفرن عنكم سيئاتكم، وتضمن شرطا آخر لقوله: « لأكفرن » أي إن فعلتم ذلك كفر. وقيل: قوله « لئن أقمتم الصلاة » جزاء لقوله: « إني معكم » وشرط لقوله: « لأكفرن » والتعزير: التعظيم والتوقير؛ وأنشد أبو عبيدة:

وكم من ماجد لهم كريم ومن ليث يعزر في الندي

أي يعظم ويوقر. والتعزير: الضرب دون الحد، والرد؛ تقول: عزرت فلانا إذا أدبته ورددت عن القبيح. فقوله: « عزرتموهم » أي رددتم عنهم أعداءهم. « وأقرضتم الله قرضا حسنا » يعني الصدقات؛ ولم يقل إقراضا، وهذا مما جاء من المصدر بخلاف المصدر كقوله: « والله أنبتكم من الأرض نباتا » [ نوح: 17 ] ، « فتقبلها ربها بقبول حسن » [ آل عمران: 37 ] وقد تقدم. ثم قيل: « حسنا » أي طيبة بها نفوسكم. وقيل: يبتغون بها وجه الله. وقيل: حلالا. وقيل: « قرضا » اسم لا مصدر. « فمن كفر بعد ذلك منكم » أي بعد الميثاق. « فقد ضل سواء السبيل » أي أخطأ قصد الطريق. والله أعلم.

 

الآية: 13 ( فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين )

 

قوله تعالى: « فبما نقضهم ميثاقهم » أي فبنقضهم ميثاقهم، « ما » زائدة للتوكيد، عن قتادة وسائر أهل العلم؛ وذلك أنها تؤكد الكلام بمعنى تمكنه في النفس من جهة حسن النظم، ومن جهة تكثيره للتوكيد؛ كما قال:

لشيء ما يسود من يسود

فالتأكيد بعلامة موضوعة كالتأكيد بالتكرير. « لعناهم » قال ابن عباس: عذبناهم بالجزية. وقال الحسن ومقاتل: بالمسخ. عطاء: أبعدناهم؛ واللعن الإبعاد والطرد من الرحمة. « وجعلنا قلوبهم قاسية » أي صلبة لا تعي خيرا ولا تفعله؛ والقاسية والعاتية بمعنى واحد. وقرأ الكسائي وحمزة: « قسية » بتشديد الياء من غير ألف؛ وهي قراءة ابن مسعود والنخعي ويحيى بن وثاب. والعام القسي الشديد الذي لا مطر فيه. وقيل: هو من الدراهم القسيات أي الفاسدة الرديئة؛ فمعنى « قسية » على هذا ليست بخالصة الإيمان، أي فيها نفاق. قال النحاس: وهذا قول حسن؛ لأنه يقال: درهم قسي إذا كان مغشوشا بنحاس أو غيره. يقال: درهم قسي ( مخفف السين مشدد الياء ) مثال شقي أي زائف؛ ذكر ذلك أبو عبيد وأنشد:

لها صواهل في صم السلام كما صاح القسيات في أيدي الصياريف

يصف وقع المساحي في الحجارة. وقال الأصمعي وأبو عبيد: درهم قسي كأنه معرب قاشي. قال القشيري: وهذا بعيد؛ لأنه ليس في القرآن ما ليس من لغة العرب، بل الدرهم القسي من القسوة والشدة أيضا؛ لأن ما قلت نقرته يقسوا ويصلب. وقرأ الأعمش: « قسية » بتخفيف الياء على وزن فعلة نحو عمية وشجية؛ من قسي يقسى لا من قسا يقسو. وقرأ الباقون على وزن فاعلة؛ وهو اختيار أبي عبيد؛ وهما لغتان مثل العلية والعالية، والزكية والزاكية. قال أبو جعفر النحاس: أولى ما فيه أن تكون قسية بمعنى قاسية، إلا أن فعيلة أبلغ من فاعلة. فالمعنى: جعلنا قلوبهم غليظة نابية عن الإيمان والتوفيق لطاعتي؛ لأن القوم لم يوصفوا بشيء من الإيمان فتكون قلوبهم موصوفة بأن إيمانها خالطه كفر، كالدراهم القسية التي خالطها غش. قال الراجز:

قد قسوت وقست لداتي

 

قوله تعالى: « يحرفون الكلم عن مواضعه » أي يتأولونه على غير تأويله، ويلقون ذلك إلى العوام. وقيل: معناه يبدلون حروفه. « ويحرفون » في موضع نصب، أي جعلنا قلوبهم قاسية محرفين. وقرأ السلمي والنخعي « الكلام » بالألف وذلك أنهم غيروا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم. « ونسوا حظا مما ذكروا به » أي نسوا عهد الله الذي أخذه الأنبياء عليهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم.، وبيان نعته. « ولا تزال تطلع » أي وأنت يا محمد لا تزال الآن تقف « على خائنة منهم » والخائنة الخيانة؛ قال قتادة. وهذا جائز في اللغة، ويكون مثل قولهم: قائلة بمعنى قيلولة. وقيل: هو نعت لمحذوف والتقدير فرقة خائنة. وقد تقع « خائنة » للواحد كما يقال: رجل نسابة وعلامة؛ فخائنة على هذا للمبالغة؛ يقال: رجل خائنة إذا بالغت في وصفه بالخيانة. قال الشاعر:

حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن للغدر خائنة مغل الإصبع

قال ابن عباس: « على خائنة » أي معصية. وقيل: كذب وفجور. وكانت خيانتهم نقضهم العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومظاهرتهم المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كيوم الأحزاب وغير ذلك من همهم بقتله وسبه. « إلا قليلا منهم » لم يخونوا فهو استثناء من الهاء والميم اللتين في « خائنة منهم » . « فاعف عنهم واصفح » في معناه قولان: فاعف عنهم واصفح ما دام بينك وبينهم عهد وهم أهل الذمة. والقول الآخر إنه منسوخ بآية السيف. وقيل: بقوله عز وجل « وإما تخافن من قوم خيانة » [ الأنفال:58 ] .

 

الآيات: 14 - 16 ( ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون، يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم )

 

قوله تعالى: « ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم » أي في التوحيد والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ هو مكتوب في الإنجيل. « فنسوا حظا » وهو الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام؛ أي لم يعملوا بما أمروا به، وجعلوا ذلك الهوى والتحريف سببا للكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم. ومعنى « أخذنا ميثاقهم » هو كقولك: أخذت من زيد ثوبه ودرهمه؛ قاله الأخفش. ورتبة « الذين » أن تكون بعد « أخذنا » وقيل الميثاق؛ فيكون التقدير: أخذنا من الذين قالوا إنا نصارى ميثاقهم؛ لأنه في موضع المفعول الثاني لأخذنا. وتقديره عند الكوفيين ومن الذين قالوا إنا نصارى من أخذنا ميثاقه؛ فالهاء والميم تعودان على « من » المحذوفة، وعلى القول الأول تعودان على « الذين » . ولا يجيز النحويون أخذنا ميثاقهم من الذين قالوا إنا نصارى، ولا ألينها لبست من الثياب؛ لئلا يتقدم مضمر على ظاهر. وفي قولهم: « إنا نصارى » ولم يقل من النصارى دليل على أنهم ابتدعوا النصرانية وتسموا بها؛ روي معناه عن الحسن.

 

قوله تعالى: « فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء » أي هيجنا. وقيل: ألصقنا بهم؛ مأخوذ من الغراء وهو ما يلصق الشيء بالشيء كالصمغ وشبهه. يقال: غري بالشيء يغرى غرا « بفتح الغين » مقصورا وغراء « بكسر الغين » ممدودا إذا أولع به كأنه التصق به. وحكى الرماني: الإغراء تسليط بعضهم على بعض. وقيل: الإغراء التحريش، وأصله اللصوق؛ يقال: غريت بالرجل غرا - مقصور وممدود مفتوح الأول - إذ لصقت به. وقال كثير.

إذا قيل مهلا قالت العين بالبكا غراء ومدتها حوافل نهل

وأغريت زيدا بكذا حتى غري به؛ ومنه الغراء الذي يغري به للصوقه؛ فالإغراء بالشيء الإلصاق به من جهة التسليط عليه. وأغريت الكلب أي أولعته بالصيد. « بينهم » ظرف للعداوة. « والبغضاء » البغض. أشار بهذا إلى اليهود والنصارى لتقدم ذكرهما. عن السدي وقتادة: بعضهم لبعض عدو. وقيل: أشار إلى افتراق النصارى خاصة؛ قاله الربيع بن أنس، لأنهم أقرب مذكور؛ وذلك أنهم افترقوا إلى اليعاقبة والنسطورية والملكانية؛ أي كفر بعضهم بعضا. قال النحاس: ومن أحسن ما قيل في معنى « أغرينا بينهم العداوة والبغضاء » أن الله عز وجل أمر بعداوة الكفار وإبغاضهم، فكل فرقة مأمُورة بعداوة صاحبتها وإبغاضها لأنهم كفار. وقوله: « وسوف ينبئهم الله » تهديد لهم؛ أي سيلقون جزاء نقض الميثاق.

 

قوله تعالى: « يا أهل الكتاب » الكتاب اسم جنس بمعنى الكتب؛ فجميعهم مخاطبون. « قد جاءكم رسولنا » محمد صلى الله عليه وسلم. « يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب » أي من كتبكم؛ من الإيمان به، ومن آية الرجم، ومن قصة أصحاب السبت الذين مسخوا قردة؛ فإنهم كانوا يخفونها. « ويعفو عن كثير » أي يتركه ولا يبينه، وإنما يبين ما فيه حجة على نبوته، ودلالة على صدقه وشهادة برسالته، ويترك ما لم يكن به حاجة إلى تبيينه. وقيل: « ويعفو عن كثير » يعني يتجاوز عن كثير فلا يخبركم به. وذكر أن رجلا من أحبارهم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: يا هذا عفوت عنا؟ فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين؛ وإنما أراد اليهودي أن يظهر مناقضة كلامه، فلما لم يبين له رسول الله صلى الله عليه وسلم قام من عنده فذهب وقال لأصحابه: أرى أنه صادق فيما يقول: لأنه كان وجد في كتابه أنه لا يبين له ما سأله عنه. « قد جاءكم من الله نور » أي ضياء؛ قيل: الإسلام. وقيل: محمد عليه السلام؛ عن الزجاج. « وكتاب مبين » أي القرآن؛ فإنه يبين الأحكام، وقد تقدم. « يهدي به الله من اتبع رضوانه » أي ما رضيه الله. « سبل السلام » طرق السلامة الموصلة إلى دار السلام المنزهة عن كل آفة، والمؤمنة من كل مخافة؛ وهي الجنة. وقال الحسن والسدي: « السلام » الله عز وجل؛ فالمعنى دين الله - وهو الإسلام - كما قال: « إن الدين عند الله الإسلام » [ آل عمران: 19 ] . « ويخرجهم من الظلمات إلى النور » أي من ظلمات الكفر والجهالات إلى نور الإسلام والهدايات. « بإذنه » أي بتوفيق وإرادته.

 

الآية: 17 ( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير )

 

قوله تعالى: « لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم » تقدم في آخر « النساء » بيانه والقول فيه. وكفر النصارى في دلالة هذا الكلام إنما كان بقولهم: إن الله هو المسيح ابن مريم على جهة الدينونة به؛ لأنهم لو قالوه على جهة الحكاية منكرين له لم يكفروا. « قل فمن يملك من الله شيئا » أي من أمر الله. و « يملك » بمعنى يقدر؛ من قولهم ملكت على فلان أمره أي اقتدرت عليه. أي فمن يقدر أن يمنع من ذلك شيئا؟ فأعلم الله تعالى أن المسيح لو كان إلها لقدر على دفع ما ينزل به أو بغيره، وقد أمات أمه ولم يتمكن من دفع الموت عنها؛ فلو أهلكه هو أيضا فمن يدفعه عن ذلك أو يرده. « ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما » والمسيح وأمه بينهما مخلوقان محدودان محصوران، وما أحاط به الحد والنهاية لا يصلح للإلهية. وقال « وما بينهما » ولم يقل وما بينهن؛ لأنه أراد النوعين والصنفين كما قال الراعي:

طرقا فتلك هماهمي أقربهما قلصا لواقح كالقصي وحولا

فقال: « طرقا » ثم قال: « فتلك هماهمي » . « يخلق ما يشاء » عيسى من أم بلا أب آية لعباده. `

 

الآية: 18 ( وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير )

 

قوله تعالى: « وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه » قال ابن عباس: خوف رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما من اليهود العقاب فقالوا: لا نخاف فإنا أبناء الله وأحباؤه؛ فنزلت الآية. قال ابن إسحاق: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن أضا وبحري بن عمرو وشأس بن عدي فكلموه وكلمهم، ودعاهم إلى الله عز وجل وحذرهم نقمته فقالوا: ما تخوفنا يا محمد؟؛ نحن أبناء الله وأحباؤه، كقول النصارى؛ فأنزل الله عز وجل فيهم « وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم » إلى آخر الآية. قال لهم معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب: يا معشر يهود اتقوا الله، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله، ولقد كنتم تذكرونه لنا فبل مبعثه، وتصفونه لنا بصفته؛ فقال رافع بن حريمة ووهب بن يهوذا: ما قلنا هذا لكم، ولا أنزل الله من كتاب بعد موسى، ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا من بعده؛ فأنزل الله عز وجل: « يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل » إلى قوله: « والله على كل شيء قدير » . السدي: زعمت اليهود أن الله عز وجل أوحى إلى إسرائيل عليه السلام أن ولدك بكري من الولد. قال غيره: والنصارى قالت نحن أبناء الله؛ لأن في الإنجيل حكاية عن عيسى « أذهب إلى أبي وأبيكم » . وقيل: المعنى: نحن أبناء رسل الله، فهو على حذف مضاف. وبالجملة. فإنهم رأوا لأنفسهم فضلا؛ فرد عليهم قولهم فقال « فلم يعذبكم بذنوبكم » فلم يكونوا يخلون من أحد وجهين؛ إما أن يقولوا هو يعذبنا. فيقال لهم: فلستم إذا أبناءه وأحباءه؛ فإن الحبيب لا يعذب حبيبه، وأنتم تقرون بعذابه؛ فذلك دليل على كذبكم - وهذا هو المسمى عند الجدليين ببرهان الخلف - أو يقولوا: لا يعذبنا فيكذبوا ما في كتبهم، وما جاءت به رسلهم، ويبيحوا المعاصي وهم معترفون بعذاب العصاة منهم؛ ولهذا يلتزمون أحكام كتبهم. وقيل: معنى « يعذبكم » عذبكم؛ فهو بمعنى المضي؛ أي فلم مسخكم قردة وخنازير؟ ولم عذب من قبلكم من اليهود والنصارى بأنواع العذاب وهم أمثالكم؟ لأن الله سبحانه لا يحتج عليهم بشيء لم يكن بعد، لأنهم ربما يقولون لا نعذب غدا، بل يحتج عليهم بما عرفوه. ثم قال: « بل أنتم بشر ممن خلق » أي كسائر خلقه يحاسبكم على الطاعة والمعصية، ويجازي كلا بما عمل. « يغفر لمن يشاء » أي لمن تاب من اليهود. « ويعذب من يشاء » من مات عليها. « ولله ملك السماوات والأرض » فلا شريك له يعارضه. « وإليه المصير » أي يؤول أمر العباد إليه في الآخرة.

 

الآية: 19 ( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير )

 

قوله تعالى: « يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا » يعني محمدا صلى الله عليه وسلم. « يبين لكم »

انقطاع حجتهم حتى لا يقولوا غدا ما جاءنا رسول. « على فترة من الرسل » أي سكون؛ يقال فتر الشيء سكن. وقيل: « على فترة » على انقطاع ما بين النبيين؛ عن أبي علي وجماعة أهل العلم، حكاه الرماني؛ قال: والأصل فيها انقطاع العمل عما كان عليه من الجد فيه، من قولهم: فتر عن عمله وفترته عنه. ومنه فتر الماء إذا عما كان من السخونة إلى البرد. وامرأة فاترة الطرف أي منقطعة عن حدة النظر. وفتور البدن كفتور الماء. والفتر ما بين السبابة والإبهام إذا فتحتهما. والمعنى؛ أي مضت للرسل مدة قبله. واختلف في قدر مدة تلك الفترة؛ فذكر محمد بن سعد في كتاب « الطبقات » عن ابن عباس قال: كان بين موسى بن عمران وعيسى ابن مريم عليهما السلام ألف سنة وسبعمائة سنة، ولم يكن بينهما فترة، وأنه أرسل بينهما ألف نبي من بني إسرائيل سوى من أرسل من غيرهم. وكان بين ميلاد عيسى والنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة وتسع وستون سنة، بعث في أولها ثلاثة أنبياء؛ وهو قوله تعالى: « إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث » [ يس: 14 ] والذي عزز به « شمعون » وكان من الحواريين. وكانت الفترة التي لم يبعث الله فيها رسولا أربعمائة سنة وأربعا وثلاثين سنة. وذكر الكلبي أن بين عيسى ومحمد عليهما السلام خمسمائة سنة وتسعا وستين، وبينهما أربعة أنبياء؛ واحد من العرب من بني عبس وهو خالد بن سنان. قال القشيري: ومثل هذا مما لم إلا بخبر صدق. وقال قتادة: كان بين عيسى ومحمد عليهما السلام ستمائة سنة؛ وقاله مقاتل والضحاك ووهب بن منبه، إلا أن وهبا زاد عشرين سنة. وعن الضحاك أيضا أربعمائة وبضع وثلاثون سنة. وذكر ابن سعد عن عكرمة قال: بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام. قال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمرو بن واقد الأسلمي عن غير واحد قالوا: كان بين آدم ونوح عشرة قرون، والقرن مائة سنة، وبين نوح وإبراهيم عشرة قرون، والقرن مائة سنة، وبين إبراهيم وموسى بن عمران عشرة قرون، والقرن مائة سنة؛ فهذا ما بين آدم ومحمد عليهما السلام من القرون والسنين. والله أعلم. « أن تقولوا » أي لئلا أو كراهية أن تقولوا؛ فهو في موضع نصب. « ما جاءنا من بشير » أي مبشر. « ولا نذير » أي منذر. ويجوز « من بشير ولا نذير » على الموضع. قال ابن عباس: قال معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب لليهود؛ يا معشر يهود اتقوا الله، فوالله إنكم لتعلمن أن محمدا رسول الله، ولقد منتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه بصفته؛ فقالوا: ما أنزل الله من كتاب بعد موسى ولا أرسل بعده من بشير ولا نذير؛ فنزلت الآية. « والله على كل شيء قدير » على إرسال من شاء من خلقه. وقيل: قدير على إنجاز ما بشر به وأنذر منه.

الآية [ 20 ] في الصفحة التالية ...

 

 

الآيات: 20 - 26 ( وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين، يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين، قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون، قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين، قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين، قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين )

 

قوله تعالى: « وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم » تبيين من الله تعالى أن أسلافهم تمردوا على موسى وعصوه؛ فكذلك هؤلاء على محمد عليه السلام، وهو تسلية له؛ أي يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم، واذكروا قصة موسى. وروي عن عبدالله بن كثير أنه قرأ « يا قوم اذكروا » بضم الميم، وكذلك ما أشبهه؛ وتقديره يا أيها القوم. « إذ جعل فيكم أنبياء » لم ينصرف؛ لأنه فيه ألف التأنيث. « وجعلكم ملوكا » أي تملكون أمركم لا يغلبكم عليه غالب بعد أن كنتم مملوكين لفرعون مقهورين، فأنقذكم منه بالغرق؛ فهم ملوك بهذا الوجه، وبنحوه فسر السدي والحسين وغيرهما. قال السدي: ملك كل واحد منه نفسه وأهله وماله. وقال قتادة: إنما قال: « وجعلكم ملوكا » لأنا كنا نتحدث أنهم أول من خدم من بني آدم. قال ابن عطية: وهذا ضعيف؛ لأن القبط قد كانوا يستخدمون بني إسرائيل، وظاهر أمر بني آدم أن بعضهم كان يسخر بعضا مذ تناسلوا وكثروا، وإنما اختلفت الأمم في معنى التمليك فقط. وقيل: جعلكم ذوي منازل لا يدخل عليكم إلا بإذن؛ روي معناه عن جماعة من أهل العلم. قال ابن عباس: إن الرجل إذا لم يدخل أحد بيته إلا بإذنه فهو ملك. وعن الحسن أيضا وزيد بن أسلم من كانت له دار وزوجة وخادم فهو ملك؛ وهو قول عبدالله بن عمرو كما في صحيح مسلم عن أبي عبدالرحمن الحبلي قال: سمعت عبدالله بن عمرو بن العاص وسأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له عبدالله: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم. قال: ألك منزل تسكنه؟ قال: نعم. قال: فأنت من الأغنياء. قال: فإن لي خادما. قال: فأنت من الملوك. قال ابن العربي: وفائدة هذا أن الرجل إذا وجبت عليه كفارة وملك دار وخادما باعهما في الكفارة ولم يجز له الصيام، لأنه قادر على الرقبة والملوك لا يكفرون بالصيام، ولا يوصفون بالعجز عن الإعتاق. وقال ابن عباس ومجاهد: جعلهم ملوكا بالمن والسلوى والحجر والغمام، أي هم مخدومون كالملوك. وعن ابن عباس أيضا يعني الخادم والمنزل؛ وقاله مجاهد وعكرمة والحكم بن عيين، وزادوا الزوجة؛ وكذا قال زيد بن أسلم إلا أنه قال فيما يعلم - عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( من كان له بيت - أو قال منزل - يأوي إليه وزوجة وخادم يخدمه فهو ملك؛ ذكره النحاس. ويقال: من استغنى عن غيره فهو ملك؛ وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم: ( من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه وله قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ) .

 

قوله تعالى: « وآتاكم » أي أعطاكم « ما لم يؤت أحدا من العالمين » والخطاب من موسى لقومه في قول جمهور المفسرين؛ وهو وجه الكلام. مجاهد: والمراد بالإيتاء المن والسلوى والحجر والغمام. وقيل: كثرة الأنبياء فيهم، والآيات التي جاءتهم. وقيل: قلوبا سليمة من الغل والغش. وقيل: إحلال الغنائم والانتفاع بها.

قلت: وهذا القول مردود؛ فإن الغنائم لم تحل لأحد إلا لهذه الأمة على ما ثبت في الصحيح؛ وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وهذه المقالة من موسى توطئة لنفوسهم حتى تعزز وتأخذ الأمر بدخول أرض الجبارين بقوة، وتنقذ في ذلك نفوذ من أعزه الله ورفع من شأنه. ومعنى « من العالمين » أي عالمي زمانكم؛ عن الحسن. وقال ابن جبير وأبو مالك: الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ وهذا عدول عن ظاهر الكلام بما لا يحسن مثله. وتظاهرت الأخبار أن دمشق قاعدة الجبارين. و « المقدسة » معناه المطهرة. مجاهد: المباركة؛ والبركة التطهير من القحوط والجوع ونحوه. قتادة: هي الشام. مجاهد: الطور وما حوله. ابن عباس والسدي وابن زيد: هي أريحاء. قال الزجاج: دمشق وفلسطين وبعض: الأردن. وقول قتادة يجمع هذا كله. « التي كتب الله لكم » أي فرض دخولها عليكم ووعدكم دخولها وسكناها لكم. ولما خرجت بنو إسرائيل من مصر أمرهم بجهاد أهل أريحاء من بلاد فلسطين فقالوا: لا علم لنا بتلك الديار؛ فبعث بأمر الله اثني عشر نقيبا، من كل سبط رجل يتجسسون الأخبار على ما تقدم، فرأوا سكانها الجبارين من العمالقة، وهم ذوو أجسام هائلة؛ حتى قيل: إن بعضهم رأى هؤلاء النقباء فأخذهم في كمه مع فاكهة كان قد حملها من بستانه وجاء بهم إلى الملك فنثرهم بين يده وقال: إن هؤلاء يريدون قتالنا؛ فقال لهم الملك: ارجعوا إلى صاحبكم فأخبروه خبرنا؛ على ما تقدم. وقيل: إنهم لما رجعوا أخذوا من عنب تلك الأرض عنقودا فقيل: حمله رجل واحد، وقيل: حمله النقباء الاثنا عشر.

قلت: وهذا أشبه؛ فإنه يقال: إنهم لما وصلوا إلى الجبارين وجدوهم يدخل في كم أحدهم رجلان منهم، ولا يحمل عنقود أحدهم إلا خمسة منهم في خشية، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبه خمسة أنفس أو أربعة.

قلت: ولا تعارض بين هذا والأول؛ فإن ذلك الجبار الذي أخذهم في كمه - ويقال: في حجره - هو عوج بن عناق وكان أطولهم قامة وأعظمهم خلقا؛ على ما يأتي من ذكره إن شاء الله تعالى. وكان طول سائرهم ستة أذرع ونصف في قول مقاتل. وقال الكلبي: كان طول كل رجل منهم ثمانين ذراعا، والله أعلم. فلما أذاعوا الخبر ما عدا يوشع وكالب بن يوفنا، وامتنعت بنو إسرائيل من الجهاد عوقبوا بالتيه أربعين سنة إلى أن مات أولئك العصاة ونشأ أولادهم، فقاتلوا الجبارين وغلبوهم.

 

قوله تعالى: « ولا ترتدوا على أدباركم » أي لا ترجعوا عن طاعتي وما أمرتكم به من قتال الجبارين. وقيل: لا ترجعوا عن طاعة الله إلى معصيته، والمعنى واحد.

 

قوله تعالى: « قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين » أي عظام الأجسام طوال، وقد تقدم؛ يقال: نخلة جبارة أي طويلة. والجبار المتعظم الممتنع من الذل والفقر. وقال الزجاج: الجبار من الآدميين العاتي، وهو الذي يجبر الناس على ما يريد؛ فأصله على هذا من الإجبار وهو الإكراه؛ فإنه يجبر غيره على ما يريده؛ وأجبره أي أكرهه. وقيل: هو مأخوذ من جبر العظم؛ فأصل الجبار على هذا المصلح أمر نفسه، ثم استعمل في كل من جر لنفسه نفعا بحق أو بطل. وقيل: إن جبر العظم راجع إلى معنى الإكراه. قال الفراء: لم أسمع فعالا من أفعل إلا في حرفين؛ جبار من أجبر ودراك من أدرك. ثم قيل: كان هؤلاء من بقايا عاد. وقيل: هم من ولد عيصو بن إسحاق، وكانوا من الروم، وكان معهم عوج الأعنق، وكان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعا؛ قاله ابن عمر، وكان يحتجن السحاب أي يجذبه بمحجنه ويشرب منه، ويتناول الحوت من قاع البحر فيشويه بعين الشمس يرفعه إليها ثم يأكله. وحضر طوفان نوح عليه السلام ولم يجاوز ركبتيه وكان عمره ثلاثة آلاف وستمائة سنة، وأنه قلع صخرة على قدر عسكر موسى ليرضخهم بها، فبعث الله طائرا فنقرها ووقعت في عنقه فصرعته. وأقبل موسى عليه السلام وطوله عشرة أذرع؛ وعصاه عشرة أذرع وترقى في السماء عشرة أذرع فما أصاب إلا كعبه وهو مصروع فقتله. وقيل: بل ضربه في العرق الذي تحت كعبه فصرعه فمات ووقع على نيل مصر فجسرهم سنة. ذكر هذا المعنى باختلاف ألفاظ محمد بن إسحاق والطبري ومكي وغيرهم. وقال الكلبي: عوج من ولد هاروت وماروت حيث وقعا بالمرأة فحملت. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « وإنا لن ندخلها » يعني البلدة إيلياء، ويقال: أريحاء أي حتى يسلموها لنا من غير قتال. وقيل: قالوا ذلك خوفا من الجبارين ولم يقصدوا العصيان؛ فإنهم قالوا: « فإن يخرجوا منها فإنا داخلون »

 

قوله تعالى: « قال رجلان من الذين يخافون » قال ابن عباس وغيره: هما يوشع وكالب بن يوقنا ويقال ابن قانيا، وكانا من الاثني عشر نقيبا. و « يخافون » أي من الجبارين. قتادة: يخافون الله تعالى. وقال الضحاك: هما رجلان كانا في مدينة الجبارين على دين موسى؛ فمعنى « يخافون » على هذا أي من العمالقة من حيث الطبع لئلا يطلعوا على إيمانهم فيفتنوهم ولكن وثقا بالله. وقيل: يخافون ضعف بني إسرائيل وجبنهم. وقرأ مجاهد وابن جبير « يخافون » بضم الياء، وهذا يقوي أنهما من غير قوم موسى. « أنعم الله عليهما » أي بالإسلام أو باليقين والصلاح. « ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون » قالا لبني إسرائيل لا يهولنكم عظم أجسامهم فقلوبهم ملئت رعبا منكم؛ فأجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة، وكانوا قد علموا أنهم إذا دخلوا من ذلك الباب كان لهم الغلب. ويحتمل أن يكونا قالا ذلك ثقة بوعد الله. ثم قالا: « وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين » مصدقين به؛ فإنه ينصركم. ثم قيل على القول الأول: لما قالا هذا أراد بنو إسرائيل رجمهما بالحجارة، وقالوا: نصدقكما وندع قول عشرة! ثم قالوا لموسى: « إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها » وهذا عناد وحَيْدٌ عن القتال، وإِياسٌ من النصر. ثم جهلوا صفة الرب تبارك وتعالى فقالوا « فاذهب أنت وربك فقاتلا » وصفوه بالذهاب والانتقال، والله متعال عن ذلك. وهذا يدل على أنهم كانوا مشبهة؛ وهو معنى قول الحسن؛ لأنه قال: هو كفر منهم بالله، وهو الأظهر في معنى الكلام. وقيل: أي إن نصرة ربك لك أحق من نصرتنا، وقتاله معك - إن كنت رسوله - أولى من قتالنا؛ فعلى هذا يكون ذلك منهم كفر؛ لأنهم شكوا في رسالته. وقيل المعنى: أذهب أنت فقاتل وليعنك ربك. وقيل: أرادوا بالرب هارون، وكان أكبر من موسى وكان موسى يطيعه. وبالجملة فقد فسقوا بقولهم؛ لقوله تعالى: « فلا تأس على القوم الفاسقين » أي لا تحزن عليهم. « إنا ههنا قاعدون » أي لا نبرح ولا نقاتل. ويجوز « قاعدين » على الحال؛ لأن الكلام قد تم قبله.

 

قوله تعالى: « قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي » لأنه كان يطيعه. وقيل المعنى: إني لا أملك إلا نفسي، ثم ابتدأ فقال: « وأخي » . أي وأخي أيضا لا يملك إلا نفسه؛ فأخي على القول الأول في موضع نصب عطفا على نفسي، وعلى الثاني في موضع رفع، وإن شئت عطفت على اسم إن وهي الياء؛ أي إني وأخي لا نملك إلا أنفسنا. وإن شئت عطفت على المضمر في أملك كأنه قال: لا أملك أنا وأخي إلا أنفسنا. « فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين » يقال: بأي وجه سأله الفرق بينه وبين هؤلاء القوم؟ ففيه أجوبة؛ الأول: بما يدل على بعدهم عن الحق، وذهابهم عن الصواب فيما ارتكبوا من العصيان؛ ولذلك ألقوا في التيه. الثاني: بطلب التمييز أي ميزنا عن جماعتهم وجملتهم ولا تلحقنا بهم في العقاب، وقيل المعنى: فاقض بيننا وبينهم بعصمتك إيانا من العصيان الذي ابتليتهم به؛ ومنه قوله تعالى: « فيها يفرق كل أمر حكيم » [ الدخان: 4 ] أي يقضي. وقد فعل لما أماتهم في التيه. وقيل: إنما أراد في الآخرة، أي اجعلنا في الجنة ولا تجعلنا معهم في النار؛ والشاهد على الفرق الذي يدل على المباعدة في الأحوال قول الشاعر:

يا رب فافرق بينه وبيني أشد ما فرقت بين اثنين

وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير أنه قرأ: « فافرق » بكسر الراء.

 

قوله تعالى: « قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض » استحباب الله دعاءه وعاقبهم في التيه أربعين سنة. وأصل التيه في اللغة الحيرة؛ يقال منه: تاه يتيه تيها وتوها إذا تحير. وتيهته وتوهته بالياء والواو، والياء أكثر. والأرض التيهاء التي لا يهتدى فيها؛ وأرض تيه وتيهاء ومنها قال:

تيه أتاويه على السقاط

وقال آخر:

بتيهاء قفر والمطي كأنها قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها

فكانوا يسيرون في فراسخ قليلة - قيل: في قدر سنة فراسخ - يومهم وليلتهم فيصبحون حيث أمسوا ويمسون حيث أصبحوا؛ فكانوا سيارة لا قرار لهم. واختلف هل كان معهم موسى وهارون؟ فقيل: لا؛ لأن التيه عقوبة، وكانت سنو التيه بعدد أيام العجل، فقوبلوا على كل يوم سنة؛ وقد قال: « فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين » . وقيل: كانا معهم لكن سهل الله الأمر عليهما كما جعل النار بردا وسلاما على إبراهيم. ومعنى « محرمة » أي أنهم ممنوعون من دخولها؛ كما يقال: حرم الله وجهك على النار، وحرمت عليك دخول الدار؛ فهو تحريم منع لا تحريم شرع، عن أكثر أهل التفسير؛ كما قال الشاعر:

جالت لتصرعني فقلت لها اقصري إني امرؤ صرعي عليك حرام

أي أنا فارس فلا يمكنك صرعي. وقال أبو علي: يجوز أن يكون تحريم تعبد. ويقال: كيف يجوز على جماعة كثيرة من العقلاء أن يسيروا في فراسخ يسيرة فلا يهتدوا للخروج منها؟ فالجواب: قال أبو علي: قد يكون ذلك بأن يحول الله الأرض التي هي عليها إذا ناموا فيردهم إلى المكان الذي ابتدؤوا منه. وقد يكون بغير ذلك من الاشتباه والأسباب المانعة من الخروج عنها على طريق المعجزة الخارجة عن العادة. « أربعين » ظرف زمان للتيه؛ في قول الحسن وقتادة؛ قالا: ولم يدخلها أحد منهم؛ فالوقف على هذا على « عليهم » . وقال الربيع بن أنس وغيره: إن « أربعين سنة » ظرف للتحريم، فالوقف على هذا على « أربعين سنة » ؛ فعلى الأول إنما دخلها أولادهم؛ قاله ابن عباس. ولم يبق منهم إلا يوشع وكالب، فخرج منهم يوشع بذرياتهم إلى تلك المدينة وفتحوها. وعلى الثاني: فمن بقي منهم بعد أربعين سنة دخلوها. وروي عن ابن عباس أن موسى وهارون ماتا في التيه. قال غيره: ونبأ الله يوشع وأمره بقتال الجبارين، وفيها حبست عليه الشمس حتى دخل المدينة، وفيها أحرق الذي وجد الغلول عنده، وكانت تنزل من السماء إذا غنموا نار بيضاء فتأكل الغنائم؛ وكان ذلك دليلا على قبولها، فإن كان فيها غلول لم تأكله، وجاءت السباع والوحوش فأكلته؛ فنزلت النار فلم تأكل ما غنموا فقال: إن فيكم الغلول فلتبايعني كل قبيلة فبايعته، فلصقت يد رجل منهم بيده فقال: فيكم الغلول فليبايعني كل رجل منكم فبايعوه رجلا رجلا حتى لصقت يد رجل منهم بيده فقال: عند الغلول فأخرج مثل رأس البقرة من ذهب، فنزلت النار فأكل الغنائم. وكانت نارا بيضاء مثل الفضة لها حفيف أي صوت مثل صوت الشجر وجناح الطائر فيما يذكرون؛ فذكروا أنه أحرق الغال ومتاعه بغور يقال له الآن عاجز، عرف باسم الغال؛ وكان اسمه عاجزا.

قلت: ويستفاد من هذا عقوبة الغال قبلنا، وقد تقدم حكمه في ملتنا. وبيان ما انبهم من اسم النبي والغال في الحديث الصحيح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( غزا نبي من الأنبياء ) الحديث أخرجه مسلم وفيه قال: ( فغزا فأدنى للقرية حين صلاة العصر أو قريبا من ذلك فقال للشمس أنت مأمورة وأنا مأمور اللهم أحبسها على شيئا فحبست عليه حتى فتح الله عليه - قال: فجمعوا ما غنموا فأقبلت النار لتأكله فأبت أن تطعمه فقال: فيكم غلول فليبايعني من كل قبيل رجل فبايعوه - قال - فلصقت يده بيد رجلين أو ثلاثة فقال فيكم الغلول ) وذكر نحو ما تقدم. قال علماؤنا: والحكمة في حبس الشمس على يوشع عند قتاله أهل أريحاء وإشرافه على فتحها عشي يوم الجمعة، وإشفاقه من أن تغرب الشمس قبل الفتح أنه لو لم تحبس عليه حرم عليه القتال لأجل السبت، ويعلم به عدوهم فيعمل فيهم السيف ويجتاحهم؛ فكان ذلك آية له خص بها بعد أن كانت نبوته ثابتة خبر موسى عليه الصلاة والسلام، على ما يقال. والله أعلم. وفي هذا الحديث يقول عليه السلام: ( فلم تحل الغنائم لأحد من قبلنا ) ذلك بأن الله عز وجل رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا. وهذا يرد قول من قال في تأويل قوله تعالى: « وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين » إنه تحليل الغنائم والانتفاع بها. وممن قال إن موسى عليه الصلاة والسلام مات بالتيه عمرو بن ميمون الأودي، وزاد وهارون؛ وكانا خرجا في التيه إلى بعض الكهوف فمات هارون فدفنه موسى وانصرف إلى بني إسرائيل؛ فقالوا: ما فعل هارون؟ فقال: مات؛ قالوا: كذبت ولكنك قتلته لحبنا له، وكان محبا في بني إسرائيل؛ فأوحى الله تعالى إليه أن انطلق بهم إلى قبره فإني باعثه حتى يخبرهم أنه مات موتا ولم تقتله؛ فانطلق بهم إلى قبره فنادي يا هارون فخرج من قبره ينفض رأسه فقال: أنا قاتلك؟ قال: لا؛ ولكني مت؛ قال: فعد إلى مضجعك؛ وانصرف. وقال الحسن: إن موسى لم يمت بالتيه. وقال غيره: إن موسى فتح أريحاء، وكان يوشع على مقدمته فقاتل الجبابرة الذين كانوا بها، ثم دخلها موسى ببني إسرائيل فأقام فيها ما شاء الله أن يقيم، ثم قبضه الله تعالى إليه لا يعلم بقبره أحد من الخلائق. قال الثعلبي: وهو أصح الأقاويل.

