الجزء السابع

 

الآية: 82 ( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون )

 

قوله تعالى: « لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود » اللام لام القسم ودخلت النون على قول الخليل وسيبويه فرقا بين الحال والمستقبل. « عداوة » نصب على البيان وكذا « ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى » وهذه الآية نزلت في النجاشي وأصحابه لما قدم عليهم المسلمون في الهجرة الأولى - حسب ما هو مشهور في سيرة ابن إسحاق وغيره - خوفا من المشركين وفتنتهم؛ وكانوا ذوي عدد. ثم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد ذلك فلم يقدروا على الوصول إليه، حالت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرب. فلما كانت وقعة بدر وقتل الله فيها صناديد الكفار، قال كفار قريش: إن ثأركم بأرض الحبشة، فاهدوا إلى النجاشي وابعثوا إليه رجلين من ذوي رأيكم لعله يعطيكم من عنده فتقتلونهم بمن قتل منكم ببدر، فبعث كفار قريش عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة بهدايا، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري، وكتب معه إلى النجاشي، فقدم على النجاشي، فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين، وأرسل إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم. ثم أمر جعفر أن يقرأ عليهم القرآن فقرأ سورة ( مريم ) فقاموا تفيض أعينهم من الدمع، فهم الذين أنزل الله فيهم « ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى » وقرأ « إلى الشاهدين » رواه أبو داود. قال: حدثنا محمد بن سلمة المرادي قال حدثنا ابن وهب قال أخبرني يونس عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحرث بن هشام، وعن سعيد بن المسيب وعن عروة بن الزبير، أن الهجرة الأولى هجرة المسلمين إلى أرض الحبشة، وساق الحديث بطوله. وذكر البيهقي عن ابن إسحاق قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم عشرون رجلا وهو بمكة أو قريب من ذلك، من النصارى حين ظهر خبره من الحبشة، فوجدوه في المسجد فكلموه وسألوه، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة فلما فرغوا من مسألتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أرادوا، دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل، وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوه فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا له وآمنوا به وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره، فلما قاموا من عنده اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش فقالوا: خيبكم الله من ركب! بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم فتأتونهم بخبر الرجل، فلم تظهر مجالستكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه، بما قال لكم، ما نعلم ركبا أحمق منكم - أو كما قال لهم - فقالوا: سلام عليكم لا نجاهلكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، لا نألوا أنفسنا خيرا. فيقال: إن النفر النصارى من أهل. نجران، ويقال: إن فيهم نزلت هؤلاء الآيات « الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون » [ القصص: 52 ] إلى قوله: « لا نبتغي الجاهلين » [ القصص: 55 ] وقيل: إن جعفرا وأصحابه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في سبعين رجلا عليهم ثياب الصوف، فيهم اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام وهم بحيراء الراهب وإدريس وأشرف وأبرهة وثمامة وقثم ودريد وأيمن، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة « يس » إلى آخرها، فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا، وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى فنزلت فيهم « لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى » يعني وفد النجاشي وكانوا أصحاب الصوامع. وقال سعيد بن جبير: وأنزل الله فيهم أيضا « الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون » [ القصص: 52 ] إلى قوله: « أولئك يؤتون أجرهم مرتين » [ القصص: 54 ] إلى آخر الآية. وقال مقاتل والكلبي: كانوا أربعين رجلا من أهل نجران من بني الحرث بن كعب، واثنان وثلاثون من الحبشة، وثمانية وستون من أهل الشام. وقال قتادة: نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق مما جاء به عيسى، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم آمنوا به فأثنى الله عليهم.

 

قوله تعالى: « ذلك بأن منهم قسيسين » واحد « القسيسين » قس وقسيس؛ قال قطرب. والقسيس العالم؛ وأصله من قس إذا تتبع الشيء فطلبه؛ قال الراجز:

يصبحن عن قس الأذى غوافلا

وتقسمت أصواتهم بالليل تسمعتها. والقس النميمة. والقس أيضا رئيس من رؤساء النصارى في الدين والعلم، وجمعه قسوس، وكذلك القسيس مثل الشر والشرير فالقسيسون هم الذين يتبعون العلماء والعباد. ويقال في جمع قسيس مكسرا: قساوسة أبدل من إحدى السينين واوا وقساوسة أيضا كمهالبة. والأصل قساسسة فأبدلوا إحدى السينات واوا لكثرتها. ولفظ القسيس إما أن يكون عربيا، وإما أن يكون بلغة الروم ولكن خلطته العرب بكلامهم فصار من لغتهم إذ ليس في الكتاب ما ليس من لغة العرب كما تقدم. وقال أبو بكر الأنباري: حدثنا أبي حدثنا نصر بن داود حدثنا أبو عبيد، قال: حدثت عن معاوية بن هشام عن نصير الطائي عن الصلت عن حامية بن رباب قال: قلت لسلمان « بأن منهم قسيسين ورهبانا » فقال: دع القسيسين في الصوامع والمحراب أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم « بأن منهم صديقين ورهبانا » . وقال عروة بن الزبير: ضيعت النصارى الإنجيل، وأدخلوا فيه ما ليس منه؛ وكانوا أربعة نفر الذين غيروه؛ لوقاس ومرقوس ويحنس ومقبوس وبقي قسيس على الحق وعلى الاستقامة، فمن كان على دينه وهديه فهو قسيس.

 

قوله تعالى: « ورهبانا » الرهبان جمع راهب كركبان وراكب. قال النابغة:

لو أنها عرضت لأشمط راهب عبدالإله صرورة متعبد

لرنا لرؤيتها وحسن حديثها ولخاله رشدا وإن لم يرشد

والفعل منه رهب الله يرهبه أي خافه رهبا ورهبا ورهبة. والرهبانية والترهب التعبد في صومعة. قال أبو عبيد: وقد يكون ( رهبان ) للواحد والجمع؛ قال الفراء: ويجمع ( رهبان ) إذا كان للمفرد رهابنة ورهابين كقربان وقرابين؛ قال جرير في الجمع:

رهبان مدين لو رأوك تنزلوا والعصم من شعف العقول الفادر

الفادر المسن من الوعول. ويقال: العظيم، وكذلك الفدور والجمع فدر وفدور وموضعها المفدرة؛ قال الجوهري. وقال آخر في التوحيد:

لو أبصرت رهبان دير في الجبل لانحدر الرهبان يسعى ويصل

من الصلاة. والرهابة على وزن السحابة عظم في الصد مشرف على البطن مثل اللسان. وهذا المدح لمن آمن منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم دون من أصر على كفره ولهذا قال: « وأنهم لا يستكبرون » أي عن الانقياد إلى الحق.

 

الآية: 83 ( وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين )

 

قوله تعالى: « وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع » أي بالدمع وهو في موضع الحال؛ وكذا « يقولون » . وقال امرؤ القيس:

ففاضت دموع العين مني صبابة على النحر حتى بل دمعي محملي

وخبر مستفيض إذا كثر وانتشر كفيض الماء عن الكثرة. وهذه أحوال العلماء يبكون ولا يصعقون، ويسألون ولا يصيحون، ويتحازنون ولا يتموتون؛ كما قال تعالى: « الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله » [ الزمر: 23 ] وقال: « إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم » . وفي الأنفال يأتي بيان هذا المعنى إن شاء الله تعالى. وبين الله سبحانه في هذه الآيات أن أشد الكفار تمردا وعتوا وعداوة للمسلمين اليهود، ويضاهيهم المشركون، وبين أن أقربهم مودة النصارى. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « فاكتبنا مع الشاهدين » أي مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يشهدون بالحق من قوله عز وجل: « وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس » [ البقرة:143 ] عن ابن عباس وابن جريج. وقال الحسن: الذين يشهدون بالإيمان. وقال أبو علي: الذين يشهدون بتصديق نبيك وكتابك. ومعنى « فاكتبنا » اجعلنا، فيكون بمنزلة ما قد كتب ودون.

 

الآية: 84 ( وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين )

 

قوله تعالى: « وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق » بين استبصارهم في الدين؛ أي يقولون وما لنا لا نؤمن؛ أي وما لنا تاركين الإيمان. « نؤمن » في موضع نصب على الحال. « ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين » أي مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم بدليل قوله: « أن الأرض يرثها عبادي الصالحون » [ الأنبياء: 105 ] يريد أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وفي الكلام إضمار أي نطمع أن يدخلنا ربنا الجنة. وقيل: « مع » بمعنى ( في ) كما تذكر ( في ) بمعنى ( مع ) تقول: كنت فيمن لقي الأمير؛ أي مع من لقي الأمير. والطمع يكون مخففا وغير مخفف؛ يقال: طمع فيه طمعا وطعامة وطماعية مخفف فهو طمع.

 

الآيتان: 85 - 86 ( فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين، والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم )

 

قوله تعالى: « فأثابهم الله بما قالوا جنات » دليل على إخلاص إيمانهم وصدق مقالهم؛ فأجاب الله سؤالهم وحقق طمعهم - وهكذا من خلص إيمانه وصدق يقينه يكون ثوابه الجنة. ثم قال: « والذين كفروا » من اليهود والنصارى ومن المشركين « وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم » والجحيم النار الشديدة الاتقاد. يقال: جحم فلان النار إذا شدد إيقادها. ويقال أيضا لعين الأسد: جحمة؛ لشدة اتقادها. ويقال ذلك للحرب قال الشاعر:

والحرب لا يبقى لجاحمها التخيل والمراح

إلا الفتى الصبار في النجدات والفرس الوقاح

 

الآية: 87 ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين )

 

أسند الطبري إلى ابن عباس أن الآية نزلت بسبب رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني إذا أصبت من اللحم انتشرت وأخذتني شهوتي فحرمت اللحم؛ فأنزل الله هذه الآية. وقيل: إنها نزلت بسبب جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو بكر وعلي وابن مسعود وعبدالله بن عمر وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ومعقل بن مقرن رضي الله عنهم، اجتمعوا في دار عثمان بن مظعون، واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش، ولا يأكلوا اللحم ولا الودك ولا يقربوا النساء والطيب، ويلبسوا المسوح ويرفضوا الدنيا ويسيحوا في الأرض، ويترهبوا ويجبوا المذاكير؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية. والأخبار بهذا المعنى كثيرة وإن لم يكن فيها ذكر النزول

 

خرج مسلم عن أنس أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر؛ فقال بعضهم: لا أتزوج النساء؛ وقال بعضهم: لا آكل اللحم؛ وقال بعضهم: لا أنام على الفراش؛ فحمد الله وأثنى عليه فقال: [ وما بال أقوام قالوا كذا وكذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ] . وخرجه البخاري عن أنس أيضا ولفظه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته؛ فلما أخبروا كأنهم تقالوها - فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر الله له من ذنبه ما تقدم وما تأخر. فقال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا. وقال آخر: أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أما أنا فأعتزل النساء ولا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: [ أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ] . وخرجا عن سعد بن أبي وقاص قال: أراد عثمان بن مظعون أن يتبتل فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم ولو أجاز له ذلك لاختصينا. وخرج الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه في مسنده قال حدثنا أبو المغيرة قال حدثنا معان بن رفاعة، قال حدثني علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية من سراياه؛ قال: فمر رجل بغار فيه شيء من الماء فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار فيقوته ما كان فيه من ماء، ويصيب ما حوله من البقل، ويتخلى عن الدنيا؛ قال: لو أني أتيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك، فإن أذن لي فعلت وإلا لم أفعل؛ فأتاه فقال: يا نبي الله إني مررت بغار فيه ما يقوتني من الماء والبقل، فحدثتني نفسي بأن أقيم فيه وأتخلى عن الدنيا؛ قال: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم [ إني لم أبعث باليهودية ولا النصرانية ولكني بعثت بالحنيفية السمحة والذي نفس محمد بيده لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ولمقام أحدكم في الصف خير من صلاته ستين سنة ] .

 

قال علماؤنا رحمة الله عليهم في هذه الآية وما شابهها والأحاديث الواردة في معناها رد على غلاة المتزهدين، وعلى أهل البطالة من المتصوفين؛ إذ كل فريق منهم قد عدل عن طريقه، وحاد عن تحقيقه؛ قال الطبري: لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء مما أحل الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح إذا خاف على نفسه بإحلال ذلك بها بعض العنت والمشقة؛ ولذلك رد النبي صلى الله عليه وسلم التبتل على ابن مظعون فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحله الله لعباده، وأن الفضل والبر إنما هو في فعل ما ندب عباده إليه، وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنة أمته، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون، إذ كان خير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا كان كذلك تبين خطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان إذا قدر على لباس ذلك من حله، وآثر أكل الخشن من الطعام وترك اللحم وغيره حذرا من عارض الحاجة إلى النساء. قال الطبري: فإن ظن ظان أن الخير في غير الذي قلنا لما في لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس وصرف ما فضل بينهما من القيمة إلى أهل الحاجة فقد ظن خطأ؛ وذلك أن الأولى بالإنسان صلاح نفسه وعونه لها على طاعة ربها، ولا شيء أضر للجسم من المطاعم الرديئة لأنها مفسدة لعقله ومضعفة لأدواته التي جعلها الله سببا إلى طاعته. وقد جاء رجل إلى الحسن البصري؛ فقال: إن لي جارا لا يأكل الفالوذج فقال: ولم؟ قال: يقول لا يؤدي شكره؛ فقال الحسن: أفيشرب الماء البارد؟ فقال: نعم. فقال: إن جارك جاهل، فإن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثر من نعمته عليه في الفالوذج. قال ابن العربي قال علماؤنا: هذا إذا كان الدين قواما، ولم يكن المال حراما؛ فأما إذا فسد الدين عند الناس وعم الحرام فالتبتل أفضل، وترك اللذات أولى، وإذا وجد الحلال فحال النبي صلى الله عليه وسلم أفضل وأعلى. قال المهلب: إنما نهى صلى الله عليه وسلم عن التبتل والترهب من أجل أنه مكاثر بأمته الأمم يوم القيامة، وأنه في الدنيا مقاتل بهم طوائف الكفار، وفي آخر الزمان يقاتلون الدجال؛ فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكثر النسل.

 

قوله تعالى: « ولا تعتدوا » قيل: المعنى لا تعتدوا فتحلوا ما حرم الله فالنهيان على هذا تضمنا الطرفين؛ أي لا تشددوا فتحرموا حلالا، ولا تترخصوا فتحلوا حراما؛ قاله الحسن البصري. وقيل: معناه التأكيد لقوله: « تحرموا » ؛ قاله السدي وعكرمة وغيرهما؛ أي لا تحرموا ما أحل الله وشرع. والأول أولى. والله أعلم.

 

من حرم على نفسه طعاما أو شرابا أو أمة له، أو شيئا مما أحل الله فلا شيء عليه، ولا كفارة في شيء من ذلك عند مالك؛ إلا أنه إن نوى بتحريم الأمة. عتقها صارت حرة وحرم عليه وطؤها إلا بنكاح جديد بعد عتقها. وكذلك إذا قال لامرأته أنت علي حرام فإنه تطلق عليه ثلاثا؛ وذلك أن الله تعالى قد أباح له أن يحرم امرأته عليه بالطلاق صريحا وكناية، وحرام من كنايات الطلاق. وسيأتي ما للعلماء فيه في سورة ( التحريم ) إن شاء الله تعالى. وقال أبو حنيفة: إن من حرم شيئا صار محرما عليه، وإذا تناوله لزمته الكفارة؛ وهذا بعيد والآية ترد عليه. وقال سعيد بن جبير: لغو اليمين تحريم الحلال. وهو معنى قول الشافعي على ما يأتي.

 

الآية: 88 ( وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون )

 

قوله تعالى: « وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا » فيه مسألة واحدة: الأكل في هذه الآية عبارة عن التمتع بالأكل والشرب واللباس والركوب ونحو ذلك. وخص، الأكل بالذكر؛ لأنه أعظم المقصود وأخص الانتفاعات بالإنسان. وسيأتي بيان حكم الأكل والشرب واللباس في « الأعراف » إن شاء الله تعالى. وأما شهوة الأشياء الملذة، ومنازعة النفس إلى طلب الأنواع الشهية، فمذاهب الناس في تمكين النفس منها مختلفة؛ فمنهم من يرى صرف النفس عنها وقهرها عن اتباع شهواتها أحرى ليذل له قيادها، ويهون عليه عندها؛ فإنه إذا أعطاها المراد يصير أسير شهواتها، ومنقادا بانقيادها. حكي أن أبا حازم كان يمر على الفاكهة فيشتهيها فيقول: موعدك الجنة. وقال آخرون: تمكين النفس من لذاتها أولى لما فيه من ارتياحها ونشاطها بإدراك إرادتها. وقال آخرون: بل التوسط في ذلك أولى؛ لأن في إعطائها ذلك مرة ومنعها أخرى جمع بين الأمرين؛ وذلك النصف من غير شين. وتقدم معنى الاعتداء والرزق في « البقرة » والحمد لله.

 

الآية: 89 ( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون )

 

قوله تعالى: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » تقدم معنى اللغو في « البقرة » ومعنى « في أيمانكم » أي من أيمانكم، والأيمان جمع يمين. وقيل: ويمين فعيل من اليمن وهو البركة؛ سماها الله تعالى بذلك؛ لأنها تحفظ الحقوق. ويمين تذكر وتؤنث وتجمع أيمان وأيمن. قال زهير:

فتجمع أيمن منا ومنكم

 

واختلف في سبب نزول هذه الآية؛ فقال ابن عباس: سبب نزولها القوم الذين حرموا طيبات المطاعم والملابس والمناكح على أنفسهم، حلفوا على ذلك فلما نزلت « لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم » قالوا: كيف نصنع بأيماننا؟ فنزلت هذه الآية. والمعنى على هذا القول؛ إذا أتيتم باليمين ثم ألغيتموها - أي أسقطتم حكمها بالتكفير وكفرتم - فلا يؤاخذكم الله بذلك؛ وإنما يؤاخذكم بما أقمتم عليه فلم تلغوه؛ أي فلم تكفروا؛ فبان بهذا أن الحلف لا يحرم شيئا. وهو دليل الشافعي على أن اليمين لا يتعلق بها تحريم الحلال، وأن تحريم الحلال لغو، كما أن تحليل الحرام لغو مثل قول القائل: استحللت شرب الخمر، فتقتضي الآية على هذا القول أن الله تعالى جعل تحريم الحلال لغوا في أنه لا يحرم؛ فقال: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » أي بتحريم الحلال. وروي أن عبدالله بن رواحة كان له أيتام وضيف، فانقلب من شغله بعد ساعة من الليل. فقال: أعشيتم ضيفي؟ فقالوا: انتظرناك؛ فقال: لا والله لا آكله الليلة؛ فقال ضيفه: وما أنا بالذي يأكل؛ وقال أيتامه: ونحن لا نأكل؛ فلما رأى ذلك أكل وأكلوا. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال له: « أطعت الرحمن وعصيت الشيطان » فنزلت الآية.

الثالثة: الأيمان في الشريعة على أربعة أقسام: قسمان فيهما الكفارة، وقسمان لا كفارة فيهما. خرج الدارقطني في سننه، حدثنا عبدالله بن محمد بن عبدالعزيز حدثنا خلف بن هشام حدثنا عبثر عن ليث عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله، قال: الأيمان أربعة، يمينان يكفران ويمينان لا يكفران؛ فاليمينان اللذان يُكفّرَان فالرجل الذي يحلف والله لا أفعل كذا وكذا فيفعل، والرجل يقول والله لأفعلن كذا وكذا فلا يفعل، واليمينان اللذان لا يكفران فالرجل يحلف والله ما فعلت كذا وكذا وقد فعل، والرجل يحلف لقد فعلت كذا وكذا ولم يفعله. قال ابن عبدالبر: وذكر سفيان الثوري في ( جامعه ) وذكره المروزي عنه أيضا، قال سفيان: الأيمان أربعة؛ يمينان يكفران وهو أن يقول الرجل والله لا أفعل فيفعل، أو يقول والله لأفعلن ثم لا يفعل؛ ويمينان لا يكفران وهو أن يقول الرجل والله ما فعلت وقد فعل، أو يقول والله لقد فعلت وما فعل؛ قال المروزي: أما اليمينان الأوليان فلا اختلاف فيهما بين العلماء على ما قال سفيان؛ وأما اليمينان الأخريان فقد اختلف أهل العلم فيهما؛ فإن كان الحالف حلف على أنه لم يفعل كذا وكذا، أو أنه قد فعل كذا وكذا عند نفسه صادقا يرى أنه على ما حلف عليه فلا إثم عليه ولا كفارة عليه في قول مالك وسفيان الثوري وأصحاب الرأي وكذلك قال أحمد وأبو عبيد؛ وقال الشافعي لا إثم عليه وعليه الكفارة. قال المروزي: وليس قول الشافعي في هذا بالقوي. قال: وإن كان الحالف على أنه لم يفعل هذا وكذا وقد فعل متعمدا للكذب فهو آثم ولا كفارة عليه في قول عامة العلماء: مالك وسفيان الثوري وأصحاب الرأي وأحمد بن حنبل وأبي ثور وأبي عبيد. وكان الشافعي يقول يُكفِّر؛ قال: وقد روي عن بعض التابعين مثل قول الشافعي. قال المروزي: أميل إلى قول مالك وأحمد. قال: فأما يمين اللغو الذي اتفق عامة العلماء على أنها لغو فهو قول الرجل: لا والله، وبلى والله، في حديثه وكلامه غير منعقد لليمين ولا مريدها. قال الشافعي: وذلك عند اللجاج والغضب والعجلة.

 

قوله تعالى: « ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان » مخفف القاف من العقد، والعقد على ضربين حسي كعقد الحبل، وحكمي كعقد البيع؛ قال الشاعر:

قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا

فاليمين المنعقدة منفعلة من العقد، وهي عقد القلب في المستقبل ألا يفعل ففعل؛ أو ليفعلن فلا يفعل كما تقدم. فهذه التي يحلها الاستثناء والكفارة على ما يأتي. وقرئ « عاقدتم » بألف بعد العين على وزن فاعل وذلك لا يكون إلا من اثنين في الأكثر، وقد يكون الثاني من حلف لأجله في كلام وقع معه، أو يكون المعنى بما عاقدتم عليه الأيمان؛ لأن عاقد قريب من معنى عاهد فعدي بحرف الجر، لما كان في معنى عاهد، وعاهد يتعدى إلى مفعولين الثاني منهما بحرف جر؛ قال الله تعالى: « ومن أوفى بما عاهد عليه الله » [ الفتح: 10 ] وهذا كما عديت « ناديتم إلى الصلاة » بإلى، وبابها أن تقول ناديت زيدا « وناديناه من جانب الطور الأيمن » [ مريم: 52 ] لكن لما كانت بمعنى دعوت عدي بإلى؛ قال الله تعالى: « ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله » [ فصلت: 33 ] ثم اتسع في قوله تعالى: « عاقدتم عليه الأيمان » . فحذف حرف الجر؛ فوصل الفعل إلى المفعول فصار عاقدتموه، ثم حذفت الهاء كما حذفت من قوله تعالى: « فاصدع بما تؤمر » [ الحجر: 94 ] . أو يكون فاعل بمعنى فعل كما قال تعالى: « قاتلهم الله » [ التوبة:30 ] أي قتلهم. وقد تأتي المفاعلة في كلام العرب من واحد بغير معنى ( فاعلت ) كقولهم: سافرت وظاهرت. وقرئ « عقدتم » بتشديد القاف. قال مجاهد: معناه تعمدتم أي قصدتم. وروي عن ابن عمر أن التشديد يقتضي التكرار فلا تجب عليه الكفارة إلا إذا كرر. وهذا يرده ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني ] . فذكر وجوب الكفارة في اليمين التي لم تتكرر. قال أبو عبيد: التشديد يقتضي التكرير مرة بعد مرة، ولست آمن أن يلزم من قرأ بتلك القراءة ألا توجب عليه كفارة في اليمين الواحدة حتى يرددها مرارا. وهذا قول خلاف الإجماع. وروى نافع أن ابن عمر كان إذا حنث من غير أن يؤكد اليمين أطعم عشرة مساكين، فإذا وكد اليمين أعتق رقبة. قيل لنافع ما معنى وكد اليمين؟ قال: أن يحلف على الشيء مرارا.

 

اختلف في اليمين الغموس هل هي يمين منعقدة أم لا؟ فالذي عليه الجمهور أنها يمين مكر وخديعة وكذب فلا تنعقد ولا كفارة فيها. وقال الشافعي: هي يمين منعقدة؛ لأنها مكتسبة بالقلب، معقودة بخبر، مقرونة باسم الله تعالى، وفيها الكفارة. والصحيح الأول. قال ابن المنذر: وهذا قول مالك بن أنس ومن تبعه من أهل المدينة، وبه قال الأوزاعي ومن وافقه من أهل الشام، وهو قول الثوري وأهل العراق، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد، وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي من أهل الكوفة؛ قال أبو بكر: وقول النبي صلى الله عليه وسلم: [ من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه ] وقوله: [ فليكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير ] يدل على أن الكفارة إنما تجب فيمن حلف على فعل يفعله مما يستقبل فلا يفعله، أو على فعل ألا يفعله فيما يستقبل فيفعله.

وفي المسألة قول ثان وهو أن يكفر وإن أثم وعمد الحلف بالله كاذبا؛ هذا قول الشافعي. قال أبو بكر: ولانعلم خبرا يدل على هذا القول، والكتاب والسنة دالان على القول الأول؛ قال الله تعالى: « ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس » [ البقرة: 224 ] قال ابن عباس: هو الرجل يحلف ألا يصل قرابته فجعل الله له مخرجا في التكفير، وأمره ألا يعتل بالله وليكفر عن يمينه. والأخبار دالة على أن اليمين التي يحلف بها الرجل يقتطع بها مالا حراما هي أعظم من أن يكفرها ما يكفر اليمين. قال ابن العربي: الآية وردت بقسمين: لغو ومنعقدة، وخرجت على الغالب في أيمان الناس فدع ما بعدها يكون مائة قسم فإنه لم تلعق عليه كفارة.

قلت: خرج البخاري عن عبدالله بن عمرو قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما الكبائر؟ قال: [ الإشراك بالله ] قال: ثم ماذا؟ قال: [ عقوق الوالدين ] قال: ثم ماذا؟ قال: [ اليمين الغموس ] قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: [ التي يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها كاذب ] . وخرج مسلم عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة ] فقال رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال: [ وإن كان قضيبا من أراك ] . ومن حديث عبدالله بن مسعود؛ فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان ] . فنزلت « إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا » [ آل عمران:77 ] إلى آخر الآية ولم يذكر كفارة، فلو أوجبنا عليه كفارة لسقط جرمه، ولقي الله وهو عنه راض، ولم يستحق الوعيد المتوعد عليه؛ وكيف لا يكون ذلك وقد جمع هذا الحالف الكذب، واستحلال مال الغير، والاستخفاف باليمين بالله تعالى، والتهاون بها وتعظيم الدنيا؟ فأهان ما عظمه الله، وعظم ما حقره الله وحسبك. ولهذا قيل: إنما سميت اليمين الغموس غموسا لأنها تغمس صاحبها في النار.

 

الحالف بألا يفعل على بر ما لم يفعل، فإن فعل حنث ولزمته الكفارة لوجود المخالفة منه؛ وكذلك إذا قال إن فعلت. وإذا حلف بأن ليفعلن فإنه في الحال على حنث لوجود المخالفة، فإن فعل بر، وكذلك إن قال إن لم أفعل.

 

قول الحالف: لأفعلن؛ وإن لم أفعل، بمنزلة الأمر وقوله: لا أفعل، وإن فعلت، بمنزلة النهي. ففي الأول لا يبر حتى يفعل جميع المحلوف عليه: مثاله لآكلن هذا الرغيف فأكل بعضه لا يبر حتى يأكل جميعه: لأن كل جزء منه محلوف عليه. فإن قال: والله لآكلن - مطلقا - فإنه يبر بأقل جزء مما يقع عليه الاسم؛ لإدخال ماهية الأكل في الوجود. وأما في النهي فإنه يحنث بأقل ما ينطلق عليه الاسم؛ لأن مقتضاه ألا يدخل فرد من أفراد المنهى عنه في الوجود؛ فإن حلف ألا يدخل دارا فأدخل إحدى رجليه حنث؛ والدليل عليه أنا وجدنا الشارع غلظ جهة التحريم بأول الاسم في قوله تعالى: « ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم » [ النساء: 22 ] ؛ فمن عقد على امرأة ولم يدخل بها حرمت على أبيه وابنه، ولم يكتف في جهة التحليل بأول الاسم فقال: [ لا حتى تذوقي عسيلته ] .

 

المحلوف به هو الله سبحانه وأسماؤه الحسنى، كالرحمن والرحيم والسميع والعليم والحليم، ونحو ذلك من أسمائه وصفاته العليا، كعزته وقدرته وعلمه وإرادته وكبريائه وعظمته وعهده وميثاقه وسائر صفات ذاته؛ لأنها يمين بقديم غير مخلوق، فكان الحالف بها كالحالف بالذات. روى الترمذي والنسائي وغيرهما أن جبريل عليه السلام لما نظر إلى الجنة ورجع إلى الله تعالى قال: وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، وكذلك قال في النار: وعزتك لا يسمع بها أحدا فيدخلها. وخرجا أيضا وغيرهما عن ابن عمر قال: كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم [ لا ومقلب القلوب ] وفى رواية [ لا ومصرف القلوب ] وأجمع أهل العلم على أن من حلف فقال: والله أو بالله أو تالله فحنث أن عليه الكفارة. قال ابن المنذر: وكان مالك والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وإسحاق وأصحاب الرأي يقولون: من حلف باسم من أسماء الله وحنث فعليه الكفارة، وبه نقول ولا أعلم في ذلك خلافا.

قلت: قد نقل ( في باب ذكر الحلف بالقرآن ) ؛ وقال يعقوب: من حلف بالرحمن فحنث فلا كفارة عليه.

قلت: والرحمن من أسمائه سبحانه مجمع عليه ولا خلاف فيه.

 

واختلفوا في وحق الله وعظمة الله وقدرة الله وعلم الله ولعمر الله وايم الله؛ فقال مالك: كلها أيمان تجب فيها الكفارة. وقال الشافعي: في وحق الله وجلال الله وعظمة الله وقدرة الله، يمين إن نوى بها اليمين، وإن لم يرد اليمين فليست بيمين؛ لأنه يحتمل وحق الله واجب وقدرته ماضية. وقال في أمانة الله: ليست بيمين، ولعمر الله وايم الله إن لم يرد بها اليمين فليست بيمين. وقال أصحاب الرأي إذا قال: وعظمة الله وعزة الله وجلال الله وكبرياء الله وأمانة الله فحنث فعليه الكفارة. وقال الحسن في وحق الله: ليست بيمين ولا كفارة فيها؛ وهو قول أبي حنيفة حكاه عنه الرازي. وكذلك عهد الله وميثاقه وأمانته ليست بيمين. وقال بعض أصحابه هي يمين. وقال الطحاوي: ليست بيمين، وكذا إذا قال: وعلم الله لم يكن يمينا في قول أبي حنيفة، وخالفه صاحبه أبو يوسف فقال: يكون يمينا. قال ابن العربي: والذي أوقعه في ذلك أن العلم قد ينطلق على المعلوم وهو المحنث فلا يكون يمينا. وذهل عن أن القدرة تنطلق على المقدور، فكل كلام له في المقدور فهو حجتنا في المعلوم. قال ابن المنذر: وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ وايم الله أن كان لخليقا للإمارة ] في قصة زيد وابنه أسامة. وكان ابن عباس يقول: وايم الله؛ وكذلك قال ابن عمر. وقال إسحاق: إذا أراد بأيم الله يمينا كانت يمينا بالإرادة وعقد القلب.

 

واختلفوا في الحلف بالقرآن؛ فقال ابن مسعود: عليه بكل آية يمين؛ وبه قال الحسن البصري وابن المبارك. وقال أحمد: ما أعلم شيئا يدفعه. وقال أبو عبيد: يكون يمينا واحدة. وقال أبو حنيفة: لا كفارة عليه. وكان قتادة يحلف بالمصحف. وقال أحمد وإسحاق لا نكره ذلك.

 

لا تنعقد اليمين بغير الله تعالى وأسمائه وصفاته. وقال أحمد بن حنبل: إذا حلف بالنبي صلى الله عليه وسلم انعقدت يمينه؛ لأنه حلف بما لا يتم الإيمان إلا به فتلزمه الكفارة كما لو حلف بالله. وهذا يرده ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وعمر يحلف بأبيه، فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ] وهذا حصر في عدم الحلف بكل شيء سوى الله تعالى وأسمائه وصفاته كما ذكرنا. ومما يحقق ذلك ما رواه أبو داود والنسائي وغيرهما عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد ولا تحلفوا إلا بالله إلا وأنتم صادقون ] ثم ينتقض عليه بمن قال: وآدم وإبراهيم فإنه لا كفارة عليه، وقد حلف بما لا يتم الإيمان إلا به.

 

روى الأئمة واللفظ لمسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ من حلف منكم فقال في حلفه باللات فليقل لا إله إلا الله ومن قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدق ] . وخرج النسائي عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: كنا نذكر بعض الأمر وأنا حديث عهد بالجاهلية فحلفت باللات والعزى، فقال لي بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئس ما قلت: وفي رواية قلت هجرا؛ فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: [ قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وانفث عن يسارك ثلاثا وتعوذ بالله من الشيطان ثم لا تعد ] . قال العلماء: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من نطق بذلك أن يقول بعده لا إله إلا الله تكفيرا لتلك اللفظة، وتذكيرا من الغفلة، وإتماما للنعمة. وخص اللات بالذكر لأنها أكثر ما كانت تجري على ألسنتهم، وحكم غيرها من أسماء آلهتهم حكمها إذ لا فرق بينها، وكذا من قال لصاحبه: تعال أقامرك فليتصدق فالقول فيه كالقول في اللات؛ لأنهم كانوا اعتادوا المقامرة وهي من أكل المال بالباطل.

 

قال أبو حنيفة في الرجل يقول: هو يهودي أو نصراني أو بريء من الإسلام أو من النبي أو من القرآن أو أشرك بالله أو أكفر بالله: إنها يمين تلزم فيها الكفارة، ولا تلزم فيما إذا قال: اليهودية والنصرانية والنبي والكعبة وإن كانت على صيغة الأيمان. ومتمسكه ما رواه الدارقطني عن أبي رافع أن مولاته أرادت أن تفرق بينه وبين امرأته فقالت: هي يوما يهودية، ويوما نصرانية، وكل مملوك لها حر؛ وكل مال لها في سبيل الله، وعليها مشي إلى بيت الله إن لم تفرق بينهما، فسألت عائشة وحفصة وابن عمر وابن عباس وأم سلمة فكلهم قال لها: أتريدين أن تكوني مثل هاروت وماروت؟ وأمروها أن تكفر عن يمينها وتخلي بينهما. وخرج أيضا عنه قال: قالت مولاتي لأفرقن بينك وبين امرأتك، وكل مال لها في رتاج الكعبة وهي يوما يهودية ويوما نصرانية ويوما مجوسية إن لم أفرق بينك وبين امرأتك؛ قال: فانطلقت إلى أم المؤمنين أم سلمة فقلت: إن مولاتي تريد أن تفرق بيني وبين امرأتي؛ فقالت انطلق إلى مولاتك فقل لها: إن هذا لا يحل لك؛ قال: فرجعت إليها؛ قال ثم أتيت ابن عمر فأخبرته فجاء حتى انتهى إلى الباب فقال: ههنا هاروت وماروت؛ فقالت: إني جعلت كل مال لي في رتاج الكعبة. قال: فمم تأكلين؟ قالت: وقلت أنا يوما يهودية ويوما نصرانية ويوما مجوسية؛ فقال: إن تهودت قتلت وإن تنصرت قتلت وإن تمجست قتلت؛ قالت: فما تأمرني؟ قال: تكفرين عن يمينك، وتجمعين بين فتاك وفتاتك. وأجمع العلماء على أن الحالف إذا قال: أقسم بالله أنها يمين. واختلفوا إذا قال أقسم أو أشهد ليكون كذا وكذا ولم يقل بالله فإنها تكون أيمانا عند مالك إذا أراد بالله، وإن لم يرد بالله لم تكن أيمانا تكفر. وقال أبو حنيفة والأوزاعي والحسن والنخعي: هي أيمان في الموضعين. وقال الشافعي: لا تكون أيمانا حتى يذكر اسم الله تعالى؛ هذه رواية المزني عنه. وروى عنه الربيع مثل قول مالك.

 

إذا قال: أقسمت عليك لتفعلن؛ فإن أراد سؤاله فلا كفارة فيه وليست بيمين؛ وإن أراد اليمين كان ما ذكرناه آنفا.

 

من حلف بما يضاف إلى الله تعالى مما ليس بصفة كقوله: وخلق الله ورزقه وبيته لا شيء عليه؛ لأنها أيمان غير جائزة، وحلف بغير الله تعالى.

 

إذا انعقدت اليمين حلتها الكفارة أو الاستثناء. وقال، ابن الماجشون: الاستثناء بدل عن الكفارة وليست حلا لليمين. قال ابن القاسم: هي حل لليمين؛ وقال ابن العربي: وهو مذهب فقهاء الأمصار وهو الصحيح؛ وشرطه أن يكون متصلا منطوقا به لفظا؛ لما رواه النسائي وأبو داود عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ من حلف فاستثنى فإن شاء مضى وإن شاء ترك عن غير حنث ] فإن نواه من غير نطق أو قطعه من غير عذر لم ينفعه. وقال محمد بن المواز: يكون الاستثناء مقترنا باليمين اعتقادا ولو بآخر حرف؛ قال: فإن فرغ منها واستثنى لم ينفعه ذلك؛ لأن اليمين فرغت عارية من الاستثناء، فورودها بعده لا يؤثر كالتراخي؛ وهذا يرده الحديث [ من حلف فاستثنى ] والفاء، للتعقيب وعليه جمهور أهل العلم. وأيضا فإن ذلك يؤدي إلى ألا تنحل يمين ابتدئ عقدها وذلك باطل. وقال ابن خويز منداد: واختلف أصحابنا متى استثنى في نفسه تخصيص ما حلف عليه، فقال بعض أصحابنا: يصح استثناؤه وقد ظلم المحلوف له. وقال بعضهم: لا يصح حتى يسمع المحلوف له. وقال بعضهم: يصح إذا حرك به لسانه وشفتيه وإن لم يسمع المحلوف له. قال ابن خويز منداد: وإنما قلنا يصح استثناؤه في نفسه، فلأن الأيمان تعتبر بالنيات، وإنما قلنا لا يصح ذلك حتى يحرك به لسانه وشفتيه، فإن من لم يحرك به لسانه وشفتيه لم يكن متكلما، والاستثناء من الكلام يقع بالكلام دون غيره؛ وإنما قلنا لا يصح بحال فلأن ذلك حق للمحلوف له، وإنما يقع على حسب ما يستوفيه له الحاكم، فلما لم تكن اليمين على اختيار الحالف بل كانت مستوفاة منه، وجب ألا يكون له فيها حكم. وقال ابن عباس: يدرك على الاستثناء اليمين بعد سنة؛ وتابعه على ذلك أبو العالية والحسن وتعلق بقوله تعالى: « والذين لا يدعون مع الله إلها آخر » [ الفرقان: 68 ] الآية؛ فلما كان بعد عام نزل « إلا من تاب » [ مريم: 60 ] . وقال مجاهد: من قال بعد سنتين إن شاء الله أجزأه. وقال سعيد بن جبير: إن استثنى بعد أربعة أشهر أجزأه. وقال طاوس: له أن يستثني ما دام في مجلسه. وقال قتادة: إن استثنى قبل أن يقوم أو يتكلم فله ثنياه. وقال أحمد بن حنبل وإسحاق: يستثني ما دام في ذلك الأمر. وقال عطاء: له ذلك قدر حلب الناقة الغزيرة.

 

قال ابن العربي: أما ما تعلق به ابن عباس من الآية فلا متعلق له فيها؛ لأن الآيتين كانتا متصلتين في علم الله وفي لوحه، وإنما تأخر نزولها لحكمة علم الله ذلك فيها، أما أنه يتركب عليها فرع حسن؛ وهو أن الحالف إذا قال والله لا دخلت الدار، وأنت طالق إن دخلت الدار، واستثنى في يمينه الأول إن شاء الله في قلبه، واستثنى في اليمين الثانية في قلبه أيضا ما يصلح للاستثناء الذي يرفع اليمين لمدة أو سبب أو مشيئة أحد، ولم يظهر شيئا من الاستثناء إرهابا على المحلوف له، فإن ذلك ينفعه ولا تنعقد اليمينان عليه؛ وهذا في الطلاق ما لم تحضره البينة؛ فإن حضرته بينة لم تقبل منه دعواه الاستثناء، وإنما يكون ذلك نافعا له إذا جاء مستفتيا.

قلت: وجه الاستثناء أن الله تعالى أظهر الآية الأولى وأخفى الثانية، فكذلك الحالف إذا حلف إرهابا وأخفى الاستثناء. والله أعلم. قال ابن العربي: وكان أبو الفضل المراغي يقرأ بمدينة السلام، وكانت الكتب تأتي إليه من بلده، فيضعها في صندوق ولا يقرأ منها واحدا مخافة أن يطلع فيها على ما يزعجه ويقطع به عن طلبه؛ فلما كان بعد خمسة أعوام وقضى غرضا من الطلب وعزم على الرحيل، شد رحله وأبرز كتبه وأخرج تلك الرسائل، فقرأ فيها ما لو أن واحدا منها يقرؤه بعد وصوله ما تمكن بعده من تحصيل حرف من العلم، فحمد الله ورحل على دابة قماشه وخرج إلى باب الحلبة طريق خراسان، وتقدمه الكري بالدابة وأقام هو على فامي يبتاع منه سفرته، فبينما هو يحاول ذلك معه إذ سمعه يقول لفامي آخر: أما سمعت العالم يقول - يعني الواعظ - أن ابن عباس يجوز الاستثناء ولو بعد سنة، لقد اشتغل بذلك بالي منذ سمعته فظللت فيه متفكرا، ولو كان ذلك صحيحا لما قال الله تعالى لأيوب: « وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث » [ ص: 44 ] وما الذي يمنعه من أن يقول: قل إن شاء الله! فلما سمعه يقول ذلك قال: بلد يكون فيه الفاميون بهذا الحظ من العلم وهذه المرتبة أخرج عنه إلى المراغة؟ لا أفعله أبدا؛ واقتفى أثر الكري وحلله من الكراء وأقام بها حتى مات.

 

الاستثناء إنما يرفع اليمين بالله تعالى إذ هي رخصة من الله تعالى، ولا خلاف في هذا. واختلفوا في الاستثناء في اليمين بغير الله؛ فقال الشافعي وأبو حنيفة: الاستثناء يقع في كل يمين كالطلاق والعتاق وغير ذلك كاليمين بالله تعالى: قال أبو عمر: ما أجمعوا عليه فهو الحق، وإنما ورد التوقيف بالاستثناء في اليمين بالله عز وجل لا في غير ذلك.

 

قوله تعالى: « فكفارته » اختلف العلماء في تقديم الكفارة على الحنث هل تجزئ أم لا؟ - بعد إجماعهم على أن الحنث قبل الكفارة مباح حسن وهو عندهم أولى - على ثلاثة أقوال: أحدها: يجزئ مطلقا وهو مذهب أربعة عشر من الصحابة وجمهور الفقهاء وهو مشهور مذهب مالك. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجزئ بوجه، وهي رواية أشهب عن مالك؛ وجه الجواز ما رواه أبو موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وإني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير خرجه أبو داود؛ ومن جهة المعنى أن اليمين سبب الكفارة؛ لقوله تعالى: « ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم » فأضاف الكفارة إلى اليمين والمعاني تضاف إلى أسبابها؛ وأيضا فإن الكفارة بدل عن البر فيجوز تقديمها قبل الحنث. ووجه المنع ما رواه مسلم عن عدي بن حاتم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ من حلف على يمين ثم رأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ) زاد النسائي ( وليكفر عن يمينه ] ومن جهة المعنى أن الكفارة إنما هي لرفع الإثم، وما لم يحنث لم يكن هناك ما يرفع فلا معنى لفعلها؛ وكان معنى قوله تعالى: « إذا حلفتم » أي إذا حلفتم وحنثتم. وأيضا فإن كل عبادة فعلت قبل وجوبها لم تصح اعتبارا بالصلوات وسائر العبادات. وقال الشافعي: تجزئ بالإطعام والعتق والكسوة، ولا تجزئ بالصوم؛ لأن عمل البدن لا يقوم قبل وقته. ويجزئ في غير ذلك تقديم الكفارة؛ وهو القول الثالث.

 

ذكر الله سبحانه في الكفارة الخلال الثلاث فخير فيها، وعقب عند عدمها بالصيام، وبدأ بالطعام لأنه كان الأفضل في بلاد الحجاز لغلبة الحاجة إليه وعدم شبعهم، ولا خلاف في أن كفارة اليمين على التخيير؛ قال ابن العربي: والذي عندي أنها تكون بحسب الحال؛ فإن علمت محتاجا فالطعام أفضل؛ لأنك إذا أعتقت لم تدفع حاجتهم وزدت محتاجا حادي عشر إليهم، وكذلك الكسوة تليه، ولما علم الله الحاجة بدأ بالمقدم المهم.

 

قوله تعالى: « إطعام عشرة مساكين » لا بد عندنا وعند الشافعي من تمليك المساكين ما يخرج لهم، ودفعه إليهم حتى يتملكوه ويتصرفوا فيه؛ لقوله تعالى: « وهو يطعم ولا يطعم » [ الأنعام: 14 ] وفي الحديث ( أطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجد السدس؛ ولأنه أحد نوعي الكفارة فلم يجز فيها إلا التمليك؛ أصله الكسوة. وقال أبو حنيفة: لو غداهم وعشاهم جاز؛ وهو اختيار ابن الماجشون من علمائنا؛ قال ابن الماجشون: إن التمكين من الطعام إطعام، قال الله تعالى: « ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا » [ الإنسان: 8 ] فبأي وجه أطعمه دخل في الآية.

 

قوله تعالى: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » قد تقدم في ( البقرة ) أن الوسط بمعنى الأعلى والخيار، وهو هنا منزلة بين منزلتين ونصفا بين طرفين. ومنه الحديث [ خير الأمور أوسطها ] . وخرج ابن ماجة؛ حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا عبدالرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان بن عيينة، عن سليمان بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان الرجل يقوت أهله قوتا فيه سعة وكان الرجل يقوت أهله قوتا فيه شدة؛ فنزلت: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » . وهذا يدل على أن الوسط ما ذكرناه وهو ما كان بين شيئين.

 

الإطعام عند مالك مد لكل واحد من المساكين العشرة، إن كان بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وبه قال الشافعي وأهل المدينة. قال سليمان بن يسار: أدركت الناس وهم إذا أعطوا في كفارة اليمين أعطوا مدا من حنطة بالمد الأصغر، ورأوا ذلك مجزئا عنهم؛ وهو قول ابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت وبه قال عطاء بن أبي رباح. واختلف إذا كان بغيرها؛ فقال ابن القاسم: يجزئه المد بكل مكان. وقال ابن المواز: أفتى ابن وهب بمصر بمد ونصف. وأشهب بمد وثلث؛ قال: وإن مدا وثلثا لوسط من عيش الأمصار في الغداء والعشاء. وقال أبو حنيفة: يخرج من البر نصف صاع، ومن التمر والشعير صاعا؛ على حديث عبدالله بن ثعلبة بن صعير عن أبيه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فأمر بصدقة الفطر صاع من تمر، أو صاع من شعير عن كل رأس، أو صاع بر بين اثنين. وبه أخذ سفيان وابن المبارك، وروي عن علي وعمر وابن عمر وعائشة، رضي الله عنهم وبه قال سعيد بن المسيب، وهو قول عامة فقهاء العراق؛ لما رواه ابن عباس قال: كفر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر وأمر الناس بذلك، فمن لم يجد فنصف، صاع من بر من أوسط ما تطعمون أهليكم؛ خرجه ابن ماجة في سننه.

 

لا يجوز أن يطعم غنيا ولا ذا رحم تلزمه نفقته، وإن كان ممن لا تلزمه نفقته فقد قال مالك: لا يعجبني أن يطعمه، ولكن إن فعل وكان فقيرا أجزأه، فإن أطعم غنيا جاهلا بغناه ففي ( المدونة ) وغير كتاب لا يجزئ، وفي ( الأسدية ) أنه يجزئ.

 

ويخرج الرجل مما يأكل؛ قال ابن العربي: وقد زلت هنا جماعة من العلماء فقالوا: إنه إذا كان يأكل الشعير ويأكل الناس البر فليخرج مما يأكل الناس؛ وهذا سهو بين فإن المكفر إذا لم يستطع في خاصة نفسه إلا الشعير لم يكلف أن يعطي لغيره سواه؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم: [ صاعا من طعام صاعا من شعير ] ففصل ذكرهما ليخرج كل أحد فرضه مما يأكل؛ وهذا ممالا خفاء فيه.

 

قال مالك: إن غدى عشرة مساكين وعشاهم أجزأه. وقال الشافعي: لا يجوز أن يطعمهم جملة واحدة؛ لأنهم يختلفون في الأكل، ولكن يعطي كل مسكين مدا. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لا يجزئ إطعام العشرة وجبة واحدة؛ يعني غداء دون عشاء، أو عشاء دون غداء، حتى يغديهم ويعشيهم؛ قال أبو عمر: وهو قول أئمة الفتوى بالأمصار.

 

قال ابن حبيب: ولا يجزئ الخبز قفارا بل يعطي معه إدامه زيتا أو كشكا أو كامخا أو ما تيسر؛ قال ابن العربي: هذه زيادة ما أراها واجبة أما أنه يستحب له أن يطعم مع الخبز السكر - نعم - واللحم، وأما تعيين الإدام للطعام فلا سبيل إليه؛ لأن اللفظ لا يتضمنه.

قلت: نزول الآية في الوسط يقتضي الخبز والزيت أو الخل، وما كان في معناه من الجبن والكشك كما قال ابن حبيب. والله أعلم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ نعم الإدام الخل ] وقال الحسن البصري: إن أطعمهم خبزا ولحما، أو خبزا وزيتا مرة واحدة في اليوم حتى يشبعوا أجزأه، وهو قول ابن سيرين وجابر بن زيد ومكحول، وروي ذلك عن انس بن مالك.

 

لا يجوز عندنا دفع الكفارة إلى مسكين واحد، وبه قال الشافعي. وأصحاب أبي حنيفة يمنعون صرف الجميع إلى واحد دفعة واحدة، ويختلفون فيما إذا صرف الجميع في يوم واحد بدفعات مختلقة؛ فمنهم من أجاز ذلك، وأنه إذا تعدد الفعل حسن أن يقال في الفعل الثاني لا يمنع من الذي دفعت إليه أولا؛ فإن اسم المسكين يتناول. وقال آخرون: يجوز دفع ذلك إليه في أيام، وإن تعدد الأيام يقوم مقام أعداد المساكين. وقال أبو حنيفة: يجزئه ذلك؛ لأن المقصود من الآية التعريف بقدر ما يطعم، فلو دفع ذلك القدر. لواحد أجزأه. ودليلنا نص الله تعالى على العشرة فلا يجوز العدول عنهم، وأيضا فإن فيه إحياء جماعة من المسلمين وكفايتهم يوما واحدا، فيتفرغون فيه لعبادة الله تبارك وتعالى ولدعائه، فيغفر للمكفر بسبب ذلك. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « فكفارته » الضمير على الصناعة النحوية عائدا على ( ما ) ويحتمل في هذا الموضع أن تكون بمعنى الذي، ويحتمل أن تكون مصدرية. أو يعود على إثم الحنث وإن لم يجر له ذكر صريح ولكن المعنى يقتضيه.

 

قوله تعالى: « أهليكم » هو جمع أهل على السلامة. وقرأ جعفر بن محمد الصادق: ( أهاليكم ) وهذا جمع مكسر؛ قال أبو الفتح: أهال بمنزلة ليال واحدها أهلات وليلات؛ والعرب تقول: أهل وأهلة. قال الشاعر:

وأهلة ود قد تبريت ودهم وأبليتهم في الجهد حمدي ونائلي

يقول: تعرضت لودهم؛ قال ابن السكيت.

 

قوله تعالى: « أو كسوتهم » قرئ بكسر الكاف وضمها هما لغتان مثل إسوة وأسوة. وقرأ سعيد بن جبير ومحمد بن السميقع اليماني: ( أو كإسوتهم ) يعني كإسوة أهلك. والكسوة في حق الرجال الثوب الواحد أو الساتر لجميع الجسد؛ فأما في حق النساء فأقل ما يجزئهن فيه الصلاة، وهو الدرع والخمار، وهكذا حكم الصغار. قال ابن القاسم في ( العتبية ) : تكسى الصغيرة كسوة كبيرة، والصغير كسوة كبير، قياسا على الطعام. وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي: أقل ما يقع عليه الاسم وذلك ثوب واحد؛ وفي رواية أبي الفرج عن مالك، وبه قال إبراهيم النخعي ومغيرة: ما يستر جميع البدن؛ بناء على أن الصلاة لا تجزئ في أقل من ذلك. وروي عن سلمان رضي الله عنه أنه قال: نعم الثوب التبان؛ أسنده الطبري. وقال الحكم بن عتيبة تجزئ عمامة يلف بها رأسه، وهو قول الثوري. قال ابن العربي: وما كان أحرصني على أن يقال: إنه لا يجزئ إلا كسوة تستر عن أذى الحر والبرد كما أن عليه طعاما يشبعه من الرجوع فأقول به، وأما القول بمئزر واحد فلا أدريه؛ والله يفتح لي ولكم في المعرفة بعونه.

قلت: قد راعى قوم معهود الزي والكسوة المتعارفة؛ فقال بعضهم: لا يجزئ الثوب الواحد إلا إذا كان جامعا مما قد يتزيا به كالكساء والملحفة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: الكسوة في كفارة اليمين لكل مسكين ثوب وإزار، أو رداء أو قميص أو قباء أو كساء. وروي عن أبى موسى الأشعري أنه أمر أن يكسى عنه ثوبين ثوبين؛ وبه قال الحسن وابن سيرين وهذا معنى ما اختاره ابن العربي والله أعلم.

 

لا تجزئ القيمة عن الطعام والكسوة؛ وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: تجزئ؛ وهو يقول: تجزئ القيمة في الزكاة فكيف في الكفارة! قال ابن العربي: وعمدته أن الغرض سد الخلة، ورفع الحاجة؛ فالقيمة تجزئ فيه. قلنا: إن نظرتم إلى سد الخلة فأين العبادة؟ وأين نص القرآن على الأعيان الثلاثة، والانتقال بالبيان من نوع إلى نوع ؟ !

 

إذا دفع الكسوة إلى ذمي أو إلى عبد لم يجزه. وقال أبو حنيفة: يجزئه؛ لأنه مسكن يتناوله لفظ المسكنة، ويشتمل عليه عموم الآية. قلنا: هذا يخصه بأن يقول جزء من المال يجب إخراجه للمساكين فلا يجوز دفعه للكافر؛ أصله الزكاة؛ وقد اتفقنا على أنه لا يجوز دفعه للمرتد؛ فكل دليل خص به المرتد فهو دليلنا في الذمي والعبد ليس بمسكين لاستغنائه بنفقة سيده فلا تدفع إليه كالغني.

 

قوله تعالى: « أو تحرير رقبة » التحرير الإخراج من الرق؛ ويستعمل في الأسر والمشقات وتعب الدنيا ونحوها. ومنه قول أم مريم: « إني نذرت لك ما في بطني محررا » [ آل عمران: 35 ] أي من شغوب الدنيا ونحوها. ومن ذلك قول الفرزدق بن غالب:

أبني غدانة إنني حررتكم فوهبتكم لعطية بن جعال

أي حررتكم من الهجاء، وخص الرقبة من الإنسان، إذ هو العضو الذي يكون فيه الغل والتوثق غالبا من الحيوان، فهو موضع الملك فأضيف التحرير إليها.

 

لا يجوز عندنا إلا إعتاق رقبة مؤمنة كاملة ليس فيها شرك لغيره، ولا عتاقة بعضها، ولا عتق إلى أجل، ولا كتابة ولا تدبير، ولا تكون أم ولد ولا من يعتق عليه إذا ملكه، ولا يكون بها من الهرم والزمانة ما يضر بها في الاكتساب، سليمة غير معيبة؛ خلافا لداود في تجويزه إعتاق المعيبة. وقال أبو حنيفة: يجوز عتق الكافرة؛ لأن مطلق اللفظ يقتضيها. ودليلنا أنها قربة واجبة فلا يكون الكافر محلا لها كالزكاة؛ وأيضا فكل مطلق في القرآن من هذا فهو راجع إلى المقيد في عتق الرقبة في القتل الخطأ. وإنما قلنا: لا يكون فيها شرك، لقوله تعالى: « فتحرير رقبة » [ النساء: 92 ] وبعض الرقبة ليس برقبة. وإنما قلنا لا يكون فيها عقد عتق؛ لأن التحرير يقتضي ابتداء عتق دون تنجيز عتق مقدم. وإنما قلنا: سليمة؛ لقوله تعالى: « فتحرير رقبة » يقتضي تحرير رقبة كاملة والعمياء ناقصة. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم [ ما من مسلم يعتق امرأ مسلما إلا كان فكاكه من النار كل عضو منه بعضو منها حتى الفرج بالفرج ] وهذا نص. وقد روي في الأعور قولان في المذهب. وكذلك في الأصم والخصي.

 

من أخرج مالا ليعتق رقبة في كفارة فتلف كانت الكفارة باقية عليه، بخلاف مخرج المال في الزكاة ليدفعه إلى الفقراء، أو ليشتري به رقبة فتلف، لم يكن عليه غيره لامتثال الأمر.

 

اختلفوا في الكفارة إذا مات الحالف؛ فقال الشافعي وأبو ثور: كفارات الأيمان تخرج من رأس مال الميت. وقال أبو حنيفة: تكون في الثلث؛ وكذلك قال مالك إن أوصى بها.

من حلف وهو موسر فلم يكفر حتى أعسر، أو حنث وهو معسر فلم يكفر حتى أيسر، أو حنث وهو عبد فلم يكفر حتى عتق، فالمراعاة في ذلك كله بوقت التكفير لا وقت الحنث.

 

روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي فرض الله ] اللجاج في اليمين هو المضي على مقتضاه، وإن لزم من ذلك، حرج ومشقة، وترك ما فيه منفعة عاجلة أو آجلة؛ فإن كان شيء من ذلك فالأولى به تحنيث نفسه وفعل الكفارة، ولا يعتل باليمين كما ذكرناه في قوله تعالى: « ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم » [ البقرة: 224 ] وقال عليه السلام: [ من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير ] أي الذي هو أكثر خيرا.

 

روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ اليمين على نية المستحلف ] قال العلماء: معناه أن من وجبت عليه يمين في حق وجب عليه فحلف وهو ينوي غيره لم تنفعه نيته، ولا يخرج بها عن إثم تلك اليمين، وهو معنى قوله في الحديث الآخر: [ يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك ] . وروي [ يصدقك به صاحبك ] خرجه مسلم أيضا. قال مالك: من حلف لطالبه في حق له عليه، واستثنى في يمينه، أو حرك لسانه أوشفتيه، أو تكلم به، لم ينفعه استثناؤه ذلك؛ لأن النية نية المحلوف له؛ لأن اليمين حق له، وإنما تقع على حسب ما يستوفيه له الحاكم لا على اختيار الحالف؛ لأنها مستوفاة منه. هذا تحصيل مذهبه وقوله.

 

قوله تعالى: « فمن لم يجد » معناه لم يجد في ملكه أحد هذه الثلاثة؛ من الإطعام أو الكسوة أو عتق الرقبة بإجماع؛ فإذا عدم هذه الثلاثة الأشياء صام. والعدم يكون بوجهين أما بمغيب المال عنه أو عدمه؛ فالأول أن يكون في بلد غير بلده فإن وجد من يسلفه لم يجزه الصوم، وإن لم يجد من يسلفه فقد اختلف فيه؛ فقيل: ينتظر إلى بلده؛ قال ابن العربي: وذلك لا يلزمه بل يكفر بالصيام؛ لان الوجوب قد تقرر في الذمة والشرط من العدم قد تحقق فلا وجه لتأخير الأمر؛ فليكفر مكانه لعجزه عن الأنواع الثلاثة؛ لقوله تعالى: « فمن لم يجد » . وقيل: من لم يكن له فضل عن رأس ماله الذي يعيش به فهو الذي لم يجد. وقيل: هو من لم يكن له إلا قوت يومه وليلته، وليس عنده فضل يطعمه؛ وبه قال الشافعي واختاره الطبري، وهو مذهب مالك وأصحابه. وروي عن ابن القاسم أن من تفضل عنه نفقة يومه فإنه لا يصوم؛ قال ابن القاسم في كتاب ابن مزين: إنه إن كان للحانث فضل عن قوت يومه أطعم إلا أن يخاف الجوع، أو يكون في بلد لا يعطف عليه فيه. وقال أبو حنيفة: إذا لم يكن عنده نصاب فهو غير واجد. وقال أحمد وإسحاق: إذا كان عنده قوت يوم وليلة أطعم ما فضل عنه. وقال أبو عبيد: إذا كان عنده قوت يومه وليلته وعيال وكسوة تكون لكفايتهم، ثم يكون بعد ذلك مالكا لقدر الكفارة فهو عندنا واجد. قال ابن المنذر: قول أبي عبيد حسن.

 

قوله تعالى: « فصيام ثلاثة أيام » قرأها ابن مسعود ( متتابعات ) فيقيد بها المطلق؛ وبه قال أبو حنيفة والثوري، وهو أحد قولي الشافعي واختاره المزني قياسا على الصوم في كفارة الظهار، واعتبارا بقراءة عبدالله. وقال مالك والشافعي في قوله الآخر: يجزئه التفريق؛ لأن التتابع صفة لا تجب إلا بنص أو قياس على منصوص وقد عدما.

 

من أفطر في يوم من أيام الصيام ناسيا فقال مالك: عليه القضاء، وقال الشافعي: لا قضاء عليه؛ على ما تقدم بيانه في الصيام في ( البقرة ) .

 

هذه الكفارة التي نص الله عليها لازمة للحر المسلم باتفاق. واختلفوا فيما يجب منها على العبد إذا حنث؛ فكان سفيان الثوري والشافعي وأصحاب الرأي يقولون: ليس عليه إلا الصوم، لا يجزئه غير ذلك؛ واختلف فيه قول مالك، فحكى عنه ابن نافع أنه قال: لا يكفر العبد بالعتق؛ لأنه لا يكون له الولاء، ولكن يكفر بالصدقة إن أذن له سيده؛ وأصوب ذلك أن يصوم. وحكى ابن القاسم عنه أنه قال: إن أطعم أو كسا بإذن. السيد فما هو بالبين، وفي قلبي منه شيء.

 

قوله تعالى: « ذلك كفارة أيمانكم » أي تغطية أيمانكم؛ وكفرت الشيء غطيته وسترته وقد تقدم. ولا خلاف أن هذه الكفارة في اليمين بالله تعالى، وقد ذهب بعض التابعين إلى أن كفارة اليمين فعل الخير الذي حلف في تركه. وترجم ابن ماجة في سننه ( من قال كفارتها تركها ) حدثنا علي بن محمد حدثنا عبدالله بن نمير عن حارثة بن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ من حلف في قطيعة رحم أو فيما لا يصح فبره ألا يتم على ذلك ] وأسند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليتركها فإن تركها كفارتها ) .

قلت: ويعتضد هذا بقصة الصديق رضي الله عنه حين حلف ألا يطعم الطعام، وحلفت امرأته ألا تطعمه حتى يطعمه، وحلف الضيف - أو الأضياف - ألا يطعمه أو لا يطعموه حتى يطعمه، فقال أبو بكر: كان هذا من الشيطان؛ فدعا بالطعام فأكل وأكلوا. خرجه البخاري، وزاد مسلم قال: فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله، بروا وحنثت؛ قال: فأخبره؛ قال: [ بل أنت أبرهم وأخيرهم ] قال: ولم تبلغني كفارة.

 

واختلفوا في كفارة غير اليمين بالله عز وجل؛ فقال مالك: من حلف بصدقة مال أخرج ثلثه. وقال الشافعي: عليه كفارة يمين؛ وبه قال إسحاق وأبو ثور، وروي عن عمر وعائشة رضي الله عنها. وقال الشعبي وعطاء وطاوس: لا شيء عليه. وأما اليمين بالمشي إلى مكة فعليه أن يفي به عند مالك وأبي حنيفة. وتجزئه كفارة يمين عند الشافعي وأحمد بن حنبل وأبي ثور. وقال ابن المسيب والقاسم بن محمد: لا شيء عليه؛ قال ابن عبدالبر: أكثر أهل العلم بالمدينة وغيرها يوجبون في اليمين بالمشي إلى مكة كفارة مثل كفارة اليمين بالله عز وجل؛ وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين وجمهور فقهاء المسلمين. وقد أفتى به ابن القاسم ابنه عبدالصمد، وذكر له أنه فول الليث بن سعد. والمشهور عن ابن القاسم أنه لا كفارة عنده في المشي إلى مكة إلا بالمشي لمن قدر عليه؛ وهو قول مالك. وأما الحالف بالعتق فعليه عتق من حلف عليه بعتقه في قول مالك والشافعي وغيرهما. وروي عن ابن عمر وابن عباس وعائشة أنه يكفر كفارة يمين ولا يلزمه العتق - وقال عطاء: يتصدق بشيء. قال المهدوي: وأجمع من يعتمد على قول من العلماء على أن الطلاق لازم لمن حلف به وحنث.

 

قوله تعالى: « واحفظوا أيمانكم » أي بالبدار إلى ما لزمكم من الكفارة إذا حنثتم. وقيل: أي بترك الحلف؛ فإنكم إذا لم تحلفوا لم تتوجه عليكم هذه التكليفات. « لعلكم تشكرون » تقدم معنى « الشكر » و « لعل » في « البقرة » والحمد لله.

 

الآيات: 90 - 92 ( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون، إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون، وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين )

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا » خطاب لجميع المؤمنين بترك هذه الأشياء؛ إذا كانت شهوات وعادات تلبسوا بها في الجاهلية وغلبت على النفوس، فكان نَفِيُّ منها في نفوس كثير من المؤمنين. قال ابن عطية: ومن هذا القبيل هوى الزجر بالطير، وأخذ الفأل في الكتب ونحوه مما يصنعه الناس اليوم. وأما الخمر فكانت لم تحرم بعد، وإنما نزل تحريمها في سنة ثلاث بعد وقعة أحد، وكانت وقعة أحد في شوال سنة ثلاث من الهجرة. وتقدم اشتقاقها. وأما « الميسر » فقد مضى في « البقرة » القول فيه. وأما الأنصاب فقيل: هي الأصنام. وقيل: هي النرد والشطرنج؛ ويأتي بيانهما في سورة « يونس » عند قوله تعالى: « فماذا بعد الحق إلا الضلال » [ يونس: 32 ] . وأما الأزلام فهي القداح، وقد مضى في أول السورة القول فيها. ويقال كانت في البيت عند سدنة البيت وخدام الأصنام؛ يأتي الرجل إذا أراد حاجة فيقبض منها شيئا؛ فإن كان عليه أمرني ربي خرج إلى حاجته على ما أحب أو كره.

