الآيات: 36 - 42 ( فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون، وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين، واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون، فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين، وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون، وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين )

 

قوله تعالى: « فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات » أي ظاهرات واضحات « قالوا ما هذا إلا سحر مفترى » مكذوب مختلق « وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين » أي في الأمم الماضية؛ قال ابن عباس. والباء في « بهذا » زائدة؛ أي ما سمعنا هذا كائنا في أبائنا الأولين، وقيل: إن هذه الآيات وما احتج به موسى في إثبات التوحيد من الحجج العقلية وقيل: هي معجزاته.

 

قوله تعالى: « وقال موسى » قراءة العامة بالواو وقرأ مجاهد وابن كثير وابن محيصن: « قال » بلا واو؛ وكذلك هو في مصحف أهل مكة « ربي أعلم بمن جاء بالهدى » أي بالرشاد. « من عنده » « ومن تكون له » قرأ الكوفيون إلا عاصما: « يكون » بالياء والباقون بالتاء وقد تقدم هذا « عاقبة الدار » أي دار الجزاء « إنه » الهاء ضمير الأمر والشأن « لا يفلح الظالمون »

 

قوله تعالى: « وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري » قال ابن عباس: كان بينها وبين قوله: « أنا ربكم الأعلى » [ النازعات: 24 ] أربعون سنة، وكذب عدو الله بل علم أن له ثم ربا هو خالقه وخالق قومه « ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله » [ الزخرف: 87 ] . « فأوقد لي ياهامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى » أي أطبخ لي الآجر؛ عن ابن عباس رضي الله عنه وقال قتادة: هو أول من صنع الآجر وبنى به ولما أمر فرعون وزيره هامان ببناء الصرح جمع هامان العمال - قيل خمسين ألف بناء سوى الأتباع والأجراء - وأمر بطبخ الآجر والجص، ونشر الخشب وضرب المسامير، فبنوا ورفعوا البناء وشيدوه بحيث لم يبلغه بنيان منذ خلق الله السموات والأرض، فكان الباني لا يقدر أن يقوم على رأسه، حتى أراد الله أن يفتنهم فيه فحكى السدي: أن فرعون صعد السطح ورمى بنشابة نحو السماء، فرجعت متلطخة بدماء، فقال قد قتلت إله موسى فروي أن جبريل عليه السلام بعثه الله تعالى عند مقالته، فضرب الصرح بجناحه فقطعه ثلاث قطع؛ قطعة على عسكر فرعون قتلت منهم ألف ألف، وقطعة في البحر، وقطعة في الغرب، وهلك كل من عمل فيه شيئا والله أعلم بصحة ذلك. « وإني لأظنه من الكاذبين » الظن هنا شك، فكفر على الشك؛ لأنه قد رأى من البراهين ما لا يخيل على ذي فطرة.

 

قوله تعالى: « واستكبر » أي تعظم « هو وجنوده » أي تعظموا عن الإيمان بموسى « بغير الحق » أي بالعدوان، أي لم تكن له حجة تدفع ما جاء به موسى « وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون » أي توهموا أنه لا معاد ولا بعث. وقرأ نافع وابن محيصن وشيبة وحميد ويعقوب وحمزة والكسائي: « لا يرجعون » بفتح الياء وكسر الجيم على أنه مسمى الفاعل الباقون: « يرجعون » على الفعل المجهول وهو اختيار أبي عبيد، والأول اختيار أبي حاتم. « فأخذناه وجنوده » وكانوا ألفي ألف وستمائة ألف « فنبذناهم في اليم » أي طرحناهم في البحر المالح. قال قتادة: بحر من وراء مصر يقال له إساف أغرقهم الله فيه وقال وهب والسدي: المكان الذي أغرقهم الله فيه بناحية القلزم يقال له بطن مريرة، وهو إلى اليوم غضبان وقال مقاتل، يعني نهر النيل وهذا ضعف والمشهور الأول. « فانظر » يا محمد « كيف كان عاقبة الظالمين » أي آخر أمرهم.