قلت: قد روى مسلم عن أبي هريرة قال: أرسل ملك الموت إلى موسى عليه الصلاة والسلام فلما جاءه صكه ففقأ عينه فرجع إلى ربه فقال: « أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت » قال: فرد الله إليه عينه وقال: « ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة سنة » قال: « أي رب ثم مه » ، قال: « ثم الموت » قال: « فالآن » ؛ فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر ) فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم قد علم قبره ووصف موضعه، ورآه فيه قائما يصلي كما في حديث الإسراء، إلا أنه يحتمل أن يكون أخفاه الله عن الخلق سواه ولم يجعله مشهورا عندهم؛ ولعل ذلك لئلا يعبد، والله أعلم. ويعني بالطريق طريق بيت المقدس. ووقع في بعض الروايات إلى جانب الطور مكان الطريق. واختلف العلماء في تأويل لطم موسى عين ملك الموت وفقئها على أقوال؛ منها: أنها كانت عينا متخيلة لا حقيقة، وهذا باطل، لأنه يؤدي إلى أن ما يراه الأنبياء من صور الملائكة لا حقيقة له.

ومنها: أنها كانت عينا معنوية وإنما فقأها بالحجة، وهذا مجاز لا حقيقة. ومنها: أنه عليه السلام لم يعرف الموت، وأنه رأى رجلا دخل منزله بغير إذنه يريد نفسه فدافع عن نفسه فلطم عينه ففقأها؛ وتجب المدافعة في هذا بكل ممكن. وهذا وجه حسن؛ لأنه حقيقة في العين والصك؛ قاله الإمام أبو بكر بن خزيمة، غير أنه اعترض عليه بما في الحديث؛ وهو أن ملك الموت لما رجع إلى الله تعالى قال: « يا رب أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت » فلو لم يعرفه موسى لما صدق القول من ملك الموت؛ وأيضا قوله في الرواية الأخرى: « أجب ربك » يدل على تعريفه بنفسه. والله أعلم. ومنها: أن موسى عليه الصلاة والسلام كان سريع الغضب، إذ غضب طلع الدخان من قلنسوته ورفع شعر بدنه جبته؛ وسرعة غضبه كانت سببا لصكه ملك الموت. قال ابن العربي: وهذا كما ترى، فإن الأنبياء معصومون أن يقع منهم ابتداء مثل هذا في الرضا والغضب. ومنها وهو الصحيح من هذه الأقوال: أن موسى عليه الصلاة والسلام عرف ملك الموت، وأنه جاء ليقبض روحه لكنه جاء مجيء الجزم بأنه قد أمر بقبض روحه من غير تخيير، وعند موسى ما قد نص عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من ( أن الله لا يقبض روح نبي حتى يخبره ) فلما جاءه على غير الوجه الذي أعلم بادر بشهامته وقوة نفسه إلى أدبه، فلطمه ففقأ عينه امتحانا لملك الموت؛ إذ لم يصرح له بالتخيير. ومما يدل على صحة هذا، أنه لما رجع إليه ملك الموت فخيره بين الحياة والموت اختار الموت واستسلم. والله بغيبه أحكم وأعلم. هذا أصح ما قيل في وفاة موسى عليه السلام. وقد ذكر المفسرون في ذلك قصصا وأخبارا الله أعلم بصحتها؛ وفي الصحيح غنية عنها. وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة؛ فيروى أن يوشع رآه بعد موته في المنام فقال له: كيف وجدت الموت؟ فقال: « كشاة تسلخ وهي حية » . وهذا صحيح معنى؛ قال: صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ( إن للموت سكرات ) على ما بيناه في كتاب « التذكرة » . وقوله: « فلا تأس على القوم الفاسقين » أي لا تحزن. والأسى الحزن؛ أسي يأسى أي حزن، قال:

يقولون لا تهلك أسى وتحمل

 

الآية: 27 ( واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين )

 

وجه اتصال هذه الآية بما قبلها التنبيه من الله تعالى على أن ظلم اليهود، ونقضهم المواثيق والعهود كظلم ابن آدم لأخيه. المعنى: إن هم هؤلاء اليهود بالفتك بك يا محمد فقد قتلوا قبلك الأنبياء، وقتل قابيل هابيل، والشر قديم. أي ذكرهم هذه القصة فهي قصة صدق، لا كالأحاديث الموضوعة؛ وفي ذلك تبكيت لمن خالف الإسلام، وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. واختلف في ابني آدم؛ فقال الحسن البصري: ليسا لصلبه، كانا رجلين من بني إسرائيل - ضرب الله بهما المثل في إبانة حسد اليهود - وكان بينهما خصومة، فتقربا بقربانين ولم تكن القرابين إلا في بني إسرائيل. قال ابن عطية: وهذا وهم، وكيف يجهل صورة الدفن أحد من بني إسرائيل حتى يقتدي بالغراب؟ والصحيح أنهما ابناه لصلبه؛ هذا قول الجمهور من المفسرين وقاله ابن عباس وابن عمر وغيرهما؛ وهما قابيل وهابيل، وكان قربان قابيل حزمة من سنبل - لأنه صاحب زرع - واختارها من أردأ زرعه، ثم إنه وجد فيها سنبلة طيبة ففركها وأكلها. وكان قربان هابيل كبشا - لأنه كان صاحب غنم - أخذه من أجود غنمه. « فتقبل » فرفع إلى الجنة، فلم يزل يرعى فيها إلى أن فدي به الذبيح عليه السلام؛ قاله سعيد بن جبير وغيره. فلما تقبل قربان هابيل لأنه كان مؤمنا - قال له قابيل حسدا: أنه كان كافرا - أتمشي على الأرض يراك الناس أفضل مني! « لأقتلنك » وقيل: سبب هذا القربان أن حواء عليها السلام كانت تلد في كل بطن ذكرا وأنثى - إلا شيثا عليه السلام فإنها ولدته منفردا عوضا من هابيل على ما يأتي، واسمه هبة الله؛ لأن جبريل عليه السلام قال لحواء لما ولدته: هذا هبة الله لك بدل هابيل. وكان آدم يوم ولد شيث ابن ثلاثين ومئة سنة - وكان يزوج الذكر من هذا البطن الأنثى من البطن الآخر، ولا تحل له أخته توأمته؛ فولدت مع قابيل أختا جميلة واسمها إقليمياء، ومع هابيل أختا ليست كذلك واسمها ليوذا؛ فلما أراد آدم تزويجهما قال قابيل: أنا أحق بأختي، فأمره آدم فلم يأتمر، وزجره فلم ينزجر؛ فاتفقوا على التقريب؛ قال جماعة من المفسرين منهم ابن مسعود. وروي أن آدم حضر ذلك. والله أعلم. وقد روي في هذا الباب عن جعفر الصادق: إن آدم لم يكن يزوج ابنته من ابنه؛ ولو فعل ذلك آدم لما رغب عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا كان دين آدم إلا يكن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الله تعالى لما أهبط آدم وحواء إلى الأرض وجمع بينهما ولدت حواء بنتا فسماها عناقا فبغت، وهي أول من بغى على وجه الأرض؛ فسلط الله عليها من قتلها، ثم ولدت لآدم قابيل، ثم ولدت له هابيل؛ فلما أدرك قابيل أظهر الله له جنية من ولد الجن، يقال لها: جملة في صورة إنسية؛ وأوحى الله إلى آدم أن زوجها من قابيل فزوجها منه. فلما أدرك هابيل أهبط الله إلى آدم حورية في صفة إنسية وخلق لها رحما، وكان اسمها بزلة، فلما نظر إليها هابيل أحبها؛ فأوحى الله إلى آدم أن زوج بزلة من هابيل ففعل. فقال قابيل: يا أبت ألست أكبر من أخي؟ قال: نعم. قال: فكنت أحق أن زوج بزلة من منه! فقال له آدم: يا بني إن الله قد أمرني بذلك، وإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، فقال: لا والله، ولكنك آثرته علي. فقال آدم: « فقربا قربانا فأيكما يقبل قربانه فهو أحق بالفضل » .

قلت: هذه القضية عن جعفر ما أظنها تصح، وأن القول ما ذكرناه من أنه كان يزوج غلام هذا البطن لجارية تلك البطن. والدليل على هذا من الكتاب قوله تعالى: « يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء » [ النساء: 1 ] . وهذا كالنص ثم نسخ ذلك، حسبما تقدم بيانه في سورة « البقرة » . وكان جميع ما ولدته حواء أربعين من ذكر وأنثى في عشرين بطنا؛ أولهم قابيل وتوأمته إقليمياء، وآخرهم عبدالمغيث. ثم بارك الله في نسل آدم. قال ابن عباس: لم يمت آدم حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفا. وما روي عن جعفر - من قوله: فولدت بنتا وأنها بغت - فيقال: مع من بغت؟ أمع جني تسول لها! ومثل هذا يحتاج إلى نقل صحيح يقطع العذر، وذلك معدوم. والله أعلم.

 

وفي قول هابيل « قال إنما يتقبل الله من المتقين » كلام قبله محذوف؛ لأنه لما قال له قابيل: « لأقتلنك » قال له: ولم تقتلني وأنا لم أجن شيئا؟، ولا ذنب لي في قبول الله قرباني، أما إني أتقيته وكنت على لاحب الحق وإنما يتقبل الله من المتقين. قال ابن عطية: المراد بالتقوى هنا اتقاء الشرك بإجماع أهل السنة؛ فمن اتقاه وهو موحد فأعماله التي تصدق فيها نيته مقبولة؛ وأما المتقي الشرك والمعاصي فله الدرجة العليا من القبول والختم بالرحمة؛ علم ذلك بإخبار الله تعالى لا أن ذلل يجب على الله تعالى عقلا. وقال عدي بن ثابت وغيره: قربان متقي هذه الأمة الصلاة.

قلت: وهذا خاص في نوع من العبادات. وقد روى البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله تبارك وتعالى قال من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه وما يزل عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت مسمى الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن بكره الموت وأنا أكره مساءته ) .

 

الآيتان: 28 - 29 ( لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين، إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين )

 

قوله تعالى: « لئن بسطت إلي يدك » أي لئن قصدت قتلي فأنا لا أقصد قتلك؛ فهذا استسلام منه. وفي الخبر: ( إذا كانت الفتنة فكن خير ابني آدم ) . وروى أبو داود عن سعد بن أبي وقاص قال قلت يا رسول: إن دخل عل بيتي وبسط يده إلي ليقتلني؟ قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كن كخير ابني آدم ) وتلا هذه الآية « لئن بسطت إلي يدك لتقتلني » . قال مجاهد: كان الفرض عليهم حينئذ ألا يستل أحد سيفا، وألا يمتنع ممن يريد قتله. قال علماؤنا: وذلك مما يجوز ورود التعبد به، إلا أن في شرعنا يجوز دفعه إجماعا. وفي وجوب ذلك عليه خلاف، والأصح وجوب ذلك؛ لما فيه من النهي عن المنكر. وفي الحشوية قوم لا يجوزون للحصول عليه الدفع؛ واحتجوا بحديث أبي ذ، وحمله العلماء على ترك القتال في الفتنة، وكف اليد عند الشبهة؛ على ما بيناه في كتاب « التذكرة » . وقال عبدالله بن عمرو وجمهور الناس: كان هابيل أشد قوة من قابيل ولكنه تحرج. قال ابن عطية: وهذا هو الأظهر، ومن ههنا يقوى أن قابيل إنما هو عاص لا كافر؛ لأنه لو كان كافرا لم يكن للتحرج هنا وجه، وإنما وجه التحرج في هذا أن المتحرج يأبى أن يقاتل موحدا، ويرضى بأن يظلم ليجازي في الآخرة؛ ونحو هذا فعل عثمان رضي الله عته. وقيل: المعنى لا أقصد قتلك بل أقصد الدفع عن نفسي، وعلى هذا فيل: كان نائما فجاء قابيل ورضخ رأسه بحجر على ما يأتي ومدافعة الإنسان عمن يريد ظلمه جائزة وإن أتى على نفس العادي. وقيل: لئن بدأت بقتلي فلا أبدأ بالقتل. وقيل: أراد لئن بسطت إلى يدك ظلما فما أنا بظالم؛ إني أخاف الله رب العالمين.

 

قوله تعالى: « إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك » قيل: معناه معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار ) قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: ( إنه كان حريصا على قتل صاحبه ) وكأن هابيل أراد أني لست بحريص على قتلك؛ فالإثم الذي كان يلحقني لو كنت، حريصا على قتلك أريد أن تحمله أنت مع إثمك في قتلي. وقيل: المعنى « بإثمي » الذي يختص بي فيما فرطت؛ أي يؤخذ في سيئاتي فتطرح عليك بسبب ظلمك لي، وتبوء بإثمك في قتلك؛ وهذا يعضده قوله عليه الصلاة والسلام: ( يؤتى يوم القيامة بالظالم والمظلوم فيؤخذ من حسنات الظالم فتزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه ) . وهذا بين لا إشكال فيه. وقيل: المعنى إني أريد ألا تبوء بإثمي وإثمك كما قال تعالى: « وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم » [ النحل: 15 ] أي لئلا تميد بكم. وقوله تعالى: « يبين الله لكم أن تضلوا » [ النساء: 176 ] أي لئلا تضلوا فحذف « لا » .

قلت: وهذا ضعيف؛ لقوله عليه السلام: ( لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل ) ، فثبت بهذا أن إثم القتل حاصل؛ ولهذا قال أكثر العلماء: إن المعنى؛ ترجع بإثم قتلي وإثمك الذي عملته قبل قتلي. قال الثعلبي: هذا قول عامة أكثر المفسرين. وقيل: هو استفهام، أي أو إني أريد؟ على جهة الإنكار؛ كقوله تعالى: « وتلك نعمة » أي أو تلك نعمة؟ وهذا لأن إرادة القتل معصية. حكاه القشيري وسئل أبو الحسن بن كيسان: كيف يريد المؤمن أن يأثم أخوه وأن يدخل النار؟ فقال: إنما وقعت الإرادة بعد ما بسط يده إليه بالقتل؛ والمعنى: لئن بسطت إلى يدك لتقتلني لأمتنع من ذلك مريدا للثواب؛ فقيل له: فكيف قال: بإثمي وإثمك؛ وأي إثم له إذا قتل؟ فقال: فيه ثلاثة أجوبة؛ أحدها: أن تبوء بإثم قتلي وإثم ذنبك الذي من أجله لم يتقبل قربانك، ويروى هذا القول عن مجاهد. والوجه الآخر: أن تبوء بإثم قتلي وإثم اعتدائك علي؛ لأنه قد يأثم بالاعتداء وإن لم يقتل. والوجه الثالث: أنه لو بسط يده إليه أثم؛ فرأى أنه إذا أمسك عن ذلك فإثمه يرجع على صاحبه. فصار هذا مثل قولك: المال به وبين زيد؛ أي المال بينهما، فالمعنى أن تبوء بإثمنا. وأصل باء رجع إلى المباءة، وهي المنزل. « وباؤوا بغضب من الله » [ البقرة: 61 ] أي رجعوا. وقد مضى في « البقرة » مستوفى. وقال الشاعر:

ألا تنتهي عنا ملوك وتبقي محارمنا لا يبؤ الدم بالدم

أي لا يرجع الدم بالدم في القود. « فتكون من أصحاب النار » دليل على أنهم كانوا في ذلك الوقت مكلفين قد لحقهم الوعد والوعيد. وقد استدل بقول هابيل لأخيه قابيل: « فتكون من أصحاب النار » على أنه كان كافرا؛ لأن لفظ أصحاب النار إنما ورد في الكفار حيث وقع في القرآن. وهذا مردود هنا بما ذكرناه عن أهل العلم في تأويل الآية. ومعنى « من أصحاب النار » مدة كونك فيها. والله أعلم.

 

الآية: 30 ( فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين )

 

قوله تعالى: « فطوعت له نفسه » . أي سولت وسهلت نفسه عليه الأمر وشجعته وصورت له أن قتل أخيه طوع سهل له يقال: طاع الشيء أي سهل وانقاد. وطوعه فلان له أي سهله. قال الهروي: طوعت وأطاعت واحد؛ يقال: طاع له كذا إذا أتاه طوعا. وقيل: طاوعته نفسه في قتل أخيه؛ فنزع الخافض فانتصب. وروي أنه جهل كيف يقتله فجاء إبليس بطائر - أو حيوان غيره - فجعل يشدخ رأسه بين حجرين ليقتدي به قابيل ففعل؛ قال ابن جريج ومجاهد وغيرهما. وقال ابن عباس وابن مسعود: وجده نائما فشد رأسه بحجر وكان ذلك في ثور - جبل بمكة - قال ابن عباس. وقيل: عند عقبة حراء؛ حكاه محمد بن جرير الطبري. وقال جعفر الصادق: بالبصرة في موضع المسجد الأعظم. وكان لهابيل يوم قتله قابيل عشرون سنة. ويقال: إن قابيل كان يعرف القتل بطبعه؛ لأن الإنسان وإن لم ير القتل فإنه يعلم بطبعه أن النفس فانية لحكن إتلافها؛ فأخذ حجرا فقتله بأرض الهند. والله أعلم. ولما قتله ندم فقعد يبكي عند رأسه إذ أقبل غرابان فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر ثم حفر له حفرة فدفنه؛ ففعل القاتل بأخيه كذا. والسوءة يراد بها العورة، وقيل: يراد بها جيفة المقتول؛ ثم إنه هرب إلى أرض عدن من اليمن، فأتاه إبليس وقال: إنما أكلت النار قربان أخيك لأنه كان يعبد النار، فانصب أنت أيضا نارا تكون لك ولعقبك، فبنى بيت نار، فهو أول من عبد النار فيما قيل. والله أعلم. وروي عن ابن عباس أنه لما قتله وآدم بمكة اشتاك الشجر، وتغيرت الأطعمة، وحمضت الفواكه، وملحت المياه، واغبرت الأرض؛ فقال آدم عليه السلام: قد حدث في الأرض حدث، فأتى الهند فإذا قابيل قد قتل هابيل. وقيل: إن قابيل هو الذي انصرف إلى آدم، فلما وصل إليه قال له: أين هابيل؟ فقال: لا أدري كأنك وكلتني بحفظه. فقال له آدم: أفعلتها؟ ! والله إن دمه لينادي، اللهم العن أرضا شربت دم هابيل. فروي أنه من حينئذ ما شربت أرض دما. ثم إن آدم بقي مائة سنة لم يضحك، حتى جاءه ملك فقال له: حياك الله يا آدم وبياك. فقال: ما بياك؟ قال: أضحكك؛ قال مجاهد وسالم بن أبي الجعد. ولما مضى من عمر آدم مائة وثلاثون سنة - وذلك بعد قتل هابيل بخمس سنين ولدت له شيثا، وتفسيره هبة الله، أي خلفا من هابيل. وقال مقاتل: كان قبل قتل قابيل هابيل السباع والطيور تستأنس بآدم، فلما قتل قابيل هابيل هربوا، فلحقت الطيور بالهواء، والوحوش بالبرية، ولحقت السباع بالغياض. وروي أن آدم لما تغيرت الحال قال:

تغيرت البلاد ومن عليها فوجه الأرض مغير قبيح

تغير كل ذي طعم ولون وقل بشاشة الوجه المليح

في أبيات كثيرة ذكرها الثعلبي وغيره. قال ابن عطية: هكذا هو الشعر بنصب « بشاشة » وكف التنوين. قال القشيري وغيره قال ابن عباس: ما قال آدم الشعر، وإن محمدا والأنبياء كلهم في النهي عن الشعر سواء؛ لكن لما قتل هابيل رثاه آدم وهو سرياني، فهي مرثية بلسان السريانية أوصى بها إلى ابنه شيث وقال: إنك وصيي فاحفظ مني هذا الكلام ليتوارث؛ فحفظت منه إلى زمان يعرب بن قحطان، فترجم عنه يعرب بالعربية وجعله شعرا.

 

روي من حديث أنس قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن يوم الثلاثاء فقال: ( يوم الدم فيه حاضت حواء وفيه قتل ابن آدم أخاه ) . وثبت في صحيح مسلم وغيره عن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل ) . وهذا نص على التعليل؛ وبهذا الاعتبار يكون على إبليس كفل من معصية كل من عصى بالسجود؛ لأنه أول من عصى به، وكذلك كل من أحدث في دين الله ما لا يجوز من البدع والأهواء؛ قال صلى الله عليه وسلم: ( من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ) . وهذا نص في الخبر والشر. وقال صلى الله عليه وسلم: ( إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون ) . وهذا كله صريح، ونص صحيح في معنى الآية، وهذا ما لم يتب الفاعل من تلك المعصية، لأن آدم عليه السلام كان أول من خالف في أكل ما نهي عنه، ولا يكون عليه شيء من أوزار من عصى بأكل ما نهي عنه ولا شربه من بعده بالإجماع؛ لأن آدم تاب من ذلك وتاب الله عليه، فصار كمن لم يجن. ووجه آخر: فإنه أكل ناسيا على الصحيح من الأقوال، كما بيناه في « البقرة » والناسي غير آثم ولا مؤاخذ.

 

تضمنت هذه الآية البيان عن حال الحاسد، حتى أنه قد يحمله حسده على إهلاك نفسه بقتل أقرب الناس إليه قرابة، وأمسه به رحما، وأولاهم بالحنو عليه ودفع الأذية عنه. الرابعة

 

قوله تعالى: « فأصبح من الخاسرين » أي ممن خسر حسناته. وقال، مجاهد: علقت إحدى رجلي القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ إلى يوم القيامة، ووجهه إلى الشمس حيثما دارت، عليه في الصيف حظيرة من نار، وعليه في الشتاء من ثلج. قال ابن عطية: فإن صح هذا فهو من خسرانه الذي تضمنه قوله تعالى: « فأصبح من الخاسرين » وإلا فالخسران يعم خسران الدنيا والآخرة.

قلت: ولعل هذا يكون عقوبته على القول بأنه عاص لا كافر؛ فيكون المعنى « فأصبح من الخاسرين » أي في الدنيا. والله أعلم.

 

الآية: 31 ( فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين )

 

قال مجاهد: بعث الله غرابين فاقتتلا حتى قتل أحدهما صاحبه ثم حفر فدفنه. وكان ابن آدم هذا أول من قتل. وقيل: إن الغراب بحث الأرض على طعمه ليخفيه إلى وقت الحاجة إليه؛ لأنه من عادة الغراب فعل ذلك؛ فتنبه قابيل ذلك على مواراة أخيه. وروي أن قابيل لما قتل هابيل جعله في جراب، ومشى به يحمله في عنقه مائة سنة؛ قال مجاهد. وروى ابن القاسم عن مالك أنه حمله سنة واحدة؛ وقال ابن عباس. وقيل: حتى أروح ولا يدري ما يصنع به إلى أن اقتدى بالغراب كما تقدم. وفي الخبر عن أنس قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( امتن الله على ابن آدم بثلاث بعد ثلاث بالريح بعد الروح فلولا أن الريح يقع بعد الروح ما دفن حميم حميما وبالدود في الجثة فلولا أن الدود يقع في الجثة لاكتنزتها الملوك وكانت خيرا لهم من الدراهم والدنانير وبالموت بعد الكبر وإن الرجل ليكبر حتى يمل نفسه ويمله أهله وولده وأقرباؤه فكان الموت أستر له ) . وقال قوم: كان قابيل يعلم الدفن، ولكن ترك أخاه بالعراء استخفافا به، فبعث الله غرابا يبحث التراب على هابيل ليدفنه، فقال عند ذلك: « يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين » ، حيث رأى إكرام الله لهابيل بأن قيض له الغراب حتى واراه، ولم يكن ذلك ندم توبة، وقيل: إنما ندمه كان على فقده لا على قتله، وإن كان فلم يكن موفيا شروطه. أو ندم ولم يستمر ندمه؛ فقال ابن عباس: ولو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبة منه. ويقال: إن آدم وحواء أتيا قبره وبكيا أياما عليه. ثم إن قابيل كان على ذروة جبل فنطحه ثور فوقع إلى السفح وقد تفرقت عروقه. ويقال: دعا عليه آدم فانخسفت به الأرض. ويقال: إن قابيل استوحش بعد قتل هابيل ولزم البرية، وكان لا يقدر على ما يأكله إلا من الوحش، فكان إذا ظفر به وقذه حتى يموت ثم يأكله. قال ابن عباس: فكانت الموقوذة حراما من لدن قابيل بن آدم، وهو أول من يساق من الآدميين إلى النار؛ وذلك قوله تعالى: « ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس » [ فصلت: 29 ] الآية، فإبليس رأس الكافرين من الجن، وقابيل رأس الخطيئة من الإنس؛ على ما يأتي بيانه في « حم فصلت » إن شاء الله تعالى. وقد قيل: إن الندم في ذلك الوقت لم يكن توبة، والله بكل ذلك أعلم وأحكم. وظاهر الآية أن هابيل هو أول ميت من بني آدم؛ ولذلك جهلت سنة المواراة؛ وكذلك حكى الطبري عن ابن إسحاق عن بعض أهل العلم بما في كتب الأوائل. وقوله « يبحث » معناه يفتش التراب بمنقاره ويثيره. ومن هذا سميت سورة « براءة » البحوث؛ لأنها فتشت عن المنافقين؛ ومن ذلك قول الشاعر:

إن الناس غطوني تغطيت عنهم وإن بحثوني كان فيهم مباحث

وفي المثل: لا تكن كالباحث على الشفرة؛ قال الشاعر:

فكانت كعنز السوء قامت برجلها إلى مدية مدفونة تستثيرها

 

بعث الله الغراب حكمة؛ ليرى ابن آدم كيفية المواراة، وهو معنى قوله تعالى: « ثم أماته فأقبره » [ عبس: 21 ] ، فصار فعل الغراب في المواراة سنة باقية في الخلق، فرضا على جميع الناس على الكفاية، من فعله منهم سقط فرضه. عن الباقين. وأخص الناس به الأقربون الذين يلونه، ثم الجيرة، ثم سائر المسلمين. وأما الكفار فقد روى أبو داود عن على قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم إن عمك الشيخ الضال قد مات؛ قال: ( أذهب فوار أباك التراب ثم لا تحدثن شيئا حتى تأتيني ) فذهبت فواريته وجئته فأمرني فاغتسلت ودعا لي.

 

ويستحب في القبر سعته وإحسانه؛ لما رواه ابن ماجة عن هشام بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( احفروا وأوسعوا وأحسنوا ) . وروي عن الأدرع السلمي قال: جئت ليلة أحرس النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإذا رجل قراءته عالية، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله: هذا مراء؛ قال: فمات بالمدينة ففرغوا من جهازه فحملوا نعشه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ارفقوا به رفق الله به إنه كان يحب الله ورسوله ) . قال: وحضر حفرته فقال: ( أوسعوا له وسع الله عليه ) فقال بعض أصحابه: يا رسول الله لقد حزنت عليه؟ فقال: ( أجل إنه كان يحب الله ورسوله ) ؛ أخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن زيد بن الحباب. عن موسى بن عبيدة عن سعيد بن أبي سعيد. قال أبو عمر بن عبدالبر: أدرع السلمي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا واحدا، وروى عنه سعيد بن أبي سعيد المقبري؛ وأما هشام بن عامر بن أمية بن الحسحاس بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار الأنصاري، كان يسمى في الجاهلية شهابا فغير النبي صلى الله عليه وسلم اسمه فسماه هشاما، واستشهد أبوه عامر يوم أحد. سكن هشام البصرة ومات بها؛ ذكر هذا في كتاب الصحابة.

 

ثم قيل: اللحد أفضل من الشق؛ فإنه الذي اختاره الله لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفي كان بالمدينة رجلان أحدهما يلحد والآخر لا يلحد؛ فقالوا: أيهما جاء أول عمل عمله، فجاء الذي يلحد فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ذكره مالك في الموطأ عن هشام بن عروة عن أبيه، وأخرجه ابن ماجة عن أنس بن مالك وعائشة رضي الله عنهما. والرجلان هما أبو طلحة وأبو عبيدة؛ وكان أبو طلحة يلحد وأبو عبيدة يشق. واللحد هو أن يحفر في جانب القبر إن كانت تربة صلبة، يوضع فيه الميت ثم يوضع عليه اللبن ثم يهال التراب؛ قال سعد بن أبي وقاص في مرضه الذي هلك فيه: ألحدوا لي لحدا وانصبوا علي اللبن نصبا كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه مسلم. وروى ابن ماجة وغيره عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اللحد لنا والشق لغيرنا ) .

 

روى ابن ماجة عن سعيد بن المسيب قال: حضرت ابن عمر في جنازة فلما وضعها في اللحد قال: بسم الله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أخذ في تسوية اللبن على اللحد قال: اللهم أجرها من الشيطان ومن عذاب القبر، اللهم جاف الأرض عن جنبيها، وصعد روحها ولقها منك رضوانا. قلت يا ابن عمر أشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أم قلته برأيك؟ قال: إني إذا لقادر على القول! بل شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة ثم أتى قبر الميت فحثا عليه من قبل رأسه ثلاثا. فهذا ما تعلق في معنى الآية من الأحكام. والأصل في « يا ويلتي » يا ويلتي ثم أبدل من الياء ألف. وقرأ الحسن على الأصل بالياء، والأول أفصح؛ لأن حذف الياء في النداء أكثر. وهي كلمة تدعو بها العرب عند الهلاك؛ قال سيبويه. وقال الأصمعي: « ويل » بعد. وقرأ الحسن: « أعجزت » بكسر الجيم. قال النحاس: وهي لغة شاذة؛ إنما يقال عجزت المرأة إذا عظمت عجيزتها، وعجزت عن الشيء عجزا ومعجزة ومعجزة. والله أعلم.

 

الآية: 32 ( من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون )

 

قوله تعالى: « من أجل ذلك » أي من جراء ذلك القاتل وجريرته. وقال الزجاج: أي من جنايته؛ يقال: أجل الرجل على أهله شرا يأجل أجلا إذا جنى؛ مثل أخذ يأخذ أخذ. قال الخنوت:

وأهل خباء صالح كنت بينهم قد احتربوا في عاجل أنا آجله

أي جانيه، وقيل: أنا جاره عليهم. وقال عدي بن زيد:

أجل أن الله قد فضلكم فوق من أحكا صلبا بإزار

وأصله الجر؛ ومنه الأجل لأنه وقت يجر إليه العقد الأول. ومنه الآجل نقيض العاجل، وهو بمعنى يجر إليه أمر متقدم. ومنه أجل بمعنى نعم. لأنه انقياد إلى ما جر إليه. ومنه الإجل للقطيع من بقر الوحش؛ لأن بعضه ينجر إلى بعض؛ قاله الرماني. وقرأ يزيد بن القعقاع أبو جعفر: « من أجل ذلك » بكسر النون وحذف الهمزة وهي لغة، والأصل « من إجل ذلك » فألقيت كسرة الهمزة على النون وحذفت الهمزة. ثم قيل: يجوز أن يكون قوله: « من أجل ذلك » متعلقا بقوله: « من النادمين » [ المائدة: 31 ] ، فالوقف على قوله: « من أجل ذلك » . ويجوز أن يكون متعلقا بما بعده وهو « كتبنا » . فـ « من أجل » ابتداء كلام والتمام « من النادمين » ؛ وعلى هذا أكثر الناس؛ أي من سبب هذه النازلة كتبنا. وخص بني إسرائيل بالذكر وقد تقدمته أمم قبلهم كان قتل النفس فيهم محظورا - لأنهم أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل الأنفس مكتوبا، وكان قبل ذلك قولا مطلقا؛ فغلظ الأمر على بني إسرائيل بالكتاب بحسب طغيانهم وسفكهم الدماء. ومعنى « بغير نفس » أي بغير أن يقتل نفسا فيستحق القتل. وقد حرم الله القتل في جميع الشرائع إلا بثلاث خصال: كفر بعد إيمان، أو زني بعد إحصان، أو قتل نفس ظلما وتعديا. « أو فساد في الأرض » أي شرك، وقيل: قطع طريق.

وقرأ الحسن: « أو فسادا » بالنصب على تقدير حذف فعل يدل عليه أول الكلام تقديره؛ أو أحدث فسادا؛ والدليل عليه قوله: « من قتل نفسا بغير نفس » لأنه من أعظم الفساد.

وقرأ العامة: « فساد » بالجر على معنى أو بغير فساد. « فكأنما قتل الناس جميعا » اضطرب لفظ المفسرين في ترتيب هذا التشبيه لأجل أن عقاب من قتل الناس جميعا أكثر من عقاب من قتل واحدا؛ فروي عن ابن عباس أنه قال: المعنى من قتل نبيا أو إمام عدل فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياه بأن شد عضده ونصره فكأنما أحيا الناس جميعا. وعنه أيضا أنه قال: المعنى من قتل نفسا واحدة وانتهك حرمتها فهو مثل من قتل الناس جميعا، ومن ترك قتل نفس واحدة وصان حرمتها واستحياها خوفا من الله فهو كمن أحيا الناس جميعا. وعنه أيضا. المعنى فكأنما قتل الناس جميعا عند المقتول، ومن أحياها واستنقذها من هلكة فكأنما أحيا الناس جميعا عند المستنقذ. وقال مجاهد: المعنى أن الذي يقتل النفس المؤمنة متعمدا جعل الله جزاءه جهنم وغضب عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما؛ يقول: لو قتل الناس جميعا لم يزد على ذلك، ومن لم يقتل فقد حيي الناس منه. وقال ابن زيد: المعنى أن من قتل نفسا فيلزمه من القود والقصاص ما يلزم من قتل الناس جميعا، قال: ومن أحياها أي من عفا عمن وجب له قتله؛ وقاله الحسن أيضا؛ أي هو العفو بعد المقدرة. وقيل: المعنى أن من قتل نفسا فالمؤمنون كلهم خصماؤه؛ لأنه قد وتر الجميع، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا، أي يجب على الكل شكره. وقيل: جعل إثم قاتل الواحد إثم قاتل الجميع؛ وله أن يحكم بما يريد. وقيل: كان هذا مختصا ببني إسرائيل تغليظا عليهم. قال ابن عطية: وعلى الجملة فالتشبيه على ما قيل واقع كله، والمنتهك في واحد ملحوظ بعين منتهك الجميع؛ ومثاله رجلان حلفا على شجرتين ألا يطعما من ثمرهما شيئا، فطعم أحدهما واحدة من ثمر شجرته، وطعم الآخر ثمر شجرته كلها، فقد استويا في الجث. وقيل: المعنى أن من استحل واحدا فقد استحل الجميع؛ لأنه أنكر الشرع. وفي قوله

 

قوله تعالى: « ومن أحياها » تجوز؛ فإنه عبارة عن الترك والإنقاذ من هلكة، وإلا فالإحياء حقيقة - الذي هو الاختراع - إنما هو لله تعالى. وإنما هذا الإحياء بمنزلة قول نمروذ اللعين: « أنا أحيي وأميت » [ البقرة: 258 ] فسمى الترك إحياء. ثم أخبر الله عن بني إسرائيل أنهم جاءتهم الرسل بالبينات، وأن أكثرهم مجاوزون الحد، وتاركون أمر الله.

 

الآيتان: 33 - 34 ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم، إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم )

 

اختلف الناس في سبب نزول هذه الآية؛ فالذي عليه الجمهور أنها نزلت في العرنيين؛ روى الأئمة واللفظ لأبي داود عن أنس بن مالك: أن قوما من عكل - أو قال من عرينة - قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتووا المدينة؛ فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بلقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا، فلما صحوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا النعم؛ فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم من أول النهار فأرسل في آثارهم؛ فلما ارتفع النهار حتى جيء بهم؛ فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون. قال أبو قلابة: فهؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله. وفي رواية: فأمر بمسامير فأحميت فكحلهم وقطع أيديهم وأرجلهم وما حسمهم؛ وفي رواية: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبهم قافة فأتي به قال: فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك: « إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا » الآية. وفي رواية قال أنس: فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشا حتى ماتوا. وفي البخاري قال جرير بن عبدالله في حديثه: فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين حتى أدركناهم وقد أشرفوا على بلادهم، فجئنا بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال جرير: فكانوا يقولون الماء، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( النار ) . وقد حكى أهل التواريخ والسير: أنهم قطعوا يدي الراعي ورجليه، وغرزوا الشوك في عينيه حتى مات، وأدخل المدينة ميتا. وكان اسمه يسار وكان نوبيا. وكان هذا الفعل من المرتدين سنة ست من الهجرة. وفي بعض الروايات عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرقهم بالنار بعد ما قتلهم. وروي عن ابن عباس والضحاك: أنها نزلت بسبب قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فنقضوا العهد وقطعوا السبيل وأفسدوا في الأرض. وفي مصنف أبي داود عن ابن عباس قال: « إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله » إلى قوله: « غفور رحيم » نزلت هذه الآية في المشركين فمن أخذ منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصابه. وممن قال: إن الآية نزلت في المشركين عكرمة والحسن، وهذا ضعيف يرده قوله تعالى: « قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف » [ الأنفال: 38 ] ، وقوله عليه الصلاة والسلام: ( الإسلام يهدم ما قبله ) أخرجه مسلم؛ والصحيح الأول لنصوص الأحاديث الثابتة في ذلك.