 

تحريم الخمر كان بتدريج ونوازل كثيرة؛ فإنهم كانوا مولعين بشربها، وأول ما نزل في شأنها « يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس » [ البقرة: 219 ] أي في تجارتهم؛ فلما نزلت هذه الآية تركها بعض الناس وقالوا: لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير، ولم يتركها بعض الناس وقالوا: نأخذ منفعتها ونترك إثمها فنزلت هذه الآية « لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى » [ النساء: 43 ] فتركها بعض الناس وقالوا: لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة، وشربها بعض الناس في غير أوقات الصلاة حتى نزلت: « يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس » الآية - فصارت حراما عليهم حتى صار يقول بعضهم: ما حرم الله شيئا أشد من الخمر. وقال أبو ميسرة: نزلت بسبب عمر بن الخطاب؛ فإنه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم عيوب الخمر، وما ينزل بالناس من أجلها، ودعا الله في تحريمها وقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت هذه الآيات، فقال عمر: انتهينا انتهينا. وقد مضى في « البقرة » و « النساء » . وروى أبو داود عن ابن عباس قال: « يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى » [ النساء: 43 ] ، و « يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس » [ البقرة:219 ] نسختها التي في المائدة. « إنما الخمر والميسر والأنصاب » . وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: نزلت في آيات من القرآن؛ وفيه قال: وأتيت على نفر من الأنصار؛ فقالوا: تعال نطعمك ونسقيك خمرا، وذلك قبل أن تحرم الخمر؛ قال: فأتيتهم في حش - والحش البستان - فإذا رأس جزور مشوي عندهم وزق من خمر؛ قال: فأكلت وشربت معهم؛ قال: فذكرت الأنصار والمهاجرين عندهم فقلت: المهاجرون خير من الأنصار؛ قال: فأخذ رجل لحيي جمل فضربني به فجرح أنفي - وفى رواية ففزره وكان أنف سعد مفزورا فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته؛ فأنزل الله تعالى في - يعني نفسه شأن الخمر - « إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه » .

 

هذه الأحاديث تدل على أن شرب الخمر كان إذ ذاك مباحا معمولا به معروفا عندهم بحيث لا ينكر ولا يغير، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر عليه، وهذا ما لا خلاف فيه؛ يدل عليه آية النساء « لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى » [ النساء: 43 ] على ما تقدم. وهل كان يباح لهم شرب القدر الذي يسكر؟ حديث حمزة ظاهر فيه حين بقر خواصر ناقتي علي رضي الله عنهما وجب أسنمتهما، فأخبر علي بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء إلى حمزة فصدر عن حمزة للنبي صلى الله عليه وسلم من القول الجافي المخالف لما يجب عليه من احترام النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره وتعزيره، ما يدل على أن حمزة كان قد ذهب عقله بما يسكر؛ ولذلك قال الراوي: فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ثمل؛ ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على حمزة ولا عنفه، لا في حال سكره ولا بعد ذلك، بل رجع لما قال حمزة: وهل أنتم إلا عبيد لأبي على عقبيه القهقري وخرج عنه. وهذا خلاف ما قاله الأصوليون وحكوه فإنهم قالوا: إن السكر حرام في كل شريعة؛ لأن الشرائع مصالح العباد لا مفاسدهم، وأصل المصالح العقل، كما أن أصل المفاسد ذهابه، فيجب المنع من كل ما يذهبه أو يشوشه، إلا أنه يحتمل حديث حمزة أنه لم يقصد بشربه السكر لكنه أسرع فيه فغلبه. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « رجس » قال ابن عباس في هذه الآية: ( رجس ) سخط وقد يقال للنتن والعذرة والأقذار رجس. والرجز بالزاي العذاب لا غير، والركس العذرة لا غير. والرجس يقال للأمرين. ومعنى « من عمل الشيطان » أي بحمله عليه وتزيينه. وقيل: هو الذي كان عمل مبادئ هذه الأمور بنفسه حتى اقتدى به فيها.

 

قوله تعالى: « فاجتنبوه » يريد ابعدوه واجعلوه ناحية؛ فأمر الله تعالى باجتناب هذه الأمور، واقترنت بصيغة الأمر مع نصوص الأحاديث وإجماع الأمة، فحصل الاجتناب في جهة التحريم؛ فبهذا حرمت الخمر. ولا خلاف بين علماء المسلمين أن سورة « المائدة » نزلت بتحريم الخمر، وهي مدنية من آخر ما نزل، وورد التحريم في الميتة والدم ولحم الخنزير في قوله تعالى: « قل لا أجد » وغيرها من الآي خبرا، وفي الخمر نهيا وزجرا، وهو أقوى التحريم وأوكده. روى ابن عباس قال: لما نزل تحريم الخمر، مشى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم إلى بعض، وقالوا حرمت الخمر، وجعلت عدلا للشرك؛ يعني أنه قرنها بالذبح للأنصاب وذلك شرك. ثم علق « لعلكم تفلحون » فعلق الفلاح بالأمر، وذلك يدل على تأكيد الوجوب. والله أعلم.

 

فهم الجمهور من تحريم الخمر، واستخباث الشرع لها، وإطلاق الرجس عليها، والأمر باجتنابها، الحكم بنجاستها. وخالفهم في ذلك ربيعة والليث بن سعد والمزني صاحب الشافعي، وبعض المتأخرين من البغداديين والقرويين فرأوا أنها طاهرة، وأن المحرم إنما هو شربها. وقد استدل سعيد بن الحداد القروي على طهارتها بسفكها في طرق المدينة؛ قال: ولو كانت نجسة لما فعل ذلك الصحابة رضوان الله عليهم، ولنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه كما نهى عن التخلي في الطرق. والجواب؛ أن الصحابة فعلت ذلك؛ لأنه لم يكن لهم سروب ولا آبار يريقونها فيها، إذ الغالب من أحوالهم أنهم لم يكن لهم كنف في بيوتهم. وقالت عائشة رضي الله عنها إنهم كانوا يتقذرون من اتخاذ الكنف في البيوت، ونقلها إلى خارج المدينة فيه كلفة ومشقة، ويلزم منه تأخير ما وجب على الفور. وأيضا فإنه يمكن التحرز منها؛ فإن طرق المدينة كانت واسعة، ولم تكن الخمر من الكثرة بحيث تصير نهرا يعم الطريق كلها، بل إنما جرت في مواضع يسيرة يمكن التحرز عنها - هذا - مع ما يحصل في ذلك من فائدة شهرة إراقتها في طرق المدينة، ليشيع العمل على مقتضى تحريمها من إتلافها، وأنه لا ينتفع بها، وتتابع الناس وتوافقوا على ذلك. والله أعلم.

فإن قيل: التنجيس حكم شرعي ولا نص فيه، ولا يلزم من كون الشيء محرما أن يكون نجسا؛ فكم من محرم في الشرع ليس بنجس؛ قلنا: قوله تعالى: « رجس » يدل على نجاستها؛ فإن الرجس في اللسان النجاسة، ثم لو التزمنا ألا نحكم بحكم حتى نجد فيه نصا لتعطلت الشريعة؛ فإن النصوص فيها قليلة؛ فأي نص يوجد على تنجيس البول والعذرة والدم والميتة وغير ذلك؟ وإنما هي الظواهر والعمومات والأقيسة. وسيأتي في سورة « الحج » ما يوضح هذا المعنى إن شاء الله تعالى.

 

قوله: « فاجتنبوه » يقتضي الاجتناب المطلق الذي لا ينتفع معه بشيء بوجه من الوجوه؛ لا بشرب ولا بيع ولا تخليل ولا مداواة ولا غير ذلك. وعلى هذا تدل الأحاديث الواردة في الباب. وروى مسلم عن ابن عباس أن رجلا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ هل علمت أن الله حرمها ] قال: لا، قال: فسار رجلا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ بم ساررته ] ؟ قال: أمرته ببيعها؛ فقال: [ إن الذي حرم شربها حرم بيعها ] ، قال: ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها؛ فهذا حديث يدل على ما ذكرناه؛ إذ لو كان فيها منفعة من المنافع الجائزة لبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال في الشاة الميتة. [ هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به ] الحديث.

 

أجمع المسلمون على تحريم بيع الخمر والدم، وفي ذلك دليل على تحريم بيع العذرات وسائر النجاسات وما لا يحل أكله؛ ولذلك - والله أعلم - كره مالك بيع زبل الدواب، ورخص فيه ابن القاسم لما فيه من المنفعة؛ والقياس ما قاله مالك، وهو مذهب الشافعي، وهذا الحديث شاهد بصحة ذلك.

 

ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الخمر لا يجوز تخليلها لأحد، ولو جاز تخليلها ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع الرجل أن يفتح المزادة حتى يذهب ما فيها؛ لأن الخل مال وقد نهى عن إضاعة المال، ولا يقول أحد فيمن أراق خمرا على مسلم أنه أتلف له مالا. وقد أراق عثمان بن أبي العاص خمرا ليتيم، واستؤذن صلى الله عليه وسلم في تخليلها فقال: [ لا ] ونهى عن ذلك. ذهب إلى هذا طائفة من العلماء من أهل الحديث والرأي، وإليه مال سحنون بن سعيد. وقال آخرون: لا بأس بتخليل الخمر ولا بأس بأكل ما تخلل منها بمعالجة آدمي أو غيرها؛ وهو قول الثوري والأوزاعي والليث بن مسعد والكوفيين. وقال أبو حنيفة: إن طرح فيها المسك والملح فصارت مربى وتحولت عن حال الخمر جاز. وخالفه محمد بن الحسن في المربى وقال: لا تعالج الخمر بغير تحويلها إلى الخل وحده. قال أبو عمر: احتج العراقيون في تخليل الخمر بأبي الدرداء؛ وهو يروي عن أبي إدريس الخولاني عن أبي الدرداء من وجه ليس بالقوي أنه كان يأكل المربى منه، ويقول: دبغته الشمس والملح. وخالفه عمر بن الخطاب وعثمان بن أبي العاص في تخليل الخمر؛ وليس في رأي أحد حجة مع السنة. وبالله التوفيق. وقد يحتمل أن يكون المنع من تخليلها كان في بدء الإسلام عند نزول تحريمها؛ لئلا يستدام حبسها لقرب العهد بشربها، إرادة لقطع العادة في ذلك. وإذا كان كذلك لم يكن في النهي عن تخليلها حينئذ، والأمر بإراقتها ما يمنع من أكلها إذا خللت. وروى أشهب عن مالك قال: إذا خلل النصراني خمرا فلا بأس بأكله، وكذلك إن خللها مسلم واستغفر الله؛ وهذه الرواية ذكرها ابن عبدالحكم في كتابه. والصحيح ما قاله مالك في رواية ابن القاسم وابن وهب أنه لا يحل لمسلم أن يعالج الخمر حتى يجعلها خلا ولا يبيعها، ولكن ليهريقها.

 

لم يختلف قول مالك وأصحابه أن الخمر إذا تخللت بذاتها أن أكل ذلك الخل حلال. وهو قول عمر بن الخطاب وقبيصة وابن شهاب، وربيعة وأحد قولي الشافعي، وهو تحصيل مذهبه عند أكثر أصحابه.

 

ذكر ابن خويز منداد أنها تملك، ونزع إلى ذلك بأنه يمكن أن يزال بها الغصص، ويطفأ بها حريق؛ وهذا نقل لا يعرف لمالك، بل يخرج هذا على قول من يرى أنها طاهرة. ولو جاز ملكها لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإراقتها. وأيضا فإن الملك نوع نفع وقد بطل بإراقتها. والحمد لله.

 

هذه الآية تدل على تحريم اللعب بالنرد والشطرنج قمارا أو غير قمار؛ لأن الله تعالى لما حرم الخمر أخبر بالمعنى الذي فيها فقال: « يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر » الآية. ثم قال: « إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء » الآية. فكل لهو دعا قليله إلى كثير، وأوقع العداوة والبغضاء بين العاكفين عليه، وصد عن ذكر الله وعن الصلاة فهو كشرب الخمر، وأوجب أن يكون حراما مثله. فإن قيل: إن شرب الخمر يورث السكر فلا يقدر معه على الصلاة وليس في اللعب بالنرد والشطرنج هذا المعنى؛ قيل له: قد جمع الله تعالى بين الخمر والميسر في التحريم، ووصفهما جميعا بأنهما يوقعان العداوة والبغضاء بين الناس ويصدان عن ذكر الله وعن الصلاة؛ ومعلوم أن الخمر إن أسكرت فالميسر لا يسكر، ثم لم يكن عند الله افتراقهما في ذلك يمنع من التسوية بينهما في التحريم لأجل ما اشتركا فيه من المعاني. وأيضا فإن قليل الخمر لا يسكر كما أن اللعب بالنرد والشطرنج لا يسكر، ثم كان حراما مثل الكثير، فلا ينكر أن يكون اللعب بالنرد والشطرنج حراما مثل الخمر وإن كان لا يسكر. وأيضا فإن ابتداء اللعب يورث الغفلة، فتقوم تلك الغفلة المستولية على القلب مكان السكر؛ فإن كانت الخمر إنما حرمت لأنها تسكر فتصد بالإسكار عن الصلاة، فليحرم اللعب بالنرد والشطرنج لأنه يغفل ويلهي فيصد بذلك عن الصلاة. والله أعلم.

 

مُهدي الراوية يدل على أنه كان لم يبلغه الناسخ، وكان متمسكا بالإباحة المتقدمة، فكان ذلك دليلا على أن الحكم لا يرتفع بوجود الناسخ - كما يقول بعض الأصوليين - بل ببلوغه كما دل عليه هذا الحديث، وهو الصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوبخه، بل بين له الحكم؛ ولأنه مخاطب بالعمل بالأول بحيث لو تركه عصى بلا خلاف، وإن كان الناسخ قد حصل في الوجود، وذلك كما وقع لأهل قباء؛ إذ كانوا يصلون إلى بيت المقدس إلى أن أتاهم الآتي فأخبرهم بالناسخ، فمالوا نحو الكعبة. وقد تقدم في سورة ( البقرة ) والحمد لله؛ وتقدم فيها ذكر الخمر واشتقاقها والميسر. وقد مضى في صدر هذه السورة القول، في الأنصاب والأزلام. والحمد لله.

 

قوله تعالى: « إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر » الآية. أعلم الله تعالى عباده أن الشيطان إنما يريد أن يوقع العداوة والبغضاء بيننا بسبب الخمر وغيره، فحذرنا منها، ونهانا عنها. روي أن قبيلتين من الأنصار شربوا الخمر وانتشوا، فعبث بعضهم ببعض، فلما صحوا رأى بعضهم في وجه بعض آثار ما فعلوا، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن، فجعل بعضهم يقول: لو كان أخي بي رحيما ما فعل بي هذا، فحدثت بينهم الضغائن؛ فأنزل الله: « إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء » الآية.

 

قوله تعالى: « ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة » يقول: إذا سكرتم لم تذكروا الله ولم تصلوا، وإن صليتم خلط عليكم كما فعل بعلي، وروي: بعبدالرحمن كما تقدم في « النساء » . وقال عبيدالله بن عمر: سئل القاسم بن محمد عن الشطرنج أهي ميسر؟ وعن النرد أهو ميسر؟ فقال: كل ما صد عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر. قال أبو عبيد: تأول قوله تعالى: « ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة » .

 

قوله تعالى: « فهل أنتم منتهون » لما علم عمر رضي الله عنه أن هذا وعيد شديد زائد على معنى انتهوا قال: انتهينا. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم مناديه أن ينادي في سكك المدينة، ألا إن الخمر قد حرمت؛ فكسرت الدنان، وأريقت الخمر حتى جرت في سكاك المدينة.

 

قوله تعالى: « وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا » تأكيد للتحريم، وتشديد في الوعيد، وامتثال للأمر، وكف عن المنهي عنه، وحسن عطف « وأطيعوا الله » لما كان في الكلام المتقدم معنى انتهوا. وكرر « وأطيعوا » في ذكر الرسول تأكيدا. ثم حذر في مخالفة الأمر، وتوعد من تولى بعذاب الآخرة؛ فقال: « فإن توليتم » أي خالفتم « » فإنما على رسولنا البلاغ المبين « في تحريم ما أمر بتحريمه وعلى المرسل أن يعاقب أو يثيب بحسب ما يُعصى أو يُطاع.»

 

الآية: 93 ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين )

 

قال ابن عباس والبراء بن عازب وأنس بن مالك إنه لما نزل تحريم الخمر قال قوم من الصحابة: كيف بمن مات منا وهو يشربها ويأكل الميسر؟ - ونحو هذا - فنزلت الآية. روى البخاري عن أنس قال: كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة فنزل تحريم الحمر، فأمر مناديا ينادي، فقال أبو طلحة: اخرج فانظر ما هذا الصوت قال: فخرجت فقلت: هذا مناد ينادي ألا إن الخمر قد حرمت؛ فقال: اذهب فاهرقها - وكان الخمر من الفضيخ - قال: فجرت في سكك المدينة؛ فقال بعض القوم: قتل قوم وهي في بطونهم فأنزل الله عز وجل: « ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا » الآية.

 

هذه الآية وهذا الحديث نظير سؤالهم عمن مات إلى القبلة الأولى فنزلت « وما كان الله ليضيع إيمانكم » [ البقرة:143 ] ومن فعل ما أبيح له حتى مات على فعله لم يكن له ولا عليه شيء؛ لا إثم ولا مؤاخذة ولا ذم ولا أجر ولا مدح؛ لأن المباح مستوي الطرفين بالنسبة إلى الشرع؛ وعلى هذا فما كان ينبغي أن يتخوف ولا يسأل عن حال من مات والخمر في بطنه وقت إباحتها، فإما أن يكون ذلك القائل غفل عن دليل الإباحة فلم يخطر له، أو يكون لغلبة خوفه من الله تعالى، وشفقته على إخوانه المؤمنين توهم مؤاخذة ومعاقبة لأجل شرب الخمر المتقدم؛ فرفع الله ذلك التوهم بقوله: « ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا » الآية.

 

هذا الحديث في نزول الآية فيه دليل واضح على أن نبيذ التمر إذا أسكر خمر؛ وهو نص ولا يجوز الاعتراض عليه؛ لأن الصحابة رحمهم الله هم أهل اللسان، وقد عقلوا أن شرابهم ذلك خمر إذ لم يكن لهم شراب ذلك الوقت بالمدينة غيره؛ وقد قال الحكمي:

لنا خمر وليست خمر كرم ولكن من نتاج الباسقات

كرام في السماء ذهبن طولا وفات ثمارها أيدي الجناة

ومن الدليل الواضح على ذلك ما رواه النسائي: أخبرنا القاسم بن زكريا، أخبرنا عبيدالله عن شيبان عن الأعمش عن محارب بن دثار عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ الزبيب والتمر هو الخمر ] . وثبت بالنقل الصحيح أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه - وحسبك به عالما باللسان والشرع - خطب على منبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس؛ ألا إنه قد نزل تحريم الخمر يوم نزل، وهي من خمسة: من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير؛ والخمر ما خامر العقل. وهذا أبين ما يكون في معنى الخمر؛ يخطب به عمر بالمدينة على المنبر بمحضر جماعة الصحابة، وهم أهل اللسان ولم يفهموا من الخمر إلا ما ذكرناه. وإذا ثبت هذا بطل مذهب أبي حنيفة والكوفيين القائلين بأن الخمر لا تكون إلا من العنب، وما كان من غيره لا يسمى خمرا ولا يتناوله اسم الخمر، وإنما يسمى نبيذا؛ وقال الشاعر:

تركت النبيذ لأهل النبيذ وصرت حليفا لمن عابه

شراب يدنس عرض الفتى ويفتح للشر أبوابه

 

قال الإمام أبو عبدالله المازري: ذهب جمهور العلماء من السلف وغيرهم إلى أن كل ما يسكر نوعه حرم شربه، قليلا كان أو كثيرا، نيئا كان أو مطبوخا، ولا فرق بين المستخرج من العنب أو غيره، وأن من شرب شيئا من ذلك حُدّ؛ فأما المستخرج من العنب المسكر النيئ فهو الذي انعقد الإجماع على تحريم قليله وكثيره ولو نقطة منه. وأما ما عدا ذلك فالجمهور على تحريمه. وخالف الكوفيون في القليل مما عدا ما ذكر، وهو الذي لا يبلغ الإسكار؛ وفي المطبوخ المستخرج من العنب؛ فذهب قوم من أهل البصرة إلى قصر التحريم على عصير العنب، ونقيع الزبيب النيئ؛ فأما المطبوخ منهما، والنيئ والمطبوخ مما سواهما فحلال ما لم يقع الإسكار. وذهب أبو حنيفة إلى قصر التحريم على المعتصر من ثمرات النخيل والأعناب على تفصيل؛ فيرى أن سلافة العنب يحرم قليلها وكثيرها إلا أن تطبخ حتى ينقص ثلثاها، وأما نقيع الزبيب والتمر فيحل مطبوخهما وإن مسته النار مسا قليلا من غير اعتبار بحد؛ وأما النيئ منه فحرام، ولكنه مع تحريمه إياه لا يوجب الحد فيه؛ وهذا كله ما لم يقع الإسكار، فإن وقع الإسكار استوى الجميع. قال شيخنا الفقيه الإمام أبو العباس أحمد رضي الله عنه: العجب من المخالفين في هذه المسألة؛ فإنهم قالوا: إن القليل من الخمر المعتصر من العنب حرام ككثيره، وهو مجمع عليه؛ فإذا قيل لهم: فلم حرم القليل من الخمر وليس مذهبا للعقل؟ فلا بد أن يقال: لأنه داعية إلى الكثير، أو للتعبد؛ فحينئذ يقال لهم: كل ما قدرتموه في قليل الخمر هو بعينه موجود في قليل النبيذ فيحرم أيضا، إذ لا فارق بينهما إلا مجرد الاسم إذا سلم ذلك. وهذا القياس هو أرفع أنواع القياس؛ لأن الفرع فيه مساو للأصل في جميع أوصافه؛ وهذا كما يقول في قياس الأمة على العبد في سراية العتق. ثم العجب، من أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله! فإنهم يتوغلون في القياس ويرجحونه على أخبار الآحاد، ومع ذلك فقد تركوا هذا القياس الجلي المعضود بالكتاب والسنة وإجماع صدور الأمة، لأحاديث لا يصح شيء منها على ما قد بين عللها المحدثون في كتبهم، وليس في الصحيح شيء منها. وسيأتي في سورة « النحل » تمام هذه المسألة إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « طعموا » أصل هذه اللفظة في الأكل؛ يقال: طعم الطعام وشرب الشراب، لكن قد تجوز في ذلك فيقال: لم أطعم خبزا ولا ماء ولا نوما؛ قال الشاعر:

نعاما بوجرة صعر الخدود لا تطعم النوم إلا صياما

وقد تقدم القول في « البقرة » في قوله تعالى: « ومن لم يطعمه » [ البقرة:249 ] بما فيه الكفاية.

قال ابن خويز منداد: تضمنت هذه الآية تناول المباح والشهوات، والانتفاع بكل لذيذ من مطعم ومشرب ومنكح وإن بولغ فيه وتنوهي في ثمنه. وهذه الآية نظير قوله تعالى: « لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم » [ المائدة: 87 ] ونظير قوله: « قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق » [ الأعراف:32 ] .

 

قوله تعالى: « إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين » فيه أربعة أقوال: الأول: أنه ليس في ذكر التقوى تكرار؛ والمعنى اتقوا شربها، وآمنوا بتحريمها؛ والمعنى الثاني دام اتقاؤهم وإيمانهم؛ والثالث على معنى الإحسان إلى الاتقاء. والثاني: اتقوا قبل التحريم في غيرها من المحرمات، ثم اتقوا بعد تحريمها شربها، ثم اتقوا فيما بقي من أعمالهم، وأحسنوا العمل. الثالث: اتقوا الشرك وآمنوا بالله ورسوله، والمعنى الثاني ثم اتقوا الكبائر، وازدادوا إيمانا، ومعنى الثالث ثم اتقوا الصغائر وأحسنوا أي تنفلوا. وقال محمد بن جرير: الاتقاء الأول هو الاتقاء بتلقي أمر الله بالقبول، والتصديق والدينونة به والعمل، والاتقاء الثاني، الاتقاء بالثبات على التصديق، والثالث الاتقاء بالإحسان، والتقرب بالنوافل.

 

قوله تعالى: ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين « دليل على أن المتقي المحسن أفضل من المتقي المؤمن الذي عمل الصالحات؛ فضله بأجر الإحسان. »

قد تأول هذه الآية قدامة بن مظعون الجمحي من الصحابة رضى الله عنهم، وهو ممن هاجر إلى أرض الحبشة مع أخويه عثمان وعبدالله، ثم هاجر إلى المدينة وشهد بدرا وعُمِّر. وكان ختن عمر بن الخطاب، خال عبدالله وحفصة، وولاه عمر بن الخطاب على البحرين، ثم عزله بشهادة الجارود - سيد عبدالقيس - عليه بشرب الخمر. روى الدارقطني قال: حدثنا أبو الحسن علي بن محمد المصري، حدثنا يحيى بن أيوب العلاف، حدثني سعيد بن عفير، حدثني يحيى بن فليح بن سليمان، قال: حدثني ثور بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس: أن الشُرّاب كانوا يضربون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأيدي والنعال والعصي حتى توفي، رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا في خلافة أبي بكر أكثر منهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أبو بكر يجلدهم أربعين حتى توفي، ثم كان عمر من بعده يجلدهم كذلك أربعين حتى أتي برجل من المهاجرين الأولين وقد شرب فأمر به أن يجلد؛ قال: ليم تجلدني؟ بيني وبينك كتاب الله! فقال عمر: وفي أي كتاب الله تجد ألا أجلدك؟ فقال له: إن الله تعالى يقول في كتابه: « ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا » الآية. فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا؛ شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها؛ فقال عمر: ألا تردون عليه ما يقول؛ فقال ابن عباس: إن هؤلاء الآيات أنزلت عذرا لمن غبر وحجة على الناس؛ لأن الله تعالى يقول: « يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر » الآية؛ ثم قرأ حتى أنفذ الآية الأخرى؛ فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، الآية؛ فإن الله قد نهاه أن يشرب الخمر؛ فقال عمر: صدقت ماذا ترون؟ فقال علي رضي الله عنه: إنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدة؛ فأمر به عمر فجلد ثمانين جلدة.

وذكر الحميدي عن أبي بكر البرقاني عن ابن عباس قال: لما قدم الجارود من البحرين قال: يا أمير المؤمنين إن قدامة بن مظعون قد شرب مسكرا، وإني إذا رأيت حقا من حقوق الله حق علي أن أرفعه إليك؛ فقال عمر: من يشهد على ما تقول؟ فقال: أبو هريرة؛ فدعا عمر أبا هريرة فقال: علام تشهد يا أبا هريرة؟ فقال: لم أره حين شرب، ورأيته سكران يقيء، فقال عمر: لقد تنطعت في الشهادة؛ ثم كتب عمر إلى قدامة وهو بالبحرين يأمره بالقدوم عليه، فلما قدم قدامة والجارود بالمدينة كلم الجارود عمر؛ فقال: أقم على هذا كتاب الله؛ فقال عمر للجارود: أشهيد أنت أم خصم؟ فقال الجارود: أنا شهيد؛ قال: قد كنت أديت الشهادة؛ ثم قال لعمر: إني أنشدك الله! فقال عمر: أما والله لتملكن لسانك أو لأسوءنك؛ فقال الجارود: أما والله ما ذلك بالحق، أن يشرب ابن عمك وتسوءني! فأوعده عمر؛ فقال أبو هريرة وهو جالس: يا أمير المؤمنين إن كنت في شك من شهادتنا فسل بنت الوليد امرأة ابن مظعون، فأرسل عمر إلى هند ينشدها بالله، فأقامت هند على زوجها الشهادة؛ فقال عمر: يا قدامة إني جالدك؛ فقال قدامة: والله لو شربت - كما يقولون - ما كان لك أن تجلدني يا عمر. قال: ولم يا قدامة؟ قال: لأن الله سبحانه يقول: « ليس على آمنوا وعملوا الصالحات جناح » فيما طعموا « الآية إلى » المحسنين « . فقال عمر: أخطأت التأويل يا قدامة؛ إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله، ثم أقبل عمر على القوم فقال: ما ترون في جلد قدامة؟ فقال القوم: لا نرى أن تجلده ما دام وجعا؛ فسكت عمر عن جلده ثم أصبح يوما فقال لأصحابه: ما ترون في جلد قدامة؟ فقال القوم: لا نرى أن تجلده ما دام وجعا، فقال عمر: إنه والله لأن يلقى الله تحت السوط، أحب إلي أن ألقى الله وهو في عنقي! والله لأجلدنه؛ ائتوني بسوط، فجاءه مولاه أسلم بسوط رقيق صغير، فأخذه عمر فمسحه بيده ثم قال لأسلم: أخذتك دقرارة أهلك؛ ائتوني بسوط غير هذا. قال: فجاءه أسلم بسوط تام؛ فأمر عمر بقدامة فجلد؛ فغاضب قدامة عمر وهجره؛ فحجا وقدامة مهاجر لعمر حتى قفلوا عن حجهم ونزل عمر بالسقيا ونام بها فلما استيقظ عمر قال: عجلوا علي بقدامة، انطلقوا فأتوني به، فوالله لأرى في النوم أنه جاءني آت فقال: سالم قدامة فإنه أخوك، فلما جاؤوا قدامة أبى أن يأتيه، فأمر عمر بقدامة أن يجر إليه جرا حتى كلمه عمر واستغفر له، فكان أول صلحهما. قال أيوب بن أبي تميمة: لم يحد أحد من أهل بدر في الخمر غيره. قال ابن العربي: فهذا يدلك على تأويل الآية، وما ذكر فيه عن ابن عباس من حديث الدارقطني، وعمر في حديث البرقاني وهو صحيح؛ وبسطه أنه لو كان من شرب الخمر واتقى الله في غيره ما حد على الخمر أحد، فكان هذا من أفسد تأويل؛ وقد خفي على قدامة؛ وعرفه من وفقه الله كعمر وابن عباس رضي الله عنهما؛ قال الشاعر: »

وإن حراما لا أرى الدهر باكيا على شجوه إلا بكيت على عمر

وروي عن علي رضي الله عنه أن قوما شربوا بالشام وقالوا: هي لنا حلال وتأولوا هذه الآية، فأجمع علي وعمر على أن يستتابوا، فإن تابوا وإلا قتلوا؛ ذكره الكيا الطبري.

 

الآية: 94 ( يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم )

 

قوله تعالى: « ليبلونكم الله » أي ليختبرنكم، والابتلاء الاختبار. وكان الصيد أحد معايش العرب العاربة، وشائعا عند الجميع منهم، مستعملا جدا، فابتلاهم الله فيه مع الإحرام والحرم، كما ابتلى بني إسرائيل في ألا يعتدوا في السبت. وقيل: إنها نزلت عام الحديبية؛ أحرم بعض الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحرم بعضهم، فكان إذا عرض صيد اختلف فيه أحوالهم وأفعالهم، واشتبهت أحكامه عليهم، فأنزل الله هذه الآية بيانا لأحكام أحوالهم وأفعالهم، ومحظورات حجهم وعمرتهم.

 

اختلف العلماء من المخاطب بهذه الآية على قولين: أحدهما: أنهم المحلون؛ قاله مالك. الثاني: أنهم المحرمون قال ابن عباس؛ وتعلق بقوله تعالى: « ليبلونكم » فإن تكليف الامتناع الذي يتحقق به الابتلاء هو مع الإحرام. قال ابن العربي: وهذا لا يلزم؛ فإن التكليف يتحقق في المحل بما شرط له من أمور الصيد، وما شرع له من وصفه في كيفية الاصطياد. والصحيح أن الخطاب في الآية لجميع الناس مُحلِهم ومُحرِمهم؛ لقوله تعالى: « ليبلونكم الله » أي: ليكلفنكم، والتكليف كله ابتلاء وإن تفاضل في الكثرة والقلة، وتباين في الضعف والشدة.

 

قوله تعالى: « بشيء من الصيد » يريد ببعض الصيد، فمن للتبعيض، وهو صيد البر خاصة؛ ولم يعم الصيد كله لأن للبحر صيدا، قال الطبري وغيره. وأراد بالصيد المصيد؛ لقوله: « تناله أيديكم » .

 

قوله تعالى: « تناله أيديكم ورماحكم » بيان لحكم صغار الصيد وكباره. وقرأ ابن وثاب والنخعي: « يناله » بالياء منقوطة من تحت. قال مجاهد: الأيدي تنال الفراخ والبيض وما لا يستطيع أن يفر، والرماح تنال كبار الصيد. وقال ابن وهب قال مالك قال الله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم » وكل شيء يناله الإنسان بيده أو برمحه أو بشيء من سلاحه فقتله فهو صيد كما قال الله تعالى.

 

خص الله تعالى الأيدي بالذكر لأنها عظم التصرف في الاصطياد؛ وفيها تدخل الجوارح والحبالات، وما عمل باليد من فخاخ وشباك؛ وخص الرماح بالذكر لأنها عظم ما يجرح به الصيد، وفيها يدخل السهم ونحوه؛ وقد مضى القول فيما يصاد به من الجوارح والسهام في أول السورة بما فيه الكفاية والحمد لله.

 

ما وقع في الفخ والحبالة فلربها، فإن ألجأ الصيد إليها أحد ولولاها لم يتهيأ له أخذه فربها فيه شريكه. وما وقع في الجبح المنصوب في الجبل من ذباب النحل فهو كالحبالة والفخ، وحمام الأبرجة ترد على أربابها إن استطيع ذلك، وكذلك نحل الجباح؛ وقد روي عن مالك. وقال بعض أصحابه: إنه ليس على من حصل الحمام أو النحل عنده أن يرد. ولو ألجأت الكلاب صيدا فدخل في بيت أحد أو داره فهو للصائد مرسل الكلاب دون صاحب البيت، ولو دخل في البيت من غير اضطرار الكلاب له فهو لرب البيت.

 

احتج بعض الناس على أن الصيد للآخذ لا للمثير بهذه الآية؛ لأن المثير لم تنل يده ولا رمحه بعدُ شيئا، وهو قول أبي حنيفة.

 

كره مالك صيد أهل الكتاب ولم يحرمه، لقوله تعالى: « تناله أيديكم ورماحكم » يعني أهل الإيمان، لقوله تعالى في صدر الآية: « يا أيها الذين آمنوا » فخرج عنهم أهل الكتاب. وخالفه جمهور أهل العلم، لقوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا » [ المائدة: 94 ] وهو عندهم مثل ذبائحهم. وأجاب علماؤنا بأن الآية إنما تضمنت أكل طعامهم، والصيد باب آخر فلا يدخل في عموم الطعام، ولا يتناوله مطلق لفظه.

قلت: هذا بناء على أن الصيد ليس مشروعا عندهم فلا يكون من طعامهم، فيسقط عنا هذا الإلزام؛ فأما إن كان مشروعا عندهم في دينهم فيلزمنا أكله لتناول اللفظ له، فإنه من طعامهم. والله أعلم.

 

الآية: 95 ( يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام )

 

قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا » هذا خطاب عام لكل مسلم ذكر وأنثى، وهذا النهي هو الابتلاء المذكور في قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد » الآية. وروي أن أبا اليسر واسمه عمرو بن مالك الأنصاري كان محرما عام الحديبية بعمرة فقتل حمار وحش فنزلت فيه « لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم » .

 

قوله تعالى: « لا تقتلوا الصيد » القتل هو كل فعل يميت الروح، وهو أنواع: منها النحر والذبح والخنق والرضخ وشبهه؛ فحرم الله تعالى على المحرم في الصيد كل فعل يكون مقيتا للروح. من قتل صيدا أو ذبحه فأكل منه فعليه جزاء واحد لقتله دون أكله؛ وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: عليه جزاء ما أكل؛ يعني قيمته، وخالفه صاحباه فقالا: لا شيء عليه سوى الاستغفار؛ لأنه تناول الميتة كما لو تناول ميتة أخرى؛ ولهذا لو أكلها محرم آخر لا يلزمه إلا الاستغفار. وحجة أبي حنيفة أنه تناول محظور إحرامه؛ لأن قتله كان من محظورات الإحرام، ومعلوم أن المقصود من القتل هو التناول، فإذا كان ما يتوصل به إلى المقصود - محظور إحرامه - موجبا عليه الجزاء فما هو المقصود كان أولى.

 

لا يجوز عندنا ذبح المحرم للصيد، لنهي الله سبحانه المحرم عن قتله؛ وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: ذبح المحرم للصيد ذكاة؛ وتعلق بأنه ذبح صدر من أهله وهو المسلم، مضاف إلى محله وهو الأنعام؛ فأفاد مقصوده من حل الأكل؛ أصله ذبح الحلال. قلنا: قولكم ذبح صدر من أهله فالمحرم ليس بأهل لذبح الصيد؛ إذ الأهلية لا تستفاد عقلا، وإنما يفيدها الشرع؛ وذلك بإذنه في الذبح، أو بنفيها وذلك بنهيه عن الذبح، والمحرم منهي عن ذبح الصيد؛ لقوله: « لا تقتلوا الصيد » فقد انتفت الأهلية بالنهي. وقولكم أفاد مقصوده فقد اتفقنا على أن المحرم إذا ذبح الصيد لا يحل له أكله، وإنما يأكل منه غيره عندكم؛ فإذا كان الذبح لا يفيد الحل للذابح فأولى وأحرى ألا يفيده لغيره، لأن الفرع تبع للأصل في أحكامه؛ فلا يصح أن يثبت له ما لا يثبت لأصله.

 

قوله تعالى: « الصيد » مصدر عومل معاملة الأسماء، فأوقع على الحيوان المصيد؛ ولفظ الصيد هنا عام في كل صيد بري وبحري حتى جاء قوله تعالى: « وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما » [ المائدة: 96 ] فأباح صيد البحر إباحة مطلقة؛ على ما يأتي بيانه في الآية بعد هذا إن شاء الله تعالى.

 

اختلف العلماء في خروج السباع من صيد البر وتخصيصها منه؛ فقال مالك: كل شيء لا يعدو من السباع مثل الهر والثعلب والضبع وما أشبهها فلا يقتله المحرم، وإن قتله فداه. قال: وصغار الذئاب لا أرى أن يقتلها المحرم، فإن قتلها فداها؛ وهي مثل فراخ الغربان. ولا بأس بقتل كل ما عدا على الناس في الأغلب؛ مثل الأسد والذئب والنمر والفهد؛ وكذلك لا بأس عليه بقتل الحيات والعقارب والفأرة والغراب والحدأة. قال إسماعيل: إنما ذلك لقوله عليه السلام: [ خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم ] الحديث؛ فسماهن فساقا؛ ووصفهن بأفعالهن؛ لأن الفاسق فاعل للفسق، والصغار لا فعل لهن، ووصف الكلب بالعقور وأولاده لا تعقر؛ فلا تدخل في هذا النعت. قال القاضي إسماعيل: الكلب العقور مما يعظم ضرره على الناس. قال: ومن ذلك الحية والعقرب؛ لأنه يخاف منهما، وكذلك الحدأة والغراب؛ لأنهما يخطفان اللحم من أيدي الناس. قال ابن بكير: إنما أذن في قتل العقرب لأنها ذات حمة؛ وفي الفأرة لقرضها السقاء والحذاء اللذين بهما قوام المسافر. وفي الغراب لوقوعه على الظهر ونقبه عن لحومها؛ وقد روي عن مالك أنه قال: لا يقتل الغراب ولا الحدأة إلا أن يضرا. قال القاضي إسماعيل: واختلف في الزنبور؛ فشبهه بعضهم بالحية والعقرب، قال: ولولا أن الزنبور لا يبتدئ لكان أغلظ على الناس من الحية والعقرب، ولكنه ليس في طبعه من العداء ما في الحية والعقرب، وإنما يحمي الزنبور إذا أوذي. قال: فإذا عرض الزنبور لأحد فدفعه عن نفسه لم يكن عليه شيء في قتله؛ وثبت عن عمر بن الخطاب إباحة قتل الزنبور. وقال مالك: يطعم قاتله شيئا؛ وكذلك قال مالك فيمن قتل البرغوث والذباب والنمل ونحوه. وقال أصحاب الرأي: لا شيء على قاتل هذه كلها. وقال أبو حنيفة: لا يقتل المحرم من السباع إلا الكلب، العقور والذئب خاصة، سواء ابتدأه أو ابتدأهما؛ وإن قتل غيره من السباع فداه. قال: فإن ابتدأه غيرهما من السباع فقتله فلا شيء عليه؛ قال: ولا شيء عليه في قتل الحية والعقرب والغراب والحدأة، هذه جملة قول أبي حنيفة وأصحابه إلا زفر؛ وبه قال الأوزاعي والثوري والحسن؛ واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم خص دواب بأعيانها وأرخص للمحرم في قتلها من أجل ضررها؛ فلا وجه أن يزاد عليها إلا أن يجمعوا على شيء فيدخل في معناها.

قلت: العجب من أبي حنيفة رحمه الله يحمل التراب على البر بعلة الكيل، ولا يحمل السباع العادية على الكلب بعلة الفسق والعقر، كما فعل مالك والشافعي رحمهما الله! وقال زفر بن الهذيل: لا يقتل إلا الذئب وحده، ومن قتل غيره وهو محرم فعليه الفدية، سواء ابتدأه أو لم يبتدئه؛ لأنه عجماء فكان فعله هدرا؛ وهذا رد للحديث ومخالفة له. وقال الشافعي: كل ما لا يؤكل لحمه فللمحرم أن يقتله؛ وصغار ذلك وكباره سواء، إلا السّمْع وهو المتولد بين الذئب والضبع، قال: وليس في الرخمة والخنافس والقردان والحلم وما لا يؤكل لحمه شيء؛ لأن هذا ليس من الصيد، لقوله تعالى: « وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما » [ المائدة: 96 ] فدل أن الصيد الذي حرم عليهم ما كان لهم قبل الإحرام حلالا؛ حكى عنه هذه الجملة المزني والربيع؛ فإن قيل: فلم تفدى القملة وهي تؤذي ولا تؤكل؟ قيل له: ليس تفدى إلا على ما يفدى به الشعر والظفر ولبس ما ليس له لبسه؛ لأن في طرح القملة إماطة الأذى عن نفسه إذا كانت في رأسه ولحيته، فكأنه أماط بعض شعره؛ فأما إذا ظهرت فقتلت فإنها لا تؤذي. وقول أبي ثور في هذا الباب كقول الشافعي؛ قاله أبو عمر.

 

روى الأئمة عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور ) . اللفظ للبخاري؛ وبه قال أحمد وإسحاق. وفي كتاب مسلم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحديا ] . وبه قالت طائفة من أهل العلم قالوا: لا يقتل من الغربان إلا الأبقع خاصة؛ لأنه تقييد مطلق. وفي كتاب أبي داود عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: [ ويرمي الغراب ولا يقتله ] . وبه قال مجاهد. وجمهور العلماء على القول بحديث ابن عمر، والله أعلم. وعند أبي داود والترمذي: والسبع العادي؛ وهذا تنبيه على العلة.

 

قوله تعالى: « وأنتم حرم » عام في النوعين من الرجال والنساء، الأحرار والعبيد؛ يقال: رجل حرام وامرأة حرام، وجمع ذلك حُرُم؛ كقولهم: قذال وقذل. وأحرم الرجل دخل في الحرم؛ كما يقال: أسهل دخل في السهل. وهذا اللفظ يتناول الزمان والمكان وحالة الإحرام بالاشتراك لا بالعموم. يقال: رجل حرام إذا دخل في الأشهر الحرم أو في الحرم، أو تلبس بالإحرام؛ إلا أن تحريم الزمان خرج بالإجماع عن أن يكون معتبرا، وبقي تحريم المكان وحالة الإحرام على أصل التكليف؛ قاله ابن العربي.

 

حرم المكان حرمان، حرم المدينة وحرم مكة وزاد الشافعي الطائف، فلا يجوز عنده قطع شجره، ولا صيد صيده، ومن فعل ذلك فلا جزاء عليه فأما حرم المدينة فلا يجوز فيه الاصطياد لأحد ولا قطع الشجر كحرم مكة، فإن فعل أثم ولا جزاء عليه عند مالك والشافعي وأصحابهما. وقال ابن أبي ذئب: عليه الجزاء. وقال سعد: جزاؤه أخذ سلبه، وروي عن الشافعي. وقال أبو حنيفة: صيد المدينة غير مُحرّم، وكذلك قطع شجرها. واحتج له بعض من ذهب مذهبه بحديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ من وجدتموه يصيد في حدود المدينة أو يقطع شجرها فخذوا سلبه ] . وأخذ سعد سلب من فعل ذلك. قال: وقد اتفق الفقهاء على أنه لا يؤخذ سلب من صاد في المدينة، فدل ذلك على أنه منسوخ. واحتج لهم الطحاوي أيضا بحديث أنس - ما فعل النفير؛ فلم ينكر صيده وإمساكه - وهذا كله لا حجة فيه. أما الحديث الأول فليس بالقوي، ولو صح لم يكن في نسخ أحد السلب ما يسقط ما صح من تحريم المدينة، فكم من محرم ليس عليه عقوبة في الدنيا. وأما الحديث الثاني فيجوز أن يكون صيد في غير الحرم. وكذلك حديث عائشة؛ أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحش فإذا خرج لعب واشتد وأقبل وأدبر، فإذا أحس برسول الله صلى الله عليه وسلم ربض، فلم يترمرم كراهية أن يؤذيه. ودليلنا عليهم ما رواه مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة قال: لو رأيت الظباء ترتع بالمدينة ما ذعرتها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ ما بين لابتيها حرام ] فقول أبي هريرة ما ذعرتها دليل على أنه لا يجوز ترويع الصيد في حرم المدينة، كما لا يجوز ترويعه في حرم مكة. وكذلك نزع زيد بن ثابت النهس - وهو طائر - من يد شرحبيل بن سعد كان صاده بالمدينة؛ دليل على أن الصحابة فهموا مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم صيد المدينة، فلم يجيزوا فيها الاصطياد ولا تملك ما يصطاد.

ومتعلق ابن أبي ذئب قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: [ اللهم إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم المدينة مثل ما حرم به مكة ومثله معه لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها ] ولأنه حرم منع الاصطياد فيه فتعلق الجزاء به كحرم مكة. قال القاضي عبدالوهاب: وهذا قول أقيس عندي على أصولنا، لا سيما أن المدينة عند أصحابنا أفضل من مكة، وأن الصلاة فيها أفضل من الصلاة في المسجد الحرام. ومن حجة مالك والشافعي في ألا يحكم عليه بجزاء ولا أخذ سلب - في المشهور من قول الشافعي - عموم قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: [ المدينة حرم ما بين عَيْر إلى ثَوْر فمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا ] فأرسل صلى الله عليه وسلم الوعيد الشديد ولم يذكر كفارة. وأما ما ذكر عن سعد فذلك مذهب له مخصوص به؛ لما روي عنه في الصحيح أنه ركب إلى قصره بالعقيق، فوجد عبدا يقطع شجرا - أو يخبطه - فسلبه، فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم ما أخذ من غلامهم؛ فقال: معاذ الله أن أرد شيئا نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى أن يرد عليهم؛ فقوله: ( نفلنيه ) ظاهره الخصوص. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « ومن قتله منكم متعمدا » ذكر الله سبحانه المتعمد ولم يذكر المخطئ والناسي؛ والمتعمد هنا هو القاصد للشيء مع العلم بالإحرام. والمخطئ هو الذي يقصد شيئا فيصيب صيدا، والناسي هو الذي يتعمد الصيد ولا يذكر إحرامه. واختلف العلماء في ذلك على خمسة أقوال:

الأول: ما أسنده الدارقطني عن ابن عباس قال: إنما التكفير في العمد، وإنما غلظوا في الخطأ لئلا يعودوا. الثاني: أن قوله: « متعمدا » خرج على الغالب، فألحق به النادر كأصول الشريعة. الثالث: أنه لا شيء على المخطئ والناسي؛ وبه قال الطبري وأحمد بن حنبل في إحدى روايتيه، وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير، وبه قال طاوس وأبو ثور، وهو قول داود. وتعلق أحمد بأن قال: لما خص الله سبحانه المتعمد بالذكر، دل عل أن غيره بخلافه. وزاد بأن قال: الأصل براءة الذمة فمن ادعى شغلها فعليه الدليل. الرابع: أنه يحكم عليه في العمد والخطأ والنسيان؛ قاله ابن عباس، وروي عن عمر وطاوس والحسن وإبراهيم وإبراهيم، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم. قال الزهري: وجب الجزاء في العمد بالقرآن، وفي الخطأ والنسيان بالسنة؛ قال ابن العربي: إن كان يريد بالسنة الآثار التي وردت عن ابن عباس وعمر فنعما هي، وما أحسنها أسوة. الخامس: أن يقتله متعمدا لقتله ناسيا لإحرامه - وهو قول مجاهد - لقوله تعالى بعد ذلك: « ومن عاد فينتقم الله منه » . قال: ولو كان ذاكرا لإحرامه لوجبت عليه العقوبة لأول مرة، قال: فدل على أنه أراد متعمدا لقتله ناسيا لإحرامه؛ قال مجاهد: فإن كان ذاكرا لإحرامه فقد حل ولا حج له لارتكابه محظور إحرامه، فبطل عليه كما لو تكلم في الصلاة، أو أحدث فيها؛ قال: ومن أخطأ فذلك الذي يجزئه. ودليلنا على مجاهد أن الله سبحانه أوجب الجزاء ولم يذكر الفساد، ولا فرق بين أن يكون ذاكرا للإحرام أو ناسيا له، ولا يصح اعتبار الحج بالصلاة فإنهما مختلفان؛ وقد روي عنه أنه لا حكم عليه في قتله متعمدا، ويستغفر الله، وحجه تام؛ وبه قال ابن زيد. ودليلنا على داود أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الضبع فقال: [ هي صيد ] وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشا، ولم يقل عمدا ولا خطأ. وقال ابن بكير من علمائنا: قول سبحانه: « متعمدا » لم يرد به التجاوز عن الخطأ، وإنما أراد « متعمدا » ليبين أنه ليس كابن آدم الذي لم يجعل في قتله متعمدا كفارة، وأن الصيد فيه كفارة، ولم يرد به إسقاط الجزاء في قتل الخطأ. والله أعلم.

فإن قتله في إحرامه مرة بعد مرة حكم عليه كلما قتله في قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم؛ لقول الله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم » فالنهي دائم مستمر عليه ما دام محرما فمتى قتله فالجزاء لأجل ذلك لازم له. وروي عن ابن عباس قال: لا يحكم عليه مرتين في الإسلام، ولا يحكم عليه إلا مرة واحدة، فإن عاد ثانية فلا يحكم عليه، ويقال له: ينتقم الله منك؛ لقوله تعالى: « ومن عاد فينتقم الله منه » . وبه قال الحسن وإبراهيم ومجاهد وشريح. ودليلنا عليهم ما ذكرناه من تمادي التحريم في الإحرام، وتوجُهُ الخطاب عليه في دين الإسلام.

 

قوله تعالى: « فجزاء مثل ما قتل من النعم » فيه أربعة قراءات؛ « فجزاء مثل » برفع جزاء وتنوينه، و « مثل » على الصفة، والخبر مضمر، التقدير فعليه جزاء مماثل واجب أو لازم من النعم. وهذه القراءة تقتضي أن يكون المثل هو الجزاء بعينه. و « جزاء » بالرفع غير منون و « مثل » بالإضافة أي فعليه جزاء مثل ما قتل، و « مثل » مقحمة كقولك أنا أكرم مثلك، وأنت تقصد أنا أكرمك. ونظير هذا قوله تعالى: « أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات » [ الأنعام: 122 ] التقدير كمن هو في الظلمات؛ وقوله: « ليس كمثله شيء » [ الشورى: 11 ] أي ليس كهو شيء. وهذه القراءة تقتضي أن يكون الجزاء غير المثل؛ إذ الشيء لا يضاف إلى نفسه. وقال أبو علي: إنما يجب عليه جزاء المقتول، لا جزاء مثل المقتول، والإضافة توجب جزاء المثل لا جزاء المقتول. وهو قول الشافعي على ما يأتي. وقوله: « من النعم » صفة لجزاء على القراءتين جميعا. وقرأ الحسن « من النعم » بإسكان العين وهي لغة. وقرأ عبدالرحمن « فجزاء » بالرفع والتنوين « مثل » النصب؛ قال أبو الفتح: « مثل » منصوبة بنفس الجزاء؛ والمعنى أن يجزى مثل ما قتل. وقرأ ابن مسعود والأعمش « فجزاؤه مثل » بإظهار ( هاء ) ؛ ويحتمل أن يعود على الصيد أو على الصائد القاتل.

 

الجزاء إنما يجب بقتل الصيد لا بنفس أخذه كما قال تعالى. وفي ( المدونة ) : من اصطاد طائرا فنتف ريشه ثم حبسه حتى نسل ريشه فطار، قال: لا جزاء عليه. قال وكذلك لو قطع يد صيد أو رجله أو شيئا من أعضائه وسلمت نفسه وصح ولحق بالصيد فلا شيء عليه. وقيل: عليه من الجزاء بقدر ما نقصه. ولو ذهب ولم يدر ما فعل فعليه جزاؤه. ولو زمن الصيد ولم يلحق الصيد، أو تركه محوفا عليه فعليه جزاؤه كاملا.

 

ما يُجزَى من الصيد شيئان: دواب وطير؛ فيُجزَى ما كان من الدواب بنظيره في الخلقة والصورة، ففي النعامة بدنة، وفي حمار الوحش وبقرة الوحش بقرة، وفي الظبي شاة؛ وبه قال الشافعي. وأقل ما يجزي عند مالك ما استيسر من الهدي وكان أضحية؛ وذلك كالجذع من الضأن والثني مما سواه، وما لم يبلغ جزاؤه ذلك ففيه إطعام أو صيام. وفي الحمام كله قيمته إلا حمام مكة؛ فإن في الحمامة منه شاة اتباعا للسلف في ذلك. والدبسي والفواخت والقمري وذوات الأطواق كله حمام. وحكى ابن عبدالحكم عن مالك أن في حمام مكة وفراخها شاة؛ قال: وكذلك حمام الحرم؛ قال: وفي حمام الحل حكومة. وقال أبو حنيفة: إنما يعتبر المثل في القيمة دون الخلقة، فيقوم الصيد دراهم في المكان الذي قتله فيه، أو في أقرب موضع إليه إن كان لا يباع الصيد في موضع قتله؛ فيشتري بتلك القيمة هديا إن شاء، أو يشتري بها طعاما ويطعم المساكين كل مسكين نصف صاع من بر، أو صاعا من شعير، أو صاعا من تمر. وأما الشافعي فإنه يرى المثل من النعم ثم يقوم المثل كما في المتلفات يقوم المثل، وتؤخذ قيمة المثل كقيمة الشيء؛ فإن المثل هو الأصل في الوجوب؛ وهذا بين وعليه تخرج قراءة الإضافة ( فجزاء مثل ) . احتج أبو حنيفة فقال: لو كان الشبه من طريق الخلقة معتبرا، في النعامة بدنة، وفي الحمار بقرة، وفي الظبي شاة، لما أوقفه على عدلين يحكمان به؛ لأن ذلك قد علم فلا يحتاج إلى الارتياء والنظر؛ وإنما يفتقر إلى العدول والنظر ما تشكل الحال فيه، ويضطرب وجه النظر عليه. ودليلنا عليه قول الله تعالى: « فجزاء مثل ما قتل من النعم » الآية. فالمثل يقتضي بظاهرة المثل الخلقي الصوري دون المعنى، ثم قال: « من النعم » فبين جنس المثل؛ ثم قال: « يحكم به ذوا عدل منكم » وهذا ضمير راجع إلى مثل من النعم؛ لأنه لم يتقدم ذكر لسواه يرجع الضمير عليه؛ ثم قال: « هديا بالغ الكعبة » والذي يتصور فيه الهدي مثل المقتول من النعم، فأما القيمة فلا يتصور أن تكون هديا، ولا جرى لها ذكر في نفس الآية؛ فصح ما ذكرناه. والحمد لله. وقولهم: لو كان الشبه معتبرا لما أوقفه على عدلين؛ فالجواب أن اعتبار العدلين إنما وجب للنظر في حال الصيد من صغر وكبر، وما لا جنس له مما له جنس، وإلحاق ما لم يقع عليه نص بما وقع عليه النص.

 

من أحرم من مكة فأغلق باب بيته على فراخ حمام فماتت فعليه في كل فرخ شاة. قال مالك: وفي صغار الصيد مثل ما في كباره؛ وهو قول عطاء. ولا يفدى عند مالك شيء بعناق ولا جفرة؛ قال مالك: وذلك مثل الدية؛ الصغير والكبير فيها سواء. وفي الضب عنده واليربوع قيمتهما طعاما. ومن أهل المدينة من يخالفه في صغار الصيد، وفي اعتبار الجذع والثني، ويقول بقول عمر: في الأرنب عناق وفي اليربوع جفرة؛ رواه مالك موقوفا. وروى أبو الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ في الضبع إذا أصابه المحرم كبش وفي الظبي شاة وفي الأرنب عناق وفي اليربوع جفرة ] قال: والجفرة التي قد ارتعت. وفي طريق آخر قلت لأبي الزبير: وما الجفرة؟ قال: التي قد فطمت ورعت. خرجه الدارقطني. وقال الشافعي: في النعامة بدنة، وفي فرخها فصيل، وفي حمار الوحش بقرة، وفي سخله عجل؛ لأن الله تعالى حكم بالمثلية في الخلقة، والصغر والكبر متفاوتان فيجب اعتبار الصغير فيه والكبير كسائر المتلفات. قال ابن العربي: وهذا صحيح وهو اختيار علمائنا؛ قالوا: ولو كان الصيد أعور أو أعرج أو كسيرا لكان المثل على صفته لتتحقق المثلية، فلا يلزم المتلف فوق ما أتلف. ودليلنا قوله تعالى: « فجزاء مثل ما قتل من النعم » ولم يفصل بين صغير وكبير. وقوله: « هديا » يقتضي ما يتناوله اسم الهدي لحق الإطلاق. وذلك يقتضي الهدي التام. والله أعلم.

 

في بيض النعامة عشر ثمن البدنة عند مالك. وفي بيض الحمامة المكية عنده عشر ثمن الشاة. قال ابن القاسم: وسواء كان فيها فرخ أو لم يكن ما لم يستهل الفرخ بعد الكسر؛ فان استهل فعليه الجزاء كاملا كجزاء الكبير من ذلك الطير. قال ابن المواز: بحكومة عدلين. وأكثر العلماء يرون في بيض كل طائر القيمة. روى عكرمة عن ابن عباس عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بيض نعام أصابه محرم بقدر ثمنه؛ خرجه الدارقطني. وروي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ في كل بيضة نعام صيام يوم أو إطعام مسكين ] .

 

وأما ما لا مثل له كالعصافير والفيلة فقيمة لحمه أو عدله من الطعام، دون ما يراد له من الأغراض؛ لأن المراعى فيما له مثل وجوب مثله، فإن عدم المثل فالقيمة قائمة مقامه كالغصب وغيره. ولأن الناس قائلان - أي على مذهبين - معتبر للقيمة في جميع الصيد؛ ومقتصر بها على ما لا مثل له من النعم؛ فقد تضمن ذلك الإجماع على اعتبار القيمة فيما لا مثل له. وأما الفيل فقيل: فيه بدنة من الهجان العظام التي لها سنامان؛ وهي بيض خراسانية، فإذا لم يوجد شيء من هذه الإبل فينظر إلى قيمته طعاما، فيكون عليه ذلك، والعمل فيه أن يجعل الفيل في مركب، وينظر إلى منتهى ما ينزل المركب في الماء، ثم يخرج الفيل ويجعل في المركب طعام حتى ينزل إلى الحد الذي نزل والفيل فيه، وهذا عدله من الطعام. وأما أن ينظر إلى قيمته فهو يكون له ثمن عظيم لأجل عظامه وأنيابه فيكثر الطعام وذلك ضرر.

 

قوله تعالى: « يحكم به ذوا عدل منكم » روى مالك عن عبدالملك بن قريب عن محمد بن سيرين أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب فقال: إني أجريت أنا وصاحب لي فرسين نستبق إلى ثغرة ثنية، فأصبنا ظبيا ونحن محرمان فماذا ترى؟ فقال عمر لرجل إلى جنبه: تعال حتى أحكم أنا وأنت؛ فحكما عليه بعنز؛ فولى الرجل وهو يقول: هذا أمير المؤمنين لا يستطيع أن يحكم في ظبي حتى دعا رجلا يحكم معه، فسمع عمر بن الخطاب قول الرجل فدعاه فسأله، هل تقرأ سورة « المائدة » ؟ فقال: لا؛ قال: هل تعرف الرجل الذي حكم معي؟ فقال: لا، فقال عمر رضي الله عنه: لو أخبرتني أنك تقرأ سورة « المائدة » لأوجعتك ضربا، ثم قال: إن الله سبحانه يقول في كتابه: « يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة » وهذا عبدالرحمن بن عوف.

 

إذا اتفق الحَكَمان لزم الحكم؛ وبه قال الحسن والشافعي. وإن اختلفا نظر في غيرهما. وقال محمد بن المواز: لا يأخذ بأرفع من قوليهما؛ لأنه عمل بغير تحكيم. وكذلك لا ينتقل عن المثل الخلقي إذا حكما به إلى الطعام؛ لأنه أمر قد لزم؛ قال ابن شعبان. وقال ابن القاسم: إن أمرهما أن يحكما بالجزاء من المثل ففعلا، فأراد أن ينتقل إلى الطعام جاز. وقال ابن وهب رحمه الله في ( العتبية ) : من السنة أن يخير الحكمان من أصاب الصيد، كما خيره الله في أن يخرج « هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما » فإن اختار الهدي حكما عليه بما يريانه نظيرا لما أصاب ما بينهما وبين أن يكون عدل ذلك شاة لأنها أدنى الهدي؛ وما لم يبلغ شاة حكما فيه بالطعام ثم خير في أن يطعمه، أو يصوم مكان كل مد يوما؛ وكذلك قال مالك في ( المدونة ) .

ويستأنف الحكم في كل ما مضت فيه حكومة أو لم تمض، ولو اجتزأ بحكومة الصحابة رضي الله عنهم فيما حكموا به من جزاء الصيد كان حسنا. وقد روي عن مالك أنه ما عدا حمام مكة وحمار الوحش والظبي والنعامة لا بد فيه من الحكومة، ويجتزأ في هذه الأربعة بحكومة من مضى من السلف رضي الله عنهم.

 

لا يجوز أن يكون الجاني أحد الحكمين، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي في أحد قوليه: يكون الجاني أحد الحكمين؛ وهذا تسامح منه؛ فإن ظاهر الآية يقتضي جانيا وحكمين فحذف بعض العدد إسقاط للظاهر، وإفساد للمعنى؛ لأن حكم المرء لنفسه لا يجوز، ولو كان ذلك جائزا لاستغنى بنفسه عن غيره؛ لأنه حكم بينه وبين الله تعالى فزيادة ثان إليه دليل على استئناف الحكم برجلين.

 

إذا اشترك جماعة محرمون في قتل صيد فقال مالك وأبو حنيفة: على كل واحد جزاء كامل. وقال الشافعي: عليهم كلهم كفارة واحدة لقضاء عمر وعبدالرحمن. وروى الدارقطني أن موالي لابن الزبير أحرموا إذ مرت بهم ضبع فحذفوها بعصيهم فأصابوها، فوقع في أنفسهم، فأتوا ابن عمر فذكروا له فقال: عليكم كلكم كبش؛ قالوا: أو على كل واحد منا كبش؛ قال: إنكم لمعزز بكم، عليكم كلكم كبش. قال اللغويون: لمعزز بكم أي لمشدد عليكم. وروي عن ابن عباس في قوم أصابوا ضبعا قال: عليهم كبش يتخارجونه بينهم. ودليلنا قول الله سبحانه: « ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم » وهذا خطاب لكل قاتل. وكل واحد من القاتلين للصيد قاتل نفسا على التمام والكمال، بدليل قتل الجماعة بالواحد، ولولا ذلك ما وجب عليهم القصاص، وقد قلنا بوجوبه إجماعا منا ومنهم؛ فثبت ما قلناه.

 

قال أبو حنيفة: إذا قتل جماعة صيدا في الحرم وكلهم محلون، عليهم جزاء واحد، بخلاف ما لو قتله المحرمون في الحل والحرم؛ فإن ذلك لا يختلف. وقال مالك: على كل واحد منهم جزاء كامل، بناء على أن الرجل يكون محرما بدخوله الحرم، كما يكون محرما بتلبيته بالإحرام، وكل واحد من الفعلين قد أكسبه صفة تعلق بها نهي، فهو هاتك لها في الحالتين.

وحجة أبي حنيفة ما ذكره القاضي أبو زيد الدبوسي قال: السر فيه أن الجناية في الإحرام على العبادة، وقد ارتكب كل واحد منهم محظور إحرامه. وإذا قتل المحلون صيدا في الحرم فإنما أتلفوا دابة محرمة بمنزلة ما لو أتلف جماعة دابة؛ فإن كل واحد منهم قاتل دابة، ويشتركون في القيمة. قال ابن العربي: وأبو حنيفة أقوى منا، وهذا الدليل يستهين به علماؤنا وهو عسير الانفصال علينا.

 

قوله تعالى: « هديا بالغ الكعبة » المعنى أنهما إذا حكما بالهدي فإنه يفعل به ما يفعل بالهدي من الإشعار والتقليد، ويرسل من الحل إلى مكة، وينحر ويتصدق به فيها؛ لقوله: « هديا بالغ الكعبة » ولم يرد الكعبة بعينها فإن الهدي لا يبلغها، إذ هي في المسجد، وإنما أراد الحرم ولا خلاف في هذا. وقال الشافعي: لا يحتاج الهدي إلى الحل بناء على أن الصغير من الهدي يجب في الصغير من الصيد، فإنه يبتاع في الحرم ويهدى فيه.