 

قوله تعالى: « وجعلناهم أئمة » أي جعلناهم زعماء يتبعون على الكفر، فيكون عليهم وزرهم ووزر من اتبعهم حتى يكون عقابهم أكثر وقيل: جعل الله الملأ من قومه رؤساء السفلة منهم، فهم يدعون إلى جهنم وقيل: أئمة يأتم بهم ذوو العبر ويتعظ بهم أهل البصائر « يدعون إلى النار » أي إلى عمل أهل النار « ويوم القيامة لا ينصرون » . « وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة » أي أمرنا العباد بلعنهم فمن ذكرهم لعنهم وقيل: أي ألزمناهم اللعن أي البعد عن الخير « ويوم القيامة هم من المقبوحين » أي من المهلكين الممقوتين قاله ابن كيسان وأبو عبيدة وقال ابن عباس: المشوهين الخلقة بسواد الوجوه وزرقة العيون وقيل: من المبعدين يقال: قبحه الله أي نحاه من كل خير، وقبَحَه وقبّحه إذا جعله قبيحا وقال أبو عمرو: قبحت وجهه بالتخفيف معناه قبحت قال الشاعر:

ألا قبح الله البراجم كلها وقبح يربوعا وقبح دارما

وانتصب يوما على الحمل على موضع « في هذه الدنيا » واستغنى عن حرف العطف في قوله: « من المقبوحين » كما استغنى عنه في قوله: « سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم » [ الكهف: 22 ] ويجوز أن يكون العامل في « يوم » مضمرا يدل عليه قوله: « هم من المقبوحين » فيكون كقوله: « يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين » [ الفرقان: 22 ] ويجوز أن يكون العامل في « يوم » قوله « هم من المقبوحين » وإن كان الظرف متقدما ويجوز أن يكون مفعولا على السعة، كأنه قال: وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ولعنة يوم القيامة.

 

الآية: 43 ( ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون )

 

قوله تعالى: « ولقد آتينا موسى الكتاب » يعني التوراة؛ قاله قتادة قال يحيى بن سلام: هو أول كتاب - يعني التوراة - نزلت فيه الفرائض والحدود والأحكام وقيل: الكتاب هنا ست من المثاني السبع التي أنزلها الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ قال ابن عباس، ورواه مرفوعا. « من بعد ما أهلكنا القرون الأولى » قال أبو سعيد الخدري قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما أهلك الله قوما ولا قرنا ولا أمة ولا أهل قرية بعذاب من السماء ولا من الأرض منذ أنزل الله التوراة على موسى غير القرية التي مسخت قردة ألم تر إلى قوله تعالى: « ولقد أتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى » أي من بعد قوم نوح وعاد وثمود وقيل: أي من بعد ما أغرقنا فرعون وقومه وخسفنا بقارون. « بصائر للناس » أي آتيناه الكتاب بصائر أي ليتبصروا « وهدى » أي من الضلالة لمن عمل بها « ورحمة » لمن آمن بها. « لعلهم يتذكرون » أي ليذكروا هذه النعمة فيقموا على إيمانهم في الدنيا، ويثقوا بثوابهم في الآخرة.

الآية [ 44 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات: 49 - 51 ( قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين، فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين، ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون )

 

قوله تعالى: « قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه » أي قل يا محمد إذا كفرتم معاشر المشركين بهذين الكتابين « فاتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه » ليكون ذلك عذرا لكم في الكفر « إن كنتم صادقين » في أنهما سحران أو فأتوا بكتاب هو أهدى من كتابي موسى ومحمد عليهما السلام وهذا يغوي قراءة الكوفيين « سحران » . « أتبعه » قال الفراء: بالرفع؛ لأنه صفة للكتاب وكتاب نكرة قال: وبذا جزمت - هو الوجه - فعلى الشرط.

 

قوله تعالى: « فإن لم يستجيبوا لك » يا محمد بأن يأتوا بكتاب من عند الله « فاعلم أنما يتبعون أهواءهم » أي آراء قلوبهم وما يستحسنونه ويحببه لهم الشيطان، وإنه لا حجة لهم « ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله » أي لا أحد أضل منه « إن الله لا يهدي القوم الظالمين » .