وقال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي: الآية نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع السبيل ويسعى في الأرض بالفساد. قال ابن المنذر: قول مالك صحيح، وقال أبو ثور محتجا لهذا القول: وفي الآية دليل على أنها نزلت في غير أهل الشرك؛ وهو قوله جل ثناؤه: « إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم » وقد أجمعوا على أن أهل الشرك إذا وقعوا في أيدينا فأسلموا أن دماءهم تحرم؛ فدل ذلك على أن الآية نزلت في أهل الإسلام. وحكى الطبري عن بعض أهل العلم: أن هذه الآية نسخت فعل النبي صلى الله عليه وسلم في العرنيين، فوقف الأمر على هذه الحدود. وروى محمد بن سيرين قال: كان هذا قبل أن تنزل الحدود؛ يعني حديث أنس؛ ذكره أبو داود. وقال قوم منهم الليث بن سعد: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بوفد عرينة نسخ؛ إذ لا يجوز التمثيل بالمرتد. قال أبو الزناد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قطع الذين سرقوا لقاحه وسمل أعينهم بالنار عاتبه الله عز وجل في ذلك؛ فأنزل الله تعالى في ذلك « إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا » الآية. أخرجه أبو داود. قال أبو الزناد: فلما وعظ ونهي عن المثلة لم يعد. وحكي عن جماعة أن هذه الآية ليست بناسخة لذلك الفعل؛ لأن ذلك وقع في مرتين، لا سيما وقد ثبت في صحيح مسلم وكتاب النسائي وغيرهما قال: إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أن أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاة؛ فكان هذا قصاصا، وهذه الآية في المحارب المؤمن.

قلت: وهذا قول حسن، وهو معنى ما ذهب إليه مالك والشافعي؛ ولذلك قال الله تعالى: « إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم » ومعلوم أن الكفار لا تختلف أحكامهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما تسق قبل القدرة. والمرتد يستحق القتل بنفس الردة - دون المحاربة - ولا ينفى ولا تقطع يده ولا رجله ولا يخلى سبيله بل يقتل إن لم يسلم، ولا يصلب أيضا؛ فدل أن ما اشتملت عليه الآية ما عني به المرتد. وقال تعالى في حق الكفار: « قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف » [ الأنفال: 38 ] . وقال في المحاربين: « إلا الذين تابوا » الآية؛ وهذا بين. وعلى ما قررناه في أول الباب لا إشكال ولا لوم ولا عتاب إذ هو مقتضى الكتاب؛ قال الله تعالى: « فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم » [ البقرة: 194 ] فمثلوا فمثل بهم، إلا أنه يحتمل أن يكون العتاب إن صح على الزيادة في القتل، وذلك تكحيلهم بمسامير محماة وتركهم عطاشى حتى ماتوا، والله أعلم. وحكى الطبري عن السدي: أن النبي صلى الله عليه وسلم يسمل أعين العرنيين وإنما أراد ذلك؛ فنزلت الآية ناهية عن ذلك، وهذا ضعيف جدا؛ فإن الأخبار الثابتة وردت بالسمل؛ وفي صحيح البخاري: فأمر بمسامير فأحميت لهم. ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم هذه الآية مترتب في المحاربين من أهل الإسلام وإن كانت نزلت في المرتدين أو اليهود. وفي قوله تعالى: « إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله » استعارة ومجاز؛ إذ الله سبحانه وتعالى لا يحارب ولا يغالب لما هو عليه من صفات الكمال، ولما وجب له من التنزيه عن الأضداد والأنداد. والمعنى: يحاربون أولياء الله؛ فعبر بنفسه العزيزة عن أوليائه إكبارا لإذايتهم، كما عبر بنفسه عن الفقراء الضعفاء في قوله: « من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا » [ البقرة: 245 ] حثا على الاستعطاف عليهم؛ ومثله في صحيح السنة ( استطعمتك فلم تطعمني ) . الحديث أخرجه مسلم، وقد تقدم في « البقرة » .

 

واختلف العلماء فيمن يستحق اسم المحاربة؛ فقال مالك: المحارب عندنا من حمل على الناس في مصر أو في برية وكابرهم عن أنفسهم وأموالهم دون نائرة ولا ذحل ولا عداوة؛ قال ابن المنذر: اختلف عن مالك في هذه المسألة، فأثبت المحاربة في المصر مرة ونفى ذلك مرة؛ وقالت طائفة: حكم ذلك في المصر أو في المنازل والطرق وديار أهل البادية والقرى سواء وحدودهم واحدة؛ وهذا قول الشافعي وأبي ثور؛ قال ابن المنذر: كذلك هو لأن كلا يقع عليه اسم المحاربة، والكتاب على العموم، وليس لأحد أن يخرج من جملة الآية قوما بغير حجة. وقالت طائفة: لا تكون المحاربة في المصر إنما تكون خارجا عن المصر؛ هذا قول سفيان الثوري وإسحاق والنعمان. والمغتال كالمحارب وهو الذي يحتال في قتل إنسان على أخذ ماله، وإن لم يشهر السلاح لكن دخل عليه بيته أو صحبه في سفر فأطعمه سما فقتله فيقتل حدا لا قودا.

 

واختلفوا في حكم المحارب؛ فقالت طائفة: يقام عليه بقدر فعله؛ فمن أخاف السبيل وأخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف، وإن أخذ المال وقتل قطعت يده ورجله ثم صلب، فإذا قتل ولم يأخذ المال، وإن هو لم يأخذ المال ولم يقتل نفي؛ قاله ابن عباس، وروي عن أبي مجلز والنخعي وعطاء الخراساني وغيرهم. وقال أبو يوسف: إذا أخذ المال وقتل صلب وقتل على الخشبة؛ قال الليث: بالحربة مصلوبا. وقال أبو حنيفة: إذا قتل قتل، وإذا أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، وإذا أخذ المال وقتل فالسلطان مخير فيه، إن شاء قطع يده ورجله وإن شاء لم يقطع وقتله وصلبه؛ قال أبو يوسف: القتل يأتي على كل شيء. ونحوه قول الأوزاعي. وقال الشافعي: إذا أخذ المال قطعت يده اليمنى وحسمت، ثم قطعت رجله اليسرى وحسمت وخلي؛ لأن هذه الجناية زادت على السرقة بالحرابة، وإذا قتل قتل، وإذا أخذ المال وقتل قتل وصلب؛ وروي عنه أنه قال: يصلب ثلاثة أيام؛ قال: وإن حضر وكثر وهيب وكان ردءا للعدو حبس. وقال أحمد: إن قتل قتل، وإن أخذ المال قطعت يده ورجله كقول الشافعي. وقال قوم: لا ينبغي أن يصلب قبل، القتل فيحال بينه وبين الصلاة والأكل والشرب؛ وحكي عن الشافعي: أكره أن يقتل مصلوبا لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة. وقال أبو ثور: الإمام مخير على ظاهر الآية، وكذلك قال مالك، وهو مروي عن ابن عباس، وهو قول سعيد بن المسيب وعمر بن عبدالعزيز ومجاهد والضحاك والنخعي كلهم قال: الإمام مخير في الحكم على المحاربين، يحكم عليهم بأي الأحكام التي أوجبها الله تعالى من القتل والصلب أو القطع أو النفي بظاهر الآية؛ قال ابن عباس: ما كان في القرآن « أو » فصاحبه بالخيار؛ وهذا القول أشعر بظاهر الآية؛ فإن أهل القول الأول الذين قالوا « أو » للترتيب وإن اختلفوا - فإنك تجد أقوالهم أنهم يجمعون عليه حدين فيقولون: يقتل ويصلب؛ ويقول بعضهم: يصلب ويقتل؛ ويقول بعضهم: تقطع يده ورجله وينفى؛ وليس كذلك الآية ولا معنى « أو » في اللغة؛ قال النحاس. واحتج الأولون بما ذكره الطبري عن أنس بن مالك أنه قال: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام عن الحكم في المحارب فقال: « من أخاف السبيل وأخذ المال فأقطع به للأخذ ورجله للإخافة ومن قتل فاقتله ومن جمع ذلك فأصلبه » . قال ابن عطية: وبقي النفي للمخيف فقط والمخيف في حكم القاتل، ومع ذلك فمالك يرى فيه الأخذ بأيسر العذاب والعقاب استحسانا.

 

قوله تعالى: « أو ينفوا من الأرض » اختلف في معناه؛ فقال السدي: هو أن يطلب أبدا بالخيل والرجل حتى يؤخذ فيقام عليه حد الله، أو يخرج من دار الإسلام هربا ممن يطلبه؛ عن ابن عباس وأنس بن مالك ومالك بن أنس والحسن والسدي والضحاك وقتادة وسعيد بن جبير والربيع بن أنس والزهري. حكاه الرماني في كتابه؛ وحكي عن الشافعي أنهم يخرجون من بلد إلى بلد، ويطلبون لتقام عليهم الحدود؛ وقال الليث بن سعد والزهري أيضا. وقال مالك أيضا: ينفى من البلد الذي أحدث فيه هذا إلى غيره ويحبس فيه كالزاني. وقال مالك أيضا والكوفيون: نفيهم سجنهم فينفى من سعة الدنيا إلى ضيقها، فصار كأنه إذا سجن فقد نفي من الأرض إلا من موضع استقراره؛ واحتجوا بقول بعض أهل السجون في ذلك:

خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا

إذا جاءنا السجان يوما لحاجة عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا

حكى مكحول أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من حبس في السجون وقال: أحبسه حتى أعلم منه التوبة، ولا أنفيه من بلد إلى بلد فيؤذيهم؛ والظاهر أن الأرض في الآية هي أرض النازلة وفد تجنب، الناس قديما الأرض التي أصابوا فيها الذنوب؛ ومنه الحديث ( الذي ناء بصدره ونحو الأرض المقدسة ) . وينبغي الإمام إن كان هذا المحارب مخوف الجانب يظن أنه يعود إلى حرابة أو إفساد أن يسجنه في البلد الذي يغرب إليه، وإن كان غير مخوف الجانب فظن أنه لا يعود إلى جناية رح؛ قال ابن عطية: وهذا صريح مذهب مالك أن يغرب ويسن حيث يغرب، وهذا على الأغلب في أنه مخوف، ورجحه الطبري وهو الواضح؛ لأن نفيه من أرض النازلة هو نص الآية، وسجنه بعد بحسب الخوف منه، فإن تاب وفهمت حاله سرح.

 

قوله تعالى: « أو ينفوا من الأرض » النفي أصله الإهلاك؛ ومنه الإثبات والنفي، فالنفي الإهلاك بالإعدام؛ ومنه النفاية لردي المتاع؛ ومنه النفي لما تطاير من الماء عن الدلو. قال الراجز:

كأن متنيه من النفي مواقع الطير على الصفي

 

قال ابن خويز منداد: ولا يراعى المال الذي يأخذه المحارب نصابا كما يراعى في السارق. وقد قيل: يراعى في ذلك النصاب ربع دينار؛ قال ابن العربي، قال الشافعي وأصحاب الرأي: لا يقطع من قطاع الطريق إلا من أخذ قدر ما تقطع فيه يد السارق؛ وقال مالك: يحكم عليه بحكم المحارب وهو الصحيح؛ فإن الله تعالى وقت على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام القطع في السرقة في ربع دينار، ولم يوقت في الحرابة شيئا، بل ذكر جزاء المحارب، فاقتضى ذلك توفية الجزاء لهم على المحاربة عن حبة؛ ثم إن هذا قياس أصل على أصل وهو مختلف فيه، وقياس الأعلى بالأدنى والأدنى بالأسفل وذلك عكس القياس. وكيف يصح أن يقاس المحارب على السارق وهو يطلب خطف المال فإن شعر به فر؛ حتى إن السارق إذا دخل بالسلاح يطلب المال فإن منع منه أو صبح عليه وحارب عليه فهو محارب حكم عليه بحكم المحارب. قال القاضي ابن العربي: كنت في أيام حكمي بين الناس إذا جاءني أحد بسارق، وقد دخل الدار بسكين يحبسه على قلب صاحب الدار وهو نائم، وأصحابه يأخذون مال الرجل، حكمت فيهم بحكم المحاربين، فافهموا هذا من أصل الدين، وارتفعوا إلى يفاع العلم عن حضيض الجاهلين. قلت: اليفع أعلى الجبل ومنه غلام يفعة إذا ارتفع إلى البلوغ؛ والحضيض الحفرة في أسفل الوادي؛ كذا قال أهل اللغة.

 

ولا خلاف في أن الحرابة يقتل فيها من قتل وإن لم يكن المقتول مكافئا للقاتل؛ وللشافعي قولان: أحدهما: أنها تعتبر المكافأة لأنه قتل فاعتبر فيه المكافأة كالقصاص؛ وهذا ضعيف؛ لأن القتل هنا ليس على مجرد القتل وإنما هو على الفساد العام من التخويف وسلب المال؛ قال الله تعالى: « إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا » فأمر تعالى بإقامة الحدود على المحارب إذا جمع شيئين محاربة وسعيا في الأرض بالفساد، ولم يخص شريفا من وضيع، ولا رفيعا من دنيء.

 

وإذا خرج المحاربون فاقتتلوا مع القافلة فقتل بعض المحاربين ولم يقتل بعض قتل الجميع. وقال الشافعي: لا قتل إلا من قتل؛ وهذا أيضا ضعيف؛ فإن من حضر الوقيعة شركاء في الغنيمة وإن لم يقتل جميعهم؛ وقد اتفق معنا على قتل الردء وهو الطليعة، فالمحارب أولى.

 

وإذا أخاف المحاربون السبيل وقطعوا الطريق وجب على الإمام قتالهم من غير أن يدعوهم، ووجب على المسلمين التعاون على قتالهم وهم عن أذى المسلمين، فإن انهزموا لم يتبع منهم مدبرا إلا أن يكون قد قتل وأخذ مالا، فإن كان كذلك أتبع ليؤخذ ويقام عليه ما وجب لجنايته؛ ولا يدفف منهم على جريح إلا أن يكون قد قتل؛ فإن أخذوا وجد في أيديهم مال لأحد بعينه رد إليه أو إلى ورثته، وإن لم يوجد له صاحب جعل في بيت المال؛ وما أتلفوه من مال لأحد غرموه؛ ولا دية لمن قتلوا إذا قدر عليهم قبل التوبة، فإن تابوا وجاؤوا تائبين لم يكن للإمام عليهم سبيل، وسقط عنهم ما كان حدا لله وأخذوا بحقوق الآدميين، فاقتص منهم من النفس والجراح، وكان عليهم ما أتلفوه من مال ودم لأوليائه في ذلك، ويجوز لهم العفو والهبة كسائر الجناة من غير المحاربين؛ هذا مذهب مالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي. وإنما أخذ ما بأيديهم من الأموال وضمنوا قيمه ما استهلكوا؛ لأن ذلك غصب فلا يجوز ملكه لهم، ويصرف إلى أربابه أو يوقفه الإمام عنده حتى يعلم صاحبه. وقال قوم من الصحابة والتابعين: لا يطلب من المال إلا بما وجد عنده، وأما ما استهلكه فلا يطالب به؛ وذكر الطبري ذلك عن مالك من رواية الوليد بن مسلم عنه، وهو الظاهر من فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بحارثة بن بدر الغداني فإنه كان محاربا ثم تاب قبل القدرة عليه، فكتب له بسقوط الأموال والدم عنه كتابا منشورا؛ قال ابن خويز منداد: واختلفت الرواية عن مالك في المحارب إذا أقيم عليه الحد ولم يوجد له مال؛ هل يتبع دينا بما أخذ، أو يسقط عنه كما سقط عن السارق؟ والمسلم والذمي في ذلك سواء.

 

وجمع أهل العلم على أن السلطان ولي من حارب؛ فإن قتل محارب أخا امرئ أو أباه في حال المحاربة، فليس إلى طالب الدم من أمر المحارب شيء، ولا يجوز عفو ولي الدم، والقائم بذلك الإمام؛ جعلوا ذلك بمنزلة حد من حدود الله تعالى. قلت: فهذه جملة من أحكام المحاربين جمعنا غررها، واجتلبنا دررها؛ ومن أغرب ما قيل في تفسيرها وهي:

 

وتفسير مجاهد لها؛ المراد بالمحاربة في هذه الآية الزنى والسرقة؛ وليس بصحيح؛ فإن الله سبحانه بين في كتابه وعلى لسان نبيه أن السارق تقطع يده، وأن الزاني يجلد ويغرب إن كان بكرا، ويرجم إن كان ثيبا محصنا. وأحكام المحارب في هذه الآية مخالف لذلك، اللهم إلا أن يريد إخافة الطريق بإظهار السلاح قصدا للغلبة على الفروج، فهذا أفحش المحاربة، وأقبح من أخذ الأموال وقد دخل في معنى قوله تعالى: « ويسعون في الأرض فسادا » .

 

قال علماؤنا: ويناشد اللص بالله تعالى، فإن كف ترك وإن أبى قوتل، فإن أنت قتلته فشر قتيل ودمه هدر. روى النسائي عن أبي هريرة أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن عدي على مالي؟ قال: ( فانشد بالله ) قال: فإن أبوا علي. قال: ( فانشد بالله ) قال: فإن أبوا علي قال: ( فانشد بالله ) قال: فإن أبوا علي قال: ( فقاتل فإن قتلت ففي الجنة وإن قتلت ففي النار ) وأخرجه البخاري ومسلم - وليس فيه ذكر المناشدة - عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: ( فلا تعطه مالك ) قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: ( فقاتله ) قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: ( فأنت شهيد ) قال: فإن قتلته؟ قال: ( هو في النار ) . قال ابن المنذر: ورينا عن جماعة من أهل العلم أنهم رأوا قتال اللصوص ودفعهم عن أنفسهم وأموالهم؛ هذا مذهب ابن عمر والحسن البصري وإبراهيم النخعي وقتادة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق والنعمان، وبهذا يقول عوام أهل العلم: إن للرجل أن يقاتل عن نفسه وأهله وماله إذا أريد ظلما؛ للأخبار التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخص وقتا دون وقت، ولا حالا دون حال إلا السلطان؛ فإن جماعة أهل الحديث لا يحاربه ولا يخرج عليه؛ للأخبار الدالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي فيها الأمر بالصبر على ما يكون منهم، من الجور والظلم، وترك قتالهم والخروج عليهم ما أقاموا الصلاة.

قلت: وقد اختلف مذهبنا إذا طلب الشيء الخفيف كالثوب والطعام هل يعطونه أو يقاتلون؟ وهذا الخلاف مبني على أصل، وهو هل الأمر بقتالهم لأنه تغيير منكر أو هو من باب دفع الضرر؟ وعلى هذا أيضا ينبني الخلاف في دعوتهم قبل القتال. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « ذلك لهم خزي في الدنيا » لشناعة المحاربة وعظم ضررها، وإنما كانت المحاربة عظيمة الضرر؛ لأن فيها سد سبيل الكسب على الناس، لأن أكثر المكاسب وأعظمها التجارات، وركنها وعمادها الضرب في الأرض؛ كما قال عز وجل: « وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله » [ المزمل: 20 ] فإذا أخيف الطريق انقطع الناس عن السفر، واحتاجوا إلى لزوم البيوت، فانسد باب التجارة عليهم، وانقطعت أكسابهم؛ فشرع الله على قطاع الطريق الحدود المغلظة، وذلك الخزي في الدنيا ردعا لهم عن سوء فعلهم، وفتحا لباب التجارة التي أباحها لعباده لمن أرادها منهم، ووعد فيها بالعذاب العظيم في الآخرة. وتكون هذه المعصية خارجة عن المعاصي، ومستثناة من حديث عبادة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فمن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة ) والله أعلم. ويحتمل أن يكون الخزي لمن عوقب، وعذاب الآخرة لمن سلم في الدنيا، ويجرى هذا الذنب مجرى غيره. ولا خلود لمؤمن في النار على ما تقدم، ولكن يعظم عقابه لعظم الذنب، ثم يخرج إما بالشفاعة وإما بالقبضة، ثم إن هذا الوعيد مشروط الإنفاذ بالمشيئة كقوله تعالى: « ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء » [ النساء: 116 ] أما إن الخوف يغلب عليهم بحسب الوعيد وكبر المعصية.

 

قوله تعالى: « إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم » استثنى جل وعز التائبين قبل أن يقدر عليهم، وأخبر بسقوط حقه عنهم بقوله: « فاعلموا أن الله غفور رحيم » . أما القصاص وحقوق الآدميين فلا تسقط. ومن تاب بعد القدرة فظاهر الآية أن التوبة لا تنفع، وتقام الحدود عليه كما تقدم. وللشافعي قول أنه يسقط كل حد بالتوبة، والصحيح من مذهبه أن ما تعلق به حق لآدمي قصاصا كان أو غيره فإنه لا يسقط بالتوبة قبل القدرة عليه. وقيل: أراد بالاستثناء المشرك إذا تاب وأمن قبل القدرة عليه فإنه تسقط عنه الحدود؛ وهذا ضعيف؛ لأنه إن آمن بعد القدرة عليه لم يقتل أيضا بالإجماع. وقيل: إنما لا يسقط الحد عن المحاربين بعد القدرة عليهم - والله أعلم - لأنهم متهمون بالكذب في توبتهم والتصنع فيها إذا نالتهم يد الإمام، أو لأنه لما قدر عليهم صاروا بمعرض أن ينكل بهم فلم تقبل توبتهم؛ كالمتلبس بالعذاب من الأمم قبلنا، أو من صار إلى حال الغرغرة فتاب؛ فأما إذا تقدمت توبتهم القدرة عليهم، فلا تهمة وهي نافعة على ما يأتي بيانه في سورة « يونس » ؛ فأما الشراب والزناة والسراق إذا تابوا وأصلحوا وعرف ذلك منهم، ثم رفعوا إلى الإمام فلا ينبغي له أن يحدهم، وإن رفعوا إليه فقالوا تبنا لم يتركوا، وهم في هذه الحال كالمحاربين إذا غلبوا. والله أعلم.

 

الآيتان: 35 - 36 ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون، إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم )

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة » الوسيلة هي القربة عن أبي وائل والحسن ومجاهد وقتادة وعطاء والسد وابن زيد وعبدالله بن كثير، وهي فعيلة من توسلت إليه أي تقربت؛ قال عنترة:

إن الرجال لهم إليك وسيلة أن يأخذوك تكحلي وتخصني

والجمع الوسائل؛ قال:

إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا وعاد التصافي بيننا والوسائل

ويقال: منه سلت أسأل أي طلبت، وهما يتساولان أي يطلب كل واحد من صاحبه؛ فالأصل الطلب؛ والوسيلة القربة التي ينبغي أن يطلب بها، والوسيلة درجة في الجنة، وهي التي جاء الحديث الصحيح بها في قوله عليه الصلاة والسلام: ( فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة ) .

 

الآية: 37 ( يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم )

 

قال يزيد الفقير: قيل لجابر بن عبدالله إنكم يا أصحاب محمد تقولون إن قوما يخرجون من النار والله تعالى يقول: « وما هم بخارجين منها » فقال جابر: إنكم تجعلون العام خاصا والخاص عاما، إنما هذا في الكفار خاصة؛ فقرأت الآية كلها من أولها إلى آخرها فإذا هي في الكفار خاصة. و « يقيم » معناه دائم ثابت لا يزول ولا يحول؛ قال الشاعر:

فإن لكم بيوم الشعب مني عذابا دائما لكم مقيما

 

الآيتان: 38 - 39 ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم، فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم )

 

قوله تعالى: « والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما » الآية. لما ذكر تعالى أخذ الأموال بطريق السعي في الأرض والفساد ذكر حكم السارق من غير جراب على ما يأتي بيانه أثناء الباب؛ وبدأ سبحانه بالسارق قبل السارقة عكس الزنى على ما نبينه آخر الباب. وقد قطع السارق في الجاهلية، وأول من حكم بقطعه في الجاهلية الوليد بن المغيرة، فأمر الله بقطعه في الإسلام، فكان أول سارق قطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام من الرجال الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، ومن النساء مرة بنت سفيان بن عبدالأسد من بن مخزوم، وقطع أبو بكر يد اليمني الذي سرق العقد؛ وقطع عمر يد ابن سمرة أخي عبدالرحمن بن سمرة ولا خلاف فيه. وظاهر الآية العموم في كل سارق وليس كذلك؛ لقوله عليه السلام ( لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا ) فبين انه إنما أراد بقوله: « والسارق والسارقة » بعض السراق دون بعض؛ فلا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار، أو فيما قيمته ربع دينار؛ وهذا قول عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي رضي الله عنهم، وبه قال عمر بن عبدالعزيز والليث والشافعي وأبو ثور؛ وقال مالك: تقطع اليد في ربع دينار أو في ثلاثة دراهم، فإن سرق درهمين وهو ربع دينار لانحطاط الصرف لم تقطع يده فيهما. والعروض لا تقطع فيها إلا أن تبلغ ثلاثة دراهم قل الصرف أو كثر؛ فجعل مالك الذهب والورق كل واحد منهما أصلا بنفسه، وجعل تقويم العروض بالدراهم في المشهور. وقال أحمد وإسحاق: إن سرق ذهب فربع دينار، وإن سرق غير الذهب والفضة كانت قيمته ربع دينار أو ثلاثة دراهم من الورق. وهذا نحو ما صار إليه مال في القول الآخر؛ والحجة للأول حديث ابن عمر أن رجلا سرق جحفة، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بها فقومت بثلاثة دراهم. والشافعي حديث عائشة رضي الله عنها في الربع دينار أصلا رد إليه تقويم العروض لا بالثلاثة دراهم على غلاء الذهب ورخصه، وترك حديث ابن عمر لما رآه - والله أعلم - من اختلاف الصحابة في المجن الذي قطع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فابن عمر يقول: ثلاثة دراهم؛ وابن عباس يقول: عشرة دراهم؛ وأنس يقول: خمسة دراهم، وحديث عائشة في الربع دينار حديث صحيح ثابت لم يختلف فيه عن عائشة إلا أن بعضهم وقفه، ورقعه من يجب العمل بقوله لحفظه وعدالته؛ قاله أبو عمر وغيره. وعلى هذا فإن بلغ العرض المسروق ربع دينار بالتقويم قطع سارقه؛ وهو قول إسحاق؛ فقف على هذين الأصلين فهما عمدة الباب، وما أصح ما قيل فيه.

وقال أبو حنيفة وصاحباه والثوري: لا تقطع يد السارق إلا في عشرة دراهم كيلا، أو دينارا ذهبا عينا أو وزنا؛ ولا يقطع حتى خرج بالمتاع من ملك الرجل؛ وحجتهم حديث ابن عباس؛ قال: قوم المجن الذي مع قطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم بعشرة دراهم. ورواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان ثمن المجن يومئذ عشرة دراهم؛ أخرجهما الدارقطني وغيره. وفي المسألة قول رابع، وهو ما رواه الدارقطني عن عمر قال: لا تقطع الخمس إلا في خمس؛ وبه قال سليمان بن يسار وابن أبي ليلى وابن شبرمة؛ وقال أنس بن مالك: قطع أبو بكر - رحمه الله - في مجن قيمته خمسة دراهم. وقول خامس: وهو أن اليد تقطع في أربعة دراهم فصاعدا؛ روي عن أبي هريرة وأبى سعيد الخدري. وقول سادس: وهو أن اليد تقطع في درهم فما فوقه؛ قاله عثمان البتي. وذكر الطبري أن عبدالله بن الزبير قطع في درهم. وقول سابع: وهو أن اليد تقطع في كل ما له قيمة على ظاهر الآية؛ هذا قول الخوارج، وروي عن الحسن البصري، وهي إحدى الروايات الثلاث عنه، والثانية كما روي عن عمر، والثالثة حكاها قتادة عنه أنه قال: تذاكرنا القطع في كم يكون على عهد زياد؟ فاتفق رأينا على درهمين. وهذه أقوال متكافئة والصحيح منها ما قدمناه لك؛ فإن قيل: قد روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده ) وهذا موافق لظاهر الآية في القطع في القليل والكثير؛ فالجواب أن هذا خرج مخرج التحذير بالقليل عن الكثير، كما جاء في معرض الترغيب بالقليل مجرى الكثير في قوله عليه السلام: ( من بنى لله مسجدا ولو مثل مفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة ) . وقيل: إن ذلك مجاز من وجه آخر؛ وذلك أنه إذا رضى بسرقة القليل سرق الكثير فقطعت يده. وأحسن من هذا ما قاله الأعمش وذكره البخاري في آخر الحديث كالتفسير قال: كانوا يرون أنه بيض الحديد، والحبل كانوا يرون أنه منها ما يساوي دراهم. قلت: كحبال السفينة وشبه ذلك. والله أعلم.

 

اتفق جمهور الناس على أن القطع لا يكون إلا على من أخرج من حرز ما يجب فيه القطع. وقال الحسن بن أبي الحسن: إذا جمع الثياب في البيت. وقال الحسن بن أبي الحسن أيضا في قول آخر مثل قول سائر أهل العلم فصار اتفاقا صحيحا. والحمد لله.

 

الحرز هو ما نصب عادة لحفظ أموال الناس، وهو يختلف في كل شيء بحسب حاله على ما يأتي بيانه. قال ابن المنذر: ليس في هذا الباب خبر ثابت لا مقال فيه لأهل العلم، وإنما ذلك كالإجماع من أهل العلم. وحكي عن الحسن وأهل الظاهر أنهم لم يشترطوا الحرز. وفي الموطأ لمالك عن عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي حسين المكي؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل فإذا آواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن ) قال أبو عمر: هذا حديث يتصل معناه من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص وغيره، وعبدالله هذا ثقة عند الجميع، وكان أحمد يثني عليه. وعن عبدالله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الثمر المعلق فقال: ( من أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه ومن خرج بشيء منه فعليه القطع ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه والعقوبة ) وفي رواية. ( وجلدات نكال ) بدل ( والعقوبة ) . قال العلماء: ثم نسخ الجلد وجعل مكانه القطع. قال أبو عمر: قول ( غرامة مثليه ) منسوخ لا أعلم أحد من الفقهاء قال به إلا ما جاء عن عمر في دقيق حاطب بن أبي بلتعة؛ خرج مالك؛ ورواية عن أحمد بن حنبل. والذي عليه الناس في الغرم بالمثل؛ لقوله تعالى: « فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم » [ البقرة: 194 ] . وروى أبو داود عن صفوان بن أمية قال: كنت نائما في المسجد على خميصة لي ثمن ثلاثين درهما، فجاء رجل فاختلسها مني، فأخذ الرجل فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فأمر به ليقطع، قال: فأتيته فقلت أتقطع من أجل ثلاثين درهما؟ أنا أبيعه وأنسئه ثمنها؛ قال: ( فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به ) ؟. ومن جهة النظر أن الأموال خلقت مهيأة للانتفاع بها للخلق أجمعين، ثم الحكمة الأولية حكمت فيها بالاختصاص الذي هو الملك شرعا، وبغيت الأطماع متعلقة بها، والآمال محومة عليها؛ فتكفها المروءة والديانة في أقل الخلق، ويكفها الصون والحرز عن أكثرهم، فإذا أحرزها مالك فقد اجتمع فيها الصون والحرز الذي هو غاية الإمكان للإنسان؛ فإذا هتكا فحشت الجريمة فعظمت العقوبة، وإذا هتك أحد الصونين وهو الملك وجب الضمان والأدب.

 

فإذا اجتمع جماعة فاشتركوا في إخراج نصاب من حرزه، فلا يخلو، إما أن يكون بعضهم ممن يقدر على إخراجه، أولا إلا بتعاونهم، فإذا كان الأول فاختلف فيه علماؤنا على قولين: أحدهما يقطع فيه، والثاني لا يقطع فيه؛ وبه قال أبو حنيفة والشافعي؛ قالا: لا يقطع في السرقة المشتركون إلا بشرط أن يجب لكل واحد من حصته نصاب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا ) وكل واحد من هؤلاء لم يسرق نصابا فلا قطع عليهم. ووجه القطع في إحدى الروايتين أن الاشتراك في الجناية لا يسقط عقوبتها كالاشتراك في القتل؛ قال ابن العربي: وما أقرب ما بينهما فإنا إنما قتلنا الجماعة بالواحد صيانة للدماء؛ لئلا يتعاون على سفكها الأعداء، فكذلك في الأموال مثله؛ لا سيما وقد ساعدنا الشافعي على أن الجماعة إذا اشتركوا في قطع يد رجل قطعوا ولا فرق بينهما. وإن كان الثاني وهو مما لا يمكن إخراجه إلا بالتعاون فإنه يقطع جميعهم بالاتفاق من العلماء؛ ذكره ابن العربي.

 

فإن اشتركوا في السرقة بأن نقب واحد الحرز وأخرج آخر، فإن كانا متعاونين قطعا. وإن انفرد كل منهما بفعله دون اتفاق بينهما، بأن يجيء آخر فيخرج فلا قطع على واحد منهما. وإن تعاونا في النقب وانفرد أحدهما بالإخراج فالقطع عليه خاصة؛ وقال الشافعي: لا قطع؛ لأن هذا نقب ولم يسرق، والآخر سرق من حرز مهتوك الحرمة. وقال أبو حنيفة: إن شارك في النقب ودخل وأخذ قطع. ولا يشترط في الاشتراك في النقب التحامل على آلة واحدة، بل التعاقب في الضرب تحصل به الشركة.

 

ولو دخل أحدهما فأخرج المتاع إلى باب الحرز فأدخل الآخر يده فأخذه فعليه القطع، ويعاقب الأول؛ وقال أشهب: يقطعان. وإن وضعه خارج الحرز فعليه القطع لا على الآخذ، وإن وضعه في وسط النقب فأخذه الآخر والتقت أيديهما في النقب قطعا جميعا.

 

والقبر والمسجد حرز، فيقطع النباش عند الأكثر؛ وقال أبو حنيفة: لا قطع عليه؛ لأنه سرق من غير حرز ما معرضا للتلف لا مالك له؛ لأن الميت لا يملك. ومنهم من ينكر السرقة؛ لأنه ليس فيه ساكن، وإنما تكون السرقة بحيث تتقى الأعين، ويتحفظ من الناس؛ وعلى نفي السرقة عول أهل ما وراء النهر. وقال الجمهور: هو سارق لأنه تدرع الليل لباسا وأتقى الأعين، وقصد وقتا لا ناظر فيه ولا ما عليه، فكان بمنزلة ما لو سرق في وقت بروز الناس للعيد، وخلو البلد من جميعهم. وأما قولهم: إن القبر غير حرز فباطل؛ لأن حرز كل شيء بحسب حال الممكنة فيه. وأما قولهم: إن الميت لا ملك فباطل أيضا؛ لأنه لا يجوز ترك الميت عاريا فصارت هذه الحاجة قاضية بأن القبر حرز. وقد نبه الله تعالى عليه بقول: « ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا » [ المرسلات: 25 - 26 ] ليسكن فيها حيا، ويدفن فيها ميتا. وأما قولهم: إنه عرضة للتلف؛ فكل ما يلبسه الحي أيضا معرض للتلف والإخلاق بلباسه، إلا أن أحد الأمرين أعجل من الثاني؛ وقد روى أبو داود عن أبي ذر قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت فيه بالوصيف ) ، يعني القبر؛ قلت: الله ورسول أعلم قال: ( عليك بالصبر ) قال حماد: فبهذا قال من قال تقطع يد السارق؛ لأنه دخل على الميت بيته. وأما المسجد، فمن سرق حصره قطع؛ رواه عيسى عن ابن القاسم، وإن لم يكن للمسجد باب؛ ورآها محرزة. وإن سرق الأبواب قطع أيضا؛ وروي عن ابن القاسم أيضا إن كانت سرقته للحصر نهارا لم يقطع، وإن كان تسور عليها ليلا قطع؛ وذكر عن سحنون إن كانت حصره خيط بعضها إلى بعض قطع، وإلا لم يقطع. قال أصبغ: يقطع سارق حصر المسجد وقناديله وبلاطه، كما لو سرق بابه مستسرا أو خشبة من سقفه أو من جوائزه. وقال أشهب في كتاب محمد: لا قطع في شيء من حصر المسجد وقناديله وبلاطه.

 

واختلف العلماء هل يكون غرم مع القطع أم لا؟ فقال أبو حنيفة: لا يجتمع الغرم مع القطع بحال؛ لأن الله سبحانه قال: « والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله » ولم يذكر غرما. وقال الشافعي: يغرم قيمة السرقة موسرا كان أو معسرا، وتكون دينا عليه إذا أيسر أداه؛ وهو قول أحمد وإسحاق. وأما علماؤنا مالك وأصحابه فقالوا: إن كانت العين قائمة ردها، وإن تلفت فإن كان موسرا غرم، وإن كان معسرا لم يتبع دينا ولم يكن عليه شيء؛ وروى مالك مثل، ذلك عن الزهري؛ قال الشيخ أبو إسحاق: وقد قيل إنه يتبع بها دينا مع القطع موسرا كان أو معسرا؛ قال: وهو قول غير واحد من علمائنا من أهل المدينة، واستدل على صحته بأنهما حقان لمستحقين فلا يسقط أحدهما الآخر كالدية والكفارة، ثم قال: وبهذا أقول. واستدل القاضي أبو الحسن للمشهور بقوله صلى الله عليه وسلم: ( إذا أقيم على السارق الحد فلا ضمان عليه ) وأسنده في كتابه. وقال بعضهم: إن الإتباع بالغرم عقوبة، والقطع عقوبة، ولا تجتمع عقوبتان؛ وعليه عول القاضي عبدالوهاب. والصحيح قول الشافعي ومن وافقه؛ قال الشافعي: يغرم السارق ما سرق موسرا كان أو معسرا؛ قطع أو لم يقطع، وكذلك إذا قطع الطريق؛ قال: ولا يسقط الحد لله ما أتلف للعباد، وأما ما احتج به علماؤنا من الحديث ( إذا كان معسرا ) فبه احتج الكوفيون وهو قول الطبري، ولا حجة فيه؛ رواه النسائي والدارقطني عن عبدالرحمن بن عوف. قال أبو عمر: هذا حديث ليس بالقوي ولا تقوم به حجة، وقال ابن العربي: وهذا حديث باطل. وقال الطبري: القياس أن عليه غرم ما استهلك. ولكن تركنا ذلك اتباعا للأثر في ذلك. قال أبو عمر: ترك القياس لضعيف الأثر غير جائز؛ لأن الضعيف لا يوجب حكما.