 

قوله تعالى: « أو كفارة طعام مساكين » الكفارة إنما هي عن الصيد لا عن الهدي. قال ابن وهب قال مالك: أحسن ما سمعت في الذي يقتل الصيد فيحكم عليه فيه، أنه يقوم الصيد الذي أصاب، فينظركم ثمنه من الطعام، فيطعم لكل مسكين مدا، أو يصوم مكان كل مد يوما. وقال ابن القاسم عنه: إن قوم الصيد دراهم ثم قومها طعاما أجزأه؛ والصواب الأول. وقال عبدالله بن عبدالحكم مثله قال عنه: وهو في هذه الثلاثة بالخيار؛ أي ذلك فعل أجزأه موسرا كان أو معسرا. وبه قال عطاء وجمهور الفقهاء؛ لأن « أو » للتخيير قال مالك: كل شيء في كتاب الله في الكفارات كذا أو كذا فصاحبه مخير في ذلك أي ذلك أحب أن يفعل فعل. وروي عن ابن عباس أنه قال: إذا قتل المحرم ظبيا أو نحوه فعليه شاة تذبح بمكة؛ فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين، فإن لم يجد فعليه صيام ثلاثة أيام؛ وإن قتل إيلا أو نحوه فعليه بقرة، فإن لم يجد أطعم عشرين مسكينا، فإن لم يجد صام عشرين يوما؛ وإن قتل نعامة أو حمارا فعليه بدنة، فإن لم يجد فإطعام ثلاثين مسكينا، فإن لم يجد فصيام ثلاثين يوما. والطعام مد مد لشبعهم. وقال إبراهيم النخعي وحماد بن سلمة، قالوا: والمعنى « أو كفار طعام » إن لم يجد الهدي. وحكى الطبري عن ابن عباس أنه قال: إذا أصاب المحرم الصيد حكم عليه بجزائه، فإن وجد جزاءه ذبحه وتصدق به، وإن لم يكن عنده جزاؤه قوم جزاؤه بدراهم، ثم قومت الدراهم حنطة، ثم صام مكان كل نصف صاع يوما؛ وقال: إنما أريد بالطعام تبيين أمر الصيام، فمن لم يجد طعاما، فإنه يجد جزاءه. وأسنده أيضا عن السدي. ويعترض هذا القول بظاهر الآية فإنه ينافره.

 

اختلف العلماء في الوقت الذي يعتبر فيه المتلف؛ فقال قوم: يوم الإتلاف. وقال آخرون: يوم القضاء. وقال آخرون: يلزم المتلف أكثر القيمتين، من يوم الإتلاف إلى يوم الحكم. قال ابن العربي: واختلف علماؤنا كاختلافهم، والصحيح أنه تلزمه القيمة يوم الإتلاف؛ والدليل على ذلك أن الوجود كان حقا للمتلف عليه، فإذا أعدمه المتلف لزمه إيجاده بمثله، وذلك في وقت العدم.

 

أما الهدي فلا خلاف أنه لا بد له من مكة؛ لقوله تعالى: « هديا بالغ الكعبة » . وأما الإطعام فاختلف فيه قول مالك هل يكون بمكة أو بموضع الإصابة؛ وإلى كونه بمكة ذهب الشافعي. وقال عطاء: ما كان من دم أو طعام فبمكة ويصوم حيث يشاء؛ وهو قول مالك في الصوم، ولا خلاف فيه. قال القاضي أبو محمد عبدالوهاب: ولا يجوز إخراج شيء من جزاء الصيد بغير الحرم إلا الصيام. وقال حماد وأبو حنيفة: يكفر بموضع الإصابة مطلقا. وقال الطبري: يكفر حيث شاء مطلقا، فأما قول أبي حنيفة فلا وجه له في النظر، ولا أثر فيه. وأما من قال يصوم حيث شاء؛ فلأن الصوم عبادة تختص بالصائم فتكون في كل موضع كصيام سائر الكفارات وغيرها. وأما وجه القول بأن الطعام يكون بمكة؛ فلأنه بدل عن الهدي أو نظير له، والهدي حق لمساكين مكة، فلذلك يكون بمكة بدله أو نظيره. وأما من قاله إنه يكون بكل موضع؛ فاعتبار بكل طعام وفدية، فإنها تجوز بكل موضع. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « أو عدل ذلك صياما » العدل والعدل بفتح العين وكسرها لغتان وهما المثل؛ قاله الكسائي. وقاله الفراء: عدل الشيء بكسر العين مثله من جنسه، وبفتح العين مثله من غير جنسه، ويؤثر هذا القول عن الكسائي، تقول: عندي عدل دراهمك من الدراهم، وعندي عدل دراهمك من الثياب؛ والصحيح عن الكسائي أنهما لغتان، وهو قول البصريين. ولا يصح أن يماثل الصيام الطعام في وجه أقرب من العدد قال مالك: يصوم عن كل مد يوما، وإن زاد على شهرين أو ثلاثة؛ وبه قاله الشافعي. وقال يحيى بن عمر من أصحابنا: إنما يقال كم من رجل يشبع من هذا الصيد فيعرف العدد، ثم يقال: كم من الطعام يشبع هذا العدد؛ فإن شاء أخرج ذلك الطعام، وإن شاء صام عدد أمداده. وهذا قول حسن احتاط فيه لأنه قد تكون قيمة الصيد من الطعام قليلة؛ فبهذا النظر يكثر الإطعام. ومن أهله العلم من لا يرى أن يتجاوز في صيام الجزاء شهرين؛ قالوا: لأنها أعلى الكفارات. واختاره ابن العربي. وقاله أبو حنيفة رحمه الله: يصوم عن كل مدين يوما اعتبارا بفدية الأذى.

 

قوله تعالى: « ليذوق وبال أمره » الذوق هنا مستعار كقوله تعالى: « ذق إنك أنت العزيز الكريم » [ الدخان: 49 ] . وقال: « فأذاقها الله لباس الجوع والخوف » [ النحل: 112 ] . وحقيقة الذوق إنما هي في حاسة اللسان، وهي في هذا كله مستعارة ومنه الحديث ( ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا ) . الحديث والوبال سوء العاقبة. والمرعى الوبيل هو الذي يتأذى به بغد أكله. وطعام وبيله إذا كان ثقيلا؛ ومنه قوله:

عقيلة شيخ كالوبيل يلندد

وعبر بأمره عن جميع حاله.

 

قوله تعالى: « عفا الله عما سلف » بمعنى في جاهليتكم من قتلكم الصيد؛ قاله عطاء بن أبي رباح وجماعة معه. وقيل: قبل نزول الكفارة. « ومن عاد » يعني للمنهي « فينتقم الله منه » أي بالكفارة. وقيل: المعنى « فينتقم الله منه » يعني في الآخرة إن كان مستحلا؛ ويكفر في ظاهر الحكم. وقال شريح وسعيد بن جبير: يحكم عليه في أول مرة، فإذا عاد لم يحكم عليه، وقيله له: اذهب ينتقم الله منك، أي ذنبك أعظم من أن يكفر، كما أن اليمين الفاجرة لا كفارة لها عند أكثر أهله العلم لعظم إثمها. والمتورعون يتقون النقمة بالتكفير. وقد روي عن ابن عباس: يملأ ظهره سوطا حتى يموت وروي عن زيد بن أبي المعلى: أن رجلا أصاب صيدا وهو محرم فتجوز عنه، ثم عاد فأنزل الله عز وجل نارا من السماء فأحرقته؛ وهذه عبرة للأمة وكف للمعتدين عن المعصية.

 

قوله تعالى: « والله عزيز ذو انتقام » « عزيز » أي منيع في ملكه، ولا يمتنع عليه ما يريده. « ذو انتقام » ممن عصاه إن شاء.

 

الآية: 96 ( أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون )

 

قوله تعالى: « أحل لكم صيد البحر » هذا حكم بتحليل صيد البحر، وهو كل ما صيد من حيتانه والصيد هنا يراد به المصيد، وأضيف إلى البحر لما كان منه بسبب. وقد مضى القول في البحر في « البقرة » والحمد لله. و « متاعا » نصب على المصدر أي متعتم به متاعا.

 

قوله تعالى: « وطعامه » الطعام لفظ مشترك يطلق على كل ما يطعم، ويطلق على مطعوم خاص كالماء وحده، والبر وحده، والتمر وحده، واللبن وحده، وقد يطلق على النوم كما تقدم؛ وهو هنا عبارة عما قذف به البحر وطفا عليه؛ أسند الدارقطني عن ابن عباس في قول الله عز وجل: « أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة » الآية صيده ما صيد وطعامه ما لفظ البحر. وروي عن أبي هريرة مثله؛ وهو قوله جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين. وروي عن ابن عباس طعامه وهو في ذلك المعنى. وروي عنه أنه قال: طعامه ما ملح منه وبقي؛ وقاله معه جماعة. وقاله قوم: طعامه ملحه الذي ينعقد من مائه وسائر ما فيه من نبات وغيره.

 

قال أبو حنيفة: لا يؤكل السمك الطافي ويؤكل ما سواه من السمك، ولا يؤكل شيء من حيوان البحر إلا السمك وهو قول الثوري في رواية أبي إسحاق الفزاري عنه. وكره الحسن أكل الطافي من السمك. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كرهه، وروي عنه أيضا أنه كره أكل الجري وروي عنه أكل ذلك كله وهو أصح؛ ذكره عبدالرزاق عن الثوري عن جعفر بن محمد عن علي قال: الجراد والحيتان ذكي؛ فعلي مختلف عنه في أكل الطافي من السمك ولم يختلف عن جابر أنه كرهه، وهو قول طاوس ومحمد بن سيرين وجابر بن زيد، واحتجوا بعموم قوله تعالى: « حرمت عليكم الميتة » [ المائدة: 3 ] . وبما رواه أبو داود والدارقطني عن جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ كلوا ما حسر عنه البحر وما ألقاه وما وجدتموه ميتا أو طافيا فوق الماء فلا تأكلوه ] . قاله الدارقطني: تفرد به عبدالعزيز بن عبيدالله عن وهب بن كيسان عن جابر، وعبدالعزيز ضعيف لا يحتج به. وروى سفيان الثوري عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه؛ قاله الدارقطني: لم يسنده عن الثوري غير أبي أحمد الزبيري وخالفه وكيع والعدنيان وعبدالرزاق ومؤمل وأبو عاصم وغيرهم؛ رووه عن الثوري موقوفا وهو الصواب. وكذلك رواه أيوب السختياني، وعبيدالله بن عمر وابن جريح، وزهير وحماد بن سلمة وغيرهم عن أبي الزبير موقوفا قاله أبو داود: وقد أسند هذا الحديث من وجه ضعيف عن ابن أبي ذئب عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قاله الدارقطني: وروي عن إسماعيل بن أمية وابن أبي ذئب عن أبي الزبير مرفوعا، ولا يصح رفعه، رفعه يحيى بن سليم عن إسماعيل بن أمية ووقفه غيره. وقال مالك والشافعي وابن أبي ليلى والأوزاعي والثوري في رواية الأشجعي: يؤكل كل ما في البحر من السمك والدواب، وسائر ما في البحر من الحيوان، وسواء اصطيد أو وجد ميتا، واحتج مالك ومن تابعه بقوله عليه الصلاة والسلام في البحر: [ هو الطهور ماؤه الحل ميتته ] وأصح ما في هذا الباب من جهة الإسناد حديث جابر في الحوت الذي يقال له: [ العنبر ] وهو من أثبت الأحاديث خرجه الصحيحان. وفيه: فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له فقال: [ هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا ] فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله؛ لفظ مسلم وأسند الدارقطني عن ابن عباس أنه قال أشهد على أبي بكر أنه قال: السمكة الطافية حلال لمن أراد أكلها. وأسند عنه أيضا أنه قال: أشهد على أبي بكر أنه أكل السمك الطافي على الماء. وأسند عن أبي أيوب أنه ركب البحر في رهط من أصحابه، فوجدوا سمكة طافية على الماء فسألوه عنها فقال: أطيبة هي لم تتغير؟ قالوا: نعم قال: فكلوها وارفعوا نصيبي منها؛ وكان صائما. وأسند عن جبلة بن عطية أن أصحاب أبي طلحة أصابوا سمكة طافية فسألوا عنها أبا طلحة فقال: اهدوها إلي. وقال عمر بن الخطاب: الحوت ذكي والجراد ذكي كله؛ رواه عنه الدارقطني فهذه الآثار ترد قول من كره ذلك وتخصص عموم الآية، وهو حجة للجمهور؛ إلا أن مالكا كان يكره خنزير الماء من جهة اسمه ولم يحرمه وقال: أنتم تقولون خنزيرا! وقاله الشافعي: لا بأس بخنزير الماء وقال الليث: ليس بميتة البحر بأس. قال: وكذلك كلب الماء وفرس الماء. قال: ولا يؤكل إنسان الماء ولا خنزير الماء.

 

اختلف العلماء في الحيوان الذي يكون في البر والبحر هل يحل صيده للمحرم أم لا؟ فقال مالك وأبو مجلز وعطاء وسعيد بن جبير وغيرهم: كل ما يعيش في البر وله فيه حياة فهو صيد البر، إن قتله المحرم وداه، وزاد أبو مجلز في ذلك الضفادع والسلاحف والسرطان. الضفادع وأجناسها حرام عند أبي حنيفة ولا خلاف عن الشافعي في أنه لا يجوز أكل الضفدع، واختلف قوله فيما له شبه في البر مما لا يؤكل كالخنزير والكلب وغير ذلك. والصحيح أكل ذلك كله؛ لأنه نص على الخنزير في جواز أكله، وهو له شبه في البر مما لا يؤكل. ولا يؤكل عنده التمساح ولا القرش والدلفين، وكل ما له ناب لنهيه عليه السلام عن أكل كل ذي ناب. قال ابن عطية: ومن هذه أنواع لا زوال لها من الماء فهي لا محالة من صيد البحر، وعلى هذا خرج جواب مالك في الضفادع في « المدونة » فإنه قال: الضفادع من صيد البحر. وروي عن عطاء بن أبي رباح خلاف ما ذكرناه، وهو أنه يراعي أكثر عيش الحيوان؛ سئل عن ابن الماء أصيد بر هو أم صيد بحر؟ فقال: حيث يكون اكثر فهو منه، وحيث يفرخ فهو منه؛ وهو قول أبي حنيفة. والصواب في ابن الماء أنه صيد بر يرعى ويأكل الحب. قال ابن العربي: الصحيح في الحيوان الذي يكون في البر والبحر منعه؛ لأنه تعارض فيه دليلان، دليله تحليل ودليل تحريم، فيغلب دليله التحريم احتياطا. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « وللسيارة » فيه قولان: أحدهما للمقيم والمسافر كما جاء في حديث أبي عبيدة أنهم أكلوه وهم مسافرون وأكل النبي صلى الله عليه وسلم وهو مقيم، فبين الله تعالى أنه حلال لمن أقام، كما أحله لمن سافر. الثاني: أن السيارة هم الذين يركبونه، كما جاء في حديث مالك والنسائي: أن رجلا سأله النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر؟ فقاله النبي صلى الله عليه وسلم: [ هو الطهور ماؤه الحل ميتته ] قال ابن العربي قاله علماؤنا: فلو قال له النبي صلى الله عليه وسلم [ نعم ] لما جاز الوضوء به إلا عند خوف العطش؛ لأن الجواب مرتبط بالسؤال، فكان يكون محالا عليه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ابتدأ تأسيس القاعدة، وبيان الشرع فقاله: ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته ) .

قلت: وكان يكون الجواب مقصورا عليهم لا يتعدى لغيرهم، لولا ما تقرر من حكم الشريعة أن حكمه على الواحد حكمه على الجميع، إلا ما نص بالتخصيص عليه، كقوله لأبي بردة في العناق: [ ضح بها ولن تجزئ عن أحد غيرك ] .

 

قوله تعالى: « وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما » التحريم ليس صفة للأعيان، إنما يتعلق بالأفعال فمعنى قوله: « وحرم عليكم صيد البر » أي فعله الصيد، وهو المنع من الاصطياد، أو يكون الصيد بمعنى المصيد، على معنى تسمية المفعول بالفعل كما تقدم، وهو الأظهر لإجماع العلماء على أنه لا يجوز للمحرم قبول صيد وهب له، ولا يجوز له شراؤه ولا اصطياده ولا استحداث ملكه بوجه من الوجوه، ولا خلاف بين علماء المسلمين في ذلك؛ لعموم قوله تعالى: « وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما » ولحديث الصعب بن جثامة على ما يأتي.

 

اختلف العلماء فيما يأكله المحرم من الصيد فقاله مالك والشافعي وأصحابهما وأحمد وروي عن إسحاق، وهو الصحيح عن عثمان بن عفان: إنه لا بأس بأكل المحرم الصيد إذا لم يصد له، ولا من أجله، لما رواه الترمذي والنسائي والدارقطني عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يُصد لكم ] قال أبو عيسى: هذا أحسن حديث في الباب؛ وقال النسائي: عمرو بن أبي عمرو ليس بالقوي في الحديث، وإن كان قد روى عنه مالك. فإن أكل من صيد صيد من أجله فداه. وبه قاله الحسن بن صالح والأوزاعي، واختلف قول مالك فيما صيد لمحرم بعينه. والمشهور من مذهبه عند أصحابه أن المحرم لا يأكل مما صيد لمحرم معين أو غير معين ولم يأخذ بقوله عثمان لأصحابه حين أتي بلحم صيد وهو محرم: كلوا فلستم مثلي لأنه صيد من أجلي وبه قالت طائفة من أهله المدينة، وروي عن مالك. وقاله أبو حنيفة وأصحابه: أكل الصيد للمحرم جائز على كل حال إذا اصطاده الحلال، سواء صيد من أجله أو لم يصد لظاهر قوله تعالى: « لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم » فحرم صيده وقتله على المحرمين، دون ما صاده غيرهم. واحتجوا بحديث البهزي واسمه زيد بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم في حمار الوحش العقير أنه أمر أبا بكر فقسمه في الرفاق، من حديث مالك وغيره. وبحديث أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه [ إنما هي طعمة أطعمكموها الله ] . وهو قول عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان في رواية عنه، وأبي هريرة والزبير بن العوام ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير. وروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر أنه لا يجوز للمحرم أكل صيد على حال من الأحوال، سواء صيد من أجله أو لم يصد؛ لعموم قوله تعالى: « وحرم عليكم صيد البر مادمتم حرما » . قال ابن عباس: هي مبهمة وبه قال طاوس وجابر بن زيد أبو الشعثاء وروي ذلك عن الثوري وبه قال إسحاق. واحتجوا بحديث الصعب بن جثامة الليثي، أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا، وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: فلما أن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهي قال: [ إنا لم نرده عليك إلا إنا حُرُم ] خرجه الأئمة واللفظ لمالك. قاله أبو عمر: وروى ابن عباس من حديث سعيد بن جبير ومقسم وعطاء وطاوس عنه، أن الصعب بن جثامة أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم لحم حمار وحش؛ وقال سعيد بن جبير في حديثه: عجز حمار وحش فرده يقطر دما كأنه صيد في ذلك الوقت؛ وقال مقسم في حديثه رجل حمار وحش. وقاله عطاء في حديثه: أهدى له عضد صيد فلم يقبله وقال: [ إنا حرم ] وقال طاوس في حديثه: عضدا من لحم صيد؛ حدث به إسماعيل عن علي بن المديني، عن يحيى بن سعيد عن ابن جريج، عن الحسن بن مسلم، عن طاوس، عن ابن عباس، إلا أن منهم من يجعله عن ابن عباس عن زيد بن أرقم. قال إسماعيل: سمعت سليمان بن حرب يتأول هذا الحديث على أنه صيد من أجله النبي صلى الله عليه وسلم، ولولا ذلك لكان أكله جائزا؛ قال سليمان: ومما يدل على أنه صيد من أجله النبي صلى الله عليه وسلم قولهم في الحديث: فرده يقطر دما كأنه في ذلك الوقت. قال إسماعيل: إنما تأول سليمان هذا الحديث لأنه يحتاج إلى تأويل؛ فأما رواية مالك فلا تحتاج إلى التأويل؛ لأن المحرم لا يجوز له أن يمسك صيدا حيا ولا يذكيه؛ قال إسماعيل: وعلى تأويل سليمان بن حرب تكون الأحاديث المرفوعة كلها غير مختلفة فيها إن شاء الله تعالى.

 

إذا أحرم وبيده صيد أو في بيته عند أهله فقال مالك: إن كان في يده فعليه إرساله، وإن كان في أهله فليس عليه إرساله. وهو قول أبي حنيفة وأحمد بن حنبل. وقال الشافعي في أحد قوليه: سواء كان في يده أو في بيته ليس عليه أن يرسله. وبه قال أبو ثور، وروي عن مجاهد وعبدالله بن الحارث مثله وروي عن مالك. وقال ابن أبي ليلى والثوري والشافعي في القول الآخر: عليه أن يرسله، سواء كان في بيته أو في يده فإن لم يرسله ضمن. وجه القول بإرساله قوله تعالى: « وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما » وهذا عام في الملك والتصرف كله. ووجه القول بإمساكه: أنه معنى لا يمنع من ابتداء الإحرام فلا يمنع من استدامة ملكه، أصله النكاح.

 

فإن صاده الحلال في الحل فأدخله الحرم جاز له التصرف فيه بكل نوع من ذبحه، وأكل لحمه. وقال أبو حنيفة: لا يجوز. ودليلنا أنه معنى يفعل في الصيد فجاز في الحرم للحلال، كالإمساك والشراء ولا خلاف فيها.

 

إذا دل المحرم حِلاً على صيد فقتله الحلال اختلف فيه، فقال مالك والشافعي وأبو ثور: لا شيء عليه، وهو قول ابن الماجشون. وقال الكوفيون وأحمد وإسحاق وجماعة من الصحابة والتابعين: عليه الجزاء؛ لأن المحرم التزم بإحرامه ترك التعرض؛ فيضمن بالدلالة كالمودع إذا دل سارقا على سرقة.

 

واختلفوا في المحرم إذا دل محرما آخر؛ فذهب الكوفيون وأشهب من أصحابنا إلى أن على كله واحد منهما جزاء. وقال مالك والشافعي وأبو ثور: الجزاء على المحرم القاتل؛ لقوله تعالى: « ومن قتله منكم متعمدا » فعلق وجوب الجزاء بالقتل، فدل على انتفائه بغيره؛ ولأنه دال فلم يلزمه بدلالته غرم كما لو دل الحلال في الحرم على صيد في الحرم. وتعلق الكوفيون وأشهب بقوله عليه السلام في حديث أبي قتادة: [ هل أشرتم أو أعنتم ] ؟ وهذا يدل على وجوب الجزاء. والأول أصح. والله أعلم.

 

إذا كانت شجرة نابتة في الحل وفرعها في الحرم فأصيب ما عليه من الصيد ففيه الجزاء؛ لأنه أخذ في الحرم وإن كان أصلها في الحرم وفرعها في الحل فاختلف علماؤنا فيما أخذ عليه على قولين: الجزاء نظرا إلى الأصل، ونفيه نظرا إلى الفرع.

 

قوله تعالى: « واتقوا الله الذي إليه تحشرون » تشديد وتنبيه عقب هذا التحليل والتحريم، ثم ذكر بأمر الحشر والقيامة مبالغة في التحذير. والله أعلم.

 

الآية: 97 ( جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم )

 

قوله تعالى: « جعل الله الكعبة » جعل هنا بمعنى خلق وقد تقدم. وقد سميت الكعبة كعبة لأنها مربعة وأكثر بيوت العرب مدورة وقيل: إنما سميت كعبة لنتوئها وبروزها، فكل ناتئ بارز كعب، مستديرا كان أو غير مستدير. ومنه كعب القدم وكعوب القناة. وكعب ثدي المرأة إذا ظهر في صدرها. والبيت سمي بذلك لأنها ذات سقف وجدار، وهي حقيقة البيتية وإن لم يكن بها ساكن. وسماه سبحانه حراما بتحريمه إياه؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ إن مكة حرمها الله ولم بحرمها الناس ] وقد تقدم أكثر هذا مستوفى والحمد لله.

 

قوله تعالى: « قياما للناس » أي صلاحا ومعاشا، لأمن الناس بها؛ وعلى هذا يكون « قياما » بمعنى يقومون بها. وقيل: « قياما » أي يقومون بشرائعها. وقرأ ابن عامر وعاصم « قيما » وهما من ذوات الواو فقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها. وقد قيل: « قوام » . قال العلماء: والحكمة في جعل الله تعالى هذه الأشياء قياما للناس، أن الله سبحانه خلق الخلق على سليقة الآدمية من التحاسد والتنافس والتقاطع والتدابر، والسلب والغارة والقتل والثأر، فلم يكن بد في الحكمة الإلهية، والمشيئة الأولية من كاف يدوم معه الحال ووازع يحمد معه المآل. قال الله تعالى: « إني جاعل في الأرض خليفة » [ البقرة: 30 ] فأمرهم الله سبحانه بالخلافة، وجعله أمورهم إلى واحد يزعهم عن التنازع، ويحملهم على التآلف من التقاطع، ويرد الظالم عن المظلوم، ويقرر كل يد على ما تستولي عليه. روى ابن القاسم قال حدثنا مالك أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يقول: ما يزع الإمام أكثر مما يزع القرآن؛ ذكره أبو عمر رحمه الله. وجور السلطان عاما واحدا أقل إذاية من كون الناس فوضى لحظة واحدة؛ فأنشأ الله سبحانه الخليفة لهذه الفائدة، لتجري على رأيه الأمور، ويكف الله به عادية الجمهور؛ فعظم الله سبحانه في قلوبهم البيت الحرام، وأوقع في نفوسهم هيبته، وعظم بينهم حرمته، فكان من لجأ إليه معصوما به، وكان من اضطهد محميا بالكون فيه. قال الله تعالى: « أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم » [ العنكبوت:67 ] . قال العلماء: فلما كان موضعا مخصوصا لا يدركه كل مظلوم، ولا يناله كل خائف جعله الله الشهر الحرام ملجأ آخر

 

الشهر الحرام هو اسم جنس، والمراد الأشهر الثلاثة بإجماع من العرب، فقرر الله في قلوبهم حرمتها، فكانوا لا يروعون فيها سربا أي نفسا ولا يطلبون فيها دما ولا يتوقعون فيها ثأرا، حتى كان الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه وأخيه فلا يؤذيه. واقتطعوا فيها ثلث الزمان. ووصلوا منها ثلاثة متوالية، فسحة وراحة ومجالا للسياحة في الأمن والاستراحة، وجعلوا منها واحدا منفردا في نصف العام دركا للاحترام، وهو شهر رجب الأصم ويسمى مضر، وإنما قيل له: رجب الأصم؛ لأنه كان لا يسمع فيه صوت الحديد، ويسمى منصل الأسنة؛ لأنهم كانوا ينزعون فيه الأسنة من الرماح، وهو شهر قريش، وله يقول عوف بن الأحوص:

وشهر بني أمية والهدايا إذا سيقت مضرجها الدماء

وسماه النبي صلى الله عليه وسلم شهر الله؛ أي شهر آل الله، وكان يقال لأهله الحرم: آل الله. ويحتمل أن يريد شهر الله؛ لأن الله متنه وشدده إذ كان كثير من العرب لا يراه. وسيأتي في « براءة » أسماء الشهور إن شاء الله. ثم يسر لهم الإلهام، وشرع على ألسنة الرسل الكرام الهدي والقلائد، فكانوا إذا أخذوا بعيرا أشعروه دما، أو علقوا عليه نعلا، أو فعله ذلك الرجل بنفسه من التقليد على ما تقدم بيانه أول السورة لم يروعه أحد حيث لقيه، وكان الفيصل بينه وبين من طلبه أو ظلمه حتى جاء الله بالإسلام وبين الحق بمحمد عليه السلام، فانتظم الدين في سلكه، وعاد الحق إلى نصابه، فأسندت الإمامة إليه، وانبنى وجوبها على الخلق عليه وهو قوله سبحانه: « وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض » [ النور: 55 ] الآية. وقد مضى في « البقرة » أحكام الإمامة فلا معنى لإعادتها.

 

قوله تعالى: « ذلك لتعلموا » « ذلك » إشارة إلى جعل الله هذه الأمور قياما؛ والمعنى فعل الله ذلك لتعلموا أن الله يعلم تفاصيل أمور السماوات والأرض، ويعلم مصالحكم أيها الناس قبل وبعد، فانظروا لطفه بالعباد على حال كفرهم.

 

الآية: 98 ( اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم )

 

قوله تعالى: « اعلموا أن الله شديد العقاب » تخويف « وأن الله غفور رحيم » ترجية، وقد تقدم هذا المعنى.

 

الآية: 99 ( ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون )

 

قوله تعالى: « ما على الرسول إلا البلاغ » أي ليس له الهداية والتوفيق ولا الثواب، وإنما عليه البلاغ وفي هذا رد على القدرية كما تقدم. وأصله البلاغ البلوغ، وهو الوصول. بلغ يبلغ بلوغا، وأبلغه إبلاغا، وتبلغ تبلغا، وبالغه مبالغة، وبلغه تبليغا، ومنه البلاغة، لأنها إيصال المعنى إلى النفس في حسن صورة من اللفظ وتبالغ الرجل إذا تعاطى البلاغة وليس ببليغ، وفي هذا بلاغ أي كفاية؛ لأنه يبلغ مقدار الحاجة. « والله يعلم ما تبدون » أي تظهرونه، يقال: بدا السر وأبداه صاحبه يبديه. « وما تكتمون » أي ما تسرونه وتخفونه في قلوبكم من الكفر والنفاق.

 

الآية: 100 ( قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون )

 

قال الحسن: « الخبيث والطيب » الحلال والحرام. وقال السدي: المؤمن والكافر. وقيل: المطيع والعاصي. وقيل: الرديء والجيد؛ وهذا على ضرب المثال. والصحيح أن اللفظ عام في جميع الأمور، يتصور في المكاسب والأعمال، والناس، والمعارف من العلوم وغيرها؛ فالخبيث من هذا كله لا يفلح ولا ينجب، ولا تحسن له عاقبة وإن كثر، والطيب وإن قل نافع جميله العاقبة. قال الله تعالى: « والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا » [ الأعراف: 58 ] . ونظير هذه الآية قوله تعالى: « أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار » [ ص: 28 ] وقوله « أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات » [ الجاثية: 21 ] ؛ فالخبيث لا يساوي الطيب مقدارا ولا إنفاقا، ولا مكانا ولا ذهابا، فالطيب يأخذ جهة اليمين، والخبيث يأخذ جهة الشمال، والطيب في الجنة، والخبيث في النار وهذا بين. وحقيقة الاستواء الاستمرار في جهة واحدة، ومثله الاستقامة وضدها الاعوجاج.

 

قال بعض علمائنا: إن البيع الفاسد يفسخ ولا يمضى بحوالة سوق، ولا بتغير بدن، فيستوي في إمضائه مع البيع الصحيح، بل يفسخ أبدا، ويرد الثمن على المبتاع إن كان قبضه، وإن تلف في يده ضمنه؛ لأنه لم يقبضه على الأمانة، وإنما قبضه بشبهة عقد. وقيل: لا يفسخ نظرا إلى أن البيع إذا فسخ ورد بعد الفوت يكون فيه ضرر وغبن على البائع، فتكون السلعة تساوي مائة وترد عليه وهي تساوي عشرين، ولا عقوبة في الأموال. والأول أصح لعموم الآية، ولقوله عليه السلام: [ من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ] .

قلت: وإذا تتبع هذا المعنى في عدم الاستواء في مسائل الفقه تعددت وكثرت.

فمن ذلك الغاصب إذا بنى في البقعة المغصوبة أو غرس إنه يلزمه قلع ذلك البناء والغرس؛ لأنه خبيث، وردها؛ خلافا لأبي حنيفة في قوله: لا يقلع ويأخذ صاحبها القيمة. وهذا يرده قوله عليه السلام: [ ليس لعرق ظالم حق ] . قال هشام: العرق الظالم أن يغرس الرجل في أرض غيره ليستحقها بذلك. قال مالك: العرق الظالم كل ما أخذ واحتفر وغرس في غير حق. قال مالك: من غصب أرضا فزرعها، أو أكراها، أو دارا فسكنها أو أكراها، ثم استحقها ربها أن على الغاصب كراء ما سكن ورد ما أخذ في الكراء واختلف قوله إذا لم يسكنها أو لم يزرع الأرض وعطلها؛ فالمشهور من مذهبه أنه ليس عليه فيه شيء؛ وقد روي عنه أنه عليه كراء ذلك كله. واختاره الوقار، وهو مذهب الشافعي؛ لقوله عليه السلام: [ ليس لعرق ظالم حق ] وروى أبو داود عن أبي الزبير أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: غرس أحدهما نخلا في أرض الآخر، فقضى لصاحب الأرض بأرضه، وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها، قال: فلقد رأيتها، وأنها لتضرب أصولها بالفؤوس حتى أخرجت منها وإنها لنخل عم. وهذا نص. قال ابن حبيب: والحكم فيه أن يكون صاحب الأرض مخيرا على الظالم، إن شاء حبس ذلك في أرضه بقيمته مقلوعا، وإن شاء نزعه من أرضه؛ وأجر النزع على الغاصب. وروى الدارقطني عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ من بنى في رباع قوم بإذنهم فله القيمة ومن بنى بغير إذنهم فله النقض ] قال علماؤنا: إنما تكون له القيمة؛ لأنه بنى في موضع يملك منفعته. وذلك كمن بنى أو غرس بشبهة فله حق؛ إن شاء رب المال أن يدفع إليه قيمته قائما، وإن أبى قيل للذي بنى أو غرس: ادفع إليه قيمة أرضه براحا؛ فإن أبى كانا شريكين. قال ابن الماجشون: وتفسير اشتراكهما أن تقوم الأرض براحا، ثم تقوم بعمارتها فما زادت قيمتها بالعمارة على قيمتها براحا كان العامل شريكا لرب الأرض فيها، إن أحبا قسما أو حبسا. قال ابن الجهم: فإذا دفع رب الأرض قيمة العمارة وأخذ أرضه كان له كراؤها فيما مضى من السنين. وقد روي عن ابن القاسم وغيره أنه إذا بنى رجل في أرض رجل بإذنه ثم وجب له إخراجه، فإنه يعطيه قيمة بنائه مقلوعا والأول أصح لقوله عليه السلام: ( فله القيمة ) وعليه أكثر الفقهاء.

 

قوله تعالى: « ولو أعجبك كثرة الخبيث » قيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعجبه الخبيث. وقيل: المراد به النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، وإعجابه له أنه صار عنده عجبا مما يشاهده من كثرة الكفار والمال الحرام، وقلة المؤمنين والمال الحلال. « فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون » تقدم معناه.

 

الآيتان: 101 - 102 ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم، قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين )

 

روى البخاري ومسلم وغيرهما واللفظ للبخاري عن أنس قال، قال رجل: يا نبي الله، من أبي ؟ قال: [ أبوك فلان ] قال فنزلت « يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم » الآية. وخرج أيضا عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: [ فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا ] فقام إليه رجل فقال: أين مدخلي يا رسول الله؟ قال: [ النار ] . فقام عبدالله بن حذافة فقال: من أبي يا رسول الله فقال: [ أبوك حذافة ] وذكر الحديث قال ابن عبدالبر: عبدالله بن حذافة أسلم قديما، وهاجر إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، وشهد بدرا وكانت فيه دعابة، وكان رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أرسله إلى كسرى بكتاب رسول الله صلى الله عليه سلم؛ ولما قال من أبي يا رسول الله؛ قال: [ أبوك حذافة ] قالت له أمه: ما سمعت بابن أعق منك آمنت أن تكون أمك قارفت ما يقارف نساء الجاهلية فتفضحها على أعين الناس ! فقال: والله لو ألحقني بعبد أسود للحقت به. وروى الترمذي والدارقطني عن علي رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية « ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا » [ آل عمران: 97 ] . قالوا: يا رسول الله أفي كل عام؟ فسكت، فقالوا: أفي كل عام ؟ قال: [ لا ولو قلت نعم لو جبت ] ، فأنزل الله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم » إلى آخر الآية. واللفظ للدارقطني سئل البخاري عن هذا الحديث فقال: هو حديث حسن إلا أنه مرسل؛ أبو البختري لم يدرك عليا، واسمه سعيد. وأخرجه الدارقطني أيضا عن أبي عياض عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ يا أيها الناس كتب عليكم الحج ] فقام رجل فقال: في كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه، ثم عاد فقال: في كل عام يا رسول الله؟ فقال: ( ومن القائل ) ؟ قالوا: فلان؛ قال: [ والذي نفسي بيده لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما أطقتموها ولو لم تطيقوها لكفرتم ] فأنزل الله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم » الآية. وقال الحسن البصري في هذه الآية: سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور الجاهلية التي عفا الله عنها ولا وجه للسؤال عما عفا الله عنه. وروى مجاهد عن ابن عباس أنها نزلت في قوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام؛ وهو قول سعيد بن جبير؛ وقال: ألا ترى أن بعده: « ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام » [ المائدة: 103 ] .

قلت: وفي الصحيح والمسند كفاية. ويحتمل أن تكون الآية نزلت جوابا للجميع، فيكون السؤال قريبا بعضه من بعض. والله أعلم. و « أشياء » وزنه أفعال؛ ولم يصرف لأنه مشبه بحمراء؛ قاله الكسائي وقيل: وزنه أفعلاء؛ كقولك: هين وأهوناء؛ عن الفراء والأخفش ويصغر فيقال: أشياء؛ قال المازني: يجب أن يصغر شييات كما يصغر أصدقاء؛ في المؤنث صديقات وفي المذكر صديقون.

 

قال ابن عون: سألت نافعا عن قوله تعالى « لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم » فقال: لم تزل المسائل منذ قط تكره. روى مسلم عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات وواد البنات ومنعا وهات وكره لكم ثلاثا، قيل، وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال ] قال كثير من العلماء: المراد بقوله [ وكثرة السؤال ] التكثير من السؤال في المسائل الفقهية تنطعا، وتكلفا فيما لم ينزل، والأغلوطات وتشقيق المولدات، وقد كان السلف يكرهون ذلك ويرونه من التكليف، ويقولون: إذا نزلت النازلة وفق المسؤول لها. قال مالك: أدركت أهله هذا البلد وما عندهم علم غير الكتاب والسنة، فإذا نزلت نازلة جمع الأمير لها من حضر من العلماء فما اتفقوا عليه أنفذه، وأنتم تكثرون المسائل وقد كرهها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: المراد بكثرة المسائل كثرة سؤال الناس الأموال والحوائج إلحاحا واستكثارا؛ وقاله أيضا مالك وقيله: المراد بكثرة المسائل السؤال عما لا يعني من أحوال الناس بحيث يؤدي ذلك إلى كشف عوراتهم والاطلاع على مساوئهم. وهذا مثل قوله تعالى: « ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا » [ الحجرات: 12 ] قال ابن خويز منداد: ولذلك قال بعض أصحابنا متى قدم إليه طعام لم يسأل عنه من أين هذا أو عرض عليه شيء يشتريه لم يسأل من أين هو وحمل أمور المسلمين على السلامة والصحة.

قلت: والوجه حمل الحديث على عمومه فيتناول جميع تلك الوجوه كلها. والله أعلم.

 

قال ابن العربي: اعتقد قوم من الغافلين تحريم أسئلة النوازل حتى تقع تعلقا بهذه الآية وليس كذلك لأن هذه الآية مصرحة بأن السؤال المنهي عنه إنما كان فيما تقع المساءة في جوابه ولا مساءة في جواب نوازل الوقت فافترقا.

قلت قوله: اعتقد قوم من الغافلين فيه قبح، وإنما كان الأولى به أن يقول: ذهب قوم إلى تحريم أسئلة النوازل، لكنه جرى على عادته، وإنما قلنا كان أولى به؛ لأنه قد كان قوم من السلف يكرهها. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يلعن من سأل عما لم يكن؛ ذكره الدارمي في مسنده؛ وذكر عن الزهري قال: بلغنا أن زيد بن ثابت الأنصاري كان يقول إذا سئل عن الأمر: أكان هذا؟ فإن قالوا: نعم قد كان حدث فيه بالذي يعلم، وإن قالوا: لم يكن قال فذروه حتى يكون. وأسند عن عمار بن ياسر وقد سئل عن مسألة فقال: هل كان هذا بعد؟ قالوا: لا؛ قال: دعونا حتى يكون، فإذا كان تجشمناها لكم. قال الدارمي: حدثنا عبدالله بن محمد بن أبي شيبة، قال حدثنا ابن فضيل عن عطاء عن ابن عباس قال: ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن؛ منهن « يسألونك عن الشهر الحرام » [ البقرة: 217 ] ، « ويسألونك عن المحيض » [ البقرة: 222 ] وشبهه ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم.

 

قال ابن عبدالبر: السؤال اليوم لا يخاف منه أن ينزل تحريم ولا تحليل من أجله، فمن سأل مستفهما راغبا في العلم ونفي الجهل عن نفسه، باحثا عن معنى يجب الوقوف في الديانة عليه، فلا بأس به فشفاء العي السؤال؛ ومن سأل متعنتا غير متفقه ولا متعلم فهو الذي لا يحل قليل سؤاله ولا كثيره؛ قال ابن العربي: الذي ينبغي للعالم أن يشتغل به هو بسط الأدلة، وإيضاح سبل النظر، وتحصيل مقدمات الاجتهاد، وإعداد الآلة المعينة على الاستمداد؛ فإذا عرضت نازلة أتيت من بابها، ونشدت في مظانها، والله يفتح في صوابها.

 

قوله تعالى: « وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم » فيه غموض، وذلك أن في أول الآية النهي عن السؤال ثم قال: « وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم » فأباحه لهم؛ فقيل: المعنى وإن تسألوا عن غيرها فيما مست الحاجة إليه، فحذف المضاف، ولا يصح حمله على غير الحذف. قال الجرجاني: الكناية في « عنها » ترجع إلى أشياء أخر؛ كقوله تعالى: « ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين » [ المؤمنون: 12 ] يعني آدم، ثم قال: « ثم جعلناه نطفة » [ المؤمنون: 13 ] أي ابن آدم؛ لأن آدم لم يجعل نطفة في قرار مكين، لكن لما ذكر الإنسان وهو آدم دل على إنسان مثله، وعرف ذلك بقرينة الحال؛ فالمعنى وإن تسألوا عن أشياء حين ينزل القرآن من تحليل أو تحريم أو حكم، أو مست حاجتكم إلى التفسير، فإذا سألتم فحينئذ تبد لكم؛ فقد أباح هذا النوع من السؤال: ومثاله أنه بين عدة المطلقة والمتوفى عنها زوجها والحامل، ولم يجز ذكر عدة التي ليست بذات قرء ولا حامل، فسألوا عنها فنزل « واللائى يئسن من المحيض » [ الطلاق: 4 ] . فالنهي إذا في شيء لم يكن بهم حاجة إلى السؤال فيه؛ فأما ما مست الحاجة إليه فلا.

 

قوله تعالى: « عفا الله عنها والله غفور حليم » أي عن المسألة التي سلفت منهم. وقيل: عن الأشياء التي سألوا عنها من أمور الجاهلية وما جرى مجراها. وقيل: العفو بمعنى الترك؛ أي تركها ولم يعرف بها في حلال ولا حرام فهو معفو عنها فلا تبحثوا عنه فلعله إن ظهر لكم حكمه من ساءكم. وكان عبيد بن عمير يقول: إن الله أحل وحرم، فما أحل فاستحلوه، وما حرم فاجتنبوه، وترك بين ذلك أشياء لم يحلها ولم يحرمها، فذلك عفو من الله، ثم يتلو هذه الآية. وخرج الدارقطني عن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها وحرم حرمات فلا تنتهكوها وحدد حدودا فلا تعتدوها وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها ] والكلام على هذا التقدير فيه تقديم وتأخير؛ أي لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها إن تبد لكم تسؤكم، أي أمسك عن ذكرها فلم يوجب فيها حكما. وقيل: ليس فيه تقديم ولا تأخير؛ بل المعنى قد عفا الله عن مسألتكم التي سلفت وإن كرهها النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تعودوا لأمثالها. فقوله: « عنها » أي عن المسألة، أو عن السؤالات كما ذكرناه.

 

قوله تعالى: « قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين » أخبر تعالى أن قوما من قبلنا قد سألوا آيات مثلها، فلما أعطوها وفرضت عليهم كفروا بها، وقالوا: ليست من عند الله؛ وذلك كسؤاله قوم صالح الناقة، وأصحاب عيسى المائدة؛ وهذا تحذير مما وقع فيه من سبق من الأمم. والله أعلم.

 

إن قال قائل: ما ذكرتم من كراهية السؤال والنهى عنه، يعارضه قوله تعالى: « فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون » [ النحل: 43 ] فالجواب؛ أن هذا الذي أمر الله به عباده هو ما تقرر وثبت وجوبه مما يجب عليهم العمل به، والذي جاء فيه النهي هو ما لم يتعبدالله عباده به؛ ولم يذكره في كتابه. والله أعلم.

 

روى مسلم عن عامر بن سعد عن أبيه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجله مسألته ] . قال القشيري أبو نصر: ولو لم يسأل العجلاني عن الزنى لما ثبت اللعان. قال أبو الفرج الجوزي: هذا محمول على من سأل عن الشيء عنتا وعبثا فعوقب بسوء قصده بتحريم ما سأل عنه؛ والتحريم يعم.

 

قال علماؤنا: لا تعلق للقدرية بهذا الحديث في أن الله تعالى يفعل شيئا من أجل شيء وبسببه، تعالى الله عن ذلك؛ فإن الله على كله شيء قدير، وهو بكل شيء عليم؛ بل السبب والداعي فعله من أفعاله، لكن سبق القضاء والقدر أن يحرم من الشيء المسؤول عنه إذا وقع السؤال فيه؛ لا أن السؤال موجب للتحريم، وعلة له، ومثله كثير « لا يسأل عما يفعل وهم يسألون » [ الأنبياء: 23 ] .

 

الآية: 103 ( ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون )

 

قوله تعالى: « ما جعل الله » جعل هنا بمعنى سمى، كما قال تعالى: « إنا جعلناه قرآنا عربيا » [ الزخرف:3 ] أي سميناه. والمعنى في هذه الآية ما سمى الله، ولا سن ذلك حكما، ولا تعبد به شرعا، بيد أنه قضى به علما، وأوجده بقدرته وإرادته خلقا؛ فإن الله خالق كل شيء من خير وشر، ونفع وضر، وطاعة ومعصية.

 

قوله تعالى: « من بحيرة ولا سائبة » « من » زائدة. والبحيرة فعيلة بمعنى مفعولة، وهي على وزن النطيحة والذبيحة. وفي الصحيح عن سعيد بن المسيب: البحيرة هي التي يمنع درها للطواغيت، فلا يحتلبها أحد من الناس. وأما السائبة فهي التي كانوا يسيبونها لآلهتهم. وقيل: البحيرة لغة هي الناقة المشقوقة الأذن؛ يقال بحرت أذن الناقة أي شققتها شقا واسعا، والناقة بحيرة ومبحورة، وكان البحر علامة التخلية. قال ابن سيده: يقال البحيرة هي التي خليت بلا راع، ويقال للناقة الغزيرة بحيرة. قال ابن إسحاق: البحيرة هي ابنة السائبة، والسائبة هي الناقة إذا تابعت بين عشر إناث ليس بينهن ذكر، لم يركب ظهرها ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف، فما نتجت بعد ذلك من أنثى شقت أذنها، وخلي سبيلها مع أمها فلم يركب ظهرها ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف كما فعل بأمها؛ فهي البحيرة ابنة السائبة. وقال الشافعي: إذا نتجت الناقة خمسة أبطن إناثا بحرت أذنها فحرمت؛ قال:

محرمة لا يطعم الناس لحمها ولا نحن في شيء كذاك البحائر

وقال ابن عزيز البحيرة الناقة إذا نتجت خمسة أبطن فإذا كان الخامس ذكرا نحروه فأكله الرجال والنساء، وإن كان الخامس أنثى بحروا أذنها أي شقوه وكانت حراما على النساء لحمها ولبنها وقاله عكرمة فإذا ماتت حلت للنساء. والسائبة البعير يسيب بنذر يكون على الرجل إن سلمه الله من مرض، أو بلغه منزله أن يفعل ذلك، فلا تجس عن رعي ولا ماء، ولا يركبها أحد؛ وقال به أبو عبيد؛ قال الشاعر:

وسائبة لله تنمي تشكرا إن الله عافى عامرا أو مجاشعا

وقد يسيبون غير الناقة، وكانوا إذا سيبوا العبد لم يكن عليه ولاء. وقيل: السائبة هي المخلاة لا قيد عليها، ولا راعي لها؛ فاعل بمعنى مفعول، نحو « عيشة راضية » أي مرضية. من سابت الحية وانسابت؛ قال الشاعر:

عقرتم ناقة كانت لربي وسائبة فقوموا للعقاب

وأما الوصيلة والحام؛ فقال ابن وهب، قال مالك: كان أهل الجاهلية يعتقون الإبل والغنم يسيبونها؛ فأما الحام فمن الإبل؛ كان الفحل إذا انقضى ضرابه جعلوا عليه من ريش الطواويس وسيبوه؛ وأما الوصيلة فمن الغنم إذا ولدت أنثى بعد أنثى سيبوها. وقال ابن عزيز: الوصيلة في الغنم؛ قال: كانوا إذا ولدت الشاة سبعة أبطن نظروا؛ فإن كان السابع ذكرا ذبح وأكل منه الرجال والنساء، وإن كان أنثى تركت في الغنم، وإن كان ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم تذبح لمكانها، وكان لحمها حراما على النساء، ولبن الأنثى حراما على النساء إلا أن يموت منهما شيء فيأكله الرجال والنساء. والحامي الفحل إذا ركب ولد ولده. قال:

حماها أبو قابوس في عز ملكه كما قد حمى أولاد أولاده الفحل

ويقال: إذا نتج من صلبه عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهر فلا يركب ولا يمنع من كلاء ولا ماء. وقال ابن إسحاق: الوصيلة الشاة إذا أتمت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن ليس بينهن ذكر، قالوا: وصلت فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور منهم دون الإناث، إلا أن يموت شيء منها فيشترك في أكله ذكورهم وإناثهم.

 

روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار وكان أول من سيب السوائب ] وفي رواية [ عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أخا بني كعب هؤلاء يجر قصبه في النار ] . وروى أبو هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون: [ رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندق يجر قصبه في النار فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا به منك ] فقال أكثم: أخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله؛ قال: [ لا إنك مؤمن وهو كافر إنه أول من غير دين إسماعيل وبحر البحيرة وسيب السائبة وحمى الحامي ] وفي رواية: [ رأيته رجلا قصيرا أشعر له وفرة يجر قصبه في النار ] . وفي رواية ابن القاسم وغيره عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ إنه يؤذي أهله النار بريحه ] . مرسل ذكره ابن العربي وقيل: إن أول من ابتدع ذلك جنادة بن عوف. والله أعلم. وفي الصحيح كفاية. وروى ابن إسحاق: أن سبب نصب الأوثان، وتغيير دين إبراهيم عليه السلام عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشام، فلما قدم مآب من أرض البلقاء، وبها يومئذ العماليق أولاد عمليق ويقال عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح، رآهم يعبدون الأصنام فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا: هذه أصنام نستمطر بها فنمطر، ونستنصر بها فننصر؛ فقال لهم: أفلا تعطوني منها صنما أسير به إلى أرض العرب فيعبدنه؟ فأعطوه صنما يقال له: ( هبل ) فقدم به مكة فنصبه، وأخذ الناس بعبادته وتعظيمه؛ فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم أنزل الله عليه « ما جعل الله بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام » . « ولكن الذين كفروا » يعني من قريش وخزاعة ومشركي العرب « يفترون على الله الكذب » بقولهم: إن الله أمر بتحريمها، ويزعمون أنهم يفعلون ذلك لرضا ربهم في طاعة الله، وطاعة الله إنما تعلم من قوله، ولم يكن عندهم من الله بذلك قول، فكان ذلك مما يفترونه على الله. وقالوا: « ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا » [ الأنعام: 139 ] يعني من الولد والألبان « ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة » [ الأنعام: 139 ] يعني إن وضعته ميتا اشترك فيه الرجال والنساء؛ فذلك قوله عز وجل: « فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم » [ الأنعام: 139 ] أي بكذبهم العذاب في الآخرة « إنه حكيم عليم » [ الأنعام: 139 ] أي بالتحريم والتحليل. وأنزل عليه: « قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون » [ يونس: 59 ] وأنزل عليه: « ثمانية أزواج » [ الأنعام:143 ] وأنزله عليه: « وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه » [ الأنعام: 138 ] .

تعلق أبو حنيفة رضي الله عنه في منعه الأحباس ورده الأوقاف؛ بأن الله تعالى عاب على العرب ما كانت تفعله من تسييب البهائم وحمايتها وحبس أنفاسها عنها، وقاس على البحيرة والسائبة والفرق بيّنٌ. ولو عمد رجل إلى ضيعة له فقال: هذه تكون حبسا، لا يجتنى ثمرها، ولا تزرع أرضها، ولا ينتفع منها بنفع، لجاز أن يشبه هذا بالبحيرة والسائبة. وقد قال علقمة لمن سأله عن هذه الأشياء: ما تريد إلى شيء كان من عمل أهله الجاهلية وقد ذهب. وقال نحوه ابن زيد. وجمهور العلماء على القول بجواز الأحباس والأوقاف ما عدا أبا حنيفة وأبا يوسف وزفر؛ وهو قول شريح أن أبا يوسف رجع عن قول أبى حنيفة في ذلك لما حدثه ابن علية عن ابن عون عن نافع عن ابن عمر أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يتصدق بسهمه بخيبر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ احبس الأصل وسبل الثمرة ] . وبه يحتج كل من أجاز الأحباس؛ وهو حديث صحيح قاله أبو عمر. وأيضا فإن المسألة إجماع من الصحابة وذلك أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا وعائشة وفاطمة وعمرو بن العاص وابن الزبير وجابرا كلهم وقفوا الأوقاف، وأوقافهم بمكة والمدينة معروفة مشهورة. وروي أن أبا يوسف قال لمالك بحضرة الرشيد: إن الحبس لا يجوز؛ فقال له مالك: هذه الأحباس أحباس رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر وفدك وأحباس أصحابه. وأما ما احتج به أبو حنيفة من الآية فلا حجة فيه؛ لأن الله سبحانه إنما عاب عليهم أن تصرفوا بعقولهم بغير شرع توجه إليهم، أو تكليف فرض عليهم في قطع طريق الانتفاع وإذهاب نعمة الله تعالى وإزالة المصلحة التي للعباد في تلك الإبل. وبهذا فارقت هذه الأمور الأحباس والأوقاف. ومما احتج به أبو حنيفة وزفر ما رواه عطاء عن ابن المسيب قال: سألت شريحا عن رجل جعل داره حبسا على الآخر من ولده فقال: لا حبس عن فرائض الله؛ قالوا: فهذا شريح قاضي عمر وعثمان وعلي الخلفاء الراشدين حكم بذلك. واحتج أيضا بما رواه ابن لهيعة عن أخيه عيسى، عن عكرمة عن ابن عباس، قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول بعدما أنزلت سورة « النساء » وأنزل الله فيها الفرائض: ينهى عن الحبس. قال الطبري: الصدقة التي يمضيها المتصدق في حياته على ما أذن الله به على لسان نبيه وعمل به الأئمة الراشدون رضي الله عنهم ليس من الحبس عن فرائض الله؛ ولا حجة في قول شريح ولا في قول أحد يخالف السنة، وعمل الصحابة الذين هم الحجة على جميع الخلق؛ وأما حديث ابن عباس فرواه ابن لهيعة، وهو رجل اختلط عقله في آخر عمره، وأخوه غير معروف فلا حجة فيه؛ قال ابن القصار.

فإن قيل: كيف يجوز أن تخرج الأرض بالوقف عن ملك أربابها لا إلى ملك مالك؟ قال الطحاوي يقال لهم: وما ينكر من هذا وقد اتفقت أنت وخصمك على الأرض يجعلها صاحبها مسجدا للمسلمين، ويخلي بينهم وبينها، وقد خرجت بذلك من ملك إلى غير مالك، ولكن إلى الله تعالى؛ وكذلك السقايات والجسور والقناطر، فما ألزمت مخالفك في حجتك عليه يلزمك في هذا كله. والله أعلم.

 

اختلف المجيزون للحبس فيما للمحبس من التصرف؛ فقال الشافعي: ويحرم على الموقف ملكه كما يحرم عليه ملك رقبة العبد، إلا أنه جائز له أن يتولى صدقته، وتكون بيده ليفرقها ويسلبها فيما أخرجها فيه؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يزل يلي صدقته فيما بلغنا حتى قبضه الله عز وجل قال: وكذلك علي وفاطمة رضي الله عنهما كانا يليان صدقاتهما؛ وبه قال أبو يوسف وقال مالك: من حبس أرضا أو نخلا أو دارا على المساكين وكانت بيده يقوم بها ويكريها ويقسمها في المساكين حتى مات والحبس في يديه، أنه ليس بحبس ما لم يجزه غيره وهو ميراث؛ والربع عنده والحوائط والأرض لا ينفذ حبسها، ولا يتم حوزها، حتى يتولاه غير من حبسه، بخلاف الخيل والسلاح، هذا محصل مذهبه عند جماعة أصحابه؛ وبه قال ابن أبي ليلى.

 

لا يجوز للواقف أن ينتفع بوقفه؛ لأنه أخرجه لله وقطعه عن ملكه، فانتفاعه بشيء منه رجوع في صدقته؛ وإنما يجوز له الانتفاع إن شرط ذلك في الوقف، أو أن يفتقر المحبس، أو ورثته فيجوز لهم الأكل منه. ذكر ابن حبيب عن مالك قال: من حبس أصلا تجري غلته على المساكين فإن ولده يعطون منه إذا افتقروا كانوا يوم حبس أغنياء أو فقراء غير أنهم لا يعطون جميع الغلة مخافة أن يندرس الحبس ولكن يبقى منه سهم للمساكين ليبقى عليه اسم الحبس؛ ويكتب على الولد كتاب أنهم إنما يعطون منه ما أعطوا على سبيل المسكنة، وليس على حق لهم دون المساكين.

 

عتق السائبة جائز؛ وهو أن يقول السيد لعبده أنت حر وينوي العتق، أو يقول: أعتقتك سائبة؛ فالمشهور من مذهب مالك عند جماعة أصحابه أن ولاءه لجماعة المسلمين، وعتقه نافذ؛ هكذا روى عنه ابن القاسم وابن عبدالحكم وأشهب وغيرهم، وبه قال ابن وهب؛ وروى ابن وهب عن مالك قال: لا يعتق أحد سائبة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وعن هبته؛ قال ابن عبدالبر: وهذا عند كله من ذهب مذهبه، إنما هو محمول على كراهة عتق السائبة لا غير؛ فإن وقع نفذ وكان الحكم فيه ما ذكرناه. وروى ابن وهب أيضا وابن القاسم عن مالك أنه قال: أنا أكره عتق السائبة وأنهى عنه؛ فإن وقع نفذ وكان ميراثا لجماعة المسلمين، وعقله عليهم. وقال أصبغ: لا بأس بعتق السائبة ابتداء؛ ذهب إلى المشهور من مذهب مالك؛ وله احتج إسماعيل القاضي ابن إسحاق وإياه تقلد. ومن حجته في ذلك أن عتق السائبة مستفيض بالمدينة لا ينكره عالم، وأن عبدالله بن عمر وغيره من السلف أعتقوا سائبة. وروي ابن شهاب وربيعة وأبي الزناد وهو قول عمر بن عبدالعزيز وأبي العالية وعطاء وعمرو بن دينار وغيرهم.

قلت: أبو العالية الرياحي البصري التميمي رضى الله عنه ممن أعتق سائبة؛ أعتقته مولاة له من بني رياح سائبة لوجه الله تعالى، وطافت به على حلق المسجد، واسمه رفيع بن مهران، وقال ابن نافع: لا سائبة اليوم في الإسلام، ومن أعتق سائبة كان ولاؤه له؛ وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وابن الماجشون، ومال إليه ابن العربي؛ واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: [ من أعتق سائبة فولاؤه له ] وبقوله: [ إنما الولاء لمن أعتق ] . فنفى أن يكون الولاء لغير معتق، واحتجوا بقوله تعالى: « ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة » وبالحديث [ لا سائبة في الإسلام ] وبما رواه أبو قيس عن هزيل بن شرحبيل قال: قال رجل لعبدالله: إني أعتقت غلاما لي سائبة فماذا ترى فيه؟ فقال عبدالله: إن أهل الإسلام لا يسيبون، إنما كانت تسيب الجاهلية؛ أنت وارثه وولي نعمته.

 

الآية: 104 ( وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون )

 

قوله تعالى: « وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا » الآية تقدم معناها والكلام عليها في « البقرة » فلا معنى لإعادتها.

 

الآية: 105 ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون )

 

قال علماؤنا: وجه اتصال هذه الآية بما قبلها التحذير مما يجب أن يحذر منه، وهو حال من تقدمت صفته ممن ركن في دينه إلى تقليد آبائه وأسلافه. وظاهر هذه الآية يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس القيام به بواجب إذا استقام الإنسان، وأنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره، لولا ما ورد من تفسيرها في السنة وأقاويل الصحابة والتابعين على ما نذكره بحول الله تعالى.

 

قوله تعالى: « عليكم أنفسكم » معناه احفظوا أنفسكم من المعاصي؛ تقول عليك زيدا بمعنى الزم زيدا؛ ولا يجوز عليه زيدا، بل إنما يجرى هذا في المخاطبة في ثلاثة ألفاظ عليك زيدا أي خذ زيدا، وعندك عمرا أي حضرك، ودونك زيدا أي قرب منك؛ وأنشد:

يا أيها المائح دلوي دونكا

وأما قوله: عليه رجلا ليسني، فشاذ.

 

روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن قيس قال: خطبنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال: إنكم تقرؤون هذه الآية وتتأولونها على غير تأويلها « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم » وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده ] . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح؛ قال إسحاق بن إبراهيم سمعت عمرو بن علي يقول: سمعت وكيعا يقول: لا يصح عن أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا حديث واحد، قلت: ولا إسماعيل عن قيس، قال: إن إسماعيل روى عن قيس موقوفا. قال النقاش: وهذا إفراط من وكيع؛ رواه شعبة عن سفيان وإسحاق عن إسماعيل مرفوعا؛ وروى أبو داود والترمذي وغيرهما عن أبي أمية الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع بهذه الآية؟ فقال: أية آية؟ قلت: قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم » قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرا، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: [ بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شُحّاً مُطاعا وهَوىً مُتبعاً ودنيا مُؤثَرةً وإعجابَ كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم ] . وفي رواية قيل: يا رسول الله أجر خمسين منا أو منهم؟ قال: [ بل أجر خمسين منكم ] . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. قال ابن عبدالبر قوله: [ بل منكم ] هذه اللفظة قد سكت عنها بعض الرواة فلم يذكرها، وقد تقدم. وروى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ إنكم في زمان من ترك منكم عشر ما أمر به هلك ثم يأتي زمان من عمل منهم بعشر ما أمر به نجا ] قال: هذا حديث غريب. وروي عن ابن مسعود أنه قال: ليس هذا بزمان هذه الآية؛ قولوا الحق ما قُبل منكم، فإذا رُد عليكم فعليكم أنفسكم. وقيل لابن عمر في بعض أوقات الفتن: لو تركت القول في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه؟ فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: [ ليبلغ الشاهد الغائب ] ونحن شهدنا فيلزمنا أن نبلغكم، وسيأتي زمان إذا قيل فيه الحق لم يقبل. في رواية عن ابن عمر بعد قوله: [ ليبلغ الشاهد الغائب ] فكنا نحن الشهود وأنتم الغُيّب، ولكن هذه الآية لأقوام يجيؤون من بعدنا إن قالوا، لم يقبل منهم. وقال ابن المبارك قوله تعالى: « عليكم أنفسكم » خطاب لجميع المؤمنين، أي عليكم أهله دينكم؛ كقوله تعالى: « ولا تقتلوا أنفسكم » فكأنه قال: ليأمر بعضكم بعضا؛ ولينه بعضكم بعضا فهو دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يضركم ضلال المشركين والمنافقين وأهل الكتاب؛ وهذا لأن الأمر بالمعروف يجري مع المسلمين من أهل العصيان كما تقدم؛ وروي معنى هذا عن سعيد بن جبير وقال سعيد بن المسيب: معنى الآية لا يضركم من ضل إذا اهتديتم بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقال ابن خويز منداد: تضمنت الآية اشتغال الإنسان بخاصة نفسه، وتركه التعرض لمعائب الناس، والبحث عن أحوالهم فإنهم لا يسألون عن حاله فلا يسأل عن حالهم وهذا كقوله تعالى: « كل نفس بما كسبت رهينة » [ المدثر: 38 ] ، « ولا تزر وازرة وزر أخرى » [ الأنعام: 164 ] . وقول النبي صلى الله عليه وسلم: [ كن جليس بيتك وعليك بخاصة نفسك ] . ويجوز أن يكون أريد به الزمان الذي يتعذر فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فينكر بقلبه، ويشتغل بإصلاح نفسه.

قلت: قد جاء حديث غريب رواه ابن لهيعة: قال حدثنا بكر بن سوداة الجذامي عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ إذا كان رأس مائتين فلا تأمر بمعروف ولا تنه عن منكر وعليك بخاصة نفسك ] . قال علماؤنا: إنما قال عليه السلام ذلك لتغير الزمان، وفساد الأحوال، وقلة المعينين. وقال جابر بن زيد: معنى الآية: يا أيها الذين آمنوا من أبناء أولئك الذين بحروا البحيرة وسيبوا السوائب؛ عليكم أنفسكم في الاستقامة على الدين، لا يضركم ضلال الأسلاف إذا اهتديتم؛ قال: وكان الرجل إذا أسلم قال له الكفار سفهت آباءك وضللتهم وفعلت وفعلت؛ فأنزل الله الآية بسبب ذلك وقيل: الآية في أهل الأهواء الذين لا ينفعهم الوعظ؛ فإذا علمت من قوم أنهم لا يقبلون، بل يستخفون ويظهرون فاسكت عنهم. وقيل: نزلت في الأسارى الذين عذبهم المشركون حتى ارتد بعضهم، فقيل لمن بقي على الإسلام: عليكم أنفسكم لا يضركم ارتداد أصحابكم. وقال سعيد بن جبير: هي في أهل الكتاب وقال مجاهد: في اليهود والنصارى ومن كان مثلهم؛ يذهبان إلى أن المعنى لا يضركم كفر أهل الكتاب إذا أدوا الجزية. وقيل: هي منسوخة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ قاله المهدوي. قال ابن عطية: وهذا ضعيف ولا يعلم قائله. قلت: قد جاء عن أبي عبيد القاسم بن سلام أنه قال: ليس في كتاب الله تعالى آية جمعت الناسخ والمنسوخ غير هذه الآية. قال غيره: الناسخ منها قوله: « إذا اهتديتم » والهدى هنا هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله أعلم.

 

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متعين متى رجي القبول، أو رجي رد الظالم ولو بعنف، ما لم يخف الآمر ضررا يلحقه في خاصته، أو فتنة يدخلها على المسلمين؛ إما بشق عصا، وإما بضرر يلحق طائفة من الناس؛ فإذا خيف هذا فـ « عليكم أنفسكم » محكم واجب أن يوقف عنده ولا يشترط في الناهي أن يكون عدلا كما تقدم؛ وعلى هذا جماعة أهل العلم فاعلمه.

 

الآيات: 106 - 108 ( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين، فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين، ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين )

 

قال مكي رحمه الله: هذه الآية وما بعدها عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعرابا ومعنى وحكما؛ قال ابن عطية: هذا كلام من لم يقع له الثلج في تفسيرها؛ وذلك بين من كتابه رحمه الله.