 

قوله تعالى: « ولقد وصلنا لهم القول » أي أتبعنا بعضه بعضا، وبعثنا رسولا بعد رسول وقرأ الحسن « وصلنا » مخففا وقال أبو عبيدة والأخفش: معنى « وصلنا » أتممنا كصلتك الشيء وقال ابن عيينه والسدي: بيّنا وقاله ابن عباس وقال مجاهد: فصلنا وكذلك كان يقرؤها. وقال ابن زيد: وصلنا لهم خبر الدنيا بخبر الآخرة حتى كأنهم في الآخرة في الدنيا وقال أهل المعاني: وَاَلينا وتابعنا وأنزلنا القرآن تبع بعضه بعضا: وعدا ووعيدا وقصصا وعبرا ونصائح ومواعظ إرادة أن يتذكروا فيفلحوا وأصلها من وصل الحبال بعضها ببعض قال الشاعر:

فقل لبني مروان ما بال ذمة وحبل ضعيف ما يزال يوصل

وقال امرؤ القيس:

درير كخذروف الوليد أمره تقلب كفيه بخيط موصل

والضمير في « لهم » لقريش؛ عن مجاهد وقيل: هو لليهود وقيل: هو لهم جميعا. والآية رد على من قال هلا أوتي محمد القرآن جملة واحدة « لعلهم يتذكرون » قال ابن عباس: يتذكرون محمدا فيؤمنوا به. وقيل: يتذكرون فيخافوا أن ينزل بهم ما نزل بمن قبلهم؛ قاله علي بن عيسى وقيل: لعلهم يتعظون بالقرآن عن عبادة الأصنام. حكاه النقاش.

 

الآيات: 52 - 53 ( الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون، وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين )

 

قوله تعالى: « الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون » أخبر أن قوما ممن أوتوا الكتاب من بني إسرائيل من قبل القرآن يؤمنون بالقرآن، كعبدالله بن سلام وسلمان ويدخل فيه من أسلم من علماء النصارى، وهم أربعون رجلا، قدموا مع جعفر بن أبي طالب المدينة، اثنان وثلاثون رجلا من الحبشة، وثمانية نفرا أقبلوا من الشام وكانوا أئمة النصاري: منهم بحيرا الراهب وأبرهه والأشرف وعامر وأيمن وإدريس ونافع كذا سماهم الماوردي، وأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية والتي بعدها « أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا » قاله قتادة وعنه أيضا نزلت في عبدالله بن سلام وتميم الداري والجارود العبدي وسلمان الفارسي، أسلموا فنزلت فيهم هذه الآية وعن رفاعة القرظي: نزلت في عشرة أنا أحدهم وقال عروة بن الزبير: نزلت في النجاشي وأصحابه ووجه باثني عشر رجلا فجلسوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أبو جهل وأصحابه قريبا منهم، فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فلما قاموا من عنده تبعهم أبو جهل ومن معه، فقال لهم: خيبكم الله من ركب، وقبحكم من وفد، ولم تلبثوا أن صدقتموه، وما رأينا ركبا أحمق منكم ولا أجهل، فقالوا: « سلام عليكم » لم نأل أنفسنا رشدا « لنا أعمالنا ولكم أعمالكم » [ البقرة: 139 ] وقد تقدم هذا في « المائدة » عند قوله « وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول » [ المائدة: 83 ] مستوفى وقال أبو العالية: هؤلاء قوم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث وقد أدركه بعضهم. « من قبله » أي من قبل القرآن وقيل: من قبل محمد عليه السلام « هم به » أي بالقرآن أو بمحمد عليه السلام « يؤمنون » « وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا » أي إذا قرئ عليهم القرآن قالوا بما فيه « إنا كنا من قبله مسلمين » أي من قبل نزوله، أو من قبل بعثه محمد عليه السلام « مسلمين » أي موحدين، أو مؤمنين بأنه سيبعث محمد وينزل عليه القرآن.

 

الآيات: 54 - 55 ( أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون، وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين )

 