 

واختلف في قطع يد من سرق المال من الذي سرقه؛ فقال علماؤنا: يقطع. وقال الشافعي: لا يقطع؛ لأنه سرق من غير مالك ومن غير حرز. وقال علماؤنا: حرمة المالك عليه باقية لم تنقطع عنه، ويد السارق كلا يد، كالغاصب لو سرق منه المال المغصوب قطع، فإن قيل: اجعلوا حرزه بلا حرز؛ قلنا: الحرز قائم والملك قائم ولم يبطل الملك فيه فيقولوا لنا أبطلوا الحرز.

 

واختلفوا إذا كرر السرقة بعد القطع في العين المسروقة؛ فقال الأكثر: يقطع. وقال أبو حنيفة: لا قطع عليه. وعموم القرآن يوجب عليه القطع، وهو يرد قوله. وقال أبو حنيفة أيضا في السارق يملك الشيء المسروق بشراء أو هبة قبل القطع: فإنه لا يقطع، والله تعالى يقول: « والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما » فإذا وجب القطع حقا لله تعالى لم يسقطه شيء.

 

قرأ الجمهور « والسارق » بالرفع. قال سيبويه: المعنى وفيما فرض عليكم السارق والسارقة. وقيل: الرفع فيهما على الابتداء والخبر « فاقطعوا أيديهما » . وليس القصد إلى معين إذ لو قصد معينا لوجب النصب؛ تقول: زيدا اضربه؛ بل هو كقولك: من سرق فاقطع يده. قال الزجاج: وهذا القول هو المختار. وقرئ « والسارق » بالنصب فيهما على تقدير اقطعوا السارق والسارقة؛ وهو اختيار سيبويه؛ لأن الفعل بالأمر أولى؛ قال سيبويه رحمه الله تعالى: الوجه في كلام العرب النصب؛ كما تقول: زيدا اضربه؛ ولكن العامة أبت إلا الرفع؛ يعني عامة القراء وجلهم، فأنزل سيبويه النوع السارق منزلة الشخص المعين. وقرأ ابن مسعود « والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم » وهو يقوي قراءة الجماعة. والسرق والسرقة بكسر الراء فيهما هو اسم الشيء المسروق، والمصدر من سرق سرقا بفتح الراء. قاله الجوهري. وأصل هذا اللفظ إنما هو أخذ الشيء في خفية من الأعين، ومنه استرق السمع، وسارقه النظر. قال ابن عرفة: السارق عند العرب هو من جاء مستترا إلى حرز فأخذ منه ما ليس له، فإن أخذ من ظاهر فهو مختلس ومستلب ومنتهب ومحترس، فإن تمنع بما في يده فهو غاصب.

قلت: وفي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( وأسوأ السرقة الذي يسرق صلاته ) قالوا: وكيف يسرق صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها ) خرجه الموطأ وغيره، فسماه سارقا وإن كان ليس سارقا من حيث هو موضع الاشتقاق، فإنه ليس قيه مسارقة الأعين غالبا.

 

قوله تعالى: « فاقطعوا » القطع معناه الإبانة والإزالة، ولا يجب إلا بجمع أوصاف تعتبر في السارق وفي الشيء المسروق، وفي الموضع المسروق منه، وفي صفته. فأما ما يعتبر في السارق فخمسة أوصاف؛ وهي البلوغ والعقل، وأن يكون غير مالك للمسروق منه، وألا يكون له عليه ولاية، فلا يقطع العبد إن سرق من مال سيده، وكذلك السيد إن أخذ مال عبده لا قطع بحال؛ لأن العبد وماله لسيده. ولم يقطع أحد بأخذ مال عبده لأنه أخذ لماله، وسقط قطع العبد بإجماع الصحابة وبقول الخليفة: غلامكم سرق متاعكم. وذكر الدارقطني عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ليس على العبد الآبق إذا سرق قطع ولا على الذمي ) قال: لم يرفعه غير فهد بن سليمان، والصواب أنه موقوف. وذكر ابن ماجة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا سرق العبد فبيعوه ولو بنش ) أخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة عن أبي عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبي هريرة؛ قال ابن ماجة: وحدثنا جبارة بن المغلس حدثنا حجاج بن تميم عن ميمون بن مهران عن ابن عباس؛ أن عبدا من رقيق الخمس سرق من الخمس، فرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقطعه. وقال: ( مال اله سرق بعضه بعضا ) وجبارة بن المغلس متروك؛ قاله أبو زرعة الرازي. ولا قطع على صبي ولا مجنون. ويجب على الذمي والمعاهد، والحربي إذا دخل بأمان. وأما ما يعتبر في الشيء المسروق فأربعة أوصاف؛ وهي النصاب وقد مضى القول فيه، وأن يكون مما يتمول ويتملك ويحل بيعه، وإن كان مما لا يتمول ولا يحل بيعه كالخمر والخنزير فلا يقطع فيه باتفاق حاشا الحر الصغير عند مالك، وابن القاسم؛ وقيل: لا قطع عليه؛ وبه قال الشافعي وأبو حنيفة؛ لأنه ليس بمال. وقال علماؤنا: هو من أعظم المال؛ ولم يقطع السارق في المال لعينه. وإنما قطع لتعلق النفوس به، وتعلقها بالحر أكثر من تعلقها بالعبد. وإن كان مما يجوز تملكه ولا يجوز بيعه كالكلب المأذون في اتخاذه ولحوم الضحايا، ففي ذلك اختلاف بين ابن القاسم وأشهب. قال ابن القاسم: ولا يقطع سارق الكلب؛ وقال أشهب: ذلك في المنهي عن اتخاذه، فأما المأذون في اتخاذه فيقطع سارقه. قال: ومن سرق لحم أضحية أو جلدها قطع إذا كان قيمة ذلك ثلاثة دراهم. وقال ابن حبيب قال أصبغ: إن سرق الأضحية قبل الذبح قطع؛ وأما إن سرقها بعد الذبح فلا يقطع. وإن كان مما يجوز اتخاذ أصله وبيعه، فصنع منه ما لا يجوز استعمال كالطنبور والملاهي من المزمار والعود وشبهه من آلات اللهو فينظر؛ فإن كان يبقى منها بعد فساد صورها وإذهاب المنفعة المقصودة بها ربع دينار فأكثر قطع. وكذلك الحكم في أواني الذهب والفضة التي لا يجوز استعمالها ويؤمر بكسرها فإنما يقوم ما فيها من ذهب أو فضة دون صنعة. وكذلك الصليب من ذهب أو فضة، والزيت النجس إن كانت قيمته على نجاسته نصابا قطع فيه. الوصف الثالث؛ ألا يكون للسارق في ملك، كمن سرق ما رهنه أو ما استأجره، ولا شبهة ملك، على اختلاف بين علمائنا وغيرهم في مراعاة شبهة ملك كالذي يسرق من المغنم أو من بيت المال؛ لأن له فيه نصيبا. وروي عن علي رضي الله عنه أنه أتي برجل سرق مغفرا من الخمس فلم ير عليه قطعا وقال: له فيه نصيب. وعلى هذا مذهب الجماعة في بيت المال. وقيل: يجب عليه القطع تعلقا بعموم لفظ آية السرقة. وأن يكون مما تصح سرقته كالعبد الصغير والأعجمي الكبير؛ لأن ما لا تصح سرقته كالعبد الفصيح فإنه. لا يقطع فيه. وأما ما يعتبر في الموضع المسروق منه فوصف واحد وهو الحرز لمثل ذلك الشيء المسروق. وجملة القول فيه أن كل شيء له مكان معروف فمكانه حرزه، وكل شيء معه حافظ فحافظه حرزه؛ فالدور والمنازل والحوانيت جرز لما فيها، غاب عنها أهلها أو حضروا، وكذلك بيت المال حرز لجماعة المسلمين، والسارق لا يستحق فيه شيئا، وإن كان فبل السرقة ممن يجوز أن يعطيه الإمام وإنما يتعين حق كل مسلم بالعطية؛ ألا ترى أن الإمام قد يجوز أن يصرف جميع المال إلى وجه من وجوه المصالح ولا يفرقه في الناس، أو يفرقه في بلد دون بلد آخر ويمنع منه قوما دون فوم؛ ففي التقدير أن هذا السارق ممن لا حق له فيه. وكذلك المغانم لا تخلو: أن تتعين بالقسمة؛ فهو ما ذكرناه في بيت المال؛ وتتعين بنفس التناول لمن شهد الواقعة؛ فيجب أن براعي قدر ما سرق، فإن كان فوق حقه قطع وإلا لم يقطع.

 

وظهور الدواب حرز لما حملت، وأفنية الحوانيت حرز لما وضع فيها في موقف البيع وإن لم يكن هناك حانوت، كان معه أهله أم لا؛ سرقت بليل أو نهار. وكذلك موقف الشاة في السوق مربوطة أو غير مربوطة، والدواب على مرابطها محرزة، كان معها أهلها أم لا؛ فإن كانت الدابة بباب المسجد أو في السوق لم تكن محرزة إلا أن يكون معها حافظ؛ ومن ربطها بفنائه أو اتخذ موضعا مربطا لدوابه فإنه حرز لها. والسفينة حرز لما فيها وسواء كانت سائبة أو مربوطة؛ فإن سرقت السفينة نفسها فهي كالدابة إن كانت سائبة فليست بمحرزة، وإن كان صاحبها ربط في موضع وأرساها فيه فربطها جرز؛ وهكذا إن كان معها أحد حيثما كانت فهي محرزة، كالدابة بباب المسجد معها حافظ؛ إلا أن ينزلوا بالسفينة في سفرهم منزلا فيربطوها فهو حرز لها كان صاحبها معها أم لا. ولا خف أن الساكنين في دار واحدة كالفنادق التي يسكن فيها كل رجل بيته على حدة، يقطع من سرق منهم من بيت صاحبه إذا أخذ وقد خرج بسرقته إلى قاعة الدار شيئا وإن بها بيته ولا خرج بها من الدار.

 

ولا خلاف في أنه لا يقطع من سرق منهم من قاعة الدار شيئا وإن أدخله بيته أو أخرجه من الدار؛ لأن قاعتها مباحة للجميع للبيع والشراء، إلا أن تكون دابة في مربطها أو ما يشبهها من المتاع.

 

ولا يقطع الأبوان بسرقة مال ابنهما؛ لقوله عليه السلام: ( أنت ومالك لأبيك ) . ويقطع في سرقة مالهما؛ لأنه لا شبهة له فيه. وقيل: لا يقطع؛ وهو قول ابن وهب وأشهب؛ لأن الابن ينبسط في مال أبيه في العادة، ألا ترى أن العبد لا يقطع في مال سيده فأن لا يقطع ابنه في ماله أولى. واختلفوا في الجد؛ فقال مالك وابن القاسم: لا يقطع. وقال أشهب: يقطع. وقول مالك أصح انه أب؛ قال مالك: أحب إلى ألا يقطع الأجداد من قبل الأب والأم وإن لم تجب لهم نفقة. قال ابن القاسم وأشهب: ويقطع من سواهما من القرابات. قال ابن القاسم: ولا يقطع من سرق من جوع أصابه. وقال أبو حنيفة: لا قطع على أحد من ذوي المحارم مثل العمة والخالة والأخت وغيرهم؛ وهو قول الثوري. وقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق: يقطع من سرق من هؤلاء. وقال أبو ثور: يقع كل سارق سرق ما تقطع فيه اليد؛ إلا أن يجمعوا على سيئ فيسلم للإجماع. والله أعلم.

 

واختلفوا في سارق المصحف؛ فقال الشافعي وأبو يوسف وأبو ثور: يقطع إذا كانت قيمته ما تقطع فيه اليد؛ وبه قال ابن القاسم. وقال النعمان: لا يقطع من سرق مصحفا. قال ابن المنذر: يقطع سارق المصحف. واختلفوا في الطرار يطر النفقة من الكم، فقالت طائفة: يقطع من طر من داخل الكم أو من خارج؛ وهو قول مالك والأوزاعي وأبي ثور ويعقوب. قال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن وإسحاق: إن كانت الدراهم مصرورة في ظاهر كمه فطرها فسرقها لم يقطع، وإن كانت مصرورة إلى داخل الكم فأدخل يده فسرقها قطع. وقال الحسن: يقطع. قال ابن المنذر: يقطع على أي جهة طر.

 

واختلفوا في قطع اليد في السفر، وإقامة الحدود في أرض الحرب؛ فقال مالك والليث بن سعد: تقام الحدود في أرض الحرب ولا فرق بين دار الحرب والإسلام. وقال الأوزاعي: يقيم من غزا على جيش - وإن لم يكن أمير مصر من الأمصار - الحدود في عسكره غير القطع. وقال أبو حنيفة: إذا غزا الجند أرض الحرب وعليهم أمير فإنه لا يقيم الحدود في عسكره، إلا أن يكون إمام مصر أو الشام أو العراق أو ما أشبهه فيقيم الحدود في عسكره. استدل الأوزاعي ومن قال بقوله بحديث جنادة بن أبي أمية قال: كنا مع بسر بن أرطأة في البحر، فأتي بسارق يقال له مصدر قد سرق بختية، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا تقطع الأيدي في الغزو ) ولولا ذلك لقطعته. يسر هذا يقال ولد في زمن النبي صلى الله عليه. وسلم، وكانت له أخبار سوء في جانب علي وأصحابه، وهو الذي ذبح طفلين لعبدالله بن العباس ففقدت أمهما عقلها فهامت على وجهها، فدعا عليه علي رضي الله عنه أن يطيل الله عمره ويذهب عقله، فكان كذلك. قال يحيى بن معين: كان بسر بن أرطأة رجل سوء. استدل من قال بالقطع بالقطع بعموم القرآن؛ وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. وأولى ما يحتج به لمن منع القطع في أرض الحرب والحدود: مخافة أن يلحق ذلك بالشرك. والله أعلم.

 

فإذا قطعت اليد أو الرجل فإلى أين تقطع. فقال الكافة: تقطع من الرسغ والرجل من المفصل، ويحسم الساق إذا قطع. وقال بعضهم: يقطع إلى المرفق. وقيل: إلى المنكب، لأن اسم اليد يتناول ذلك. وقال علي رضي الله عنه: تقطع الرجل من شطر القدم ويترك له العقب؛ وبه قال أحمد وأبو ثور. قال ابن المنذر: وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقطع يد رجل فقال: ( أحسموها ) وفي إسناده مقال؛ واستحب ذلك جماعة منهم الشافعي وأبو ثور وغيرهما، وهذا أحسن وهو أقرب إلى البرء وأبعد من التلف.

 

لا خلاف أن اليمنى هي التي تقطع أولا، ثم اختلفوا إن سرق ثانية؛ فقال مالك وأهل المدينة والشافعي وأبو ثور وغيرهم: تقطع رجله اليسرى، ثم في الثالثة يده اليسرى، ثم في الرابعة رجله اليمنى، ثم إن سرق خامسة يعزر ويحبس. وقال أبو مصعب من علمائنا: يقتل بعد الرابعة؛ واحتج بحديث خرجه النسائي عن الحارث بن حاطب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بلص فقال: ( اقتلوه ) فقالوا: يا رسول الله، إنما سرق، قال: ( اقتلوه ) ، قالوا: يا رسول إنما سرق، قال: ( اقطعوا يده ) ، قال: ثم سرق فقطعت رجع، ثم سرق على عهد أبي بكر رضي الله عنه حتى قطعت قوائمه كلها، ثم سرق أيضا الخامسة، فقال أبو بكر رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بهذا حين قال: ( اقتلوه ) ثم دفعه إلى فتية من قريش ليقتلوه؛ منهم عبدالله بن الزبير وكان يحب الإمارة فقال: أمروني عليكم فأمروه عليهم، فكان إذا ضرب ضرب حتى قتلوه. وبحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بسارق في الخامسة فقال: ( اقتلوه ) . قال جابر: فانطلقنا به فقتلناه، ثم اجتررناه فرميناه في بئر ورمينا عليه الحجارة. رواه أبو داود وخرجه النسائي وقال: هذا حديث منكر وأحد رواته ليس بالقوي. ولا أعلم في هذا الباب حديثا صحيحا. قال ابن المنذر: ثبت عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما قطعا اليد بعد اليد والرجل بعد الرجل. وقيل: تقطع في الثانية رجله اليسرى ثم لا قطع في غيرها، ثم إذا عاد عزر وحبس؛ وروي عن علي بن أبي طالب، وبه قال الزهري وحماد بن أبي سليمان وأحمد بن حنبل. قال الزهري: لم يبلغنا في السنة إلا قطع اليد والرجل. وقال عطاء: تقطع يده اليمنى خاصة ولا يعود عليه القطع: ذكره ابن العربي وقال: أما قول عطاء فإن الصحابة قالوا قبله خلافه.

 

واختلفوا في الحاكم يأمر بقطع يد السارق اليمنى فتقطع يساره، فقال قتادة: قد أقيم عليه الحد ولا يزاد عليه؛ وبه قال مالك: إذا أخطأ القاطع فقطع شمال، وبه قال أصحاب الرأي استحسانا. وقال أبو ثور: على الحزاز الدية لأنه أخطأ وتقطع يمينه إلا أن يمنع بإجماع. قال ابن المنذر: ليس يخلو قطع يسار السارق من أحد معنيين؛ إما أن يكون القاطع عمد ذلك فعليه الود، أو يكون أخطأ فديته على عاقلة القاطع؛ وقطع يمين السارق يجب، ولا يجوز إزالة ما أوجب الله سبحانه بتعدي معتد أو خطأ مخطئ. وقال الثوري في الذي يقتص منه في يمينه فيقدم شماله فتقطع؛ قال: تقطع يمينه أيضا. قال ابن المنذر: وهذا صحيح. وقالت طائفة: تقطع يمينه إذا برئ؛ وذلك أنه هو أتلف يساره، ولا شيء على القاطع في قول أصحاب الرأي، وقياس قول الشافعي. وتقطع يمينه إذا برئت. وقال قتادة والشعبي: لا شيء على القاطع وحسبه ما قطع منه.

 

وتعلق يد السارق في عنقه، قال عبدالله بن محيريز سألت فضالة عن تعليق يد السارق في عنقه أمن السنة هو؟ فقال: جيء رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق فقطعت يده، ثم أمر بها فعلقت في عنقه؛ أخرجه الترمذي - وقال: حديث حسن غريب - وأبو داود والنسائي.

 

إذا وجب حد السرقة فقتل السارق رجلا؛ فقال مالك: يقتل ويدخل القطع فيه. وقال الشافعي: يقطع ويقتل؛ لأنهما حقان لمستحقين فوجب أن يوفى لكل واحد منهما حقه، وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى، وهو اختيار ابن العربي.

 

قوله تعالى: « أيديهما » لما قال « أيديهما » ولم يقل يديهما تكلم علماء اللسان في ذلك - قال ابن العربي: وتابعهم الفقهاء على ما ذكروه حسن ظن بهم - فقال الخليل بن أحمد والفراء: كل شيء يوجد خلق الإنسان إذا أضيف إلى اثنين جمع تقول: هشمت رؤوسهما وأشبعت بطونهما، و « إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما » [ التحريم: 4 ] ، ولهذا قال: « اقطعوا أيديهما » ولم يقل يدهما. والمراد فاقطعوا يمينا من هذا ويمينا من هذا. ويجوز في اللغة؛ فاقطعوا يديهما وهو الأصل؛ وقد قال الشاعر فجمع بين اللغتين:

ومهمهمين قذفين مرتين ظهراهما مثل ظهور الترسين

وقيل: فعل هذا لأنه لا يشكل. وقال سيبويه: إذا كان مفردا قد يجمع إذا أردت به التثنية، وحكي عن العرب؛ وضعا رحالهما. ويريد به رحلي راحلتيهما؛ قال ابن العربي: وهذا بناء على أن اليمين وحدها هي التي تقطع وليس كذلك، بل تقطع الأيدي والأرجل، فيعود قول « أيديهما » إلى أربعة وهي جمع في الاثنين، وهما تثنية فيأتي الكلام على فصاحته، ولو قال: فاقطعوا أيديهم لكان وجها؛ لأن السارق والسارقة لم يرد بهما شخصين خاصة، وإنما هما اسما جنس يعمان ما لا يحصى.

 

قوله تعالى: « جزاء بما كسبا » مفعول من أجله، وإن شئت كان مصدرا وكذا « نكالا من الله » يقال: نكلت به إذا فعلت به ما يوجب أن ينكل به عن ذلك الفعل « والله عزيز » لا يغالب « حكيم » فيما يفعله؛ وقد تقدم.

 

قوله تعالى « فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح » شرط وجوابه « فإن الله يتوب عليه » « من بعد ظلمه » من بعد السرقة؛ فإن الله يتجاوز عنه. والقطع لا يسقط بالتوبة. وقال عطاء وجماعة: يسقط بالتوبة قبل القدوة على السارق. وقال بعض الشافعية وعزاه إلى الشافعي قولا. وتعلقوا بقول الله تعالى: « إلا الذين تابوا من قبل أن تقدوا عليهم » وذلك استثناء من الوجوب، فوجب حمل جميع الحدود عليه. وقال علماؤنا: هذا بعينه دليلنا؛ لأن الله سبحانه وتعالى لما ذكر حد المحارب قال: « إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم » وعطف عليه حد السارق وقال فيه: « فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه » فلو كان مثله في الحكم ما غاير الحكم بينهما. قال ابن العربي: ويا معشر الشافعية سبحان الله! أين الدقائق الفقهية، والحكم الشرعية، التي تستنبطونها من غوامض المسائل؟! ألم تروا إلى المحارب المستبد بنفسه، المعتدي بسلاح، الذي يفتقر الإمام معه إلى الإيجاف بالخيل والركاب كيف أسقط جزاءه بالتوبة استنزالا عن تلك الحالة، كما فعل بالكافر في مغفرة جميع ما سلف استئلافا على الإسلام؛ فأما السارق والزاني وهما في قبضة المسلمين وتحت حكم الإمام، فما الذي يسقط عنهم حكم ما وجب عليهم؟! أو كيف يجوز أن يقال: يقاس على المحارب وقد فرقت بينهما الحكمة والحالة! هذا ما لا يليق بمثلكم يا معشر المحققين. وإذا ثبت أن الحد لا يسقط بالتوبة، فالتوبة مقبولة والقطع كفارة له. « وأصلح » أي كما تاب عن السرقة تاب عن كل ذنب. وقيل: « وأصلح » أي ترك المعصية بالكلية، فأما من ترك السرقة بالزنى أو التهود بالتنصر فهذا ليس بتوبة، وتوبة الله على العبد أن يوفقه للتوبة. وقيل: أن تقبل منه التوبة.

 

يقال: بدأ الله بالسارق في هذه الآية قبل السرقة، وفي الزنى بالزانية قبل الزاني ما الحكمة في ذلك؟ فالجواب أن يقال: لما كان حب المال على الرجال أغلب، وشهوة الاستمتاع على النساء أغلب بدأ بهما في الموضع؛ هذا أحد الوجوه في المرأة على ما يأتي بيانه في سورة « النور » من البداية بها على الزاني إن شاء الله. ثم جعل الله قطع السرقة قطع اليد لتناول المال، ولم يجعل حد الزنى قطع الذكر مع مواقعة الفاحشة به لثلاثة معان: أحدها: أن للسارق مثل يده التي قطعت فإن انزجر بها اعتاض بالثانية، وليس للزاني مثل ذكره إذا قطع فلم يعتض بغيره لو انزجر بقطعه. الثاني: أن الحد زجر للمحدود وغيره، وقطع اليد في السرقة ظاهر: وقطع الذكر في الزنى باطن. الثالث: أن قطع الذكر فيه إبطال للنسل وليس في قطع اليد إبطال. والله أعلم.

 

الآية: 40 ( ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير )

 

الآية. خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وغيره؛ أي لا قرابة بين الله تعالى وبين أحد توجب المحاباة حتى يقول القائل: نحن أبناء الله وأحباؤه، والحدود تقام على كل من يقارف موجب الحد. وقيل: أي له أن يحكم بما يريد؛ فلهذا فرق بين المحارب وبين السارق غير المحارب. وقد تقدم نظائر هذه الآية والكلام فيها فلا معنى لإعادتها والله الموفق. هذا ما يتعلق بآية السرقة من بعض أحكام السرقة. والله أعلم.

 

الآية: 41 ( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم )

 

قوله تعالى: « يا أيها الرسول لا يحزنك » الآية في سبب نزولها ثلاثة أقوال: قيل نزلت في بني قريظة والنضير؛ قتل قرظي نضيريا وكان بنو النضير إذا قتلوا من بني قريظة لم يقيدوهم، وإنما يعطونهم الدية على ما يأتي بيانه، فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحكم بالتسوية بين القرظي والنضيري، فساءهم ذلك ولم يقبلوا. وقيل؛ إنها نزلت في شأن أبي لبابة حين أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة فخانه حين أشار إليهم أنه الذبح. وقيل: إنها نزلت في زني اليهوديين وقصة الرجم؛ وهذا أصح الأقوال؛ رواه الأئمة مالك والبخاري ومسلم والترمذي وأبو داود. قال أبو داود عن جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم ( ائتوني بأعلم رجلين منكم ) فجاؤوا بابني صوريا فنشدهما الله تعالى ( كيف تجدان أمر هذين في التوراة ) ؟ قالا: نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها كالمرور في المكحلة رجما. قال: ( فما يمنعكم أن ترجموهما ) ، قالا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل. فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالشهود، فجاؤوا فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمهما. وفي غير الصحيحين عن الشعبي عن جابر بن عبدالله قال: زنى رجل من أهل فدك، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا محمدا عن ذلك، فإن أمركم بالجلد فخذوه، وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه؛ فسألوه فدعا بابن صوريا وكان عالمهم وكان أعور؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنشدك الله كيف تجدون حد الزاني في كتابكم ) ، فقال ابن صوريا: فأما إذ ناشدتني الله فإنا نجد في التوراة أن النظر زنية، والاعتناق زنية، والقبلة زنية، فإن شهد أربعة بأنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة فقد وجب الرجم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( هو ذاك ) . وفي صحيح مسلم عن البراء بن عازب قال: مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمما مجلودا، فدعاهم فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ) قالوا: نعم. فدعا رجلا من علمائهم فقال: ( أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ) قال: لا - ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك - نجده الرم، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه ) فأمر به فرجم؛ فأنزل الله تعالى: « يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر » إلى قوله: « إن أوتيتم هذا فخذوه » يقول: ائتوا محمدا، فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، فأنزل الله عز وجل: « ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون » [ المائدة 44 ] ، « ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون » [ المائدة: 45 ] ، « ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون » [ المائدة: 47 ] في الكفار كلها. هكذا في هذه الرواية ( مر على النبي صلى الله عليه وسلم ) ، وفي حديث ابن عمر: أتي بيهودي ويهودية فد زنيا فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يهود، قل: ( ما تجدون في التوراة على من زنى ) الحديث. وفي رواية؛ أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجل وامرأة قد زنيا. وفي كتاب أبي داود من حديث ابن عمر قال: أتى تفر من اليهود، فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القف فأتاهم في بيت المدراس فقالوا: يا أبا القاسم، إن رجلا منا زنى بامرأة فاحكم بيننا. ولا تعارض في شيء من هذا كله، وهي كلها قصة واحدة، وفد ساقها أبو داود من حديث أبي هريرة سياقة حسنة فقال: زنى رجل من اليهود وامرأة، فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النبي، فإنه نبي بعث بالتخفيفات، فإن أفتى بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله، وقلنا فتيا نبي من أنبيائك؛ قال: فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه؛ فقالوا: يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة منهم زنيا؟ فلم يكل النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتى بيت مدراسهم، فقام على الباب، فقال: ( أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن ) ، فقالوا: يحمم وجهه ويجبه ويجلد، والتجبية أن يحمل الزانيان على حمار وتقابل أقفيتهما ويطاف به؛ قال: وسكت شاب منهم، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم سكت ألظ به النشدة؛ فقال: اللهم إذ نشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم. وساق الحديث إلى أن قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإني أحكم بما في التوراة ) فأمر به فرجما.

 

والحاصل من هذه الروايات أن اليهود حكمت النبي صلى الله عليه وسلم، فحكم عليهم بمقتضى ما في التوراة. واستند في ذلك إلى قول ابني صوريا، وأنه سمع شهادة اليهود وعمل بها، وأن الإسلام ليس شرطا في الإحصان. فهذه مسائل أربع. فإذا ترافع أهل الذمة إلى الإمام؛ فإن كان ما رفعوه ظلما كالقتل والعدوان والغصب حكم بينهم، ومنعهم منه بلا خلاف. وأما إذا لم يكن كذلك فالإمام مخير في الحكم بينهم وتركه عند مالك والشافعي، غير أن مالكا رأى الإعراض عنهم أولى، فإن حكم حكم بينهم الإسلام. وقال الشافعي: لا يحكم بينهم في الحدود. وقال أبو حنيفة: يحكم بينهم على كل حال، وهو قول الزهري وعمر بن عبدالعزيز والحكم، وروي عن ابن عباس وهو أحد قولي الشافعي؛ لقوله تعالى: « وأن احكم بينهم بما أنزل الله » [ المائدة: 49 ] على ما يأتي بيانه بعد، احتج مالك بقوله تعالى: « فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم » [ المائدة: 42 ] وهي نص في التخيير. قال ابن القاسم: إذا جاء الأساقفة والزانيان فالحاكم مخير؛ لأن إنفاذ الحكم حق للأساقفة والمخالف يقول: لا يلتفت إلى الأساقفة. قال ابن العربي: وهو الأصح؛ لأن مسلمين لو حكما بينهما رجلا لنفذ، ولم يعتبر رضا الحاكم. فالكتابيون بذلك أولى. وقال عيسى عن ابن القاسم: لم يكونوا أهل ذمة إنما كانوا أهل حرب. قال ابن العربي: وهذا الذي قال عيسى عنه إنما نزع به لما رواه الطبري وغيره: أن الزانيين كانا من أهل خيبر أو فدك، وكانوا حربا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. واسم المرأة الزانية بسرة، وكانوا بعثوا إلى يهود المدينة يقولون لهم اسألوا محمدا أعن هذا، فإن أفتاكم بغير الرجم فخذوه منه واقبلوه، وإن أفتاكم به فاحذروه؛ الحديث. قال ابن العربي: وهذا لو كان صحيحا لكان مجيئهم بالزانيين وسؤالهم عهدا وأمانا؛ وإن لم يكن عهد وذمة ودار لكان له حكم الكف عنهم والعدل فيهم؛ فلا حجة لرواية عيسى في هذا؛ وعنهم أخبر الله تعالى بقوله: « سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك » ولما حكموا النبي صلى الله عليه وسلم نفذ الحكم عليهم ولم يكن لهم الرجوع؛ فكل من حكم رجلا في الدين وهي:

 

فأصله هذه الآية. قال مالك: إذا حكم رجلا فحكمه ماض وإن رفع إلى قاض أمضاه، إلا أن يكونوا جورا بينا. وقال سحنون: يمضيه إن رآه صوابا. قال ابن العربي: وذلك في الأموال والحقوق التي تختص بالطالب، فأما الحدود فلا يحكم فيها إلا السلطان؛ والضابط أن كل حق اختص به الخصمان جاز التحكيم فيه ونفذ تحكيم المحكم فيه، وتحقيقه أن التحكيم بين الناس إنما هو حقهم لا حق الحاكم بيد أن الاسترسال على التحكيم خرم لقاعدة الولاية، ومؤد إلى تهارج الناس كتهارج الحمر، فلا بد من فاصل؛ فأمر الشرع بنصب الوالي ليحسم قاعدة الهرج؛ وأذن في التحكيم تخفيفا عنه وعنهم في مشقة الترافع لتتم المصلحتان وتحصل الفائدة. وقال الشافعي وغيره: التحكيم جائز وإنما هو فتوى. وقال بعض العلماء: إنما كان حكم النبي صلى الله عليه وسلم على اليهود بالرجم إقامة لحكم كتابهم، لما حرفوه وأخفوه وتركوا العمل به؛ ألا ترى أنه قال: ( اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه ) وأن ذلك كان حين قدم المدينة، ولذلك استثبت ابني صوريا عن حكم التوراة واستحلفهما على ذلك. وأقوال الكفار في الحدود وفي شهادتهم عليها غير مقبولة بالإجماع، لكن فعل ذلك على طريق إلزامهم ما التزموه وعملوا به. وقد يحتمل أن بكون حصول طريق العلم بذلك الوحي، أو ما ألقى الله في روعه من تصديق ابني صوريا فيما قالاه من ذلك لا فولهما مجردا؛ فبين له النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر بمشروعية الرجم، ومبدؤه ذلك الوقت، فيكون أفاد بما فعله إقامة حكم التوراة، وبين أن ذلك حكم شريعته، وأن التوراة حكم الله سبحانه؛ لقوله تعالى: « إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا » [ المائدة: 44 ] وهو من الأنبياء. وقد قال عنه أبو هريرة: ( فإني أحكم بما في التوراة ) والله أعلم.

 

والجمهور على رد شهادة الذمي؛ لأنه ليس من أهلها فلا تقبل على مسلم ولا على كافر، وقد قبل شهادتهم جماعة من التابعين وغيرهم إذ لم يوجد مسلم على ما يأتي بيانه آخر السورة فإن قيل: فقد حكم بشهادتهم ورجم الزانيين: فالجواب؛ أنه إنما نفذ عليهم ما علم أنه حكم التوراة وألزمهم العمل به، على نحو ما عملت به بنو إسرائيل إلزاما للحجة عليهم، وإظهارا لتحريفهم وتغييرهم، فكان منفذا لا حاكما. وهذا على التأويل الأول، وعلى ما ذكر من الاحتمال فيكون ذلك خاصا بل الواقعة، إذ لم يسمع في الصدر الأول من قبل شهادتهم في مثل ذلك. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « لا يحزنك » قرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي، والباقون بفتح الياء وضم الزاي. والحزن والحزن خلاف السرور، وحزن الرجل بالكسر فهو حزن وحزين، وأحزنه غيره وحزنه أيضا مثل أسلكه وسلكه، ومحزون بني عليه. قال اليزيدي: حزنه لغة قريش، وأحزنه لغة تميم، وقد قرئ بهما. واحتزن وأحزن بمعنى. والمعنى في الآية تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم: أي لا يحزنك مسارعتهم إلى الكفر، فإن الله قد وعدك النصر عليهم.

 

قوله تعالى: « من الذين قالوا آمنا بأفواههم » وهم المنافقون « ولم تؤمن قلوبهم » أي لم يضمروا في قلوبهم الإيمان كما نطقت به ألسنتهم « ومن الذين هادوا » يعني يهود المدينة ويكون هذا تمام الكلام، ثم ابتدأ فقال « سماعون للكذب » أي هم سماعون، ومثله « طوافون عليكم » [ النور: 58 ] . وقيل الابتداء من قوله: « ومن الذين هادوا » ومن الذين هادوا قوم سماعون للكذب، أي قابلون لكذب رؤسائه من تحريف التوراة. وقيل: أي يسمعون كلامك يا محمد ليكذبوا عليك، فكان فيهم من يحضر النبي صلى الله عليه وسلم ثم يكذب عليه عند عامتهم، ويقبح صورته في أعينهم؛ وهو معنى قوله: « سماعون لقوم آخرين لم يأتوك » وكان في المنافقين من يفعل هذا. قال الفراء ويجوز سماعين وطوافين، كما قال: « ملعونين أينما ثقفوا » وكما قال: « إن المتقين في جنات ونعيم » . [ الطور: 17 ] ثم قال: « فاكهين » « آخذين » . وقال سفيان بن عيينة: إن الله سبحانه ذكر الجاسوس في القرآن بقوله: « سماعون لقوم آخرين لم يأتوك » ولم يعرض النبي صلى الله علبه وسلم لهم مع علمه بهم؛ لأنه لم يكن حينئذ تقرر الأحكام ولا تمكن الإسلام. وسيأتي حكم الجاسوس في « الممتحنة » إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « يحرفون الكلم من بعد مواضعه » أي يتأولونه على غير تأويله بعد أن فهموه عنك وعرفوا مواضعه التي أرادها الله عز وجل؛ وبين أحكامه؛ فقالوا: شرعه ترك الرجم؛ وجعلهم بدل رجم المحصن جلد أربعين تغييرا لحكم الله عز وجل. و « يحرفون » في موضع الصفة لقوله « سماعون » وليس بحال من الضمير الذي في « يأتوك » لأنهم إذا لم يأتوا لم يسمعوا، والتحريف إنما هو ممن يشهد ويسمع فيحرف. والمحرفون من اليهود بعضهم لا كلهم، ولذلك كان حمل المعنى على « من الذين هادوا » فريق سماعون أشبه « » يقولون « في موضع الحال من المضمر في « يحرفون » » إن أوتيتم هذا فخذوه « أي إن أتاكم محمد صلى الله عليه وسلم بالجلى فأقبلوا وإلا فلا. »

 

قوله تعالى: « ومن يرد الله فتنته » أي ضلالته في الدنيا وعقوبته في الآخرة « فلن تملك له من الله شيئا » أي فلن تنفعه « أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم » بيان منه عز وجل أنه قضى عليهم بالكفر. ودلت الآية على أن الضلال بمشيئة الله تعالى ردا على من قال خلاف ذلك على ما تقدم؛ أي لم يرد الله أن يطهر قلوبهم من الطبع عليها والختم كما طهر قلوب المؤمنين ثوابا لهم « لهم في الدنيا خزي » قيل: هو فضيحتهم حين أنكروا الرجم، ثم أحضرت التوراة فوجد فيها الرجم وقيل: خزيهم في الدنيا أخذ الجزية والذل. والله أعلم.