قلت: ما ذكره مكي رحمه الله ذكره أبو جعفر النحاس قبله أيضا، ولا أعلم خلافا أن هذه الآيات نزلت بسبب تميم الداري وعدي بن بداء. روى البخاري والدارقطني وغيرهما عن ابن عباس قال: كان تميم الداري وعدي بن بداء يختلفان إلى مكة، فخرج معهما فتى من بني سهم فتوفي بأرض ليس بها مسلم، فأوصى إليهما؛ فدفعا تركته إلى أهله وحبسا جاما من فضة مخوصا بالذهب، فاستحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما كتمتما ولا اطلعتما ) ثم وجد الجام بمكة فقالوا: اشتريناه من عدي وتميم، فجاء رجلان من ورثة السهمي فحلفا أن هذا الجام للسهمي، ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا؛ قال: فأخذوا الجام؛ وفيهم نزلت هذه الآية. لفظ الدارقطني. وروى الترمذي عن تميم الداري في هذه الآية « يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم » برئ منها الناس غيري وغير عدي بن بداء وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام، فأتيا الشام بتجارتهما، وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له: بديل بن أبي مريم بتجارة، ومعه جام من فضة يريد به الملك، وهو عُظْم تجارته، فمرض فأوصى إليهما، وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله؛ قال تميم: فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ثم اقتسمناها أنا وعدي بن بداء، فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا، وفقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا: ما ترك غير هذا، وما دفع إلينا غيره؛ قال تميم: فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك، فأتيت أهله وأخبرتهم الخبر، وأديت إليهم خمسمائة درهم، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها، فأتوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا، فأمرهم أن يستحلفوه بما يقطع به على أهل دينه، فحلف فأنزل الله عز وجل: « يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم » إلى قوله « بعد أيمانهم » فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا فنزعت الخمسمائة من يدي عدي بن بداء. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب وليس إسناده بصحيح. وذكر الواقدي أن الآيات الثلاث نزلت في تيم وأخيه عدي، وكانا نصرانيين، وكان متجرهما إلى مكة، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قدم ابن أبي مريم مولى عمرو بن العاص المدينة وهو يريد الشام تاجرا، فخرج مع تميم وأخيه عدي؛ وذكر الحديث. وذكر النقاش قال: نزلت في بديل بن أبي مريم مولى العاص بن وائل السهمي؛ كان خرج مسافرا في البحر إلى أرض النجاشي ومعه رجلان نصرانيان أحدهما يسمى تميما وكان من لخم وعدي بن بداء، فمات بديل وهم في السفينة فرمي به في البحر، وكان كتب وصيته ثم جعلها في المتاع فقال: أبلغا هذا المتاع أهلي، فلما مات بديل قبضا المال، فأخذا منه ما أعجبهما فكان فيما أخذا إناء من فضة فيه ثلثمائة مثقال، منقوشا مموها بالذهب؛ وذكر الحديث. وذكره سنيد وقال: فلما قدموا الشام مرض بديله وكان مسلما؛ الحديث.

 

قوله تعالى: « شهادة بينكم » ورد « شهد » في كتاب الله تعالى بأنواع مختلفة: منها قوله تعالى: « واستشهدوا شهيدين من رجالكم » [ البقرة: 282 ] قيل: معناه أحضروا. ومنها « شهد » بمعنى قضى أي أعلم؛ قاله أبو عبيدة كقوله تعالى: « شهد الله أنه لا إله إلا هو » [ آل عمران: 18 ] . ومنها « شهد » بمعنى أقر؛ كقوله تعالى: « والملائكة يشهدون » [ النساء: 166 ] . ومنها « شهد » بمعنى حكم؛ قال الله تعالى: « وشهد شاهد من أهلها » [ يوسف: 26 ] . ومنها « شهد » بمعنى حلف؛ كما في اللعان. « وشهد » بمعنى وصى؛ كقوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم » وقيل: معناه هنا الحضور للوصية؛ يقال: شهدت وصية فلان أي حضرتها. وذهب الطبري إلى أن الشهادة بمعنى اليمين؛ فيكون المعنى يمين ما بينكم أن يحلف اثنان؛ واستدل على أن ذلك غير الشهادة التي تؤدى للمشهود له بأنه لا يعلم لله حكم يجب فيه على الشاهد يمين. واختار هذا القول القفال. وسميت اليمين شهادة؛ لأنه يثبت بها الحكم كما يثبت بالشهادة. واختار ابن عطية أن الشهادة هنا هي الشهادة التي تحفظ فتؤدى، وضعف كونها بمعنى الحضور واليمين.

 

قوله تعالى: « بينكم » قيل: معناه ما بينكم فحذف « ما » وأضيفت الشهادة إلى الظرف، واستعمل اسم على الحقيقة، وهو المسمى عند النحويين بالمفعول على السعة؛ كما قال

يوما شهدناه سليمان وعامرا

أراد شهدنا فيه. وقال تعالى: « بل مكر الليل والنهار » [ سبأ: 33 ] أي مكركم فيهما. وأنشد:

تصافح من لاقيت لي ذا عداوة صفاحا وعني بين عينك منزوي

أراد ما بين عينيك فحذف؛ ومنه قوله تعالى: « هذا فراق بيني وبينك » [ الكهف: 78 ] أي ما بيني وبينك.

 

قوله تعالى: « إذا حضر » معناه إذا قارب الحضور، وإلا فإذا حضر الموت لم يشهد ميت. وهذا كقوله تعالى: « فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله » [ النحل: 98 ] . وكقوله: « إذا طلقتم النساء فطلقوهن » [ الطلاق: 1 ] ومثله كثير. والعامل في « إذا » المصدر الذي هو « شهادة » .

 

قوله تعالى: « حين الوصية اثنان » « حين » ظرف زمان والعامل فيه « حضر » وقوله: « اثنان » يقتضي بمطلقه شخصين، ويحتمل رجلين، إلا أنه لما قال بعد ذلك: « ذوا عدل » بين أنه أراد رجلين؛ لأنه لفظ لا يصلح إلا للمذكر، كما أن « ذواتا » [ الرحمن: 48 ] لا يصلح إلا للمؤنث. وارتفع « اثنان » على أنه خبر المبتدأ الذي هو « شهادة » قال أبو علي « شهادة » رفع بالابتداء والخبر في قوله: « اثنان » التقدير شهادة بينكم في وصاياكم شهادة اثنين؛ فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه؛ كما قال تعالى: « وأزواجه أمهاتهم » [ الأحزاب: 6 ] أي مثل أمهاتهم. ويجوز أن يرتفع « اثنان » بـ « شهادة » ؛ التقدير وفيما أنزل عليكم أو ليكن منكم أن يشهد اثنان، أو ليقم الشهادة اثنان.

 

قوله تعالى: « ذوا عدل منكم » « ذوا عدل » صفة لقوله: « اثنان » و « منكم » صفة بعد صفة. وقوله: « أو آخران من غيركم » أي أو شهادة آخرين من غيركم؛ فمن غيركم صفة لآخرين. وهذا الفصل هو المشكل في هذه الآية، والتحقيق فيه أن يقال: اختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال: الأول: أن الكاف والميم في قوله: « منكم » ضمير للمسلمين « وآخران من غيركم » للكافرين فعلى هذا تكون شهادة أهل الكتاب على المسلمين جائزة في السفر إذا كانت وصية، وهو الأشبه بسياق الآية، مع ما تقرر من الأحاديث. وهو قول ثلاثة من الصحابة الذين شاهدوا التنزيل؛ أبو موسى الأشعري وعبدالله بن قيس وعبدالله بن عباس فمعنى الآية من أولها إلى آخرها على هذا القول أن الله تعالى أخبر أن حكمه في الشهادة على الموصي إذا حضر الموت أن تكون شهادة عدلين فإن كان في سفر وهو الضرب في الأرض، ولم يكن معه أحد من المؤمنين، فليشهد شاهدين ممن حضره من أهله الكفر، فإذا قدما وأديا الشهادة على وصيته حلفا بعد الصلاة أنهما ما كذبا وما بدلا، وأن ما شهدا به حق، ما كتما فيه شهادة وحكم بشهادتهما؛ فإن عثر بعد ذلك على أنهما كذبا أو خانا، ونحو هذا مما هو إثم حلف رجلان من أولياء الموصي في السفر، وغرم الشاهدان ما ظهر عليهما. هذا معنى الآية على مذهب أبي موسى الأشعري، وسعيد بن المسيب، ويحيى بن يعمر؛ وسعيد بن جبير وأبي مجلز وإبراهيم وشريح وعبيدة السلماني؛ وابن سيرين ومجاهد وقتادة والسدي وابن عباس وغيرهم. وقال به من الفقهاء سفيان الثوري؛ ومال إليه أبو عبيد القاسم بن سلام لكثرة من قال به. واختاره أحمد بن حنبل وقال: شهادة أهل الذمة جائزة على المسلمين في السفر عند عدم المسلمين كلهم يقولون « منكم » من المؤمنين ومعنى « من غيركم » يعني الكفار. قال بعضهم: وذلك أن الآية نزلت ولا مؤمن إلا بالمدينة؛ وكانوا يسافرون بالتجارة صحبة أهل الكتاب وعبدة الأوثان وأنواع الكفرة والآية محكمة على مذهب أبي موسى وشريح وغيرهما. القول الثاني: أن قوله سبحانه: « أو آخران من غيركم » منسوخ؛ هذا قول زيد بن أسلم والنخعي ومالك؛ والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم من الفقهاء؛ إلا أن أبا حنيفة خالفهم فقال: تجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض؛ ولا تجوز على المسلمين واحتجوا بقوله تعالى: « ممن ترضون من الشهداء » [ البقرة: 282 ] وقوله: « وأشهدوا ذوي عدل منكم » [ الطلاق: 2 ] ؛ فهؤلاء زعموا أن آية الدين من آخر ما نزل؛ وأن فيها « ممن ترضون من الشهداء » فهو ناسخ لذلك؛ ولم يكن الإسلام يومئذ إلا بالمدينة؛ فجازت شهادة أهله الكتاب؛ وهو اليوم طبق الأرض فسقطت شهادة الكفار؛ وقد أجمع المسلمون على أن شهادة الفساق لا تجوز؛ والكفار فساق فلا تجوز شهادتهم.

قلت: ما ذكرتموه صحيح إلا أنا نقول بموجبه؛ وأن ذلك جائز في شهادة أهل الذمة على المسلمين في الوصية في السفر خاصة للضرورة بحيث لا يوجد مسلم؛ وأما مع وجود مسلم فلا؛ ولم يأت ما ادعيتموه من النسخ عن أحد ممن شهد التنزيل؛ وقد قال بالأول ثلاثة من الصحابة وليس ذلك في غيره؛ ومخالفة الصحابة إلى غيرهم ينفر عنه أهل العلم. ويقوي هذا أن سورة « المائدة » من آخر القرآن نزولا حتى قال ابن عباس والحسن وغيرهما: إنه لا منسوخ فيها. وما ادعوه من النسخ لا يصح فإن النسخ لا بد فيه من إثبات الناسخ على وجه يتنافى الجمع بينهما مع تراخي الناسخ؛ فما ذكروه لا يصح أن يكون ناسخا؛ فإنه في قصة غير قصة الوصية لمكان الحاجة والضرورة؛ ولا يمتنع اختلاف الحكم عند الضرورات؛ ولأنه ربما كان الكافر ثقة عند المسلم يرتضيه عند الضرورة؛ فليس فيما قالوه ناسخ.

القول الثالث أن الآية لا نسخ فيها؛ قال الزهري والحسن وعكرمة، ويكون معنى قوله: « منكم » أي من عشيرتكم وقرابتكم؛ لأنهم أحفظ وأضبط وأبعد عن النسيان. ومعنى قوله: « أو آخران من غيركم » أي من غير القرابة والعشيرة؛ قال النحاس: وهذا ينبني على معنى غامض في العربية؛ وذلك أن معنى « آخر » في العربية من جنس الأول؛ تقول: مررت بكريم وكريم آخر؛ فقوله « آخر » يدل على أنه من جنس الأول؛ ولا يجوز عند أهل العربية مررت بكريم وخسيس آخر؛ ولا مررت برجل وحمار آخر؛ فوجب من هذا أن يكون معنى قوله: « أو آخران من غيركم » أي عدلان؛ والكفار لا يكونون عدولا فيصح على هذا قوله من قال « من غيركم » من غير عشيرتكم من المسلمين. وهذا معنى حسن من جهة اللسان؛ وقد يحتج به لمالك ومن قال بقوله؛ لأن المعنى عندهم « من غيركم » من غير قبيلتكم على أنه قد عورض هذا القول بأن في أول الآية « يا أيها الذين آمنوا » فخوطب الجماعة من المؤمنين.

 

استدل أبو حنيفة بهذه الآية على جواز شهادة الكفار من أهل الذمة فيما بينهم؛ قال: ومعنى « أو آخران من غيركم » أي من غير أهل دينكم؛ فدل على جواز شهادة بعضهم على بعض؛ فيقال له: أنت لا تقول بمقتضى هذه الآية؛ لأنها نزلت في قبول شهادة أهل الذمة على المسلمين وأنت لا تقول بها فلا يصح احتجاجك بها. فإن قيل: هذه الآية دلت على جواز قبول شهادة أهل الذمة على المسلمين من طريق النطق؛ ودلت على قبول شهادتهم على أهل الذمة من طريق التنبيه؛ وذلك أنه إذا قبلت شهادتهم على المسلمين فلأن تقبل على أهله الذمة أولى؛ ثم دل الدليل على بطلان شهادتهم على المسلمين؛ فبقي شهادتهم على أهل الذمة على ما كان عليه؛ وهذا ليس بشيء؛ لأن قبول شهادة أهل الذمة على أهل الذمة فرع لقبول شهادتهم على المسلمين؛ فإذا بطلت شهادتهم على المسلمين وهي الأصل فلأن تبطل شهادتهم على أهل الذمة وهي فرعها أحرى وأولى. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « إن أنتم ضربتم في الأرض » أي سافرتم؛ وفي الكلام حذف تقديره إن أنتم ضربتم في الأرض « فأصابتكم مصيبة الموت » فأوصيتم إلى اثنين عدلين في ظنكم؛ ودفعتم إليهما ما معكم من المال؛ ثم متم وذهبا إلى ورثتكم بالتركة فارتابوا في أمرهما؛ وادعوا عليهما خيانة؛ فالحكم أن تحبسوهما من بعد الصلاة؛ أي تستوثقوا منهما؛ وسمى الله تعالى الموت في هذه الآية مصيبة؛ قال علماؤنا: والموت وإن كان مصيبة عظمى، ورزية كبرى؛ فأعظم منه الغفلة عنه، والإعراض عن ذكره، وترك التفكر فيه؛ وترك العمل له؛ وإن فيه وحده لعبرة لمن اعتبر، وفكرة لمن تفكر. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لو أن البهائم تعلم من الموت ما تعلمون ما أكلتم منها سمينا ) . ويروى أن أعرابيا كان يسير على جمل له؛ فخر الجمل ميتا فنزل الأعرابي عنه، وجعل يطوف به ويتفكر فيه ويقول: ما لك لا تقوم ؟! ما لك لا تنبعث ؟! هذه أعضاؤك كاملة، وجوارحك سالمة؛ ما شأنك ؟! ما الذي كان يحملك ؟! ما الذي كان يبعثك ؟! ما الذي صرعك؟! ما الذي عن الحركة منعك ؟! ثم تركه وانصرف متفكرا في شأنه، متعجبا من أمره.

 

قوله تعالى: « تحبسونهما » قال أبو علي: « تحبسونهما » صفة لـ « آخران » واعترض بين الصفة والموصوف بقوله: « إن أنتم » . وهذه الآية أصل في حبس من وجب عليه حق؛ والحقوق على قسمين: منها ما يصلح استيفاؤه معجلا؛ ومنها ما لا يمكن استيفاؤه إلا مؤجلا؛ فإن خلي من عليه الحق غاب واختفى وبطل الحق وتوي فلم يكن بد من التوثق منه فإما بعوض عن الحق وهو المسمى رهنا؛ وإما بشخص ينوب منابه في المطالبة والذمة وهو الحميل؛ وهو دون الأول؛ لأنه يجوز أن يغيب كمغيبه ويتعذر وجوده كتعذره؛ ولكن لا يمكن أكثر من هذا فإن تعذرا جميعا لم يبق إلا التوثق بحبسه حتى تقع منه التوفية لما كان عليه من حق؛ أو تبين عسرته.

فإن كان الحق بدنيا لا يقبل البدل كالحدود والقصاص ولم يتفق استيفاؤه معجلا؛ لم يكن فيه إلا التوثق بسجنه؛ ولأجل هذه الحكمة شرع السجن روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلا في تهمة. وروى أبو داود عن عمرو بن الشريد عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ لي الواجد يحل عرضه وعقوبته ] . قال ابن المبارك يحل عرضه يغلظ له، وعقوبته يحبس له. قال الخطابي: الحبس على ضربين؛ حبس عقوبة، وحبس استظهار، فالعقوبة لا تكون إلا في واجب، وأما ما كان في تهمة فإنما يستظهر بذلك ليستكشف به ما وراءه؛ وقد روي أنه حبس رجلا في تهمة ساعة من نهار ثم خلى عنه. وروى معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال: كان شريح إذا قضى على رجل بحق أمر بحبسه في المسجد إلى أن يقوم فإن أعطاه حقه وإلا أمر به إلى السجن.

 

قوله تعالى: « من بعد الصلاة » يريد صلاة العصر؛ قاله الأكثر من العلماء؛ لأن أهل الأديان يعظمون ذلك الوقت ويتجنبون فيه الكذب واليمين الكاذبة. وقال الحسن: صلاة الظهر. وقيل: أي صلاة كانت. وقيل: من بعد صلاتهما على أنهما كافران؛ قاله السدي. وقيل: إن فائدة اشتراطه بعد الصلاة تعظيما للوقت، وإرهابا به؛ لشهود الملائكة ذلك الوقت؛ وفي الصحيح [ من حلف على يمين كاذبة بعد العصر لقي الله وهو عليه غضبان ] .

 

هذه الآية أصل في التغليظ في الأيمان، والتغليظ يكون بأربعة أشياء: أحدها: الزمان كما ذكرنا. الثاني: المكان كالمسجد والمنبر، خلافا لأبي حنيفة وأصحابه حيث يقولون: لا يجب استحلاف أحد عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا بين الركن والمقام لا في قليل الأشياء ولا في كثيرها؛ وإلى هذا القول ذهب البخاري رحمه الله حيث ترجم ( باب يحلف المدعى عليه حيثما وجبت عليه اليمين ولا يصرف من موضع إلى غيره ) . وقال مالك والشافعي: ويُجلب في أيمان القسامة إلى مكة من كان من أعمالها، فيحلف بين الركن والمقام، ويُجلب إلى المدينة من كان من أعمالها فيحلف عند المنبر. الثالث: الحال روى مطرف وابن الماجشون وبعض أصحاب الشافعي أنه يحلف قائما مستقبل القبلة؛ لأن ذلك أبلغ في الردع والزجر. وقال ابن كنانة: يحلف جالسا؛ قال ابن العربي: والذي عندي أنه يحلف كما يحكم عليه بها إن كان قائما فقائما وإن جالسا فجالسا إذ لم يثبت في أثر ولا نظر اعتبار ذلك من قيام أو جلوس.

قلت: قد استنبط بعض العلماء من قوله في حديث علقمة بن وائل عن أبيه: [ فانطلق ليحلف ] القيام والله أعلم أخرجه مسلم.

الرابع: التغليظ باللفظ؛ فذهبت طائفة إلى الحلف بالله لا يزيد عليه؛ لقوله تعالى: « فيقسمان بالله » وقوله: « قل إي وربي » [ يونس: 53 ] وقال: « وتالله لأكيدن أصنامكم » [ الأنبياء: 57 ] وقوله عليه السلام: [ من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ] . وقول الرجل: والله لا أزيد عليهن. وقال مالك: يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عندي حق، وما ادعاه علي باطل؛ والحجة له ما رواه أبو داود حدثنا مسدد قال حدثنا أبو الأحوص قال حدثنا عطاء بن السائب عن أبي يحيى عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يعني لرجل حلفه [ احلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عندك شيء ] يعني للمدعي؛ قال أبو داود: أبو يحيى اسمه زياد كوفي ثقة ثبت. وقال الكوفيون: يحلف بالله لا غير، فإن اتهمه القاضي غلظ عليه اليمين؛ فيحلفه بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. وزاد أصحاب الشافعي التغليظ بالمصحف. قال ابن العربي: وهو بدعة ما ذكرها أحد قط من الصحابة. وزعم الشافعي أنه رأى ابن مازن قاضي صنعاء يحلف بالمصحف ويأمر أصحابه بذلك ويرويه عن ابن عباس، ولم يصح.

قلت: وفي كتاب ( المهذب ) وإن حلف بالمصحف وما فيه من القرآن فقد حكى الشافعي عن مطرف أن ابن الزبير كان يحلف على المصحف، قال: ورأيت مطرفا بصنعاء يحلف على المصحف؛ قال الشافعي: وهو حسن. قال ابن المنذر: وأجمعوا على أنه لا ينبغي للحاكم أن يستحلف بالطلاق والعتاق والمصحف.

قلت: قد تقدم في الأيمان: وكان قتادة يحلف بالمصحف وقال أحمد وإسحاق: لا يكره ذلك؛ حكاه عنهما ابن المنذر.

 

اختلف مالك والشافعي من هذا الباب في قدر المال الذي يحلف به في مقطع الحق؛ فقال مالك: لا تكون اليمين في مقطع الحق في أقل من ثلاثة دراهم قياسا على القطع، وكل مال تقطع فيه اليد وتسقط به حرمة العضو فهو عظيم. وقال الشافعي: لا تكون اليمين في ذلك في أقل من عشرين دينارا قياسا على الزكاة، وكذلك عند منبر كل مسجد.

 

قوله تعالى: « فيقسمان بالله » الفاء في « فيقسمان » عاطفة جملة على جملة، أو جواب جزاء؛ لأن « تحسبونها » معناه احبسوهما، أي لليمين؛ فهو جواب الأمر الذي دل عليه الكلام كأنه قال: إذا حبستموهما أقسما؛ قال ذو الرمة:

وإنسان عيني يحسر الماء مرة فيبدو وتارات يجم فيغرق

تقديره عندهم: إذا حسر بدا.

 

واختلف من المراد بقوله: « فيقسمان » ؟ فقيل: الوصيان إذا ارتيب في قولهما وقيل: الشاهدان إذا لم يكونا عدلين وارتاب بقولهما الحاكم حلفهما. قال ابن العربي مبطلا لهذا القول: والذي سمعت وهو بدعة عن ابن أبي ليلى أنه يحلف الطالب مع شاهديه أن الذي شهدا به حق؛ وحينئذ يقضى له بالحق؛ وتأويل هذا عندي إذا ارتاب الحاكم بالقبض فيحلف إنه لباق، وأما غير ذلك فلا يلتفت إليه؛ هذا في المدعي فكيف يحبس الشاهد أو يحلف ؟! هذا ما لا يلتفت إليه.

قلت: وقد تقدم من قول الطبري في أنه لا يعلم لله حكم يجب فيه على الشاهد يمين. وقد قيل: إنما استحلف الشاهدان لأنهما صارا مدعى عليهما، حيث ادعى الورثة أنهما خانا في المال.

 

قوله تعالى: « إن ارتبتم » شرط لا يتوجه تحليف الشاهدين إلا به، ومتى لم يقع ريب ولا اختلاف فلا يمين. قال ابن عطية: أما أنه يظهر من حكم أبي موسى في تحليف الذميين أنه باليمين تكمل شهادتهما وتنفذ الوصية لأهلها روى أبو داود عن الشعبي أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقاء هذه، ولم يجد أحدا من المسلمين حضره يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهله الكتاب، فقدما الكوفة فأتيا الأشعري فأخبراه، وقدما بتركته ووصيته؛ فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأحلفهما بعد العصر: [ بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا وإنها لوصية الرجل وتركته ] فأمضى شهادتهما. قال ابن عطية: وهذه الريبة عند من لا يرى الآية منسوخة تترتب في الخيانة، وفي الاتهام بالميل إلى بعض الموصى لهم دون بعض، وتقع مع ذلك اليمين عنده؛ وأما من يرى الآية منسوخة فلا يقع تحليف إلا أن يكون الارتياب في خيانة أو تعد بوجه من وجوه التعدي؛ فيكون التحليف عنده بحسب الدعوى على منكر لا على أنه تكميل للشهادة. قال ابن العربي: يمين الريبة والتهمة على قسمين: أحدهما: ما تقع الريبة فيه بعد ثبوت الحق وتوجه الدعوى فلا خلاف في وجوب اليمين. الثاني: التهمة المطلقة في الحقوق والحدود، وله تفصيل بيانه في كتب الفروع؛ وقد تحققت ههنا الدعوى وقويت حسبما ذكر في الروايات.

 

الشرط في قوله: « إن ارتبتم » يتعلق بقوله: « تحبسونهما » لا بقوله « فيقسمان » لأن هذا الحبس سبب القسم.

 

قوله تعالى: « لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى » أي يقولان في يمينهما لا نشتري بقسمنا عوضا نأخذه بدلا مما أوصى به ولا ندفعه إلى أحد ولو كان الذي نقسم له ذا قربى منا. وإضمار القول كثير، كقوله: « والملائكة يدخلون عليهم من كل باب. سلام عليكم » [ الرعد: 23 - 24 ] أي يقولون سلام عليكم. والاشتراء ههنا ليس بمعنى البيع، بل هو التحصيل.

 

اللام في قوله: « لا نشتري » جواب لقوله: « فيقسمان » لأن أقسم يلتقي بما يلتقي به القسم؛ وهو « لا » و « ما » في النفي، « وإن » واللام في الإيجاب. والهاء في « به » عائد على اسم الله تعالى، وهو أقرب مذكور؛ المعنى: لا نبيع حظنا من الله تعالى بهذا العرض. ويحتمل أن يعود على الشهادة وذكرت على معنى القول؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: [ واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ] فأعاد الضمير على معنى الدعوة الذي هو الدعاء، وقد تقدم في سورة « النساء » .

 

قوله تعالى: « ثمنا » قال الكوفيون: المعنى ذا ثمن أي سلعة ذا ثمن، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وعندنا وعند كثير من العلماء أن الثمن قد يكون هو يكون السلعة؛ فإن الثمن عندنا مشترى كما أن المثمون مشترى؛ فكل واحد من المبيعين ثمنا ومثمونا كان البيع دائرا على عرض ونقد، أو على عرضين، أو على نقدين؛ وعلى هذا الأصل تنبني مسألة: إذا أفلس المبتاع ووجد البائع متاعه هل يكون أولى به؟ قال أبو حنيفة: لا يكون أولى به؛ وبناه على هذا الأصل، وقال: يكون صاحبها أسوة الغرماء. وقال مالك: هو أحق بها في الفلس دون الموت. وقال الشافعي: صاحبها أحق بها في الفلس والموت. تمسك أبو حنيفة بما ذكرنا، وبأن الأصل الكلي أن الدين في ذمة المفلس والميت، وما بأيديهما محل للوفاء؛ فيشترك جميع الغرماء فيه بقدر رؤوس أموالهم، ولا فرق في ذلك بين أن تكون أعيان السلع موجودة أو لا، إذ قد خرجت عن ملك بائعها ووجبت أثمانها لهم في الذمة بالإجماع، فلا يكون لهم إلا أثمانها أو ما وجد منها. وخصص مالك والشافعي هذه القاعدة بأخبار رويت في هذا الباب رواها الأئمة أبو داود وغيره.

 

قوله تعالى: « ولا نكتم شهادة الله » أي ما أعلمنا الله من الشهادة. وفيها سبع قراءات من أرادها وجدها في ( التحصيل ) وغيره.

 

قوله تعالى: « فإن عثر على أنهما استحقا إثما » قال عمر: هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام. وقال الزجاج: أصعب ما في القرآن من الإعراب قوله: « من الذين استحق عليهم الأوليان » . عثر على كذا أي اطلع عليه؛ يقال: عثرت منه على خيانة أي اطلعت، وأعثرت غيري عليه، ومنه قوله تعالى: « وكذلك أعثرنا عليهم » [ الكهف: 21 ] . لأنهم كانوا يطلبونهم وقد خفي عليهم موضعهم، وأصل العثور الوقوع والسقوط على الشيء؛ ومنه قولهم: عثر الرجل يعثر عثورا إذا وقعت إصبعه بشيء صدمته، وعثرت إصبع فلان بكذا إذا صدمته فأصابته ووقعت عليه. وعثر الفرس عثارا قال الأعشى:

بذات لوث عفرناة إذا عثرت فالتعس أدنى لها من أن أقول لعا

والعثير الغبار الساطع؛ لأنه يقع على الوجه، والعثير الأثر الخفي لأنه يوقع عليه من خفاء. والضمير في « أنهما » يعود على الوصيين اللذين في قوله عز وجل: « اثنان » عن سعيد بن جبير. وقيل: على الشاهدين؛ عن ابن عباس. و « استحقا » أي استوجبا « إثما » يعني بالخيانة، وأخذهما ما ليس لهما، أو باليمين الكاذبة أو بالشهادة الباطلة. وقال أبو علي: الإثم هنا اسم الشيء المأخوذ؛ لأن آخذه بأخذه آثم، فسمي إثما كما سمي ما يؤخذ بغير حق مظلمة. وقال سيبويه: المظلمة اسم ما أخذ منك؛ فكذلك سمي هذا المأخوذ باسم المصدر وهو الجام

 

قوله تعالى: « فآخران يقومان مقامهما » يعني في الأيمان أو في الشهادة؛ وقال « آخران » بحسب أن الورثة كانا اثنين. وارتفع « آخران » بفعل مضمر. « يقومان » في موضع نعت. « مقامهما » مصدر، وتقديره: مقاما مثل مقامهما، ثم أقيم النعت مقام المنعوت، المضاف مقام المضاف إليه

 

قوله تعالى: « من الذين استحق عليهم الأوليان » قال ابن السري: المعنى استحق عليهم الإيصاء؛ قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل فيه؛ لأنه لا يجعل حرف بدلا من حرف؛ واختاره ابن العربي؛ وأيضا فإن التفسير عليه؛ لأن المعنى عند أهل التفسير: من الذين استحقت عليهم الوصية. و « الأوليان » بدل من قوله: « فآخران » قاله ابن السري، واختاره النحاس وهو بدل المعرفة من النكرة وإبدال المعرفة من النكرة جائز. وقيل: النكرة إذا تقدم ذكرها ثم أعيد ذكرها صارت معرفة؛ كقوله تعالى: « كمشكاة فيها مصباح » [ النور: 35 ] ثم قال: « المصباح في زجاجة » [ النور: 35 ] ثم قال: « الزجاجة » [ النور: 35 ] . وقيل: وهو بدل من الضمير في « يقومان » كأنه قال: فيقوم الأوليان أو خبر ابتداء محذوف؛ التقدير: فآخران يقومان مقامهما هما الأوليان. وقال ابن عيسى: « الأوليان » مفعول « استحق » على حذف المضاف؛ أي استحق فيهم وبسببهم إثم الأوليين فعليهم بمعنى فيهم مثل « على ملك سليمان » [ البقرة: 102 ] أي في ملك سليمان. وقال الشاعر:

متى ما تنكروها تعرفوها على أقطارها علق نفيث

أي في أقطارها. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة « الأولين » جمع أول على أنه بدل من « الذي » أو من الهاء والميم في « عليهم » وقرأ حفص: « استحق » بفتح التاء والحاء، وروي عن أبي بن كعب، وفاعله « الأوليان » والمفعول محذوف، والتقدير: من الذين استحق عليهم الأوليان بالميت وصيته التي أوصى بها. وقيل: استحق عليهم الأوليان رد الأيمان. وروي عن الحسن: « الأولان » وعن ابن سيرين: « الأولين » قال النحاس: والقراءتان لحن؛ لا يقال في مثنى؛ مثنان، غير أنه قد روي عن الحسن « الأولان »

 

قوله تعالى: « فيقسمان بالله » أي يحلفان الآخران اللذان يقومان مقام الشاهدين ( أن الذي قال صاحبنا في وصيته حق، وأن المال الذي وصى به إليكما كان أكثر مما أتيتمانا به وأن هذا الإناء لمن متاع صاحبنا الذي خرج به معه وكتبه في وصيته، وأنكما خنتما ) فذلك قوله: « لشهادتنا أحق من شهادتهما » أي يميننا أحق من يمينهما؛ فصح أن الشهادة قد تكون بمعنى اليمين، ومنه قوله تعالى: « فشهادة أحدهم أربع شهادات » [ النور: 6 ] . وقد روى معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة قال: قام رجلان من أولياء الميت فحلفا. « لشهادتنا أحق » ابتداء وخبر. وقوله: « وما اعتدينا » أي تجاوزنا الحق في قسمنا. « إنا إذا لمن الظالمين » أي إن كنا حلفنا على باطل، وأخذنا ما ليس لنا.

 

قوله تعالى: « ذلك أدنى » ابتداء وخبر. « أن » في موضع نصب. « يأتوا » نصب بـ « أن » . « أو يخافوا » عطف عليه. « أن ترد » في موضع نصب بـ « يخافوا » . « إيمان بعد أيمانهم » قيل: الضمير في « يأتوا » و « يخافوا » راجع إلى الموصى إليهما؛ وهو الأليق بمساق الآية. وقيل: المراد به الناس، أي أحرى أن يحذر الناس الخيانة فيشهدوا بالحق خوف الفضيحة في رد اليمين على المدعي، والله أعلم.

 

قوله تعالى: « واتقوا الله واسمعوا » أمر؛ ولذلك حذفت منه النون، أي اسمعوا ما يقال لكم، قابلين له متبعين أم الله فيه. « والله لا يهدي القوم الفاسقين » فسق يفسق ويفسق إذا خرج من الطاعة إلى المعصية، وقد تقدم، والله أعلم.

 

الآية: 109 ( يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب )

 

قوله تعالى: « يوم يجمع الله الرسل » يقال: ما وجه اتصال هذه الآية بما قبلها؟ فالجواب: أنه اتصال الزجر عن الإظهار خلاف الإبطان في وصية أو غيرها مما ينبئ أن المجازي عليه عالم به. و « يوم » ظرف زمان والعامل فيه « واسمعوا » أي واسمعوا خبر يوم. وقيل: التقدير واتقوا يوم يجمع الله الرسل عن الزجاج. وقيل: التقدير اذكروا أو احذروا يوم القيامة حين يجمع الله الرسل، والمعنى متقارب؛ والمراد التهديد والتخويف. « فيقول ماذا أجبتم » أي ما الذي أجابتكم به أممكم؟ وما الذي رد عليكم قومكم حين دعوتموهم إلى توحيدي ؟ « قالوا » أي فيقولون: « لا علم لنا » . واختلف أهله التأويل في المعنى المراد بقولهم: « لا علم لنا » فقيل: معناه لا علم لنا بباطن ما أجاب به أممنا؛ لأن ذلك هو الذي يقع عليه الجزاء؛ وهذا مروي عن النبي عليه الله عليه وسلم. وقيل: المعنى لا علم لنا إلا ما علمتنا، فحذف؛ عن ابن عباس ومجاهد بخلاف. وقال ابن عباس أيضا: معناه لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا. وقيل: إنهم يذهلون من هول ذلك ويفزعون من الجواب، ثم يجيبون بعدما تثوب إليهم عقولهم فيقولون: « لا علم لنا » قال الحسن ومجاهد والسدي. قال النحاس: وهذا لا يصح؛ لأن الرسل صلوات الله عليهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

قلت: هذا في أكثر مواطن القيامة؛ ففي الخبر [ إن جهنم إذا جيء بها زفرت زفرة فلا يبقى نبي ولا صديق إلا جثا لركبتيه ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ خوفني جبريل يوم القيامة حتى أبكاني فقلت يا جبريل ألم يغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر ؟ فقال لي يا محمد لتشهدن من هول ذلك اليوم ما ينسيك المغفرة ]

قلت: فإن كان السؤال عند زفرة جهنم كما قال بعضهم فقول مجاهد والحسن صحيح؛ والله أعلم. قال النحاس: والصحيح في هذا أن المعنى: ماذا أجبتم في السر والعلانية ليكون هذا توبيخا للكفار؛ فيقولون: لا علم لنا؛ فيكون هذا تكذيبا لمن اتخذ المسيح إلها. وقال ابن جريج: معنى قوله: « ماذا أجبتم » ماذا عملوا بعدكم؟ قالوا: « لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب » . قال أبو عبيد: ويشبه هذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ يرد علي أقوام الحوض فيختلجون فأقول أمتي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ] . وكسر الغين من الغيوب حمزة والكسائي وأبو بكر، وضم الباقون. قال الماوردي فإن قيل: فلم سألهم عما هو أعلم به منهم ؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنه سألهم ليعلمهم ما لم يعلموا من كفر أممهم ونفاقهم وكذبهم عليهم من بعدهم. الثاني: أنه أراد أن يفضحهم بذلك على رؤوس الأشهاد ليكون ذلك نوعا من العقوبة لهم.

 

الآية: 110 ( إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين )

 

قوله تعالى: « إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك » هذا من صفة يوم القيامة كأنه قال: اذكر يوم يجمع الله الرسل وإذ يقول الله لعيسى كذا؛ قاله المهدوي. و « عيسى » يجوز أن يكون في موضع رفع على أن يكون « ابن مريم » نداء ثانيا، ويجوز أن يكون في موضع نصب؛ لأنه نداء منصوب كما قال:

يا حكم بن المنذر بن الجارود

ولا يجوز الرفع في الثاني إذا كان مضافا إلا عند الطوال.

 

قوله تعالى: « اذكر نعمتي عليك » إنما ذكر الله تعالى عيسى نعمته عليه وعلى والدته وإن كان لهما ذاكرا لأمرين: أحدهما: ليتلو على الأمم ما خصهما به من الكرامة، وميزهما به من علو المنزلة. الثاني: ليؤكد به حجته، ويرد به جاحده. ثم أخذ في تعديد نعمه فقال: « إذ أيدتك » يعني قويتك؛ مأخوذ من الأيد وهو القوة، وقد تقدم. وفي « روح القدس » وجهان: أحدهما: أنها الروح الطاهرة التي خصه الله بها كما تقدم في قوله « وروح منه » [ النساء: 171 ] الثاني: أنه جبريل عليه السلام وهو الأصح، كما تقدم في « البقرة » . « تكلم الناس » يعني وتكلم الناس في المهد صبيا، وفي الكهولة نبيا، وقد تقدم ما في هذا في « آل عمران » فلا معنى لإعادته. « كففت » معناه دفعت وصرفت « بني إسرائيل عنك » حين هموا بقتلك « إذ جئتم بالبينات » أي الدلالات والمعجزات، وهي المذكورة في الآية. « فقال الذين كفروا » يعني الذين لم يؤمنوا بك وجحدوا نبوتك. « إن هذا » أي المعجزات. « إلا سحر مبين » . وقرأ حمزة والكسائي « ساحر » أي إن هذا الرجل إلا ساحر قوي على السحر.

 

الآية: 111 ( وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون )

 

قوله تعالى: « وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي » قد تقدم القول في معاني هذه الآية. والوحي في كلام العرب معناه الإلهام ويكون على أقسام: وحي بمعنى إرسال جبريل إلى الرسل عليهم السلام. ووحي بمعنى الإلهام كما في هذه الآية؛ أي ألهمتهم وقذفت في قلوبهم؛ ومنه قوله تعالى: « وأوحى ربك إلى النحل » النحل: 68 ] « وأوحينا إلى أم موسى » [ القصص: 7 ] ووحي بمعنى الإعلام في اليقظة والمنام قال أبو عبيدة: أوحيت بمعنى أمرت، « وإلى » صلة يقال: وحى وأوحى بمعنى؛ قال الله تعالى: « بأن ربك أوحى لها » [ الزلزلة: 5 ] وقال العجاج:

وحى لها القرار فاستقرت

أي أمرها بالقرار فاستقرت. وقيل: « أوحيت » هنا بمعنى أمرتهم وقيل: بينت لهم. « واشهد بأننا مسلمون » على الأصل؛ ومن العرب من يحذف إحدى النونين؛ أي واشهد يا رب. وقيل: يا عيسى بأننا مسلمون لله.

 

الآية: 112 ( إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين )

 

قوله تعالى: « إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم » على ما تقدم من الإعراب. « هل يستطيع ربك » . قراءة الكسائي وعلي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد « هل تستطيع » بالتاء « ربك » بالنصب. وأدغم الكسائي اللام من « هل » في التاء. وقرأ الباقون بالياء، « ربك » بالرفع، وهذه القراءة أشكل من الأولى؛ فقال السدي: المعنى هل يطيعك ربك إن سألته « أن ينزل » فيستطيع بمعنى يطيع؛ كما قالوا: استجاب بمعنى أجاب، وكذلك استطاع بمعنى أطاع. وقيل المعنى: هل يقدر ربك وكان هذا السؤال في ابتداء أمرهم قبل استحكام معرفتهم بالله عز وجل؛ ولهذا قال عيسى في الجواب عند غلطهم وتجويزهم على الله ما لا يجوز: « اتقوا الله إن كنتم مؤمنين » أي لا تشكوا في قدرة الله تعالى.

قلت: وهذا فيه نظر؛ لأن الحواريين خلصان الأنبياء ودخلاؤهم وأنصارهم كما قال: « من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله » [ الصف: 14 ] . وقال عليه السلام: [ لكل نبي حواري وحواري الزبير ] ومعلوم أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جاؤوا بمعرفة الله تعالى وما يجب له وما يجوز وما يستحيل عليه وأن يبلغوا ذلك أممهم؛ فكيف يخفى ذلك على من باطنهم واختص بهم حتى يجهلوا قدرة الله تعالى؟ إلا أنه يجوز أن يقال: إن ذلك صدر ممن كان معهم، كما قال بعض جهال الأعراب للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، وكما قال من قال من قوم موسى: « اجعل لنا إلها كما لهم آلهة » [ الأعراف: 138 ] على ما يأتي بيانه في « الأعراف » إن شاء الله تعالى. وقيل: إن القوم لم يشكوا في استطاعة الباري سبحانه لأنهم كانوا مؤمنين عارفين عالمين، وإنما هو كقولك للرجل: هل يستطيع فلان أن يأتي وقد علمت أنه يستطيع؛ فالمعنى: هل يفعل ذلك ؟ وهل يجيبني إلى ذلك أم لا؟ وقد كانوا عالمين باستطاعة الله تعالى لذلك ولغيره علم دلالة وخبر ونظر فأرادوا علم معاينة كذلك؛ كما قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم: « رب أرني كيف تحيي الموتى » [ البقرة: 260 ] على ما تقدم وقد كان إبراهيم علم لذلك علم خبر ونظر، ولكن أراد المعاينة التي لا يدخلها ريب ولا شبهة؛ لأن علم النظر والخبر قد تدخله الشبهة والاعتراضات، وعلم المعاينة لا يدخله شيء من ذلك، ولذلك قال الحواريون: « وتطمئن قلوبنا » كما قال إبراهيم: « ولكن ليطمئن قلبي » [ البقرة: 260 ]

قلت: وهذا تأويل حسن؛ وأحسن منه أن ذلك كان من قول من كان مع الحواريين؛ على ما يأتي بيانه وقد أدخل ابن العربي المستطيع في أسماء الله تعالى، وقال: لم يرد به كتاب ولا سنة اسما وقد ورد فعلا، وذكر قول الحواريين: « هل يستطيع ربك » ورده عليه ابن الحصار في كتاب شرح السنة له وغيره؛ قال ابن الحصار: وقوله سبحانه مخبرا عن الحواريين لعيسى: « هل يستطيع ربك » ليس بشك في الاستطاعة، وإنما هو تلطف في السؤال، وأدب مع الله تعالى؛ إذ ليس كل ممكن سبق في علمه وقوعه ولا لكل أحد، والحواريون هم كانوا خيرة من آمن بعيسى، فكيف يظن بهم الجهل باقتدار الله تعالى على كله شيء ممكن؟! وأما قراءة « التاء » فقيل المعنى هل تستطيع أن تسأل ربك هذا قول عائشة ومجاهد رضي الله عنهما؛ قالت عائشة رضي الله عنها: كان القوم أعلم بالله عز وجل من أن يقولوا « هل يستطيع ربك » قالت: ولكن « هل تستطيعُ ربَّك » . وروي عنها أيضا أنها قالت: كان الحواريون لا يشكون أن الله يقدر على إنزال مائدة ولكن قالوا: « هل تستطيع ربك » وعن معاذ بن جبل قال: أقرأنا النبي صلى الله عليه وسلم « هل تستطيع ربك » قال معاذ: وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم مرارا يقرأ بالتاء « هل تستطيع ربك » وقال الزجاج: المعنى هل تستدعي طاعة ربك فيما تسأله. وقيل: هل تستطيع أن تدعو ربك أو تسأله؛ والمعنى متقارب، ولا بد من محذوف كما قال: « واسأل القرية » [ يوسف: 82 ] وعلى قراءة الياء لا يحتاج إلى حذف. « قال اتقوا الله » أي اتقوا معاصيه وكثرة السؤال؛ فإنكم لا تدرون ما يحل بكم عند اقتراح الآيات؛ إذ كان الله عز وجل إنما يفعل الأصلح لعباده. « إن كنتم مؤمنين » أي إن كنتم مؤمنين به وبما جئت به فقد جاءكم من الآيات ما فيه غنى.

 

الآية: 113 ( قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين )

 

قوله تعالى: « قالوا نريد أن نأكل منها » نصب بأن « وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين » عطف كله بينوا به سبب سؤالهم حين نهوا عنه. وفى قولهم: « نأكل منها » وجهان: أحدهما: أنهم أرادوا الأكل منها لحاجة الداعية إليها؛ وذلك أن عيسى عليه السلام كان إذا خرج اتبعه خمسة آلاف أو أكثر، بعضهم كانوا أصحابه وبعضهم كانوا يطلبون منه أن يدعو لهم لمرض كان بهم أو علة إذ كانوا زمنى أو عميانا وبعضهم كانوا ينظرون ويستهزئون فخرج يوما إلى موضع فوقعوا في مفازة ولم يكن معهم نفقة فجاعوا وقالوا للحواريين: قولوا لعيسى حتى يدعو بأن تنزل علينا مائدة من السماء؛ فجاءه شمعون رأس الحواريين وأخبره أن الناس يطلبون بأن تدعو بأن تنزل عليهم مائدة من السماء، فقال عيسى لشمعون: « قل لهم اتقوا الله إن كنتم مؤمنين » فأخبر بذلك شمعون القوم فقالوا له: قل له: « نريد أن نأكل منها » الآية. الثاني: « نأكل منها » لننال بركتها لا لحاجة دعتهم إليها، قال الماوردي: وهذا أشبه؛ لأنهم لو احتاجوا لم ينهوا عن السؤال وقولهم: « وتطمئن قلوبهم » يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: تطمئن إلى أن الله تعالى بعثك إلينا نبيا الثاني: تطمئن إلى أن الله تعالى قد اختارنا لدعوتنا الثالث: تطمئن إلى أن الله تعالى قد أجابنا إلى ما سألنا؛ ذكرها الماوردي وقال المهدوي: أي تطمئن بأن الله قد قبل صومنا وعملنا قال الثعلبي: نستيقن قدرته فتسكن قلوبنا. « ونعلم أن قد صدقتنا » بأنك رسول الله « ونكون عليها من الشاهدين » لله بالوحدانية، ولك بالرسالة والنبوة. وقيل: « ونكون عليها من الشاهدين » لك عند من لم يرها إذا رجعنا إليهم.

 

الآية: 114 ( قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين )

 

قوله تعالى: « قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا » الأصل عند سيبويه يا الله، والميمان بدل من « يا » « ربنا » نداء ثان لا يجيز سيبويه غيره ولا يجوز أن يكون نعتا لأنه قد أشبه الأصوات من أجل ما لحقه. « أنزل علينا مائدة » المائدة الخوان الذي عليه الطعام قال قطرب: لا تكون المائدة مائدة حتى يكون عليها طعام فإن لم يكن قيل: خوان وهي فاعلة من ماد عبده إذا أطعمه وأعطاه؛ فالمائدة تميد ما عليها أي تعطي ومنه قول رؤبة - أنشده الأخفش:

تهدي رؤوس المترفين الأنداد إلى أمير المؤمنين الممتاد

أي المستعطى المسؤول فالمائدة هي المطعمة والمعطية الآكلين الطعام ويسمى الطعام أيضا مائدة تجوزا لأنه يؤكل على المائدة؛ كقولهم للمطر سماء. وقال أهل الكوفة: سميت مائدة لحركتها بما عليها من قولهم: ماد الشيء إذا مال وتحرك قال الشاعر:

لعلك باك إن تغنت حمامة يميد بها غصن من الأيك مائل

وقال آخر:

وأقلقني قتل الكناني بعده فكادت بي الأرض الفضاء تميد

ومنه قوله تعالى: « وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم » [ النحل: 15 ] . وقال أبو عبيدة: مائدة فاعلة بمعنى مفعولة، مثله « عيشة راضية » [ الحاقة: 21 ] بمعنى مرضية و « ماء دافق » [ الطارق: 6 ] أي مدفوق. قوله تعالى: « تكون لنا عيدا » « تكون » نعت لمائدة وليس بجواب.

وقرأ الأعمش « تكن » على الجواب؛ والمعنى: يكون يوم نزولها « عيدا لأولنا » أي لأول أمتنا وآخرها فقيل: إن المائدة نزلت عليهم يوم الأحد غدوة وعشية فلذلك جعلوا الأحد عيدا والعيد واحد الأعياد وإنما جمع بالياء وأصله الواو للزومها في الواحد ويقال: للفرق بينه وبين أعواد الخشب وقد عيدوا أي شهدوا العيد قال الجوهري وقيل: أصله من عاد يعود أي رجع فهو عود بالواو، فقلبت ياء لانكسار ما قبلها مثل الميزان والميقات والميعاد فقيل ليوم الفطر والأضحى: عيدا لأنهما يعودان كل سنة. وقال الخليل: العيد كل يوم يجمع كأنهم عادوا إليه. وقال ابن الأنباري: سمي عيدا للعود في المرح والفرح فهو يوم سرور الخلق كلهم؛ ألا ترى أن المسجونين في ذلك اليوم لا يطالبون ولا يعاقبون ولا يصاد الوحش ولا الطيور ولا تنفذ الصبيان إلى المكاتب وقيل: سمي عيدا لأن كل إنسان يعود إلى قدر منزلته ألا ترى إلى اختلاف ملابسهم وهيئاتهم ومآكلهم فمنهم من يضيف ومنهم من يضاف ومنهم من يرحم ومنهم من يرحم وقيل: سمي بذلك لأنه يوم شريف تشبيها بالعيد: وهو فحل كريم مشهور عند العرب وينسبون إليه فيقال: إبل عيدية قال:

عيدية أرهنت فيها الدنانير

وقد تقدم وقرأ زيد بن ثابت « لأولانا وأخرانا » على الجمع قال ابن عباس: يأكل منها آخر الناس كما يأكل منها أولهم. « وآية منك » يعني دلالة وحجة. « وارزقنا » أي أعطنا. « وأنت خير الرازقين » أي خير من أعطى خير من ورزق لأنك الغني الحميد.

 

الآية: 115 ( قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين )

 

قوله تعالى « قال الله إني منزلها عليكم » هذا وعد من الله تعالى أجاب به سؤال عيسى كما كان سؤاله عيسى إجابة للحواريين وهذا يوجب أنه قد أنزلها ووعده الحق فجحد القوم وكفروا بعد نزولها فمسخوا قردة وخنازير قال ابن عمر: إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون قال الله تعالى « فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين » واختلف العلماء في المائدة هل نزلت أم لا؟ فالذي عليه الجمهور وهو الحق نزولها لقوله تعالى: « إني منزلها عليكم » وقال مجاهد: ما نزلت وإنما هو ضرب مثل ضربه الله تعالى لخلقه فنهاهم عن مسألة الآيات لأنبيائه وقيل: وعدهم بالإجابة فلما قال لهم: « فمن يكفر بعد منكم » الآية استعفوا منها، واستغفروا الله وقالوا: لا نريد هذا؛ قاله الحسن. وهذا القول الذي قبله خطأ والصواب أنها نزلت

قال ابن عباس: إن عيسى ابن مريم قال لبني إسرائيل: [ صوموا ثلاثين يوما ثم سلوا الله ما شئتم يعطكم ] فصاموا ثلاثين يوما وقالوا: يا عيسى لو عملنا لأحد فقضينا عملنا لأطعمنا وإنا صمنا وجعنا فادع الله أن ينزل علينا مائدة من السماء فأقبلت الملائكة بمائدة يحملونها، عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات فوضعوها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم وذكر أبو عبدالله محمد بن علي الترمذي الحكيم في « نوادر الأصول » له: حدثنا عمر بن أبي عمر قال حدثنا عمار بن هارون الثقفي عن زكرياء بن حكيم الحنظلي عن علي بن زيد بن جدعان عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال: لما سألت الحواريون عيسى ابن مريم صلوات الله وسلامه عليه المائدة قام فوضع ثياب الصوف ولبس ثياب المسوح وهو سربال من مسوح أسود ولِحاف أسود فقام فألزق القدم بالقدم وألصق العقب بالعقب والإبهام بالإبهام، ووضع يده اليمنى على يده اليسرى ثم طأطأ رأسه خاشعا لله ثم أرسل عينيه يبكى حتى جرى الدمع على لحيته وجعل يقطر على صدره ثم قال: « اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين قال الله إني منزلها عليكم » الآية. فنزلت سفرة حمراء مدورة بين غمامتين من فوقها وغمامة من تحتها والناس ينظرون إليها؛ فقال عيسى: [ اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها فتنة إلهي أسألك من العجائب فتعطى ] فهبطت بين يدي عيسى عليه السلام وعليها منديل مغطى فخر عيسى ساجدا والحواريون معه وهم يجدون لها رائحة طيبة ولم يكونوا يجدون مثلها قبل ذلك فقال عيسى: [ أيكم أعبد لله وأجرأ على الله وأوثق بالله فليكشف عن هذه السفرة حتى نأكل منها ونذكر اسم الله عليها ونحمد الله عليها ] فقال الحواريون: يا روح الله أنت أحق بذلك فقام عيسى صلوات الله عليه فتوضأ وضوءا حسنا وصلى صلاة جديدة ودعا دعاء كثيرا ثم جلس إلى السفرة فكشف عنها فإذا عليها سمكة مشوية ليس فيها شوك تسيل سيلان الدسم وقد نضد حولها من كله البقول ما عدا الكراث وعند رأسها ملح وخل وعند ذنبها خمسة أرغفة على واحد منها خمس رمانات وعلى الآخر تمرات وعلى الآخر زيتون قال الثعلبي: على واحد منها زيتون، وعلى الثاني عسل وعلى الثالث بيض وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد فبلغ ذلك اليهود فجاؤوا غما ينظرون إليه فرأوا عجبا فقال شمعون وهو رأس الحواريين: يا روح الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الجنة؟ فقال عيسى صلوات الله عليه: [ أما افترقتم بعد عن هذه المسائل ما أخوفني أن تعذبوا ] فقال شمعون: وإله بني إسرائيل ما أردت بذلك سوءا فقالوا: يا روح الله لو كان مع هذه الآية آية أخرى قال عيسى عليه السلام: [ يا سمكة احيي بإذن الله ] فاضطربت السمكة طرية تَبِصُّ عيناها، ففزع الحواريون فقال عيسى: [ ما لي أراكم تسألون عن الشيء فإذا أعطيتموه كرهتموه ما أخوفني أن تعذبوا ] وقال: [ لقد نزلت من السماء وما عليها طعام من الدنيا ولا من طعام الجنة ولكنه شيء ابتدعه الله بالقدرة البالغة فقال لها كوني فكانت ] فقال عيسى: [ يا سمكة عودي كما كنت ] فعادت مشوية كما كانت فقال الحواريون: يا روح الله كن أول من يأكل منها، فقال عيسى: [ معاذ الله إنما يأكل منها من طلبها وسألها ] فأبت الحواريون أن يأكلوا منها خشية أن تكون مَثُلَة وفتنة فلما رأى عيسى ذلك دعا عليها الفقراء والمساكين والمرضى والزمنى والمجذمين والمقعدين والعميان وأهل الماء الأصفر، وقال: [ كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم واحمدوا الله عليه ] وقال: [ يكون المهنأ لكم والعذاب على غيركم ] فأكلوا حتى صدروا عن سبعة آلاف وثلاثمائة يتجشؤون فبرئ كل سقيم أكله منه واستغنى كله فقير أكل منه حتى الممات فلما رأى ذلك الناس ازدحموا عليه فما بقي صغير ولا كبير ولا شيخ ولا شاب ولا غني ولا فقير إلا جاؤوا يأكلون منه فضغط بعضهم بعضا فلما رأى ذلك عيسى جعلها نوبا بينهم فكانت تنزل يوما ولا تنزل يوما كناقة ثمود ترعى يوما وتشرب يوما فنزلت أربعين يوما تنزل ضحا فلا تزال حتى يفيء الفيء موضعه وقال الثعلبي: فلا تزال منصوبة يؤكل منها حتى إذا فاء الفيء طارت صعدا فيأكل منها الناس ثم ترجع إلى السماء والناس ينظرون إلى ظلها حتى تتوارى عنهم فلما تم أربعون يوما أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام [ يا عيسى اجعل مائدتي هذه للفقراء دون الأغنياء ] فتمارى الأغنياء في ذلك وعادوا الفقراء وشككوا والناس فقال الله يا عيسى: [ إني آخذ بشرطي ] فأصبح منهم ثلاثة وثلاثون خنزيرا يأكلون العذرة يطلبونها بالأكباء والأكباء هي الكناسة واحدها كبا بعدما كانوا يأكلون الطعام الطب وينامون على الفرش اللينة فلما رأى الناس ذلك اجتمعوا على عيسى يبكون، وجاءت الخنازير فجثوا على ركبهم قدام عيسى فجعلوا يبكون وتقطر دموعهم فعرفهم عيسى فجعل يقول: [ ألست بفلان ] ؟ فيومئ برأسه ولا يستطيع الكلام فلبثوا كذلك سبعة أيام ومنهم من يقول: أربعة أيام، ثم دعا الله عيسى أن يقبض أرواحهم فأصبحوا لا يدرى أين ذهبوا؟ الأرض ابتلعتهم أو ما صنعوا؟!.

قلت: في هذا الحديث مقال ولا يصح من قبل إسناده وعن ابن عباس وأبي عبدالرحمن السلمي كان طعام المائدة خبزا وسمكا وقال ابن عطية: كانوا يجدون في السمك طيب كله طعام؛ وذكره الثعلبي وقال عمار بن ياسر وقتادة: كانت مائدة تنزل من السماء وعليها ثمار من ثمار الجنة. وقال وهب بن منبه: أنزله الله تعالى أقرصة من شعير وحيتانا وخرج الترمذي في أبواب التفسير عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ أنزلت المائدة من السماء خبزا ولحما وأمروا ألا يخونوا ولا يدخروا لغد فخانوا وادخروا ورفعوا لغد فمسخوا قردة وخنازير ] قال أبو عيسى: هذا حديث قد رواه أبو عاصم وغير واحد عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن خلاس عن عمار بن ياسر موقوفا ولا نعرفه مرفوعا إلا من حديث الحسن بن قزعة حدثنا حميد بن مسعد قال حدثنا سفيان بن حبيب عن سعيد بن أبي عروبة نحوه ولم يرفعه، وهذا أصح من حديث الحسن بن قزعة ولا نعلم للحديث المرفوع أصلا وقال سعيد بن جبير: أنزل على المائدة كله شيء إلا الخبز واللحم. وقال عطاء: نزل عليها كل شيء إلا السمك واللحم. وقال كعب: نزلت المائدة منكوسة من السماء تطير بها الملائكة بين السماء والأرض عليها كل طعام إلا اللحم.

قلت: هذه الثلاثة أقوال مخالفة لحديث الترمذي وهو أولى منها؛ لأنه إن لم يصح مرفوعا فصح موقوفا عن صحابي كبير والله أعلم والمقطوع به أنها نزلت وكان عليها طعام يؤكل والله أعلم بتعيينه وذكر أبو نعيم عن كعب أنها نزلت ثانية لبعض عباد بني إسرائيل قال كعب: اجتمع ثلاثة نفر من عباد بني إسرائيل فاجتمعوا في أرض فلاة مع كل رجل منهم اسم من أسماء الله تعالى فقال أحدهم: سلوني فأدعو الله لكم بما شئتم قالوا: نسألك أن تدعو الله أن يظهر لنا عينا ساحة بهذا المكان؛ ورياضا خضرا وعبقريا قال: فدعا الله فإذا عين ساحة ورياض خضر وعبقري ثم قال أحدهم سلوني فأدعوا الله لكم بما شئتم فقالوا: نسألك أن تدعو الله أن يطعمنا شيئا من ثمار الجنة فدعا الله فنزلت عليهم بسرة فأكلوا منها لا تقلب إلا أكلوا منها لونا ثم رفعت ثم قال أحدهم: سلوني فأدعو الله لكم بما شئتم؛ فقالوا: نسألك أن تدعو الله أن ينزل علينا المائدة التي أنزلها على عيسى قال: فدعا فنزلت فقضوا منها حاجتهم ثم رفعت وذكر تمام الخبر.

مسألة: جاء في حديث سلمان المذكور بيان المائدة وأنها كانت سفرة لا مائدة ذات قوائم والسفرة مائدة النبي صلى الله عليه وسلم وموائد العرب خرج أبو عبدالله الترمذي الحكيم: حدثنا محمد بن بسار قال حدثنا معاذ بن هشام قال حدثني أبي عن يونس عن قتادة عن أنس قال ما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خوان قط ولا في سكرجة ولا خبز له مرقق قال: قلت لأنس فعلام كانوا يأكلون ؟ قال: على السفر قال محمد بن بشار: يونس هذا هو أبو الفرات الإسكاف.

قلت: هذا حديث صحيح ثابت اتفق على رجاله البخاري ومسلم وخرجه الترمذي قال: حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا معاذ بن هشام فذكره وقال فيه: حسن غريب قال الترمذي أبو عبدالله: الخوان هو شيء محدث فعلته الأعاجم وما كانت العرب لتمتهنها وكانوا يأكلون على السفر واحدها سفرة وهي التي تتخذ من الجلود ولها معاليق تنضم وتنفرج فبالانفراج سميت سفرة لأنها إذا حلت معاليقها انفرجت فأسفرت عما فيها فقيل لها السفرة وإنما سمي السفر سفرا لإسفار الرجل بنفسه عن البيوت وقوله: ولا في سكرجة لأنها أوعية الأصباغ وإنما الأصباغ للألوان ولم تكن من سماتهم الألوان وإنما كان طعامهم الثريد عليه مقطعات اللحم وكان يقول: « انهسوا اللحم نهسا فإنه أشهى وأمرأ » فإن قيل: فقد جاء ذكر المائدة في الأحاديث من ذلك حديث ابن عباس قال: لو كان الضب حراما ما أكل على مائدة النبي صلى الله عليه وسلم؛ خرجه مسلم وغيره. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ تصلي الملائكة على الرجل ما دامت مائدته موضوعة ] خرجه الثقات وقيل: إن المائدة كل شيء يمد ويبسط مثل المنديل والثوب وكان من حقه أن تكون مادة الدال مضعفة فجعلوا إحدى الدالين ياء فقيل: مائدة، والفعل واقع به فكان ينبغي أن تكون ممدودة ولكن خرجت في اللغة مخرج فاعل كما قالوا: سر كاتم وهو مكتوم وعيشة راضية وهي مرضية وكذلك خرج في اللغة ما هو فاعل على مخرج مفعول فقالوا: رجل مشؤوم وإنما هو شائم وحجاب مستور وإنما هو ساتر قال فالخوان هو المرتفع عن الأرض بقوائمه والمائدة ما مد وبسط والسفرة ما أسفر عما في جوفه وذلك لأنها مضمومة بمعاليقها وعن الحسن قال: الأكل على الخوان فعله الملوك وعلى المنديل فعل العجم وعلى السفرة فعل العرب وهو السنة والله أعلم.

 

الآية: 116 ( وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب )

 

قوله تعالى: « وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله » اختلف في وقت هذه المقالة فقال قتادة وابن جريح وأكثر المفسرين: إنما يقال له هذا يوم القيامة وقال السدي وقطرب قال له ذلك حين رفعه إلى السماء وقالت النصارى فيه ما قالت؛ واحتجوا بقوله: « إن تعذبهم فإنهم عبادك » [ المائدة: 118 ] فإن « إذ » في كلام العرب لما مضى. والأول أصح يدل عليه ما قبله من قوله: « يوم يجمع الله الرسل » [ المائدة: 109 ] الآية وما بعده « هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم » [ المائدة: 119 ] . وعلى هذا تكون « إذ » بمعنى « إذا » كقوله تعالى: « ولو ترى إذ فزعوا » [ سبأ: 51 ] أي إذا فزعوا وقال أبو النجم:

ثم جزاه الله عني إذ جزى جنات عدن في السماوات العلا

يعني إذا جزى وقال الأسود بن جعفر الأزدي:

فالآن إذ هازلتهن فإنما يقلن ألا لم يذهب الشيخ مذهبا

يعني إذا هازلتهن فعبر عن المستقبل بلفظ الماضي لأنه لتحقيق أمره وظهور برهانه كأنه قد وقع وفي التنزيل « ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة » [ الأعراف: 50 ] ومثله كثير وقد تقدم. واختلف أهل التأويل في معنى هذا السؤال وليس هو باستفهام وإن خرج مخرج الاستفهام على قولين: أحدهما: أنه سأله عن ذلك توبيخا لمن ادعى ذلك عليه ليكون إنكاره بعد السؤال أبلغ في التكذيب وأشد في التوبيخ والتقريع الثاني: قصد بهذا السؤال تعريفه أن قومه غيروا بعده، وادعوا عليه ما لم يقل فإن قيل فالنصارى لم يتخذوا مريم إلها فكيف قال ذلك فيهم ؟ فقيل: لما كان من قولهم أنها لم تلد بشرا وإنما ولدت إلها لزمهم أن يقولوا إنها لأجل البعضية بمثابة من ولدته، فصاروا حين لزمهم ذلك بمثابة القائلين له.

