الآية: 91 ( الذين جعلوا القرآن عضين )

 

هذه صفة المقتسمين. وقيل: هو مبتدأ وخبره « لنسألنهم » . وواحد العضين عضة، من عضيت الشيء تعضية أي فرقته؛ وكل فرقة عضة. وقال بعضهم: كانت في الأصل عضوة فنقصت الواو، ولذلك جمعت عضين؛ كما قالوا: عزين في جمع عزة، والأصل عزوة. وكذلك ثبة وثبين. ويرجع المعنى إلى ما ذكرناه في المقتسمين. قال ابن عباس: ( آمنوا ببعض وكفروا ببعض ) . وقيل: فرقوا أقاويلهم فيه فجعلوه كذبا وسحرا وكهانة وشعرا. عضوته أي فرقته. قال الشاعر - هو رؤبة - :

وليس دين الله بالمعضى

أي بالمفرق. ويقال: نقصانه الهاء وأصله عضهة؛ لأن العضه والعضين في لغة قريش السحر. وهم يقولون للساحر: عاضه وللساحرة عاضهة. قال الشاعر:

أعوذ بربي من النافثا ت في عُقَد العاضه المُعْضه

وفي الحديث: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم العاضهة والمستعضهة، وفسر: الساحرة والمستسحرة. والمعنى: أكثروا البهت على القرآن ونوعوا الكذب فيه، فقالوا: سحر وأساطير الأولين، وأنه مفترى، إلى غير ذلك. ونظير عضة في النقصان شفة، والأصل شفهة. كما قالوا: سنة، والأصل سنهة، فنقصوا الهاء الأصلية وأثبتت هاء العلامة وهي للتأنيث. وقيل: هو من العضه وهي النميمة. والعضيهة البهتان، وهو أن يعضه الإنسان ويقول، فيه ما ليس فيه. يقال عضهه عضها رماه بالبهتان. وقد أعضهت أي جئت بالبهتان. قال الكسائي: العضة الكذب والبهتان، وجمعها عضون؛ مثل عزة وعزون؛ قال تعالى: « الذين جعلوا القرآن عضين » . ويقال: عضوه أي آمنوا بما أحبوا منه وكفروا بالباقي، فأحب كفرهم إيمانهم. وكان الفراء يذهب إلى أنه مأخوذ من العضاة، وهي شجر الوادي ويخرج كالشوك.

 

الآيتان: 92 - 93 ( فوربك لنسألنهم أجمعين، عما كانوا يعملون )

 

قوله تعالى: « فوربك لنسألنهم أجمعين » أي لنسألن هؤلاء الذين جرى ذكرهم عما عملوا في الدنيا. وفي البخاري: وقال عدة من أهل العلم في قوله: « فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون » عن لا إله إلا الله.

قلت: وهذا قد روي مرفوعا، روى الترمذي الحكيم قال: حدثنا الجارود بن معاذ قال حدثنا الفضل بن موسى عن شريك عن ليث عن بشير بن نهيك عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: « فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعمون » قال: ( عن قول لا إله إلا الله ) قال أبو عبدالله: معناه عندنا عن صدق لا إله إلا الله ووفائها؛ وذلك أن الله تعالى ذكر في تنزيله العمل فقال: « عما كانوا يعملون » ولم يقل عما كانوا يقولون، وإن كان قد يجوز أن يكون القول أيضا عمل اللسان، فإنما المعني به ما يعرفه أهل اللغة أن القول قول والعمل عمل. وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( عن لا إله إلا الله ) أي عن الوفاء بها والصدق لمقالها. كما قال الحسن البصري: ليس الإيمان بالتحلي ولا الدين بالتمني ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال. ولهذا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة ) قيل: يا رسول الله، وما إخلاصها؟ قال: ( أن تحجزه عن محارم الله ) . رواه زيد بن أرقم. وعنه أيضا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله عهد إلي ألا يأتيني أحد من أمتي بلا إله إلا الله لا يخلط بها شيئا إلا وجبت له الجنة ) قالوا: يا رسول الله، وما الذي يخلط بلا إله إلا الله؟ قال: ( حرصا على الدنيا وجمعا لها ومنعا لها، يقولون قول الأنبياء ويعملون أعمال الجبابرة ) . وروى أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا إله إلا الله تمنع العباد من سخط الله ما لم يؤثروا صفقة دنياهم على دينهم فإذا آثروا صفقة دنياهم على دينهم ثم قالوا لا إله إلا الله ردت عليهم وقال الله كذبتم ) . أسانيدها في نوادر الأصول.