 

الآية: 42 ( سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين )

 

قوله تعالى: « سماعون للكذب » كرره تأكيدا وتفخيما، وقد تقدم. وقوله تعالى: « أكالون للسحت »

على التكثير. والسحت في اللغة أصله الهلاك والشدة؛ قال الله تعالى: « فيسحتكم بعذاب » . وقال الفرزدق:

وعض زمان يا ابن مروان لم يدع من المال إلا مسحتا أو مجلف

كذا الرواية. أو مجلف بالرفع عطفا على المعنى؛ لأن معنى لم يدع لم يبق. ويقال للحالق: اسحت أي استأصل. وسمي المال الحرام سحتا لأنه يسحت الطاعات أي يذهبها ويستأصلها. وقال الفراء: أصله كلب الجوع، يقال رجل مسحوت المعدة أي أكول؛ فكأن بالمسترشي وآكل الحرام من الشره إلى ما يعطى مثل الذي بالمسحوت المعدة من النهم. وقيل: سمي الحرام سحتا لأنه يسحت مروءة الإنسان.

قلت: والقول الأول أولى؛ لأن بذهاب الدين تذهب المروءة، ولا مروءة لمن لا دين له. قال ابن مسعود وغيره: السحت الرشا. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: رشوة الحاكم من السحت. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( كل لحم نبت بالسحت فالنار أولى به ) قالوا: يا رسول الله ؛وما السحت؟ قال: ( الرشوة في الحكم ) . وعن ابن مسعود أيضا أنه قال: السحت أن يقضي الرجل لأخيه حاجة فيهدي إليه هدية فيقبلها. وقال ابن خويز منداد: من السحت أن يأكل الرجل بجاهه، وذلك أن يكون له جاه عند السلطان فيسأله إنسان حاجة فلا يقضيها إلا برشوة يأخذها. ولا خلاف بين السلف أن أخذ الرشوة على إبطال حق أو ما لا يجوز سحت حرام. وقال أبو حنيفة: إذا ارتشى الحاكم انعزل في الوقت وإن لم يعزل، وبطل كل حكم حكم به بعد ذلك.

قلت: وهذا لا يجوز أن يختلف فيه إن شاء الله؛ لأن أخذ الرشوة منه فسق، والفاسق لا يجوز حكمه. والله أعلم. وقال عليه الصلاة والسلام: ( لعن اله الراشي والمرتشي ) . وعن علي رضي الله عنه أنه قال: السحت الرشوة وحلوان الكاهن والاستجعال في القضية. وروي عن وهب بن منبه أنه قيل له: الرشوة حرام في كل شيء؟ فقال: لا؛ إنما يكره من الرشوة أن ترشي لتعطي ما ليس لك، أو تدفع حقا فد لزمك؛ فأما أن ترشي لتدفع عن دينك ودمك ومالك فليس بحرام. قال أبو الليث السمرقندي الفقيه: وبهذا نأخذ؛ لا بأس بأن يدفع الرجل عن نفسه وماله بالرشوة. وهذا كما روي عن عبدالله بن مسعود أنه كان بالحبشة فرشا دينارين وقال: إنما الإثم على القابض دون الدافع؛ قال المهدوي: ومن جعل كسب الحجام ومن ذكر معه سحتا فمعناه أنه يسحت مروءة آخذه.

قلت: الصحيح في كسب الحجام أنه طيب، ومن أخذ طيبا لا تسقط مروءته ولا تنحط مرتبته. وقد روى مالك عن حميد الطويل عن أنس أنه قال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حجمه أبو طيبة فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر وأمر أهله أن يخففوا عنه من خراجه؛ قال ابن عبدالبر: هذا يدل على أن كسب الحجام طيب؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجعل ثمنا ولا جعلا ولا عوضا لشيء من الباطل. وحديث أنس هذا ناسخ لما حرمه النبي صلى الله عليه وسلم من ثمن الدم، وناسخ لما كرهه من إجارة الحجام. وروى البخاري وأبو داود عن ابن عباس قال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره، ولو كان سحتا لم يعطه. والسُحْت والسُحُت لغتان قرئ بهما؛ قرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائي بضمتين، والباقون بضم السين وحدها. وروى العباس بن الفضل عن خارجة بن مصعب عن نافع « أكالون للسحت » بفتح السين وإسكان الحاء وهذا مصدر من سحته؛ يقال: أسحت وسحت بمعنى واحد. وقال الزجاج: سحته ذهب به قليلا قليلا.

 

قوله تعالى: « فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم » هذا تخيير من الله تعالى؛ ذكره القشيري؛ وتقدم معناه أنهم كانوا أهل موادعة لا أهل ذمة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وادع اليهود. ولا يجب علينا الحكم بين الكفار إذا لم يكونوا أهل ذمة، بل يجوز الحكم إن أردنا. فأما أهل الذمة فهل يجب علينا الحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا؟ قولان للشافعي؛ وإن ارتبطت الخصومة بمسلم يجب الحكم. قال المهدوي: أجمع العلماء على أن على الحاكم أن يحكم بين المسلم والذمي. واختلفوا في الذميين؛ فذهب بعضهم إلى أن الآية محكمة وأن الحاكم مخير؛ روي، ذلك عن النخعي والشعبي وغيرهما، وهو مذهب مالك والشافعي وغيرهما، سوى ما روي عن مالك في ترك إقامة الحد على أهل الكتاب في الزنى؛ فإنه إن زنى المسلم بالكتابية حد ولا حد عليها، فإن كان الزانيان ذميين فلا حد عليهما؛ وهو مذهب أبي حنيفة ومحمد بن الحسن وغيرهما. وقد روي عن أبي حنيفة أيضا أنه قال: يجلدان ولا يرجمان. وقال الشافعي وأبو يوسف وأبو ثور وغيرهم: عليهما الحد إن أتيا راضيين بحكمنا. قال ابن خويز منداد: ولا يرسل الإمام إليهم إذا استعدى بعضهم على بعض، ولا يحضر الخصم مجلسه إلا أن يكون فيما يتعلق بالمظالم التي ينتشر منها الفساد كالقتل ونهب المنازل وأشباه ذلك، فأما الديون والطلاق وسائر المعاملات فلا يحكم بينهم إلا بعد التراضي، والاختيار له ألا يحكم ويردهم إلى حكامهم. فإن حكم بينهم حكم بحكم الإسلام. وأما إجبارهم على حكم المسلم فيما ينتشر منه الفساد فليس على الفساد عاهدناهم، وواجب قطع الفساد عنهم، منهم ومن غيرهم؛ لأن في ذلك حفظ أموالهم ودمائهم؛ ولعل في دينهم استباحة ذلك فينتشر منه الفساد بيننا؛ ولذلك منعناهم أن يبيعوا الخمر جهارا وأن يظهروا الزنى وغير ذلك من القاذورات؛ لئلا يفسد بهم سفهاء المسلمين. وأما الحكم فيما يختص به دينهم من الطلاق والزنى وغيره فليس يلزمهم أن يتدينوا بديننا، وفي الحكم بينهم بذلك إضرار بحكامهم وتغيير ملتهم، وليس كذلك الديون والمعاملات؛ لأن فيها وجها من المظالم وقطع الفساد. والله أعلم. وفي الآية قول ثان: وهو ما روي عن عمر بن عبدالعزيز والنخعي أيضا أن التخيير المذكور في الآية منسوخ بقوله تعالى: « وأن احكم بينهم بما أنزل الله » وأن على الحاكم أن يحكم بينهم؛ وهو مذهب عطاء الخراساني وأبي حنيفة وأصحابه وغيرهم. وروي عن عكرمة أنه قال: « فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم » نسختها آية أخرى « وأن احكم بينهم بما أنزل الله » [ المائدة: 49 ] . وقال مجاهد: لم ينسخ من « المائدة » إلا آيتان؛ قوله: فاحكم بينهم أو أعرض عنهم « نسختها « وأن احكم بينهم بما أنزل الله » ؛ وقوله: » لا تحلوا شعائر الله « [ المائدة: 2 ] نسختها » فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم « [ التوبة: 5 ] . وقال الزهري: مضت السنة أن يرد أهل الكتاب في حقوقهم ومواريثهم إلى أهل دينهم، إلا أن يأتوا راغبين في حكم الله فيحكم بينهم بكتاب الله. قال السمرقندي: وهذا القول يوافق قول أبي حنيفة أنه لا يحكم بينهم ما لم يتراضوا بحكمنا. وقال النحاس في » الناسخ والمنسوخ « له قوله تعالى: « فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم » منسوخ؛ لأنه إنما نزل أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود فيها يومئذ كثير، وكان الأدعى لهم والأصلح أن يردوا إلى أحكامهم، فلما قوي الإسلام أنزل الله عز وجل « وأن احكم بينهم بما أنزل الله » . وقاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة والزهري وعمر بن عبدالعزيز والسدي؛ وهو الصحيح من قول الشافعي؛ قال في كتاب الجزية: ولا خيار له إذا تحاكموا إليه؛ لقوله عز وجل: » حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون « [ التوبة: 29 ] . قال النحاس: وهذا من أصح الاحتجاجات؛ لأنه إذا كان معنى قوله: » وهم صاغرون « أن تجرى عليهم أحكام المسلمين وجب ألا يردوا إلى أحكامهم؛ فإذا وجب هذا فالآية منسوخة. وهو أيضا قول الكوفيين أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف ومحمد، لا اختلاف بينهم إذا تحاكم أهل الكتاب إلى الإمام أنه ليس له أن يعرض عنهم، غير أن أبا حنيفة قال: إذا جاءت المرأة والزوج فعليه أن يحكم بينهم بالعدل، وإن جاءت المرأة وحدها ولم يرض الزوج لم يحكم.»

وقال الباقون: يحكم؛ فثبت أن قول أكثر العلماء أن الآية منسوخة مع ما ثبت فيها من توقيف ابن عباس؛ ولو لم يأت الحديث عن ابن عباس لكان النظر يوجب أنها منسوخة؛ لأنهم قد أجمعوا أن أهل الكتاب إذا تحاكموا إلى الإمام فله أن ينظر بينهم، وأنه إذا نظر بينهم مصيب عند الجماعة، وألا يعرض عنهم فيكون عند بعض العلماء تاركا فرضا، فاعلا ما لا يحل ولا يسعه. قال النحاس: ولمن قال بأنها منسوخة من الكوفيين قول آخر؛ منهم من يقول: على الإمام إذا لم من أهل الكتاب حدا من حدود الله عز وجل أن يقيمه وإن لم يتحاكموا إليه ويحتج بأن قول الله عز وجل: « وأن احكم بينهم » يحتمل أمرين: أحدهما: وأن احكم بينهم إذا تحاكموا إليك. والآخر: وأن احكم بينهم وإن لم يتحاكموا إليك - إذا علمت ذلك منهم - قالوا: فوجدنا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يوجب إقامة الحق عليهم وإن لم يتحاكموا إلينا؛ فأما ما في كتاب الله فقوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله » [ النساء: 135 ] . وأما ما في السنة فحديث البراء بن عازب قال: مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي قد جلد وحمم فقال: ( أهكذا حد الزاني عندكم ) فقالوا: نعم. فدعا رجلا من علمائهم فقال: ( سألت بالله أهكذا حد الزاني فيكم ) فقال: لا. الحديث، وقد تقدم. قال النحاس: فاحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بينهم ولم يتحاكموا إليه في هذا الحديث. فإن قال قائل: ففي حديث مالك عن نافع عن ابن عمر أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم؛ قيل له: ليس في حديث مالك أيضا أن اللذين زنيا رضيا بالحكم وقد رجمهما النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو عمر بن عبدالبر: لو تدبر من احتج بحديث البراء لم يحتج؛ لأن في درج الحديث تفسير قوله عز وجل: « إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا » [ المائدة: 41 ] يقول: إن أفتاكم بالجلد والتحميم فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، دليل على أنهم حكموه. وذلك بين في حديث ابن عمر وغيره. فإن قال قائل: ليس في حديث ابن عمر أن الزانيين حكما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رضيا بحكمه. قيل له: حد الزاني حق من حقوق الله تعالى على الحاكم إقامته. ومعلوم أن اليهود كان لهم حاكم يحكم بينهم، ويقيم حدودهم عليهم، وهو الذي حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط » روى النسائي عن ابن عباس قال كان قريظة والنضير، وكان النضير أشرف من قريظة، وكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به، وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة ودى مائة وسق من تمر؛ فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا: ادفعوه إلينا لنقتله؛ فقالوا: بيننا وبينكم النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: « وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط » النفس بالنفس، ونزلت: « أفحكم الجاهلية يبغون » [ المائدة: 50 ] .

 

الآية: 43 ( وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين )

 

قوله تعالى: « وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله » قال الحسن: هو الرجم. وقال قتادة: هو القود. ويقال: هل يدل قوله تعالى: فيها حكم الله « على أنه لم ينسخ؟ الجواب: قال أبو علي: نعم؛ لأنه لو نسخ لم يطلق عليه بعد النسخ أنه حكم الله، كما لا يطلق أن حكم الله تحليل الخمر أو تحريم السبت. وقوله: » وما أولئك بالمؤمنين « أي بحكمك أنه من عند الله. وقال أبو علي: إن من طلب غير حكم الله من حيث لم يرضى به فهو كافر؛ وهذه حالة اليهود.»

 

الآية: 44 ( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون )

 

قوله تعالى: « إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور » أي بيان وضياء وتعريف أن محمدا صلى الله عليه وسلم حق. « هدى » في موضع رفع بالابتداء « ونور » عطف عليه. « يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا » قيل: المراد بالنبيين محمد صلى الله عليه وسلم، وعبر عنه بلفظ الجمع. وقيل: كل من بعث من بعد موسى بإقامة التوراة، وأن اليهود قالت: إن الأنبياء كانوا يهودا. وقالت النصارى: كانوا نصارى؛ فبين الله عز وجل كذبهم. ومعنى « أسلموا » صدقوا بالتوراة من لدن موسى إلى زمان عيسى عليهما السلام وبينهما ألف نبي؛ ويقال: أربعة آلاف. ويقال: أكثر من ذلك، كانوا يحكمون بما في التوراة. وقيل: معنى « أسلموا » خضعوا وانقادوا لأمر الله فيما بعثوا به. وقيل: أي يحكم بها النبيون الذين هم على دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم والمعنى واحد. و « الذين أسلموا » ههنا نعت فيه معنى المدح مثل « بسم الله الرحمن الرحيم » . « هادوا » أي تابوا من الكفر. وقيل: فيه تقديم وتأخير؛ أي إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون والربانيون والأحبار؛ أي يحكم بها الربانيون وهم الذين يسوسون الناس بالعلم ويربونهم بصغاره قبل كباره؛ عن ابن عباس وغيره. وقد تقدم في آل عمران. وقال أبو رزين: الربانيون العلماء الحكماء والأحبار. قال ابن عباس: هم الفقهاء: والحبر والحبر الرجل العالم وهو مأخوذ من الحبير وهو التحسين، فهم يحبرون العلم أي يبينونه ويزينونه، وهو محبر في صدورهم. قال مجاهد: الربانيون فوق العلماء. والألف واللام للمبالغة. قال الجوهري: والجبر والحبر واحد أحبار اليهود، وبالكسر أفصح: لأنه يجمع على أفعال دون الفعول؛ قال الفراء: هو جبر بالكسر يقال ذلك للعالم. وقال الثوري: سألت الفراء لم سمي الحبر حبرا؟ فقال: يقال للعالم حبر وحبر فالمعنى مداد حبر ثم حذف كما قال: « واسأل القرية » [ يوسف: 82 ] أي أهل القرية. قال: فسألت الأصمعي يقال ليس هذا بشيء؛ إنما سمي حبرا لتأثيره، يقال: على أسنانه حبر أي صفرة أو سواد. وقال أبو العباس: سمي الحبر الذي يكتب به حبرا لأنه يحبر به أي يحقق به. وقال أبو عبيد: والذي عندي في واحد الأحبار الحبر بالفتح ومعناه العالم بتحبير الكلام والعلم وتحسينه. قال: وهكذا يرويه المحدثون كلهم بالفتح، والحبر الذي يكتب به وموضعه المحبرة بالكسر. والحبر أيضا الأثر والجمع حبور، عن يعقوب. « بما استحفظوا من كتاب الله » أي استودعوا من علمه. والباء متعلقة « الربانيين والأحبار » كأنه قال: والعلماء بما استحفظوا. أو تكون متعلقة بـ « يحكم » أي يحكمون بما استحفظوا. « وكانوا عليه شهداء » أي على الكتاب بأنه من عند الله. ابن عباس: شهداء على حكم النبي صلى الله عليه وسلم أنه في التوراة. « فلا تخشوا الناس » أي في إظهار صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وإظهار الرجم. « واخشون » أي في كتمان ذلك؛ فالخطاب لعلماء اليهود. وقد يدخل بالمعنى كل من كتم حقا وجب عليه ولم يظهره. وتقدم معنى « ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا » مستوفى.

 

قوله تعالى: « ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون » و « الظالمون » و « الفاسقون » نزلت كلها في الكفار؛ ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث البراء، وقد تقدم. وعلى هذا المعظم. فأما المسلم فلا يكفر وإن ارتكب كبيرة. وقيل: فيه إضمار؛ أي ومن لم يحكم بما أنزل الله ردا للقرآن، وجحدا لقول الرسول عليه الصلاة والسلام فهو كافر؛ قال ابن عباس ومجاهد، فالآية عامة على هذا. قال ابن مسعود والحسن: هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار أي معتقدا ذلك ومستحلا له؛ فأنا من فعل ذلك وهو معتقد أنه راكب محرم فهو من فساق المسلمين، وأمره إلى الله تعالى إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له. وقال ابن عباس في رواية: ومن لم يحكم بما أنزل الله فقد فعل فعلا يضاهي أفعال الكفار. وقيل: أي ومن لم يحكم بجميع ما أنزل الله فهو كافر؛ فأما من حكم بالتوحيد ولم يحكم ببعض الشرائع فلا يدخل في هذه الآية، والصحيح الأول، إلا أن الشعبي قال: هي في اليهود خاصة، واختاره النحاس؛ قال: ويدل على ذلك ثلاثة أشياء؛ منها أن اليهود قد ذكروا قبل هذا في قوله: « للذين هادوا » ؛ فعاد الضمير عليهم، ومنها أن سياق الكلام يدل على ذلك؛ ألا ترى أن بعده « وكتبنا عليهم » فهذا الضمير لليهود بإجماع؛ وأيضا فإن اليهود هم الذين أنكروا الرجم والقصاص. فإن قال قائل: « من » إذا كانت للمجازاة فهي عامة إلا أن يقع دليل على تخصيصها؟ قيل له: « من » هنا بمعنى الذي مع ما ذكرناه من الأدلة؛ والتقدير: واليهود الذين لم يحكموا بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون؛ فهذا من أحسن ما قيل في هذا؛ ويروى أن حذيفة سئل عن هذه الآيات أهي في بني إسرائيل؟ قال: نعم هي فيهم، ولتسلكن سبيلهم حذو النعل بالنعل. وقيل: « الكافرون » للمسلمين، و « الظالمون » لليهود، و « الفاسقون » للنصارى؛ وهذا اختيار أبي بكر بن العربي، قال: لأنه ظاهر الآيات. وهو اختيار ابن عباس وجابر بن زيد وابن أبي زائدة وابن شبرمة والشعب أيضا. قال طاوس وغيره: ليس بكفر ينقل عن الملة، ولكنه كفر دون كفر، وهذا يختلف إن حكم بما عنده على أنه من عند الله، فهو تبديل له يوجب الكفر؛ وإن حكم به هوى ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين. قال القشيري: ومذهب الخوارج أن من ارتشى وحكم بغير حكم الله فهو كافر، وعزي هذا إلى الحسن والسدي. وقال الحسن أيضا: أخذ الله عز وجل على الحكام ثلاثة أشياء: ألا يتبعوا الهوى، وألا يخشوا الناس ويخشوه، وألا يشتروا بآياته ثمنا قليلا.

 

الآية: 45 ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون )

 

قوله تعالى: « وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس » بين تعالى أنه سوى بين النفس والنفس في التوراة فخالفوا ذلك، فضلوا؛ فكانت دية النضيري أكثر، وكان النضيري لا يقتل بالقرظي، ويقتل به القرظي فلما جاء الإسلام راجع بنو قريظة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، فحكم بالاستواء؛ فقالت بنو النضير: قد حططت منا؛ فنزلت هذه الآية. و « كتبنا » بمعنى فرضنا. وقد تقدم. وكان شرعهم القصاص أو العفو، وما كان فيهم الدية؛ كما تقدم في « البقرة » بيانه. وتعلق أبو حنيفة وغيره بهذه الآية فقال: يقتل المسلم بالذمي؛ لأنه نفس بنفس، وقد تقدم في « البقرة » بيان هذا. وقد روى أبو داود والترمذي والنسائي عن علي رضي الله عنه أنه سئل هل خصك رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ فقال: لا، إلا ما في هذا، وأخرج كتابا من قراب سيفه وإذا فيه ( المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم ولا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده ) وأيضا فإن الآية إنما جاءت للرد على اليهود في المفاضلة بين القبائل، وأخذهم من قبيلة رجلا برجل، ومن قبيلة أخرى رجلا برجلين. وقالت الشافعية: هذا خبر عن شرع من قبلنا، وشرع من قبلنا ليس شرعا لنا؛ وقد مضى في « البقرة » في الرد عليهم ما يكفي فتأمله هناك. ووجه رابع: وهو أنه تعالى قال: « وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس » وكان ذلك مكتوبا على أهل التوراة وهم ملة واحدة، ولم يكن لهم أهل ذمة كما للمسلمين أهل ذمة؛ لأن الجزية فيء وغنيمة أفاءها الله على المؤمنين، ولم يجعل الفيء لأحد قبل هذه الأمة، ولم يكن نبي فيما مضى مبعوثا إلا إلى قومه؛ فأوجبت الآية الحكم على بني إسرائيل إذ كانت دماؤهم تتكافأ؛ فهو مثل قول الواحد منا في دماء سوى المسلمين النفس بالنفس، إذ يشير إلى قوم معينين، ويقول: إن الحكم في هؤلاء أن النفس منهم بالنفس؛ فالذي يجب بحكم هذه الآية على أهل القرآن أن يقال لهم فيما بينهم على - هذا الوجه - : النفس بالنفس، ولبس كتاب الله ما يدل على أن النفس بالنفس مع اختلاف الملة.

 

قال أصحاب الشافعي وأبو حنيفة: إذا جرح أو قطع الأذن أو اليد ثم قتل فعل ذلك به؛ لأن الله تعالى قال: « وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين » فيؤخذ منه ما أخذ، ويفعل به كما فعل. وقال علماؤنا: إن قصد به المثلة فعل به مثله، وإن كان ذلك في أثناء مضاربته ومدافعته قتل بالسيف؛ وإنما قالوا ذلك في المثلة يجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمل أعين العرنيين؛ حسبما تقدم بيانه في هذه السورة.

 

قوله تعالى: « والعين بالعين » قرأ نافع وعاصم والأعمش وحمزة بالنصب في جميعها على العطف، ويجوز تخفيف « أن » ورفع الكل بالابتداء والعطف. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بنصب الكل إلا الجروح. وكان الكسائي وأبو عبيد يقرآن « والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن والجروح » بالرفع فيها كلها. قال أبو عبيد: حدثنا حجاج عن هارون عن عباد بن كثير عن عقيل عن الزهري عن أنس النبي صلى الله عليه وسلم قرأ « وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص » . والرفع من ثلاث جهات؛ بالابتداء والخبر، وعلى المعنى على موضع « أن النفس » ؛ لأن المعنى قلنا لهم: النفس بالنفس. والوجه الثالث: قاله الزجاج يكون عطفا على المضمر في النفس؛ لأن الضمير في النفس في موضع رفع؛ لأن التقدير أن النفس هي مأخوذة بالنفس؛ فالأسماء معطوفة على هي. قال ابن المنذر: ومن قرأ بالرفع جعل ذلك ابتداء كلام، حكم في المسلمين؛ وهذا أصح القولين، وذلك أنها قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم « والعين بالعين » وكذا ما بعده. والخطاب للمسلمين أمروا بهذا. ومن خص الجروح بالرفع فعلى القطع مما قبلها والاستئناف بها؛ كأن المسلمين أمروا بهذا خاصة وما قبله لم يواجهوا به.

 

هذه الآية تدل على جريان القصاص فيما ذكر وقد تعلق ابن شبرمة بعموم قوله: « والعين بالعين » على أن اليمنى تفقأ باليسرى وكذلك على العكس، وأجر ذلك في اليد اليمنى واليسرى، وقال: تؤخذ الثنية بالضرس والضرس بالثنية؛ لعموم قوله تعالى: « والسن بالسن » . والذين خالفوه وهم علماء الأمة قالوا: العين اليمنى هي المأخوذة باليمنى عند وجودها، ولا يتجاوز ذلك إلى اليسرى مع الرضا؛ وذلك يبين لنا أن المراد بقوله: « والعين بالعين » استيفاء ما يماثله من الجاني؛ فلا يجوز له أن يتعدى إلى غيره كما لا يتعدى من الرجل إلى اليد في الأحوال كلها، وهذا لا ريب فيه.

 

وجمع العلماء على أن العينين إذا أصيبتا خطأ ففيهما الدية، وفي العين الواحدة نصف الدية. وفي عين الأعور إذا فقئت الدية كاملة؛ روي ذلك عن عمر وعثمان، وبه قال عبدالملك بن مروان والزهري وقتادة ومالك والليث بن سعد وأحمد وإسحاق. وقيل: نصف الدية؛ روي ذلك عن عبدالله بن المغفل ومسروق والنخعي؛ وبه قال الثوري والشافعي والنعمان. قال ابن المنذر: وبه نقول؛ لأن في الحديث ( في العينين الدية ) ومعقول إذ كان كذلك أن في إحداهما نصف الدية. قال ابن العربي: وهو القياس الظاهر، ولكن علماؤنا قالوا: إن منفعة الأعور ببصره كمنفعة السالم أو قريب من ذلك، فوجب عليه مثل ديته.

 

واختلفوا في الأعور يفقأ عين صحيح؛ فروي عن عمر وعثمان وعلي أنه لا قود عليه، وعليه الدية كاملة؛ وبه قال عطاء وسعيد بن المسيب وأحمد بن حنبل. وقال مالك: إن شاء اقتص فتركه أعمى، وإن شاء أخذ الدية كاملة ( دية عين الأعور ) . وقال النخعي: إن شاء اقتص وإن شاء أخذ نصف الدية. وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري: عليه القصاص.، وروي ذلك عن علي أيضا، وهو قول مسروق وابن سيرين وابن معقل، واختاره ابن المنذر وابن العربي؛ لأن الله وتعالى قال: « والعين بالعين » وجعل النبي صلى الله عليه وسلم في العينين الدية؛ ففي العين نصف الدية، والقصاص بين صحيح العين والأعور كهيئته بين سائر الناس. ومتعلق أحمد بن حنبل أن في القصاص منه أخذ جميع البصر بضمه وذلك ليس بمساواة، وبما روي عن عمر وعثمان وعلي في ذلك، ومتمسك مالك أن الأدلة لما تعارضت خير المجني عليه. قال ابن العربي: والأخذ بعموم القرآن أولى؛ فإنه أسلم عند الله تعالى.

 

واختلفوا في عين الأعور التي لا يبصر بها؛ فروي عن زيد بن ثابت أنه قال: فيها مائة دينار. وعن عمر بن الخطاب أنه قال: فيها ثلث ديتها؛ وبه قال إسحاق. وقال مجاهد: فيها نصف ديتها. وقال مسروق والزهري ومالك والشافعي وأبو ثور والنعمان: فيها حكومة؛ قال ابن المنذر: وبه نقول لأنه الأقل مما قيل.

 

وفي إبطال البصر من العينين مع بقاء الحدقتين كمال الدية، ويستوي فيه الأعمش والأخفش. وفي إبطال من إحداهما مع بقائها النصف. قال ابن المنذر وأحسن ما قيل في ذلك ما قاله علي بن أبي طالب: أنه أمر بعينه الصحيحة فغطيت وأعطي رجل بيضة فانطلق بها وهو ينظر حتى انتهى نظره، ثم أمر بخط عند ذلك، ثم أمر بعينه الأخرى فغطيت وفتحت الصحيحة، وأعطي رجل بيضة فانطلق بها وهو ينظر حتى انتهى نظره ثم خط عند ذلك، ثم أمر به فحول إلى مكان آخر ففعل به مثل ذلك فوجده سواء؛ فأعطي ما نقص من بصره مال الآخر، وهذا على مذهب الشافعي؛ وهو قول علمائنا.

ولا خلاف بين أهل العلم على أن لا قود في بعض البصر، إذ غير ممكن الوصول إليه. وكيفية القود في العين أن تحمى مرآة ثم توضع على العين الأخرى قطنة، ثم تقرب المرآة من عينه حتى يسيل إنسانها؛ روي عن علي رضي الله عنه؛ ذكره المهدوي وابن العربي. واختلف في جفن العين؛ فقال زيد بن ثابت: فيه ربع الدية، وهو قول الشعبي والحسن وقتادة وأبي، هاشم والثوري والشافعي وأصحاب الرأي. وروي عن الشعبي أنه قال: في الجفن الأعلى ثلث الدية وفي الجفن الأسفل ثلثا الدية، وبه قال مالك.

 

قوله تعالى: « والأنف بالأنف » جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( وفي الأنف إذا أوعب جدعا الدية ) . قال ابن المنذر: وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على القول به؛ والقصاص من الأنف إذا كانت الجناية عمدا كالقصاص من سائر الأعضاء على كتاب الله تعاق. واختلفوا في كسر الأنف. فكان مالك يرى في العمد منه القود، وفي الخطأ الاجتهاد. وروى ابن نافع أنه لا دية للأنف حتى يستأصله من أصله. قال أبو إسحاق التونسي: وهذا شاذ، والمعروف الأول. وإذا فرعنا على المعروف ففي بعض المارن من الدية بحساب من المارن. قال ابن المنذر: وما قطع من الأنف فبحسابه؛ روي ذلك عن عمر بن عبدالعزيز والشعبي، وبه قال الشافعي. قال أبو عمر: واختلفوا في المارن إذا قطع ولم يستأصل الأنف؛ فذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم إلى أن في ذلك الدية كاملة، ثم إن ع منه شيء بعد ذلك ففيه حكومة. قال مالك: الذي فيه الدية من الأنف أن يقطع المارن؛ وهو دون العظم. قال ابن القاسم: وسواء قطع المارن من العظم أو استؤصل الأنف من العظم من تحت العينين إنما فيه الدية؛ كالحشفة فيها الدية: وفي استئصال الذكر الدية.

 

قال ابن القاسم: وإذا خرم الأنف أو كسر فبرئ على عثم ففيه الاجتهاد، وليس فيه دية معلومة. وإن برئ على غير عثم فلا شيء فيه. قال: وليس الأنف إذا خرم فبرئ على غير عثم كالموضحة تبرأ على غير ثم فيكون فيها ديتها؛ لأن تلك جاءت بها السنة، وليس في خرم الأنف أثر. قال: والأنف عظم منفرد ليس فيه موضحة. واتفق مالك والشافعي وأصحابهما على أن لا جائفة فيه، ولا جائفة عندهم إلا فيما كان في الجوف، والمارن ما لان من الأنف؛ وكذلك قال الخليل وغيره. قال أبو عمر: وأظن روثته مارنه، وأرنبته طرفه. وقد قيل: الأرنبة والروثة والعرتمة طرف الأنف. والذي عليه الفقهاء مالك والشافعي والكوفيون ومن تبعهم، في الشم إذا نقص أو فقد حكومة.

 

قوله تعالى: « والأذن بالأذن » قال علماؤنا رحمة الله عليهم في الذي يقطع أذني رجل: عليه حكومة، وإنما تكون عليه الدية في السمع، ويقاس في نقصانه كما يقاس في البصر. وفي إبطاله من إحداهما نص الدية ولو لم يكن يسمع إلا بها، بخلاف العين العوراء فيها الدية كاملة؛ على ما تقدم. وقال أشهب: إن كان السمع إذا سئل عنه قيل إن أحد السمعين يسمع ما يسمع السمعان فهو عندي كالبصر، وإذا شك في السمع جرب بأن يصاح به من مواضع عدة، يقاس ذلك؛ فإن تساوت أو تقاربت أعطي بقدر ما ذهب من سمعه ويحلف على ذلك. قال أشهب: ويحسب له ذلك على سمع وسط من الرجل مثله؛ فإن اختبر فاختلف قوله لم يكن له شيء. وقال عيسى بن دينار: إذا اختلف قوله عقل له الأقل مع يمينه.

 

قوله تعالى: « والسن بالسن » قال ابن المنذر: وثبت عن رسول الله صل الله عليه وسلم أنه أقاد من سن وقال: ( كتاب الله القصاص ) . وجاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( في السن خمس من الإبل ) . قال ابن المنذر: فبظاهر هذا الحديث نقول؛ لا فضل للثنايا منها على الأنياب والأضراس والرباعيات؛ لدخولها كلها في ظاهر الحديث؛ وبه يقول الأكثر من أهل العلم. وممن قال بظاهر الحديث ولم يفضل شيئا منها على شيء عروة بن الزبير وطاوس والزهري وقتادة ومالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق والنعمان وابن الحسن، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب وابن عباس ومعاوية. وفيه قول ثان - رويناه عن عمر بن الخطاب أنه قضى فيما أقبل من الفم بخمس فرائض خمس فرائض، وذلك خمسون دينارا، قيمة كل فريضة عشرة دنانير. وفي الأضراس ببعير بعير. وكان عطاء يقول: في السن والرباعيتين والنابين خمس خمس، وفيما بقي بعيران بعيران، أعلى الفم وأسفله سواء، والأضراس سواء؛ قال أبو عمر: أما ما رواه مالك في موطئه عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن عمر قضى في الأضراس ببعير بعير فإن المعنى في ذلك أن الأضراس عشرون ضرسا، والأسنان اثنا عشر سنا: أربع ثنايا وأربع رباعيات وأربع أنياب؛ فعلى قول عمر تصير الدية ثمانين بعيرا؛ في الأسنان خمسة خمسة، وفي الأضراس بعير بعير. وعلى قول معاوية في الأضراس والأسنان خمسة أبعرة خمسة أبعرة؛ تصير الدية ستين ومائة بعير. وعلى قول سعيد بن المسيب، بعير بن بعيرين في الأضراس وهي عشرون ضرسا. يجب لها أربعون. وفي الأسنان خمسة أبعرة فذلك ستون، وهي تتمة لمائة بعير، وهي الدية كاملة من الإبل. والاختلاف بينهم إنما هو في الأضراس لا في الأسنان. قال أبو عمر: واختلاف العلماء من الصحابة والتابعين في ديات الأسنان وتفضيل بعضها على بعض كثير جدا، والحجة قائمة لما ذهب إليه الفقهاء مالك وأبو حنيفة والثوري؛ بظاهر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وفي السن خمس من الإبل ) والضرس سن من الأسنان. روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الأصابع سواء والأسنان سواء الثنية والضرس سواء هذه وهذه سواء ) وهذا نص أخرجه أبو داود. وروى أبو داود أيضا عن ابن عباس قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابع اليدين والرجلين سواء. قال أبو عمر: على هذه الآثار جماعة فقهاء الأمصار وجمهور أهل العلم أن الأصابع في الدية كلها سواء، وأن الأسنان في الدية كلها سواء، الثنايا والأضراس والأنياب لا يفضل شيء منها على شيء؛ على ما في كتاب عمرو بن حزم. ذكر الثوري عن أزهر بن محارب قال: اختصم إلى شريح رجلان ضرب أحدهما ثنية الآخر وأصاب الآخر ضرسه فقال شريح: الثنية وجمالها والضرس ومنفعته سن بسن قوما. قال أبو عمر: على هذا العمل اليوم في جميع الأمصار. والله أعلم.

 

فإن ضرب سنه فاسودت ففيها ديتها كاملة عند مالك والليث بن سعد، وبه قال أبو حنيفة، وروي عن زيد بن ثابت؛ وهو قول سعيد بن المسيب والزهري والحسن وابن سيرين وشريح. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن فيها ثلث ديتها؛ وبه قال أحمد وإسحاق. وقال الشافعي وأبو ثور: فيها حكومة. قال ابن العربي: وهذا عندي خلاف يؤول إلى وفاق؛ فإنه إن كان سوادها أذهب منفعتها وإنما بقيت صورتها كاليد الشلاء والعين العمياء، فلا خلاف في وجوب الدية؛ ثم إن كان بقي من منفعتها شيء أو جميعه لم يجب إلا بمقدار ما نقص من المنفعة حكومة؛ وما روي عن عمر رضي الله عنه فيها ثلث ديتها لم يصح عنه سندا ولا فقها.

 

واختلفوا في سن الصبي يقلع قبل أن يثغر؛ فكان مالك والشافعي وأصحاب الرأي يقولون: إذا قلعت سن الصبي فنبتت فلا شيء على القالع، إلا أن مالكا والشافعي قالا: إذا نبتت ناقصة الطول عن التي تقاربها أخذ له من أرشها بقدر نقصها. وقالت طائفة: فيها حكومة، وروي ذلك عن الشعبي؛ وبه قال النعمان. قال ابن المنذر: يستأتى بها إلى الوقت الذي يقول أهل المعرفة إنها لا تنبت، فإذا كان ذلك كان فيها قدرها تاما؛ على ظاهر الحديث، وإن نبتت رد الأرش. وأكثر من يحفظ عنه من أهل العلم يقولون: يستأنى بها سنة؛ روي ذلك عن علي وزيد وعمر بن عبدالعزيز وشريح والنخعي وقتادة ومالك وأصحاب الرأي. ولم يجعل الشافع لهذا مدة معلومة.

 

إذا قلع سن الكبير فأخذ ديتها ثم نبتت؛ فقال مالك لا يرد ما أخذ. وقال الكوفيون: يرد إذا نبتت. وللشافعي قولان: يرد ولا يرد؛ لأن هذا نبات لم تجر به عادة، ولا يثبت الحكم بالنادر؛ هذا قول علمائنا. تمسك الكوفيون بأن عوضها قد نبت فيرد؛ أصله سن الصغير. قال الشافعي: ولو جنى عليها جان آخر وقد نبتت صحيحة كان فيها أرشها تاما. قال ابن المنذر: هذا أصح القولين؛ لأن كل واحد منهما قالع سن، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم في السن خمسا من الإبل.