 

قوله تعالى: « قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته » خرج الترمذي عن أبي هريرة قال: تلقى عيسى حجته ولقاه الله في قوله: « وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله » قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: [ فلقاه الله ] « سبحانك ما يكون لي أن أقوم ما ليس لي بحق » الآية كلها قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح وبدأ بالتسبيح قبل الجواب لأمرين: أحدهما: تنزيها له عما أضيف إليه الثاني خضوعا لعزته وخوفا من سطوته ويقال: إن الله تعالى لما قال لعيسى: « أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله » أخذته الرعدة من ذلك القول حتى سمع صوت عظامه في نفسه فقال: « سبحانك » ثم قال: « ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق » أي أن ادعى لنفسي ما ليس من حقها يعني أنني مربوب ولست برب وعابد ولست بمعبود ثم قال: « إن كنت قلته فقد علمته » فرد ذلك إلى علمه وقد كان الله عالما به أنه لم يقله ولكنه سأله عنه تقريعا لمن اتخذ عيسى إلها. ثم قال: « تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك » أي تعلم ما في غبيي ولا أعلم ما في غيبك وقيل: المعنى تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم وقيل: تعلم ما أخفيه ولا أعلم ما تخفيه وقيل: تعلم ما أريد ولا أعلم ما تريد وقيل: تعلم سري ولا أعلم سرك لأن السر موضعه النفس وقيل: تعلم ما كان مني في دار الدنيا ولا أعلم ما يكون منك في دار الآخرة

قلت: والمعنى في هذه الأقوال متقارب أي تعلم سري وما انطوى عليه ضميري الذي خلقته ولا أعلم شيئا مما استأثرت به من غيبك وعلمك. « إنك أنت علام الغيوب » ما كان وما يكون وما لم يكن وما هو كائن.

 

الآية: 117 ( ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد )

 

قوله تعالى: « ما قلت لهم إلا ما أمرتني به » يعني في الدنيا بالتوحيد. « أن اعبدوا الله » « أن » لا موضع لها من الإعراب وهي مفسرة مثل « وانطلق الملأ منهم أن امشوا » [ ص: 6 ] . ويجوز أن تكون في موضع نصب أي ما ذكرت لهم إلا عبادة الله ويجوز أن تكون في موضع خفض أي بأن اعبدوا الله وضم النون أولى لأنهم يستثقلوا كسرة بعدها ضمة والكسر جائز على أصل التقاء الساكنين.

 

قوله تعالى: « وكنت عليهم شهيدا » أي حفيظا بما أمرتهم. « ما دمت فيهم » « ما » في موضع نصب أي وقت دوامي فيهم. « فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم » قيل: هذا يدل على أن الله عز وجل توفاه أن يرفعه وليس بشيء لأن الأخبار تظاهرت برفعه وأنه في السماء حي وأنه ينزل ويقتل الدجال على ما يأتي بيانه وإنما المعنى فلما رفعتني إلى السماء قال الحسن: الوفاة في كتاب الله عز وجل على ثلاثة أوجه وفاة الموت وذلك قوله تعالى: « الله يتوفى الأنفس حين موتها » [ الزمر: 42 ] يعني وقت انقضاء أجلها. ووفاة النوم قال الله تعالى: « وهو الذي يتوفاكم بالليل » [ الأنعام: 60 ] يعني الذي ينيمكم ووفاة الرفع قال الله تعالى: « يا عيسى إني متوفيك » [ آل عمران: 55 ] . وقوله « كنت أنت » « أنت هنا » توكيد « الرقيب » خبر « كنت » ومعناه الحافظ عليهم والعالم بهم والشاهد على أفعالهم؛ وأصله المراقبة أي المراعاة ومنه المرقبة لأنها في موضع الرقيب من علو المكان. « وأنت على كل شيء شهيد » أي من مقالتي ومقالتهم وقيل على من عصى وأطاع؛ خرج مسلم عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا بموعظة فقال: ( يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا « كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين » [ الأنبياء: 104 ] ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول يا رب أصحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح: « وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم » قال: فيقال لي إنهم لم يزالوا مدبرين مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم )

 

الآية: 118 ( إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم )

 

قوله تعالى: « إن تعذبهم فإنهم عبادك » شرط وجوابه « وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم » مثله روى النسائي عن أبي ذر قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم بآية ليلة حتى أصبح، والآية: « إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم » واختلف في تأويله فقيل: قاله على وجه الاستعطاف لهم والرأفة بهم كما يستعطف السيد لعبده ولهذا لم يقل: فإنهم عصوك وقيل: قاله على وجه التسليم لأمره والاستجارة من عذابه وهو يعلم أنه لا يغفر لكافر وقيل الهاء والميم في « إن تعذبهم » لمن مات منهم على الكفر والهاء والميم في « إن تغفر لهم » لمن تاب منهم قبل الموت وهذا حسن وأما قول من قال إن عيسى عليه السلام لم يعلم أن الكافر لا يغفر له فقول مجترئ على كتاب الله عز وجل لأن الأخبار من الله عز وجل لا تنسخ وقيل: كان عند عيسى أنهم أحدثوا معاصي وعملوا بعده بما لم يأمرهم به إلا أنهم على عمود دينه فقال: وإن تغفر لهم ما أحدثوا بعدي من المعاصي. وقال: « فإنك أنت العزيز الحكيم » ولم يقل: فإنك أنت الغفور الرحيم على ما تقتضيه القصة من التسليم لأمره والتفويض لحكمه. ولو قال: فإنك أنت الغفور الرحيم لأوهم الدعاء بالمغفرة لمن مات على شركه وذلك مستحيل فالتقدير إن تبقهم على كفرهم حتى يموتوا وتعذبهم فإنهم عبادك وإن تهدهم إلى توحيدك وطاعتك فتغفر لهم فإنك أنت العزيز الذي لا يمتنع عليك ما تريده؛ الحكيم فيما تفعله تضل من تشاء وتهدي من تشاء وقد قرأ جماعة: « فإنك أنت الغفور الرحيم » وليست من المصحف ذكره القاضي عياض في كتاب « الشفا » وقال أبو بكر الأنباري: وقد طعن على القرآن من قال إن قوله: « إنك أنت العزيز الحكيم » ليس بمشاكل لقوله: « وإن تغفر لهم » لأن الذي يشاكل المغفرة فإنك أنت الغفور الرحيم والجواب أنه لا يحتمل إلا ما أنزله الله ومتى نقل إلى الذي نقله إليه ضعف معناه؛ فإنه ينفرد الغفور الرحيم بالشرط الثاني فلا يكون له بالشرط الأول تعلق وهو على ما أنزله الله عز وجل واجتمع على قراءته المسلمون مقرون بالشرطين كليهما أولهما وآخرهما إذ تلخيصه إن تعذبهم فإنك أنت عزيز حكيم، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم في الأمرين كليهما من التعذيب والغفران فكان العزيز الحكيم أليق بهذا المكان لعمومه فإنه يجمع الشرطين ولم يصلح الغفور الرحيم إذ لم يحتمل من العموم ما احتمله العزيز الحكيم وما شهد بتعظيم الله تعالى وعدله والثناء عليه في الآية كلها والشرطين المذكورين أولى وأثبت معنى في الآية مما يصلح لبعض الكلام دون بعض خرج مسلم من غير طريق عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قوله عز وجل في إبراهيم « رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم » [ إبراهيم: 36 ] وقال عيسى عليه السلام: « إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم » فرفع يديه وقال: ( اللهم أمتي ) وبكى فقال الله عز وجل: ( يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسله ما يبكيك فأتاه جبريل عليه السلام فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك ) وقال بعضهم: في الآية تقديم وتأخير ومعناه إن تعذبهم فإنك أنت العزيز الحكيم وإن تغفر لهم فإنهم عبادك ووجه الكلام على نفسه أولى لما بيناه وبالله التوفيق.

 

الآية: 119 ( قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم )

 

قوله تعالى: « قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم » أي صدقهم في الدنيا فأما في الآخرة فلا ينفع فيها الصدق وصدقهم في الدنيا يحتمل أن يكون صدقهم في العمل لله ويحتمل أن يكون تركهم الكذب عليه وعلى رسله لله وإنما ينفعهم الصدق في ذلك اليوم وإن كان نافعا في كل الأيام لوقوع الجزاء فيه وقيل: المراد صدقهم في الآخرة وذلك في الشهادة لأنبيائهم بالبلاغ وفيما شهدوا به على أنفسهم من أعمالهم ويكون وجه النفع فيه أن يكفوا المؤاخذة بتركهم كتم الشهادة فيغفر لهم بإقرارهم لأنبيائهم وعلى أنفسهم والله أعلم وقرأ نافع وابن محيصن « يوم » بالنصب ورفع الباقون وهي القراءة البينة على الابتداء والخبر فيوم ينفع خبر لـ « هذا » والجملة في موضع نصب بالقول. وأما قراءة نافع وابن محيصن فحكى إبراهيم بن حميد عن محمد بن يزيد أن هذه القراءة لا تجوز لأنه نصب خبر الابتداء ولا يجوز فيه البناء وقال إبراهيم بن السري: هي جائزة بمعنى قال الله هذا لعيسى ابن مريم يوم ينفع الصادقين صدقهم فـ « يوم » ظرف للقول و « هذا » مفعول القول والتقدير قال الله هذا القول في يوم ينفع الصادقين وقيل: التقدير قال الله عز وجل هذه الأشياء تنفع يوم القيامة وقال الكسائي والفراء: بني يوم ههنا على النصب لأنه مضاف إلى غير اسم؛ كما تقول: مضى يومئذ وأنشد الكسائي:

على حين عاتبت المشيب على الصبا وقلت ألما أصح والشيب وازع

الزجاج ولا يجيز البصريون ما قالاه إذا أضفت الظرف إلى فعل مضارع فإن كان إلى ماض كان جيدا كما مر في البيت وإنما جاز أن يضاف الفعل إلى ظروف الزمان لأن الفعل بمعنى المصدر وقيل: يجوز أن يكون منصوبا ظرفا ويكون خبر الابتداء الذي هو « هذا » لأنه مشار به إلى حدث، وظروف الزمان تكون أخبارا عن الأحداث تقول: القتال اليوم والخروج الساعة، والجملة في موضع نصب بالقول وقيل: يجوز أن يكون « هذا » في موضع رفع بالابتداء و « يوم » خبر الابتداء والعامل فيه محذوف والتقدير: قال الله هذا الذي قصصناه يقع يوم ينفع الصادقين صدقهم. وفيه قراءة ثالثة « يوم ينفع » بالتنوين « الصادقين صدقهم » في الكلام حذف تقديره « فيه » مثل قوله: « واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا » [ البقرة: 48 ] وهي قراءة الأعمش.

 

قوله تعالى: « لهم جنات » ابتداء وخبر. « تجري » في موضع الصفة. « من تحتها » أي من تحت غرفها وأشجارها وقد تقدم ثم بين تعالى ثوابهم وأنه راض عنهم رضا لا يغضب بعده أبدا « ورضوا عنه » أي عن الجزاء الذي أثابهم به. « ذلك الفوز » أي الظفر « العظيم » أي الذي عظم خيره وكثر وارتفعت منزلة صاحبه وشرف.

 

الآية: 120 ( لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير )

 

قوله تعالى: « لله ملك السماوات والأرض » الآية جاء هذا عقب ما جرى من دعوى النصارى في عيسى أنه إله فأخبر تعالى أن ملك السماوات والأرض له دون عيسى ودون سائر المخلوقين. ويجوز أن يكون المعنى أن الذي له ملك السماوات والأرض يعطي الجنات المتقدم ذكرها للمطيعين من عباده جعلنا الله منهم بمنه وكرمه. تمت سورة « المائدة » بحمد الله تعالى.

 

سورة الأنعام

مقدمة السورة

 

سورة الأنعام مكية في قوله الأكثرين قال ابن عباس وقتادة: هي مكية كلها إلا آيتين منها نزلتا بالمدينة، قوله تعالى: « وما قدروا الله حق قدره » [ الأنعام: 91 ] نزلت في مالك بن الصيف وكعب بن الأشرف اليهوديين والأخرى قوله: « وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات » [ الأنعام: 141 ] نزلت في ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري وقال ابن جريج: نزلت في معاذ بن جبل وقال الماوردي وقال الثعلبي سورة « الأنعام » مكية إلا ست آيات نزلت بالمدينة « وما قدروا الله حق قدره » إلى آخر ثلاث آيات و « قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم » [ الأنعام: 151 ] إلى آخر ثلاث آيات قال ابن عطية: وهي الآيات المحكمات وذكر ابن العربي: أن قوله تعالى: « قل لا أجد » نزل بمكة يوم عرفة وسيأتي القول في جميع ذلك إن شاء الله وفي الخبر أنها نزلت جملة واحدة غير الست الآيات وشيعها سبعون ألف ملك مع آية واحدة منها اثنا عشر ألف ملك وهي « وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو » [ الأنعام: 59 ] نزلوا بها ليلا لهم زجل بالتسبيح والتحميد فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب فكتبوها من ليلتهم وأسند أبو جعفر النحاس قال: حدثنا محمد بن يحيى حدثنا أبو حاتم روح بن الفرج مولى الحضارمة قال حدثنا أحمد بن محمد أبو بكر العمري حدثنا ابن أبي فديك حدثني عمر بن طلحة بن علقمة بن وقاص عن نافع أبي سهل بن مالك عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( نزلت سورة الأنعام معها موكب من الملائكة سد ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح ) والأرض لهم ترتج ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( سبحان ربي العظيم ) ثلاث مرات وذكر الدارمي أبو محمد في مسنده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: الأنعام من عجائب القرآن. وفيه عن كعب قال: فاتحة « التوراة » فاتحة الأنعام وخاتمتها خاتمة « هود » . وقاله وهب بن منبه أيضا وذكر المهدوي قال المفسرون إن « التوراة » افتتحت بقوله: « الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض » [ الأنعام: 1 ] الآية وختمت بقوله « الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك » [ الإسراء: 111 ] إلى آخر الآية وذكر الثعلبي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من قرأ ثلاث آيات من أول سورة « الأنعام » إلى قوله: « ويعلم ما تكسبون » [ الأنعام: 3 ] وكل الله به أربعين ألف ملك يكتبون له مثله عبادتهم إلى يوم القيامة وينزل ملك من السماء السابعة ومعه مرزبة من حديد، فإذا أراد الشيطان أن يوسوس له أو يوحي في قلبه شيئا ضربه ضربة فيكون بينه وبينه سبعون حجابا فإذا كان يوم القيامة قال الله تعالى: « امش في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي وكل من ثمار جنتي واشرب من ماء الكوثر واغتسل من ماء السلسبيل فأنت عبدي وأنا ربك » . وفي البخاري عن ابن عباس قال: إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة « الأنعام » « قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم » إلى قوله: « وما كانوا مهتدين » [ الأنعام: 140 ] .

تنبيه: قال العلماء: هذه السورة أصل في محاجة المشركين وغيرهم من المبتدعين ومن كذب بالبعث والنشور وهذا يقتضي إنزالها جملة واحدة لأنها في معنى واحد من الحجة وإن تصرف ذلك بوجوه كثيرة وعليها بنى المتكلمون أصول الدين لأن فيها آيات بينات ترد على القدرية دون السور التي تذكر والمذكورات وسنزيد ذلك بيانا إن شاء الله بحول الله تعالى وعونه.

 

الآية: 1 ( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون )

 

قوله تعالى: « الحمد لله » بدأ سبحانه فاتحتها بالحمد على نفسه وإثبات الألوهية أي أن الحمد كله له فلا شريك له فإن قيل: فقد افتتح غيرها بالحمد لله فكان الاجتزاء بواحدة يغني عن سائره فيقال: لأن لكل واحدة منه معنى في موضعه لا يؤدي عنه غيره من أجل عقده بالنعم المختلفة وأيضا فلما فيه من الحجة في هذا الموضع على الذين هم بربهم يعدلون. وقد تقدم معنى « الحمد » في الفاتحة.

 

قوله تعالى: « الذي خلق السماوات والأرض » أخبر عن قدرته وعلمه وإرادته فقال: الذي خلق أي اخترع وأوجد وأنشأ وابتدع والخلق يكون بمعنى الاختراع ويكون بمعنى التقدير، وقد تقدم وكلاهما مراد هنا وذلك دليل على حدوثهما فرفع السماء بغير عمد وجعلها مستوية من غير أود وجعل فيها الشمس والقمر آيتين وزينها بالنجوم وأودعها السحاب والغيوم علامتين وبسط الأرض وأودعها الأرزاق والنبات وبث فيها من كل دابة آيات جعل فيها الجبال أوتادا وسبلا فجاجا وأجرى فيها الأنهار والبحار وفجر فيها العيون من الأحجار دلالات على وحدانيته، وعظيم قدرته وأنه هو الله الواحد القهار وبين بخلقه السماوات والأرض أنه خالق كل شيء.

 

خرج مسلم قال: حدثني سريج بن يونس وهارون بن عبدالله قالا حدثنا حجاج بن محمد قال قال ابن جريج أخبرني إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن عبدالله بن رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة قال أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: ( خلق الله عز وجل التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل ) .

قلت: أدخل العلماء هذا الحديث تفسيرا لفاتحة هذه السورة؛ قال البيهقي: وزعم أهل العلم بالحديث أنه غير محفوظ لمخالفة ما عليه أهله التفسير وأهله التواريخ. وزعم بعضهم أن إسماعيل بن أمية إنما أخذه عن إبراهيم بن أبي يحيى عن أيوب بن خالد وإبراهيم غير محتج به وذكر محمد بن يحيى قال: سألت علي بن المديني عن حديث أبى هريرة ( خلق الله التربة يوم السبت ) . فقال علي: هذا حديث مدني رواه هشام بن يوسف عن ابن جريج عن إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن أبي رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي قال علي: وشبك بيدي إبراهيم بن أبي يحيى فقال لي: شبك بيدي أيوب بن خالد وقال لي شبك بيدي عبدالله بن رافع وقال لي: شبك بيدي أبو هريرة وقال لي: شبك بيدي أبو القاسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( خلق الله الأرض يوم السبت ) فذكر الحديث بنحوه. قال علي بن المديني: وما أرى إسماعيل بن أمية أخذ هذا الأمر إلا من إبراهيم بن أبي يحيى قال البيهقي: وقد تابعه على ذلك موسى بن عبيدة الربذي عن أيوب بن خالد إلا أن موسى بن عبيدة ضعيف. وروي عن بكر بن الشرود عن إبراهيم بن أبي يحيى عن صفوان بن سليم عن أيوب بن خالد وإسناده ضعيف عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن في الجمعة ساعة لا يوافقها أحد يسأل الله عز وجل فيها شيئا إلا أعطاه إياه ) قال فقال عبدالله بن سلام: إن الله عز وجل ابتدأ الخلق فخلق الأرض يوم الأحد ويوم الاثنين وخلق السماوات يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء وخلق الأقوات وما في الأرض يوم الخميس ويوم الجمعة إلى صلاة العصر وما بين صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس خلق آدم خرجه البيهقي

قلت: وفيه أن الله تعالى بدأ الخلق يوم الأحد لا يوم السبت وكذلك تقدم في « البقرة » عن ابن مسعود وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وتقدم فيها أن الاختلاف أيما خلق أولا الأرض أم السماء مستوفى. والحمد لله.

 

قوله تعالى: « وجعل الظلمات والنور » ذكر بعد خلق الجواهر خلق الأعراض لكون الجوهر لا يستغني عنه وما لا يستغني عن الحوادث فهو حادث. والجوهر في اصطلاح المتكلمين هو الجزء الذي لا يتجزأ الحامل للعرض وقد أتينا على ذكره في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى في اسمه « الواحد » وسمي العرض عرضا لأنه يعرض في الجسم والجوهر فيتغير به من حال إلى حال والجسم هو المجتمع وأقل ما يقع عليه اسم الجسم جوهران مجتمعان وهذه الاصطلاحات وإن لم تكن موجودة في الصدر الأول فقد دل عليها معنى الكتاب والستة فلا معنى لإنكارها وقد استعملها العلماء واصطلحوا عليها وبنوا عليها كلامهم وقتلوا بها خصومهم

واختلف العلماء في المعنى المراد بالظلمات والنور فقال السدي وقتادة وجمهور المفسرين: المراد سواد الليل وضياء النهار وقال الحسن الكفر والإيمان قال ابن عطية: وهذا خروج عن الظاهر.

قلت: اللفظ يعمه وفي التنزيل: « أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات » [ الأنعام: 122 ] . والأرض هنا اسم للجنس فإفرادها في اللفظ بمنزلة جمعها وكذلك « والنور » ومثله « ثم يخرجكم طفلا » [ غافر: 67 ] وقال الشاعر:

كلوا في بعض بطنكم تعفوا

وقد تقدم وجعل هنا بمعنى خلق لا يجوز غيره قاله ابن عطية.

قلت: وعليه يتفق اللفظ والمعنى في النسق فيكون الجمع معطوفا على الجميع والمفرد معطوفا على المفرد فيتجانس اللفظ وتظهر الفصاحة والله أعلم وقيل: جمع « الظلمات » ووحد « النور » لأن الظلمات لا تتعدى والنور يتعدى وحكى الثعلبي أن بعض أهل المعاني قال: « جعل » هنا زائدة والعرب تزيد « جعل » في الكلام كقول الشاعر:

وقد جعلت أرى الاثنين أربعة والواحد اثنين لما هدني الكبر

قال النحاس: جعل بمعنى خلق وإذا كانت بمعنى خلق لم تتعد إلا إلى مفعول واحد.

 

قوله تعالى: « ثم الذين كفروا بربهم يعدلون » ابتداء وخبر والمعنى: ثم الذين كفروا يجعلون لله عدلا وشريكا وهو الذي خلق هذه الأشياء وحده قال ابن عطية: فـ « ثم » دالة على قبح فعل الكافرين لأن المعنى: أن خلقه السماوات والأرض قد تقرر وآياته قد سطعت وإنعامه بذلك قد تبين ثم بعد ذلك كله عدلوا بربهم فهذا كما تقول: يا فلان أعطيتك وأكرمتك وأحسنت إليك ثم تشتمني ولو وقع العطف بالواو في هذا ونحوه لم يلزم التوبيخ كلزومه بثم والله أعلم.

 

الآية: 2 ( هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون )

 

قوله تعالى: « هو الذي خلقكم من طين » الآية خبر وفي معناه قولان: أحدهما: وهو الأشهر وعليه من الخلق الأكثر أن المراد آدم عليه السلام والخلق نسله والفرع يضاف إلى أصله فلذلك قال: « خلقكم » بالجمع فأخرجه مخرج الخطاب لهم إذ كانوا ولده؛ هذا قول الحسن وقتادة وابن أبي نجيح والسدي والضحاك وابن زيد وغيرهم الثاني: أن تكون النطفة خلقها الله من طين على الحقيقة ثم قلبها حتى كان الإنسان منها ذكره النحاس.

قلت: وبالجملة فلما ذكر جل وعز خلق العالم الكبير ذكر بعده خلق العالم الصغير وهو الإنسان وجعل فيه ما في العالم الكبير على ما بيناه في « البقرة » في آية التوحيد والله أعلم والحمد لله وقد روى أبو نعيم الحافظ في كتابه عن مرة عن ابن مسعود أن الملك الموكل بالرحم يأخذ النطفة فيضعها على كفه ثم يقول: يا رب مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قال مخلقة قال: يا رب ما الرزق ما الأثر ما الأجل؟ فيقول: انظر في أم الكتاب فينظر اللوح المحفوظ فيجد فيه رزقه وأثره وأجله وعمله ويأخذ التراب الذي يدفن في بقعته ويعجن به نطفته فذلك قوله تعالى: « منها خلقناكم وفيها نعيدكم » [ طه: 55 ] . وخرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما من مولود إلا وقد ذر عليه من تراب حفرته » .

قلت: وعلى هذا يكون كله إنسان مخلوقا من طين وماء مهين كما أخبر جل وعز في سورة « المؤمنون » فتنتظم الآيات والأحاديث ويرتفع الإشكال والتعارض والله أعلم وأما الإخبار عن خلق آدم عليه السلام فقد تقدم في « البقرة » ذكره واشتقاقه ونزيد هنا طرفا من ذلك ونعته وسنه ووفاته ذكر ابن سعد في « الطبقات » عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الناس ولد آدم وآدم من التراب ) وعن سعيد بن جبير قال: خلق الله آدم عليه السلام من أرض يقال لها دجناء قال الحسن: وخلق جؤجؤه من ضرية قال الجوهري: ضرية قرية لبني كلاب على طريق البصرة وهي إلى مكة أقرب وعن ابن مسعود قال: إن الله تعالى بعث إبليس فأخذ من أديم الأرض من عذبها ومالحها فخلق منه آدم عليه السلام فكل شيء خلقه من عذبها فهو صائر إلى الجنة وإن كان ابن كافر وكل شيء خلقه من مالحها فهو صائر إلى النار وإن كان ابن تقي فمن ثم قال إبليس « أأسجد لمن خلقت طينا » [ الإسراء: 61 ] لأنه جاء بالطينة فسمي آدم؛ لأنه خلق من أديم الأرض وعن عبدالله بن سلام قال خلق الله آدم في آخر يوم الجمعة وعن ابن عباس قال لما خلق الله آدم كان رأسه يمس السماء قال فوطده إلى الأرض حتى صار ستين ذراعا في سبعة أذرع عرضا وعن أبي بن كعب قال: كان آدم عليه السلام طوالا جعدا كأنه نخلة سحوق وعن ابن عباس في حديث فيه طول وحج آدم عليه السلام من الهند إلى مكة أربعين حجة على رجليه وكان آدم حين أهبط تمسح رأسه السماء فمن ثم صلع وأورث ولده الصلع ونفرت من طول دواب البر فصارت وحشا من يومئذ ولم يمت حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفا وتوفي على ذروة الجبل الذي أنزل عليه فقال شيث لجبريل عليهما السلام: « صل على آدم » فقال له جبريل عليه السلام: تقدم أنت فصل على أبيك وكبر عليه ثلاثين تكبيرة فأما خمس فهي الصلاة وخمس وعشرون تفضيلا لآدم. وقيل: كبر عليه أربعا فجعل بنو شيث آدم في مغارة وجعلوا عليها حافظا لا يقربه أحد من بني قابيل وكان الذين يأتونه ويستغفرون له بنو شيث وكان عمر آدم تسعمائة سنة وستا وثلاثين سنة. ويقال: هل في الآية دليل على أن الجواهر من جنس واحد؟ الجواب نعم لأنه إذا جاز أن ينقلب الطين إنسانا حيا قادرا عليما جار أن ينقلب إلى كل حال من أحواله الجواهر لتسوية العقل بين ذلك في الحكم وقد صح انقلاب الجماد إلى الحيوان بدلالة هذه الآية.

 

قوله تعالى: « ثم قضى أجلا » مفعول. « وأجل مسمى عنده » ابتداء وخبر قال الضحاك: « أجلا » في الموت « وأجل مسمى عنده » أجل القيامة فالمعنى على هذا: حكم أجلا وأعلمكم أنكم تقيمون إلى الموت ولم يعلمكم بأجل القيامة. وقال الحسن ومجاهد وعكرمة وخصيف وقتادة وهذا لفظ الحسن: قضى أجل الدنيا من يوم خلقك إلى أن تموت « وأجل مسمى عنده » يعني الآخرة. وقيل: « قضى أجلا » ما أعلمناه من أنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم ( وأجل مسمى ) من الآخرة وقيل: « قضى أجلا » مما نعرفه من أوقات الأهلة والزرع وما أشبههما « وأجل مسمى » أجل الموت لا يعلم الإنسان متى يموت وقال ابن عباس ومجاهد: معنى الآية « قضى أجلا » بقضاء الدنيا، « وأجل مسمى عنده » لابتداء الآخرة. وقيل: الأول قبض الأرواح في النوم والثاني قبض الروح عند الموت عن ابن عباس أيضا.

 

قوله تعالى: « ثم أنتم تمترون » ابتداء وخبر أي تشكون في أنه إله واحد وقيل: تمارون في ذلك أي تجادلون جدال الشاكين والتماري المجادلة على مذهب الشك ومنه قوله تعالى: « أفتمارونه على ما يرى » [ النجم: 12 ] .

 

الآيات: 3 - 5 ( وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون، وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين، فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون )

 

قوله تعالى: « وهو الله في السماوات وفي الأرض » يقال: ما عامل الإعراب في الظرف من « في السماوات وفى الأرض » ؟ ففيه أجوبة: أحدها: أي وهو الله المعظم أو المعبود في السماوات وفي الأرض؛ كما تقول: زيد الخليفة في الشرق والغرب أي حكمه ويجوز أن يكون المعنى وهو الله المنفرد بالتدبير في السماوات وفي الأرض؛ كما تقول: هو في حاجات الناس وفي الصلاة ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر ويكون المعنى: وهو الله في السماوات وهو الله في الأرض. وقيل: المعنى وهو الله يعلم سركم وجهركم في السماوات وفي الأرض فلا يخفى عليه شيء؛ قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل فيه وقال محمد بن جرير: وهو الله في السماوات ويعلم سركم وجهركم في الأرض فيعلم مقدم في الوجهين والأول أسلم وأبعد من الإشكال وقيل غير هذا والقاعدة تنزيهه جل وعز عن الحركة والانتقال وشغل الأمكنة. « ويعلم ما تكسبون » أي من خير وشر والكسب الفعل لاجتلاب نفع أو دفع ضرر ولهذا لا يقال لفعل الله كسب.

 

قوله تعالى: « وما تأتيهم من آية » أي علامة كانشقاق القمر ونحوها. و « من » لاستغراق الجنس؛ تقول: ما في الدار من أحد. « من آيات ربهم » « من » الثانية للتبعيض. و « معرضين » خبر « كانوا » والإعراض ترك النظر في الآيات التي يجب أن يستدلوا بها على توحيد الله جل وعز من خلق السماوات والأرض وما بينهما وأنه يرجع إلى قديم حي غني عن جميع الأشياء قادر لا يعجزه شيء عالم لا يخفى عليه شيء من المعجزات التي أقامها لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ ليستدل بها على صدقه في جميع ما أتى به.

 

قوله تعالى: « فقد كذبوا » يعني مشركي مكة. « بالحق » يعني القرآن، وقيل: بمحمد صلى الله عليه وسلم. « فسوف يأتيهم » أي يحل بهم العقاب؛ وأراد بالأنباء وهي الأخبار العذاب؛ كقولك اصبر وسوف يأتيك الخبر أي العذاب؛ والمراد ما نالهم يوم بدر ونحوه. وقيل: يوم القيامة.

 

الآية: 6 ( ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين )

 

قوله تعالى: « ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن » « كم » في موضع نصب بأهلكنا لا بقوله « ألم يروا » لأن لفظ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، وإنما يعمل فيه ما بعده من أجل أن له صدر الكلام. والمعنى: ألا يعتبرون بمن أهلكنا من الأمم قبلهم لتكذيبهم أنبياءهم أي ألم يعرفوا ذلك والقرن الأمة من الناس. والجمع القرون؛ قال الشاعر:

إذا ذهب القرن الذي كنت فيهم وخلفت في قرن فأنت غريب

فالقرن كله عالم في عصره مأخوذ من الاقتران أي عالم مقترن به بعضهم إلى بعض؛ وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خير الناس قرني يعني أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) هذا أصح ما قيل فيه. وقيل: المعنى من أهل قرن فحذف كقوله: « واسأل القرية » [ يوسف: 82 ] . فالقرن على هذا مدة من الزمان؛ قيل: ستون عاما وقيل سبعون، وقيل: ثمانون؛ وقيل: مائة؛ وعليه أكثر أصحاب الحديث أن القرن مائة سنة؛ واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبدالله بن بسر: « تعيش قرنا » فعاش مائة سنة؛ ذكره النحاس. وأصل القرن الشيء الطالع كقرن ما له قرن من الحيوان. « مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم » خروج من الغيبة إلى الخطاب؛ عكسه « حتى إذا كنتم في الفلك وجرين؛ بهم بريح طيبة » [ يونس: 22 ] . وقال أهل البصرة أخبر عنهم بقوله « ألم يروا » وفيهم محمد عليه السلام وأصحابه؛ ثم خاطبهم معهم؛ والعرب تقول: قلت لعبدالله ما أكرمه: وقلت لعبدالله ما أكرمك؛ ولو جاء على ما تقدم من الغيبة لقال: ما لم نمكن لهم. ويجوز مكنه ومكن له؛ فجاء باللغتين جميعا؛ أي أعطيناهم ما لم نعطكم من الدنيا. « وأرسلنا السماء عليهم مدرارا » يريد المطر الكثير؛ عبر عنه بالسماء لأنه من السماء ينزل؛ ومنه قوله الشاعر:

إذا سقط السماء بأرض قوم

و « مدرارا » بناء دال على التكثير؛ كمذكار للمرأة التي كثرت ولادتها للذكور؛ ومئناث للمرأة التي تلد الإناث؛ يقال: در اللبن يدر إذا أقبل على الحالب بكثرة. وانتصب « مدارا » على الحال. « وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم » أي من تحت أشجارهم ومنازلهم؛ ومنه قوله فرعون: « وهذه الأنهار تجري من تحتي » [ الزخرف: 51 ] والمعنى: وسعنا عليهم النعم فكفروها. « فأهلكناهم بذنوبهم » أي بكفرهم فالذنوب سبب الانتقام وزوال النعم. « وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين » أي أوجدنا؛ فليحذر هؤلاء من الإهلاك أيضا.

 

الآية: 7 ( ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين )

 

قوله تعالى: « ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس » الآية. المعنى: ولو نزلنا يا محمد بمرأى منهم كما زعموا وطلبوا كلاما مكتوبا « في قرطاس » وعن ابن عباس: كتابا معلقا بين السماء والأرض وهذا يبين لك أن التنزيل على وجهين؛ أحدهما: على معنى نزله عليك الكتاب بمعنى نزول الملك به. والآخر: ولو نزلنا كتابا في قرطاس من يمسكه الله بين السماء والأرض؛ وقال: « نزلنا » على المبالغة بطول مكث الكتاب بين السماء والأرض والكتاب مصدر بمعنى الكتابة فبين أن الكتابة في قرطاس؛ لأنه غير معقول كتابة إلا في قرطاس أي في صحيفة والقرطاس الصحيفة؛ ويقال: قرطاس بالضم؛ وقرطس فلان إذا رمى فأصاب الصحيفة الملزقة بالهدف. « فلمسوه بأيديهم » أي فعاينوا ذلك ومسوه باليد كما اقترحوا وبالغوا في ميزه وتقليبه جسا بأيديهم ليرتفع كل ارتياب ويزول عنهم كله إشكال، لعاندوا فيه وتابعوا كفرهم، وقالوا: سحر مبين إنما سكرت أبصارنا وسحرنا؛ وهذه الآية جواب لقولهم: « حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه » [ الإسراء: 93 ] فأعلم الله بما سبق في علمه من أنه لو نزل لكذبوا به. قال الكلبي: نزلت في النضر بن الحرث وعبدالله بن أبي أمية ونوفل بن خويلد قالوا: « لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا » [ الإسراء: 90 ] الآية.

الآية [ 8 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات: 8 - 10 ( وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون، ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون، ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون )

 

قوله تعالى: « وقالوا لولا أنزل عليه ملك » اقترحوا هذا أيضا و « لولا » بمعنى هلا. « ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر » قال ابن عباس: لو رأوا الملك على صورته لماتوا إذ لا يطيقون رؤيته. مجاهد وعكرمة: لقامت الساعة. قال الحسن وقتادة: لأهلكوا بعذاب الاستئصال؛ لأن الله أجرى سنته بأن من طلب آية فأظهرت له فلم يؤمن أهلكه الله في الحال. « ثم لا ينظرون » أي لا يمهلون ولا يؤخرون.

 

قوله تعالى: « ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا » أي لا يستطيعون أن يروا الملك في صورته إلا بعد التجسم بالأجسام الكثيفة؛ لأن كله جنس يأنس بجنسه وينفر من غير جنسه؛ فلو جعل الله تعالى الرسول إلى البشر ملكا لنفروا من مقاربته، ولما أنسوا به، ولداخلهم من الرعب من كلامه والاتقاء له ما يكفهم عن كلامه، ويمنعهم عن سؤاله، فلا تعم المصلحة؛ ولو نقله عن صورة الملائكة إلى مثل صورتهم ليأنسوا به وليسكنوا إليه لقالوا: لست ملكا وإنما أنت بشر فلا نؤمن بك وعادوا إلى مثل حالهم. وكانت الملائكة تأتي الأنبياء في صورة البشر فأتوا إبراهيم ولوطا في صورة الآدميين، وأتى جبريل النبي عليه الصلاة والسلام في صورة دحية الكلبي. أي لو أنزل ملك لرأوه في صورة رجل كما جرت عادة الأنبياء، ولو نزل على عادته لم يروه؛ فإذا جعلناه رجلا التبس عليهم فكانوا يقولون: هذا ساحر مثلك. وقال الزجاج: المعنى « وللبسنا عليهم » أي على رؤسائهم كما يلبسون على ضعفتهم وكانوا يقولون لهم إنما محمد بشروا وليس بينه وبينكم فروق فيلبسون عليهم بهذا ويشككونهم؛ فأعلمهم الله عز وجل أنه لو أنزل في ملكا في صورة رجل لوجدوا سبيلا إلى اللبس كما يفعلون. واللبس الخلط؛ يقال: لبست عليه الأمر ألبسه لبسا أي خلطته؛ وأصله التستر بالثوب ونحوه وقال: « لبسنا » بالإضافة إلى نفسه على جهة الخلق، وقال « ما يلبسون » فأضاف إليهم على جهة الاكتساب. ثم قال مؤنسا لنبيه عليه الصلاة والسلام ومعزيا: « ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق » أي نزل بأممهم من العذاب ما أهلكوا به جزاء استهزائهم بأنبيائهم. حاق بالشيء يحيق حيقا وحيوقا وحيقانا نزل؛ قال الله تعالى: « ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله » [ فاطر: 43 ] و « ما » في قوله: « ما كانوا » بمعنى الذي وقيل: بمعنى المصدر أي حاق بهم عاقبة استهزائهم.

 

الآيتان: 11 - 12 ( قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين، قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون )

 

قوله تعالى: « قل سيروا في الأرض » أي قل يا محمد لهؤلاء المستهزئين المستسخرين المكذبين: سافروا في الأرض فانظروا واستخبروا لتعرفوا ما حل بالكفرة قبلكم من العقاب وأليم العذاب وهذا السفر مندوب إليه إذا كان على سبيل الاعتبار بآثار من خلا من الأمم وأهل الديار، والعاقبة آخر الأمر. والمكذبون هنا من كذب الحق وأهله لا من كذب بالباطل.

 

قوله تعالى: « قل لمن ما في السماوات والأرض » هذا أيضا احتجاج عليهم؛ المعنى قل لهم يا محمد: « لمن في السماوات والأرض » فإن قالوا لمن هو؟ فقل هو « لله » المعنى: إذا ثبت أن له ما في السماوات والأرض وأنه خالق الكل إما باعترافهم أو بقيام الحجة عليهم، فالله قادر على أن يعاجلهم بالعقاب ويبعثهم بعد الموت، ولكنه « كتب على نفسه الرحمة » أي وعد بها فضلا منه وكرما فلذلك أمهل وذكر النفس هنا عبارة عن وجود وتأكيد وعده، وارتفاع الوسائط دونه؛ ومعنى الكلام الاستعطاف منه تعالى للمتولين عنه إلى الإقبال إليه، وإخبار منه سبحانه بأنه رحيم بعباده لا يعجل عليهم بالعقوبة، ويقبل منهم الإنابة والتوبة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسوله الله صلى الله عليه وسلم: ( لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه فهو موضوع عنده إن رحمتي تغلب غضبي ) أي لما أظهر قضاءه وأبرزه لمن شاء أظهر كتابا في اللوح المحفوظ أو فيما شاءه مقتضاه خبر حق ووعد صدق « إن رحمتي تغلب غضبي » أي تسبقه وتزيد عليه.

 

قوله تعالى: « ليجمعنكم » اللام لام القسم، والنون نون التأكيد. وقال الفراء وغيره: يجوز أن يكون تمام الكلام عند قوله: « الرحمة » ويكون ما بعده مستأنفا على جهة التبيين؛ فيكون معنى « ليجمعنكم » ليمهلنكم وليؤخرن جمعكم. وقيل: المعنى ليجمعنكم أي في القبور إلى اليوم الذي أنكرتموه. وقيل: ( إلى ) بمعنى في، أي ليجعنكم في يوم القيامة. وقيل: يجوز أن يكون موضع « ليجمعنكم » نصبا على البدل من الرحمة؛ فتكون اللام بمعنى ( أن ) المعنى: كتب ربكم على نفسه ليجمعنكم، أي أن يجمعكم؛ وكذلك قال كثير من النحويين في قوله تعالى: « ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه » [ يوسف: 35 ] أي أن يسجنوه. وقيل: موضعه نصب ( بكتب ) ؛ كما تكون ( أن ) في قوله عز وجل « كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة » [ الأنعام: 54 ] وذلك أنه مفسر للرحمة بالإمهال إلى يوم القيامة؛ عن الزجاج. « لا ريب فيه » لا شك فيه. « الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون » ابتداء وخبر، قاله الزجاج، وهو أجود ما قيل فيه؛ تقول: الذي يكرمني فله درهم، فالفاء تتضمن معنى الشرط والجزاء. وقال الأخفش: إن شئت كان ( الذين ) في موضع نصب على البدل من الكاف والميم في ( ليجمعنكم ) أي ليجمعن المشركين الذين خسروا أنفسهم؛ وأنكروه المبرد وزعم أنه خطأ؛ لأنه لا يبدل من المخاطب ولا من المخاطب، لا يقال: مررت بك زيد ولا مررت بي زيد لأن هذا لا يشكل فيبين. قال القتبي: يجوز أن يكون ( الذين ) جزاء على البدل من ( المكذبين ) الذين تقدم ذكرهم. أو على النعت لهم. وقيل: ( الذين ) نداء مفرد.

 

الآيات: 13 - 16 ( وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم، قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين، قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم، من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين )

 

قوله تعالى: « وله ما سكن في الليل والنهار » أي ثبت، وهذا احتجاج عليهم أيضا. وقيل: نزلت الآية لأنهم قالوا: علمنا أنه ما يحملك على ما تفعل إلا الحاجة، فنحن نجمع لك من أموالنا حتى تصير أغنانا؛ فقال الله تعالى: أخبرهم أن جميع الأشياء لله، فهو قادر على أن يغنيني. و ( سكن ) معناه هدأ واستقر؛ والمراد ما سكن وما تحرك، فحذف لعلم السامع. وقيل: خص الساكن بالذكر لان ما يعمه السكون أكثر مما تعمه الحركة. وقيل المعنى ما خلق، فهو عام في جميع المخلوقات متحركها وساكنها، فإنه يجري عليه الليل والنهار؛ وعلى هذا فليس المراد بالسكون ضد الحركة بل المراد الخلق، وهذا أحسن ما قيل؛ لأنه يجمع شتات الأقوال. « وهو السميع » لأصواتهم « العليم » بأسرارهم.

 

قوله تعالى: « قل أغير الله أتخذ وليا » مفعولان؛ لما دعوه إلى عبادة الأصنام دين آبائه أنزل الله تعالى « قل » يا محمد: « أغير الله اتخذ وليا » أي ربا ومعبودا وناصرا دون الله. « فاطر السماوات والأرض » بالخفض على النعت لاسم الله؛ وأجاز الأخفش الرفع على إضمار مبتدأ. وقال الزجاج: ويجوز النصب على المدح. أبو علي الفارسي: ويجوز نصبه على فعل مضمر كأنه قال: اترك فاطر السماوات والأرض؟ لأن قوله: « أغير الله اتخذ وليا » يدل على ترك الولاية له، وحسن إضماره لقوة هذه الدلالة. « وهو يطعم ولا يطعم » كذا قراءة العامة، أي يرزق ولا يرزق؛ دليله على قوله تعالى: « ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون » [ الذاريات:57 ] وقرأ سعيد بن جبير ومجاهد والأعمش: وهو يطعم ولا يطعم، وهي قراءة حسنة؛ أي أنه يرزق عباده، وهو سبحانه غير محتاج إلى ما يحتاج إليه المخلوقون من الغذاء. وقرئ بضم الياء وكسر العين في الفعلين، أي إن الله يطعم عباده ويرزقهم والولي لا يطعم نفسه ولا من يتخذه. وقرئ بفتح الياء والعين في الأول أي الولي ( ولا يطعم ) بضم الياء وكسر العين. وخص الإطعام بالذكر دون غيره من ضروب الإنعام؛ لأن الحاجة إليه أمس لجميع الأنام. « قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم » أي استسلم لأمر الله تعالى. وقيل: أول من أخلص أي من قومي وأمتي؛ عن الحسن وغيره. « ولا تكونن من المشركين » أي وقيل لي: « ولا تكونن من المشركين » . « قل إني أخاف إن عصيت ربي » أي بعبادة غيره أن يعذبني، والخوف توقع المكروه. قال ابن عباس: « أخاف » هنا بمعنى أعلم. « من يصرف عنه » أي العذاب « يومئذ » يوم القيامة « فقد رحمه » أي فاز ونجا ورحم.

 

وقرأ الكوفيون « من يصرف » بفتح الياء وكسر الراء، وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد؛ لقوله: « قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله » ولقوله: « فقد رحمه » ولم يقل رحم على المجهول، ولقراءة أبي « من يصرف الله عنه » واختار سيبويه القراءة الأولى - قراءة أهل المدينة وأبي عمرو - قال سيبويه: وكلما قل الإضمار في الكلام كان أولى؛ فأما قراءة من قرأ « من يصرف » بفتح الياء فتقديره: من يصرف الله عنه العذاب، وإذا قرئ ( من يصرف عنه ) فتقديره: من يصرف عنه العذاب. « وذلك الفوز المبين » أي النجاة البينة.

 

الآية: 17 ( وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير )

 

قوله تعالى: « وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو » المس والكشف من صفات الأجسام، وهو هنا مجاز وتوسع؛ والمعنى: إن تنزل بك يا محمد شدة من فقر أو مرض فلا رافع وصارف له إلا هو، وإن يصبك بعافية ورخاء ونعمة « فهو على كل شيء قدير » من الخير والضر روى ابن عباس قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: ( يا غلام - أو يا بني - ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن ) ؟ فقلت: بلى؛ فقال: ( احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله فقد جف القلم بما هو كائن فلو أن الخلق كلهم جميعا أرادوا أن يضروك بشيء لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه واعمل الله بالشكر واليقين واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا وأن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا ) أخرجه أبو بكر بن ثابت الخطيب في كتاب ( الفصل والوصل ) وهو حديث صحيح؛ وقد خرجه الترمذي، وهذا أتم.

الآية [ 18 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيتان: 18 - 19 ( وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير، قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون )

 

قوله تعالى: « وهو القاهر فوق عباده » القهر الغلبة، والقاهر الغالب، وأقهر الرجل إذا صير بحال المقهور الذليل؛ قال الشاعر:

تمنى حصين أن يسود جذاعه فأمسى حصين قد أذل وأقهرا

وقهر غلب. ومعنى ( فوق عباده ) فوقية الاستعلاء بالقهر والغلبة عليهم؛ أي هم تحت تسخيره لا فوقية مكان؛ كما تقول: السلطان فوق رعيته أي بالمنزلة والرفعة. وفي القهر معنى زائد ليس في القدرة، وهو منع غيره عن بلوغ المراد. « وهو الحكيم » في أمره « الخبير » بأعمال عباده، أي من اتصف بهذه الصفات يجب ألا يشرك به.

 

قوله تعالى: « قل أي شيء أكبر شهادة » وذلك أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: من يشهد لك بأنك رسول الله فنزلت الآية؛ عن الحسن وغيره. ولفظ ( شيء ) هنا واقع موقع اسم الله تعالى؛ المعنى الله أكبر شهادة أي انفراده بالربوبية، وقيام البراهين على توحيده أكبر شهادة وأعظم؛ فهو شهيد بيني وبينكم على أني قد بلغتكم وصدقت فيما قلته وادعيته من الرسالة.

 

قوله تعالى: « وأوحي إلي هذا القرآن » أي والقرآن شاهد بنبوتي. « لأنذركم به » يا أهل مكة. « ومن بلغ » أي ومن بلغه القرآن. فحذف ( الهاء ) لطول الكلام. وقيل: ومن بلغ الحلم. ودل بهذا على أن من لم يبلغ الحلم ليس بمخاطب ولا متعبد. وتبليغ القرآن والسنة مأمور بهما، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغهما؛ فقال: « يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك » [ المائدة: 67 ] . وفي صحيح البخاري عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ) . وفي الخبر أيضا؛ من بلغته آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله أخذ به أو تركه. وقال مقاتل: من بلغه القرآن من الجن والإنس فهو نذير له. وقال القرظي: من بلغه القرآن فكأنما قد رأى محمدا صلى الله عليه وسلم وسمع منه. وقرأ أبو نهيك: ( وأوحى إلي هذا القرآن ) مسمى الفاعل؛ وهو معنى قراءة الجماعة. « أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى » استفهام توبيخ وتقريع. وقرئ ( أئنكم ) بهمزتين على الأصل. وإن خففت الثانية قلت: ( أئنكم ) . وروى الأصمعي عن أبي عمرو ونافع ( أئنكم ) ؛ وهذه لغة معروفة، تجعل بين الهمزتين ألف كراهة لالتقائهما؛ قال الشاعر:

أيا ظبية الوعساء بين جلاجل وبين النقا أأنت أم أم سالم

ومن قرأ « أئنكم » على الخبر فعلى أنه قد حقق عليهم شركهم. وقال: « آلهة أخرى » ولم يقل: ( آخر ) ؛ قال الفراء: لأن الآلهة جمع والجمع يقع عليه التأنيث؛ ومنه قوله: « ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها » [ طه: 51 ] ، وقوله: « فما بال القرون الأولى » [ طه: 51 ] ولو قال: الأول والآخر صح أيضا. « قل لا أشهد قل » أي فأنا لا أشهد معكم فحذف لدلالة الكلام عليه ونظيره « فإن شهدوا فلا تشهد معهم » [ الأنعام: 150 ] .

 

الآية: 20 ( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون )

 

قوله تعالى: « الذين آتيناهم الكتاب » يريد اليهود والنصارى الذين عرفوا وعانوا و ( الذين ) في موضع رفع بالابتداء. « يعرفونه » في موضع الخبر؛ أي يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم؛ عن الحسن وقتادة، وهو قول الزجاج. وقيل: يعود على الكتاب، أي يعرفونه على ما يدل عليه، أي على الصفة التي هو بها من دلالته على صحة أمر النبي صلى الله عليه وسلم وآله. « الذين خسروا أنفسهم » في موضع النعت؛ ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره « فهم لا يؤمنون » .

 

الآيتان: 21 - 22 ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون، ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون )

 

قوله تعالى: « ومن أظلم » ابتداء وخبر أي لا أحد أظلم « ممن افترى » أي اختلق « على الله كذبا أو كذب بآياته » يريد القرآن والمعجزات. « إنه لا يفلح الظالمون » قيل: معناه في الدنيا؛ ثم استأنف فقال « ويوم نحشرهم جميعا » على معنى واذكر « يوم نحشرهم » وقيل: معناه أنه لا يفلح الظالمون في الدنيا ولا يوم نحشرهم؛ فلا يوقف على هذا التقدير على قوله: ( الظالمون ) لأنه متصل. وقيل: هو متعلق بما بعده وهو ( انظر ) أي انظر كيف كذبوا يوم نحشرهم؛ أي كيف يكذبون يوم نحشرهم؟. « ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم » سؤال إفضاح لا إفصاح. « الذين كنتم تزعمون » أي في أنهم شفعاء لكم عند الله بزعمكم، وأنها تقربكم منه زلفى؛ وهذا توبيخ لهم. قال ابن عباس: كل زعم في القرآن فهو كذب.

 

الآية: 23 ( ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين )

 

قوله تعالى: « ثم لم تكن فتنتهم » الفتنة الاختبار أي لم يكن جوابهم حين اختبروا بهذا السؤال، ورأوا الحقائق، وارتفعت الدواعي. « إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين » تبرؤوا من الشرك وانتفوا منه لما رأوا من تجاوزه ومغفرته للمؤمنين. قال ابن عباس: يغفر الله تعالى لأهل الإخلاص ذنوبهم، ولا يتعاظم عليه ذنب أن يغفره، فإذا رأى المشركون ذلك؛ قالوا إن ربنا يغفر الذنوب ولا يغفر الشرك فتعالوا نقول إنا كنا أهل ذنوب ولم نكن مشركين؛ فقال الله تعالى: أما إذ كتموا الشرك فاختموا على أفواههم، فيختم على أفواههم، فتنطق أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون، فعند ذلك يعرف المشركون أن الله لا يكتم حديثا؛ فذلك قوله: « يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا » [ النساء: 42 ] . وقال أبو إسحاق الزجاج: تأويل هذه الآية لطيف جدا، أخبر الله عز وجل بقصص المشركين وافتتانهم بشركهم، ثم أخبر أن فتنتهم لم تكن حين رأوا الحقائق إلا أن انتفوا من الشرك، ونظير هذا في اللغة أن ترى إنسانا يحب غاويا فإذا وقع في هلكة تبرأ منه، فيقال: ما كانت محبتك إياه إلا أن تبرأت منه. وقال الحسن: هذا خاص بالمنافقين جروا على عادتهم في الدنيا، ومعنى ( فتنتهم ) عاقبة فتنتهم أي كفرهم. وقال قتادة: معناه معذرتهم. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: ( فيلقى العبد فيقول أي فل ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع فيقول بلى أي رب: فيقول أفظننت أنك ملاقي فيقول لا، فيقول إني أنساك كما نسيتني. ثم يلقى الثاني فيقول له ويقول هو مثل ذلك بعينه، ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك فيقول يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسولك وصليت وصمت وتصدقت يثني بخير ما استطاع قال: فيقال ههنا إذا ثم يقال له الآن نبعث شاهدا عليك ويتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد علي فيختم على فيه ويقال لفخذه ولحمه وعظامه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي سخط الله عليه ) .

 

الآية: 24 ( انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون )

 

قوله تعالى: « انظر كيف كذبوا على أنفسهم » كذب المشركين قولهم: إن عبادة الأصنام تقربنا إلى الله زلفى، بل ظنوا ذلك وظنهم الخطأ لا يعذرهم ولا يزيل اسم الكذب عنهم، وكذب المنافقين باعتذارهم بالباطل، وجحدهم نفاقهم. « وضل عنهم ما كانوا يفترون » أي فانظر كيف ضل عنهم افتراؤهم أي تلاشى وبطل ما كانوا يظنونه من شفاعة آلهتهم. وقيل: ( وضل عنهم ما كانوا يفترون ) أي فارقهم ما كانوا يعبدون من دون الله فلم يغن عنهم شيئا؛ عن الحسن. وقيل: المعنى عزب عنهم افتراؤهم لدهشهم، وذهول عقولهم. والنظر في قوله: ( انظر ) يراد به نظر الاعتبار؛ ثم قيل: « كذبوا » بمعنى يكذبون، فعبر عن المستقبل بالماضي؛ وجاز أن يكذبوا في الآخرة لأنه موضع دهش وحيرة وذهول عقل. وقيل: لا يجوز أن يقع منهم كذب في الآخرة؛ لأنها دار جزاء على ما كان في الدنيا - وعلى ذلك أكثر أهل النظر - وإنما ذلك في الدنيا؛ فمعنى « والله ربنا ما كنا مشركين » على هذا: ما كنا مشركين عند أنفسنا؛ وعلى جواز أن يكذبوا في الآخرة يعارضه قوله: ( ولا يكتمون الله حديثا ) ؛ ولا معارضة ولا تناقض؛ لا يكتمون الله حديثا في بعض المواطن إذا شهدت عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بعملهم، ويكذبون على أنفسهم في بعض المواطن قبل شهادة الجوارح على ما تقدم. والله أعلم. وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى: « والله ربنا ما كنا مشركين » قال: اعتذروا وحلفوا؛ وكذلك قال ابن أبي نجيح وقتادة: وروي عن مجاهد أنه قال: لما رأوا أن الذنوب تغفر إلا الشرك بالله والناس يخرجون من النار قالوا: « والله ربنا ما كنا مشركين » وقيل: « والله ربنا ما كنا مشركين » أي علمنا أن الأحجار لا تضر ولا تنفع، وهذا وإن كان صحيحا من القول فقد صدقوا ولم يكتموا، ولكن لا يعذرون بهذا؛ فإن المعاند كافر غير معذور. ثم قيل في قوله: « ثم لم تكن فتنتهم » خمس قراءات: قرأ حمزة والكسائي « يكن » بالياء « فتنتهم » بالنصب خبر « يكن » « إلا أن قالوا » اسمها أي إلا قولهم؛ فهذه قراءة بينة. وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو « تكن » بالتاء « فتنتهم » بالنصب ( إلا أن قالوا ) أي إلا مقالتهم. وقرأ أبي وابن مسعود وما كان - بدل قوله ( ثم لم تكن ) - فتنتهم إلا أن قالوا ) . وقرأ ابن عامر وعاصم من رواية حفص، والأعمش من رواية المفضل، والحسن وقتادة وغيرهم ( ثم لم تكن « بالتاء « فتنتهم » بالرفع اسم « تكن » والخبر « إلا أن قالوا » فهذه أربع قراءات. الخامسة: ( ثم لم يكن » بالياء ( فتنتهم ) ؛ رفع ويذكر الفتنة لأنها بمعنى الفتون، ومثله « فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى » [ البقرة: 275 ] . « والله » الواو واو القسم « ربنا » نعت لله عز وجل، أو بدل. ومن نصب فعلى النداء أي يا ربنا وهي قراءة حسنة؛ لأن فيها معنى الاستكانة والتضرع، إلا أنه فصل بين القسم وجوابه بالمنادى.

 

الآية: 25 ( ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاؤوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين )

 

قوله تعالى: « ومنهم من يستمع إليك » أفرد على اللفظ يعني المشركين كفار مكة. « وجعلنا على قلوبهم أكنة » أي فعلنا ذلك بهم مجازاة على كفرهم. وليس المعنى أنهم لا يسمعون ولا يفقهون، ولكن لما كانوا لا ينتفعون بما يسمعون، ولا ينقادون إلى الحق كانوا بمنزلة من لا يسمع ولا يفهم. والأكنة الأغطية جمع كنان مثل الأسنة والسنان، والأعنة والعنان. كننت الشيء في كنه إذا صنته فيه. وأكننت الشيء أخفيته. والكنانة معروفة. والكنة ( بفتح الكاف والنون ) امرأة أبيك؛ ويقال: امرأة الابن أو الأخ؛ لأنها في كنه. « أن يفقهوه » أي يفهموه وهو في موضع نصب؛ المعنى كراهية أن يفهموه، أو لئلا يفهموه. « وفي آذانهم وقرا » عطف عليه أي ثقلا؛ يقال منه: وقرت أذنه ( بفتح الواو ) توقر وقرا أي صمت، وقياس مصدره التحريك إلا أنه جاء بالتسكين. وقد وقر الله أذنه يقرها وقرا؛ يقال: اللهم قر أذنه. وحكى أبو زيد عن العرب: أذن موقورة على ما لم يسم فاعله؛ فعلى هذا وقرت ( بضم الواو ) . وقرأ طلحة بن مصرف ( وقرا ) بكسر الواو؛ أي جعل، في آذانهم ما سدها عن استماع القول على التشبيه بوقر البعير، وهو مقدار ما يطيق أن يحمل، والوقر الحمل؛ يقال منه: نخلة موقر وموقرة إذا كانت ذات ثمر كثير. ورجل ذو قرة إذا كان وقورا بفتح الواو؛ ويقال منه: وقر الرجل ( بقضم القاف ) وقارا، ووقر ( بفتح القاف ) أيضا.

 

قوله تعالى: « وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها » أخبر الله تعالى بعنادهم لأنهم لما رأوا القمر منشقا قالوا: سحر؛ فأخبر الله عز وجل بردهم الآيات بغير حجة.

 

قوله تعالى: « حتى إذا جاؤوك يجادلونك » مجادلتهم قولهم: تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل الله؛ عن ابن عباس. « يقول الذين كفروا » يعني قريشا؛ قال ابن عباس: قالوا للنضر بن الحرث: ] ما يقول محمد؟ قال: أرى تحريك شفتيه وما يقول إلا أساطير الأولين مثل ما أحدثكم عن القرون الماضية، وكان النضر صاحب قصص وأسفار، فسمع أقاصيص في ديار العجم مثل قصة رستم واسفنديار فكان يحدثهم. وواحد الأساطير أسطار كأبيات وأباييت؛ عن الزجاج. قال الأخفش: واحدها أسطورة كأحدوثة وأحاديث. أبو عبيدة: واحدها إسطارة. النحاس: واحدها أسطور مثل عثكول. ويقال: هو جمع أسطار، وأسطار جمع سطر؛ يقال: سطر وسطر. والسطر الشيء الممتد المؤلف كسطر الكتاب. القشيري: واحدها أسطير. وقيل: هو جمع لا واحد له كمذاكير وعباديد وأبابيل أي ما سطره الأولون في الكتب. قال الجوهري وغيره: الأساطير الأباطيل والترهات. قلت: أنشدني بعض أشياخي:

تطاول ليلي واعترتني وساوسي لآت أتى بالترهات الأباطيل

 

الآية: 26 ( وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون )

 

قوله تعالى: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » النهي الزجر، والنأي البعد، وهو عام في جميع الكفار أي ينهون عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وينأون عنه؛ عن ابن عباس والحسن. وقيل: هو خاص بأبي طالب ينهى الكفار عن إذاية محمد صلى الله عليه وسلم، ويتباعد عن الإيمان به؛ عن ابن عباس أيضا. وروى أهل السير قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج إلى الكعبة يوما وأراد أن يصلي، فلما دخل في الصلاة قال أبو جهل - لعنه الله - : من يقوم إلى هذا الرجل فيفسد عليه صلاته. فقام ابن الزبعرى فأخذ فرثا ودما فلطخ به وجه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فانفتل النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته، ثم أتى أبا طالب عمه فقال: ( يا عم ألا ترى إلى ما فعل بي ) فقال أبو طالب: من فعل هذا بك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عبدالله بن الزبعرى؛ فقام أبو طالب ووضع سيفه على عاتقه ومشى معه حتى أتى القوم؛ فلما رأوا أبا طالب قد أقبل جعل القوم ينهضون؛ فقال أبو طالب: والله لئن قام رجل جللته بسيفي فقعدوا حتى دنا إليهم، فقال: يا بني من الفاعل بك هذا؟ فقال: ( عبدالله بن الزبعرى ) ؛ فأخذ أبو طالب فرثا ودما فلطخ به وجوههم ولحاهم وثيابهم وأساء لهم القول؛ فنزلت هذه الآية ( وهم ينهون عنه وينأون عنه ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا عم نزلت فيك آية ) قال: وما هي؟ قال: ( تمنع قريشا أن تؤذيني وتأبى أن تؤمن بي ) فقال أبو طالب:

والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا

فأصدع بأمرك ما عليك غضاضة وابشر بذاك وقر منك عيونا

ودعوتني وزعمت أنك ناصحي فلقد صدقت وكنت قبل أمينا

وعرضت دينا قد عرفت بأنه من خير أديان البرية دينا

لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحا بذاك يقينا

فقالوا: يا رسول الله هل تنفع أبا طالب نصرته؟ قال: ( نعم دفع عنه بذاك الغل ولم يقرن مع الشياطين ولم يدخل في جب الحيات والعقارب إنما عذابه في نعلين من نار في رجليه يغلي منهما دماغه في رأسه وذلك أهون أهل النار عذابا ) . وأنزل الله على رسوله « فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل » [ الأحقاف: 35 ] . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه: ( قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة ) قال: لولا تعيرني قريش يقولون: إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك؛ فأنزل الله تعالى: « إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء » [ القصص: 56 ] كذا الرواية المشهورة ( الجزع ) بالجيم والزاي ومعناه الخوف. وقال أبو عبيد: ( الخرع ) بالخاء المنقوطة والراء المهملة. قال يعني الضعف والخور، وفي صحيح مسلم أيضا عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أهون أهل النار عذابا أبو طالب وهو منتعل بنعلين من نار يغلى منهما دماغه ) . وأما عبدالله بن الزبعرى فإنه أسلم عام الفتح وحسن إسلامه، واعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل عذره؛ وكان شاعرا مجيدا؛ فقال يمدح النبي صلى الله عليه وسلم، وله في مدحه أشعار كثيرة ينسخ بها ما قد مضى في كفره؛ منها قوله:

منع الرقاد بلابل وهموم والليل معتلج الرواق بهيم

مما أتاني أن أحمد لامني فيه فبت كأنني محموم

يا خير من حملت على أوصالها عيرانة سرح اليدين غشوم

إني لمعتذر إليك من الذي أسديت إذ أنا في الضلال أهيم

أيام تأمرني بأغوى خطة سهم وتأمرني بها مخزوم

وأمد أسباب الردى ويقودني أمر الغواة وأمرهم مشؤوم

فاليوم آمن بالنبي محمد قلبي ومخطئ هذه محروم

مضت العداوة فانقضت أسبابها وأتت أواصر بيننا وحلوم

فاغفر فدى لك والداي كلاهما زللي فإنك راحم مرحوم

وعليك من سمة المليك علامة نور أغر وخاتم مختوم

أعطاك بعد محبة برهانه شرفا وبرهان الإله عظيم

ولقد شهدت بأن دينك صادق حقا وأنك في العباد جسيم

والله يشهد أن أحمد مصطفى مستقبل في الصالحين كريم

قرم علا بنيانه من هاشم فرع تمكن في الذرى وأروم

وقيل: المعنى ( ينهون عنه ) أي هؤلاء الذين يستمعون ينهون عن القرآن ( وينأون عنه ) . عن قتادة؛ فالهاء على القولين الأولين في ( عنه ) للنبي صلى الله عليه وسلم، وعلى قول قتادة للقرآن. « وإن يهلكون إلا أنفسهم » ( إن ) نافية أي وما يهلكون إلا أنفسهم بإصرارهم على الكفر، وحملهم أوزار الذين يصدونهم.

 

الآية: 27 ( ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين )

 

قوله تعالى: « ولو ترى إذ وقفوا على النار » أي إذ وقفوا غدا و ( إذ ) قد تستعمل في موضع ( إذا ) و ( إذا ) في موضع ( إذ ) وما سيكون فكأنه كان؛ لأن خبر الله تعالى حق وصدق، فلهذا عبر بالماضي. ومعنى ( إذ وقفوا ) حبسوا يقال: وقفته وقفا فوقف وقوفا. وقرأ ابن السميقع ( إذ وقفوا ) بفتح الواو والقاف من الوقوف. « على النار » أي هم فوقها على الصراط وهي تحتهم. وقيل: ( على ) بمعنى الباء؛ أي وقفوا بقربها وهم يعاينونها. وقال الضحاك: جمعوا، يعني على أبوابها. ويقال: وقفوا على متن جهنم والنار تحتهم. وفي الخبر: أن الناس كلهم يوقفون على متن جهنم كأنها متن إهالة، ثم ينادي مناد خذي أصحابك ودعي أصحابي. وقيل: ( وقفوا ) دخلوها - أعاذنا الله منها - فعلى بمعنى ( في ) أي وقفوا في النار. وجواب ( لو ) محذوف ليذهب الوهم إلى كل شيء فيكون أبلغ في التخويف؛ والمعنى: لو تراهم في تلك الحال لرأيت أسوأ حال، أو لرأيت منظرا هائلا، أو لرأيت أمرا عجبا وما كان مثل هذا التقدير.