قوله تعالى: « أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا » ثبت في صحيح مسلم عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم ـ فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران وعبد مملوك أدي حق الله عز وجل وحق سيده فله أجران ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها ثم أدبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران ) قال الشعبي للخراساني: خذا هذا الحديث بغير شيء فقد كان الرجل يرحل فيما دون هذا إلى المدينة وخرجه البخاري أيضا قال علماؤنا: لما كان كل واحد من هؤلاء مخاطبا بأمرين من جهتين استحق كل واحد منهم أجرين؛ فالكتابي كان مخاطبا من جهة نبيه، ثم إنه خوطب من جهة نبينا فأجابه واتبعه فله أجر الملتين، وكذلك العبد هو مأمور من جهة الله تعالى ومن جهة سيده، ورب الأمة لما قام بما خوطب به من تربيته أمته وأدبها فقد أحياها إحياء التربية، ثم إنه لما أعتقها وتزوجها أحياها إحياء الحرية التي ألحقها فيه بمنصبه، فقد قام بما أمر فيها، فأجر كل واحد منهم أجرين ثم إن كل واحد من الأجرين مضاعف في نفسه، الحسنة بعشر أمثالها فتتضاعف الأجور ولذلك قيل: إن العبد الذي يقوم بحق سيده وحق الله تعالى أفضل من الحر، وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبدالبر وغيره وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( للعبد المملوك المصلح أجران ) والذي نفس أبي هريرة بيده لولا الجهاد في سبيل الله وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك قال سعيد بن المسيب: وبلغنا أن أبا هريرة لم يكن يحج حتى ماتت أمه لصحبتها. وفي الصحيح أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( نعما للمملوك أن يتوفى يحسن عبادة الله وصحابة سيده نعما له ) . « بما صبروا » عام في صبرهم على ملتهم، ثم على هذه وعلى الأذى الذي يلقونه من الكفار وغير ذلك. « ويدرؤون بالحسنة السيئة » أي يدفعون درأت إذا دفعت، والدرء الدفع وفي الحديث: ( ادرؤوا الحدود بالشبهات ) قيل: يدفعون بالاحتمال والكلام الحسن الأذى وقيل: يدفعون بالتوبة والاستغفار الذنوب؛ وعلى الأول فهو وصف لمكارم الأخلاق؛ أي من قال لهم سوءا لاينوه وقابلوه من القول الحسن بما يدفعه فهذه آية مهادنة، وهي من صدر الإسلام، وهي مما نسختها آية السيف وبقي حكمها فيما دون الكفر يتعاطاه أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة ومنه قوله عليه السلام لمعاذ: ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن ) ومن الخلق الحسن دفع المكروه والأذى، والصبر على الجفا بالإعراض عنه ولين الحديث

 

قوله تعالى: « ومما رزقناهم ينفقون » أثني عليهم بأنهم ينفقون من أموالهم في الطاعات وفي رسم الشرع، وفي ذلك حض على الصدقات وقد يكون الإنفاق من الأبدان بالصوم والصلاة؛ ثم مدحهم أيضا على إعراضهم عن اللغو كما قال تعالى: « وإذا مروا باللغو مروا كراما » [ الفرقان: 72 ] أي إذا سمعوا ما قال لهم المشركون من الأذى والشتم أعرضوا عنه؛ أي لم يشتغلوا به « وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم » أي متاركة؛ مثل قوله: « وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما » [ الفرقان: 63 ] أي لنا ديننا ولكم دينكم « سلام عليكم » أي أمنا لكم منا فإنا لا نحاربكم، ولا نسابكم، وليس من التحية في شيء مال الزجاج: وهذا قبل الأمر بالقتال « لا نبتغي الجاهلين » أي لا نطلبهم للجدال والمراجعة والمشاتمة

 

الآية: 56 ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين )

 

قوله تعالى: « إنك لا تهدي من أحببت » قال الزجاج: أجمع المسلمون على أنها نزلت في أبي طالب.

قلت: والصواب أن يقال أجمع جل المفسرين على أنها نزلت في شأن أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو نص حديث البخاري ومسلم، وقد تقدم الكلام في ذلك في « التوبة » . قال أبو روق قوله: « ولكن الله يهدي من يشاء » إشارة إلى العباس. وقاله قتادة. « وهو أعلم بالمهتدين » قال مجاهد: لمن قدر له أن يهتدي. وقيل: معنى « من أحببت » أي من أحببت أن يهتدي وقال جبير بن مطعم: لم يسمع أحد الوحى يلقى على النبي صلى الله عليه وسلم إلا أبا بكر الصديق فإنه سمع جبريل وهو يقول: يا محمد اقرأ: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء « »

 

الآيات: 57 - 58 ( وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون، وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين )

 