 

فلو قلع رجل سن رجل فردها صاحبها فالتحمت فلا شيء فيها عندنا. وقال الشافعي: ليس له أن يردها من قبل أنها نجسة؛ وقاله ابن المسيب وعطاء. ولو ردها أعاد كل صلاة صلاها لأنها ميتة؛ وكذلك لو قطعت أذنه فردها بحرارة الدم فالتزقت مثله. وقال عطاء: يجبره السلطان على قلعها لأنها ميتة ألصقها. قال ابن العربي: وهذا غلط، وقد جهل من خفي عليه أن ردها وعودها بصورتها لا يوجب عودها بحكمها؛ لأن النجاسة كانت فيها للانفصال، وقد عادت متصلة، وأحكام الشريعة ليست صفات للأعيان، وإنما هي أحكام تعود إلى قول الله سبحانه فيها وإخباره عنها.

قلت: ما حكاه ابن العربي عن عطاء خلاف ما حكاه ابن المنذر عنه؛ قال ابن المنذر: واختلفوا في السن تقلع قودا ثم ترد مكانها فتنبت؛ فقال عطاء الخراساني وعطاء بن أبي رباح: لا بأس بذلك. وقال الثوري وأحمد وإسحاق: تقلع؛ لأن القصاص للشين. وقال الشافعي: ليس له أن يردها من قبل أنها نجسة، ويجبره السلطان على القلع.

فلو كانت له سن زائدة فقلعت ففيها حكومة؛ وبه قال فقهاء الأمصار. وقال زيد بن ثابت: فيها ثلث الدية. قال ابن العربي: وليس في التقدير دليل، فالحكومة أعدل. قال ابن المنذر: ولا يصح ما روي عن زيد؛ وقد روي عن علي أنه قال: في السن إذا كسر بعضها أعطي صاحبها بحساب ما نقص منه؛ وهذا قول مالك والشافعي وغيرهما.

قلت: وهنا انتهى ما نص الله عز وجل عليه من الأعضاء، ولم يذكر الشفتين واللسان

 

قال الجمهور: وفي الشفتين الدية، وفي كل واحدة منهما نص الدية لا فضل للعليا منهما على السفلي. وروي عن زيد بن ثابت وسعيد بن المسيب والزهري: في الشفة العليا ثلث الدية، وفي الشفة السفلي ثلثا الدية. وقال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول؛ للحديث المرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( وفي الشفتين الدية ) ولأن في اليدين الدية ومنافعهما مختلفة. وما قطع من الشفتين فبحساب ذلك. وأما اللسان فجاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( في اللسان الدية ) . وأجمع أهل العلم من أهل المدينة وأهل الكوفة وأصحاب الحديث وأهل الرأي على القول به؛ قال ابن المنذر.

 

واختلفوا في الرجل يجني على لسان الرجل فيقطع من اللسان شيئا، ويذهب من الكلام بعضه؛ فقال أكثر أهل العلم: ينظر إلى مقدار ما ذهب من الكلام من ثمانية وعشرين حرفا فيكون عليه من الدية بقدر ما ذهب من كلامه، وإن ذهب الكلام كله ففيه الدية؛ هذا قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي. وقال مالك: ليس في اللسان قود لعدم الإحاطة باستيفاء القود. فإن أمكن فالقود هو الأصل.

 

واختلفوا في لسان الأخرس يقطع؛ فقال الشعبي ومالك وأهل المدينة والثوري وأهل العراق والشافعي وأبو ثور والنعمان وصاحباه: فيه حكومة. قال ابن المنذر: وفيه قولان شاذان: أحدهما: قول النخعي أن فيه الدية. والآخر: قول قتادة أن فيه ثلث الدية. قال ابن المنذر: والقول الأول أصح؛ لأنه الأقل مما قيل. قال ابن العربي: نص الله سبحانه على أمهات الأعضاء وترك باقيها للقياس عليها؛ فكل عضو فيه القصاص إذا أمكن ولم يخش عليه الموت، وكذلك كل عضو بطلت منفعته وبقيت صورته فلا قود فيه، وفيه الدية لعدم إمكان القود فيه.

 

قوله تعالى: « والجروح قصاص » أي مقاصة، وقد تقدم في « البقرة » . ولا قصاص في كل مخوف ولا فيما لا يوصل إلى القصاص فيه إلا بأن يخطئ الضارب أو يزيد أو ينقص. ويقاد من جراح العمد إذا كان مما يمكن القود منه. وهذا كله في العمد؛ فأما الخطأ فالدية، وإذا كانت الدية في قتل الخطأ فكذلك في الجراح. وفي صحيح مسلم عن أنس أن أخت الربيع - أم حارثة - جرحت إنسانا فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( القصاص القصاص ) ، فقالت أم الربيع: يا رسول الله أيقتص من فلانة؟! والله لا يقتص منها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله يا أم الربيع القصاص كتاب الله ) قالت: لا والله لا يقتص منها أبدا؛ قال فما زالت حتى قبلوا الدية؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ) .

قلت: المجروح في هذا الحديث جارية، والجرح كسر ثنيتها؛ أخرجه النسائي عن أنس أيضا أن عمته كسرت ثنية جارية فقضى نبي الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص؛ فقال أخوها أنس بن النضر: أتكسر ثنية فلانة؟ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها. قال: وكانوا قبل ذلك سألوا أهلها العفو والأرش، فلما حلف أخوها وهو عم أنس - وهو الشهيد يوم أحد - رضي القوم بالعفو؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ) . وخرجه أبو داود أيضا، وقال: سمعت أحمد بن حنبل قيل له: كيف يقتص من السن؟ قال: تبرد.

قلت: ولا تعارض بين الحديثين؛ فإنه يحتمل أن يكون كل واحد منهما حلف فبر الله قسمهما. وفى هذا ما يدل على كرامات الأولياء على ما يأتي بيانه في قصة الخضر إن الله تعالى. فنسأل الله التثبت على الإيمان بكراماتهم وأن ينظمنا في سلكهم من غير محنة ولا فتنة.

 

أجمع العلماء على أن قوله تعالى: « والسن بالسن » أنه في العمد؛ فمن أصاب سن أحد عمدا ففيه القصاص على حديث أنس. واختلفوا في سائر عظام الجسد إذا كسرت عمدا؛ فقال مالك: عظام الجسد كلها فيها القود إلا ما كان مخوفا مثل الفخذ والصلب والمأمومة والمنقلة والهاشمة، ففي ذلك الدية. وقال الكوفيون: لا قصاص في عظم يكسر ما خلا السن؛ لقوله تعالى: « والسن بالسن » وهو قول الليث والشافعي. قال الشافعي: لا يكون كسر ككسر أبدا؛ فهو ممنوع. قال الطحاوي: اتفقوا على أنه لا قصاص في عظم الرأس؛ فكذلك في سائر العظام. والحجة لمالك حديث أنس في السن وهي عظم؛ فكذلك سائر العظام إلا عظما أجمعوا على أنه لا قصاص فيه؛ لخوف ذهاب النفس منه. قال ابن المنذر: ومن قال لا قصاص في عظم فهو مخالف للحديث؛ والخروج إلى النظير غير جائز مع وجود الخبر.

قلت: ويدل على هذا أيضا قوله تعالى: « فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم » [ البقرة: 194 ] ، وقوله: « وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به » [ النحل: 126 ] وما أجمعوا عليه فغير داخل في الآي. والله أعلم وبالله التوفيق.

 

قال أبو عبيد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الموضحة، وما جاء عن غيره في الشجاع. قال الأصمعي وغيره: دخل كلام بعضهم في بعض؛ أول الشجاج - الخاصة وهي: التي تحرص الجلد - يعني التي تشقه فليلا - ومنه قيل: حرص القصار الثوب إذا شقه؛ وقد يقال لها: الحرصة أيضا. ثم الباضعة - وهي: التي تشق اللحم تبضعه بعد الجلد. ثم المتلاحمة - وهي: التي أخذت في الجلد ولم تبلغ السمحاق. والسمحاق: جلدة أو قشرة رقيقة بين اللحم والعظم. وقال الواقدي: هي عندنا الملطى. وقال غيره: هي الملطاة، قال: وهي التي جاء فيها الحديث ( يقضى في الملطاة بدمها ) . ثم الموضحة - وهي: التي تكشط عنها ذلك القشر أو تشق حتى يبدو وضح العظم، فتلك الموضحة. قال أبو عبيد: وليس في شيء من الشجاج قصاص إلا في الوضحة خاصة؛ لأنه ليس منها شيء له حد ينتهي إليه سواها، وأما غيرها من الشجاج ففيها ديتها. ثم الهاشمة - وهي التي تهشم العظم. ثم المنقلة - بكسر القاف حكاه الجوهري - وهي التي تنقل العظم - أي تكسره - حتى يخرج منها فراش العظام مع الدواء. ثم الآمة - ويقال لها المأمومة - وهي التي تبلغ أم الرأس، يعني الدماغ. قال أبو عبيد ويقال في قوله: ( ويقضى في الملطاة بدمها ) أنه إذا شج الشاج حكم عليه للمشجوج بمبلغ الشجة ساعة شج ولا يستأنى بها. قال: وسائر الشجاج عندنا يستأنى بها حتى ينظر إلى ما يصير أمرها ثم يحكم فيها حينئذ. قال أبو عبيد: والأمر عندنا في الشجاج كلها والجراحات كلها أنه يستأنى بها؛ حدثنا هشيم عن حصين قال: قال عمر بن عبدالعزيز: ما دون الموضحة خدوش وفيها صلح. وقال الحسن البصري: ليس فيما دون الموضحة قصاص. وقال مالك: القصاص فيما دون الموضحة الملطي والدامية والباضعة وما أشبه ذلك؛ وكذلك قال الكوفيون وزادوا السمحاق، حكاه ابن المنذر. وقال أبو عبيد: الدامية التي تدمى من غير أن يسيل منها دم. والدامعة: أن يسيل منها دم. وليس فيا دون الموضحة قصاص بن. وقال الجوهري: والدامية الشجة التي تدمى ولا تسيل. وقال علماؤنا: الدامية هي التي تسيل الدم. ولا قصاص فيما بعد الموضحة، من الهاشمة للعظم، والمنقلة - على خلاف فيها خاصة - والآمة هي البالغة إلى أم الرأس، والدامغة الخارقة لخريطة الدماغ. وفي هاشمة الجسد القصاص، إلا ما هو مخوف كالفخذ وشبهه. وأما هاشمة الرأس فقال ابن القاسم: لا قود فيها؛ لأنها لا بد تعود منقلة. وقال أشهب: فيها القصاص، إلا أن تنقل فتصير منقلة لا قود فيها. وأما الأطراف فيجب القصاص في جميع المفاصل إلا المخوف منها. وفي معنى المفاصل أبعاض المارن والأذنين والذكر والأجفان والشفتين؛ لأنها تقبل التقدير. وفي اللسان روايتان. والقصاص في كسر العظام، إلا ما كان متلفا كعظام الصدر والعنق والصلب والفخذ وشبهه. وفي كسر عظام العضد القصاص. وقضى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم في رجل كسر فخذ رجل أن يكسر فخذه؛ وفعل ذلك عبدالعزيز بن عبدالله بن خالد بن أسيد بمكة. وروي عن عمر بن عبدالعزيز أنه فعله؛ وهذا مذهب مالك على ما ذكرنا، وقال: إنه الأمر المجمع عليه عندهم، والمعمول به في بلادنا في الرجل يضرب الرجل فيتقيه بيده فكسرها يقاد منه.

 

قال العلماء: الشجاج في الرأس، والجراح في البدن. وأجمع أهل العلم على أن فيما دون الموضحة أرش فيا ذكر ابن المنذر؛ واختلفوا في ذلك الأرش وما دون الموضحة شجاج خمس: الدامية والدامعة والباضعة والمتلاحمة والسمحاق؛ فقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي في الدامية حكومة، وفي الباضعة حكومة، وفي المتلاحمة حكومة. وذكر عبدالرزاق عن زيد بن ثابت قال: في الدامية بعير، وفي الباضعة بعيران، وفي المتلاحمة ثلاثة أبعرة من الإبل، وفي السمحاق أربع، وفي الموضحة خمس، وفي الهاشمة عشر، وفي المنقلة خمس عشرة، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الرجل يضرب حتى يذهب عقله الدية كاملة، أو يضرب حتى يغن ولا يفهم الدية كاملة، أو حتى يبح ولا يفهم الدية كاملة، وفي جفن العبن ربع الدية. وفي حلمة الثدي ربع الدية. قال ابن المنذر: وروي عن علي في السمحاق مثل قول زيد. وروي عن عمر وعثمان أنهما قالا: فيها نصف الموضحة. وقال الحسن البصري وعمر بن عبدالعزيز والنخعي فيها حكومة؛ وكذلك قال مالك والشافعي وأحمد. ولا يختلف العلماء أن الموضحة فيها خمس من الإبل؛ على ما في حديث عمرو بن حزم، وفيه: وفي الموضحة خمس. وأجمع أهل العلم على أن الموضحة تكون في الرأس والوجه. واختلفوا في تفضيل موضحة الوجه على موضحة الرأس؛ فروي عن أبي بكر وعمر أنهما سواء. وقال بقولهما جماعة من التابعين؛ وبه يقول الشافعي وإسحاق. وروي عن سعيد بن المسيب تضعيف موضحة الوجه على موضحة الرأس. وقال أحمد: موضحة الوجه أحرى أن يزاد فيها. وقال مالك: المأمومة والمنقلة والموضحة لا تكون إلا في الرأس والوجه، ولا تكون المأمومة إلا في الرأس خاصة إذا وصل إلى الدماغ، قال: والموضحة ما تكون في جمجمة الرأس، وما دونها فهو من العنق ليس فيه موضحة. قال مالك: والأنف ليس من الرأس وليس فيه موضحة، وكذلك اللحي الأسفل ليس فيه موضحة. وقد اختلفوا في الموضحة في غير الرأس وليس فيه والوجه؛ فقال أشهب وابن القاسم: ليس في موضحة الجسد ومنقلته ومأمومته إلا الاجتهاد، وليس فيها أرش معلوم. قال ابن المنذر: هذا قول مالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق، وبه نقول. وروي عن عطاء الخراساني أن الموضحة إذا كانت في جسد الإنسان فيها خمس وعشرون دينارا. قال أبو عمر: واتفق مالك والشافعي وأصحابهما أن من شج رجلا مأمومتين أو موضحتين أو ثلاث مأمومات أو موضحات أو أكثر في ضربة واحدة أن فيهن كلهن - وإن انخرقت فصارت واحدة - دية كاملة. وأما الهاشمة فلا دية فيها عندنا بل حكومة. قال ابن المنذر: ولم أجد في كتب المدنيين ذكر الهاشمة، بل قد قال مالك فيمن كسر أنف رجل إن كان خطأ ففيه الاجتهاد. وكان الحسن البصري لا يوقت في الهاشمة شيئا. وقال أبو ثور: إن اختلفوا فيه ففيها حكومة. قال ابن المنذر: النظر يدل على هذا؛ إذ لا سنة فيها ولا إجماع. وقال القاضي أبو الوليد الباجي: فيها ما في الموضحة؛ فإن صارت منقلة فخمسة عشر، وإن صارت مأمومة فثلث الدية. قال ابن المنذر: ووجدنا أكثر من لقيناه وبلغنا عنه من أهل العلم يجعلون في الهاشمة عشرا من الإبل. وروينا هذا القول عن زيد بن ثابت؛ وبه قال قتادة وعبيدالله بن الحسن والشافعي. وقال الثوري وأصحاب الرأي: فيها ألف درهم، ومرادهم عشر الدية. وأما المنقلة فقال ابن المنذر: جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( في المنقلة خمس عشرة من الإبل ) وأجمع أهل العلم على القول به. قال ابن المنذر: وقال كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن المنقلة هي التي تنقل منها العظام. وقال مالك والشافعي وأحمد وأصحاب الرأي - وهو قول قتادة وابن شبرمة - أن المنقلة لا قود فيها؛ وروينا عن ابن الزبير - وليس بثابت عنه - أنه أقاد من المنقلة. قال ابن المنذر: والأول أولى؛ لأني لا أعلم أحدا خالف في ذلك وأما المأمومة فقال ابن المنذر: جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( في المأمومة ثلث الدية ) . وأجمع عوام أهل العلم على القول به، ولا نعلم أحدا خالف ذلك إلا مكحولا فإنه قال: إذا كانت المأمومة عمدا ففيها ثلثا الدية، وإذا كانت خطأ ففي ثلث الدية؛ وهذا قول شاذ، وبالقول الأول أقول. واختلفوا في القود من المأمومة؛ فقال كثير من أهل العلم: لا قود فيها؛ وروي عن ابن الزبير أنه أقص من المأمومة، فأنكر ذلك الناس. وقال عطاء: ما علمنا أحدا أقاد منا قبل ابن الزبير. وأما الجائفة ففيها ثلث الدية على حديث عمرو بن حزم؛ ولا خلاف في ذلك إلا ما روي عن مكحول أنه قال: إذا كانت عمدا ففي ثلثا الدية، وإن كانت خطأ ففيها ثلث الدبة. والجائفة كل ما خرق إلى الجوف ولو مدخل إبرة؛ فإن نفذت من جهتين عندهم جائفتان، وفيها من الدية الثلثان. قال أشهب: وقد قضى أبو بكر الصديق رضي الله عنه في جائفة نافذة من الجنب الآخر. بدية جائفتين. وقال عطاء ومالك والشافعي وأصحاب الرأي كلهم يقولون: لا قصاص في الجائفة. قال ابن المنذر: وبه نقول.

 

واختلفوا في القود من اللطمة وشبهها؛ فذكر البخاري عن أبي بكر وعلي وابن الزبير وسويد بن مقرن رضى الله عنهم أنهم أقادوا من اللطمة وشبهها. وروي عن عثمان وخالد بن الوليد مثل ذلك؛ وهو قول الشعبي وجماعة من أهل الحديث. وقال الليث: إن كانت اللطمة في العين فلا قود فيها؛ للخوف على العين ويعاقبه السلطان. وإن كانت على الخد ففيها القود. وقالت طائفة: لا قصاص في اللطمة؛ روي هذا عن الحسن وقتادة، وهو قول مالك والكوفيين والشافعي؛ واحتج مالك في ذلك فقال: ليس لطمة المريض الضعيف مثل لطمة القوي، وليس العبد الأسود يلطم مثل الرجل ذي الحالة والهيئة؛ وإنما في ذلك كله الاجتهاد لجهلنا بمقدار اللطمة.

 

واختلفوا في القود من ضرب السوط؛ فقال الليث والحسن: يقاد منه، ويزاد عليه للتعدي. وقال ابن القاسم: يقاد منه. ولا يقاد منه عند الكوفيين والشافعي إلا أن يجرح؛ قال الشافعي إن جرح السوط ففيه حكومة. وقال ابن المنذر: وما أصيب به من سوط أو عصا أو حجر فكان دون النفس فهو عمد، وفيه القود؛ وهذا قول جماعة من أصحاب الحديث. وفي البخاري وأقاد عمر من ضربة بالدرة، وأقاد علي بن أبي طالب من ثلاثة أسواط. واقتص شريح من سوط وخموش. وقال ابن بطال: وحديث لد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل البيت حجة لمن جعل القود في كل ألم وإن لم يكن جرح.

 

واختلفوا في عقل جراحات النساء؛ ففي « الموطأ » عن مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول: تعاقل المرأة الرجل إلى ثلث دية الرجل، إصبعها كإصبعه وسنها كسنه، وموضحتها كموضحته، ومنقلتها كمنقلته. قال ابن بكير، قال مالك: فإذا بلغت ثلث دية الرجل كانت على النصف من دية الرجل. قال ابن المنذر: روينا هذا القول عن عمر وزيد بن ثابت، وبه قال سعيد بن المسيب وعمر بن عبدالعزيز وعروة بن الزبير والزهري وقتادة وابن هرمز ومالك وأحمد بن حنبل وعبدالملك بن الماجشون. وقالت طائفة: دية المرأة على النصف من دية الرجل فيما قل أو كثر؛ روينا هذا القول عن علي بن أبي طالب، وبه قال الثوري والشافعي وأبو ثور والنعمان وصاحباه؛ واحتجوا بأنهم لما أجمعوا على الكثير وهو الدية كان القليل مثله، وبه نقول.

 

قال القاضي عبدالوهاب: وكل ما فيه جمال منفرد عن منفعة أصلا ففيه حكومة؛ كالحاجبين وذهاب شعر اللحية وشعر الرأس وثديي الرجل وأليته. وصفة الحكومة أن يقوم المجني عليه لو كان عبدا سليما، ثم يقوم مع الجناية فما نقص من ثمنه جعل جزءا من ديته بالغا ما بلغ، وحكاه ابن المنذر عن كل من يحفظ عنه من أهل العلم؛ قال: ويقبل فيه قول رجلين ثقتين من أهل المعرفة. وقيل: بل يقبل قول عدل واحد. والله سبحانه أعلم. فهذه جمل من أحكام الجراحات والأعضاء تضمنها معنى هذه الآية، فيها لمن اقتصر عليها كفاية، والله الموفق للهداية بمنه وكرمه.

 

قوله تعالى: « فمن تصدق به فهو كفارة له » شرط وجوابه؛ أي تصدق بالقصاص فعفا فهو كفارة له، أي لذلك المتصدق. وقيل: هو كفارة للجارح فلا يؤاخذ بجنايته في الآخرة؛ لأنه يقوم مقام أخذ الحق منه، وأجر المتصدق عليه. وقد ذكر ابن عباس القولين؛ وعلى الأول أكثر الصحابة ومن بعدهم، وروي الثاني عن ابن عباس ومجاهد، وعن إبراهيم النخعي والشعبي بخلاف عنهما؛ والأول أظهر لأن العائد فيه يرجع إلى مذكور، وهو « من » . وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة ) . قال ابن العربي: والذي يقول إنه إذا عفا عنه المجروح عفا الله عنه لم يقم عليه دليل؛ فلا معنى له.

 

الآيتان: 46 - 47 ( وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين، وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون )

 

قوله تعالى: « وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم » أي جعلنا عيسى يقفو آثارهم، أي آثار النبيين الذين أسلموا. « مصدقا لما بين يديه » يعني التوراة؛ فإنه رأى التوراة حقا، ورأى وجوب العمل بها إلى أن يأتي ناسخ. « مصدقا » نصب على الحال من عيسى. « فيه هدى » في موضع رفع بالابتداء. « ونور » عطف عليه. « ومصدقا » فيه وجهان؛ يجوز أن يكون لعيسى وتعطفه على مصدقا الأول، ويجوز أن يكون حالا من الإنجيل، ويكون التقدير: وأتيناه الإنجيل مستقرا فيه هدى ونور ومصدقا « وهدى وموعظة » عطف على « مصدقا » أي هاديا وواعظا « للمتقين » وخصهم لأنهم المنتفعون بهما. ويجوز رفعهما على العطف على قوله: « فيه هدى ونور » .

 

قوله تعالى: « وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه » قرأ الأعمش وحمزة بنصب الفعل على أن تكون اللام لام كي. والباقون بالجزم على الأمر؛ فعلى الأول تكون اللام متعلقة بقوله: « وآتيناه » فلا يجوز الوقف؛ أي وآتيناه الإنجيل ليحكم أهله بما أنزل الله فيه. ومن قرأه على الأمر فهو كقوله: « وأن احكم بينهم » [ المائدة: 49 ] فهو إلزام مستأنف يبتدأ به، أي ليحكم أهل الإنجيل أي في ذلك الوقت، فأما الآن فهو منسوخ. وقيل: هذا أمر للنصارى الآن بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ فإن في الإنجيل وجوب الإيمان به، والنسخ إنما يتصور في الفروع لا في الأصول. قال مكي: والاختيار الجزم؛ لأن الجماعة عليه؛ ولأن ما بعده من الوعيد والتهديد يدل على أنه إلزام من الله تعالى لأهل الإنجيل. قال النحاس: والصواب عندي أنهما قراءتان حسنتان؛ لأن الله عز وجل لم ينزل كتابا إلا ليعمل بما فيه، وأمر بالعمل بما فيه؛ فصحتا جميعا.

 

الآية: 48 ( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون )

 

قوله تعالى: « وأنزلنا إليك الكتاب » الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم « الكتاب » القرآن « بالحق » أي هو بالأمر الحق « مصدقا » حال. « لما بين يديه من الكتاب » أي من جنس الكتب. « ومهيمنا عليه » أي عاليا عليه ومرتفعا. وهذا يدل على تأويل من يقول بالتفضيل أي في كثرة الثواب، على ما تقدمت إليه الإشارة في « الفاتحة » وهو اختيار ابن الحصار في كتاب شرح السنة له. وقد ذكرنا ما ذكره في كتابنا في شرج الأسماء الحسنى والحمد لله. وقال قتادة: المهيمن معناه المشاهد. وقيل: الحافظ. وقال الحسن: المصدق؛ ومنه قول الشاعر:

إن الكتاب مهيمن لنبينا والحق يعرفه ذوو الألباب

وقال ابن عباس: « ومهيمنا عليه » أي مؤتمنا عليه. قال سعيد بن جبير: القرآن مؤتمن على ما قبله من الكتب، وعن ابن عباس والحسن أيضا: المهيمن الأمين. قال المبرد: أصله مؤتمن أبدل من الهمزة هاء؛ كما قيل في أرقت الماء هرقت، وقاله الزجاج أيضا وأبو علي. وقد صرف فقيل: هيمن يهيمن هيمنة، وهو مهيمن بمعنى كان أمينا. الجوهري: هو من آمن غيره من الخوف؛ وأصله أأمن فهو مؤامن بهمزتين، قلبت الهمزة الثانية ياء كراهة لاجتماعهما فصار مؤتمن، ثم صيرت الأولى هاء كما قالوا: هراق الماء وأراقه؛ يقال منه: هيمن على الشيء يهيمن إذا كان له حافظا، فهو مهيمن؛ عن أبى عبيد. وقرأ مجاهد وابن محيصن: « ومهينا عليه » بفتح الميم. قال مجاهد: أي محمد صلى الله عليه وسلم مؤتمن على القرآن.

 

قوله تعالى: « فاحكم بينهم بما أنزل الله » يوجب الحكم؛ فقيل: هذا نسخ للتخيير في قوله: « فاحكم بينهم أو أعرض عنهم » وقيل: ليس هذا وجوبا، والمعنى: فاحكم بينهم إن شئت؛ إذ لا يجب عليا الحكم بينهم إذا لم يكونوا من أهل الذمة. وفي أهل الذمة تردد وقد مضى الكلام فيه. وقيل: أراد فاحكم بين الخلق؛ فهذا كان واجبا عليه.

 

قوله تعالى: « ولا تتبع أهواءهم » يعني لا تعمل بأهوائهم ومرادهم على ما جاءك من الحق؛ يعني لا تترك الحكم بما بين الله تعالى من القرآن من بيان الحق وبيان الأحكام. والأهواء جمع هوى؛ ولا يجمع أهوية؛ وقد تقدم في « البقرة » . فنهاه عن أن يتبعهم فيما يريدونه؛ وهو يدل على بطلان قول من قال: تقوم الخمر على من أتلفها عليهم؛ لأنها ليست مالا لهم فتكون مضمونة على متلفها؛ لأن إيجاب ضمانها على متلفها حكم بموجب أهواء اليهود؛ وقد أمرنا بخلاف ذلك. ومعنى « عما جاءك » على ما جاءك. « لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا » يدل على عدم التعلق بشرائع الأولين. والشرعة والشريعة الطريقة الظاهرة التي يتوصل بها إلى النجاة. والشريعة في اللغة: الطريق الذي يتوصل منه إلى الماء. والشريعة ما شرع الله لعباده من الدين؛ وقد شرع لهم يشرع شرعا أي سن. والشارع الطريق الأعظم. والشرعة أيضا الوتر، والجمع شرع وشرع وشراع جمع الجمع؛ عن أبي عبيد؛ فهو مشترك. والمنهاج الطريق المستمر، وهو النهج والمنهج، أي البين؛ قال الراجز:

من يك ذا شك فهذا فلج ماء رواء وطريق نهج

وقال أبو العباس محمد بن يزيد: الشريعة ابتداء الطريق؛ المنهاج الطريق المستمر. وروي عن ابن عباس والحسن وغيرهما « شرعة ومنهاجا » سنة وسبيلا. ومعنى الآية أنه جعل التوراة لأهلها؛ والإنجيل لأهله؛ والقرآن لأهله؛ وهذا في الشرائع والعبادات؛ والأصل التوحيد لا اختلاف فيه؛ روي معنى ذلك عن قتادة. وقال مجاهد: الشرعة والمنهاج دين محمد عليه السلام؛ وقد نسخ به كل ما سواه.

 

قوله تعالى: « ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة » أي لجعل شريعتكم واحدة فكنتم على الحق؛ فبين أنه أراد بالاختلاف إيمان قوم وكفر قوم. « ولكن ليبلوكم في ما آتاكم » في الكلام حذف تتعلق به لام كي؛ أي ولكن جعل شرائعكم مختلفة ليختبركم؛ والابتلاء الاختبار.

 

قوله تعالى: « فاستبقوا الخيرات » أي سارعوا إلى الطاعات؛ وهذا يدل على أن تقديمه الواجبات أفضل من تأخيرها، وذلك لا اختلاف فيه في العبادات كلها إلا في الصلاة في أول الوقت؛ فإن أبا حنيفة يرى أن الأولى تأخيرها، وعموم الآية دليل عليه؛ قال الكيا. وفيه دليل على أن الصوم في السفر أولى من الفطر، وقد تقدم جميع هذا في « البقرة » « إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون » أي بما اختلفتم فيه، وتزول الشكوك.

 

الآية: 49 ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون )

 

قوله تعالى: « وأن احكم بينهم بما أنزل الله » تقدم الكلام فيها، وأنها ناسخة للتخيير. قال ابن العربي: وهذه دعوى عريضة؛ فإن شروط النسخ أربعة: منها معرفة التاريخ بتحصيل المتقدم والمتأخر، وهذا مجهول من هاتين الآيتين؛ فامتنع أن يدعى أن واحدة منهما ناسخة للأخرى، وبقي الأمر على حاله.

قلت: قد ذكرنا عن أبي جعفر النحاس أن هذه الآية متأخرة في النزول؛ فتكون ناسخة إلا أن يقدر في الكلام « وأن احكم بينهم بما أنزل الله » إن شئت؛ لأنه قد تقدم ذكر التخيير له، فآخر الكلام حذف التخيير منه لدلالة الأول عليه؛ لأنه معطوف عليه، فحكم التخيير كحكم المعطوف عليه، فهما شريكان وليس الآخر بمنقطع مما قبله؛ إذ لا معنى لذلك ولا يصح، فلا بد من أن يكون قوله: « وأن احكم بينهم بما أنزل الله » معطوفا على ما قبله من قوله: « وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط » ومن قوله: « فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم » فمعنى « وأن احكم بينهم بما أنزل الله » أي احكم بذلك إن حكمت واخترت الحكم؛ فهو كله محكم غير منسوخ، لأن الناسخ لا يكون مرتبطا بالمنسوخ معطوفا عليه، فالتخيير للنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك محكم غير منسوخ، قاله مكي رحمه اله. « وأن احكم » في موضع نصب عطفا على الكتاب؛ أي وأنزلنا إليك أن احكم بينهم بما أنزل اله، أي بحكم الله الذي أنزله إليك في كتابه. « واحذرهم أن يفتنوك » « أن » بدل من الهاء والميم في « واحذرهم » وهو بدل اشتمال. أو مفعول من أجله؛ أي من أجل أن يفتنوك. وعن ابن إسحاق قال ابن عباس: اجتمع قوم من الأحبار منهم ابن صوريا وكعب بن أسد وابن صلوبا وشأس بن عدي وقالوا: اذهبوا بنا إلى محمد فلعلنا نفتنه عن دينه فإنما هو بشر؛ فأتوه فقالوا: قد عرفت يا محمد أنا أحبار اليهود، وإن اتبعناك لم يخالفنا أحد من اليهود، وإن بيننا وبين قوم خصومة فتحاكمهم إليك، فأقض لنا عليهم حتى نؤمن بك؛ فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية. وأصل الفتنة الاختبار حسبما تقدم، ثم يختلف معناها؛ فقوله تعالى هنا « يفتنوك » معناه يصدوك ويردوك؛ وتكون الفتنة بمعنى الشرك؛ ومنه قوله: « والفتنة » بمعنى العبرة؛ وقوله: « وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة » [ الأنفال: 39 ] . وتكون الفتنة بمعنى العبرة؛ كقوله: « لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين » [ يونس: 85 ] . و « لا تجعلنا فتنة للذين كفروا » [ الممتحنة: 5 ] ، وتكون الفتنة الصد عن السبيل كما في هذه الآية. وتكرير « وأن احكم بينهم بما أنزل الله » للتأكيد، أو هي أحوال وأحكام أمره أن يحكم في كل واحد بما أنزل الله. وفي الآية دليل على جواز النسيان على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال: « أن يفتنوك » وإنما يكون ذلك عن نسيان لا عن تعمد. وقيل: الخطاب له والمراد غيره. وسيأتي بيان هذا في « الأنعام » إن شاء الله تعالى. ومعنى « عن بعض ما أنزل الله إليك » عن كل ما أنزل الله إليك. والبعض يستعمل بمعنى الكل قال الشاعر:

أو يعتبط بعض النفوس حمامها

ويروى « أو يرتبط » . أراد كل النفوس؛ وعليه حملوا قوله تعالى: « ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه » [ الزخرف: 63 ] . قال ابن العربي: والصحيح أن « بعض » على حالها في هذه الآية، وأن المراد به الرجم أو الحكم الذي كانوا أرادوه ولم يقصدوا أن يفتنوه عن الكل. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « فإن تولوا » أي فإن أبوا حكمك وأعرضوا عنه « فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم » أي يعذبهم بالجلاء والجزية والقتل، وكذلك كان. وإنما قال: « ببعض » لأن المجازاة بالبعض كانت كافية في التدمير عليهم. « وإن كثيرا من الناس لفاسقون » يعني اليهود.

 

الآية: 50 ( أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون )

 

قوله تعالى: « أفحكم الجاهلية يبغون » « أفحكم » نصب بـ « يبغون » والمعنى: أن الجاهلية كانوا يجعلون حكم الشريف خلاف حكم الوضيع؛ كما تقم في غير موضع، وكانت اليهود تقيم الحدود على الضعفاء الفقراء، ولا يقيمونها على الأقوياء الأغنياء؛ فضارعوا الجاهلية في هذا الفعل.

 

روى سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن طاوس قال: كان إذا سألوه عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض يقرأ هذه الآية « أفحكم الجاهلية يبغون » فكان طاوس يقول: ليس لأحد أن يفضل بعض ولده على بعض، فإن فعل لم ينفذ وفسخ؛ وبه قال أهل الظاهر. وروي عن أحمد بن حنبل مثله، وكرهه الثوري وابن المبارك وإسحاق؛ فإن فعل ذلك أحد نفذ ولم يرد، وأجاز ذلك مالك والثوري والليث والشافعي وأصحاب الرأي؛ واستدلوا بفعل الصديق في نحله عائشة دون سائر ولده، وبقول عليه السلام: ( فارجعه ) وقوله: ( فأشهد على هذا غيري ) . واحتج الأولون بقوله عليه السلام لبشير: ( ألك ولد سوى هذا ) قال نعم، فقال: ( أكلهم وهبت له مثل هذا ) فقال لا، قال: ( فلا تشهدني إذا فإني لا أشهد على جور ) في رواية ( وإني لا أشهد إلا على حق ) . قالوا: وما كان جورا وغير حق فهو باطل لا يجوز. وقول: ( أشهد على هذا غيري ) ليس إذنا في الشهادة وإنما هو زجر عنها؛ لأنه عليه السلام قد سماه جورا وامتنع من الشهادة فيه؛ فلا يمكن أن يشهد أحد من المسلمين في ذلك بوجه. وأما فعل أبي بكر فلا يعارض به قول النبي صلى الله عليه وسلم، ولعله قد كاه نحل أولاده نحلا يعادل ذلك.

فإن قيل: الأصل تصرف الإنسان في ماله مطلقا، قيل له: الأصل الكلي والواقعة المعينة المخالفة لذلك الأصل لا تعارض بينهما كالعموم والخصوص. وفي الأصول أن الصحيح بناء العام على الخاص، ثم إنه ينشأ عن ذلك العقوق الذي هو أكبر الكبائر، وذلك محمد، وما يؤدي إلى المحرم فهو ممنوع؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم ) . قال النعمان: فرجع أبي فرد تلك الصدقة، والصدقة لا يعتصرها الأب بالإنفاق وقوله: ( فارجعه ) محمول على معنى فاردده، والرد ظاهر في الفسخ؛ كما قال عليه السلام ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ) أي مردود مفسوخ. وهذا كله ظاهر قوي، وترجيح جلي في المنع.

 

قرأ ابن وثاب والنخعي « أفحكم » بالرفع على معنى يبغونه؛ فحذف الهاء كما حذفها أبو النجم في قوله:

قد أصبحت أم الخيار تدعي على ذنبا كله لم أصنع

فيمن روى « كله » بالرفع. ويجوز أن يكون التقدير: أفحكم الجاهلية حكم يبغونه، فحذف الموصوف. وقرأ الحسن وقتادة والأعرج والأعمش « أفحكم » بنصب الحاء والكاف وفتح الميم؛ وهي راجعة إلى معنى قراءة الجماعة إذ ليس المراد نفس الحكم، وإنما المراد الحكم؛ فكأنه قال: أفحكم حكم الجاهلية يبغون. وقد يكون الحكم والحاكم في اللغة واحدا وكأنهم يريدون الكاهن وما أشبهه من حكام الجاهلية؛ فيكون المراد بالحكم الشيوع والجنس، إذ لا يراد به حاكم بعينه؛ وجاز وقوع المضاف جنسا كما جاز في قولهم: منعت مصر إردبها، وشبهه. وقرأ ابن عامر « تبغون » بالتاء، الباقون بالياء.