 

قوله تعالى: « فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين » بالرفع في الأفعال الثلاثة عطفا قراءة أهل المدينة والكسائي؛ وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم بالضم. ابن عامر على رفع ( نكذب ) ونصب ( ونكون ) وكله داخل في معنى التمني؛ أي لا تمنوا الرد وألا يكذبوا وأن يكونوا من المؤمنين. واختار سيبويه القطع في ( ولا نكذب ) فيكون غير داخل في التمني؛ المعنى: ونحن لا نكذب على معنى الثبات على ترك التكذيب؛ أي لا نكذب رددنا أو لم نرد؛ قال سيبويه: وهو مثل قوله دعني ولا أعود أي لا أعود على كل حال تركتني أو لم تتركني. واستدل أبو عمرو على خروجه من التمني بقوله: « وإنهم لكاذبون » لأن الكذب لا يكون في التمني إنما يكون في الخبر. وقال من جعله داخلا في التمني: المعنى وإنهم لكاذبون في الدنيا في إنكارهم البعث وتكذيبهم الرسل. وقرأ حمزة وحفص بنصب ( نكذب ) و ( نكون ) جوابا للتمني؛ لأنه غير واجب، وهما داخلان في التمني على معنى أنهم تمنوا الرد وترك التكذيب والكون مع المؤمنين. قال أبو إسحاق: معنى ( ولا نكذب ) أي إن رددنا لم نكذب. والنصب في ( الكذب ) و ( نكون ) بإضمار ( أن ) كما ينصب في جواب الاستفهام والأمر والنهي والعرض؛ لأن جميعه غير واجب ولا واقع بعد، فينصب، الجواب مع الواو كأنه عطف على مصدر الأول؛ كأنهم قالوا: يا ليتنا يكون لنا رد وانتفاء من الكذب، وكون من المؤمنين؛ فحملا على مصدر ( نرد ) لانقلاب المعنى إلى الرفع، ولم يكن بد من إضمار ( أن ) فيه يتم النصب في الفعلين. وقرأ ابن عامر ( ونكون ) بالنصب على جواب التمني كقولك: ليتك تصير إلينا ونكرمك، أي ليت مصيرك يقع وإكرامنا يقع، وأدخل الفعلين الأولين في التمني، أو أراد: ونحن لا نكرمك على القطع على ما تقدم؛ يحتمل. وقرأ أبي ( ولا نكذب بآيات ربنا أبدا ) . وعنه وابن مسعود ( يا ليتنا نرد فلا نكذب ) بالفاء والنصب، والفاء ينصب بها في الجواب كما ينصب بالواو؛ عن الزجاج. وأكثر البصريين لا يجيزون الجواب إلا بالفاء.

 

الآية: 28 ( بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون @قوله تعالى: " بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل " بل إضراب عن تمنيهم وادعائهم الإيمان لو ردوا. واختلفوا في معنى ( بدا لهم ) على أقوال بعد تعيين من المراد؛ فقيل: المراد المنافقون لأن اسم الكفر مشتمل عليهم، فعاد الضمير على بعض المذكورين؛ قال النحاس: وهذا من الكلام العذب الفصيح. وقيل: المراد الكفار وكانوا إذا وعظهم النبي صلى الله عليه وسلم خافوا وأخفوا ذلك الخوف لئلا يفطن بهم ضعفاؤهم، فيظهر يوم القيامة؛ ولهذا قال الحسن: ( بدا لهم ) أي بدا لبعضهم ما كان يخفيه عن بعض. وقيل: بل ظهر لهم ما كانوا يجحدونه من الشرك فيقولون: ( والله ربنا ما كنا مشركين ) فينطق الله جوارحهم فتشهد عليهم بالكفر فذلك حين ( بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ) . قال أبو روق. وقيل: ( بدا لهم ) ما كانوا يكتمونه من الكفر؛ أي بدت أعمالهم السيئة كما قال: " وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون " [ الزمر:47 ] . قال المبرد: بدا لهم جزاء كفرهم الذي كانوا يخفونه. وقيل: المعنى بل ظهر للذين اتبعوا الغواة ما كان الغواة يخفون عنهم من أمر البعث والقيامة؛ لأن بعده " وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين " . )

 

قوله تعالى: « ولو ردوا » قيل: بعد معاينة العذاب. وقيل: قبل معاينته. « لعادوا لما نهوا عنه » أي لصاروا ورجعوا إلى ما نهوا عنه من الشرك لعلم الله تعالى فيهم أنهم لا يؤمنون، وقد عاين إبليس ما عاين من آيات الله ثم عاند. قوله تعالى: « وإنهم لكاذبون » إخبار عنهم، وحكاية عن الحال التي كانوا عليها في الدنيا من تكذيبهم الرسل، وإنكارهم البعث؛ كما قال: « وإن ربك ليحكم بينهم » [ النحل:124 ] فجعله حكاية عن الحال الآتية. وقيل: المعنى وإنهم لكاذبون فيما أخبروا به عن أنفسهم من أنهم لا يكذبون ويكونون من المؤمنين. وقرأ يحيى بن وثاب ( ولو ردوا ) بكسر الراء؛ لأن الأصل رددوا فنقلت كسرة الدال على الراء.

 

الآية: 29 ( وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين )

 

قوله تعالى: « وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا » ابتداء وخبر و ( إن ) نافية. ( وما نحن ) ( نحن ) اسم ( ما ) بمبعوثين « خبرها؛ وهذا ابتداء إخبار عنهم عما قالوه في الدنيا. قال ابن زيد: هو داخل في قوله: » ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه « « وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا » أي لعادوا إلى الكفر، واشتغلوا بلذة الحال. وهذا يحمل على المعاند كما بيناه في حال إبليس، أو على أن الله يلبس عليهم بعد ما عرفوا، وهذا شائع في العقل.»

 

الآية: 30 ( ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون )

 

قوله تعالى: « ولو ترى إذ وقفوا على ربهم » ( وقفوا ) أي حبسوا ( على ربهم ) أي على ما يكون من أمر الله فيهم. وقيل: ( على ) بمعنى ( عند ) أي عند ملائكته وجزائه؛ وحيث لا سلطان فيه لغير الله عز وجل؛ تقول: وقفت على فلان أي عنده؛ وجواب « لو » محذوف لعظم شأن الوقوف. « قال أليس هذا بالحق » تقرير وتوبيخ أي أليس هذا البعث كائنا موجودا؟ « قالوا بلى » ويؤكدون اعترافهم بالقسم بقولهم: « وربنا » . وقيل: إن الملائكة تقول لهم بأمر الله أليس هذا البعث وهذا العذاب حقا؟ فيقولون: ( بلى وربنا ) إنه حق. « قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون » .

 

الآية: 31 ( قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون )

 

قوله تعالى: « قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله » قيل: بالبعث بعد الموت وبالجزاء؛ دليله قوله عليه السلام: ( من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان ) أي لقي جزاءه؛ لأن من غضب عليه لا يرى الله عند مثبتي الرؤية، ذهب إلى هذا القفال وغيره؛ قال القشيري: وهذا ليس بشيء؛ لأن حمل اللقاء في موضع على الجزاء لدليل قائم لا يوجب هذا التأويل في كل موضع، فليحمل اللقاء على ظاهره في هذه الآية؛ والكفار كانوا ينكرون الصانع، ومنكر الرؤية منكر للوجود!

 

قوله تعالى: « حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة » سميت القيامة بالساعة لسرعة الحساب فيها. ومعنى ( بغتة ) فجأة؛ يقال: بغتهم الأمر بغتهم بغتا وبغتة. وهي نصب على الحال، وهي عند سيبويه مصدر في موضع الحال، كما تقول: قتلته صبرا، وأنشد:

فلأيا بلأي ما حملنا وليدنا على ظهر محبوك ظماء مفاصله

ولا يجيز سيبويه أن يقاس عليه؛ لا يقال: جاء فلان سرعة.

 

قوله تعالى: « قالوا يا حسرتنا » وقع النداء على الحسرة وليست بمنادى في الحقيقة، ولكنه يدل على كثرة التحسر، ومثله يا للعجب ويا للرخاء وليسا بمناديين في الحقيقة، ولكنه يدل على كثرة التعجب والرخاء؛ قال سيبويه: كأنه قال يا عجب تعال فهذا زمن إتيانك؛ وكذلك قولك يا حسرتي أي يا حسرتا تعالي فهذا وقتك؛ وكذلك ما لا يصح نداؤه يجرى هذا المجرى، فهذا أبلغ من قولك تعجبت. ومنه قول الشاعر:

فيا عجبا من رحلها المتحمل

وقيل: هو تنبيه للناس على عظيم ما يحل بهم من الحسرة؛ أي يا أيها الناس تنبوا على عظيم ما بي من الحسرة، فوقع النداء على غير المنادى حقيقة، كقولك: لا أرينك ههنا. فيقع النهي على غير المنهي في الحقيقة.

 

قوله تعالى: « على ما فرطنا فيها » أي في الساعة، أي في التقدمة لها؛ عن الحسن. و ( فرطنا ) معناه ضيعنا وأصله التقدم؛ يقال: فرط فلان أي تقدم وسبق إلى الماء، ومنه ( أنا فرطكم على الحوض ) . ومنه الفارط أي المتقدم للماء، ومنه - في الدعاء للصبي - اللهم اجعله فرطا لأبويه؛ فقولهم: ( فرطنا ) أي قدمنا العجز. وقيل: ( فرطنا ) أي جعلنا غيرنا الفارط السابق لنا إلى طاعة الله وتخلفنا. ( فيها ) أي في الدنيا بترك العمل للساعة. وقال الطبري: ( الهاء ) راجعة إلى الصفقة، وذلك أنهم لما تبين لهم خسران صفقتهم ببيعهم الإيمان بالكفر، والآخرة بالدنيا، « قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها » أي في الصفقة، وترك ذكرها لدلالة الكلام عليها؛ لأن الخسران لا يكون إلا في صفقة بيع؛ دليله قوله: « فما ربحت تجارتهم » [ البقرة: 16 ] . وقال السدي: على ما ضيعنا أي من عمل الجنة. وفي الخبر عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال: ( يرى أهل النار منازلهم في الجنة فيقولون: ( يا حسرتنا ) .

 

قوله تعالى: « وهم يحملون أوزارهم » أي ذنوبهم جمع وزر. « على ظهورهم » مجاز وتوسع وتشبيه بمن يحمل ثقلا؛ يقال منه: وزر يزر، ووزر يوزر فهو وازر ومزور؛ وأصله من الوزر وهو الجبل. ومنه الحديث في النساء اللواتي خرجن في جنازة ( ارجعن مزورات غير مأجورات ) قال أبو عبيد: والعامة تقول: ( مأزورات ) كأنه لا وجه له عنده؛ لأنه من الوزر. قال أبو عبيد: ويقال للرجل إذا بسط ثوبه فجعل فيه المتاع احمل وزرك أي ثقلك. ومنه الوزير لأنه يحمل أثقال ما يسند إليه من تدبير الولاية: والمعنى أنهم لزمتهم الآثام فصاروا مثقلين بها. « ألا ساء ما يزرون » أي ما أسوأ الشيء الذي يحملونه.

 

الآية: 32 ( وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون )

 

قوله تعالى: « وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو » أي لقصر مدتها كما قال:

ألا إنما الدنيا كأحلام نائم وما خير عيش لا يكون بدائم

تأمل إذا ما نلت بالأمس لذة فأفنيتها هل أنت إلا كحالم

وقال آخر:

فاعمل على مهل فإنك ميت واكدح لنفسك أيها الإنسان

فكأن ما قد كان لم يك إذ مضى وكأن ما هو كائن قد كانا

وقيل: المعنى متاع الحياة الدنيا لعب ولهو؛ أي الذي يشتهوه في الدنيا لا عاقبة له، فهو بمنزلة اللعب واللهو. ونظر سليمان بن عبدالله في المرآة فقال: أنا الملك الشاب؛ فقالت له جارية له:

أنت نعم المتاع لو كنت تبقى غير أن لا بقاء للإنسان

ليس فيما بدا لنا منك عيب كان في الناس غير أنك فاني

وقيل: معنى ( لعب ولهو ) باطل وغرور، كما قال: ( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) « آل عمران: 185 ] فالمقصد بالآية تكذيب الكفار في قولهم: » إن هي إلا الحياة الدنيا « واللعب معروف، والتلعابة الكثير اللعب، والملعب مكان اللعب؛ يقال: لعب يلعب. واللهو أيضا معروف، وكل ما شغلك فقد ألهاك، ولهوت من اللهو، وقيل: أصله الصرف عن الشيء؛ من قولهم: لهيت عنه؛ قال المهدوي: وفيه بعد؛ لأن الذي معناه الصرف لامه ياء بدليل قولهم: لهيان، ولام الأول واو. »

 

ليس من اللهو واللعب ما كان من أمور الآخرة، فإن حقيقة اللعب ما لا ينتفع به واللهو ما يلتهى به، وما كان مرادا للآخرة خارج عنهما؛ وذم رجل الدنيا عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال علي: الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار نجاة لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها. وقال محمود الوراق:

لا تتبع الدنيا وأيامها ذما وإن دارت بك الدائرة

من شرف الدنيا ومن فضلها أن بها تستدرك الآخرة

وروى أبو عمر بن عبدالبر عن أبي سعيد الخدري، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان فيها من ذكر الله أو أدى إلى ذكر الله والعالم والمتعلم شريكان في الأجر وسائر الناس همج لا خير فيه ) وأخرجه الترمذي عن أبي هريرة وقال: حديث حسن غريب. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من هوان الدنيا على الله ألا يعصى إلا فيها ولا ينال ما عنده إلا بتركها ) . وروى الترمذي عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء ) . وقال الشاعر:

تسمع من الأيام إن كنت حازما فإنك منها بين ناه وآمر

إذا أبقت الدنيا على المرء دينه فما فات من شيء فليس بضائر

ولن تعدل الدنيا جناح بعوضة ولا وزن زف من جناح لطائر

فما رضي الدنيا ثوابا لمؤمن ولا رضي الدنيا جزاء لكافر

وقال ابن عباس: هذه حياة الكافر لأنه يزجيها في غرور وباطل، فأما حياة المؤمن فتنطوي على أعمال صالحة، فلا تكون لهوا ولعبا.

 

قوله تعالى: « وللدار الآخرة خير » أي الجنة لبقائها؛ وسميت آخرة لتأخرها عنا، والدنيا لدنوها منا.

وقرأ ابن عامر ( ولدار الآخرة ) بلام واحدة؛ والإضافة على تقدير حذف المضاف وإقامة الصفة مقامه، التقدير: ولدار الحياة الآخرة. وعلى قراءة الجمهور ( وللدار الآخرة ) اللام لام الابتداء، ورفع الدار بالابتداء، وجعل الآخرة نعتا لها والخبر ( خير للذين ) يقويه « تلك الدار الآخرة » [ القصص: 83 ] « وإن الدار الآخرة لهي الحيوان » [ العنكبوت: 64 ] . فأتت الآخرة صفة للدار فيهما « للذين يتقون » أي الشرك. « أفلا تعقلون » قرئ بالياء والتاء؛ أي أفلا يعقلون أن الأمر هكذا فيزهدوا في الدنيا. والله أعلم.

 

الآية: 33 - 34 ( قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون، ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين )

 

قوله تعالى: « قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون » كسرت ( إن ) لدخول اللام. قال أبو ميسرة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بأبي جهل وأصحابه فقالوا: يا محمد والله ما نكذبك وإنك عندنا لصادق، ولكن نكذب ما جئت به؛ فنزلت هذه الآية « فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون » ثم آنسه بقوله: « ولقد كذبت رسل من قبلك » الآية. وقرئ « يكذبونك » مخففا ومشددا؛ وقيل: هما بمعنى واحد كحزنته وأحزنته؛ واختار أبو عبيد قراءة التخفيف، وهي قراءة علي رضي الله عنه؛ وروي عنه أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك ولكن نكذب ما جئت به؛ فأنزل الله عز وجل « فإنهم لا يكذبونك »

قال النحاس: وقد خولف أبو عبيد في هذا. وروي: لا نكذبك. فأنزل الله عز وجل: « لا يكذبونك » . ويقوي هذا أن رجلا قرأ على ابن عباس « فإنهم لا يكذبونك » مخففا فقال له ابن عباس: « فإنهم لا يكذبونك » لأنهم كانوا يسمون النبي صلى الله عليه وسلم الأمين. ومعنى « يكذبونك » عند أهل اللغة ينسبونك إلى الكذب، ويردون عليك ما قلت. ومعنى « لا يكذبونك » أي لا يجدونك تأتي بالكذب؛ كما تقول: أكذبته وجدته كذابا؛ وأبخلته وجدته بخيلا، أي لا يجدونك كذابا إن تدبروا ما جئت به. ويجوز أن يكون المعنى: لا يثبتون عليك أنك كاذب؛ لأنه يقال: أكذبته إذا احتججت عليه وبينت أنه كاذب. وعلى التشديد: لا يكذبونك بحجة ولا برهان؛ ودل على هذا « ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون » . قال النحاس: والقول في هذا مذهب أبي عبيد، واحتجاجه لازم؛ لأن عليا كرم الله وجهه هو الذي روى الحديث، وقد صح عنه أنه قرأ بالتخفيف؛ وحكى الكسائي عن العرب: أكذبت الرجل إذا أخبرت أنه جاء بالكذب ورواه، وكذبته إذا أخبرت أنه كاذب؛ وكذلك قال الزجاج: كذبته إذا قلت له كذبت، وأكذبته إذا أردت أن ما أتى به كذب.

 

قوله تعالى: « فصبروا على ما كذبوا » أي فاصبر كما صبروا. « وأوذوا حتى أتاهم نصرنا » أي عوننا، أي فسيأتيك ما وعدت به. « ولا مبدل لكلمات الله » مبين لذلك النصر؛ أي ما وعد الله عز وجل به فلا يقدر أحد أن يدفعه؛ لا ناقض لحكمه، ولا خلف لوعده؛ و « لكل أجل كتاب » [ الرعد: 38 ] ، « إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا » [ غافر: 51 ] « ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين. إنهم لهم المنصورون. وإن جندنا لهم الغالبون » [ الصافات: 171 - 173 ] ، « كتب الله لأغلبن أنا ورسلي » [ المجادلة: 21 ] . « ولقد جاءك من نبأ المرسلين » فاعل ( جاءك ) مضمر؛ المعنى: جاءك من نبأ المرسلين نبأ.

 

الآية: 35 ( وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين )

 

قوله تعالى: « وإن كان كبر عليك إعراضهم » أي عظم عليك إعراضهم وتوليهم عن الإيمان. « فإن استطعت » قدرت « أن تبتغي » تطلب « نفقا في الأرض » أي سربا تخلص منه إلى مكان آخر، ومنه النافقاء لجحر اليربوع، وقد تقدم في « البقرة » بيانه، ومنه المنافق. وقد تقدم. « أو سلما » معطوف عليه، أي سببا إلى السماء؛ وهذا تمثيل؛ لأن العلم الذي يرتقى عليه سبب إلى الموضع، وهو مذكر، ولا يعرف ما حكاه الفراء من تأنيث العلم. قال قتادة: السلم الدرج. الزجاج: وهو مشتق من السلامة كأنه يسلمك إلى الموضع الذي تريد. « فتأتيهم بآية » عطف عليه أي ليؤمنوا فافعل؛ فأضمر الجواب لعلم السامع. أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم ألا يشتد حزنه عليهم إذا كانوا لا يؤمنون؛ كما أنه لا يستطيع هداهم. « ولو شاء الله لجمعهم على الهدى » أي لخلقهم مؤمنين وطبعهم عليه؛ بين تعالى أن كفرهم بمشيئة الله ردا على القدرية. وقيل المعنى: أي لأراهم آية تضطرهم إلى الإيمان، ولكنه أراد عز وجل أن يثيب منهم من آمن ومن أحسن. « فلا تكونن من الجاهلين » أي من الذين أشتد حزنهم وتحسروا حتى أخرجهم ذلك إلى الجزع الشديد، وإلى ما لا يحل؛ أي لا تحزن على كفرهم فتقارب حال الجاهلين. وقيل: الخطاب له والمراد الأمة؛ فإن قلوب المسلمين كانت تضيق من كفرهم وإذايتهم.

 

الآيتان: 36 - 37 ( إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون، وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون )

 

قوله تعالى: « إنما يستجيب الذين يسمعون » أي سماع إصغاء وتفهم وإرادة الحق، وهم المؤمنون الذين يقبلون ما يسمعون فينتفعون به ويعملون؛ قال معناه الحسن ومجاهد، وتم الكلام. ثم قال: « والموتى يبعثهم الله » وهم الكفار؛ عن الحسن ومجاهد؛ أي هم بمنزلة الموتى في أنهم لا يقبلون ولا يصغون إلى حجة. وقيل: الموتى كل من مات. « يبعثهم الله » أي للحساب؛ وعلى الأول بعثهم هدايتهم إلى الإيمان بالله وبرسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن الحسن: هو بعثهم من شركهم حتى يؤمنوا بك يا محمد - يعني عند حضور الموت - في حال الإلجاء في الدنيا.

 

قوله تعالى: « وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه » قال الحسن: ( لولا ) ههنا بمعنى هلا؛ وقال الشاعر:

تعدون عقر النيب أفضل مجدكم بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا

وكان هذا منهم نعتا بعد ظهور البراهين؛ وإقامة الحجة بالقرآن الذي عجزوا أن يأتوا بسورة مثله، لما فيه من الوصف وعلم الغيوب. « ولكن أكثرهم لا يعلمون » أي لا يعلمون أن الله عز وجل إنما ينزل من الآيات ما فيه مصلحة لعباده؛ وكان في علم الله أن يخرج من أصلابهم أقواما يؤمنون به ولم يرد استئصالهم. وقيل: ( ولكن أكثرهم لا يعلمون ) أن الله قادر على إنزالها. الزجاج: طلبوا أن يجمعهم على الهدى أي جمع إلجاء.

 

الآية: 38 ( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون )

 

قوله تعالى: « وما من دابة في الأرض » وأصله الصفة؛ من دب يدب فهو داب إذا مشى مشيا فيه تقارب خطو. « ولا طائر يطير بجناحيه » بخفض « طائر » عطفا على اللفظ.

وقرأ الحسن وعبدالله بن إسحاق ( ولا طائر ) بالرفع عطفا على الموضع، و ( من ) زائدة، التقدير: وما من دابة. « بجناحيه » تأكيدا وإزالة للإبهام؛ فإن العرب تستعمل الطيران لغير الطائر؛ تقول للرجل: طر في حاجتي؛ أي أسرع؛ فذكر ( بجناحيه ) ليتمحض القول في الطير، وهو في غيره مجاز. وقيل: إن اعتدال جسد الطائر بين الجناحين يعينه على الطيران، ولو كان غير معتدل لكان يميل؛ فأعلمنا أن الطيران بالجناحين و « ما يمسكهن إلا الله » [ النحل: 79 ] . والجناح أحد ناحيتي الطير الذي يتمكن به من الطيران في الهواء، وأصله الميل إلى ناحية من النواحي؛ ومنه جنحت السفينة إذا مالت إلى ناحية الأرض لاصقة بها فوقفت. وطائر الإنسان عمله؛ وفي التنزيل « وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه » [ الإسراء: 13 ] . « إلا أمم أمثالكم » أي هم جماعات مثلكم في أن الله عز وجل خلقهم، وتكفل بأرزاقهم، وعدل عليهم، فلا ينبغي أن تظلموهم، ولا تجاوزوا فيهم ما أمرتم به. و ( دابة ) تقع على جميع ما دب؛ وخص بالذكر ما في الأرض دون السماء لأنه الذي يعرفونه ويعاينونه. وقيل: هي أمثال لنا في التسبيح والدلالة؛ والمعنى: وما من دابة ولا طائر إلا وهو يسبح الله تعالى، ويدل على وحدانيته لو تأمل الكفار. وقال أبو هريرة: هي أمثال لنا على معنى أنه يحشر البهائم غدا ويقتص للجماء من القرناء ثم يقول الله لها: كوني ترابا. وهذا اختيار الزجاج فإنه قال: ( إلا أمم أمثالكم ) في الخلق والرزق والموت والبعث والاقتصاص، وقد دخل فيه معنى القول الأول أيضا. وقال سفيان بن عيينة: أي ما من صنف من الدواب والطير إلا في الناس شبه منه؛ فمنهم من يعدو كالأسد، ومنهم من يشره كالخنزير، ومنهم من يعوي كالكلب، ومنهم من يزهو كالطاوس؛ فهذا معنى المماثلة. واستحسن الخطابي هذا وقال: فإنك تعاشر البهائم والسباع فخذ حذرك. وقال مجاهد في قوله عز وجل: « إلا أمم أمثالكم » قال أصناف لهن أسماء تعرف بها كما تعرفون. وقيل غير هذا مما لا يصح من أنها مثلنا في المعرفة، وأنها تحشر وتنعم في الجنة، وتعوض من الآلام التي حلت بها في الدنيا وأن أهل الجنة يستأنسون بصورهم؛ والصحيح « إلا أمم أمثالكم » في كونها مخلوقة دالة على الصانع محتاجة إليه مرزوقة من جهته، كما أن رزقكم على الله. وقول سفيان أيضا حسن؛ فإنه تشبيه واقع في الوجود.

 

قوله تعالى: « ما فرطنا في الكتاب من شيء » أي في اللوح المحفوظ فإنه أثبت فيه ما يقع من الحوادث. وقيل: أي في القرآن أي ما تركنا شيئا من أمر الدين إلا وقد دللنا عليه في القرآن؛ إما دلالة مبينة مشروحة، وإما مجملة يتلقى بيانها من الرسول عليه الصلاة والسلام، أو من الإجماع، أو من القياس الذي ثبت بنص الكتاب؛ قال الله تعالى: « ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء » [ النحل:89 ] وقال: « وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم » [ النحل: 44 ] وقال: « وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا » [ الحشر: 7 ] فأجمل في هذه الآية وآية ( النحل ) ما لم ينص عليه مما لم يذكره، فصدق خبر الله بأنه ما فرط في الكتاب من شيء إلا ذكره، إما تفصيلا وإما تأصيلا؛ وقال: « اليوم أكملت لكم دينكم » [ المائدة: 3 ] .

 

قوله تعالى: « ثم إلى ربهم يحشرون » أي للجزاء، كما سبق في خبر أبي هريرة، وفي صحيح مسلم عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء ) . ودل بهذا على أن البهائم تحشر يوم القيامة؛ وهذا قول أبي ذر وأبي هريرة والحسن وغيرهم؛ وروي عن ابن عباس؛ قال ابن عباس في رواية: حشر الدواب والطير موتها؛ وقال الضحاك؛ والأول أصح لظاهر الآية والخبر الصحيح؛ وفي التنزيل « وإذا الوحوش حشرت » [ التكوير: 5 ] وقول أبي هريرة فيما روى جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصم عنه: يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة، البهائم والدواب والطير وكل شيء؛ فيبلغ من عدل الله تعالى يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء ثم يقول: ( كوني ترابا ) فذلك قوله تعالى: « ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا » [ النبأ: 40 ] . وقال عطاء: فإذا رأوا بني آدم وما هم عليه من الجزع قلن: الحمد لله الذي لم يجعلنا مثلكم، فلا جنة نرجو ولا نار نخاف؛ فيقول الله تعالى لهن: ( كن ترابا ) فحينئذ يتمنى الكافر أن يكون تراب. وقالت جماعة: هذا الحشر الذي في الآية يرجع إلى الكفار وما تخلل كلام معترض وإقامة حجج؛ وأما الحديث فالمقصود منه التمثيل على جهة تعظيم أمر الحساب والقصاص والاعتناء فيه حتى يفهم منه أنه لا بد لكل أحد منه، وأنه لا محيص له عنه؛ وعضدوا هذا بما في الحديث في غير الصحيح عن بعض رواته من الزيادة فقال: حتى يقاد للشاة الجلحاء من القرناء، وللحجر لما ركب على الحجر، وللعود لما خدش العود؛ قالوا: فظهر من هذا أن المقصود منه التمثيل المفيد للاعتبار والتهويل، لأن الجمادات لا يعقل خطابها ولا ثوابها ولا عقابها، ولم يصر إليه أحد من العقلاء، ومتخيله من جملة المعتوهين الأغبياء؛ قالوا: ولأن القلم لا يجري عليهم فلا يجوز أن يؤاخذوا.

قلت: الصحيح القول الأول لما ذكرناه من حديث أبي هريرة، وإن كان القلم لا يجري عليهم في الأحكام ولكن فيما بينهم يؤاخذون به؛ وروي عن أبي ذر قال: انتطحت شاتان عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( يا أبا ذر هل تدري فيما انتطحتا؟ ) قلت: لا. قال: ( لكن الله تعالى يدري وسيقضي بينهما ) وهذا نص، وقد زدناه بيانا في كتاب ( التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة ) . والله أعلم.

 

الآيات: 39 - 41 ( والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم، قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين، بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون )

 

قوله تعالى: « والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم » ابتداء وخبر، أي عدموا الانتفاع بأسماعهم وأبصارهم؛ فكل أمة من الدواب وغيرها تهتدي لمصالحها والكفار لا يهتدون. « في الظلمات » أي ظلمات الكفر. وقال أبو علي: يجوز أن يكون المعنى ( صم وبكم ) في الآخرة؛ فيكون حقيقة دون مجاز اللغة. « من يشأ الله يضلله » دل على أنه شاء ضلال الكافر وأراده لينفذ فيه عدله؛ ألا ترى أنه قال: « ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم » أي على دين الإسلام لينفذ فيه فضله. وفيه إبطال لمذهب القدرية. والمشيئة راجعة إلى الذين كذبوا، فمنهم من يضله ومنهم من يهديه.

 

قوله تعالى: « قل أرأيتكم » وقرأ نافع بتخفيف الهمزتين، يلقي حركة الأولى على ما قبلها، ويأتي بالثانية بين بين. وحكى أبو عبيد عنه أنه يسقط الهمزة ويعوض منها ألفا. قال النحاس: وهذا عند أهل العربية غلط عليه؛ لأن الياء ساكنة والألف ساكنة ولا يجتمع ساكنان. قال مكي: وقد روي عن ورش أنه أبدل من الهمزة ألفا؛ لأن الرواية عنه أنه يمد الثانية، والمد لا يتمكن إلا مع البدل، والبدل فرع عن الأصول، والأصل أن تجعل الهمزة بين الهمزة المفتوحة والألف؛ وعليه كل من خفف الثانية غير ورش؛ وحسن جواز البدل في الهمزة وبعدها ساكن لأن الأول حرف مد ولين، فالمد الذي يحدث مع الساكن يقوم مقام حركة يوصل بها إلى النطق بالساكن الثاني. وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة ( أرأيتكم ) بتحقيق الهمزتين وأتوا بالكلمة على أصلها، والأصل الهمز؛ لأن همزة الاستفهام دخلت على ( رأيت ) فالهمزة عين الفعل، والياء ساكنة لاتصال المضمر المرفوع بها. وقرأ عيسى بن عمر والكسائي ( أريتكم ) بحذف الهمزة الثانية. قال النحاس: وهذا بعيد في العربية، وإنما يجوز في الشعر؛ والعرب تقول: أرأيتك زيدا ما شأنه. ومذهب البصريين أن الكاف والميم للخطاب، لا حظ لهما في الإعراب؛ وهو اختبار الزجاج. ومذهب الكسائي والفراء وغيرهما أن الكاف والميم نصب بوقوع الرؤية عليهما، والمعنى أرأيتم أنفسكم؛ فإذا كانت للخطاب - زائدة للتأكيد - كان ( إن ) من قوله « إن أتاكم » في موضع نصب على المفعول لرأيت، وإذا كان اسما في موضع نصب ( فإن ) في موضع المفعول الثاني؛ فالأول من رؤية العين لتعديها لمفعول واحد، وبمعنى العلم تتعدى إلى مفعولين. وقوله: « أو أتتكم الساعة » المعنى: أو أتتكم الساعة التي تبعثون فيها. ثم قال: « أغير الله تدعون إن كنتم صادقين » والآية في محاجة المشركين ممن اعترف أن له صانعا؛ أي أنتم عند الشدائد ترجعون إلى الله، وسترجعون إليه يوم القيامة أيضا فلم تصرون على الشرك في حال الرفاهية؟ ! وكانوا يعبدون الأصنام ويدعون الله في صرف العذاب.

 

قوله تعالى: « بل إياه تدعون » « بل » إضراب عن الأول وإيجاب للثاني. « إياه » نصب. بـ « تدعون » « فيكشف ما تدعون إليه إن شاء » أي يكشف الضر الذي تدعون إلى كشفه إن شاء كشفه. « وتنسون ما تشركون » قيل: عند نزول العذاب. وقال الحسن: أي تعرضون عنه إعراض الناسي، وذلك لليأس من النجاة من قبله إذ لا ضرر فيه ولا نفع. وقال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى وتتركون. قال النحاس: مثل قوله: « ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي » [ طه: 115 ] .

 

الآية: 42 ( ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون )

 

قوله تعالى: « ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك » الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه إضمار؛ أي أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلا وفيه إضمار آخر يدل عليه الظاهر؛ تقديره: فكذبوا

فأخذناهم. وهذه الآية متصلة بما قبل اتصال الحال بحال قريبة منها؛ وذلك أن هؤلاء سلكوا في مخالفة نبيهم مسلك من كان قبلهم في مخالفة أنبيائهم، فكانوا بعرض أن ينزل بهم من البلاء ما نزل بمن كان قبلهم. ومعنى « بالبأساء » بالمصائب في الأموال « والضراء » في الأبدان؛ هذا قول الأكثر، وقد يوضع كل واحد منهما موضع الآخر؛ ويؤدب الله عباده بالبأساء والضراء وبما شاء « لا يسأل عما يفعل » [ الأنبياء: 23 ] . قال ابن عطية: استدل العباد في تأديب أنفسهم بالبأساء في تفريق الأموال، والضراء في الحمل على الأبدان بالجوع والعري بهذه الآية.

قلت: هذه جهالة ممن فعلها وجعل هذه الآية أصلا لها؛ هذه عقوبة من الله لمن شاء من عباده يمتحنهم بها، ولا يجوز لنا أن نمتحن أنفسنا ونكافئها قياسا عليها؛ فإنها المطية التي نبلغ عليها دار الكرامة، ونفوز بها من أهوال يوم القيامة؛ وفى التنزيل: « يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا » [ المؤمنون: 51 ] وقال: « يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم » [ البقرة: 267 ] . « يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم » [ البقرة:172 ] فأمر المؤمنين بما خاطب به المرسلين؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأكلون الطيبات ويلبسون أحسن الثياب ويتجملون بها؛ وكذلك التابعون بعدهم إلى هلم جرا، ولو كان كما زعموا واستدلوا لما كان في امتنان الله تعالى بالزروع والجنات وجميع الثمار والنبات والأنعام التي سخرها وأباح لنا أكلها وشربها ألبانها والدفء بأصوافها - إلى غير ذلك مما امتن به - كبير فائدة، فلو كان ما ذهبوا إليه فيه الفضل لكان أولى به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن بعدهم من التابعين والعلماء، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال مخافة الضعف على الأبدان، ونهى عن إضاعة المال ردا على الأغنياء الجهال.

 

قوله تعالى: « لعلهم يتضرعون » أي يدعون ويذلون، مأخوذ من الضراعة وهي الذلة؛ يقال: ضر فهو ضارع.

الآية [ 43 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات:43 - 45 ( فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون، فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون، فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين )

 

قوله تعالى: « فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا » ( لولا ) تخصيص، وهي التي تلي الفعل بمعنى هلا؛ وهذا عتاب على ترك الدعاء، وإخبار عنهم أنهم لم يتضرعوا حين نزول العذاب. ويجوز أن يكونوا تضرعوا تضرع من لم يخلص، أو تضرعوا حين لابسهم العذاب، والتضرع على هذه الوجوه غير نافع. والدعاء مأمور ب حال الرخاء والشدة؛ قال الله تعالى: « ادعوني استجب لكم » [ غافر: 60 ] وقال: « إن الذين يستكبرون عن عبادتي » [ غافر: 60 ] أي دعائي « سيدخلون جهنم داخرين » [ غافر: 60 ] وهذا وعيد شديد. « ولكن قست قلوبهم » أي صلبت وغلظت، وهي عبارة عن الكفر والإصرار على المعصية، نسأل الله العافية. « وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون » أي أغواهم بالمعاصي وحملهم عليها.

 

قوله تعالى: « فلما نسوا ما ذكروا به » يقال: لم ذموا على النسيان وليس من فعلهم؟ فالجواب: أن ( نسوا ) بمعنى تركوا ما ذكروا به، عن ابن عباس وابن جريج، وهو قول أبي علي؛ وذلك لأن التارك للشيء إعراضا عنه قد صيره بمنزلة ما قد نسي، كما يقال: تركه. في النسي. جواب آخر: وهو أنهم تعرضوا للنسيان فجاز الذم لذلك؛ كما جاز الذم على التعرض لسخط الله عز وجل وعقابه. « فتحنا عليهم أبواب كل شيء » أي من النعم والخيرات، أي كثرنا لهم ذلك. والتقدير عند أهل العربية: فتحنا عليهم أبواب كل شيء كان مغلقا عنهم. « حتى إذا فرحوا بما أوتوا » معناه بطروا وأشروا وأعجبوا وظنوا أن ذلك العطاء لا يبيد، وأنه دال على رضاء الله عز وجل عنهم « أخذناهم بغتة » أي استأصلناهم وسطونا بهم. و ( بغتة ) معناه فجأة، وهي الأخذ على غرة ومن غير تقدم أمارة؛ فإذا أخذ لإنسان وهو غار غافل فقد أخذ بغتة، وأنكى شيء ما يفجأ من البغت. وقد قيل: إن التذكير الذي سلف - فأعرضوا عنه - قام مقام الإمارة. والله أعلم. و ( بغتة ) مصدر في موضع الحال لا يقاس عليه عند سيبويه كما تقدم؛ فكان ذلك استدراجا من الله تعالى كما قال: « وأملي لهم إن كيدي متين » [ الأعراف: 183 ] نعوذ بالله من سخطه ومكره. قال بعض العلماء: رحم الله عبدا تدبر هذه الآية « حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة » . وقال محمد بن النضر الحارثي: أمهل هؤلاء القوم عشرين سنة. وروى عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا رأيتم الله تعالى يعطي العباد ما يشاؤون على معاصيهم فإنما ذلك استدراج منه لهم ) ثم تلا « فلما نسوا ما ذكروا به » الآية كلها. وقال الحسن: والله ما أحد من الناس بسط الله له في الدنيا فلم يخفف أن يكون قد مكر له فيها إلا كان قد نقص عمله، وعجز رأيه. وما أمسكها الله عن عبد فلم يظن أنه خير له فيها إلا كان قد نقص عمله، وعجز رأيه. وفي الخبر أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه وسلم: ( إذا رأيت الفقر مقبلا إليك فقل مرحبا بشعار الصالحين وإذا رأيت الغني مقبلا إليك فقل ذنب عجلت عقوبته ) .

 

قوله تعالى: « فإذا هم مبلسون » المبلس الباهت الحزين الآيس من الخير الذي لا يحير جوابا لشدة ما نزل به من سوء الحال؛ قال العجاج:

يا صاح هل تعرف رسما مكرسا قال نعم أعرفه وأبلسا

أي تحير لهول ما رأى، ومن ذلك اشتق اسم إبليس؛ أبلس الرجل سكت، وأبلست الناقة وهي مبلاس إذا لم ترغ من شدة الضبعة؛ ضبعت الناق تضبع ضبعة وضبعا إذا أرادت الفحل.

 

قوله تعالى: « فقطع دابر القوم الذين ظلموا » الدابر الآخر؛ يقال: دبر القوم يدبرهم دبرا إذا كان آخرهم في المجيء. وفي الحديث عن عبدالله بن مسعود ( من الناس من لا يأتي الصلاة إلا دبريا ) أي في آخر الوقت؛ والمعنى هنا قطع خلفهم من نسلهم وغيرهم فلم تبق لهم باقية. قال قطرب: يعني أنهم استؤصلوا وأهلكوا. قال أمية بن أبي الصلت:

فأهلكوا بعذاب حص دابرهم فما استطاعوا له صرفا ولا انتصروا

ومنه التدبير لأنه إحكام عواقب الأمور.

 

قوله تعالى: « والحمد لله رب العالمين » قيل: على إهلاكهم وقيل: تعليم للمؤمنين كيف يحمدونه. وتضمنت هذه الآية الحجة على وجوب ترك الظلم؛ لما يعقب من قطع الدابر، إلى العذاب الدائم، مع استحقاق القاطع الحمد من كل حامد.

 

الآية: 46 - 47 ( قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون، قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون )

 

قوله تعالى: « قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم » أي أذهب وانتزع. ووحد « سمعكم » لأنه مصدر يدل على الجمع. « وختم » أي طبع. وجواب ( إن ) محذوف تقديره: فمن يأتيكم به، وموضعه نصب؛ لأنها في موضع الحال، كقولك: اضربه إن خرج أي خارجا. ثم قيل: المراد المعاني القائمة بهذه الجوارح، وقد يذهب الله الجوارح والأعراض جميعا فلا يبقي شيئا، قال الله تعالى: « من قبل أن نطمس وجوها » [ النساء: 47 ] والآية احتجاج على الكفار. « من إله غير الله يأتيكم به » « من » رفع بالابتداء وخبرها « إله » و « غيره » صفة له، وكذلك « يأتيكم » موضعه رفع بأنه صفة « إله » ومخرجها مخرج الاستفهام، والجملة التي هي منها في موضع مفعولي رأيتم. ومعنى « أرأيتم » علمتم؛ ووحد الضمير في ( به ) - وقد تقدم الذكر بالجمع - لأن المعنى أي بالمأخوذ، فالهاء راجعة إلى المذكور. وقيل: على السمع بالتصريح؛ مثل قوله: « والله ورسوله أحق أن يرضوه » [ التوبة: 62 ] . ودخلت الأبصار والقلوب بدلالة التضمين. وقيل: « من إله غير الله يأتيكم » . بأحد هذه المذكورات. وقيل: على الهدى الذي تضمنه المعنى.

وقرأ عبدالرحمن الأعرج ( به انظر ) بضم الهاء على الأصل؛ لأن الأصل أن تكون الهاء مضمومة كما تقول: جئت معه. قال النقاش: في هذه الآية دليل على تفضيل السمع على البصر لتقدمته هنا وفي غير آية، وقد مضى هذا في أول « البقرة » مستوفى. وتصريف الآيات الإتيان بها من جهات؛ من إعذار وإنذار وترغيب وترهيب ونحو ذلك. « ثم هم يصدفون » أي يعرضون. عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسدي؛ يقال: صدف عن الشيء إذا أعرض عنه صدفا وصدوفا فهو صادف. وصادفته مصادفة أي لقيته عن إعراض عن جهته؛ قال ابن الرقاع:

إذا ذكرن حديثا قلن أحسنه وهن عن كل سوء يتقى صدف

والصدف في البعير أن يميل خفه من اليد أو الرجل إلى الجانب الوحشي؛ فهم يصدفون أي مائلون معرضون عن الحجج والدلالات.

 

قوله تعالى: « قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة » الحسن: « بغتة » ليلا « أو جهرة » نهارا. وقيل: بغتة فجأة. وقال الكسائي: يقال بغتهم الأمر يبغتهم بغتا وبغتة إذا أتاهم فجأة، وقد تقدم. « هل يهلك إلا القوم الظالمون » نظيره « فهل يهلك إلا القوم الفاسقون » [ الأحقاف: 35 ] أي هل يهلك إلا أنتم لشرككم؛ والظلم هنا بمعنى الشرك، كما قال لقمان لابنه: « يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم » [ لقمان: 13 ] .

 

الآية: 48 ( وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون )

 

قوله تعالى: « وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين » أي بالترغيب والترهيب. قال الحسن: مبشرين بسعة الرزق في الدنيا والثواب في الآخرة؛ يدل على ذلك قوله تعالى: « ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض » [ الأعراف: 96 ] . ومعنى ( منذرين ) مخوفين عقاب الله؛ فالمعنى: إنما أرسلنا المرسلين لهذا لا لما يقترح عليهم من الآيات، وإنما يأتون من الآيات بما تظهر معه براهينهم وصدقهم. وقوله: « فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون » . تقدم القول فيه.

 

الآية: 49 ( والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون )

 

قوله تعالى: « والذين كذبوا بآياتنا » أي بالقرآن والمعجزات. وقيل: بمحمد عليه الصلاة والسلام. « يمسهم العذاب » أي يصيبهم « بما كانوا يفسقون » أي يكفرون.

 

الآية: 50 ( قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون )

 

قوله تعالى: « قل لا أقول لكم عندي خزائن الله » هذا جواب لقولهم: « لولا نزل عليه آية من ربه » [ الأنعام: 37 ] ، فالمعنى ليس عندي خزائن قدرته فأنزل ما اقترحتموه من الآيات، ولا أعلم الغيب فأخبركم به. والخزانة ما يخزن فيه الشيء؛ ومنه الحديث ( فإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعماتهم أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته ) . وخزائن الله مقدوراته؛ أي لا أملك أن أفعل كل ما أريد مما تقترحون « ولا أعلم الغيب » أيضا « ولا أقول لكم إني ملك » وكان القوم يتوهمون أن الملائكة أفضل، أي لست بملك فأشاهد من أمور الله ما لا يشهده البشر. واستدل بهذا القائلون بأن الملائكة أفضل من الأنبياء. وقد مضى في « البقرة » القول فيه فتأمله هناك.

 

قوله تعالى: « إن أتبع إلا ما يوحى إلي » ظاهره أنه لا يقطع أمرا إلا إذا كان فيه وحي. والصحيح أن الأنبياء يجوز منهم الاجتهاد، والقياس على المنصوص، والقياس أحد أدلة الشرع. وسيأتي بيان هذا في « الأعراف » وجواز اجتهاد الأنبياء في ( الأنبياء ) إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « قل هل يستوي الأعمى والبصير » أي الكافر والمؤمن؛ عن مجاهد وغيره. وقيل: الجاهل والعالم. « أفلا تتفكرون » أنهما لا يستويان.

 

الآية: 51 ( وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون )

 

قوله تعالى: « وأنذر به » أي بالقرآن. والإنذار الإعلام وقيل: « به » أي بالله. وقيل: باليوم الآخر. وخص « الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم » لأن الحجة عليهم أوجب، فهم خائفون من عذابه، لا أنهم يترددون في الحشر؛ فالمعنى « يخافون » يتوقعون عذاب الحشر. وقيل: « يخافون » يعلمون، فإن كان مسلما أنذر ليترك المعاصي، وإن كان من أهل الكتاب أنذر ليتبع الحق. وقال الحسن: المراد المؤمنون. قال الزجاج: كل من أقر بالبعث من مؤمن وكافر. وقيل: الآية في المشركين أي أنذرهم بيوم القيامة. والأول أظهر. « ليس لهم من دونه » أي من غير الله « شفيع » هذا رد على اليهود والنصارى في زعمهما أن أباهما يشفع لهما حيث قالوا: « نحن أبناء الله وأحباؤه » [ المائدة: 18 ] والمشركون حيث جعلوا أصنامهم شفعاء لهم عند الله، فأعلم الله أن الشفاعة لا تكون للكفار. ومن قال الآية في المؤمنين قال: شفاعة الرسول لهم تكون بإذن الله فهو الشفيع حقيقة إذن؛ وفي التنزيل: « ولا يشفعون إلا لمن ارتضى » [ الأنبياء: 28 ] . « ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له » [ سبأ: 23 ] . « من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه » [ البقرة:255 ] . « لعلهم يتقون » أي في المستقبل وهو الثبات على الإيمان.

 

الآية: 52 ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين )

 

قوله تعالى: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم » الآية. قال المشركون: ولا نرضى بمجالسة أمثال هؤلاء - يعنون سلمان وصهيبا وبلالا وخبابا - فاطردهم عنك؛ وطلبوا أن يكتب لهم بذلك، فهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ودعا عليا ليكتب؛ فقام الفقراء وجلسوا ناحية؛ فأنزل الله الآية. ولهذا أشار سعد بقوله في الحديث الصحيح: فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع؛ وسيأتي ذكره. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إنما مال إلى ذلك طمعا في إسلامهم، وإسلام قومهم، ورأى أن ذلك لا يفوت أصحابه شيئا، ولا ينقص لهم قدرا، فمال إليه فأنزل الله الآية، فنهاه عما هم به من الطرد لا أنه أوقع الطرد. روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء عنك لا يجترئون علينا؛ قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسميهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله عز وجل « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه » . قيل: المراد بالدعاء المحافظة على الصلاة المكتوبة في الجماعة؛ قاله ابن عباس ومجاهد والحسن. وقيل: الذكر وقراءة القرآن. ويحتمل أن يريد الدعاء في أول النهار وآخره؛ ليستفتحوا يومهم بالدعاء رغبة في التوفيق. ويختموه بالدعاء طلبا للمغفرة. « يريدون وجهه » أي طاعته، والإخلاص فيها، أي يخلصون في عبادتهم وأعمالهم لله، ويتوجهون بذلك إليه لا لغيره. وقيل: يريدون الله الموصوف بأن له الوجه كما قال: « ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام » [ الرحمن: 27 ] وهو كقوله: « والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم » [ الرعد: 22 ] . وخص الغداة والعشي بالذكر؛ لأن الشغل غالب فيهما على الناس، ومن كان في وقت الشغل مقبلا على العبادة كان في وقت الفراغ من الشغل أعمل. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يصبر نفسه معهم كما أمره الله في قوله: « واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم » [ الكهف: 28 ] ، فكان لا يقوم حتى يكونوا هم الذين يبتدئون القيام، وقد أخرج هذا المعنى مبينا مكملا ابن ماجة في سننه عن خباب في قول الله عز وجل: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي » إلى قوله: « فتكون من الظالمين » قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري فوجدا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صهيب وبلال وعمار وخباب، قاعدا في ناس من الضعفاء من المؤمنين؛ فلما رأوهم حول النبي صلى الله عليه وسلم حقروهم؛ فأتوه فخلوا به وقالوا: إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا به العرب فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنك، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت؛ قال: ( نعم ) قالوا: فاكتب لنا عليك كتابا؛ قال: فدعا بصحيفة ودعا عليا - رضي الله عنه - ليكتب ونحن قعود في ناحية؛ فنزل جبريل عليه السلام فقال: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين » ثم ذكر الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن؛ فقال: « وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين » [ الأنعام: 53 ] ثم قال: « وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة » [ الأنعام: 54 ] قال: فدنونا منه حتى وضعنا ركبنا على ركبته؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس معنا فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا؛ فأنزل الله عز وجل « واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا » [ الكهف: 28 ] ولا تجالس الأشراف « ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا » [ الكهف: 28 ] يعني عيينة والأقرع، « واتبع هواه وكان أمره فرطا » [ الكهف: 28 ] ، أي هلاكا. قال: أمر عيينة والأقرع؛ ثم ضرب لهم مثل الرجلين ومثل الحياة الدنيا. قال خباب: فكنا نقعد مع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا بلغنا الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم؛ رواه عن أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان حدثنا عمرو بن محمد العنقزي حدثنا أسباط عن السدي عن أبي سعيد الأزدي وكان قارئ الأزد عن أبي الكنود عن خباب؛ وأخرجه أيضا عن سعد قال: نزلت هذه الآية فينا ستة، في وفي ابن مسعود وصهيب وعمار والمقداد وبلال؛ قال: قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنا لا نرضى أن نكون أتباعا لهم فاطردهم، قال: فدخل قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ما شاء الله أن يدخل؛ فأنزل الله عز وجل: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي » الآية. وقرئ ( بالغدوة ) وسيأتي بيانه في ( الكهف ) إن شاء الله.

 

قوله تعالى: « ما عليك من حسابهم من شيء » أي من جزائهم ولا كفاية أرزاقهم، أي جزاؤهم ورزقهم على الله، وجزاؤك ورزقك على الله لا على غيره. ( من ) الأولى للتبعيض، والثانية زائدة للتوكيد. وكذا « وما من حسابك عليهم من شيء » المعنى وإذا كان الأمر كذلك فاقبل عليهم وجالسهم ولا تطردهم مراعاة لحق من ليس على مثل حالهم في الدين والفضل؛ فإن فعلت كنت ظالما. وحاشاه من وقوع ذلك منه، وإنما هذا بيان للأحكام، ولئلا يقع مثل ذلك من غيره من أهل السلام؛ وهذا مثل قوله: « لئن أشركت ليحبطن عملك » [ الزمر: 65 ] وقد علم الله منه أنه لا يشرك ولا يحبط عمله. « فتطردهم » جواب النفي. « فتكون من الظالمين » نصب بالفاء في جواب النهي؛ المعنى: ولا تطرد الذين يدعون ربهم فتكون من الظالمين، وما من حسابك، عليهم من شيء فتطردهم، على التقديم والتأخير. والظلم أصله وضع الشيء في غير موضعه. وقد حصل من قوة الآية والحديث النهي عن أن يعظم أحد لجاهه ولثوبه، وعن أن يحتقر أحد لخموله ولرثاثة ثوبيه.

 

الآية: 53 ( وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين )

 

قوله تعالى: « وكذلك فتنا بعضهم ببعض » أي كما فتنا من قبلك كذلك فتنا هؤلاء. والفتنة الاختبار؛ أي عاملناهم معاملة المختبرين. « ليقولوا » نصب بلام كي، يعني الأشراف والأغنياء. « أهؤلاء » يعني الضعفاء والفقراء. « من الله عليهم من بيننا » قال النحاس: وهذا من المشكل؛ لأنه يقال: كيف فتنوا ليقولوا هذه الآية؟ لأنه إن كان إنكارا فهو كفر منهم. وفي هذا جوابان: أحدهما: أن المعنى اختبر الأغنياء بالفقراء أن تكون مرتبتهم واحدة عند النبي صلى الله عليه وسلم، ليقولوا على سبيل الاستفهام لا على سبيل الإنكار « أهؤلاء من الله عليهم من بيننا » والجواب الآخر: أنهم لما اختبروا بهذا قال عاقبته إلى أن قالوا هذا على سبيل الإنكار، وصار مثل قوله: « فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا » [ القصص: 8 ] . « أليس الله بأعلم بالشاكرين » فيمن عليهم بالإيمان دون الرؤساء الذين علم الله منهم الكفر، وهذا استفهام تقرير، وهو جواب لقولهم: « أهؤلاء من الله عليهم من بيننا » وقل: المعنى أليس الله بأعلم من يشكر الإسلام إذا هديته إليه.

 

الآية: 54 ( وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوء بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم )

 

قوله تعالى: « وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم » السلام والسلامة بمعنى واحد. ومعنى « سلام عليكم » سلمكم الله في دينكم وأنفسكم؛ نزلت في الذين نهى الله نبيه عليه الصلاة والسلام عن طردهم، فكان إذا رآهم بدأهم بالسلام وقال: ( الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام ) فعلى هذا كان السلام من جهة النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: إنه كان من جهة الله تعالى، أي أبلغهم منا السلام؛ وعلى الوجهين ففيه دليل على فضلهم ومكانتهم عند الله تعالى. وفي صحيح مسلم عن عائذ بن عمرو أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال ونفر فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها؛ قال: فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟! فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: ( يا أبا بكر لعلك أغضبتهم لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك ) فأتاهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه أغضبتكم؟ قالوا: لا؛ يغفر الله لك يا أخي؛ فهذا دليل على رفعة منازلهم وحرمتهم كما بيناه في معنى الآية. ويستفاد من هذا احترام الصالحين واجتناب ما يغضبهم أو يؤذيهم؛ فإن في ذلك غضب الله، أي حلول عقابه بمن آذى أحدا من أوليائه. وقال ابن عباس: نزلت الآية في أبى بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. وقال الفضيل بن عياض: جاء قوم من المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا قد أصبنا من الذنوب فاستغفر لنا فأعرض عنهم؛ فنزلت الآية. وروي عن أنس بن مالك مثله سواء.

 

قوله تعالى: « كتب ربكم على نفسه الرحمة » أي أوجب ذلك بخبره الصدق، ووعده الحق، فخوطب العباد على ما يعرفونه من أنه من كتب شيئا فقد أوجبه على نفسه. وقيل: كتب ذلك في اللوح المحفوظ. « أنه من عمل منكم سوءا بجهالة » أي خطيئة من غير قصد؛ قال مجاهد: لا يعلم حلالا من حرام ومن جهالته ركب الأمر، فكل من عمل خطيئة فهو بها جاهل؛ وقد مضى هذا المعنى في « النساء » وقيل: من آثر العاجل على الآخرة فهو الجاهل. « فإنه غفور رحيم » قرأ بفتح « أن » من « فأنه » ابن عامر وعاصم، وكذلك « أنه من عمل » ووافقهما نافع في « أنه من عمل » . وقرأ الباقون بالكسر فيهما؛ فمن كسر فعلى الاستئناف، والجملة مفسرة للرحمة؛ و ( إن ) إذا دخلت على الجمل كسرت وحكم ما بعد الفاء الابتداء والاستئناف فكسرت لذلك. ومن فتحهما فالأولى في موضع نصب على البدل من الرحمة، بدل الشيء من الشيء وهو هو فأعمل فيها ( كتب ) كأنه قال: كتب ربكم على نفسه أنه من عمل؛ وأما ( فأنه غفور ) بالفتح ففيه وجهان؛ أحدهما: أن يكون في موضع رفع بالابتداء والخبر مضمر، كأنه قال: فله أنه غفور رحيم؛ لأن ما بعد الفاء مبتدأ، أي فله غفران الله. الوجه الثاني: أن يضمر مبتدأ تكون ( أن ) وما عملت فيه خبره؛ تقديره: فأمره غفران الله له، وهذا اختيار سيبويه، ولم يجز الأول، وأجازه أبو حاتم. وقيل: إن ( كتب ) عمل فيها؛ أي كتب ربكم أنه غفور رحيم. وروي عن علي بن صالح وابن هرمز كسر الأولى على الاستئناف، وفتح الثانية على أن تكون مبتدأة أو خبر مبتدأ أو معمولة لكتب على ما تقدم. ومن فتح الأولى - وهو نافع - جعلها بدلا من الرحمة، واستأنف الثانية لأنها بعد الفاء، وهي قراءة بينة.

 

الآية: 55 ( وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين )

 

قوله تعالى: « وكذلك نفصل الآيات » التفصيل التبيين الذي تظهر به المعاني؛ والمعنى: وكما فصلنا لك في هذه السورة دلائلنا ومحاجتنا مع المشركين كذلك نفصل لكم الآيات في كل ما تحتاجون إليه من أمر الدين، ونبين لكم أدلتنا وحججنا في كل حق ينكره أهل الباطل. وقال القتبي: « نفصل الآيات » نأتي بها شيئا بعد شيء، ولا ننزلها جملة متصلة. « ولتستبين سبيل المجرمين » يقال: هذه اللام تتعلق بالفعل فأين الفعل الذي تتعلق به؟ فقال الكوفيون: هو مقدر؛ أي وكذلك نفصل الآيات لنبين لكم ولتستبين؛ قال النحاس: وهذا الحذف كله لا يحتاج إليه، والتقدير: وكذلك نفصل الآيات فصلناها. وقيل: إن دخول الواو للعطف على المعنى؛ أي ليظهر الحق وليستبين، قرئ بالياء والتاء. ( سبيل ) برفع اللام ونصبها، وقراءة التاء خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أي ولتستبين يا محمد سبيل المجرمين. فإن قيل: فقد كان النبي عليه السلام يستبينها؟ فالجواب عند الزجاج - أن الخطاب للنبي عليه السلام خطاب لأمته؛ فالمعنى: ولتستبينوا سبيل المجرمين. فإن قيل: فلم لم يذكر سبيل المؤمنين؟ ففي هذا جوابان؛ أحدهما: أن يكون مثل قوله: « سرابيل تقيكم الحر » [ النحل: 81 ] فالمعنى؛ وتقيكم البرد ثم حذف؛ وكذلك يكون هذا المعنى ولتستبين سبيل المؤمنين ثم حذف. والجواب الآخر: أن يقال: استبان الشيء واستبنته؛ وإذا بان سبيل المجرمين فقد بان سبيل المؤمنين. والسبيل يذكر ويؤنث؛ فتميم تذكره، وأهل الحجاز تؤنثه؛ وفي التنزيل « وإن يروا سبيل الرشد » [ الأعراف: 146 ] مذكر « لم تصدون عن سبيل الله » [ آل عمران: 99 ] مؤنث؛ وكذلك قرئ ( ولتستبين ) بالياء والتاء؛ فالتاء خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته.

 

الآية: 56 ( قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين )

 

قوله تعالى: « قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله » قيل: « تدعون » بمعنى تعبدون. وقيل: تدعونهم في مهمات أموركم على جهة العبادة؛ أراد بذلك الأصنام. « قل لا أتبع أهواءكم » فيما طلبتموه من عبادة هذه الأشياء، ومن طرد من أردتم طرده. « قد ضللت إذا » أي قد ضللت إن اتبعت أهواءكم. « وما أنا من المهتدين » أي على طريق رشد وهدى.

وقرئ « ضللت » بفتح اللام وكسرها وهما لغتان. قال أبو عمرو بن العلاء: ضللت بكسر اللام لغة تميم، وهي قراءة يحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف، والأولى هي الأصح والأفصح؛ لأنها لغة أهل الحجاز، وهي قراءة الجمهور. وقال الجوهري: والضلال والضلالة ضد الرشاد، وقد ضللت أضل، قال الله تعالى: « قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي » [ سبأ: 50 ] فهذه لغة نجد، وهي الفصيحة، وأهل العالية يقولون: ضللت بالكسر أضل.

 

الآية: 57 ( قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين )

 

قوله تعالى: « قل إني على بينة من ربي » أي دلالة ويقين وحجة وبرهان، لا على هوى؛ ومنه البينة لأنها تبين الحق وتظهره. « وكذبتم به » أي بالبينة لأنها في معنى البيان، كما قال: « وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه » [ النساء: 8 ] على ما بيناه هناك. وقيل يعود على الرب، أي كذبتم بربي لأنه جرى ذكره. وقيل: بالعذاب. وقيل: بالقرآن. وفي معنى هذه الآية والتي قبلها ما أنشده مصعب بن عبدالله بن الزبير لنفسه، وكان شاعرا محسنا رضي الله عنه:

أأقعد بعدما رجفت عظامي وكان الموت أقرب ما يليني

أجادل كل معترض خصيم وأجعل دينه غرضا لديني

فاترك ما علمت لرأي غيري وليس الرأي كالعلم اليقين

وما أنا والخصومة وهي شيء يصرف في الشمال وفي اليمين

وقد سنت لنا سنن قوام يلحن بكل فج أو وجين

وكان الحق ليس به خفاء أغر كغرة الفلق المبين

وما عوض لنا منهاج جهم بمنهاج ابن آمنة الأمين

فأما ما علمت فقد كفاني وأما ما جهلت فجنبوني

 

قوله تعالى: « ما عندي ما تستعجلون به » أي العذاب؛ فإنهم كانوا لفرط تكذيبهم يستعجلون نزوله استهزاء نحو قولهم: « أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا » [ الإسراء: 92 ] « وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء » [ الأنفال: 32 ] . وقيل: ما عندي من الآيات التي تقترحونها. « إن الحكم إلا لله » أي ما الحكم إلا لله في تأخير العذاب وتعجيله. وقيل: الحكم الفاصل بين الحق والباطل لله. « يقص الحق » أي يقص القصص الحق؛ وبه استدل من منع المجاز في القرآن، وهي قراءة نافع وابن كثير وعاصم ومجاهد والأعرج وابن عباس؛ قال ابن عباس: قال الله عز وجل: « نحن نقص عليك أحسن القصص » [ يوسف: 3 ] . والباقون « يَقْضِ الحقَّ » بالضاد المعجمة، وكذلك قرأ علي - رضي الله عنه - وأبو عبدالرحمن السلمي وسعيد بن المسيب، وهو مكتوب في المصحف بغير ياء، ولا ينبغي الوقف عليه، وهو من القضاء؛ ودل على ذلك أن بعده « وهو خير الفاصلين » والفصل لا يكون إلا قضاء دون قصص، ويقوي ذلك قوله قبله: « إن الحكم إلا لله » ويقوي ذلك أيضا قراءة ابن مسعود ( إن الحكم إلا لله يقضي بالحق ) فدخول الباء يؤكد معنى القضاء. قال النحاس: هذا لا يلزم؛ لأن معنى « يقضي » يأتي ويصنع فالمعنى: يأتي الحق، ويجوز أن يكون المعنى: يقضي القضاء الحق. قال مكي: وقراءة الصاد أحب إلي؛ لاتفاق الحرميين وعاصم على ذلك، ولأنه لو كان من القضاء للزمت الباء فيه كما أتت في قراءة ابن مسعود. قال النحاس: وهذا الاحتجاج لا يلزم؛ لأن مثل هذه الباء تحذف كثيرا.

 

الآية: 58 ( قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين )

 

قوله تعالى: « قل لو أن عندي ما تستعجلون به » أي من العذاب لأنزلته بكم حتى ينقضي الأمر إلى آخره. والاستعجال: تعجيل طلب الشيء قبل وقته. « والله أعلم بالظالمين » أي بالمشركين وبوقت عقوبتهم.

 

سورة الأنعام

 

الآية: 59 ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين )

 

جاء في الخبر أن هذه الآية لما نزلت معها اثنا عشر ألف ملك. وروي البخاري عن ابن عمر عن النبي صلى الله عيه وسلم قال: ( مفاتح الغيب خمس لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ولا يعلم ما في غد إلا الله ولا يعلم متى يأتي المطر إلا الله ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله ) . وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية؛ والله تعالى يقول: « قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله » [ النمل: 65 ] . ومفاتح جمع مفتح، هذه اللغة الفصيحة. يقال: مفتاح ويجمع مفاتيح. وهي قراءة ابن السميقع « مفاتيح » . والمفتح عبارة عن كل ما يحل غلقا، محسوسا كان كالقفل على البيت أو معقول كالنظر وروى ابن ماجة في سننه وأبو حاتم البستي في صحيحه عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه ) . وهو في الآية استعارة عن التوصل إلى الغيوب كما يتوصل في الشاهد بالمفتاح إلى المغيب عن الإنسان؛ ولذلك قال بعضهم: هو مأخوذ من قول الناس أفتح علي كذا؛ أي أعطني أو علمني ما أتوصل إليه به. فالله تعالى عنده علم الغيب، وبيده الطرق الموصلة إليه، لا يملكها إلا هو، فمن شاء إطلاعه عليها أطلعه، ومن شاء حجبه عنها حجبه. ولا يكون ذلك من إفاضته إلا على رسله؛ بدليل قوله تعالى: « وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء » [ آل عمران: 179 ] وقال: « عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول » [ الجن: 26 - 27 ] . الآية وقيل: المراد بالمفاتح خزائن الرزق؛ عن السدي والحسن. مقاتل والضحاك: خزائن الأرض. وهذا مجاز، عبر عنها بما يتوصل إليها به. وقيل: غير هذا مما يتضمنه معنى الحديث أي عنده الآجال ووقت انقضائها. وقيل: عواقب الأعمار وخواتم الأعمال؛ إلى غير هذا من الأقوال. والأول المختار. والله أعلم.