قلت: والآية بعمومها تدل على سؤال الجميع ) ومحاسبتهم كافرهم ومؤمنهم، إلا من دخل الجنة بغير حساب على ما بيناه في كتاب ( التذكرة ) . فإن قيل: وهل يسأل الكافر ويحاسب؟ قلنا: فيه خلاف وذكرناه في التذكرة. والذي يظهر سؤال، للآية وقوله: « وقفوهم إنهم مسؤولون » [ الصافات: 24 ] وقوله: « إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم » [ الغاشية: 25 - 26 ] . فإن قيل: فقد قال تعالى: « ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون » [ القصص: 78 ] وقال: « فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان » [ الرحمن: 39 ] ، وقال: « ولا يكلمهم الله » [ البقرة: 174 ] ، وقال: « إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون » [ المطففين: 15 ] . قلنا: القيامة مواطن، فموطن يكون فيه سؤال وكلام، وموطن لا يكون ذلك فيه. قال عكرمة: القيامة مواطن، يسأل في بعضها ولا يسأل في بعضها. وقال ابن عباس: ( لا يسألهم سؤال استخبار واستعلام هل عملتم كذا وكذا؛ لأن الله عالم بكل شيء، ولكن يسألهم سؤال تقريع وتوبيخ فيقول لهم: لم عصيتم القرآن وما حجتكم فيه؟ واعتمد قطرب هذا القول. وقيل: « لنسألنهم أجمعين » يعني المؤمنين المكلفين؛ بيانه قوله تعالى: « ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم » [ التكاثر: 8 ] . والقول بالعموم أولى كما ذكر. والله أعلم.

 

الآيتان: 94 - 95 ( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين، إنا كفيناك المستهزئين )

 

قوله تعالى: « فاصدع بما تؤمر » أي بالذي تؤمر به، أي بلغ رسالة الله جميع الخلق لتقوم الحجة عليهم، فقد أمرك الله بذلك. والصدع: الشق. وتصدع القوم أي تفرقوا؛ ومنه « يومئذ يصدعون » [ الروم: 43 ] أي يتفرقون. وصدعته فانصدع أي انشق. أصل الصدع الفرق والشق. قال أبو ذؤيب يصف الحمار وأتنه:

وكأنهن ربابة وكأنه يسر يفيض على القداح ويصدع

أي يفرق ويشق. فقوله: « اصدع بما تؤمر » قال الفراء: أراد فاصدع بالأمر، أي أظهر دينك، فـ « ما » مع الفعل على هذا بمنزلة المصدر. وقال ابن الأعرابي: معنى اصدع بما تؤمر، أي اقصد. وقيل: « فاصدع بما تؤمر » أي فرق جمعهم وكلمتهم بأن تدعوهم إلى التوحيد فإنهم يتفرقون بأن يجيب البعض؛ فيرجع الصدع على هذا إلى صدع جماعة الكفار.