 

قوله تعالى: « ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون » هذا استفهام على جهة الإنكار بمعنى: لا أحد أحسن؛ فهذا ابتداء وخبر. و « حكما » نصب على البيان. لقوله « لقوم يوقنون » أي عند قوم يوقنون.

 

الآية: 51 ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين )

 

قوله تعالى: « اليهود والنصارى أولياء » مفعولان لتتخذوا؛ وهذا يدل على قطع الموالاة شرعا، وقد مضى في « آل عمران » بيان ذلك. ثم قيل: المراد به المنافقون؛ المعنى يا أيها الذين آمنوا بظاهرهم، وكانوا يوالون المشركين ويخبرونهم بأسرار المسلمين. وقيل: نزلت في أبي لبابة، عن عكرمة. قال السدي: نزلت في قصة يوم أحد حين خاف المسلمون حتى هم قوم منهم أن يوالوا اليهود والنصارى. وقيل: نزلت في عبادة بن الصامت وعبدالله بن أبي بن سلول؛ فتبرأ عبادة رضي الله عنه من موالاة اليهود، وتمسك بها ابن أبي وقال: إني أخاف أن تدور الدوائر. « بعضهم أولياء بعض » مبتدأ وخبره؛ وهو بدل على إثبات الشرع الموالاة فيما بينهم حتى يتوارث اليهود والنصارى بعضهم من بعض.

 

قوله تعالى: « ومن يتولهم منكم » أي يعضدهم على المسلمين « فإنه منهم » بين تعالى أن حكمه كحكمهم؛ وهو يمنع إثبات الميراث للمسلم من المرتد، وكان الذي تولاهم ابن أبي ثم هذا الحكم باق إلى يوم القيامة في قطع المولاة؛ وقد قال تعالى: « ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار » [ هود: 113 ] وقال تعالى في « آل عمران » : « لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين » [ آل عمران: 28 ] وقال تعالى: « لا تتخذوا بطانة من دونكم » [ آل عمران: 118 ] وقد مضى القول فيه. وقيل: إن معنى « بعضهم أولياء بعض » أي في النصر « ومن يتولهم منكم فإنه منهم » شرط وجوابه؛ أي أنه قد خالف الله تعالى ورسوله كما خالفوا، ووجبت معاداته كما وجبت معاداتهم، ووجبت له النار كما وجبت لهم؛ فصار منهم أي من أصحابهم.

 

الآيتان: 52 - 53 ( فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين، ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين )

 

قوله تعالى: « فترى الذين في قلوبهم مرض » شك ونفاق، وقد تقدم في « البقرة » والمراد ابن أبي وأصحابه « يسارعون فيهم » أي في موالاتهم ومعاونتهم. « يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة » أي يدور الدهر علينا إما بقحط فلا يميزوننا ولا يفضلوا علينا، وإما أن يظفر اليهود بالمسلمين فلا يدوم الأمر لمحمد صلى الله عليه وسلم. وهذا القول أشبه بالمعنى؛ كأنه من دارت تدور، أي نخشى أن يدور الأمر؛ ويدل عليه قوله عز وجل: « فعسى الله أن يأتي بالفتح » ؛ وقال الشاعر:

يرد عنك القدر المقدورا ودائرات الدهر أن تدورا

عن دول الدهر دائرة من قوم إلى قوم، واختلف في معنى الفتح؛ فقيل: الفتح الفصل والحكم؛ عن قتادة وغيره. قال ابن عباس: أتى الله بالفتح فقتلت مقاتلة بني قريظة وسبيت ذراريهم وأجلي بنو النضير. وقال أبو علي: هو فتح بلاد المشركين على المسلمين. وقال السدي: يعني بالفتح فتح مكة. « أو أمر من عنده » قال السدي: هو الجزية. الحسن: إظهار أمر المنافقين المنافقين والإخبار بأسمائهم والأمر بقتلهم. وقيل: الخصب والسعة للمسلمين. « فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين » أي فيصبحوا نادمين على توليهم الكفار إذ رأوا نصر الله للمؤمنين، وإذا عاينوا عند الموت فبشروا بالعذاب.

 

قوله تعالى: « ويقول الذين آمنوا » وقرأ أهل المدينة وأهل الشام: « يقول » بغير واو. وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق: « ويقول » بالواو والنصب عطفا على « أن يأتي » عند أكثر النحويين، التقدير: فعسى الله أن يأتي بالفتح وأن يقول. وقيل: هو عطف على المعنى؛ لأن معنى « عسى الله أن يأتي بالفتح » وعسى أن يأتي الله بالفتح؛ إذ لا يجوز عسى زيد أن يأتي ويقوم عمرو؛ لأنه لا يصح المعنى إذا قلت وعسى زيد أن يقوم عمرو، ولكن لو قلت: عسى أن يقوم زيد ويأتي عمرو كان جيدا. فإذا قدرت التقديم في أن يأتي إلى جنب عسى حسن؛ لأنه يصير التقدير: عسى أن يأتي وعسى أن يقوم، ويكون من باب قوله:

ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا

وفيه قول ثالث: وهو أن تعطفه على الفتح؛ كما قال الشاعر:

للبس عباءة وتقر عيني

ويجوز أن يجعل « أن يأتي » بدلا من اسم الله جل ذكره؛ فيصير التقدير: عسى أن يأتي الله ويقول الذين آمنوا. وقرأ الكوفيون « ويقول الذين آمنوا » بالرفع على القطع من الأول. « أهؤلاء » إشارة إلى المنافقين. « أقسموا بالله » حلفوا واجتهدوا في الإيمان. « إنهم لمعكم » أي قالوا إنهم، ويجوز « أنهم » نصب بـ « أقسموا » أي قال المؤمنون لليهود على جهة التوبيخ: أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهدا أيمانهم أنه يعينونكم على محمد. ويحتمل أن يكون من المؤمنين بعضهم لبعض؛ أي هؤلاء الذين كانوا يحلفون أنهم مؤمنون فقد هتك الله اليوم سترهم. « حبطت أعمالهم » بطلت بنفاقهم. « فأصبحوا خاسرين » أي خاسرين الثواب. وقيل: خسروا في موالاة اليهود فلم تحصل لهم ثمرة بعد قتل اليهود وإجلائهم.

 

الآية: 54 ( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم )

 

قوله تعالى: « من يرتد منكم عن دينه » شرط وجوابه « فسوف » . وقراءة أهل المدينة والشام « من يرتدد » بدالين. الباقون « من يرتد » . وهذا من إعجاز القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم: إذ أخبر عن ارتدادهم ولم يكن ذلك في عهده وكان ذلك غيبا، فكان على ما أخبر بعد مدة، وأهل الردة كانوا بعد موته صلى الله عليه وسلم. قال ابن إسحاق: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب إلا ثلاثة مسجدا المدينة، ومسجد مكة، ومسجد جؤاثى، وكانوا في ردتهم على قسمين: قسم نبذ الشريعة كلها وخرج عنها، وقسم نبذ وجوب الزكاة واعترف بوجوب غيرها؛ قالوا نصوم ونصلي ولا نزكي؛ فقاتل الصديق جميعهم؛ وبعث خالد بن الوليد إليهم بالجيوش فقاتلهم وسباهم؛ على ما هو مشهور من أخبارهم.

 

قوله تعالى: « فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه » في موضع النعت. قال الحسن وقتادة وغيرهما: نزلت في أبي بكر الصديق وأصحابه. وقال السدي: نزلت في الأنصار. وقيل: هي إشارة إلى قوم لم يكونوا موجودين في ذلك الوقت، وأن أبا بكر قاتل أهل الردة بقوم لم يكونوا وقت نزول الآية؛ وهم أحياء من اليمن من كندة وبجيلة، ومن أشجع. وقيل: إنها نزلت في الأشعريين؛ ففي الخبر أنها لما نزلت قدم بعد ذلك بيسير سفائن الأشعريين، وقبائل اليمن من طريق البحر، فكان لهم بلاء في الإسلام في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت عامة فتوح العراق في زمن عمر رضي الله عنه على يدي قبائل اليمن؛ هذا أصح ما قيل في نزولها. والله أعلم. وروى الحاكم أبو عبدالله في « المستدرك » بإسناده: أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى أبي موسى الأشعري لما نزلت هذه الآية فقال: ( هم قوم هذا ) قال القشيري: فأتباع أبي الحسن من قومه؛ لأن كل موضع أضيف فيه قوم إلى نبي أريد به الأتباع.

 

قوله تعالى: « أذلة على المؤمنين » « أذلة » نعت لقوم، وكذلك « أعزة » أي يرأفون بالمؤمنين ويرحمونهم ويلينون لهم؛ من قولهم: دابة ذلول أي تنقاد سهلة، وليس من الذل في شيء. ويغلظون على الكافرين ويعادونهم. قال ابن عباس: هم للمؤمنين كالوالد للولد والسيد للعبد، وهم في الغلظة على الكفار كالسبع على فريسته؛ قال الله تعالى: « أشداء على الكفار رحماء بينهم » [ الفتح: 29 ] . ويجوز « أذلة » بالنصب على الحال؛ أي يحبهم ويحبونه في هذا الحال، وقد تقدمت معنى محبة الله تعالى لعباده ومحبتهم له.

 

قوله تعالى: « يجاهدون في سبيل الله » في موضع الصفة أيضا. « ولا يخافون لومة لائم » بخلاف المنافقين يخافون الدوائر؛ فدل بهذا على تثبيت إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم؛ لأنهم جاهدوا في الله عز وجل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاتلوا المرتدين بعده، ومعلوم أن من كانت فيه هذه الصفات فهو ولي لله تعالى. وقيل: الآية عامة في كل من يجاهد الكفار إلى قيام الساعة. والله أعلم. « ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء » ابتداء وخبر أي واسع الفضل، عليم بمصالح خلقه.

 

الآية: 55 ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون )

 

قوله تعالى: « إنما وليكم الله ورسوله » قال جابر بن عبدالله قال عبدالله بن سلام للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قومنا من قريظة والنضير قد هجرونا وأقسموا ألا يجالسونا، ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل، فنزلت هذه الآية، فقال: رضينا بالله وبرسوله وبالمؤمنين أولياء. « والذين » عام في جميع المؤمنين. وقد سئل أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم عن معنى « إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا » هل هو علي بن أبي طالب؟ فقال: علي من المؤمنين؛ يذهب إلى أن هذا لجميع المؤمنين. قال النحاس: وهذا قول بين؛ لأن « الذين » لجماعة. وقال ابن عباس: نزلت في أبي بكر رضي الله عنه. وقال في رواية أخرى: نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ وقاله مجاهد والسدي، وحملهم على ذلك قوله تعالى: « الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون » وذلك أن سائلا سأل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعطه أحد شيئا، وكان علي في الصلاة في الركوع وفي يمينه خاتم، فأشار إلى السائل بيده حتى أخذه. قال الكيا الطبري: وهذا يدل على أن العمل القليل لا يبطل الصلاة؛ فإن التصدق بالخاتم في الركوع عمل جاء به في الصلاة ولم تبطل به الصلاة. وقوله: « ويؤتون الزكاة وهم راكعون » يدل على أن صدقة التطوع تسمى زكاة.؛ فإن عليا تصدق بخاتمه في الركوع، وهو نظير قوله تعالى: « وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون » [ الروم: 39 ] وقد انتظم الفرض والنفل، فصار اسم الزكاة شاملا للفرض والنفل، كاسم الصدقة وكاسم الصلاة ينتظم الأمرين.

قلت: فالمراد على هذا بالزكاة التصدق بالخاتم، وحمل لفظ الزكاة على التصدق بالخاتم فيه بعد؛ لأن الزكاة لا تأتي إلا بلفظها المختص بها وهو الزكاة المفروضة على ما تقدم بيانه في أول سورة « البقرة » . وأيضا فإن قبله « يقيمون الصلاة » ومعنى يقيمون الصلاة يأتون بها في أوقاتها بجميع حقوقها، والمراد صلاة الفرض. ثم قال: « وهم راكعون » أي النفل. وقيل: أفرد الركوع بالذكر تشريفا. وقيل: المؤمنون وقت نزول الآية كانوا بين متمم للصلاة وبين راكع. وقال ابن خويز منداد قوله تعالى: « ويؤتون الزكاة وهم راكعون » تضمنت جواز العمل اليسير في الصلاة؛ وذلك أن هذا خرج مخرج المدح، وأقل ما في باب المدح أن يكون مباحا؛ وقد روي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أعطى السائل شيئا وهو في الصلاة، وقد يجوز أن يكون هذه صلاة تطوع، وذلك أنه مكروه في الفرض. ويحتمل أن يكون المدح متوجها على اجتماع حالتين؛ كأنه وصف من يعتقد وجوب الصلاة والزكاة؛ فعبر عن الصلاة بالركوع، وعن الاعتقاد للوجوب بالفعل؛ كما تقول: المسلمون هم المصلون، ولا تريد أنهم في تلك الحال مصلون ولا وجه المدح حال الصلاة؛ فإنما يريد من يفعل هذا الفعل ويعتقده.

 

الآية: 56 ( ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون )

 

قوله تعالى: « ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا » أي من فوض أمره إلى الله، وامتثل أمر رسوله، ووالى المسلمين، فهو من حزب الله. وقيل: أي ومن يتولى القيام بطاعة الله ونصرة رسوله والمؤمنين. « فإن حزب الله هم الغالبون » قال الحسن: حزب الله جند الله. وقال غيره: أنصار الله قال الشاعر:

وكيف أضوى وبلال حزبي

أي ناصري. والمؤمنون حزب الله؛ فلا جرم غلبوا اليهود بالسبي والقتل والإجلاء وضرب الجزية. والحزب الصنف من الناس. وأصله من النائبة من قولهم: حزبه كذا أي نابه؛ فكأن المحتزبين مجتمعون كاجتماع أهل النائبة عليها. وحزب الرجل أصحابه. والحزب الورد؛ ومنه الحديث ( فمن فاته حزبه من الليل ) . وقد حزبت القرآن. والحزب الطائفة. وتحزبوا اجتمعوا. والأحزاب: الطوائف التي تجتمع على محاربة الأنبياء. وحزبه أمر أي أصابه.

 

الآية: 57 ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين )

 

روي عن ابن عباس رضي الله عنه أن قوما من اليهود والمشركين ضحكوا من المسلمين وقت سجودهم فأنزل الله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا إلى آخر الآيات. وتقدم معنى الهزء في » البقرة « . » من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء « قرأه أبو عمرو والكسائي بالخفض بمعنى ومن الكفار. قال الكسائي: وفي حرف أبي رحمه الله » ومن الكفار « ، و » من « ههنا لبيان الجنس؛ والنصب أوضح وأبين. قاله النحاس. وقيل: هو معطوف على أقرب العاملين منه وهو قوله: » من الذين أوتوا الكتاب « فنهاهم الله أن يتخذوا اليهود والمشركين أولياء، وأعلمهم أن الفريقين اتخذوا دين المؤمنين هزوا ولعبا. ومن نصب عطف على » الذين « الأول في قوله: » لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا - والكفار أولياء « أي لا تتخذوا هؤلاء وهؤلاء أولياء؛ فالموصوف بالهزؤ واللعب في هذه القراءة اليهود لا غير. والمنهي عن اتخاذهم أولياء اليهود والمشركون، وكلاهما في القراءة بالخفض موصوف بالهزؤ واللعب. قال مكي: ولولا اتفاق الجماعة على النصب لاخترت الخفض، لقوته في الإعراب وفي المعنى والتفسير والقرب من المعطوف عليه. وقيل: المعنى لا تتخذوا المشركين والمنافقين أولياء؛ بدليل قولهم: » إنما نحن مستهزئون « [ البقرة: 14 ] والمشركون كل كفار، لكن يطلق في الغالب لفظ الكفار على المشركين؛ فلهذا فصل ذكر أهل الكتاب من الكافرين. »

 

قال ابن خويز منداد: هذه الآية مثل قوله تعالى: « لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض » [ المائدة: 51 ] ، و « لا تتخذوا بطانة من دونكم » [ آل عمران: 118 ] تضمنت المنع من التأييد والانتصار بالمشركين ونحو ذلك. وروى جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الخروج إلى أحد جاءه قوم من اليهود فقالوا: نسير معك؛ فقال عليه الصلاة والسلام: ( إنا لا نستعين على أمرنا بالمشركين ) وهذا هو الصحيح من مذهب الشافعي. وأبو حنيفة جوز الانتصار بهم على المشركين للمسلمين؛ وكتاب الله تعالى يدل على خلاف ما قالوه مع ما جاء من السنة ذلك. والله أعلم.

 

الآية: 58 ( وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون )

 

قال الكلبي: كان إذا أذن المؤذن وقام المسلمون إلى الصلاة قالت اليهود: قد قاموا لا قاموا؛ وكانوا يضحكون إذا ركع المسلمون وسجدوا وقالوا في حق الأذان: لقد ابتدعت شيئا لم نسمع به فيما مضى من الأمم، فمن أين لك صياح مثل صياح العير؟ فما أقبحه من صوت، وما أسمجه من أمر. وقيل: إنهم كانوا إذا أذن المؤذن للصلاة تضاحكوا فيما بينهم وتغامزوا على طريق السخف والمجون؛ تجهيلا، وتنفيرا للناس عنها وعن الداعي إليها. وقيل: إنهم كانوا يرون المنادي إلي بمنزلة اللاعب الهازئ بفعلها، جهلا منهم بمنزلتها؛ فنزلت هذه الآية، ونزل قوله سبحانه: « ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا » [ فصلت: 33 ] والنداء الدعاء برفع الصوت، وفد يضم مثل الدعاء والرغاء. وناداه مناداة ونداء أي صاح به. وتنادوا أي نادى بعضهم بعضا. وتنادوا أي جلسوا في النادي، وناداه جالسه في النادي. وليس في كتاب الله تعالى ذكر الأذان إلا في هذه الآية، أما أنه ذكر في الجمعة على الاختصاص.

 

قال العلماء: ولم يكن الأذان بمكة قبل الهجرة، وإنما كانوا ينادون « الصلاة جامعة » فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وصرفت القبلة إلى الكعبة أمر بالأذان، وبقي « الصلاة جامعة » للأمر يعرض. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أهمه أمر الأذان حتى أريه عبدالله بن زيد، وعمر بن الخطاب، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم سمع الأذان ليلة الإسراء في السماء، و ] ما رؤيا عبدالله بن زيد الخزرجي الأنصاري وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما فمشهورة؛ وأن عبدالله بن زيد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ليلا طرقه به، وأن عمر رضي الله عنه قال: إذا أصبحت أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالا فأذن بالصلاة أذان الناس اليوم. وزاد بلال في الصبح « الصلاة خير من النوم » فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وليست فيما أري الأنصاري؛ ذكره ابن سعد عن ابن عمر. وذكر الدارقطني رحمه الله أن الصديق رضي الله عنه أري الأذان، وأنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالا قبل أن يخبره الأنصاري؛ ذكره في كتاب « المدبج » له في حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر الصديق وحديث أبي بكر عنه.

 

واختلف العلماء في وجوب الأذان والإقامة؛ فأما مالك وأصحابه فإن الأذان عندهم إنما بجب في المساجد للجماعات حيث يجتمع الناس، وقد نص على ذلك مالك في موطئه. واختلف المتأخرون من أصحابه على قولين: أحدهما: سنة مؤكدة واجبة على الكفاية في المصر وما جرى مجرى المصر من القرى. وقال بعضهم: هو فرض على الكفاية. وكذلك اختلف أصحاب الشافعي، وحكى الطبري عن مالك قال: إن ترك أهل مصر الأذان عامدين أعادوا الصلاة؛ قال أبو عمر: ولا أعلم اختلافا في وجوب الأذان جملة على أهل المصر؛ لأن الأذان هو العلامة الدالة المفرقة بين دار الإسلام ودار الكفر؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعت سرية قال لهم: ( إذ سمعتم الأذان فأمسكوا وكفوا وإن لم تسمعوا الأذان فأغيروا - أو قال - فشنوا الغارة ) . وفي صحيح مسلم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر، فإن سمع الأذان أمسك وإلا أغار الحديث وقال عطاء ومجاهد والأوزاعي وداود: الأذان فرض، ولم يقولوا على الكفاية. قال الطبري: الأذان سنة وليس بواجب. وذكر عن أشهب عن مالك: إن ترك الأذان مسافر عمدا فعليه إعادة الصلاة. وكره الكوفيون أن يصلي المسافر بغير أذان ولا إقامة؛ قالوا: وأما ساكن المصر فيستحب له أن يؤذن ويقيم؛ فإن استجزأ بأذان الناس وإقامتهم أجزأه. وقال الثوري: تجزئه الإقامة عن الأذان في السفر، وإن شئت أذنت وأقمت. وقال أحمد بن حنبل: يؤذن المسافر على حديث مالك بن الحويرث. وقال داود: الأذان واجب على كل مسافر في خاصته والإقامة؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث ولصاحبه: « إذا كنتما في سفر فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما ) خرجه البخاري وهو قول أهل الظاهر. قال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمالك بن الحويرث ولابن عم له: ( إذا سافرتما فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما ) . قال ابن المنذر: فالأذان والإقامة واجبان على كل جماعة في الحضر والسفر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالأذان وأمره على الوجوب. قال أبو عمر: واتفق الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور والطبري على أن المسافر إذا ترك الأذان عامدا أو ناسيا أجزأته صلاته؛ وكذلك لو ترك الإقامة عندهم، وهم أشد كراهة لتركه الإقامة. واحتج الشافعي في أن الأذان غير واجب وليس فرضا من فروض الصلاة بسقوط الأذان للواحد عند الجمع بعرفه والمزدلفة، وتحصيل مذهب مالك في الأذان في السفر كالشافعي سواء. »

 

واتفق مالك والشافعي وأصحابهما على أن الأذان مثنى والإقامة مرة مرة، إلا أن الشافعي يربع التكبير الأول؛ وذلك محفوظ من روايات الثقات في حديث أبي محذورة، وفي حديث عبدالله بن زيد؛ قال: وهي زيادة يجب قبولها. وزعم الشافعي أن أذان أهل مكة لم يزل في آل أبي محذورة كذلك إلى وقته وعصره. قال أصحابه: وكذلك هو الآن عندهم؛ وما ذهب إليه مالك موجود أيضا في أحاديث صحاح في أذان أبي محذورة، وفي أذان عبدالله بن زيد، والعمل عندهم بالمدينة على ذلك في آل سعد القرظي إلى زمانهم. واتفق مالك والشافعي على الترجيع في الأذان؛ وذلك رجوع المؤذن إذا قال: « أشهد أن لا إله إلا الله مرتين أشهد أن محمدا رسول الله مرتين » رجع فمد من صوته جهده. ولا خلاف بين مالك والشافعي في الإقامة إلا قوله: « قد قامت الصلاة » فإن مالكا يقولها مرة، والشافعي مرتين؛ واكثر العلماء على ما قال الشافعي، وبه جاءت الآثار. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي: الأذان والإقامة جميعا مثنى مثنى، والتكبير عندهم في أول الأذان والإقامة « الله أكبر » أربع مرات، ولا ترجيع عندهم في الأذان؛ وحجتهم في ذلك حديث عبدالرحمن بن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن عبدالله بن زيد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، رأيت في المنام كأن رجلا قام وعليه بردان أخضران على جذم حائط فأذن مثنى وأقام مثنى وقعد بينهما قعدة، فسمع بلال بذلك فقام وأذن مثنى وقعد قعدة وأقام مثنى؛ رواه الأعمش وغيره عن عمر بن مرة عن ابن أبي ليلى، وهو قول جماعة التابعين والفقهاء بالعراق. قال أبو إسحاق السبيعي: كان أصحاب علي وعبدالله يشفعون الأذان والإقامة؛ فهذا أذان الكوفيين، متوارث عندهم به العمل قرنا بعد قرن أيضا، كما يتوارث الحجازيون؛ فأذانهم تربيع التكبير مثل المكيين. ثم الشهادة بأن لا إله إلا الله مرة واحدة، وأشهد أن محمدا رسول الله مرة واحدة، ثم حي على الصلاة مرة، ثم حي على الفلاح مرة، ثم يرجع المؤذن فيمد صوته ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله - الأذان كله - مرتين مرتين إلى آخره. قال أبو عمر: ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي ومحمد بن جرير الطبري إلى إجازة القول بكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحملوه على الإباحة والتخيير، قالوا: كل ذلك جائز؛ لأنه قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع ذلك، وعمل به أصحابه، فمن شاء قال: الله أكبر مرتين في أول الأذان، ومن شاء قال ذلك أربعا، ومن شاء رجع في أذانه، ومن شاء لم يرجع، ومن شاء ثنى الإقامة، ومن شاء أفردها، إلا قوله: « قد قامت الصلاة » فإن ذلك مرتان مرتان على كل حال!!.

 

واختلفوا في التثويب لصلاة الصبح - وهو قول المؤذن: الصلاة خير من النوم - فقال مالك والثوري والليث: يقول المؤذن في صلاة الصبح - بعد قوله: حي على الفلاح مرتين - الصلاة خير من النوم مرتين؛ وهو قول الشافعي بالعراق، وقال بمصر: لا يقول ذلك. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يقوله بعد الفراغ من الأذان إن شاء، وقد روي عنهم أن ذلك في نفس الأذان؛ وعليه الناس في صلاته الفجر. قال أبو عمر روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي محذورة أنه أمره أن يقول في أذان الصبح: ( الصلاة خير من النوم ) . وروي عنه أيضا ذلك من حديث عبدالله بن زيد. وروي عن أنس أنه قال: من السنة أن يقال في الفجر « الصلاة خير من النوم » . وروي عن ابن عمر أنه كان يقوله؛ وأم قول مالك في « الموطأ » أنه بلغه أن المؤذن جاء إلى عمر بن الخطاب يؤذنه بصلاة الصبح فوجده نائما فقال: الصلاة خير من النوم؛ فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح فلا أعلم أن هذا روي عن عمر من جهة يحتج بها وتعلم صحتها؛ وإنما فيه حديث هشام بن عروة عن رجل يقال له « إسماعيل » فأعرفه؛ ذكر ابن أبي شيبة حدثنا عبدة بن سليمان عن هشام بن عروة عن رجل يقال له « إسماعيل » قال: جاء المؤذن يؤذن عمر بصلاة الصبح فقال: الصلاة خير من النوم « فأعجب به عمر وقال للمؤذن: » أقرها في أذانك « . قال أبو عمر: والمعنى فيه عندي أنه قال له: نداء الصبح موضع القول بها لا هاهنا، كأنه كره أن يكون منه نداء آخر عند باب الأمير كما أحدثه الأمراء بعد. قال أبو عمر: وإنما حملني على هذا التأويل وإن كان الظاهر من الخبر خلافه؛ لأن التثويب في صلاة الصبح أشهر عند العلماء، والعامة من أن يظن بعمر رضي الله عنه أنه جهل شيئا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر به مؤذنيه، بالمدينة بلالا، وبمكة أبا محذورة؛ فهو محفوظ معروف في تأذين بلال، وأذان أبي محذورة في صلاة الصبح للبي صلى الله عليه وسلم؛ مشهور عند العلماء. روى وكيع عن سفيان عن عمران بن مسلم عن سويد بن غفلة أنه أرسل إلى مؤذنه إذا بلغت » حي على الفلاح « فقل: الصلاة خير من النوم؛ فإنه أذان بلال؛ ومعلوم أن بلالا لم يؤذن قط لعمر، ولا سمعه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة بالشام إذ دخلها. »

 

وأجمع أهل العلم على أن من السنة ألا يؤذن للصلاة إلا بعد دخول وقتها إلا الفجر، فإنه يؤذن لها قبل طلوع الفجر في قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور؛ وحجتهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم ) . وقال أبو حنيفة والثوري ومحمد بن الحسن: لا يؤذن لصلاة الصبح حتى يدخل وقتها لقول رسول الله صلى الله علي وسلم لمالك بن الحويرث وصاحبه: ( إذا حضرت الصلاة فأذنا ثم أقيما وليؤمكما أكبركما ) وقياسا على سائر الصلوات. وقالت طائفة من أهل الحديث: إذا كان للمسجد مؤذنان أذن أحدهما قيل طلوع الفجر، والآخر بعد طلوع الفجر.

 

واختلفوا في المؤذن يؤذن ويقيم غيره؛ فذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابهم إلى أنه لا بأس بذلك؛ لحديث محمد بن عبدالله بن زيد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره إذ رأى النداء في النوم أن يلقيه على بلال؛ ثم أمر عبدالله بن زيد فأقام. وقال الثوري والليث والشافعي: من أذن فهو يقيم؛ لحديث عبدالرحمن بن زياد بن أنعم عن زياد بن نعيم عن زباد بن الحرث الصدائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان أول الصبح أمرني فأذنت، ثم قام إلى الصلاة فجاء بلال ليقيم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم ) . قال أبو عمر: عبدالرحمن بن زياد هو الإفريقي، وأكثرهم يضعفونه، وليس يروي هذا الحديث غيره؛ والأول أحسن إسنادا إن شاء الله تعالى. وإن صح حديث الإفريقي فإن من أهل العلم من يوثقه ويثني عليه؛ فالقول به أولى لأنه نص في موضع الخلاف، وهو متأخر عن قصة عبدالله بن زيد مع بلال، والآخر؛ فالآخر من أمر رسول الله أولى أن يتبع، ومع هذا فإني أستحب إذا كان المؤذن واحدا راتبا أن يتولى الإقامة؛ فإن أقامها غيره فالصلاة ماضية بإجماع، والحمد لله.

 

وحكم المؤذن أن يترسل في أذانه، ولا يطرب به كما يفعله اليوم كثير من الجهال، بل وقد أخرجه كثير من الطغام والعوام عن حد الإطراب؛ فيرجعون فيه الترجيعات، ويكثرون فيه التقطيعات حتى لا يفهم ما يقول، ولا بما به يصول. روى الدارقطني من حديث ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذن يطرب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الأذان سهل سمح فإن كان أذانك سهلا سمحا وإلا فلا تؤذن ) . ويستقبل في أذانه القبلة عند جماعة العلماء، ويلوي رأسه يمينا وشمالا في « حي على الصلاة حي على الفلاح » عند كثير من أهل العلم. قال أحمد: لا يدور إلا أن يكون في منارة يريد أن يسمع الناس؛ وبه قال إسحاق، والأفضل أن يكون متطهرا.

 

ويستحب لسامع الأذان أن يحكيه إلى آخر التشهدين وإن أتمه جاز؛ لحديث أبي سعيد؛ وفي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم الله أكبر، ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله، قال أشهد أن إله إلا الله ثم قال أشهد أن محمدا رسول الله قال أشهد أن محمدا رسول الله، ثم قال حي على الصلاة قال لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال حي على الفلاح قال لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال الله أكبر الله أكبر قال الله أكبر الله أكبر، ثم قال لا إله إلا الله قال لا إله إلا الله من قلبه دخل الجن ) . وفيه عن سعد بن أبي وقاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من قال حين يسمع المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله رضيت بالله ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا غفر له ما تقدم من ذنبه ) .

 

وأما فضل الأذان والمؤذن فقد جاءت فيه أيضا آثار صحاح؛ منها ما رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان له صراط حتى لا يسمع التأذين ) الحديث. وحسبك أنه شعار الإسلام، وعلم على الإيمان كما تقدم. وأما المؤذن فروى مسلم عن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة ) . وهذه إشارة إلى الأمن من هول ذلك اليوم. والله أعلم. والعرب تكني بطول العنق عن أشراف القوم وساداتهم؛ كما قال قائلهم:

طوال أنضية الأعناق واللمم

وفي الموطأ عن أبي سعيد الخدري سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة ) . وفي سنن ابن ماجة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من أذن محتسبا سبع سنين كتبت له براءة من النار ) وفيه عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من أذن ثنتي عشرة سنة وجبت له الجنة وكتب له بتأذينه في كل يوم ستون حسنة ولكل إقامة ثلاثون حسنة ) . قال أبو حاتم: هذا الإسناد. منكر والحديث صحيح. وعن عثمان بن أبي العاص قال: كان آخر ما عهد إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ( ألا أتخذ مؤذنا يأخذ على أذانه أجرا ) حديث ثابت.

 

واختلفوا في أخذ الأجرة على الأذان؛ فكره ذلك القاسم بن عبدالرحمن وأصحاب الرأي، ورخص فيه مالك، وقال: لا بأس به. وقال الأوزاعي: دلك مكروه، ولا بأس بأخذ الرزق عدى ذلك من بيت المال. وقال الشافعي: لا يرزق المؤذن إلا من خمس الخمس سهم النبي صلى الله عليه وسلم قال بن المنذر: لا يجوز أخذ الأجرة على الأذان. وقد استدل علماؤنا بأخذ الأجرة بحديث أبي محذورة، وفيه نظر؛ أخرجه النسائي وابن مادة وغيرهما قال: خرجت في نفر فكند ببعض الطريق فأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعنا صوت المؤذن ونحن عنه متنكبون فصرخنا نحكيه نهزأ به؛ فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إلينا قوما فأقعدونا بين يديه فدال: ( أيكم الذي سمعت صوته قد ارتدع ) فأشار إلى القوم كلهم وصدقوا فأرسل كل وحبسني وقال لي: ( قم فأذن ) فقمت ولا شيء أكره إلي من أدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دلا مما يأمرني به، فقمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألقى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين هو بنفسه فقال: ( قل الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله ) ، ثم قال لي: ( ارفع فمد صوتك أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله ) ، ثم دعاني حين قضيت التأذين فأعطاني صرة فيها شيء من فضة، قد وضع يده على ناصية أبي محذورة ثم أمرها على وجهه، ثم على ثدييه، ثم على كبده حتى بلغت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم سرة أبي محدورة؛ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( بارك الله لك وبارك عليك ) ، فقلت: يا رسول الله مرني بالتأذين بمكة، قال: ( قد أمرتك ) . فذهب كل شيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهية، وعاد ذلك كله محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقدمت على عتاب بن أسيد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فأذنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لفظ ابن ماجة.

 

قوله تعالى: « ذلك بأنهم قوم لا يعقلون » أي أنهم بمنزلة من لا عقل له يمنعه من القبائح. روي أن رجلا من النصارى وكان بالمدينة إذا سمع المؤذن يقول: « أشهد أن محمدا رسول الله » قال: حرق الكاذب؛ فسقطت في بيته شرارة من نار وهو نائم فتعلقت بالبيت فأحرقته وأحرقت ذلك الكافر معه؛ فكانت عبرة للخلق « والبلاء موكد بالمنطق » وقد كانوا يمهلون مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى يستفتحوا، فلا يؤخروا بعد ذلك؛ ذكره ابن العربي.

 

الآيات: 59 - 60 ( قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون، قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل )

 

قوله تعالى: « قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا » قال ابن عباس رضي الله عنه: جاء نفر من اليهود فيهم أبو ياسر بن أخطب ورافع بن أبي رافع - إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عمن يؤمن به من الرسل عليهم السلام؛ فقال: ( نؤمن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل إلى قوله: « ونحن له مسلمون » ) [ البقرة: 133 ] ، فلما ذكر عيسى عليه السلام جحدوا نبوته وقالوا: والله ما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم ولا دينا شرا من دينكم؛ فنزلت هده الآية وما بعدها، وهي متصلة بما سبقها من إنكارهم الأذان؛ فهو جامع للشهادة لله بالتوحيد، ولمحمد بالنبوة، والمتناقض دين من فرق بين أنبياء الله لا دين من يؤمن بالكل. ويجوز إدغام اللام في التاء لقربها منها. و « تنقمون » معناه تسخطون، وقيل: تكرهون وقيل: تنكرون، والمعنى متقارب؛ يقال: نقم من كذا ينقم ونقم ينقم، والأول أكثر قال عبدالله بن قيس الرقيات:

ما نقموا من بني أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا

وفي التنزيل « وما نقموا منهم » [ البروج: 8 ] ويقال: نقمت على الرجل بالكسر فأنا ناقم إذا عتبت عليه؛ يقال: ما نقمت عليه الإحسان. قال الكسائي: نقمت بالكسر لغة، ونقمت الأمر أيضا ونقمته إذا كرهته، وانتقم الله منه أي عاقبه، والاسم منه النقمة، والجمع نقمات ونقم مثل كلمة وكلمات وكلم، وإن شئت سكنت القاف ونقلت حركتها إلى النون فقلت: نقمة والجمع نقم؛ مثل نعمة ونعم، « إلا أن آمنا بالله » في موضع نصب بـ « تنقمون » و « تنقمون » بمعنى تعيبون، أي هل تنقمون منا إلا إيماننا بالله وقد علمتم أنا على الحق. « وأن أكثركم فاسقون » أي في ترككم الإيمان، وخروجكم عن امتثال أمر الله فقيل هو مثل قول القائل: هل تنقم مني إلا أني عفيف وأنك فاجر. وقيل: أي لأن أكثركم فاسقون تنقمون منا ذلك.

 

قوله تعالى: « قل هل أنبئكم بشر من ذلك » أي بشر من نقمكم علينا. وقيل: بشر ما تريدون لنا من المكروه؛ وهذا جواب قولهم: ما نعرف دينا شرا من دينكم. « مثوبة » نصب على البيان وأصلها مفعولة فألقيت حركة الواو على الثاء فسكنت الواو وبعدها واو ساكنة فحذفت إحداهما لذلك؛ ومثله مقولة ومجوزة ومضوفة على معنى المصدر؛ كما قال الشاعر:

وكنت إذا جاري دعا لمضوفة أشمر حتى ينصف الساق مئزري

وقيل: مَفْعُلة كقولك مكرمة ومعقلة. « من لعنه الله » « من » في موضع رفع؛ كما قال: « بشر من ذلكم النار » [ الحج: 72 ] والتقدير: هو لعن من لعنه الله، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى: قل هل أنبئكم بشر من ذلك من لعنه الله، ويجوز أن تكون في موضع خفض على البدل من شر والتقدير: هل أنبئكم بمن لعنه الله؛ والمراد اليهود. وقد تقدم القول في الطاغوت، أي وجعل منهم من عبد الطاغوت، والموصول محذوف عند الفراء. وقال البصريون: لا يجوز حذف الموصول؛ والمعنى من لعنه الله وعبد الطاغوت.