قوله تعالى: « وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا » هذا قول مشركي مكة قال ابن عباس: قائل ذلك من قريش الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف القرشي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لنعلم أن قولك حق، ولكن يمنعنا أن نتبع الهدى معك، ونؤمن بك، مخافة أن يتخطفنا العرب من أرضنا - يعني مكة - لاجتماعهم على خلافنا، ولا طاقة لنا بهم وكان هذا من تعللاتهم فأجاب الله تعالى عما اعتل به فقال: « أو لم نمكن لهم حرما آمنا » أي ذا أمن وذلك أن العرب كانت في الجاهلية يغير بعضهم على بعض، ويقتل بعضهم بعضا، وأهل مكة آمنون حيث كانوا بحرمة الحرم، فأخبر أنه قد أمنهم بحرمة البيت، ومنع عنهم عدوهم، فلا يخافون أن تستحل العرب حرمة في قتالهم. والتخطف الانتزاع بسرعة؛ وقد تقدم. قال يحيى بن سلام يقول: كنتم آمنين في حرمي، تأكلون رزقي، وتعبدون غيري، أفتخافون إذا عبدتموني وآمنتم بي. « يجبى إليه ثمرات كل شيء » أي يجمع إليه ثمرات كل أرض وبلد؛ عن ابن عباس وغيره يقال: جبى الماء في الحوض أي جمعه. والجابية الحوض العظيم وقرأ نافع: « تجبى » بالتاء؛ لأجل الثمرات والياقوت بالياء، لقوله: « كل شيء » واختاره أبو عبيد قال: لأنه حال بين الاسم المؤنث وبين فعله حائل وأيضا فإن الثمرات جمع، وليس بتأنيث حقيقي. « رزقا من لدنا » أي من عندنا « ولكن أكثرهم لا يعلمون » أي لا يعقلون؛ أي هم غافلون عن الاستدلال وأن من رزقهم وأمنهم فيما مضى حال كفرهم يرزقهم لو أسلموا، ويمنع الكفار عنهم في إسلامهم. و « رزقا » نصب على المفعول من أجله. ويجوز نصبه على المصدر بالمعنى؛ لأن معنى « تجبى » ترزق. وقرئ « يجنى » بالنون من الجنا، وتعديته بإلى كقولك يجنى إلى فيه ويجنى إلى الخافة.

 

قوله تعالى: « وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها » بين لمن توهم أنه لو آمن لقاتلته العرب أن الخوف في ترك الإيمان أكثر، فكم من قوم كفروا ثم حل بهم البوار، والبطر والطغيان بالنعمة؛ قاله الزجاج « معيشتها » أي في معيشتها فلما حذف « في » تعدى الفعل؛ قاله المازني الزجاج كقوله: « واختار موسى قومه سبعين رجلا » [ الأعراف: 155 ] الفراء: هو منصوب على التفسير. قال كما تقول: أبطرت مالك وبطرته ونظيره عنده: « إلا من سفه نفسه » [ البقرة:130 ] وكذا عنده. « فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا » [ النساء: 4 ] ونصب المعارف على التفسير محال عند البصريين؛ لأنمعنى التفسير والتمييز أن يكون واحدا نكرة يدل على الجنس وقيل: أنتصب بـ « بطرت » ومعنى: « بطرت » جهلت؛ فالمعنى: جهلت شكر معيشتها. « فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا » أي لم تسكن بعد إهلاك أهلها إلا قليلا من المساكن وأكثرها خراب والاستثناء يرجع إلى المساكن أي بعضها يسكن؛ قاله الزجاج واعترض عليه؛ فقيل: لو كان الاستثناء يرجع إلى المساكن لقال إلا قليل؛ لأنك تقول: القوم لم تضرب إلا قليل، ترفع إذا كان المضروب قليلا، وإذا نصبت كان القليل صفة للضرب؛ أي لم تضرب إلا ضربا قليلا، فالمعنى إذا: فتلك مساكنهم لم يسكنها إلا المسافرون ومن مر بالطريق يوما أو بعض يوم أي لم تسكن من بعدهم إلا سكونا قليلا. وكذا قال ابن عباس: لم يسكنها إلا المسافر أو مار الطريق يوما أو ساعة « وكنا نحن الوارثين » أي لما خلفوا بعد هلاكهم.

الآية [ 59 ] في الصفحة التالية ...