 

قوله تعالى: « وأعرض عن المشركين » أي عن الاهتمام باستهزائهم وعن المبالاة بقولهم، فقد برأك الله عما يقولون. وقال ابن عباس: ( هو منسوخ بقوله « فاقتلوا المشركين » [ التوبة: 5 ] ) . وقال عبدالله بن عبيد: ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفيا حتى نزل قوله تعالى: « فاصدع بما تؤمر » فخرج هو وأصحابه. وقال مجاهد: أراد الجهر بالقرآن في الصلاة. « وأعرض عن المشركين » لا تبال بهم. قال ابن إسحاق: لما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله صلى الله عليه وسلم الاستهزاء أنزل الله تعالى « فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين. إنا كفيناك المستهزئين. الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون » . والمعنى: اصدع بما تؤمر ولا تخف غير الله؛ فإن الله كافيك من أذاك كما كفاك المستهزئين، وكانوا خمسة من رؤساء أهل مكة، وهم الوليد بن المغيرة وهو رأسهم، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب بن أسد أبو زمعة. والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن الطلاطلة، أهلكهم الله جميعا، قيل يوم بدر في يوم واحد؛ لاستهزائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم. وسبب هلاكهم فيما ذكر ابن إسحاق: أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يطوفون بالبيت، فقام وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر به الأسود بن المطلب فرمى في وجهه بورقة خضراء فعمي ووجعت عينه، فجعل يضرب برأسه الجدار. ومر به الأسود بن عبد يغوث فأشار إلى بطنه فاستسقى بطنه فمات منه حَبَنا. ( يقال: حبِن ( بالكسر ) حَبَنا وحُبِن للمفعول عظم بطنه بالماء الأصفر، فهو أحبن، والمرأة حبناء؛ قاله في الصحاح ) . ومر به الوليد بن المغيرة فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعب رجله، وكان أصابه قبل ذلك بسنين، وهو يجر سبله، وذلك أنه مر برجل من خزاعة يريش نبلا له فتعلق سهم من نبله بإزاره فخدش في رجله ذلك الخدش وليس بشيء، فانتقض به فقتله. ومر به العاص بن وائل فأشار إلى أخمص رجله، فمرج على حمار له يريد الطائف، فربض به على شبرمة فدخلت في أخمص رجله شوكة فقتلته. ومر به الحارث بن الطلاطلة، فأشار إلى رأسه فامتخط قيحا فقتله. وقد ذكر في سبب موتهم اختلاف قريب من هذا. وقيل: إنهم المراد بقوله تعالى: « فخر عليهم السقف من فوقهم » [ النحل: 26 ] شبه ما أصابهم في موتهم بالسقف الواقع عليهم؛ على ما يأتي.

 

الآية: 96 ( الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون )

 

هذه صفة المستهزئين. وقيل: هو ابتداء وخبره « فسوف يعلمون » .

 

الآية: 97 ( ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون )

 

قوله تعالى: « ولقد نعلم أنك يضيق صدرك » أي قلبك؛ لأن الصدر محل القلب. « بما يقولون » أي بما تسمعه من تكذيبك ورد قولك، وتنال. ويناله أصحابك من أعدائك.

 

الآية: 98 ( فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين )

 

قوله تعالى: « فسبح بحمد ربك » أي فافزع إلى الصلاة، فهي غاية التسبيح ونهاية التقديس.

 

قوله تعالى: « وكن من الساجدين » لا خفاء أن غاية القرب في الصلاة حال السجود، كما قال عليه السلام: ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأخلصوا الدعاء ) . ولذلك خص السجود بالذكر

قال ابن العربي: ظن بعض الناس أن المراد بالأمر هنا السجود نفسه، فرأى هذا الموضع محل سجود في القرآن، وقد شاهدت الإمام بمحراب زكريا من البيت المقدس طهره الله، يسجد في هذا الموضع وسجدت معه فيها، ولم يره جماهير العلماء.