 

قال علماؤنا: أضاف سبحانه علم الغيب إلى نفسه في غير ما آية من كتابه إلا من اصطفى من عباده. فمن قال: إنه ينزل الغيث غدا وجزم فهو كافر، أخبر عنه بأمارة ادعاها أم لا. وكذلك من قال: إنه يعلم ما في الرحم فهو كافر؛ فإن لم يجزم وقال: إن النوء ينزل الله به الماء عادة، وأنه سبب الماء عادة، وأنه سبب الماء على ما قدره وسبق في علمه لم يكفر؛ إلا أنه يستحب له ألا يتكلم به، فإن فيه تشبيها بكلمة أهل الكفر، وجهلا بلطيف حكمته؛ لأنه ينزل متى شاء، مرة بنوء كذا، ومرة دون النوء؛ قال الله تعالى: ( أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بالكوكب ) على ما يأتي بيانه في « الواقعة » إن شاء الله. قال ابن العربي: وكذلك قول الطبيب: إذا كان الثدي الأيمن مسود الحلمة فهو ذكر، وإن كان في الثدي الأيسر فهو أنثى، وإن كانت المرأة تجد الجنب الأيمن أثقل فالولد أنثى؛ وادعى ذلك عادة لا واجبا في الخلقة لم يكفر ولم يفسق. وأما من ادعى الكسب في مستقبل العمر فهو كافر. أو أخبر عن الكوائن المجملة أو المفصلة في أن تكون قبل أن تكون فلا ريبة في كفره أيضا. فأما من أخبر عن كسوف الشمس والقمر فقد قال علماؤنا: يؤدب ولا يسجن. أما عدم تكفيره فلأن جماعة قالوا: إنه أمر يدرك بالحساب وتقدير المنازل حسب ما أخبر الله عنه من قوله: « والقمر قدرناه منازل » [ يس: 39 ] . وأما أدبهم فلأنهم يدخلون الشك على العامة، إذ لا يدركون الفرق بين هذا وغيره؛ فيشوشون عقائدهم ويتركون قواعدهم في اليقين فأدبوا حتى يسروا ذلك إذا عرفوه ولا يعلنوا به.

قلت: ومن هذا الباب أيضا ما جاء في صحيح مسلم عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أتى عرافا فسأل عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ) . والعراف هو الحازر والمنجم الذي يدعي علم الغيب. وهي من العرافة وصاحبها عراف، وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها. وقد يعتضد بعض أهل هذا الفن في ذلك بالزجر والطرق والنجوم، وأسباب معتادة في ذلك. وهذا الفن هو العيافة ( بالياء ) . وكذا ينطلق عليها اسم الكهانة؛ قاله القاضي عياض. والكهانة: ادعاء علم الغيب. قال أبو عمر بن عبدالبر في كتاب ( الكافي ) : من المكاسب المجتمع على تحريمها الربا ومهور البغايا والسحت والرشا وأخذ الأجرة على النياحة والغناء، وعلى الكهانة وادعاء الغيب وأخبار السماء، وعلى الزمر واللعب والباطل كله. قال علماؤنا: وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان بإتيان المنجمين، والكهان لا سيما بالديار المصرية؛ فقد شاع في رؤسائهم وأتباعهم وأمرائهم اتخاذ المنجمين، بل ولقد أنخدع كثير من المنتسبين للفقه والدين فجاؤوا إلى هؤلاء الكهنة والعرافين فبهرجوا عليهم بالمحال، واستخرجوا منهم الأموال فحصلوا من أقوالهم على السراب والآل، ومن أديانهم على الفساد والضلال. وكل ذلك من الكبائر؛ لقوله عليه السلام: ( لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ) . فكيف بمن أتخذهم وأنفق عليهم معتمدا على أقوالهم. روى مسلم رحمه الله عن عائشة رضي الله عنها قالت: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أناس عن الكهان فقال: ( إنهم ليسوا بشيء ) فقالوا: يا رسول الله، إنهم يحدثونا أحيانا بشيء فيكون حقا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة فيخلطون معها مائة كذبة ) . قال الحميدي: ليس ليحيى بن عروة عن أبيه عن عائشة في الصحيح غير هذا وأخرجه البخاري أيضا من حديث أبي الأسود محمد بن عبدالرحمن عن عروة عن عائشة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الملائكة تنزل في العنان وهو السحاب فتذكر الأمر قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم ) . وسيأتي هذا المعنى في « سبأ » إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « ويعلم ما في البر والبحر » خصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات المجاورة للبشر، أي يعلم ما يهلك في البر والبحر. ويقال: يعلم ما في البر من النبات والحب والنوى، وما في البحر من الدواب ورزق ما فيها « وما تسقط من ورقة إلا يعلمها » روى يزيد بن هارون عن محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من زرع على الأرض ولا ثمار على الأشجار ولا حبة في ظلمات الأرض إلا عليها مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم رزق فلان بن فلان ) وذلك قوله في محكم كتابه: « وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين » . وحكى النقاش عن جعفر بن محمد أن الورقة يراد بها السقط من أولاد بني آدم، والحبة يراد بها الذي ليس بسقط، والرطب يراد به الحي، واليابس يراد به الميت. قال ابن عطية: وهذا قول جار على طريقة الرموز، ولا يصح عن جعفر بن محمد ولا ينبغي أن يلتفت إليه. وقيل: المعنى « وما تسقط من ورقة » أي من ورقة الشجر إلا يعلم متى تسقط وأين تسقط وكم تدور في الهواء، ولا حبة إلا يعلم متى تنبت وكم تنبت ومن يأكلها، « وظلمات الأرض » بطونها وهذا أصح؛ فإنه موافق للحديث وهو مقتضى الآية. والله الموفق للهداية. وقيل: « في ظلمات الأرض » يعني الصخرة التي هي أسفل الأرضين السابعة. « ولا رطب ولا يابس » بالخفض عطفا على اللفظ. وقرأ ابن السميقع والحسن وغيرهما بالرفع فيهما عطفا على موضع « من ورق » ؛ فـ « من » على هذا للتوكيد « إلا في كتاب مبين » أي في اللوح المحفوظ لتعتبر الملائكة بذلك، لا أنه سبحانه كتب ذلك لنسيان يلحقه، تعالى عن ذلك. وقيل: كتبه وهو يعلمه لتعظيم الأمر، أي اعلموا أن هذا الذي ليس فيه ثواب ولا عقاب مكتوب، فكيف بما فيه ثواب وعقاب.

 

الآية: 60 ( وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون )

 

قوله تعالى: « وهو الذي يتوفاكم بالليل » أي ينيمكم فيقبض نفوسكم التي بها تميزون، وليس ذلك موتا حقيقة بل هو قبض الأرواح عن التصرف بالنوم كما يقبضها بالموت. والتوفي استيفاء الشيء. وتوفي الميت استوفى عدد أيام عمره، والذي ينام كأنه استوفى حركاته في اليقظة. والوفاة الموت. وأوفيتك المال، وتوفيته، واستوفيته إذا أخذته أجمع. وقال الشاعر:

إن بني الأدرد ليسوا من أحد ولا توفاهم قريش في العدد

ويقال: إن الروح إذا خرج من البدن في المنام تبقى فيه الحياة؛ ولهذا تكون فيه الحركة والتنفس، فإذا انقضى عمره خرج روحه وتنقطع حياته، وصار ميتا لا يتحرك ولا يتنفس. وقال بعضهم. لا تخرج منه الروح، ولكن يخرج منه الذهن. ويقال: هذا أمر لا يعرف حقيقته إلا الله تعالى. وهذا أصح الأقاويل، والله أعلم. « ثم يبعثكم فيه » أي في النهار؛ ويعني اليقظة. « ليقضى أجل مسمى » أي ليستوفي كل إنسان أجلا ضرب له. وقرأ أبو رجاء وطلحة بن مصرف « ليقضي أجلا مسمى » أي عنده. « جرحتم » كسبتم، وقد تقدم في ( المائدة ) . وفي الآية تقديم وتأخير، والتقدير وهو الذي يتوفاكم بالليل ثم يبعثكم بالنهار ويعلم ما جرحتم فيه؛ فقدم الأهم الذي من أجله وقع البعث في النهار. وقال ابن جريج « ثم يبعثكم فيه » أي في المنام. ومعنى الآية: إن إمهاله تعالى للكفار ليس لغفلة عن كفرهم فإنه أحصى كل شيء عددا وعلمه وأثبته، ولكن ليقضي أجلا مسمى من رزق وحياة، ثم يرجعون إليه فيجازيهم. وقد دل على الحشر والنشر بالبعث؛ لأن النشأة الثانية منزلتها بعد الأولى كمنزلة اليقظة بعد النوم في أن من قدر على أحدهما فهو قادر على الآخر.

 

الآية: 61 ( وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون )

 

قوله تعالى: « وهو القاهر فوق عباده » يعني فوقية المكانة والرتبة لا فوقية المكان والجهة. « ويرسل عليكم حفظة » أي من الملائكة. والإرسال حقيقته إطلاق الشيء بما حمل من الرسالة؛ فإرسال الملائكة بما حملوا من الحفظ الذي أمروا به، كما قال: « وإن عليكم لحافظين » [ الانفطار: 10 ] أي ملائكة تحفظ أعمال العباد وتحفظهم من الآفات. والحفظة جمع حافظ، مثل الكتبة والكاتب. ويقال: إنهما ملكان بالليل وملكان بالنهار، يكتب أحدهما الخير والآخر الشر، إذا مشى الإنسان يكون أحدهما بين يديه والآخر وراءه، وإذا جلس يكون أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله؛ لقوله تعالى: « عن اليمين وعن الشمال قعيد » [ ق: 17 ] . ويقال: لكل إنسان خمسة من الملائكة: اثنان بالليل، واثنان بالنهار، والخامس لا يفارقه ليلا ولا نهارا. والله أعلم. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

ومن الناس من يعيش شقيا جاهل القلب غافل اليقظه

فإذا كان ذا وفاء ورأي حذر الموت واتقى الحفظه

إنما الناس راحل ومقيم فالذي بان للمقيم عظه

 

قوله تعالى: « حتى إذا جاء أحدكم الموت » يريد أسبابه؛ كما تقدم في سورة ( البقرة ) . « توفته رسلنا » على تأنيث الجماعة؛ كما قال: « ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات » [ المائدة: 32 ] و « كذبت رسل » [ فاطر: 4 ] . وقرأ حمزة « توفاه رسلنا » على تذكير الجمع. وقرأ الأعمش « تتوفاه رسلنا » بزيادة تاء والتذكير. والمراد أعوان ملك الموت؛ قاله ابن عباس وغيره. ويروى أنهم يسلون الروح من الجسد حتى إذا كان عند قبضها قبضها ملك الموت. وقال الكلبي: يقبض ملك الموت الروح من الجسد ثم يسلمها إلى ملائكة الرحمة إن كان مؤمنا أو إلى ملائكة العذاب إن كان كافرا. ويقال: معه سبعة من ملائكة الرحمة وسبعة من ملائكة العذاب؛ فإذا قبض نفسا مؤمنة دفعها إلى ملائكة الرحمة فيبشرونها بالثواب ويصعدون بها إلى السماء، إذا قبض نفسا كافرة دفعها إلى ملائكة العذاب فيبشرونها بالعذاب ويفزعونها، ثم يصعدون بها إلى السماء ثم ترد إلى سجين، وروح المؤمن إلى عليين. والتوفي تارة يضاف إلى ملك الموت؛ كما قال: « قل يتوفاكم ملك الموت » [ السجدة: 11 ] وتارة إلى الملائكة لأنهم يتولون ذلك؛ كما في هذه الآية وغيرها. وتارة إلى الله وهو المتوفي على الحقيقة؛ كما قال: « الله يتوفى الأنفس حين موتها » [ الزمر: 42 ] « قل الله يحييكم ثم يميتكم » [ الجاثية: 26 ] « الذي خلق الموت والحياة » [ الملك: 2 ] فكل مأمور من الملائكة فإنما يفعل ما أمر به. « وهم لا يفرطون » أي لا يضيعون ولا يقصرون، أي يطيعون أمر الله. وأصله من التقدم، كما تقدم. فمعنى فرط قدم العجز. وقال أبو عبيدة: لا يتوانون. وقرأ عبيد بن عمير « لا يفرطون » بالتخفيف، أي لا يجاوزون الحد فيما أمروا به الإكرام والإهانة.

 

الآية: 62 ( ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين )

 

قوله تعالى: « ثم ردوا إلى الله » أي ردهم الله بالبعث للحساب. « مولاهم الحق » أي خالقهم ورازقهم وباعثهم ومالكهم. « الحق » بالخفض قراءة الجمهور، على النعت والصفة لاسم الله تعالى. وقرأ الحسن « الحق » بالنصب على إضمار أعني، أو على المصدر، أي حقا. « ألا له الحكم » أي اعلموا وقولوا له الحكم وحده يوم القيامة، أي القضاء والفصل. « وهو أسرع الحاسبين » أي لا يحتاج إلى فكرة وروية ولا عقد يد. وقد تقدم.

 

الآية: 63 ( قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين )

 

قوله تعالى: « قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر » أي شدائدهما؛ يقال: يوم مظلم أي شديد. قال النحاس: والعرب تقول: يوم مظلم إذا كان شديدا، فإن عظمت ذلك قالت: يوم ذو كواكب؛ وأنشد سيبويه:

بني أسد هل تعلمون بلاءنا إذا كان يوم ذو كواكب أشنعا

وجمع « الظلمات » على أنه يعني ظلمة البر وظلمة البحر وظلمة الليل وظلمة الغيم، أي إذا أخطأتم الطريق وخفتم الهلاك دعوتموه « لئن أنجانا من هذه » أي من هذه الشدائد « لنكونن من الشاكرين » أي من الطائعين. فوبخهم الله في دعائهم إياه عند الشدائد، وهم يدعون معه في حال الرخاء غيره بقوله: « ثم أنتم تشركون » . وقرأ الأعمش « وخيفة » من الخوف، وقرأ أبو بكر عن عاصم « خفية » بكسر الخاء، والباقون بضمها، لغتان. وزاد الفراء خفوة وخفوة. قال: ونظيره حبية وحبية وحبوة وحبوة. وقراءة الأعمش بعيدة؛ لأن معنى « تضرعا » أن تظهروا التذلل و « خفية » أن تبطنوا مثل ذلك. وقرأ الكوفيون « لئن أنجانا » واتساق المعنى بالتاء؛ كما قرأ أهل المدينة وأهل الشأم.

 

الآية: 64 ( قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون )

 

قوله تعالى: « قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب » وقرأ الكوفيون « ينجيكم » بالتشديد، الباقون بالتخفيف. قيل: معناهما واحد مثل نجا وأنجيته ونجيته. وقيل: التشديد للتكثير. والكرب: الغم يأخذ بالنفس؛ يقال منه: رجل مكروب. قال عنترة:

ومكروب كشفت الكرب عنه بطعنة فيصل لما دعاني

والكربة مشتقة من ذلك.

 

قوله تعالى: « ثم أنتم تشركون » تقريع وتوبيخ؛ مثل قوله في أول السورة « ثم أنتم تمترون » . لأن الحجة إذا قامت بعد المعرفة وجب الإخلاص، وهم قد جعلوا بدلا منه وهو الإشراك؛ فحسن أن يقرعوا ويوبخوا على هذه الجهة وإن كانوا مشركين قبل النجاة.

 

الآية: 65 ( قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون )

 

قوله تعالى: « قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا » أي القادر على إنجائكم من الكرب، قادر على تعذيبكم. ومعنى « من فوقكم » الرجم بالحجارة والطوفان والصيحة والريح؛ كما فعل بعاد وثمود وقوم شعيب وقوم لوط وقوم نوح؛ عن مجاهد وابن جبير وغيرهما. « أو من تحت أرجلكم » الخسف والرجفة؛ كما فعل بقارون وأصحاب مدين. وقيل: « من فوقكم » يعني الأمراء الظلمة، « ومن تحت أرجلكم » يعني السفلة وعبيد السوء؛ عن ابن عباس ومجاهد أيضا. « أو يلبسكم شيعا » وروي عن أبي عبدالله المدني « أو يلبسكم » بضم الياء، أي يجللكم العذاب ويعمكم به، وهذا من اللبس بضم الأول، وقراءة الفتح من اللبس. وهو موضع مشكل والأعراب يبينه. أي يلبس عليكم أمركم، فحذف أحد المفعولين وحرف الجر؛ كما قال: « وإذا كالوهم أو وزنوهم » [ المطففين: 3 ] وهذا اللبس بأن يخلط أمرهم فيجعلهم مختلفي الأهواء؛ عن ابن عباس. وقيل: معنى « يلبسكم شيعا » بقوي عدوكم حتى يخالطكم وإذا خالطكم فقد لبسكم. « شيعا » معناه فرقا. وقيل يجعلكم فرقا يقاتل بعضكم بعضا؛ وذلك بتخليط أمرهم وافتراق أمرائهم على طلب الدنيا. وهو معنى قوله « ويذيق بعضكم بأس بعض » أي بالحرب والقتل في الفتنة؛ عن مجاهد. والآية عامة في المسلمين والكفار. وقيل هي في الكفار خاصة. وقال الحسن: هي في أهل الصلاة.

قلت: وهو الصحيح؛ فإنه المشاهد في الوجود، فقد لبسنا العدو في ديارنا واستولى على أنفسنا وأموالنا، مع الفتنة المستولية علينا بقتل بعضنا بعضا واستباحة بعضنا أموال بعض. نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. وعن الحسن أيضا أنه تأول ذلك فيما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم. روى مسلم عن ثوبان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وأن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة عامة وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني قد أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة وألا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من أقطارها أو قال من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا ) . وروى النسائي عن خباب بن الأرت، وكان قد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه راقب رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة كلها حتى كان مع الفجر، فلما سلم رسول الله من صلاته جاءه خباب فقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي! لقد صليت الليلة صلاة ما رأيتك صليت نحوها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أجل إنها صلاة رغب ورهب سألت الله عز وجل فيها ثلاث خصال فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألت ربي عز وجل ألا يهلكنا بما أهلك به الأمم فأعطانيها وسألت ربي عز وجل ألا يظهر علينا عدوا من غيرنا فأعطانيها وسألت ربي عز وجل ألا يلبسنا شيعا فمنعنيها ) . وقد أتينا على هذه الأخبار في كتاب ( التذكرة ) والحمد لله. وروي أنه لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل: ( يا جبريل ما بقاء أمتي على ذلك ) ؟ فقال له جبريل: ( إنما أنا عبد مثلك فادع ربك وسله لأمتك ) فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ وأسبغ الوضوء وصلى وأحسن الصلاة، ثم دعا فنزل جبريل وقال: ( يا محمد إن الله تعالى سمع مقالتك وأجارهم من خصلتين وهو العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ) . فقال: ( يا جبريل ما بقاء أمتي إذا كان فيهم أهواء مختلفة ويذيق بعضهم بأس بعض ) ؟ فنزل جبريل بهذه الآية: « الم. أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا » [ العنكبوت: 1 - 2 ] الآية. وروى عمرو بن دينار عن جابر بن عبدالله قال: لما نزلت هذه الآية « قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم » قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أعوذ بوجه الله « فلما نزلت » أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض « قال: ( هاتان أهون ) . وفي سنن ابن ماجة عن ابن عمر قال: ( لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الكلمات حين يصبح: ويمسي اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة. اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي. اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي واحفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بك أن أغتال من تحتي ) . قال وكيع: يعني الخسف. »

 

قوله تعالى: « انظر كيف نصرف الآيات » أي نبين لهم الحجج والدلالات. « لعلهم يفقهون » يريد بطلان ما هم عليه من الشرك والمعاصي.

 

الآية: 66 ( وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل )

 

قوله تعالى: « وكذب به قومك » أي بالقرآن. وقرأ ابن أبي عبلة « وكذبت » . بالتاء. « وهو الحق » أي القصص الحق. « قل لست عليكم بوكيل » قال الحسن: لست بحافظ أعمالكم حتى أجازيكم عليها، إنما أنا منذر وقد بلغت؛ نظيره « وما أنا عليكم بحفيظ » [ هود: 86 ] أي أحفظ عليكم أعمالكم. ثم قيل: هذا منسوخ بآية القتال. وقيل: ليس بمنسوخ، إذ لم يكن في وسعه إيمانهم.

 

الآية: 67 ( لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون )

 

قوله تعالى: « لكل نبأ مستقر » لكل خبر حقيقة، أي لكل شيء وقت يقع فيه من غير تقدم وتأخر. وقيل: أي لكل عمل جزاء. قال الحسن: هذا وعيد من الله تعالى للكفار؛ لأنهم كانوا لا يقرون بالبعث. الزجاج: يجوز أن يكون وعيدا بما ينزل بهم في الدنيا. قال السدي: استقر يوم بدر ما كان يعدهم به من العذاب. وذكر الثعلبي أنه رأى في بعض التفاسير أن هذه الآية نافعة من وجع الضرس إذا كتبت على كاغد ووضع على السن.

 

الآية: 68 ( وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين )

 

قوله تعالى: « وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا » بالتكذيب والرد والاستهزاء « فأعرض عنهم » والخطاب مجرد للنبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: إن المؤمنين داخلون في الخطاب معه. وهو صحيح؛ فإن العلة سماع الخوض في آيات الله، وذلك يشملهم وإياه. وقيل: المراد به النبي صلى الله عليه وسلم وحد؛ لأن قيامه عن المشركين كان يشق عليهم، ولم يكن المؤمنون عندهم كذلك؛ فأمر أن ينابذهم بالقيام عنهم إذا استهزؤوا وخاضوا ليتأدبوا بذلك ويدعوا الخوض والاستهزاء. والخوض أصله في الماء، ثم استعمل بعد في غمرات الأشياء التي هي مجاهل، تشبيها بغمرات الماء فاستعير من المحسوس للمعقول. وقيل: هو مأخوذ من الخلط. وكل شيء خضته فقد خلطته؛ ومنه خاض الماء بالعسل خلط. فأدب الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه الآية؛ لأنه كان يقعد إلى قوم من المشركين يعظهم ويدعوهم فيستهزؤون بالقرآن؛ فأمره الله أن يعرض عنهم إعراض منكر. ودل بهذا على أن الرجل إذا علم من الآخر منكرا وعلم أنه لا يقبل منه فعليه أن يعرض عنه إعراض منكر ولا يقبل عليه. وروى شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: « وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا » قال: هم الذين يستهزؤون بكتاب الله، نهاه الله عن أن يجلس معهم إلا أن ينسى فإذا ذكر قام. وروى ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: هم الذين يقولون في القرآن غير الحق.

 

في هذه الآية رد من كتاب الله عز وجل على من زعم أن الأئمة الذين هم حجج وأتباعهم لهم أن يخالطوا الفاسقين ويصوبوا آراءهم تقية. وذكر الطبري عن أبي جعفر محمد بن علي رضي الله عنه أنه قال: لا تجالسوا أهل الخصومات، فإنهم الذين يخوضون في آيات الله. قال ابن العربي: وهذا دليل على أن مجالسة أهل الكبائر لا تحل. قال ابن خويز منداد: من خاض في آيات الله تركت مجالسته وهجر، مؤمنا كان أو كافرا. قال: وكذلك منع أصحابنا الدخول إلى أرض العدو ودخول كنائسهم والبيع، ومجالس الكفار وأهل البدع، وألا تعتقد مودتهم ولا يسمع كلامهم لا مناظرتهم. وقد قال بعض أهل البدع لأبي عمران النخعي: أسمع مني كلمة، فأعرض عنه وقال: ولا نصف كلمة. ومثله عن أيوب السختياني. وقال الفضيل بن عياض: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الإسلام من قلبه، ومن زوج كريمته من مبتدع فقد قطع رحمها، ومن جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة، وإذا علم الله عز وجل من رجل أنه مبغض لصاحب بدعة رجوت أن يغفر الله له. وروى أبو عبدالله الحاكم عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام ) . فبطل بهذا كله قول من زعم أن مجالستهم جائزة إذا صانوا أسماعهم.

 

قوله تعالى: « وإما ينسينك » « إما » شرط، فيلزمها النون الثقيلة في الأغلب وقد لا تلزم؛ كما قال:

إما يصبك عدو في مناوأة يوما فقد كنت تستعلي وتنتصر

وقرأ ابن عباس وابن عامر « ينسينك » بتشديد السين على التكثير؛ يقال: نسى وأنسى بمعنى واحد لغتان؛ قال الشاعر:

قالت سليمى أتسري اليوم أم تقل وقد ينسيك بعض الحاجة الكسل

وقال امرؤ القيس:

تنسني إذا قمت سربالي

المعنى: يا محمد إن أنساك الشيطان أن تقوم عنهم فجالستهم بعد النهي. « فلا تقعد بعد الذكرى » أي إذا ذكرت فلا تقعد « مع القوم الظالمين يعني المشركين. والذكرى اسم للتذكير. »

قيل: هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته؛ ذهبوا إلى تبرئته عليه السلام من النسيان. وقيل: هو خاص به، والنسيان جائز عليه. قال ابن العربي: وإن عذرنا أصحابنا في قولهم إن قوله تعالى: « لئن أشركت ليحبطن عملك » [ الزمر: 65 ] خطاب للأمة باسم النبي صلى الله عليه وسلم لاستحالة الشرك عليه، فلا عذر لهم في هذا لجواز النسيان عليه. قال عليه السلام؛ ( نسي آدم فنسيت ذريته ) خرجه الترمذي وصححه. وقال مخبرا عن نفسه: ( إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني ) . خرجه في الصحيح، فأضاف النسيان إليه. وقال وقد سمع قراءة رجل: ( لقد أذكرني آية كذا وكذا كنت أنسيتها ) . واختلفوا بعد جواز النسيان عليه؛ هل يكون فيما طريقه البلاغ من الأفعال وأحكام الشرع أم لا.؟ فذهب إلى الأول فيما ذكره القاضي عياض عامة العلماء والأئمة النظار؛ كما هو ظاهر القرآن والأحاديث، لكن شرط الأئمة أن الله تعالى ينبهه على ذلك ولا يقره عليه. ثم اختلفوا هل من شرط التنبيه اتصال بالحادثة على الفور، وهو مذهب القاضي أبي بكر والأكثر من العلماء، أو يجوز في ذلك التراخي ما لم ينخرم عمره وينقطع تبليغه، وإليه نحا أبو المعالي. ومنعت طائفة من العلماء السهو عليه في الأفعال البلاغية والعبادات الشرعية؛ كما منعوه اتفاقا في الأقوال البلاغية، واعتذروا عن الظواهر الواردة في ذلك؛ وإليه مال الأستاذ أبو إسحاق. وشذت الباطنية وطائفة من أرباب علم القلوب فقالوا: لا يجوز النسيان عليه، وإنما ينسى قصدا ويتعمد صورة النسيان ليسن. ونحا إلى هذا عظيم من أئمة التحقيق وهو أبو المظفر الإسفراييني في كتابه ( الأوسط ) وهو منحى غير سديد، وجمع الضد مع الضد مستحيل بعيد.

 

الآية: 69 ( وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون )

 

قال ابن عباس: لما نزل لا تقعدوا مع المشركين وهو المراد بقوله: « فأعرض عنهم » قال المسلمون: لا يمكننا دخول المسجد والطواف؛ فنزلت هذه الآية. « ولكن ذكرى » أي فإن قعدوا يعني المؤمنين فليذكروهم. « لعلهم يتقون » الله في ترك ما هم فيه. ثم قيل: نسخ هذا بقوله: « وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره » [ النساء: 140 ] . وإنما كانت الرخصة قبل الفتح وكان الوقت وقت تقية. وأشار بقول: « وقد نزل عليكم في الكتاب » [ النساء: 140 ] إلى قوله: « وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا » [ الأنعام: 70 ] . قال القشيري: والأظهر أن الآية ليست منسوخة. والمعنى: ما عليكم شيء من حساب المشركين، فعليكم بتذكيرهم وزجرهم فإن أبوا فحسابهم على الله. و « ذكرى » في موضع نصب على المصدر، ويجوز أن تكون في موضع رفع؛ أي ولكن الذي يفعلونه ذكرى، أي ولكن عليهم ذكرى. وقال الكسائي: المعنى ولكن هذه ذكرى.

 

الآية: 70 ( وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون )

 

قوله تعالى: « وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا » أي لا تعلق قلبك بهم فإنهم أهل تعنت إن كنت مأمورا بوعظهم. قال قتادة: هذا منسوخ، نسخه « فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم » [ التوبة: 5 ] . ومعنى « لعبا ولهوا » أي استهزاء بالدين الذي دعوتهم إليه. وقيل: استهزؤوا بالدين الذي هم عليه فلم يعملوا به. والاستهزاء ليس مسوغا في دين. وقيل: « لعبا ولهوا » باطلا وفرحا، وقد تقدم هذا. وجاء اللعب مقدما في أربعة مواضع، وقد نظمت.

إذا أتى لعب ولهو وكم من موضع هو في القرآن

فحرف في الحديد وفي القتال وفي الأنعام منها موضعان

وقيل: المراد بالدين هنا العيد. قال الكلبي: إن الله تعالى جعل لكل قوم عيدا يعظمونه ويصلون فيه لله تعالى، وكل قوم اتخذوا عيدهم لعبا ولهوا إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم اتخذوه وصلاة وذكرا وحضورا بالصدقة، مثل الجمعة والفطر والنحر.

 

قوله تعالى: « وغرتهم الحياة الدنيا » أي لم يعلموا إلا ظاهرا من الحياة الدنيا. « وذكر به » أي بالقرآن أو بالحساب. « أن تبسل نفس بما كسبت » أي ترتهن وتسلم للهلكة؛ عن مجاهد وقتادة والحسن وعكرمة والسدي. والإبسال: تسليم المرء للهلاك؛ هذا هو المعروف في اللغة. أبسلت ولدي أرهنته؛ قال عوف بن الأحوص بن جعفر:

وإبسالي بني بغير جرم بعوناه ولا بدم مراق

« بعوناه » بالعين المهملة معناه جنيناه. والبعو الجناية. وكان حمل عن غني لبني قشير دم ابني السجيفة فقالوا: لا نرضى بك؛ فرهنهم بنيه طلبا للصلح. وأنشد النابغة الجعدي:

ونحن رهنا بالأفاقة عامرا بما كان في الدرداء رهنا فأبسلا

الدرداء: كتيبة كانت لهم. « ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع » تقدم معناه.

 

قوله تعالى: « وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها » الآية. العدل الفدية، والحميم الماء الحار؛ وفي التنزيل « يصب من فوق رؤوسهم الحميم » [ الحج: 19 ] الآية. « يطوفون بينها وبين حميم آن » [ الرحمن: 44 ] . والآية منسوخة بآية القتال. وقيل: ليست بمنسوخة؛ لأن قوله: « وذر الذين اتخذوا دينهم » تهديد؛ كقول: « ذرهم يأكلوا ويتمتعوا » [ الحجر: 3 ] . ومعناه لا تحزن عليهم؛ فإنما عليك التبليغ والتذكير بإبسال النفوس. فمن أبسل فقد أسلم وارتهن. وقيل: أصله التحريم، من قولهم: هذا بسل عليك أي حرام؛ فكأنهم حرموا الجنة وحرمت عليهم الجنة. قال الشاعر:

أجارتكم بسل علينا محرم وجارتنا حل لكم وحليلها

والإبسال: التحريم.

 

الآيتان: 71 - 72 ( قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين، وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون )

 

قوله تعالى: « قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا » أي ما لا ينفعنا إن دعوناه. « ولا يضرنا » إن تركناه؛ يريد الأصنام. « ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله » أي نرجع إلى الضلالة بعد الهدى. وواحد الأعقاب عقب وهو مؤنث، وتصغيره عقيبة. يقال: رجع فلان على عقبيه، إذا أدبر. قال أبو عبيدة: يقال لمن رد عن حاجته ولم يظفر بها: قد رد على عقبيه. وقال المبرد: معناه تعقب بالشر بعد الخير. وأصله من العاقبة والعقبى وهما ما كان تاليا للشيء واجبا أن يتبعه؛ ومنه « والعاقبة للمتقين » [ الأعراف: 128 ] . ومنه عقب الرجل. ومنه العقوبة، لأنها تالية للذنب، وعنه تكون.

 

قوله تعالى: « كالذي » الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف. « استهوته الشياطين في الأرض حيران » أي استغوته وزينت له هواه ودعته إليه. يقال: هوى يهوي إلى الشيء أسرع إليه. وقال الزجاج: هو من هوى يهوي، من هوى النفس؛ أي زين له الشيطان هواه. وقراءة الجماعة « استهوته » أي هوت به، على تأنيث الجماعة. وقرأ حمزة « استهواه الشياطين » على تذكير الجمع. وروي عن ابن مسعود « استهواه الشيطان » ، وروي عن الحسن، وهو كذلك في حرف أبي. ومعنى « ائتنا » تابعنا. وفي قراءة عبدالله أيضا « يدعونه إلى الهدى بينا » . وعن الحسن أيضا « استهوته الشياطون » . « حيران » نصب على الحال، ولم ينصرف لأن أنثاه حيرى كسكران وسكرى وغضبان وغضبى. والحيران هو الذي لا يهتدي لجهة أمره. وقد حار يحار حيرا وحيرورة، أي تردد. وبه سمي الماء المستنقع الذي لا منفذ له حائرا، والجمع حوران. والحائر الموضع الذي يتحير فيه الماء. قال الشاعر:

تخطو على برديتين غذاهما غدق بساحة حائر يعبوب

قال ابن عباس: أي مثل عابد الصنم مثل من دعاه الغول فيتبعه فيصبح وقد ألقته في مضلة ومهلكة؛ فهو حائر في تلك المهامه. وقال في رواية أبي صالح: نزلت في عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق، كان يدعو أباه إلى الكفر وأبواه يدعوانه إلى الإسلام والمسلمون؛ وهو معنى قوله: « له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى » فيأبى. قال أبو عمر: أمه أم رومان بنت الحارث بن غنم الكنانية؛ فهو شقيق عائشة. وشهد عبدالرحمن بن أبي بكر بدرا وأحدا مع قومه وهو كافر، ودعا إلى البراز فقام إليه أبوه ليبارزه فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له ( متعني بنفسك ) . ثم أسلم وحسن إسلامه، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم في هدنة الحديبية. هذا قول أهل السير. قالوا: كان اسمه عبدالكعبة فغير رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه عبدالرحمن، وكان أسن ولد أبي بكر. قال: إنه لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم أربعة ولاء: أب وبنوه إلا أبا قحافة وابنه أبا بكر وابنه عبدالرحمن بن أبي بكر وابنه أبا عتيق محمد بن عبدالرحمن. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « وأمرنا لنسلم لرب العالمين وأن أقيموا الصلاة واتقوه » اللام لام كي، أي أمرنا كي نسلم وبأن أقيموا الصلاة؛ لأن حروف الإضافة يعطف بعضها على بعض. قال الفراء: المعنى أمرنا بأن نسلم؛ لأن العرب تقول: أمرتك لتذهب، وبأن تذهب بمعنى. قال النحاس: سمعت أبا الحسن بن كيسان يقول هي لام الخفض، واللامات كلها ثلاث: لام خفض ولام أمر ولام توكيد، لا يخرج شيء عنها. والإسلام الإخلاص. وإقامة الصلاة الإتيان بها والدوام عليها. ويجوز أن يكون « وأن أقيموا الصلاة » عطفا على المعنى، أي يدعونه إلى الهدى ويدعونه أن أقيموا الصلاة؛ لأن معنى ائتنا أن ائتنا.

 

قوله تعالى: « وهو الذي إليه تحشرون » ابتداء وخبر وكذا « وهو الذي خلق السماوات والأرض » أي فهو الذي يجب أن يعبد لا الأصنام. ومعنى « بالحق » أي بكلمة الحق. يعني قوله « كن » .

 

الآية: 73 ( وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير )

 

قوله تعالى: « ويوم يقول كن فيكون » أي واذكر يوم يقول كن. أو اتقوا يوم يقول كن. أو قدر يوم يقول كن. وقيل: هو عطف على الهاء في قوله: « واتقوه » قال الفراء: « كن فيكون » يقال: إنه للصور خاصة؛ أي ويوم يقول للصور كن فيكون. وقيل: المعنى فيكون جميع ما أراد من موت الناس وحياتهم وعلى هذين التأويلين يكون « قوله الحق » ابتداء وخبرا. وقيل: إن قوله تعالى: « قوله » رفع بيكون؛ أي فيكون ما يأمر به. « الحق » من نعته. ويكون التمام على هذا « فيكون قوله الحق » . وقرأ ابن عامر « فيكون » بالنصب، وهو إشارة إلى سرعة الحساب والبعث. وقد تقدم في ( البقرة ) مستوفى.

 

قوله تعالى: « يوم ينفخ في الصور » أي وله الملك يوم ينفخ في الصور. أو وله الحق يوم ينفخ في الصور. وقيل: هو بدل من « يوم يقول » . والصور قرن من نور ينفخ فيه، النفخة الأولى للفناء والثانية للإنشاء. وليس جمع صورة كما زعم بعضهم؛ أي ينفخ في صور الموتى على ما نبينه. روى مسلم من حديث عبدالله بن عمرو ( ..... ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا - قال - وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله قال ويصعق الناس ثم يرسل الله أو قال ينزل الله مطرا كأنه الطل فتنبت منه أجساد الناس ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ) وذكر الحديث. وكذا في التنزيل « ثم نفخ فيه أخرى » [ الزمر: 68 ] ولم يقل فيها؛ فعلم أنه ليس جمع الصورة. والأمم مجمعة على أن الذي ينفخ في الصور إسرافيل عليه السلام. قال أبو الهيثم: من أنكر أن يكون الصور قرنا فهو كمن ينكر العرش والميزان والصراط، وطلب لها تأويلات. قال ابن فارس: الصور الذي في الحديث كالقرن ينفخ فيه، والصور جمع صورة. وقال الجوهري: الصور القرن. قال الراجز:

لقد نطحنا هم غداة الجمعين نطحا شديدا لا كنطح الصورتين

ومنه قوله: « ويوم ينفخ في صور » . قال الكلبي: لا أدري ما هو الصور. ويقال: هو جمع صورة مثل بسرة وبسر؛ أي ينفخ في صور الموتى والأرواح. وقرأ الحسن « ( يوم ينفخ في الصور » . والصور ( بكسر الصاد ) لغة في الصور جمع صورة والجمع صوار، وصيار ( بالياء لغة فيه. وقال عمرو بن عبيد: قرأ عياض « يوم ينفخ في الصور » فهذا يعني به الخلق. والله أعلم.

قلت: وممن قال إن المراد بالصور في هذه الآية جمع صورة أبو عبيدة. وهذا وإن كان محتملا فهو مردود بما ذكرناه من الكتاب والسنة. وأيضا لا ينفخ في الصور للبعث مرتين؛ بل ينفخ فيه مرة واحدة؛ فإسرافيل عليه السلام ينفخ في الصور الذي هو القرن والله عز وجل يحيى الصور. وفي التنزيل « فنفخنا فيه من روحنا » [ التحريم: 12 ] .

 

قوله تعالى: « عالم الغيب والشهادة » برفع « عالم » صفة لـ « الذي » ؛ أي وهو الذي خلق السماوات والأرض عالم الغيب. ويجوز أن يرتفع على إضمار المبتدأ. وقد روي عن بعضهم أنه قرأ « ينفخ » فيجوز أن يكون الفاعل « عالم الغيب » ؛ لأنه إذا كان النفخ فيه بأمر الله عز وجل كان منسوبا إلى الله تعالى. ويجوز أن يكون ارتفع « عالم » حملا على المعنى؛ كما أنشد سيبويه:

لبيك يزيد ضارع لخصومة

وقرأ الحسن والأعمش « عالم » بالخفض على البدل من الهاء التي في « له » .

 

لآية: 74 ( وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين )

 

قوله تعالى: « وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر » تكلم العلماء في هذا؛ فقال أبو بكر محمد بن محمد بن الحسن الجويني الشافعي الأشعري في النكت من التفسير له: وليس بين الناس اختلاف؛ كأن اسم والد إبراهيم تارح. والذي في القرآن يدل على أن اسمه آزر. وقيل: آزر عندهم ذم في لغتهم؛ كأنه قال: وإذ قال لأبيه يا مخطئ « أتتخذ أصناما آلهة » وإذا كان كذلك فالاختيار الرفع. وقيل: آزر اسم صنم. وإذا كان كذلك فموضعه نصب على إضمار الفعل؛ كأنه قال: وإذ قال إبراهيم لأبيه أتتخذ آزر إلها، أتتخذ أصناما آلهة.

قلت: ما ادعاه من الاتفاق ليس عليه وفاق؛ فقد قال محمد بن إسحاق والكلبي والضحاك: إن آزر أبو إبراهيم عليه السلام وهو تاريخ، مثل إسرائيل ويعقوب؛ قلت فيكون له اسمان كما تقدم. وقال مقاتل: آزر لقب، وتارخ اسم: وحكاه الثعلبي عن ابن إسحاق القشيري ويجوز أن يكون على العكس. قال الحسن: كان اسم أبيه آزر. وقال سليمان التيمي: هو سب وعيب، ومعناه في كلامهم: المعوج. وروى المعتمر بن سليمان عن أبيه قال: بلغني أنها أعوج، وهي أشد كلمة قالها إبراهيم لأبيه. وقال الضحاك: معنى آزر الشيخ الهم بالفارسية. وقال الفراء: هي صفة ذم بلغتهم؛ كأن قال يا مخطئ؛ فيمن رفعه. أو كأنه قال: وإذ قال إبراهيم لأبيه المخطئ؛ فيمن خفض. ولا ينصرف لأنه على أفعل؛ قاله النحاس. وقال الجوهري: آزر اسم أعجمي، وهو مشتق من آزر فلان فلانا إذا عاونه؛ فهو مؤازر قومه على عبادة الأصنام وقيل: هو مشتق من القوة، والآزر القوة؛ عن ابن فارس. وقال مجاهد ويمان: آزر اسم صنم. وهو في هذا التأويل في موضع نصب، التقدير: أتتخذ آزر إلها، أتتخذ أصناما. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، التقدير: أتتخذ آزر أصناما.

قلت: فعلى هذا آزر اسم جنس. والله أعلم. وقال الثعلبي في كتاب العرائس: إن اسم أبي إبراهيم الذي سماه به أبوه تارح، فلما صار مع النمروذ قيما على خزانة آلهته سماه آزر. وقال مجاهد: إن آزر ليس باسم أبيه وإنما هو اسم صنم. وهو إبراهيم بن تارح بن ناخور بن ساروع بن أوغو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام. و « آزر » فيه قراءات: « أإزرا » بهمزتين، الأولى مفتوحة والثانية مكسورة؛ عن ابن عباس. وعنه « أأزرا » بهمزتين مفتوحتين. وقرئ بالرفع، وروي ذلك عن ابن عباس. وعلى القراءتين الأوليين عنه « تتخذ » بغير همزة. قال المهدوي: أإزرا؟ فقيل: إنه اسم صنم؛ فهو منصوب على تقدير أتتخذ إزرا، وكذلك أأزرا. ويجوز أن يجعل أإزرا على أنه مشتق من الأزر وهو الظهر فيكون مفعولا من أجله؛ كأنه قال: أللقوة تتخذ أصناما. ويجوز أن يكون إزر بمعنى وزر، أبدلت الواو همزة. قال القشيري: ذكر في الاحتجاج على المشركين قصة إبراهيم ووده على أبيه في عبادة الأصنام. وأولى الناس بأتباع إبراهيم العرب؛ فإنهم ذريته. أي واذكر إذ قال إبراهيم. أو « وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت » [ الأنعام: 70 ] وذكر إذ قال إبراهيم. وقرئ « آزر » أي يا آزر، على النداء المفرد، وهي قراءة أبي ويعقوب وغيرهما. وهو يقوي قول من يقول: إن آزر اسم أب إبراهيم. « أتتخذ أصناما آلهة » مفعولان لتتخذ وهو استفهام فيه معنى الإنكار.

 

الآية: 75 ( وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين )

 

قوله تعالى: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » أي ملك، وزيدت الواو والتاء للمبالغة في الصفة. ومثله الرغبوت والرهبوت والجبروت. وقرأ أبو السمال العدوي « ملكوت » بإسكان اللام. ولا يجوز عند سيبويه حذف الفتحة لخفتها، ولعلها لغة. و « نري » بمعنى أرينا؛ فهو بمعنى المضي. فقيل: أراد به ما في السماوات من عبادة الملائكة والعجائب وما في الأرض من عصيان بني آدم؛ فكان يدعو على من يراه يعصي فيهلكه الله، فأوحى الله إليه يا إبراهيم أمسك عن عبادي، أما علمت أن من أسمائي الصبور. روى معناه علي عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: كشف الله له عن السماوات والأرض حتى العرش وأسفل الأرضين. وروى ابن جريج عن القاسم عن إبراهيم النخعي قال: فرجت له السماوات السبع فنظر إليهن حتى انتهى إلى العرش، وفرجت له الأرضون فنظر إليهن، ورأى مكانه في الجنة؛ فذلك قوله: « وآتيناه أجره في الدنيا » [ العنكبوت: 27 ] عن السدي. وقال الضحاك: أراه من ملكوت السماء ما قصه من الكواكب، ومن ملكوت الأرض البحار والجبال والأشجار، ونحو ذلك مما استدل به. وقال بنحوه ابن عباس. وقال: جعل حين ولد في سرب وجعل رزقه في أطراف أصابعه فكان يمصها، وكان نمروذ اللعين رأى رؤيا فعبرت له أنه يذهب ملكه على يدي مولود يولد؛ فأمر بعزل الرجال عن النساء. وقيل: أمر بقتل كل مولود ذكر. وكان آزر من المقربين عند الملك نمروذ فأرسله يوما في بعض حوائجه فواقع امرأته فحملت بإبراهيم. وقيل: بل واقعها في بيت الأصنام فحملت وخرت الأصنام على وجوهها حينئذ؛ فحملها إلى بعض الشعاب حتى ولدت إبراهيم، وحفر لإبراهيم سربا في الأرض ووضع على بابه صخرة لئلا تفترسه السباع؛ وكانت أمه تختلف إليه فترضعه، وكانت تجده يمص أصابعه، من أحدها عسل ومن الآخر ماء ومن الآخر لبن، وشب فكان على سنة مثل ابن ثلاث سنين. فلما أخرجه من السرب توهمه الناس أنه ولد منذ سنين؛ فقال لأمه: من ربي؟ فقالت أنا. فقال: ومن ربك؟ قالت أبوك. قال: ومن ربه؟ قالت نمروذ. قال: ومن ربه؟ فلطمته، وعلمت أنه الذي يذهب ملكهم على يديه. والقصص في هذا تام في قصص الأنبياء للكسائي، وهو كتاب مما يقتدى به. وقال بعضهم: كان مولده بحران ولكن أبوه نقله إلى أرض بابل. وقال عامة السلف من أهل العلم: ولد إبراهيم في زمن النمروذ بن كنعان بن سنجاريب بن كوش بن سام بن نوج. وقد مضى ذكره في « البقرة » . وكان بين الطوفان وبين مولد إبراهيم ألف ومائتا سنة وثلاث وستون سنة؛ وذلك بعد خلق آدم بثلاث آلاف سنة وثلاثمائة سنة وثلاثين سنة.

 

قوله تعالى: « وليكون من الموقنين » أي وليكون من الموقنين أريناه ذلك؛ أي الملكوت.

 

الآية: 76 ( فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين )

 

قوله تعالى: « فلما جن عليه الليل » أي ستره بظلمته، ومنه الجنة والجنة والجنة والجنين والمجن والجن كله بمعنى الستر. وجنان الليل أدلهمامه وستره. قال الشاعر:

ولولا جنان الليل أدرك ركضنا بذي الرمث والأرطى عياض بن ناشب

ويقال: جنون الليل أيضا. ويقال: جنة الليل وأجنه الليل، لغتان. « رأى كوكبا » هذه قصة أخرى غير قصة عرض الملكوت عليه. فقيل: رأى ذلك من شق الصخرة الموضوعة على رأس السرب. وقيل: لما أخرجه أبوه من السرب وكان وقت غيبوبة الشمس فرأى الإبل والخيل والغنم فقال: لا بد لها من رب. ورأى المشتري أو الزهرة ثم القمر ثم الشمس، وكان هذا في آخر الشهر. قال محمد بن إسحاق: وكان ابن خمس عشرة سنة. وقيل: ابن سبع سنين. وقيل: لما حاج نمروذا كان ابن سبع عشرة سنة.

 

قوله تعالى: « قال هذا ربي » اختلف في معناه على أقوال؛ فقيل: كان هذا منه في مهلة النظر وحال الطفولية وقبل قيام الحجة؛ وفي تلك الحال لا يكون كفر ولا إيمان. فاستدل قائلو هذه المقالة بما روي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: « فلما جن عليه الليل رأي كوكبا قال هذا ربي » فعبده حتى غاب عنه، وكذلك الشمس والقمر؛ فلما تم نظره قال: « إني بريء مما تشركون » [ الأنعام: 78 ] . واستدل بالأفول؛ لأنه أظهر الآيات على الحدوث. وقال قوم: هذا لا يصح؛ وقالوا: غير جائز أن يكون لله تعالى رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله تعالى موحد وبه عارف، ومن كل معبود سواه بريء. قالوا: وكيف يصح أن يتوهم هذا على من عصمه الله وآتاه رشده من قبل، وأراه ملكوته ليكون من الموقنين، ولا يجوز أن يوصف بالخلو عن المعرفة، بل عرف الرب أول النظر. قال الزجاج: هذا الجواب عندي خطأ وغلط ممن قال؛ وقد أخبر الله تعالى عن إبراهيم أنه قال: « واجنبني وبني أن نعبد الأصنام » [ إبراهيم: 35 ] وقال جل وعز: « إذ جاء ربه بقلب سليم » [ الصافات: 84 ] أي لم يشرك به قط. قال: والجواب عندي أنه قال « هذا ربي » على قولكم؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام والشمس والقمر؛ ونظير هذا قوله تعالى: « أين شركائي » [ النحل: 27 ] وهو جل وعلا واحد لا شريك له. والمعنى: ابن شركائي على قولكم. وقيل: لما خرج إبراهيم من السرب رأى ضوء الكوكب وهو طالب لربه؛ فظن أنه ضوءه قال: « هذا ربي » أي بأنه يتراءى لي نوره. « فلما أفل » علم أنه ليس بربه. « فلما رأى القمر بازغا » [ الأنعام: 77 ] ونظر إلى ضوئه « قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين » [ الأنعام: 77 ] . فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي « [ الأنعام: 78 ] وليس هذا شركا. إنما نسب ذلك الضوء إلى ربه فلما رآه زائلا دله العلم على أنه غير مستحق لذلك؛ فنفاه بقلبه وعلم أنه مربوب وليس برب. وقيل: إنما قال « هذا ربي » لتقرير الحجة على قومه فأظهر موافقتهم؛ فلما أفل النجم قرر الحجة وقال: ما تغير لا يجوز أن يكون ربا. وكانوا يعظمون النجوم ويعبدونها ويحكمون بها. وقال النحاس: ومن أحسن ما قيل في هذا ما صح عن ابن عباس أنه قال في قول الله عز وجل: » نور على نور « [ النور: 35 ] قال: كذلك قلب المؤمن يعرف الله عز وجل ويستدل عليه بقلبه، فإذا عرفه أزداد نورا على نور؛ وكذا إبراهيم عليه السلام عرف الله عز وجل بقلبه واستدل عليه بدلائله، فعلم أن له ربا وخالقا. فلما عرفه الله عز وجل بنفسه ازداد معرفة فقال: » أتحاجوني في الله وقد هدان « [ الأنعام: 80 ] . وقيل: هو على معنى الاستفهام والتوبيخ، منكرا لفعلهم. والمعنى: أهذا ربي، أو مثل هذا يكون ربا؟ فحذف الهمزة. وفي التنزيل » أفإن مت فهم الخالدون « [ الأنبياء: 34 ] أي أفهم الخالدون. وقال الهذلي: »

رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع فقلت وأنكرت الوجوه هم هم

آخر:

لعمرك ما أدري وإن كنت داريا بسبع رمين الجمر أم بثمان

وقيل: المعنى هذا ربي على زعمكم؛ كما قال تعالى: « أين شركائي الذين كنتم تزعمون » [ القصص: 74 ] . وقال: « ذق إنك أنت العزيز الكريم » [ الدخان: 49 ] أي عند نفسك. وقيل: المعنى أي وأنتم تقولون هذا ربي؛ فأضمر القول، وإضماره في القرآن كثير. وقيل: المعنى في هذا ربي؛ أي هذا دليل على ربي.

 

الآية: 77 ( فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين )

 

قوله تعالى: « فلما رأى القمر بازغا » أي طالعا. يقال: بزغ القمر إذا ابتدأ في الطلوع، والبزغ الشق؛ كأنه يشق بنوره الظلمة؛ ومنه بزغ البيطار الدابة إذا أسال دمها. « قال لئن لم يهدني ربي » أي لم يثبتني على الهداية. وقد كان مهتديا؛ فيكون جرى هذا في مهلة النظر، أو سأل التثبيت لإمكان الجواز العقلي؛ كما قال شعيب: « وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله » [ الأعراف: 89 ] . وفي التنزيل « اهدنا الصراط المستقيم » [ الفاتحة: 4 ] أي ثبتنا على الهداية. وقد تقدم.

 

الآية: 78 ( فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون )

 

قوله تعالى: « فلما رأى الشمس بازغة » نصب على الحال؛ لأن هذا من رؤية العين. بزغ يبزغ إذا طلع. وأفل يأفل أفولا إذا غاب. وقال: « هذا » والشمس مؤنثة؛ لقوله « فلما أفلت » فقيل: إن تأنيث الشمس لتفخيمها وعظمها؛ فهو كقولهم: رجل نسابة وعلامة. وإنما قال: « هذا ربي » على معنى: هذا الطالع ربي؛ قاله الكسائي والأخفش. وقال غيرهما: أي هذا الضوء. قال أبو الحسن علي بن سليمان: أي هذا الشخص؛ كما قال الأعشى:

قامت تبكيه على قبره من لي من بعدك يا عامر

تركتني في الدار ذا غربة قد ذل من ليس له ناصر

 

الآية: 79 ( إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين )

 

قوله تعالى: « إني وجهت وجهي » أي قصدت بعبادتي وتوحيدي لله عز وجل وحده. وذكر الوجه لأنه أظهر ما يعرف به الإنسان صاحبه. « حنيفا » مائلا إلى الحق. « وما أنا من المشركين » اسم « ما » وخبرها. وإذا وقفت قلت: « أنا » زدت الألف لبيان الحركة، وهي اللغة الفصيحة. وقال الأخفش: ومن العرب من يقول: « أن » . وقال الكسائي: ومن العرب من يقول: « أنه » . ثلاث لغات. وفي الوصل أيضا ثلاث لغات: أن تحذف الألف في الإدراج؛ لأنها زائدة لبيان الحركة في الوقف. ومن العرب من يثبت الألف في الوصل؛ كما قال الشاعر:

أنا سيف العشيرة فاعرفوني

وهي لغة بعض بني قيس وربيعة؛ عن الفراء. ومن العرب من يقول في الوصل: أن فعلت، مثل عان فعلت؛ حكاه الكسائي عن بعض قضاعة.

 

الآية: 80 ( وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون )

 

قوله تعالى: « وحاجه قومه » دليل على الحجاج والجدال؟ حاجوه في توحيد الله. « قال أتحاجوني في الله » قرأ نافع بتخفيف النون، وشدد النون الباقون. وفيه عن ابن عامر من رواية هشام عنه خلاف؛ فمن شدد قال: الأصل فيه نونان، الأولى علامة الرفع والثانية فاصلة بين الفعل والياء؛ فلما اجتمع مثلان في فعل وذلك ثقيل أدغم النون في الأخرى فوقع التشديد ولا بد من مد الواو لئلا يلتقي الساكنان، الواو وأول المشدد؛ فصارت المدة فاصلة بين الساكنين. ومن خفف حذف النون الثانية استخفافا لاجتماع المثلين، ولم تحذف الأولى لأنها علامة الرفع؛ فلو حذفت لاشتبه المرفوع بالمجزوم والمنصوب. وحكي عن أبي عمرو بن العلاء أن هذه القراءة لحن. وأجاز سيبويه ذلك فقال: استثقلوا التضعيف. وأنشد:

تراه كالثغام يعل مسكا يسوء الفاليات إذا فليني

 

قوله تعالى: « ولا أخاف ما تشركون به » أي لأنه لا ينفع ولا يضر وكانوا خوفوه بكثرة آلهتهم إلا أن يحييه الله ويقدره فيخاف ضرره حينئذ؛ وهو معنى قوله: « إلا أن يشاء ربي شيئا » أي إلا أن يشاء أن يلحقني شيء من المكروه بذنب عملته فتتم مشيئته. وهذا استثناء ليس من الأول. والهاء في « به » يحتمل أن تكون لله عز وجل، ويجوز أن تكون للمعبود. وقال: « إلا أن يشاء ربي » يعني أن الله تعالى لا يشاء أن أخافهم. ثم قال: « وسع ربي كل شيء علما » أي وسع علمه كل شيء. وقد تقدم.

الآية [ 81 ] في الصفحة التالية ...

 

الآية: 81 - 82 ( وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون، الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون )

 

قوله تعالى: « وكيف أخاف ما أشركتم » ففي « كيف » معنى الإنكار؛ أنكر عليهم تخويفهم إياه بالأصنام وهم لا يخافون الله عز وجل؛ أي كيف أخاف مواتا وأنتم لا تخافون الله القادر على كل شيء « ما لم ينزل به عليكم سلطانا » أي حجة؛ وقد تقدم. « فأي الفريقين أحق بالأمن » أي من عذاب الله: الموحد أم المشرك؛ فقال الله قاضيا بينهم: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » أي بشرك؛ قال أبو بكر الصديق وعلي وسلمان وحذيفة، رضي الله عنهم. وقال ابن عباس: هو من قول إبراهيم؛ كما يسأل العالم ويجيب نفسه. وقيل: هو من قول قوم إبراهيم؛ أي أجابوا بما وهو حجة عليهم؛ قاله ابن جريج. وفي الصحيحين عن ابن مسعود لما نزلت « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه « يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم » [ لقمان: 13 ] . « وهم مهتدون » أي في الدنيا.

 

الآية: 83 ( وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم )

 

قوله تعالى: « وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم » تلك إشارة إلى جميع احتجاجاته حتى خاصمهم وغلبهم بالحجة. وقال مجاهد: هي قوله: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » . وقيل: حجته عليهم أنهم لما قالوا له: أما تخاف أن تخبلك آلهتنا لسبك إياها؟ قال لهم: أفلا تخافون أنتم منها إذ سويتم بين الصغير والكبير في العبادة والتعظيم؛ فيغضب الكبير فيخبلكم؟. « نرفع درجات من نشاء » أي بالعلم والفهم والإمامة والملك. وقرأ الكوفيون « درجات » بالتنوين. ومثله في « يوسف » أوقعوا الفعل على « من » لأنه المرفوع في الحقيقة، التقدير: ونرفع من نشاء إلى درجات. ثم حذفت إلى. وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو بغير تنوين على الإضافة، والفعل واقع على الدرجات، إذا رفعت فقد رفع صاحبها. يقوي هذه القراءة قوله تعالى: « رفيع الدرجات » [ غافر: 15 ] وقوله عليه السلام: « اللهم ارفع درجته ) . فأضاف الرفع إلى الدرجات. وهو لا إله إلا هو الرفيع المتعالي في شرفه وفضله. فالقراءتان متقاربتان؛ لأن من رفعت درجاته فقد رفع، ومن رفع فقد رفعت درجاته، فاعلم. » إن ربك حكيم عليم « يضع كل شيء موضعه.»

 

الآية: 84 - 86 ( ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين، وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين، وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين )

 

قوله تعالى: « ووهبنا له إسحاق ويعقوب » أي جزاء له على الاحتجاج في الذين وبذل النفس فيه. « كلا هدينا » أي كل واحد منهم مهتد. و « كلا » نصب بـ « هدينا » « ونوحا » نصب بـ « هدينا » الثاني. « ومن ذريته » أي ذرية إبراهيم. وقيل: من ذرية نوح؛ قاله الفراء واختاره الطبري وغير واحد من المفسرين كالقشيري وابن عطية وغيرهما. والأول قاله الزجاج، واعترض بأنه عد من هذه الذرية يونس ولوط وما كانا من ذرية إبراهيم. وكان لوط ابن أخيه. وقيل: ابن أخته. وقال ابن عباس: هؤلاء الأنبياء جميعا مضافون إلى ذرية إبراهيم، وإن كان فيهم من لم تلحقه ولادة من جهته من جهة أب ولا أم؛ لأن لوطا ابن أخي إبراهيم. والعرب تجعل العم أبا كما أخبر الله عن ولد يعقوب أنهم قالوا: « نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق » [ البقرة: 133 ] . وإسماعيل عم يعقوب. وعد عيسى من ذرية إبراهيم وإنما هو ابن البنت. فأولاد فاطمة رضي الله عنها ذرية النبي صلى الله عليه وسلم. وبهذا تمسك من رأى أن ولد البنات يدخلون في اسم الولد.

 

قال أبو حنيفة والشافعي: من وقف وقفا على ولده وولد ولده أنه يدخل فيه ولد ولده وولد بناته ما تناسلوا. وكذلك إذا أوصى لقرابته يدخل فيه ولد البنات. والقرابة عند أبي حنيفة كل ذي رحم محرم. ويسقط عنده ابن العم والعمة وابن الخال والخالة؛ لأنهم ليسو بمحرمين. وقال الشافعي: القرابة كل ذي رحم محرم وغيره. فلم يسقط عنده ابن العم ولا غيره. وقال مالك: لا يدخل في ذلك ولد البنات. وقول: لقرابتي وعقبي كقول: لولدي وولد ولدي. يدخل في ذلك ولد البنين ومن يرجع إلى عصبة الأب وصلبه، ولا يدخل في ذلك ولد البنات. وقد تقدم نحو هذا عن الشافعي في « آل عمران » . والحجة لهما قول سبحانه: « يوصيكم الله في أولادكم » [ النساء: 11 ] فلم يعقل المسلمون من ظاهر الآية إلا ولد الصلب وولد الابن خاصة. وقال تعالى: « وللرسول ولذي القربى » [ الأنفال: 41 ] فأعطى عليه السلام القرابة منهم من أعمامه دون بني أخواله. فكذلك ولد البنات لا ينتمون إليه بالنسب، ولا يلتقون معه في أب. قال ابن القصار: وحجة من أدخل البنات في الأقارب قوله عليه السلام للحسن بن علي ( إن ابني هذا سيد ) . ولا نعلم أحدا يمتنع أن يقول في ولد البنات إنهم ولد لأبي أمهم. والمعنى يقتضي ذلك؛ لأن الولد مشتق من التولد وهم متولدون عن أبي أمهم لا محالة؛ والتولد من جهة الأم كالتولد من جهة الأب. وقد دل القرآن على ذلك، قال الله تعالى: « ومن ذريته داود » إلى قوله « من الصالحين » فجعل عيسى من ذريته وهو ابن ابنته.

 

قد تقدم في سورة ( النساء ) بيان ما لا ينصرف من هذه الأسماء. ولم ينصرف داود لأنه اسم أعجمي، ولما كان على فاعول لا يحسن فيه الألف واللام لم ينصرف. وإلياس أعجمي. قال الضحاك: كان إلياس من ولد إسماعيل. وذكر القتبي قال: كان من سبط يوشع بن نون. وقرأ الأعرج والحسن وقتادة « والياس » بوصل الألف. وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو وعاصم « واليسع » بلام مخففة. وقرأ الكوفيون إلا عاصما « والليسع » . وكذا قرأ الكسائي، ورد قراءة من قرأ « واليسع » قال: لأنه لا يقال اليفعل مثل اليحيى. قال النحاس: وهذا الرد لا يلزم، والعرب تقول: اليعمل واليحمد، ولو نكرت يحيى لقلت اليحيى. ورد أبو حاتم على من قرأ « الليسع » وقال: لا يوجد ليسع. وقال النحاس: وهذا الرد لا يلزم، فقد جاء في كلام العرب حيدر وزينب، والحق في هذا أنه اسم أعجمي، والعجمة لا تؤخذ بالقياس إنما تؤخذ سماعا والعرب تغيرها كثيرا، فلا ينكر أن يأتي الاسم بلغتين. قال مكي: من قرأ بلامين فأصل الاسم ليسع، ثم دخلت الألف واللام للتعريف. ولو كان أصله يسع ما دخلته الألف واللام؛ إذ لا يدخلان على يزيد ويشكر: اسمين لرجلين؛ لأنهما معرفتان علمان. فأما « ليسع » نكرة فتدخله الألف واللام للتعريف، والقراءة بلام واحدة أحب إلي؛ لأن أكثر القراء عليه. وقال المهدوي: من قرأ « اليسع » بلام واحدة فالاسم يسع، ودخلت الألف واللام زائدتين، كزيادتهما في نحو الخمسة عشر، وفي نحو قوله:

وجدنا اليزيد بن الوليد مباركا شديدا بأعباء الخلافة كأهله

وقد زادوها في الفعل المضارع نحو قوله:

فيستخرج اليربوع من نافقائه ومن بيته بالشيخة اليتقصع

يريد الذي يتقصع. قال القشيري: قرئ بتخفيف اللام والتشديد. والمعنى واحد في أنه اسم لنبي معروف؛ مثل إسماعيل إبراهيم، ولكن خرج عما عليه الأسماء الأعجمية بإدخال الألف واللام. وتوهم قوم أن اليسع هو إلياس، وليس كذلك؛ لأن الله تعالى أفرد كل واحد بالذكر. وقال وهب: اليسع هو صاحب إلياس، وكانا قبل زكريا ويحيى وعيسى. وقيل: إلياس هو إدريس وهذا غير صحيح لأن إدريس جد نوج وإلياس من ذريته. وقيل: إلياس هو الخضر. وقيل: لا، بل اليسع هو الخضر. و « لوطا » اسم أعجمي انصرف لخفته. وسيأتي اشتقاقه في « الأعراف » .

 

الآية: 87 ( ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم )

 

قوله تعالى: « ومن آبائهم وذرياتهم » « من » للتبعيض؛ أي هدينا بعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم. « واجتبيناهم » قال مجاهد: خلصناهم، وهو عند أهل اللغة بمعنى اخترناهم؛ مشتق من جبيت الماء في الحوض أي جمعته. فالاجتباء ضم الذي تجتبيه إلى خاصتك. قال الكسائي: وجبيت الماء في الحوض جبا، مقصور. والجابية الحوض. قال:

كجابية الشيخ العراقي تفهق

 

الآية: 88 ( ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون )

 

قوله تعالى: « ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا » أي لو عبدوا غيري لحبطت أعمالهم، ولكني عصمتهم. والحبوط البطلان. وقد تقدم في ( البقرة ) .