وقرأ ابن وثاب النخعي « وأنبئكم » بالتخفيف. وقرأ حمزة: « عبد الطاغوت » بضم الباء وكسر التاء؛ جعله اسما على فعل كعضد فهو بناء للمبالغة والكثرة كيقظ وندس وحذر، وأصله الصفة؛ ومنه قول النابغة:

من وحش وجرة موشي أكارعه طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد

بضم الراء ونصبه بـ « جعل » ؛ أي جعل منم عبدا للطاغوت، وأضاف عبدالى الطاغوت فخفضه. وجعل بمعنى خلق، والمعنى وجعل منهم من يبالغ في عبادة الطاغوت. وقرأ الباقون بفتح الباء والتاء؛ وجعلوه فعلا ماضيا، وعطفوه على فعل ماضي وهو غضب ولعن؛ والمعنى عندهم من لعنه الله ومن عبد الطاغوت، أو منصوبا بـ « جعل » ؛ أي جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت. ووحد الضمير في عبد حملا على لفظ « من » دون معناها. وقرأ أُبي وابن مسعود « وعبدوا الطاغوت » على المعنى. ابن عباس: « وعبد الطاغوت » ، فيجوز أن يكون جمع عبد كما يقال: رهن ورهن، وسقف وسقف، ويجوز أن يكون جمع عباد كما يقال: مثال ومثل، ويجوز أن يكون جمع عبد كرغيف ورعف، ويجوز أن يكون جمع عادل كبازل وبزل؛ والمعنى: وخدم الطاغوت. وعند ابن عباس أيضا « وعبد الطاغوت » جعله جمع عابد كما يقال شاهد وشهد وغايب وغيب. وعن أبي واقد: وعباد الطاغوت للمبالغة، جمع عابد أيضا؛ كعامل وعمال، وضارب وضراب. وذكر محبوب أن البصريين قرؤوا: ( وعباد الطاغوت ) جمع عابد أيضا، كقائم وقيام، ويجوز أن يكون جمع عبد. وقرأ أبو جعفر الرؤاسي ( وعبد الطاغوت ) على المفعول، والتقدير: وعبد الطاغوت فيهم. وقرأ عون العقيلي وابن بريدة: ( وعابد الطاغوت ) على التوحيد، وهو يؤدي عن جماعة. وقرأ ابن مسعود أيضا ( وعبد الطاغوت ) وعنه أيضا وأبي ( وعبدت الطاغوت ) على تأنيث الجماعة؛ كما قال تعالى: ( قالت الأعراب ) [ الحجرات: 14 ] وقرأ عبيد بن عمير: ( وأعبد الطاغوت ) مثل كلب وأكلب. فهذه اثنا عشر وجها.

 

قوله تعالى: « أولئك شر مكانا » لأن مكانهم النار؛ وأما المؤمنون فلا شر في مكانهم. وقال الزجاج: أولئك شر مكانا على قولكم. النحاس: ومن أحسن ما قيل فيه: أولئك الذين لعنهم الله شر مكانا في الآخرة من مكانكم في الدنيا لما لحقكم من الشر. وقيل: أولئك الذين لعنهم الله شر مكانا من الذين نقموا عليكم. وقيل: أولئك الذين نقموا عليكم شر مكانا من الذين لعنهم الله. ولما نزلت هذه الآية قال المسلمون لهم: يا إخوة القردة والخنازير فنكسوا رؤوسهم افتضاحا، وفيهم يقول الشاعر:

فلعنة الله على اليهود إن اليهود إخوة القرود

 

الآيات: 61 - 63 ( وإذا جاؤوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون، وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون، لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون )

 

قوله تعالى: « وإذا جاؤوكم قالوا آمنا » الآية. هذه صفة المنافقين، المعنى أنهم لم ينتفعوا بشيء مما سمعوه، بل دخلوا كافرين وخرجوا كافرين. « والله أعلم بما كانوا يكتمون » أي من نفاقهم. وقيل: المراد اليهود الذين قالوا: آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار إذا دخلتم المدينة، واكفروا آخره إذا رجعتم إلى بيوتكم، يدل عليه ما قبله من ذكرهم وما يأتي. قوله تعالى: « وترى كثيرا منهم » يعني من اليهود. « يسارعون في الإثم والعدوان » أي يسابقون في المعاصي والظلم « وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون » .

 

قوله تعالى: « لولا ينهاهم الربانيون والأحبار » ( لولا ) بمعنى فلا. ( ينهاهم ) يزجرهم. ( الربانيون ) علماء النصارى. ( والأحبار ) علماء اليهود قال الحسن. وقيل الكل في اليهود؛ لأن هذه الآيات فيهم. ثم وبخ علماءهم في تركهم نهيهم فقال: « لبئس ما كانوا يصنعون » كما وبخ من يسارع في الإثم بقوله: « لبئس ما كانوا يعملون » ودلت الآية على أن تارك النهي عن المنكر كمرتكب المنكر؛ فالآية توبيخ للعلماء في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد مضى في هذا المعنى في ( البقرة وآل عمران ) . وروى سفيان بن عيينة قال: حدثني سفيان بن سعيد عن مسعر قال: بلغني أن ملكا أمر أن يخسف بقرية فقال: يا رب فيها فلان العابد فأوحى الله تعالى إليه: ( أن به فابدأ فإنه لم يتعمر وجهد في ساعة قط ) . وفي صحيح الترمذي: ( إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أو شك أن يعمهم الله بعقاب من عنده ) . وسيأتي. والصنع بمعنى العمل إلا أنه يقتضي الجودة؛ يقال: سيف صنيع إذا جود عمله.

 

الآية: 64 ( وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين )

 

قوله تعالى: « وقالت اليهود يد الله مغلولة » قال عكرمة: إنما قال هذا فنحاص بن عازوراء، لعنه الله، وأصحابه، وكان لهم أموال فلما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم قال ذلك لهم؛ فقالوا: إن الله بخيل، ويد الله مقبوضة عنا في العطاء؛ فالآية خاصة في بعضهم. وقيل: لما قال قوم هذا ولم ينكر الباقون صاروا كأنهم بأجمعهم قالوا هذا. وقال الحسن: المعنى يد الله مقبوضة عن عذابنا. وقيل: إنهم لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم في فقر وقلة مال وسمعوا ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ) ورأوا النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يستعين بهم في الديات قالوا: إن إله محمد فقير، وربما قالوا: بخيل؛ وهذا معنى قولهم: ( يد الله مغلولة ) فهذا على التمثيل كقوله: ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ) [ الإسراء: 29 ] . ويقال للبخيل: جعد الأنامل، ومقبوض الكف، وكز الأصابع، ومغلول اليد؛ قال الشاعر:

كانت خراسان أرضا إذ يزيد بها وكل باب من الخيرات مفتوح

فاستبدلت بعده جعدا أنامله كأنما وجهه بالخل منضوح

واليد في كلام العرب تكون للجارحة كقوله تعالى: « وخذ بيدك ضغثا » [ ص: 44 ] هذا محال على الله تعالى. وتكون للنعمة؛ تقول العرب: كم يد لي عند فلان، أي كم من نعمة لي قد أسديتها له، وتكون للقوة؛ قال الله عز وجل: « واذكر عبدنا داود ذا الأيد » [ ص: 17 ] ، أي ذا القوة وتكون يد الملك والقدرة؛ قال الله تعالى: « قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء » [ آل عمران:73 ] . وتكون بمعنى الصلة، قال الله تعالى: « مما عملت أيدينا أنعاما » [ يس: 71 ] أي مما عملنا نحن. وقال: « أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح » [ البقرة: 237 ] أي الذي له عقدة النكاح. وتكون بمعنى التأييد والنصرة، ومن قوله عليه السلام: ( يد الله مع القاضي حتى يقضي والقاسم حتى يقسم ) . وتدون لإضافة الفعل إلى المخبر عند تشريفا له وتكريما؛ قال الله تعالى: « يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي » [ ص: 75 ] فلا يجوز أن يحمل على الجارحة؛ لأن الباري جل وتعالى واحد لا يجوز عليه التبعيض، ولا على القوة والملك والنعمة والصلة، لأن الاشتراك يقع حينئذ. بين وليه آدم وعدوه إبليس، ويبطل ما ذكر من تفضيله عليه؛ لبطلان معنى التخصيص، فلم يبق إلا أن تحمل على صفتين تعلقتا بخلق آدم تشريفا له دون خلق إبليس تعلق القدرة بالمقدور، لا من طريق المباشرة ولا من حيث المماسة؛ ومثله ما روي أنه عز اسمه وتعالى علاه وجد أنه كتب التوراة بيده، وغرس دار الكرامة بيده لأهل الجنة، وغير ذلك تعلق الصفة بمقتضاها.

 

قوله تعالى: « غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا » حذفت الضمة من الياء لثقلها؛ أي غلت في الآخرة، ويجوز أن يكون دعاء عليهم، وكذا « ولعنوا بما قالوا » والمقصود تعليمنا كما قال: « لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله » [ الفتح: 27 ] ؛ علمنا الاستثناء كما علمنا الدعاء على أبي لهب بقوله: « تبت يدا أبي لهب » [ المسد: 1 ] وقيل: المراد أنهم أبخل الخلق؛ فلا ترى يهوديا غير لئيم. وفي الكلام علي هذا القول إضمار الواو؛ أي قالوا: يد الله مغلولة وغلت أيديهم. واللعن بالإبعاد، وقد تقدم.

 

قوله تعالى: « بل يداه مبسوطتان » ابتداء وخبر؛ أي بل نعمته مبسوطة؛ فاليد بمعنى النعمة قال بعضهم: هذا غلط؛ لقوله: « بل يداه مبسوطتان » فنعم الله تعالى أكثر من أن تحصى فكيف تكون بل نعمتاه مبسوطتان؟ وأجيب بأنه يجوز أن يكون هذا تثنية جنس لا تثنية واحد مفرد؛ فيكون مثل قوله عليه السلام: ( مثل المنافق كالشاة العائرة بين الغنمين ) . فأحد الجنسين نعمة الدنيا، والثاني نعمة في الآخرة. قيل: نعمتا الدنيا النعمة الظاهرة والنعمة الباطنة؛ كما قال: « وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة » [ لقمان: 20 ] . وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيه: ( النعمة الظاهرة ما حسن من خلقك، والباطنة ما ستر عليك من سيئ عملك ) . وقيل: نعمتاه المطر والنبات اللتان النعمة بهما ومنهما. وقيل: إن النعمة للمبالغة؛ تقول العرب: ( لبيك وسعديك ) وليس يريد الاقتصار على مرتين؛ وقد يقول القائل: ما لي بهذا الأمر يد أو قوة. قال السدي؛ معنى قوله ( يداه ) قوتاه بالثواب والعقاب، بخلاف ما قالت اليهود: إن يده مقبوضة عن عذابهم. وفى صحيح مسلم عن أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله تعالى قال لي أنفق أنفق عليك ) . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يمين الله ملأى لا يغيضها سخَّاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق مذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه - قال - وعرشه على الماء وبيده الأخرى القبض يرفع ويخفض ) . السخاء الشيء الكثير. ونظير ينقص؛ ونظير هذا الحديث قوله جل ذكره: « والله يقبض ويبسط » [ البقرة: ] . وأما هذه الآية ففي قراءة ابن مسعود « بل يداه مبسوطتان » [ المائدة: ] حكاه الأخفش، وقال يقال: يد بسطة، أي منطلقة منبسطة. « ينفق كيف يشاء » أي يرزق كما يريد. ويجوز أن تكون اليد في هذه الآية بمعنى القدرة؛ أي قدرته شاملة، فإن شاء وسع وإن شاء قتر. « وليزيدن كثيرا منهم » لام قسم. « ما أنزل إليك من ربك » أي بالذي أنزل إليك. « طغيانا وكفرا » أي إذا نزل شيء من القرآن فكفروا ازداد كفرهم. « وألقينا بينهم » قال مجاهد: أي بين اليهود والنصارى؛ لأنه قال قبل هذا « لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء » [ المائدة: 51 ] . وقيل: أي ألقينا بين طوائف اليهود، كما قال: « تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى » [ الحشر: 14 ] فهم متباغضون متفقين؛ فهم أبغض خلق الله إلى الناس. « كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله » يريد اليهود. و « كلما » ظرف أي كلما جمعوا وأعدوا شتت الله جمعهم. وقيل: إن اليهود لما أفسدوا وخالفوا كتاب الله - التوراة - أرسل الله عليهم بختنصر، ثم أفسدوا فأرسل عليم بطرس الرومي، ثم أفسدوا فأرسل عليهم المجوس، ثم أفسدوا فبعث الله عليهم المسلمين؛ فكانوا كلما استقام أمرهم شتتهم الله فكلما أوقدوا نارا أي أهادوا شرا، وأجمعوا أمرهم على حرب النبي صلى الله عليه وسلم « أطفأها الله » وقهرهم ووهن أمرهم فذكر النار مستعار. قال قتادة: أذلهم الله عز وجل؛ فلقد بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم وهم تحت أيدي المجوس، ثم قال عز وجل: « ويسعون في الأرض فسادا » أي يسعون في إبطال الإسلام، وذلك من أعظم الفساد، والله أعلم. وقيل: المراد بالنار هنا نار الغضب، أي كلما أوقدوا نار الغضب في أنفسهم وتجمعوا بأبدانهم وقوة النفوس منهم باحتدام نار الغضب أطفأها الله حتى يعفوا؛ وذلك بما جعله من الرعب نصرة بين يدي نبيه صلى الله عليه وسلم.

 

الآيتان: 65 - 66 ( ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم، ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون )

 

قوله تعالى: « ولو أن أهل الكتاب » ( أن ) في موضع رفع، وكذا « ولو أنهم أقاموا التوراة » . « آمنوا » صدقوا. « واتقوا » أي الشرك والمعاصي. « لكفرنا عنهم » اللام جواب ( لو ) . وكفرنا غطينا، وقد تقدم. وإقامة التوراة والإنجيل العمل بمقتضاهما وعدم تحريفهما؛ وقد تقدم هذا المعنى في ( البقرة ) مستوفى. « وما أنزل إليهم من ربهم » أي القرآن. وقيل: كتب أنبيائهم. « لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم » قال ابن عباس وغيره: يعني المطر والنبات؛ وهذا يدل على أنهم كانوا في جدب. وقيل: المعنى لوسعنا عليهم في أرزاقهم ولأكلوا أكلا متواصلا؛ وذكر فوق وتحت للمبالغة فيما يفتح عليهم من الدنيا؛ ونظير هذه الآية « ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب » [ الطلاق: 2 ] ، « وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءا غدقا » [ الجن: 16 ] « ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض » [ الأعراف:96 ] فجعل تعالى التقى من أسباب الرزق كما في هذه الآيات، ووعد بالمزيد لمن شكر فقال: « لئن شكرتم لأزيدنكم » [ إبراهيم: 7 ] ، ثم أخبر تعالى أن منهم مقتصدا - وهم المؤمنون منهم كالنجاشي وسلمان وعبدالله بن سلام - اقتصدوا فلم يقولوا في عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام إلا ما يليق بهما. وقد: أراد بالاقتصاد قوما لم يؤمنوا، ولكنهم لم يكونوا من المؤذين المستهزئين، والله أعلم. والاقتصاد الاعتدال في العمل؛ وهو من القصد، والقصد إتيان الشيء؛ تقول: قددته وقصدت له وقصدت إليه بمعنى. « ساء ما يعملون » أي بئس شيء عملوه؛ كذبوا الرسل، وحرفوا الكذب وأكلوا السحت.

 

الآية: 67 ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين )

 

قوله تعالى: « يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك » . قيل: معناه أظهر التبليغ؛ لأنه كان في أول الإسلام يخفيه خوفا من المشركين، ثم أمر بإظهاره في هذه الآية، وأعلمه الله أنه يعصمه من الناس. وكان عمر رضى الله عنه أول من أظهر إسلامه وقال: لا نعبد الله سرا؛ وفي ذلك نزلت: « يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين » [ الأنفال: 64 ] فدلت الآية على رد قول من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من أمر الدين تقية، وعلى بطلانه، وهم الرافضة، ودلت على أنه صلى الله عليه وسلم لم يسر إلى أحد شيئا من أمر الدين؛ لأن المعنى بلغ جميع ما أنزل إليك ظاهرا، ولولا هذا ما كان في قوله عز وجل: « وإن لم تفعل فما بلغت رسالته » فائدة. وقيل: بلغ ما أنزل إليك من ربك في أمر زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها. وقيل غير هذا، والصحيح القول بالعموم؛ قال ابن عباس: المعنى بلغ جميع ما أنزل إليك من ربك، فإن كتمت شيئا منه فما بلغت رسالته؛ وهذا تأديب للنبي صلى الله عليه وسلم، وتأديب لحملة العلم من أمته ألا يكتموا شيئا من أمر شريعته، وقد علم الله تعالى من أمر نبيه أنه لا يكتم شيئا من وحيه؛ وفي صحيح مسلم من مسروق عن عائشة أنها قالت: من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من الوحي فقد كذب؛ والله تعالى يقول: « يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته » وقبح الله الروافض حيث قالوا: إنه صلى الله عليه وسلم كتم شيئا مما أوحى إليه كان بالناس حاجة إليه.

 

قوله تعالى: « والله يعصمك من الناس » فيه دليل على نبوته؛ لأن الله عز وجل أخبر أنه معصوم، ومن ضمن سبحانه له العصمة فلا يجوز أن يكون قد ترك شيئا مما أمره الله به. وسبب نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان نازلا تحت شجرة فجاء أعرابي فاخترط سيفه وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: من يمنعك مني؟ فقال: [ الله ] ؛ فذعرت يد الأعرابي وسقط السيف من يده؛ وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه؛ ذكره المهدوي. وذكره القاضي عياض في كتاب الشفاء قال: وقد رويت هذه القصة في الصحيح، وأن غورث بن الحارث صاحب القصة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عنه؛ فرجع إلى قومه وقال: جئتكم من عند خير الناس. وقد تقدم الكلام في هذا المعنى في هذه السورة عند قوله: « إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم » [ المائدة: 11 ] مستوفى، وفي « النساء » أيضا في ذكر صلاة الخوف. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله قال: غزونا مع وسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة قبل نجد فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في واد كثير العضاه فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فعلق سيفه بغصن من أغصانها، قال: وتفرق الناس في الوادي يستظلون بالشجر، قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن رجلا أتاني وأنا نائم فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي فلم أشعر إلا والسيف مصلتا في يده فقال لي: من يمنعك مني - قال - قلت الله ثم قال في الثانية من يمنعك مني - قال - قلت الله قال فشام السيف فها هو ذا جالس ثم لم يعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم ) وقال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لما بعثني الله برسالته ضقت بها ذرعا وعر فت أن من الناس من يكذبني فأنزل الله هذه الآية ) وكان أبو طالب يرسل كل يوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا من بني هاشم يحرسونه حتى نزل: « والله يعصمك من الناس » فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ يا عماه إن الله قد عصمني من الجن والإنس فلا احتاج إلى من يحرسني ] .

قلت: وهذا يقتضي أن ذلك كان بمكة، وأن الآية مكية وليس كذلك، وقد تقدم أن هذه السورة مدنية بإجماع؛ ومما يدل على أن هذه الآية مدنية ما رواه مسلم في الصحيح عن عائشة قالت: سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمة المدينة ليلة فقال: [ ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة ] قالت: فبينا نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح؛ فقال: [ من هذا ] ؟ قال: سعد بن أبي وقاص فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ ما جاء بك ] ؟ فقال: وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه؛ فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نام. وفي غير الصحيح قالت: فبينما نحن كذلك سمعت صوت السلاح؛ فقال: [ من هذا ] ؟ فقالوا: سعد وحذيفة جئنا نحرسك؛ فنام صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه ونزلت هذه الآية؛ فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من قبة آدم وقال: [ انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله ] .

وقرأ أهل المدينة: « رسالته » على الجميع. وأبو عمرو وأهل الكوفة: « رسالته » على التوحيد؛ قال النحاس: والقراءتان حسنتان والجمع أبين؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه الوحي شيئا فشيئا ثم يبينه، والإفراد يدل على الكثرة؛ فهي كالمصدر والمصدر في أكثر الكلام لا يجمع ولا يثنى لدلالته على نوعه بلفظه كقوله: « وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها » [ إبراهيم: 34 ] . « إن الله لا يهدي القوم الكافرين » أي لا يرشدهم وقد تقدم. وقيل: أبلغ أنت فأما الهداية فإلينا. نظيره « ما على الرسول إلا البلاغ » [ المائدة:99 ] والله أعلم.

 

الآية: 68 ( قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين )

 

قال ابن عباس: جاء جماعة من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ألست تُقر أن التوراة حق من عند الله؟ قال: [ بلى ] . فقالوا: فإنا نؤمن بها ولا نؤمن بما عداها؛ فنزلت الآية؛ أي لستم على شيء من الدين حتى تعلموا بما في الكتابين من الإيمان بمحمد عليه السلام، والعمل بما يوجبه ذلك منهما؛ وقال أبو علي: ويجوز أن يكون ذلك قبل النسخ لهما.

 

قوله تعالى: « وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا » أي يكفرون به فيزدادون كفرا على كفرهم. والطغيان تجاوز الحد في الظلم والغلو فيه. وذلك أن الظلم منه صغيرة ومنه كبيرة، فمن تجاوز منزلة الصغيرة فقد طغى. ومنه قوله تعالى: « كلا إن الإنسان ليطغى » [ العلق: 6 ] أي يتجاوز الحد في الخروج عن الحق.

 

قوله تعالى: « فلا تأس على القوم الكافرين » أي لا تحزن عليهم. أسي يأسى أسى إذا حزن. قال:

وانحلبت عيناه من فرط الأسى

وهذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وليس بنهي عن الحزن؛ لأنه لا يقدر عليه ولكنه تسلية ونهي عن التعرض للحزن. وقد مضى هذا المعنى في آخر ( آل عمران ) مستوفى.

 

الآية: 69 ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون )

 

تقدم الكلام في هذا كله فلا معنى لإعادته. « والذين هادوا » معطوف، وكذا « والصابئون » معطوف على المضمر في « هادوا » في قول الكسائي والأخفش. قال النحاس: سمعت الزجاج يقول: وقد ذكر له قول الأخفش والكسائي: هذا خطأ من جهتين؛ إحداهما أن المضمر المرفوع يقبح العطف عليه حتى يؤكد. والجهة الأخرى أن المعطوف شريك المعطوف عليه فيصير المعنى أن الصابئين قد دخلوا في اليهودية وهذا محال. وقال الفراء: إنما جاز الرفع في « والصابئون » لأن « إن » ضعيفة فلا تؤثر إلا في الاسم دون الخبر؛ و « الذين » هنا لا يتبين فيه الإعراب فجرى على جهة واحدة الأمران، فجاز رفع الصابئين رجوعا إلى أصل الكلام. قال الزجاج: وسبيل ما يتبين فيه الإعراب وما لا يتبين فيه الإعراب واحد. وقال الخليل وسيبويه: الرفع محمول على التقديم والتأخير؛ والتقدير: إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والصابئون والنصارى كذلك. وأنشد سيبويه وهو نظيره:

وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق

وقال ضابئ البرجمي:

فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب

وقيل: « إن » بمعنى « نعم » فالصابئون مرتفع بالابتداء، وحذف الخبر لدلالة الثاني عليه، فالعطف يكون على هذا التقدير بعد تمام الكلام وانقضاء الاسم والخبر. وقال قيس الرقيات:

بكر العواذل في الصباح يلمنني وألومهنه

ويقلن شيب قد علاك وقد كبرت فقلت إنه

قال الأخفش: ( إنه ) بمعنى ( نعم ) ، وهذه ( الهاء ) أدخلت للسكت.

 

الآية: 70 ( لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون )

 

قوله تعالى: « لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا » قد تقدم في ( البقرة ) معنى الميثاق وهو ألا يعبدوا إلا الله، وما يتصل به. والمعنى في هذه الآية لا تأس على القوم الكافرين فإنا قد أعذرنا إليهم، وأرسلنا الرسل فنقضوا العهود. وكل هذا يرجع إلى ما افتتحت به السورة وهو قوله: « أوفوا بالعقود » [ المائدة: 1 ] . « كلما جاءهم » أي اليهود « رسول بما لا تهوى أنفسهم » لا يوافق هواهم « فريقا كذبوا وفريقا يقتلون » أي كذبوا فريقا وقتلوا فريقا؛ فمن كذبوه عيسى ومن مثله من الأنبياء، وقتلوا زكريا ويحيى وغيرهما من الأنبياء. وإنما قال: « يقتلون » لمراعاة رأس الآية. وقيل: أراد فريقا كذبوا، وفريقا قتلوا، وفريقا يكذبون وفريقا يقتلون، فهذا دأبهم وعادتهم فاختصر. وقيل: فريقا كذبوا لم يقتلوهم، وفريقا قتلوهم فكذبوا. و « يقتلون » نعت لفريق. والله أعلم.

 

الآية: 71 ( وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون )

 

قوله تعالى: « وحسبوا ألا تكون فتنة » المعنى؛ ظن هؤلاء الذين أخذ عليهم الميثاق أنه لا يقع من الله عز وجل ابتلاء واختبار بالشدائد، اغترارا بقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، وإنما اغتروا بطول الإمهال. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي « تكون » بالرفع؛ ونصب الباقون؛ فالرفع على أن حسب بمعنى علم وتيقن. و « أن » مخففة من الثقيلة ودخول « لا » عوض من التخفيف، وحذف الضمير لأنهم كرهوا أن يليها الفعل وليس من حكمها أن تدخل عليه؛ ففصلوا بينهما ( بلا ) . ومن نصب جعل « أن » ناصبة للفعل، وبقي حسب على بابه من الشك وغيره. قال سيبويه: حسبت ألا يقول ذلك؛ أي حسبت أنه قال ذلك. وإن شئت نصبت؛ قال النحاس: والرفع عند النحويين في حسب وأخواتها أجود كما قال:

ألا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت وألا يشهد اللهو أمثالي

وإنما صار الرفع أجود؛ لأن حسب وأخواتها بمنزلة العلم لأنه شيء ثابت.

 

قوله تعالى: « فعموا » أي عن الهدى. « وصموا » أي عن سماع الحق؛ لأنهم لم ينتفعوا بما رأوه ولا سمعوه. « ثم تاب الله عليهم » في الكلام إضمار، أي أوقعت بهم الفتنة فتابوا فتاب الله عليهم بكشف القحط، أو بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم يخبرهم بأن الله يتوب عليهم إن آمنوا، فهذا بيان « تاب الله عليهم » أي يتوب عليهم إن آمنوا وصدقوا لا أنهم تابوا على الحقيقة. « ثم عموا وصموا كثير منهم » أي عمي كثير منهم وصم بعد تبين الحق لهم بمحمد عليه الصلاة والسلام؛ فارتفع « كثير » على البدل من الواو. وقال الأخفش سعيد: كما تقول رأيت قومك ثلثيهم. وإن شئت كان على إضمار مبتدأ أي العمي والصم كثير منهم. وإن شئت كان التقدير العمي والصم منهم كثير. وجواب رابع أن يكون على لغة من قال: ( أكلوني البراغيث ) وعليه قول الشاعر:

ولكن ديافي أبوه وأمه بحوران يعصرن السليط أقاربه

ومن هذا المعنى قوله: « وأسروا النجوى الذين ظلموا » [ الأنبياء: 3 ] . ويجوز في غير القرآن ( كثيرا ) بالنصب يكون نعتا لمصدر محذوف.

 

الآية: 72 ( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار )

 

قوله تعالى: « لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم » هذا قول اليعقوبية فرد الله ذلك بحجة قاطعة مما يقرون به؛ فقال: « وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم » أي إذا كان المسيح يقول: يا رب ويا الله فكيف يدعو نفسه أم كيف يسألها؟ هذا محال « إنه من يشرك بالله » قيل: هو من قول عيسى. وقيل: ابتداء كلام من الله تعالى. والإشراك أن يعتقد معه موجدا. وقد مضى في ( آل عمران ) القول في اشتقاق المسيح فلا معنى لإعادته.

 

الآيتان: 73 - 74 ( لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم، أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم )

 

قوله تعالى: « لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة » أي أحد ثلاثة. ولا يجوز فيه التنوين؛ عن الزجاج وغيره. وفيه للعرب مذهب آخر؛ يقولون: رابع ثلاثة؛ فعلى هذا يجوز الجر والنصب؛ لأن معناه الذي صير الثلاثة أربعة بكونه منهم. وكذلك إذا قلت: ثالث اثنين؛ جاز التنوين. وهذا قول فرق النصارى من الملكية والنسطورية واليعقوبية؛ لأنهم يقولون أب وابن وروح القدس إله واحد؛ ولا يقولون ثلاثة آلهة وهو معنى مذهبهم، وإنما يمتنعون من العبارة وهي لازمة لهم. وما كان هكذا صح أن يحكى بالعبارة اللازمة؛ وذلك أنهم يقولون: إن الابن إله والأب إله وروح القدس إله. وقد تقدم القول في هذا في ( النساء ) فأكفرهم الله بقولهم هذا، وقال « وما من إله إلا إله واحد » أي أن الإله لا يتعدد وهم يلزمهم القول بثلاثة آلهة كما تقدم، وإن لم يصرحوا بذلك لفظا؛ وقد مضى في ( البقرة ) معنى الواحد. و ( من ) زائدة. ويجوز في غير القرآن ( إلها واحدا ) على الاستثناء. وأجاز الكسائي الخفض على البدل.

 

قوله تعالى: « وإن لم ينتهوا » أي يكفوا عن القول بالتثليث ليمسنهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة. « أفلا يتوبون » تقرير وتوبيخ. أي فليتوبوا إليه وليسألوه ستر ذنوبهم؛ والمراد الكفرة منهم. وإنما خص الكفرة بالذكر لأنهم القائلون بذلك دون المؤمنين.

 

الآية: 75 ( ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون )

 

قوله تعالى: « ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل » ابتداء وخبر؛ أي ما المسيح وإن ظهرت الآيات على يديه فإنما جاء بها كما جاءت بها الرسل؛ فإن كان إلها فليكن كل رسول إلها؛ فهذا رد لقولهم واحتجاج عليهم، ثم بالغ في الحجة فقال: « وأمه صديقة » ابتداء وخبر « كانا يأكلان الطعام » أي أنه مولود مربوب، ومن ولدته النساء وكان يأكل الطعام مخلوق محدث كسائر المخلوقين؛ ولم يدفع هذا أحد منهم، فمتى يصلح المربوب لأن يكون ربا؟! وقولهم: كان يأكل بناسوته لا بلاهوته فهذا منهم مصير إلى الاختلاط، ولا يتصور اختلاط إله بغير إله، ولو جاز اختلاط القديم بالمحدث لجاز أن يصير القديم محدثا، ولو صح هذا في حق عيسى لصح في حق غيره حتى يقال: اللاهوت مخالط لكل محدث. وقال بعض المفسرين في قوله: « كانا يأكلان الطعام » إنه كناية عن الغائط والبول. وفى هذا دلالة على أنهما بشران. وقد استدل من قال: إن مريم عليها السلام لم تكن نبية بقوله تعالى: « وأمه صديقة » .

قلت: وفيه نظر، فإنه يجوز أن تكون صديقة مع كونها نبية كإدريس عليه السلام؛ وقد مضى في « آل عمران » ما يدل على هذا. والله أعلم. وإنما قيل لها صديقة لكثرة تصديقها بآيات ربها وتصديقها ولدها فيما أخبرها به؛ عن الحسن وغيره. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « انظر كيف نبين لهم الآيات » أي الدلالات. « ثم انظر أنى يؤفكون » أي كيف يصرفون عن الحق بعد هذا البيان؛ يقال: أفكه يأفكه إذا صرفه. وفي هذا رد على القدرية والمعتزلة.

 

الآية: 76 ( قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم )

 

قوله تعالى: « قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا » زيادة في البيان وإقامة حجة عليهم؛ أي أنتم مقرون أن عيسى كان جنينا في بطن أمه، لا يملك لأحد ضرا ولا نفعا، وإذ أقررتم أن عيسى كان في حال من الأحوال لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم ولا ينفع ولا يضر، فكيف اتخذتموه إلها؟. « والله هو السميع العليم » أي لم يزل سميعا عليما يملك الضر والنفع. ومن كانت هذه صفته فهو الإله على الحقيقة. والله أعلم.

 

الآية: 77 ( قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل )

 

قوله تعالى: « قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق » أي لا تفرطوا كما أفرطت اليهود والنصارى في عيسى؛ غلو اليهود قولهم في عيسى، ليس ولد رشدة، وغلو النصارى قولهم: إنه إله. والغلو مجاوزة الحد؛ وقد تقدم في ( النساء ) بيانه.

 

قوله تعالى: « ولا تتبعوا أهواء قوم » الأهواء جمع هوى وقد تقدم في ( البقرة ) . وسمي الهوى هوى لأنه يهوى بصاحبه في النار. « قد ضلوا من قبل » قال مجاهد والحسن: يعني اليهود. « وأضلوا كثيرا » أي أضلوا كثيرا من الناس. « وضلوا عن سواء السبيل » أي عن قصد طريق محمد صلى الله عليه وسلم. وتكرير ضلوا على معنى أنهم ضلوا من قبل وضلوا من بعد؛ والمراد الأسلاف الذين سنوا الضلالة وعملوا بها من رؤساء اليهود والنصارى.

 

الآية: 78 ( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون )

 

قوله تعالى: « لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم » فيه مسألة واحدة: وهي جواز لعن الكافرين وإن كانوا من أولاد الأنبياء. وأن شرف النسب لا يمنع إطلاق اللعنة في حقهم. ومعنى « على لسان داود وعيسى بن مريم » أي لعنوا في الزبور والإنجيل؛ فإن الزبور لسان داود، والإنجيل لسان عيسى أي لعنهم الله في الكتابين. وقد تقدم اشتقاقهما. قال مجاهد وقتادة وغيرهما: لعنهم مسخهم قردة وخنازير. قال أبو مالك: الذين لعنوا على لسان داود مسخوا قردة. والذين لعنوا على لسان عيسى مسخوا خنازير. وقال ابن عباس: الذين لعنوا على لسان داود أصحاب السبت، والذين لعنوا على لسان عيسى الذين كفروا بالمائدة بعد نزولها. وروي نحوه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: لعن الأسلاف والأخلاف ممن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم على لسان داود وعيسى؛ لأنهما أعلما أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي مبعوث فلعنا من يكفر به.

 

قوله تعالى: « ذلك بما عصوا » ذلك في موضع رفع بالابتداء أي ذلك اللعن بما عصوا؛ أي بعصيانهم. ويجوز أن يكون على إضمار مبتدأ؛ أي الأمر ذلك. ويجوز أن يكون في موضع نصب أي فعلنا ذلك بهم لعصيانهم واعتدائهم.

 

الآية: 79 ( كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون )

 

قوله تعالى: « كانوا لا يتناهون » أي لا ينهى بعضهم بعضا: « لبئس ما كانوا يفعلون » ذم لتركهم النهي، وكذا من بعدهم يذم من فعل فعلهم. خرج أبو داود عن عبدالله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل أول ما يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ] ثم قال: « لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون » إلى قوله: « فاسقون » ثم قال: [ كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق ولتقصرنه على الحق قصرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض وليلعننكم كما لعنهم ] وخرجه الترمذي أيضا. ومعنى لتأطرنه لتردنه.

 

قال ابن عطية: والإجماع منعقد على أن النهي عن المنكر فرض لمن أطاقه وأمن الضرر على نفسه وعلى المسلمين؛ فإن خاف فينكر بقلبه ويهجر ذا المنكر ولا يخالطه. وقال حذاق أهل العلم: وليس من شرط الناهي أن يكون سليما عن معصية بل ينهى العصاة بعضهم بعضا. وقال بعض الأصوليين: فرض على الذين يتعاطون الكؤوس أن ينهى بعضهم بعضا واستدلوا بهذه الآية؛ قالوا: لأن قوله: « كانوا لا يتناهون عن المنكر فعلوه » يقتضي اشتراكهم في الفعل وذمهم على ترك التناهي. وفي الآية دليل على النهي عن مجالسة المجرمين وأمر بتركهم وهجرانهم. وأكد ذلك بقوله في الإنكار على اليهود: « ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا » « وما » من قوله: « ما كانوا » يجوز أن تكون في موضع نصب وما بعدها نعت لها؛ التقدير لبئس شيئا كانوا يفعلونه. أو تكون في موضع رفع وهي بمعنى الذي.

 

الآية: 80 ( ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون )

 

قوله تعالى: « ترى كثيرا منهم » أي من اليهود؛ قيل: كعب بن الأشرف وأصحابه. وقال مجاهد: يعني المنافقين « يتولون الذين كفروا » أي المشركين؛ وليسوا على دينهم. « لبئس ما قدمت لهم أنفسهم » أي سولت وزينت. وقيل: المعنى لبئس ما قدموا لأنفسهم ومعادهم. « أن سخط الله عليهم » « أن » في موضع رفع على إضمار مبتدأ كقولك: بئس رجلا زيد. وقيل: بدل من « ما » في قوله « لبئس » على أن تكون « ما » نكرة فتكون رفعا أيضا. ويجوز أن تكون في موضع نصب بمعنى لأن سخط الله عليه: « وفي العذاب هم خالدون » ابتداء وخبر.

 

الآية: 81 ( ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون )

 

قوله تعالى: « ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء » يدل بهذا على أن من اتخذ كافرا وليا فليس بمؤمن إذا اعتقد اعتقاده ورضي أفعاله. « ولكن كثيرا منهم فاسقون » أي خارجون عن الإيمان بنبيهم لتحريفهم، أو عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم لنفاقهم.