قلت: قد ذكر أبو بكر النقاش أن ههنا سجدة عند أبي حذيفة ويمان بن رئاب، ورأى أنها واجبة

 

الآية: 99 ( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين )

 

فيه مسألة واحدة: وهو أن اليقين الموت. أمره بعبادته إذ قصر عباده في خدمته، وأن ذلك يجب عليه. فإن قيل: فما فائدة قوله: « حتى يأتيك اليقين » وكان قوله: « واعبد ربك » كافيا في الأمر بالعبادة. قيل له: الفائدة في هذا أنه لو قال: « واعبد ربك » مطلقا ثم عبده مرة واحدة كان مطيعا؛ وإذا قال « حتى يأتيك اليقين » كان معناه لا تفارق هذا حتى تموت. فإن قيل: كيف قال سبحانه: « واعبد ربك حتى يأتيك اليقين » ولم يقل أبدا؛ فالجواب أن اليقين أبلغ من قوله: أبدا؛ لاحتمال لفظ الأبد للحظة الواحدة ولجميع الأبد. وقد تقدم هذا المعنى. والمراد استمرار العبادة مدة حياته، كما قال العبد الصالح: وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا. ويتركب على هذا أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق أبدا، وقال: نويت يوما أو شهرا كانت عليه الرجعة. ولو قال: طلقتها حياتها لم يراجعها. والدليل على أن اليقين الموت حديث أم العلاء الأنصارية، وكانت من المبايعات، وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أما عثمان - أعني عثمان بن مظعون - فقد جاءه اليقين وإني لأرجو له الخير والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل به ) وذكر الحديث. انفرد بإخراجه البخاري رحمه الله وكان عمر بن عبدالعزيز يقول: ما رأيت يقينا أشبه بالشك من يقين الناس بالموت ثم لا يستعدون له؛ يعني كأنهم فيه شاكون. وقد قيل: إن اليقين هنا الحق الذي لا ريب فيه من نصرك على أعدائك؛ قال ابن شجرة؛ والأول أصح، وهو قول مجاهد وقتادة والحسن. والله اعلم. وقد روى جبير بن نفير عن أبي مسلم الخولاني أنه سمعه يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين لكن أوحي إلي أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) .

 

سورة النحل

**intro**مقدمة السورة

 

سورة النحل وهي مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وتسمى سورة النعم بسبب ما عدد الله فيها من نعمه على عباده. وقيل: هي مكية غير قوله تعالى: « وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به » [ النحل: 126 ] الآية؛ نزلت بالمدينة في شأن التمثيل بحمزة وقتلى أحد. وغير قوله تعالى: « واصبر وما صبرك إلا بالله » [ النحل: 127 ] . وغير قوله: « ثم إن ربك للذين هاجروا » [ النحل:110 ] الآية. وأما قوله: « والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا » [ النحل: 41 ] فمكي، في شأن هجرة الحبشة. وقال ابن عباس: هي مكية إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة بعد قتل حمزة، وهي قوله: « ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا » إلى قوله « بأحسن ما كانوا يعملون » [ النحل: 95 ] .

 

الآية: 1 ( أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون )

 

قوله تعالى: « أتى أمر الله فلا تستعجلوه » قيل: « أتى » بمعنى يأتي؛ فهو كقولك: إن أكرمتني أكرمتك. وقد تقدم أن أخبار الله تعالى في الماضي والمستقبل سواء؛ لأنه آت لا محالة، كقوله: « ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار » [ الأعراف: 44 ] . و « أمر الله » عقابه لمن أقام على الشرك وتكذيب رسوله. قال الحسن وابن جريج والضحاك: إنه ما جاء به القرآن من فرائضه وأحكامه. وفيه بعد؛ لأنه لم ينقل أن أحدا من الصحابة استعجل فرائض الله من قبل أن تفرض عليهم، وأما مستعجلو العذاب والعقاب فذلك منقول عن كثير من كفار قريش وغيرهم، حتى قال النضر بن الحارث: « اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك » الآية، فاستعجل العذاب.