 

الآية: 89 ( أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين )

 

قوله تعالى: « أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة » ابتداء وخبر « والحكم » العلم والفقه. « فإن يكفر بها » أي بآياتنا. « هؤلاء » أي كفار عصرك يا محمد. « فقد وكلنا بها » جواب الشرط؛ أي وكلنا بالإيمان بها « قوما ليسوا بها بكافرين » يريد الأنصار من أهل المدينة والمهاجرين من أهل مكة. وقال قتادة: يعني النبيين الذين قص الله عز وجل. قال النحاس: وهذا القول أشبه بالمعنى؛ لأنه قال بعد: « أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده » [ الأنعام: 90 ] . وقال أبو رجاء: هم الملائكة. وقيل: هو عام في كل مؤمن من الجن والإنس والملائكة. والباء في « بكافرين » زائدة على جهة التأكيد.

 

الآية: 90 ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين )

 

قوله تعالى: « فبهداهم اقتده » الاقتداء طلب موافقة الغير في فعله. فقيل: المعنى أصبر كما صبروا. وقيل: معنى « فبهداهم اقتده » التوحيد والشرائع مختلفة. وقد احتج بعض العلماء بهذه الآية على وجوب أتباع شرائع الأنبياء فيما عدم فيه النص؛ كما في صحيح مسلم وغيره: أن أخت الربيع أم حارثة جرحت إنسانا فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال رسول الله صلى الله وعليه وسلم: ( القصاص القصاص ) فقالت أم الربيع: يا رسول الله أيقتص من فلانة؟! والله لا يقتص منها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( سبحان الله يا أم الربيع القصاص كتاب الله ) . قالت: والله لا يقتص منها أبدا. قال: فما زالت حتى قبلوا الدية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ) . فأحال رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوله: « وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس » [ المائدة: 45 ] الآية. وليس في كتاب الله تعالى نص على القصاص في السن إلا في هذه الآية؛ وهي خبر عن شرع التوراة ومع ذلك فحكم بها وأحال عليها. وإلى هذا ذهب معظم أصحاب مالك وأصحاب الشافعي، وأنه يجب العمل بما وجد منها. قال ابن بكير: وهو الذي تقتضيه أصول مالك وخالف في ذلك كثير من أصحاب مالك وأصحاب الشافعي والمعتزلة؛ لقوله تعالى: « لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا » [ المائدة: 48 ] . وهذا لا حجة فيه؛ لأنه يحتمل التقييد: إلا فيما قص عليكم من الأخبار عنهم مما لم يأت من كتابكم. وفي صحيح البخاري عن العوام قال: سألت مجاهدا عن سجدة « ص » فقال: سألت ابن عباس عن سجدة « ص » فقال: أو تقرأ « ومن ذريته داود وسليمان » [ الأنعام: 84 ] إلى قوله « أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده » ؟ كان داود عليه السلام ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم بالاقتداء به.

 

قرأ حمزة والكسائي « اقتد قل » بغير هاء في الوصل. وقرأ ابن عامر « اقتد هي قل » . قال النحاس: وهذا لحن؛ لأن الهاء لبيان الحركة في الوقف وليست بهاء إضمار ولا بعدها واو ولا ياء، وكذلك أيضا لا يجوز « فبهداهم اقتد قل » . ومن اجتنب اللحن وأتبع السواد قرأ « فبهداهم اقتده » فوقف ولم يصل؛ لأنه إن وصل بالهاء لحن وإن حذفها خالف السواد. وقرأ الجمهور بالهاء في الوصل على نية الوقف وعلى نية الإدراج اتباعا لثباتها في الخط. وقرأ ابن عياش وهشام « اقتده قل » بكسر الهاء، وهو غلط لا يجوز في العربية.

 

قوله تعالى: « قل لا أسألكم عليه أجرا » أي جعلا على القرآن. « إن هو » أي القرآن. « إلا ذكرى للعالمين » أي هو موعظة للخلق. وأضاف الهداية إليهم فقال: « فبهداهم اقتده » لوقوع الهداية بهم. وقال: « ذلك هدى الله » لأنه الخالق للهداية.

 

الآية: 91 ( وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون )

 

قوله تعالى: « وما قدروا الله حق قدره » أي فيما وجب له واستحال عليه وجاز. قال ابن عباس: ما آمنوا أنه على كل شيء قدير. وقال الحسن: ما عظموه حق عظمته. وهذا يكون من قولهم: لفلان قدر. وشرح هذا أنهم لما قالوا: « ما أنزل الله على بشر من شيء » نسبوا الله عز وجل إلى أنه لا يقيم الحجة على عباده، ولا يأمرهم بما لهم فيه الصلاح؛ فلم يعظموه حق عظمته ولا عرفوه حق معرفته. وقال أبو عبيدة: أي ما عرفوا الله حق معرفته. قال النحاس: وهذا معنى حسن؛ لأن معنى قدرت الشيء وقدرته عرفت مقداره. ويدل عليه قوله تعالى: « إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء » أي لم يعرفوه حق معرفته؛ إذ أنكروا أن يرسل رسولا. والمعنيان متقاربان. وقد قيل: وما قدروا نعم الله حق تقديرها. وقرأ أبو حيوة « وما قدروا الله حق قدره » بفتح الدال، وهي لغة.

 

قوله تعالى: « إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء » قال ابن عباس وغيره: يعني مشركي قريش. وقال الحسن وسعيد بن جبير: الذي قاله أحد اليهود، قال: لم ينزل الله كتابا من السماء. قال السدي: اسمه فنحاص. وعن سعيد بن جبير أيضا قال: هو مالك بن الصيف، جاء يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين ) ؟ وكان حبرا سمينا. فغضب وقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء. فقال له أصحابه الذين معه: ويحك! ولا على موسى؟ فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء؛ فنزلت الآية. ثم قال نقضا لقولهم وردا عليهم: « قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس يجعلونه قراطيس أي في قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا » هذا لليهود الذين أخفوا صفة النبي صلى الله عليه وسلم وغيرها من الأحكام.

 

قوله تعالى: « قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى » خطاب للمشركين، وقوله « يجعلونه قراطيس » لليهود وقوله « وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم » للمسلمين. وهذا يصح على قراءة من قرأ « يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون » بالياء. والوجه على قراءة التاء أن يكون كله لليهود، ويكون معنى « وعلمتم ما لم تعلموا » أي وعلمتم ما لم تكونوا تعلمونه أنتم ولا آباؤكم على وجه المن عليهم بإنزال التوراة. وجعلت التوراة صحفا فلذلك قال « قراطيس تبدونها » أي تبدون القراطيس. وهذا ذم لهم؛ ولذلك كره العلماء كتب القرآن أجزاء. « قل الله » أي قل يا محمد الله الذي أنزل ذلك الكتاب على موسى وهذا الكتاب علي. أو قل الله علمكم الكتاب. « ثم ذرهم في خوضهم يلعبون » أي لاعبين، ولو كان جوابا للأمر لقال يلعبوا. ومعنى الكلام التهديد. وقيل: هو من المنسوخ بالقتال؛ ثم قيل: « يجعلونه » في موضع الصفة لقوله « نورا وهدى » فيكون في الصلة. ويحتمل أن يكون مستأنفا، والتقدير: يجعلونه ذا قراطيس. وقوله: « يبدونها ويخفون كثيرا » يحتمل أن يكون صفة لقراطيس؛ لأن النكرة توصف بالجمل. ويحتمل أن يكون مستأنفا حسبما تقدم.

 

الآية: 92 ( وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون )

 

قوله تعالى: « وهذا كتاب » يعني القرآن « أنزلناه » صفة « مبارك » أي بورك فيه، والبركة الزيادة. ويجوز نصبه في غير القرآن على الحال. وكذا « مصدق الذي بين يديه » أي من الكتب المنزلة قبله، فإنه يوافقها في نفي الشرك وإثبات التوحيد. « ولتنذر أم القرى » يريد مكة والمراد أهلها، فحذف المضاف؛ أي أنزلناه للبركة والإنذار. « ومن حولها » يعني جميع الآفاق. « ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة » يريد أتباع محمد صلى الله عليه وسلم؛ بدليل قوله: « يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون » إيمان من آمن بالآخرة ولم يؤمن بالنبي عليه السلام ولا بكتابه غير معتد به.

 

الآية: 93 ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون )

 

قوله تعالى: « ومن أظلم » ابتداء وخبر؛ أي لا أحد أظلم. « ممن افترى على الله كذبا » أي اختلق. « أو قال أوحي إلي » فزعم أنه نبي « ولم يوح إليه شيء » نزلت في رحمان اليمامة والأسود العبسي وسجاح زوج مسيلمة؛ كلهم تنبأ وزعم أن الله قد أوحى إليه. قال قتادة: بلغنا أن الله أنزل هذا في مسيلمة؛ وقال ابن عباس.

قلت: ومن هذا النمط من أعرض عن الفقه والسنن وما كان عليه السلف من السنن يقول: وقع في خاطري كذا، أو أخبرني قلبي بكذا؛ فيحكمون بما يقع في قلوبهم ويغلب عليهم من خواطرهم، ويزعمون أن ذلك لصفائها من الأكدار وخلوها من الأغيار، فتتجلى لهم العلوم الإلهية والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكليات ويعلمون أحكام الجزئيات فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، ويقولون: هذه الأحكام الشرعية العامة، إنما يحكم بها على الأغبياء والعامة، وأما الأولياء وأهل الخصوص، فلا يحتاجون لتلك النصوص. وقد جاء فيما ينقلون: استفت قلبك وإن أفتاك المفتون؛ ويستدلون على هذا بالخضر؛ وأنه استغنى بما تجلى له من تلك العلوم، عما كان عند موسى من تلك الفهوم. وهذا القول زندقة وكفر، يقتل قائله ولا يستتاب، ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا جواب؛ فإنه يلزم منه هد الأحكام وإثبات أنبياء بعد نبينا صلى الله عليه وسلم. وسيأتي لهذا المعنى في « الكهف » مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله » « من » في موضع خفض؛ أي ومن أظلم ممن قال سأنزل، والمراد عبدالله بن أبي سرح الذي كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ارتد ولحق بالمشركين. وسبب ذلك فيما ذكر المفسرون أنه لما نزلت الآية التي في « المؤمنون » : « ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين » [ المؤمنون:12 ] دعاه النبي صلى الله عليه وسلم فأملاها عليه؛ فلما انتهى إلى قوله « ثم أنشأناه خلقا آخر » [ المؤمنون: 14 ] عجب عبدالله في تفصيل خلق الإنسان فقال: « تبارك الله أحسن الخالقين » [ المؤمنون: 14 ] . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وهكذا أنزلت على ) فشك عبدالله حينئذ وقال: لئن كان محمد صادقا لقد أوحي إليه، ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال< فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين، فذلك قوله: « ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله » رواه الكلبي عن ابن عباس. وذكره محمد بن إسحاق قال حدثني شرحبيل قال: نزلت في عبدالله بن سعد بن أبي سرح « ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله » ارتد عن الإسلام، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أمر بقتله وقتل عبدالله بن خطل ومقيس بن صبابة ولو وجدوا تحت أستار الكعبة، ففر عبدالله بن أبي سرح إلى عثمان رضي الله عنه، وكان أخاه من الرضاعة، أرضعت أمه عثمان، فغيبه عثمان حتى أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما اطمأن أهل مكة فاستأمنه له؛ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلا ثم قال: ( نعم ) . فلما انصرف عثمان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما صمت إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه ) . فقال رجل من الأنصار: فهلا أومأت إلى يا رسول الله؟ فقال: ( إن النبي لا ينبغي أن تكون له خائنة الأعين ) . قال أبو عمر: وأسلم عبدالله بن سعد بن أبي سرح أيام الفتح فحسن إسلامه، ولم يظهر منه ما ينكر عليه بعد ذلك. وهو أحد النجباء العقلاء الكرماء من قريش، وفارس بني عامر بن لؤي المعدود فيهم، ثم ولاه عثمان بعد ذلك مصر سنة خمس وعشرين. وفتح على يديه إفريقية سنة سبع وعشرين، وغزا منها الأساود من أرض النوبة سنة إحدى وثلاثين، وهو هادنهم الهدنة الباقية إلى اليوم. وغزا الصواري من أرض الروم سنة أربع وثلاثين؛ فلما رجع من وفاداته منعه ابن أبي حذيفة من دخول الفسطاط، فمضى إلى عسقلان، فأقام فيها حتى قتل عثمان رضي الله عنه. وقيل: بل أقام بالرملة حتى مات فارا من الفتنة. ودعا ربه فقال: اللهم أجعل خاتمة عملي صلاة الصبح؛ فتوضأ ثم صلى فقرأ في الركعة الأولى بأم القرآن والعاديات، وفي الثانية بأم القرآن وسورة، ثم سلم عن يمينه، ثم ذهب يسلم عن يساره فقبض الله روحه. ذكر ذلك كله يزيد بن أبي حبيب وغيره. ولم يبايع لعلي ولا لمعاوية رضي الله عنهما. وكانت وفاته قبل اجتماع الناس على معاوية. وقيل: إنه توفي بإفريقية. والصحيح أنه توفي بعسقلان سنة ست أو سبع وثلاثين. وقيل: سنة ست وثلاثين. وروى حفص بن عمر عن الحكم بن أبان عن عكرمة أن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث؛ لأنه عارض القرآن فقال: والطاحنات طحنا. والعاجنات عجنا. فالخابزات خبزا. فاللاقمات لقما.

 

قوله تعالى: « ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت » أي شدائده وسكراته. والغمرة الشدة؛ وأصلها الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها. ومنه غمره الماء. ثم وضعت في معنى الشدائد والمكاره. ومنه غمرات الحرب. قال الجوهري: والغمرة الشدة، والجمع غمر مثل نوبة ونوب. قال القطامي يصف سفينة نوح عليه السلام:

وحان لتالك الغمر انحسار

وغمرات الموت شدائده. « والملائكة باسطو أيديهم » ابتداء وخبر. والأصل باسطون. قيل: بالعذاب ومطارق الحديد؛ عن الحسن والضحاك. وقيل: لقبض أرواحهم؛ وفي التنزيل: « ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم » [ الأنفال: 50 ] فجمعت هذه الآية القولين. يقال: بسط إليه يده بالمكروه. « أخرجوا أنفسكم » أي خلصوها من العذاب إن أمكنكم، وهو توبيخ. وقيل: أخرجوها كرها؛ لأن روح المؤمن تنشط للخروج للقاء ربه، وروح الكافر تنتزع انتزاعا شديدا، ويقال: أيتها النفس الخبيثة أخرجي ساخطة مسخوطا عليك إلى عذاب الله وهو أن؛ كذا جاء في حديث أبي هريرة وغيره. وقد أتينا عليه في كتاب « التذكرة » والحمد لله. وقيل: هو بمنزلة قول القائل لمن يعذبه: لأذيقنك العذاب ولأخر جن نفسك؛ وذلك لأنهم لا يخرجون أنفسهم بل يقبضها ملك الموت وأعوانه. وقيل: يقال هذا للكفار وهم في النار. والجواب محذوف لعظم الأمر؛ أي ولو رأيت الظالمين في هذه الحال لرأيت عذابا عظيما. والهون والهوان سواء. « تستكبرون » أي تتعظمون وتأنفون عن قبول آياته.

 

الآية: 94 ( ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون )

 

قوله تعالى: « ولقد جئتمونا فرادى » هذه عبارة عن الحشر و « فرادى » في موضع نصب على الحال، ولم ينصرف لأن فيه ألف تأنيث. وقرأ أبو حيوة « فرادا » بالتنوين وهي لغة تميم، ولا يقولون في موضع الرفع فراد. وحكى أحمد بن يحيى « فراد » بلا تنوين، قال: مثل ثلاث ورباع. و « فرادى » جمع فردان كسكارى جمع سكران، وكسالى جمع كسلان. وقيل: واحده « فرد » بجزم الراء، و « فرد » بكسرها، و « فرد » بفتحها، و « فريد » . والمعنى: جئتمونا واحدا واحدا، كل واحد منكم منفردا بلا أهل ولا مال ولا ولد ولا ناصر ممن كان يصاحبكم في الغي، ولم ينفعكم ما عبدتم من دون الله. وقرأ الأعرج « فردى » مثل سكرى وكسلى بغير ألف. « كما خلقناكم أول مرة » أي منفردين كما خلقتم. وقيل: عراة كما خرجتم من بطون أمهاتكم حفاة غرلا بهما ليس معهم شيء. وقال العلماء: يحشر العبد غدا وله من الأعضاء ما كان له يوم ولد؛ فمن قطع منه عضو يرد في القيامة عليه. وهذا معنى قوله: « غرلا » أي غير مختونين، أي يرد عليهم ما قطع منه عند الختان.

 

قوله تعالى: « وتركتم ما خولناكم » أي أعطيناكم وملكناكم. والخول: ما أعطاه الله للإنسان من العبيد والنعم. « وراء ظهوركم » أي خلفكم. « وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء » أي الذين عبدتموهم وجعلتموهم شركاء يريد الأصنام أي شركائي. وكان المشركون يقولون: الأصنام شركاء الله وشفعاؤنا عنده. « لقد تقطع بينكم » قرأ نافع والكسائي وحفص بالنصب على الظرف، على معنى لقد تقطع وصلكم بينكم. ودل على حذف الوصل قوله « وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم » . فدل هذا على التقاطع والتهاجر بينهم وبين شركائهم: إذ تبرؤوا منهم ولم يكونوا معهم. ومقاطعتهم لهم هو تركهم وصلهم لهم؛ فحسن إضمار الوصل بعد « تقطع » لدلالة الكلام عليه. وفي حرف ابن مسعود ما يدل على النصب فيه وهذا لا يجوز فيه إلا النصب، لأنك ذكرت المتقطع وهو « ما » . كأنه قال: لقد تقطع الوصل بينكم. وقيل: المعنى لقد تقطع الأمر بينكم. والمعنى متقارب. وقرأ الباقون « بينكم » بالرفع على أنه اسم غير ظرف، فأسند الفعل إليه فرفع. ويقوي جعل « بين » اسما من جهة دخول حرف الجر عليه في قوله تعالى: « ومن بيننا وبينك حجاب » [ فصلت: 5 ] و « هذا فراق بيني وبينك » [ الكهف: 78 ] . ويجوز أن تكون قراءة النصب على معنى الرفع، وإنما نصب لكثرة استعماله ظرفا منصوبا وهو في موضع رفع، وهو مذهب الأخفش؛ فالقراءتان على هذا بمعنى واحد، فاقرأ بأيهما شئت. « وضل عنكم » أي ذهب. « ما كنتم تزعمون » أي تكذبون به في الدنيا. روي أن الآية نزلت في النضر بن الحارث. وروي أن عائشة رضي الله عنها قرأت قول الله تعالى: « ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة » فقالت: يا رسول الله، واسوءتاه! إن الرجال والنساء يحشرون جميعا، ينظر بعضهم إلى سوأة بعض؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شغل بعضهم عن بعض ) . وهذا حديث ثابت في الصحيح أخرجه مسلم بمعناه.

 

الآية: 95 ( إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون )

 

قوله تعالى: « إن الله فالق الحب والنوى » عد من عجائب صنعه ما يعجز عن أدنى شيء منه آلهتهم. والفلق: الشق؛ أي يشق النواة الميتة فيخرج منها ورقا أخضر، وكذلك الحبة. وخرج من الورق الأخضر نواة ميتة وحبة؛ وهذا معنى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي؛ عن الحسن وقتادة. وقال ابن عباس والضحاك: معنى فالق خالق. وقال مجاهد: عني بالفلق الشق الذي في الحب وفي النوى. والنوى جمع نواة. ويجري في كل ما له كالمشمش والخوخ. « يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي » يخرج البشر الحي من النطفة الميتة، والنطفة الميتة من البشر الحي؛ عن ابن عباس. وفي صحيح مسلم عن علي: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إلى أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق. « ذلكم الله » ابتداء وخبر. « فأنى تؤفكون » فمن أين تصرفون عن الحق مع ما ترون من قدرة الله جل وعز.

 

الآية: 96 ( فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم )

 

قوله تعالى: « فالق الإصباح » نعت لاسم الله تعالى، أي ذلكم الله ربكم فالق الإصباح. وقيل: المعنى إن الله فالق الإصباح. والصبح والصباح أول النهار، وكذلك الإصباح؛ أي فالق الصبح كل يوم، يريد الفجر. والإصباح مصدر أصبح. والمعنى: شاق الضياء عن الظلام وكاشفه. وقال الضحاك: فالق الإصباح خالق النهار. وهو معرفة لا يجوز فيه التنوين عند أحد من النحويين. وقرأ الحسن وعيسى بن عمر « فالق الإصباح » بفتح الهمزة، وهو جمع صبح. وروى الأعمش عن إبراهيم النخعي أنه قرأ « فلق الإصباح » على فعل، والهمزة مكسورة والحاء منصوبة. وقرأ الحسن وعيسى بن عمر وحمزة والكسائي « وجعل الليل سكنا » بغير ألف. ونصب « الليل » حملا على معنى « فالق » في الموضعين؛ لأنه بمعنى فلق، لأنه أمر قد كان فحمل على المعنى. وأيضا فإن بعده أفعالا ماضية وهو قوله: « جعل لكم النجوم » [ الأنعام: 97 ] . « أنزل من السماء ماء » [ الرعد: 17 ] . فحمل أول الكلام على آخره. يقوي ذلك إجماعهم على نصب الشمس والقمر على إضمار فعل، ولم يحملوه على فاعل فيخفضوه؛ قال مكي رحمه الله. وقال النحاس: وقد قرأ يزيد بن قطيب السكوني « جاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا » بالخفض عطفا على اللفظ.

قلت: فيريد مكي والمهدوي وغيرهما إجماع القراء السبعة. والله أعلم. وقرأ يعقوب في رواية رويس عنه « وجاعل الليل ساكنا » . وأهل المدينة « وجاعل الليل سكنا » أي محلا للسكون. وفي الموطأ عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول: « اللهم فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا اقض عني الدين وأغنني من الفقر وأمتعني بسمعي وبصري وقوتي في سبيلك ) . فإن قيل: كيف قال ( وأمتعني بسمعي وبصري ) وفي كتاب النسائي والترمذي وغيرهما ( واجعله الوارث مني ) وذلك يفنى مع البدن؟ قيل له: في الكلام تجوز، والمعنى اللهم لا تعدمه قبلي. وقد قيل: إن المراد بالسمع والبصر هنا أبو بكر وعمر؛ لقوله عليه السلام فيهما: ( هما السمع والبصر ) . وهذا تأويل بعيد، إنما المراد بهما الجارحتان. ومعنى » حسبانا « أي بحساب يتعلق به مصالح العباد. وقال ابن عباس في قول جل وعز: » والشمس والقمر حسبانا « أي بحساب. الأخفش: حسبان جمع حساب؛ مثل شهاب وشهبان. وقال يعقوب: حسبان مصدر حسبت الشيء أحسبه حسبانا وحسابا وحسبة، والحساب الاسم. وقال غيره: جعل الله تعالى سير الشمس والقمر بحساب لا يزيد ولا ينقص؛ فدلهم الله عز وجل بذلك على قدرته ووحدانيته. وقيل: » حسبانا « أي ضياء. والحسبان: النار في لغة؛ وقد قال الله تعالى: » ويرسل عليها حسبانا من السماء « [ الكهف: 40 ] . قال ابن عباس: نارا. والحسبانة: الوسادة الصغيرة.»

 

الآية: 97 ( وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون )

 

قوله تعالى: « وهو الذي جعل لكم النجوم » بين كمال قدرته، وفي النجوم منافع جمة. ذكر في هذه الآية بعض منافعها، وهي التي ندب الشرع إلى معرفتها؛ وفي التنزيل: « وحفظا من كل شيطان مارد » [ الصافات: 7 ] . « وجعلناها رجوما للشياطين » [ الملك: 5 ] . و « جعل » هنا بمعنى خلق. « قد فصلنا الآيات » أي بيناها مفصلة لتكون أبلغ في الاعتبار. « لقوم يعلمون » خصهم لأنهم المنتفعون بها.

 

الآية: 98 ( وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون )

 

قوله تعالى: « وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة » يريد آدم عليه السلام. وقد تقدم في أول السورة. « فمستقر » قرأ ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وأبو عمرو وعيسى والأعرج وشيبة والنخعي بكسر القاف، والباقون بفتحها. وهي في موضع رفع بالابتداء، إلا أن التقدير فيمن كسر القاف فمنها « مستقر » والفتح بمعنى لها « مستقر » . قال عب الله بن مسعود: فلها مستقر في الرحم ومستودع في الأرض التي تموت فيها؛ وهذا التفسير يدل على الفتح. وقال الحسن: فمستقر في القبر. وأكثر أهل التفسير يقولون: المستقر ما كان في الرحم، والمستودع ما كان في الصلب؛ رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وقاله النخعي. وعن ابن عباس أيضا: مستقر في الأرض، ومستودع في الأصلاب. قال سعيد بن جبير: قال لي ابن عباس هل تزوجت؟ قلت: لا؛ فقال: إن الله عز وجل يستخرج من ظهرك ما استودعه فيه. وروي عن ابن عباس أيضا أن المستقر من خلق، والمستودع من لم يخلق؛ ذكره الماوردي. وعن ابن عباس أيضا: ومستودع عند الله.

قلت: وفي التنزيل « ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين » [ البقرة: 36 ] والاستيداع إشارة إلى كونهم في القبر إلى أن يبعثوا للحساب؛ وقد تقدم في ( البقرة ) . « قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون » قال قتادة: « فصلنا » بينا وقررنا. والله أعلم.

 

الآية: 99 ( وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون )

 

قوله تعالى: « وهو الذي أنزل من السماء ماء » أي المطر. « فأخرجنا به نبات كل شيء » أي كل صنف من النبات. وقيل: رزق كل حيوان. « فأخرجنا منه خضرا » قال الأخفش: أي أخضر؛ كما تقول العرب: أرينها نمرة أركها مطرة. والخضر رطب البقول. وقال ابن عباس: يريد القمح والشعير والسلت والذرة والأرز وسائر الحبوب. « نخرج منه حبا متراكبا » أي يركب بعضه على بعض كالسنبلة.

 

قوله تعالى: « ومن النخل من طلعها قنوان دانية » ابتداء وخبر. وأجاز الفراء في غير القرآن « قنوانا دانية » على العطف على ما قبله. قال سيبويه: ومن العرب من يقول: قنوان. قال الفراء: هذه لغة قيس، وأهل الحجاز يقولون: قنوان، وتميم يقولون: قنيان؛ ثم يجتمعون في الواحد فيقولون: قنو وقنو. والطلع الكفري قبل أن ينشق عن الإغريض. والإغريض يسمى طلعا أيضا. والطلع؛ ما يرى من عذق النخلة. والقنوان: جمع قنو، وتثنيته قنوان كصنو وصنوان ( بكسر النون ) . وجاء الجمع على لفظ الاثنين. قال الجوهري وغيره: الاثنان صنوان والجمع صنوان ( برفع النون ) . والقنو: العذق والجمع القنوان والأقناء؛ قال:

طويلة الأقناء والأثاكل

غيره: « أقناء » جمع القلة. قال المهدوي: قرأ ابن هرمز « قنوان » بفتح القاف، وروي عنه ضمها. فعلى الفتح هو اسم للجمع غير مكسر، بمنزلة ركب عند سيبويه، وبمنزلة الباقر والجامل؛ لأن فعلان ليس من أمثلة الجمع، وضم القاف على أنه جمع قنو وهو العذق ( بكسر العين ) وهي الكباسة، وهي عنقود النخلة. والعذق ( بفتح العين ) النخلة نفسها. وقيل: القنوان الجمار. « دانية » قريبة، ينالها القائم والقاعد. عن ابن عباس والبراء بن عازب وغيرهما. وقال الزجاج: منها دانية ومنها بعيدة؛ فحذف؛ ومثله « سرابيل تقيكم الحر » [ النحل: 81 ] . وخص الدانية بالذكر، لأن من الغرض في الآية ذكر القدرة والامتنان بالنعمة، والامتنان فيما يقرب متناوله أكثر.

 

قوله تعالى: « وجنات من أعناب » أي وأخرجنا جنات. وقرأ محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى والأعمش، وهو الصحيح من قراءة عاصم « وجنات » بالرفع. وأنكر هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، حتى قال أبو حاتم: هي محال؛ لأن الجنات لا تكون من النخل. قال النحاس. والقراءة جائزة، وليس التأويل على هذا، ولكنه رفع بالابتداء والخبر محذوف؛ أي ولهم جنات. كما قرأ جماعة من القراء « وحور عين » [ الواقعة: 22 ] . وأجاز مثل هذا سيبويه والكسائي والفراء؛ ومثله كثير. وعلى هذا أيضا « وحورا عينا » حكاه سيبويه، وأنشد:

جئني بمثل بني بدر لقومهم أو مثل أسرة منظور بن سيار

وقيل: التقدير « وجنات من أعناب » أخرجناها؛ كقولك: أكرمت عبدالله وأخوه، أي وأخوه أكرمت أيضا. فأما الزيتون والرمان فليس فيه إلا النصب للإجماع على ذلك. وقيل: « وجنات » بالرفع عطف على « قنوان » لفظا، وإن لم تكن في المعنى من جنسها. « والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه » أي متشابها في الأوراق؛ أي ورق الزيتون يشبه ورق الرمان في اشتمال على جميع الغصن وفي حجم الورق، وغير متشابه في الذواق؛ عن قتادة وغيره. قال ابن جريج: « متشابها » في النظر « وغير متشابه » في الطعم؛ مثل الرمانتين لونهما واحد وطعامهما مختلف. وخص الرمان والزيتون بالذكر لقربهما منهم ومكانهما عندهم. وهو كقوله: « أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت » [ الغاشية: 17 ] . ردهم إلى الإبل لأنها أغلب ما يعرفونه.

 

قوله تعالى: « انظروا إلى ثمره إذا أثمر » أي نظر الاعتبار لا نظر الإبصار المجرد عن التفكر. والثمر في اللغة جنى الشجر. وقرأ حمزة والكسائي « ثمره » بضم الثاء والميم. والباقون بالفتح فيهما جمع ثمرة، مثل بقرة وبقر وشجرة وشجر. قال مجاهد الثمر أصناف المال، والتمر ثمر النخل. وكأن المعنى على قول مجاهد: انظروا إلى الأموال التي يتحصل منه الثمر؛ فالثمر بضمتين جمع ثمار وهو المال المثمر. وروي عن الأعمش « ثمره » بضم الثاء وسكون الميم؛ حذفت الضمة لثقلها طلبا للخفة. ويجوز أن يكون ثمر جمع ثمرة مثل بدنة وبدن. ويجوز أن يكون ثمر جمع جمع، فتقول: ثمرة وثمار وثمر مثل حمار وحمر. ويجوز أن يكون جمع ثمرة كخشبة وخشب لا جمع الجمع.

 

قوله تعالى: « وينعه » قرأ محمد بن السميقع « ويانعه » . وابن محيصن وابن أبي إسحاق « وينعه » بضم الياء. قال الفراء: هي لغة بعض أهل نجد؛ يقال: ينع الثمر يينع، والثمر يانع. وأينع يونع والتمر مونع. والمعنى: ونضجه. ينع وأينع إذا نضج وأدرك. قال الحجاج في خطبته: أرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها. قال ابن الأنباري: الينع جمع يانع، كراكب وركب، وتاجر وتجر، وهو المدرك البالغ. وقال الفراء: أينع أكثر من ينع، ومعناه أحمر؛ ومنه ما روي في حديث الملاعنة ( إن ولدته أحمر مثل الينعة ) وهي خرزة حمراء، يقال: إنه العقيق أو نوع منه. فدلت الآية لمن تدبر ونظر ببصره وقلبه، نظر من تفكر، أن المتغيرات لا بد لها من مغير؛ وذلك أنه تعالى قال: « انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه » . فتراه أولا طلعا ثم إغريضا إذا انشق عنه الطلع. والإغريض يسمى ضحكا أيضا، ثم بلحا، ثم سيابا، ثم جدا لا إذ اخضر واستدار قبل أن يشتد، ثم بسرا إذا عظم، ثم زهوا إذا أحمر؛ يقال: أزهى يزهي، ثم موكتا إذا بدت فيه نقط من الإرطاب. فإن كان ذلك من قبل الذنب فهي مذنبة، وهو التذنوب، فإذا لانت فهي ثعدة، فإذا بلغ الإرطاب نصفها فهي مجزعة، فإذا بلغ ثلثيها فهي حلقانة، فإذا عمها الإرطاب فهي منسبتة؛ يقال: رطب منسبت، ثم ييبس فيصير تمرا. فنبه الله تعالى بانتقالها من حال إلى حال وتغيرها ووجودها بعد أن لم تكن بعد على وحدانيته وكمال قدرته، وأن لها صانعا قادرا عالما. ودل على جواز البعث؛ لإيجاد النبات بعد الجفاف. قال الجوهري: ينع الثمر يينع ويينع ينعا وينوعا، أي نضج.

 

قال ابن العربي قال مالك: الإيناع الطيب بغير فساد ولا نقش. قال: مالك: والنقش أن ينقش أهل البصرة الثمر حتى يرطب؛ يريد يثقب فيه بحيث يسرع دخول الهواء إليه فيرطب معجلا. فليس ذلك الينع المراد في القرآن، ولا هو الذي ربط به رسول الله صلى الله عليه وسلم البيع، وإنما هو ما يكون من ذاته بغير محاولة. وفي بعض بلاد التين، وهي البلاد الباردة، لا ينضج حتى يدخل في فمه عود قد دهن زيتا، فإذا طاب حل بيعه؛ لأن ذلك ضرورة الهواء وعادة البلاد، ولولا ذلك ما طاب في وقت الطيب.

قلت: وهذا الينع الذي يقف عليه جواز بيع التمر وبه يطيب أكلها ويأمن من العاهة، هو عند طلوع الثريا بما أجرى الله سبحانه من العادة وأحكمه من العلم والقدرة. ذكر المعلى بن أسد عن وهيب عن عسل بن سفيان عن عطاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا طلعت الثريا صباحا رفعت العاهة عن أهل البلد ) . والثريا النجم، لا خلاف في ذلك. وطلوعها صباحا لاثنتي عشرة ليلة تمضي من شهر أيار، وهو شهر مايو. وفي البخاري: وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت أن زيد بن ثابت لم يكن يبيع ثمار أرضه حتى تطلع الثريا فيتبين الأصفر من الأحمر.

 

وقد استدل من أسقط الجوائح في الثمار بهذه الآثار، وما كان مثلها من نهيه عليه السلام عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، وعن بيع الثمار حتى تذهب العاهة. قال عثمان بن سراقة: فسألت ابن عمر متى هذا؟ فقال: طلوع الثريا. قال الشافعي: لم يثبت عندي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح، ولو ثبت عندي لم أعده، والأصل المجتمع عليه أن كل من ابتاع ما يجوز بيعه وقبضه كانت المصيبة منه، قال: ولو كنت قائلا بوضع الجوائح لو ضعتها في القليل والكثير. وهو قول الثوري والكوفيين. وذهب مالك وأكثر أهل المدينة إلى وضعها؛ لحديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح. أخرجه مسلم. وبه كان يقضي عمر بن عبدالعزيز، وهو قول أحمد بن حنبل وسائر أصحاب الحديث. وأهل الظاهر وضعوها عن المبتاع في القليل والكثير على عموم الحديث؛ إلا أن مالكا وأصحابه اعتبروا أن تبلغ الجائحة ثلث الثمرة فصاعدا، وما كان دون الثلث ألغوه وجعلوه تبعا، إذ لا تخلو ثمرة من أن يتعذر القليل من طيبها وأن يلحقها في اليسير منها فساد. وكان أصبغ وأشهب لا ينظران إلى الثمرة ولكن إلى القيمة، فإذا كانت القيمة الثلث فصاعدا وضع عنه. والجائحة ما لا يمكن دفعه عند ابن القاسم. وعليه فلا تكون السرقة جائحة، وكذا في كتاب محمد. وفي الكتاب أنه جائحة، وروي عن ابن القاسم، وخالفه أصحابه والناس. وقال مطرف وابن الماجشون: ما أصاب الثمرة من السماء من عفن أو برد، أو عطش أو حر أو كسر الشجر بما ليس بصنع ادمي فهو جائحة. واختلف في العطش؛ ففي رواية ابن القاسم هو جائحة. والصحيح في البقول أنها فيها جائحة كالثمرة. ومن باع ثمرا قبل بدو صلاحه بشرط التبقية فسخ بيعه ورد؛ للنهي عنه؛ ولأنه من أكل المال بالباطل؛ لقوله عليه السلام: ( أرأيت إن منع الله الثمرة فبم أخذ أحدكم مال أخيه بغير حق ) ؟ هذا قول الجمهور، وصححه أبو حنيفة وأصحابه وحملوا النهي على الكراهة. وذهب الجمهور إلى جواز بيعها قبل بدو الصلاح بشرط القطع. ومنعه الثوري وابن أبي ليلى تمسكا بالنهي الوارد في ذلك. وخصصه الجمهور بالقياس الجلي؛ لأنه مبيع معلوم يصح قبضه حالة العقد فصح بيعه كسائر المبيعات.

 

الآية: 100 ( وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون )

 

قوله تعالى: « وجعلوا لله شركاء الجن » هذا ذكر نوع آخر من جهالاتهم، أي فيهم من أعتقد لله شركاء من الجن. قال النحاس: « الجن » مفعول أول، و « شركاء » مفعول ثان؛ مثل « وجعلكم ملوكا » [ المائدة: 20 ] . « وجعلت له مالا ممدودا » [ المدثر: 12 ] . وهو في القرآن كثير. والتقدير وجعلوا لله الجن شركاء. ويجوز أن يكون « الجن » بد لا من شركاء، والمفعول الثاني « لله » . وأجاز الكسائي رفع « الجن » بمعنى هم الجن. « وخلقكم » كذا قراءة الجماعة، أي خلق الجاعلين له شركاء. وقيل: خلق الجن الشركاء. وقرأ ابن مسعود « وهو خلقهم » بزيادة هو. وقرأ يحيى بن يعمر « وخلقهم » بسكون اللام، وقال: أي وجعلوا خلقهم لله شركاء؛ لأنهم كانوا يخلقون الشيء ثم يعبدونه. والآية نزلت في مشركي العرب. ومعنى إشراكهم بالجن أنهم أطاعوهم كطاعة الله عز وجل؛ روي ذلك عن الحسن وغيره. قال قتادة والسدي: هم الذين قالوا الملائكة بنات الله. وقال الكلبي: نزلت في الزنادقة، قالوا: إن الله وإبليس أخوان؛ فالله خالق الناس والدواب، وإبليس خالق الجان والسباع والعقارب. ويقرب من هذا قول المجوس، فإنهم قالوا: للعالم صانعان: إله قديم، والثاني شيطان حادث من فكرة الإله القديم؛ وزعموا أن صانع الشر حادث. وكذا الحائطية من المعتزلة من أصحاب أحمد بن حائط، زعموا أن للعالم صانعين: الإله القديم، والآخر محدث، خلقه الله عز وجل ألا ثم فوض إليه تدبير العالم؛ وهو الذي يحاسب الخلق في الآخرة. تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا. « وخرقوا » قراءة نافع بالتشديد على التكثير؛ لأن المشركين ادعوا أن لله بنات وهم الملائكة، وسموهم جنا لاجتنانهم. والنصارى ادعت المسيح ابن الله. واليهود قالت: عزير ابن الله، فكثر ذلك من كفرهم؛ فشدد الفعل لمطابقة المعنى. تعالى الله عما يقولون. وقرأ الباقون بالتخفيف على التقليل. وسئل الحسن البصري عن معنى « وخرقوا له » بالتشديد فقال: إنما هو « وخرقوا » بالتخفيف، كلمة عربية، كان الرجل إذا كذب في النادي قيل: خرقها ورب الكعبة. وقال أهل اللغة: معنى « خرقوا » اختلقوا وافتعلوا « وخرقوا » على التكثير. قال مجاهد وقتادة وابن زيد وابن جريج: « خرقوا » كذبوا. يقال: إن معنى خرق واخترق واختلق سواء؛ أي أحدث:

 

الآية: 101 ( بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم )

 

قوله تعالى: « بديع السماوات والأرض » أي مبدعهما؛ فكيف يجوز أن يكون له ولد. و « بديع » خبر ابتداء مضمر أي هو بديع. وأجاز الكسائي خفضه على النعت لله عز وجل، ونصبه بمعنى بديعا السماوات والأرض. وذا خطأ عند البصريين لأنه لما مضى. « أنى يكون له ولد » أي من أين يكون له ولد. وولد كل شيء شبيهه، ولا شبيه له. « ولم تكن له صاحبة » أي زوجة. « وخلق كل شيء » عموم معناه الخصوص؛ أي خلق العالم. ولا يدخل في ذلك كلامه ولا غيره من صفات ذاته. ومثله « ورحمتي وسعت كل شيء » [ الأعراف: 156 ] ولم تسع إبليس ولا من مات كافرا. ومثله « تدمر كل شيء » [ الأحقاف: 25 ] ولم تدمر السماوات والأرض.

 

الآية: 102 ( ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل )

 

قوله تعالى: « ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو » « ذلكم » في موضع رفع بالابتداء. « الله ربكم » على البدل. « خالق كل شيء » خبر الابتداء. ويجوز أن يكون « ربكم » الخبر، و « خالق » خبرا ثانيا، أو على إضمار مبتدأ، أي هو خالق. وأجاز الكسائي والقراء فيه النصب.

 

الآية: 103 ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير )

 

قوله تعالى: « لا تدركه الأبصار » بين سبحانه أنه منزه عن سمات الحدوث، ومنها الإدراك بمعنى الإحاطة والتحديد، كما تدرك سائر المخلوقات، والرؤية ثابتة. فقال الزجاج: أي لا يبلغ كنه حقيقته؛ كما تقول: أدركت كذا وكذا؛ لأنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم الأحاديث في الرؤية يوم القيامة. وقال ابن عباس: « لا تدركه الأبصار » في الدنيا، ويراه المؤمنون في الآخرة؛ لإخبار الله بها في قوله: « وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة » [ القيامة: 22 - 23 ] . وقال السدي. وهو أحسن ما قيل لدلالة التنزيل والأخبار الواردة برؤية الله في الجنة. وسيأتي بيانه في « يونس » . وقيل: « لا تدركه الأبصار » لا تحيط به وهو يحيط بها؛ عن ابن عباس أيضا. وقيل: المعنى لا تدركه أبصار القلوب، أي لا تدركه العقول فتتوهمه؛ إذ « ليس كمثله شيء » [ الشورى: 11 ] وقيل: المعنى لا تدركه الأبصار المخلوقة في الدنيا، لكنه يخلق لمن يريد كرامته بصرا وإدراكا يراه فيه كمحمد عليه السلام؛ إذ رؤيته تعالى في الدنيا جائزة عقلا، إذ لو لم تكن جائزة لكان سؤال موسى عليه السلام مستحيلا، ومحال أن يجهل نبي ما يجوز على الله وما لا يجوز، بل لم يسأل إلا جائزا غير مستحيل. واختلف السلف في رؤية نبينا عليه السلام ربه، ففي صحيح مسلم عن مسروق قال: كنت متكئا عند عائشة، فقالت: يا أبا عائشة، ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية. قلت: ما هن؟ قالت من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية. قال: وكنت متكئا فجلست فقلت: يا أم المؤمنين، أنظريني ولا تعجليني، ألم يقل الله عز وجل « ولقد رآه بالأفق المبين » [ التكوير: 23 ] . « ولقد رآه نزلة أخرى » [ النجم: 13 ] ؟ فقالت: أنا أول هذه الأمة من سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض ) . فقالت: أو لم تسمع أن الله عز وجل يقول: « لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير » ؟ أو لم تسمع أن الله عز وجل يقول: « وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا - إلى قول - علي حكيم » [ الشورى: 51 ] ؟ قالت: ومن زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول: « يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته » [ المائدة: 67 ] قالت: ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول: « قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله » [ النمل: 65 ] . إلى ما ذهبت إليه عائشة رضي الله عنها من عدم الرؤية، وأنه إنما رأى جبريل: ابن مسعود، ومثله عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأنه رأى جبريل، واختلف عنهما. وقال بإنكار هذا وامتناع رؤيته جماعة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين. وعن ابن عباس أنه رآه بعينه؛ هذا هو المشهور عنه. وحجته قوله تعالى: « ما كذب الفؤاد ما رأى » [ النجم: 11 ] . وقال عب الله بن الحارث: اجتمع ابن عباس وأبي بن كعب، فقال ابن عباس: أما نحن بنو هاشم فنقول إن محمدا رأى ربه مرتين. ثم قال ابن عباس: أتعجبون أن الخلة تكون لإبراهيم والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين. قال: فكبر كعب حتى جاوبته الجبال، ثم قال: إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى عليهما السلام، فكلم موسى ورآه محمد صلى الله عليه وسلم.

وحكى عبدالرزاق أن الحسن كان يحلف بالله لقد رأى محمد ربه. وحكاه أبو عمر الطلمنكي عن عكرمة، وحكاه بعض المتكلمين عن ابن مسعود، والأول عنه أشهر. وحكى ابن إسحاق أن مروان سأل أبا هريرة: هل رأى محمد ربه؟ فقال نعم وحكى النقاش عن أحمد بن حنبل أنه قال: أنا أقول بحديث ابن عباس: بعينه رآه رآه! حتى انقطع نفسه، يعني نفس أحمد. وإلى هذا ذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري وجماعة من أصحابه أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى الله ببصره وعيني رأسه. وقال أنس وابن عباس وعكرمة والربيع والحسن. وكان الحسن يحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد رأى محمد ربه. وقال جماعة منهم أبو العالية والقرظي والربيع بن أنس: إنه إنما رأى ربه بقلبه وفؤاده؛ وحكي عن ابن عباس أيضا وعكرمة. وقال أبو عمر: قال أحمد بن حنبل رآه بقلبه، وجبن عن القول برؤيته في الدنيا بالأبصار. وعن مالك بن أنس قال: لم ير في الدنيا؛ لأنه باق ولا يرى الباقي بالفاني، فإذا كان في الآخرة ورزقوا أبصارا باقية رأوا الباقي بالباقي. قال القاضي عياض: وهذا كلام حسن مليح، وليس فيه دليل على الاستحالة إلا من حيث ضعف القدرة؛ فإذا قوى الله تعالى من شاء من عباده وأقدره على حمل أعباء الرؤية لم يمتنع في حقه. وسيأتي شيء من هذا في حق موسى عليه السلام في « الأعراف » إن شاء الله. قوله تعالى: « وهو يدرك الأبصار » أي لا يخفى عليه شيء إلا يراه ويعلمه. إنما خص الأبصار؛ لتجنيس الكلام. وقال الزجاج: وفي هذا الكلام دليل على أن الخلق لا يدركون الأبصار؛ أي لا يعرفون كيفية حقيقة البصر، وما الشيء الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه دون أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه. ثم قال: « وهو اللطيف الخبير » أي الرفيق بعباده؛ يقال: لطف فلان بفلان يلطف، أي رفق به. واللطف في الفعل الرفق فيه. واللطف من الله تعالى التوفيق والعصمة. وألطفه بكذا، أي بره به. والاسم اللطف بالتحريك. يقال: جاءتنا من فلان لطفه؛ أي هدية. والملاطفة المبارة؛ عن الجوهري وابن فارس. قال أبو العالية: المعنى لطيف باستخراج الأشياء خبير بمكانها. وقال الجنيد: اللطيف من نور قلبك بالهدى، وربى جسمك بالغذا، وجعل لك الولاية في البلوى، ويحرسك وأنت في لظى، ويدخلك جنة المأوى. وقيل غير هذا، مما معناه راجع إلى معنى الرفق وغيره. وسيأتي ما للعلماء من الأقوال في ذلك في « الشورى » إن شاء الله تعالى.

 

الآية: 104 ( قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ )

 

قوله تعالى: « قد جاءكم بصائر من ربكم » أي آيات وبراهين يبصر بها ويستدل؛ جمع بصيرة وهي الدلالة. قال الشاعر:

جاؤوا بصائرهم على أكتافهم وبصيرتي يعدو بها عَتَدٌ وآي

يعني بالبصيرة الحجة البينة الظاهرة. ووصف الدلالة بالمجيء لتفخيم شأنها؛ إذ كانت بمنزلة الغائب المتوقع حضوره للنفس؛ كما يقال: جاءت العافية وقد انصرف المرض، وأقبل السعود وأدبر النحوس. « فمن أبصر فلنفسه » الإبصار: هو الإدراك بحاسة البصر؛ أي فمن استدل وتعرف فنفسه نفع. « ومن عمي فعليها » لم يستدل، فصار بمنزلة الأعمى؛ فعلى نفسه يعود ضرر عماه. « وما أنا عليكم بحفيظ » أي لم أومر بحفظكم على أن تهلكوا أنفسكم. وقيل: أي لا أحفظكم من عذاب الله. وقيل: « بحفظ » برقيب؛ أحصي عليكم أعمالكم، إنما أنا رسول أبلغكم رسالات ربي، وهو الحفيظ عليكم لا يخفى عليه شيء من أفعالكم. قال الزجاج: نزل هذا قبل فرض القتال، ثم أمر أن يمنعهم بالسيف من عبادة الأوثان.

 

الآية: 105 ( وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون )

 

قوله تعالى: « وكذلك نصرف الآيات » الكاف في كذلك في موضع نصب؛ أي نصرف الآيات مثل ما تلونا عليك. أي كما صرفنا الآيات في الوعد والوعيد والوعظ والتنبيه في هذه السورة نصرف في غيرها. « وليقولوا درست » والواو للعطف على مضمر؛ أي نصرف الآيات لتقوم الحجة وليقولوا درست. وقيل: أي « وليقولوا درست » صرفناها؛ فهي لام الصيرورة. وقال الزجاج: هذا كما تقول كتب فلان هذا الكتاب لحتفه؛ أي آل أمره إلى ذلك. وكذا لما صرفت الآيات آل أمرهم إلى أن قالوا: درست وتعلمت من جبر ويسار، وكانا غلامين نصرانيين بمكة، فقال أهل مكة: إنما يتعلم منهما. قال النحاس: وفي المعنى قول آخر حسن، وهو أن يكون معنى « نصرف الآيات » نأتي بها آية بعد آية ليقولوا درست علينا؛ فيذكرون الأول بالآخر. فهذا حقيقة، والذي قاله أبو إسحاق مجاز.

وفي « درست » سبع قراءات. قرأ أبو عمرو وابن كثير « دارست » بالألف بين الدال والراء؛ كفاعلت. وهي قراءة علي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وأهل مكة. قال ابن عباس: معنى « دارست » تاليت. وقرأ ابن عامر « درست » بفتح السين وإسكان التاء غير ألف؛ كخرجت. وهي قراءة الحسن. وقرأ الباقون « درست » كخرجت. فعلى الأولى: دارست أهل الكتاب ودارسوك؛ أي ذاكرتهم وذاكروك؛ قال سعيد بن جبير. ودل على هذا المعنى قوله تعالى إخبارا عنهم: « وأعانه عليه قوم آخرون » [ الفرقان: 4 ] أي أعان اليهود النبي صلى الله عليه وسلم على القرآن وذاكروه فيه. وهذا كله قول المشركين. ومثله قولهم: « وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا » [ الفرقان: 5 ] « إذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين » [ النحل: 24 ] . وقيل: المعنى دارستنا؛ فيكون معناه كمعنى درست؛ ذكره النحاس واختاره، والأول ذكره مكي. وزعم النحاس أنه مجاز؛ كما قال:

فللموت ما تلد الوالده

ومن قرأ « درست » فأحسن ما قيل في قراءته أن المعنى: ولئلا يقولوا انقطعت وامحت، وليس يأتي محمد صلى الله عليه وسلم بغيرها. وقرأ قتادة « درست » أي قرئت. وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن عبيد عن الحسن أنه قرأ « دارست » . وكان أبو حاتم يذهب إلى أن هذه القراءة لا تجوز؛ قال: لأن الآيات لا تدارس. وقال غيره: القراءة بهذا تجوز، وليس المعنى على ما ذهب إليه أبو حاتم، ولكن معناه دارست أمتك؛ أي دارستك أمتك، وإن كان لم يتقدم لها ذكر؛ مثل قوله: « حتى توارت بالحجاب » [ ص: 32 ] . وحكى الأخفش « وليقولوا درست » وهو بمعنى « درست » إلا أنه أبلغ. وحكى أبو العباس أنه قرئ « وليقولوا درست » بإسكان اللام على الأمر. وفيه معنى التهديد؛ أي فليقولوا بما شاؤوا فإن الحق بين؛ كما قال عز وجل « فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا » [ التوبة: 82 ] فأما من كسر اللام فإنها عنده لام كي. وهذه القراءات كلها يرجع اشتقاقها إلى شيء واحد، إلى التليين والتذليل. و « درست » من درس يدرس دراسة، وهي القراءة على الغير. وقيل: درسته أي ذللته بكثرة القراءة؛ وأصله درس الطعام أي داسه. والدياس الدراس بلغة أهل الشام. وقيل: أصله من درست الثوب أدرسه درسا أي أخلقته. وقد درس الثوب درسا أي أخلق. ويرجع هذا إلى، التذلل أيضا. ويقال: سمي إدريسي لكثرة دراسته لكتاب الله. ودارست الكتب وتدارستها وادارستها أي درستها. ودرست الكتاب درسا ودراسة. ودرست المرأة درسا أي حاضت. ويقال إن فرج المرأة يكنى أبا أدراس؛ وهو من الحيض. والدرس أيضا: الطريق الخفي. وحكى الأصمعي: بعير لم يدرس أي لم يركب، ودرست من درس المنزل إذا عفا. وقرأ ابن مسعود وأصحابه وأبي وطلحة والأعمش « وليقولوا درس » أي درس محمد الآيات. « ولنبينه » يعني القول والتصريف، أو القرآن « لقوم يعلمون » .

 

الآية: 106 ( اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين )

 

قوله تعالى: « اتبع ما أوحي إليك من ربك » يعني القرآن؛ أي لا تشغل قلبك وخاطرك بهم، بل اشتغل بعبادة الله. « لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين » منسوخ.

 

الآية: 107 ( ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل )

 

قوله تعالى: « ولو شاء الله ما أشركوا » نص على أن الشرك بمشيئته، وهو إبطال لمذهب القدرية كما تقدم. « وما جعلناك عليهم حفيظا » أي لا يمكنك حفظهم من عذاب الله. « وما أنت عليهم بوكيل » أي قيم بأمورهم في مصالحهم لدينهم أو دنياهم، حتى تلطف لهم في تناول ما يجب لهم؛ فلست بحفيظ في ذلك ولا وكيل في هذا، إنما أنت مبلغ. وهذا قبل أن يؤمر بالقتال.

 

الآية: 108 ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون )

 

قوله تعالى: « ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله » نهي. « فيسبوا الله » جواب النهي. فنهى سبحانه لمؤمنين أن يسبوا أوثانهم؛ لأنه علم إذا سبوها نفر الكفار وازدادوا كفرا. قال ابن عباس: قالت كفار قريش لأبي طالب إما أن تنهى محمدا وأصحابه عن سب آلهتنا والغض منها وإما أن إلهه ونهجوه؛ فنزلت الآية.

قال العلماء: حكمها باق في هذه الأمة على كل حال؛ فمتى كان الكافر في منعة وخيف أن يسب الإسلام أو البني عليه السلام أو الله عز وجل، فلا يحل لمسلم أن يسب صلبانهم ولا دينهم ولا كنائسهم، ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك؛ لأنه بمنزلة البعث على المعصية. وعبر عن الأصنام وهي لا تعقل بـ « الذين » على معتقد الكفرة فيها.

في هذه الآية أيضا ضرب من الموادعة، ودليل على وجوب الحكم بسد الذرائع؛ وفيها دليل على أن المحق قد يكف عن حق له إذا أدى إلى ضرر يكون في الدين. ومن هذا المعنى ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لا تبتوا الحكم بين ذوي القرابات مخافة القطيعة. قال ابن العربي: إن كان الحق واجبا فيأخذه بكل حال وإن كان جائزا ففيه يكون هذا القول.

 

قوله تعالى: « عدوا » أي جهلا واعتداء. وروي عن أهل مكة أنهم قرؤوا « عدوا » بضم العين والدال وتشديد الواو، وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وقتادة، وهي راجعة إلى القراءة الأولى، وهما جميعا بمعنى الظلم. وقرأ أهل مكة أيضا « عدوا » بفتح العين وضم الدال بمعنى عدو. وهو واحد يؤدي عن جمع؛ كما قال: « فإنهم عدو لي إلا رب العالمين » [ الشعراء: 77 ] . وقال تعالى: « هم العدو » وهو منصوب على المصدر أو على المفعول من أجله.

 

قوله تعالى: « كذلك زينا لكل أمة عملهم » أي كما زينا لهؤلاء أعمالهم كذلك زينا لكل أمة عملهم. قال ابن عباس. زينا لأهل الطاعة الطاعة، ولأهل الكفر الكفر؛ وهو كقوله: « كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء » [ المدثر: 31 ] . وفي هذا رد على القدرية.

 

الآية: 109 ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون )

 

قوله تعالى: « وأقسموا » أي حلفوا. وجهد اليمين أشدها، وهو بالله. فقوله: « جهد أيمانهم » أي غاية أيمانهم التي بلغها علمهم، وانتهت إليها قدرتهم. وذلك أنهم كانوا يعتقدون أن الله هو الإله الأعظم، وأن هذه الآلهة إنما يعبدونها ظنا منهم أنها تقربهم إلى الله زلفى؛ كما أخبر عنهم بقوله تعالى: « ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى » [ الزمر: 3 ] . وكانوا يحلفون بآبائهم وبالأصنام وبغير ذلك، وكانوا يحلفون بالله تعالى وكانوا يسمونه جهد اليمين إذا كانت اليمين بالله. « جهد » منصوب على المصدر والعامل فيه « أقسموا » على مذهب سيبويه؛ لأنه في معناه. والجهد ( بفتح الجيم ) : المشقة يقال: فعلت ذلك بجهد. والجهد ( بضمها ) : الطاقة يقال: هذا جهدي، أي طاقتي. ومنهم من يجعلهما واحدا، ويحتج بقول « والذين لا يجدون إلا جهدهم » [ التوبة: 79 ] . وقرئ « جهدهم » بالفتح؛ عن ابن قتيبة. وسبب الآية فيما ذكر المفسرون: القرظي والكلبي وغيرهما، أن قريشا قالت: يا محمد، تخبرنا بأن موسى ضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، وأن عيسى كان يحيي الموتى، وأن ثمود كانت لهم ناقة؛ فائتنا ببعض هذه الآيات حتى نصدقك. فقال: ( أي شيء تحبون ) ؟ قالوا: أجعل لنا الصفا ذهبا؛ فوالله إن فعلته لنتبعنك أجمعون. فقام رسول الله صلى الله عليه سلم يدعو؛ فجاءه جبريل عليه السلام فقال: ( إن شئت أصبح الصفا ذهبا، ولئن أرسل الله آية ولم يصدقوا عندها ليعذبنهم فأتركهم حتى يتوب تائبهم ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( بل يتوب تائبهم ) فنزلت هذه الآية. وبين الرب بأن من سبق العلم الأزلي بأنه لا يؤمن فإنه لا يومن وإن أقسم ليؤمنن.

 

قوله تعالى: « جهد أيمانهم » قيل: معناه بأغلظ الأيمان عندهم. وتعرض هنا مسألة من الأحكام عظمى، وهي قول الرجل: الأيمان تلزمه إن كان كذا وكذا. قال ابن العربي: وقد كانت هذه اليمين في صدر الإسلام معروفة بغير هذه الصورة، كانوا يقولون: على أشد ما أخذه أحد على أحد؛ فقال مالك: تطلق نساؤه. ثم تكاثرت الصورة حتى آلت بين الناس إلى صورة هذه أمها. وكان شيخنا الفهري الطرسوسي يقول: يلزمه إطعام ثلاثين مسكينا إذا حنث فيها؛ لأن قوله « الإيمان » جمع يمين، وهو لو قال علي يمين وحنث ألزمناه كفارة. ولو قال: علي يمينان للزمته كفارتان إذا حنث. والإيمان جمع يمين فيلزمه فيها ثلاث كفارات.

قلت: وذكر أحمد بن محمد بن مغيث في وثائقه: اختلف شيوخ القيروان فيها؛ فقال أبو محمد بن أبي زيد؛ يلزمه في زوجته ثلاث تطليقات، والمشي إلى مكة، وتفريق ثلث ماله، وكفارة يمين، وعتق رقبة. قال ابن مغيث: وبه قال ابن أرفع رأسه وابن بدر من فقهاء طليطلة. وقال الشيخ أبو عمران الفاسي وأبو الحسن القابسي وأبو بكر بن عبدالرحمن القروي: تلزمه طلقة واحدة إذا لم تكن له نية. ومن حجتهم في ذلك رواية ابن الحسن في سماعه من ابن وهب في قوله: « وأشد ما أخذه أحد على أحد أن عليه ذلك كفارة يمين » . قال ابن مغيث: فجعل من سميناه على القائل: « الإيمان تلزمه » طلقة واحدة؛ لأنه لا يكون أسوأ حالا من قوله: أشد ما أخذه أحد على أحد أن عليه كفارة يمين، قال وبه نقول. قال: واحتج الأولون بقول ابن القاسم من قال: علي عهد الله وغليظ ميثاقه وكفالته وأشد ما أخذه أحد على أحد على أمر ألا يفعله ثم فعله؛ فقال: إن لم يرد الطلاق ولا العتاق وعزلهما عن ذلك فلتكن ثلاث كفارات. فان لم تكن له نية حين حلف فليكفر كفارتين في قوله: علي عهد الله وغليظ ميثاقه. ويعتق رقبة وتطلق نساؤه، ويمشي إلى مكة ويتصدق بثلث ما له في قوله: وأشد ما أخذه على أحد. قال ابن العربي: أما طريق الأدلة فإن الألف واللام في الإيمان لا تخلو أن يراد بها الجنس أو العهد؛ فإن دخلت للعهد فالمعهود قولك « بالله » فيكون ما قاله الفهري. فإن دخلت للجنس فالطلاق جنس فيدخل فيها ولا يستوفى عدده، فإن الذي يكفي أن يدخل في كل جنس معنى واحد؛ فإنه لو دخل في الجنس المعنى كله للزمه أن يتصدق بجميع ما له؛ إذ قد تكون الصدقة بالمال يمينا. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « قل إنما الآيات عند الله » أي قل يا محمد: الله القادر على الآتيان بها، وإنما يأتي بها إذا شاء. « وما يشعركم » أي وما يدويكم أيمانكم؛ فحذف المفعول. ثم استأنف فقال: « إنها إذا جاءت لا يؤمنون » بكسر إن، وهي قراءة مجاهد وأبي عمرو وابن كثير. ويشهد لهذا قراءة ابن مسعود « وما يشعركم إذا جاءت لا يؤمنون » . وقال مجاهد وابن زيد: المخاطب بهذا المشركون، وتم الكلام. حكم عليهم بأنهم لا يؤمنون، وقد أعلمنا في الآية بعد هذه أنهم لا يؤمنون. وهذا التأويل يشبه قراءة من قرأ « تؤمنون » بالتاء. وقال الفراء وغيره؛ الخطاب للمؤمنين؛ لأن المؤمنين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، لو نزلت الآية لعلهم يؤمنون؛ فقال الله تعالى: « وما يشعركم » أي يعلمكم ويدريكم أيها المؤمنون. « أنها » بالفتح، وهي قراءة أهل المدينة والأعمش وحمزة، أي لعلها إذا جاءت لا يؤمنون. قال الخليل: « أنها » بمعنى لعلها؛ وحكاه عنه سيبويه. وفي التنزيل: « وما يدريك لعله يزكى » [ عبس: 3 ] أي أنه يزكى. وحكي عن العرب: ايت السوق أنك تشتري لنا شيئا، أي لعلك. وقال أبو النجم:

قلت لشيبان ادن من لقائه أنّ تغدي القوم من شوائه

وقال عدي بن زيد:

أعاذل ما يدريك أنّ منيتي إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد

أي لعل. وقال دريد بن الصمة:

أريني جوادا مات هزلا لأنني أري ما ترين أو بخيلا مخلدا

أي لعلني. وهو في كلام العرب كثير « أن » بمعنى لعل. وحكى الكسائي أنه كذلك في مصحف أبي بن كعب « وما أدراكم لعلها » . وقال الكسائي والفراء: أن « لا » زائدة، والمعنى: وما يشعركم أنها - أي الآيات - إذا جاءت المشركين يؤمنون، فزيدت « لا » ؛ كما زيدت « لا » في قوله تعالى: « حرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون » [ الأنبياء: 95 ] . لأن المعنى: وحرام على قرية مهلكة رجوعهم. وفي قوله: « ما منعك ألا تسجد » [ الأعراف: 12 ] . والمعنى: ما منعك أن تسجد. وضعف الزجاج والنحاس وغيرهما زيادة « لا » وقالوا: هو غلط وخطأ؛ لأنها إنما تزاد فيما لا يشكل. وقيل: في الكلام حذف، والمعنى: وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون أو يؤمنون، ثم حذف هذا لعلم السامع؛ ذكره النحاس وغيره.

 

الآية: 110 ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون )

 

قوله تعالى: « ونقلب أفئدتهم وأبصارهم » هذه آية مشكلة، ولا سيما وفيها « ونذرهم في طغيانهم يعمهون » . قيل: المعنى ونقلب أفئدتهم وأنظارهم يوم القيامة على لهب النار وحر الجمر؛ كما لم يؤمنوا في الدنيا. « ونذرهم » في الدنيا، أي نمهلهم ولا نعاقبهم؛ فبعض الآية في الآخرة، وبعضها في الدنيا. ونظيرها « وجوه يومئذ خاشعة » [ الغاشية: 2 ] فهذا في الآخرة. « عاملة ناصبة » في الدنيا. وقيل: ونقلب في الدنيا؛ أي نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم تلك الآية، كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة؛ لما دعوتهم وأظهرت المعجزة. وفي التنزيل: « واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه » [ الأنفال: 24 ] . والمعنى: كان ينبغي أن يؤمنوا إذا جاءتهم الآية فرأوها بأبصارهم وعرفوها بقلوبهم؛ فإذا لم يؤمنوا كان ذلك بتقليب الله قلوبهم وأبصارهم. « كما لم يؤمنوا به أول مرة » ودخلت الكاف على محذوف، أي فلا يؤمنون كما لم يؤمنوا به أول مرة؛ أي أول مرة أتتهم الآيات التي عجزوا عن معارضتها مثل القرآن وغيره. وقيل: ونقلب أفئدة هؤلاء كيلا يؤمنوا؛ كما لم تؤمن كفار الأمم السالفة لما رأوا ما اقترحوا من الآيات. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير؛ أي أنها إذا جاءت لا يؤمنون كما لم يؤمنوا أول مرة ونقلب أفئدتهم وأبصارهم. « ونذرهم في طغيانهم يعمهون » يتحيرون. وقد مضى في « البقرة » .