قلت: قد يستدل الضحاك بقول عمر رضي الله عنه: وافقت ربي في ثلاث: في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أسارى بدر؛ خرجه مسلم والبخاري. وقال الزجاج: هو ما وعدهم به من المجازاة على كفرهم، وهو كقوله: « حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور » [ هود: 40 ] . وقيل: هو يوم القيامة أو ما يدل على قربها من أشراطها. قال ابن عباس: لما نزلت « اقتربت الساعة وانشق القمر » [ القمر: 1 ] قال الكفار: إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت، فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون، فأمسكوا وانتظروا فلم يروا شيئا، فقالوا: ما نرى شيئا فنزلت « اقترب للناس حسابهم » [ الأنبياء: 1 ] الآية. فأشفقوا وانتظروا قرب الساعة، فامتدت الأيام فقالوا: ما نرى شيئا فنزلت « أتى أمر الله » فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وخافوا؛ فنزلت « فلا تستعجلوه » فاطمأنوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( بعثت أنا والساعة كهاتين ) وأشار بأصبعيه: السبابة والتي تليها. يقول: ( إن كادت لتسبقني فسبقتها ) . وقال ابن عباس: كان بعث النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة، وأن جبريل لما أمر بأهل السماوات مبعوثا إلى محمد صلى الله عليه وسلم قالوا الله أكبر، قد قامت الساعة.

 

قوله تعالى: « سبحانه وتعالى عما يشركون » أي تنزيها له عما يصفونه به من أنه لا يقدر على قيام الساعة، وذلك أنهم يقولون: لا يقدر أحد على بعث الأموات، فوصفوه بالعجز الذي لا يوصف به إلا المخلوق، وذلك شرك. وقيل: « عما يشركون » أي عن إشراكهم. وقيل: « ما » بمعنى الذي أي ارتفع عن الذين أشركوا به.

 

الآية: 2 ( ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون )

 

قرأ المفضل عن عاصم « تَنَزَّل الملائكةُ » والأصل تتنزل، فالفعل مسند إلى الملائكة. وقرأ الكسائي عن أبي بكر عن عاصم باختلاف عنه والأعمش « تُنَزَّل الملائكةُ » غير مسمى الفاعل. وقرأ الجعفي عن أبي بكر عن عاصم « تُنَزِّل الملائكةَ » بالنون مسمى الفاعل، الباقون « يُنَزِّل » بالياء مسمى الفاعل، والضمير فيه لاسم الله عز وجل. وروي عن قتادة « تنزل الملائكة » بالنون والتخفيف. وقرأ الأعمش « تنزل » بفتح التاء وكسر الزاي، من النزول. « الملائكة » رفعا مثل « تنزل الملائكة » [ القدر: 4 ] « بالروح » أي بالوحي وهو النبوة؛ قاله ابن عباس. نظيره « يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده » [ غافر: 15 ] . الربيع بن أنس: بكلام الله وهو القرآن. وقيل: هو بيان الحق الذي يجب اتباعه. وقيل أرواح الخلق؛ قاله قتادة، لا ينزل ملك إلا ومعه روح. وكذا روي عن ابن عباس أن الروح خلق من خلق الله عز وجل كصور ابن آدم، لا ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد منهم. وقيل بالرحمة؛ قاله الحسن وقتادة. وقيل بالهداية؛ لأنها تحيا بها القلوب كما تحيا بالأرواح الأبدان، وهو معنى قول الزجاج. قال الزجاج: الروح ما كان فيه من أمر الله حياة بالإرشاد إلى أمره. وقال أبو عبيدة: الروح هنا جبريل. والباء في قوله: « بالروح » بمعنى مع، كقولك: خرج بثيابه، أي مع ثيابه. « من أمره » أي بأمره. « على من يشاء من عباده » أي على الذين اختارهم الله للنبوة. وهذا رد لقولهم: « لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم » [ الزخرف: 31 ] . « أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون » تحذير من عبادة الأوثان، ولذلك جاء الإنذار؛ لأن أصله التحذير مما يخاف منه. ودل على ذلك قوله: « فاتقون » . و « أن » في موضع نصب بنزع الخافض، أي بأن أنذروا أهل الكفر بأنه لا إله إلا الله، « فأن » في محل نصب بسقوط الخافض أو بوقوع الإنذار عليه.

 

الآية: 3 ( خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون )

 

قوله تعالى: « خلق السماوات والأرض بالحق » أي للزوال والفناء. وقيل: « بالحق » أي للدلالة على قدرته، وأن له أن يتعبد العباد بالطاعة وأن يحيى بعد الموت. « تعالى عما يشركون » أي من هذه الأصنام التي لا تقدر على خلق شيء.

 

الآية: 4 ( خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين )

 

قوله تعالى: « خلق الإنسان من نطفة » لما ذكر الدليل على توحيده ذكر بعده الإنسان ومناكدته وتعدي طوره. و « الإنسان » اسم للجنس. وروي أن المراد به أبي بن خلف الجمحي، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم رميم فقال: أترى يحيي الله هذا بعد ما قد رم. وفي هذا أيضا نزل « أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين » [ يس: 77 ] أي خلق الإنسان من ماء يخرج من بين الصلب والترائب، فنقله أطوارا إلى أن ولد ونشأ بحيث يخاصم في الأمور. فمعنى الكلام التعجب من الإنسان « وضرب لنا مثلا ونسي خلقه » [ يس: 78 ] وقوله: « فإذا هو خصيم » أي مخاصم، كالنسيب بمعنى المناسب. أي يخاصم الله عز وجل في قدرته. و « مبين » أي ظاهر الخصومة. وقيل: يبين عن نفسه الخصومة بالباطل. والمبين: هو المفصح عما في ضميره بمنطقه.

 

الآية: 5 ( والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون )

 

قوله تعالى: « والأنعام خلقها لكم » لما ذكر الإنسان ذكر ما من به عليه. والأنعام: الإبل والبقر والغنم. وأكثر ما يقال: نعم وأنعام للإبل، ويقال للمجموع ولا يقال للغنم مفردة. قال حسان:

عفت ذات الأصابع فالجواء إلى عذراء منزلها خلاء

ديار من بني الحسحاس قفر تعفيها الروامس والسماء

وكانت لا يزال بها أنيس خلال مروجها نعم وشاء

فالنعم هنا الإبل خاصة. وقال الجوهري: والنعم واحد الأنعام وهي المال الراعية، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل. قال الفراء: هو ذكر لا يؤنث، يقولون: هذا نعم وارد، ويجمع على نعمان مثل حمل وحملان. والأنعام تذكر وتؤنث؛ قال الله تعالى: « مما في بطونه » [ النحل:66 ] . وفي موضع « مما في بطونها » [ المؤمنون: 21 ] . وانتصب الأنعام عطفا على الإنسان، أو بفعل مقتدر، وهو أوجه.

 

قوله تعالى: « دفء » الدفء: السخانة، وهو ما استدفئ به من أصوافها وأوبارها وأشعارها، ملابس ولحف وقطف. وروي عن ابن عباس: دفؤها نسلها؛ والله أعلم قال الجوهري في الصحاح: الدفء نتاج الإبل وألبانها وما ينتفع به منها؛ قال الله تعالى: « لكم فيها دفء » . وفي الحديث ( لنا من دفئهم ما سلموا بالميثاق ) . والدفء أيضا السخونة، تقول منه: دفئ الرجل دفاءة مثل كره كراهة. وكذلك دفئ دفأ مثل ظمئ ظمأ. والاسم الدفء بالكسر وهو الشيء الذي يدفئك، والجمع الأدفاء. تقول: ما عليه دفء؛ لأنه اسم. ولا تقول: ما عليك دفاءة؛ لأنه مصدر. وتقول: اقعد في دفء هذا الحائط أي ركنه. ورجل دفئ على فعل إذا لبس ما يدفئه. وكذلك رجل دفآن وامرأة دفأى. وقد أدفأه الثوب وتدفأ هو بالثوب واستدفأ به، وأدفأ به وهو افتعل؛ أي ما لبس ما يدفئه. ودفؤت ليلتنا، ويوم دفيء على فعيل وليلة دفيئة، وكذلك الثوب والبيت. والمدفئة الإبل الكثيرة؛ لأن بعضها يدفئ بعضا بأنفاسها، وقد يشدد. والمدفأة الإبل الكثيرة الأوبار والشحوم؛ عن الأصمعي. وأنشد الشماخ:

وكيف يضيع صاحب مدفآت على أثباجهن من الصقيع

 

قوله تعالى: « ومنافع » قال ابن عباس: المنافع نسل كل دابة. مجاهد: الركوب والحمل والألبان واللحوم والسمن. « ومنها تأكلون » أفرد منفعة الأكل بالذكر لأنها معظم المنافع. وقيل: المعنى ومن لحومها تأكلون عند الذبح.

 

دلت هذه الآية على لباس الصوف، وقد لبسه رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله كموسى وغيره. وفي حديث المغيرة: فغسل وجهه وعليه جبة من صوف شامية ضيقة الكمين... الحديث، خرجه مسلم وغيره. قال ابن العربي: وهو شعار المتقين ولباس الصالحين وشارة الصحابة والتابعين، واختيار الزهاد والعارفين، وهو يلبس لينا وخشنا وجيدا ومقاربا ورديئا، وإليه نسب جماعة من الناس الصوفية؛ لأنه لباسهم في الغالب، فالياء للنسب والهاء للتأنيث. وقد انشدني بعض أشياخهم بالبيت المقدس طهره الله:

تشاجر الناس في الصوفي واختلفوا فيه وظنوه مشتقا من الصوف

ولست أنحل هذا الاسم غير فتى صافى فصوفي حتى سمي الصوفي

 

الآية: 6 ( ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون )

 

الجمال ما يتجمل به ويتزين. والجمال: الحسن. وقد جمُل الرجل - بالضم - جمالا فهو جميل، والمرأة جميلة، وجملاء أيضا؛ عن الكسائي. وأنشد:

فهي جملاء كبدر طالع بذَّت الخلق جميعا بالجمال

وقول أبي ذؤيب:

جمالك أيها القلب القريح

يريد: الزم تجملك وحياءك ولا تجزع جزعا قبيحا. قال علماؤنا: فالجمال يكون في الصورة وتركيب الخلقة، ويكون في الأخلاق الباطنة، ويكون في الأفعال. فأما جمال الخلقة فهو أمر يدركه البصر ويلقيه إلى القلب متلائما، فتتعلق به النفس من غير معرفة بوجه ذلك ولا نسبته لأحد من البشر. وأما جمال الأخلاق فكونها على الصفات المحمودة من العلم والحكمة والعدل والعفة، وكظم الغيظ وإرادة الخير لكل أحد. وأما جمال الأفعال فهو وجودها ملائمة لمصالح الخلق وقاضية لجلب المنافع فيهم وصرف الشر عنهم. وجمال الأنعام والدواب من جمال الخلقة، وهو مرئي بالأبصار موافق للبصائر. ومن جمالها كثرتها وقول الناس إذا رأوها هذه نعم فلان؛ قاله السدي. ولأنها إذا راحت توفر حسنها وعظم شأنها وتعلقت القلوب بها؛ لأنها إذ ذاك أعظم ما تكون أسمنة وضروعا؛ قاله قتادة. ولهذا المعنى قدم الرواح على السراح لتكامل درها وسرور النفس بها إذ ذاك. والله أعلم. وروى أشهب عن مالك قال: يقول الله عز وجل « ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون » وذلك في المواشي حين تروح إلى المرعى وتسرح عليه. والرواح رجوعها بالعشي من المرعى، والسراح بالغداة؛ تقول: سرحت الإبل أسرحها سرحا وسروحا إذا غدوت بها إلى المرعى فخليتها، وسرحت هي. المتعدي واللازم واحد.