الآيات: 30 - 31 ( يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا، ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما )

 

قال العلماء: لما اختار نساء النبي صلى الله عليه وسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم شكرهن الله على ذلك فقال تكرمة لهن: « لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج » [ الأحزاب: 52 ] الآية. وبين حكمهن عن غيرهن فقال: « وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا » [ الأحزاب: 53 ] وجعل ثواب طاعتهن وعقاب معصيتهن أكثر مما لغيرهن فقال: « يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين » فأخبر تعالى أن من جاء من نساء النبي صلى الله عليه وسلم بفاحشة - والله عاصم رسوله عليه السلام من ذلك كما مر في حديث الإفك - يضاعف لها العذاب ضعفين، لشرف منزلتهن وفضل درجتهن، وتقدمهن على سائر النساء أجمع. وكذلك بينت الشريعة في غير ما موضع حسبما تقدم بيانه غير مرة - أنه كلما تضاعفت الحرمات فهتكت تضاعفت العقوبات، ولذلك ضوعف حد الحر على العبد والثيب على البكر. وقيل: لما كان أزوج النبي صلى الله عليه وسلم في مهبط الوحي وفي منزل أوامر الله ونواهيه، قوي الأمر عليهن ولزمهن بسبب مكانتهن أكثر مما يلزم غيرهن، فضوعف لهن الأجر والعذاب. وقيل، إنما ذلك لعظم الضرر في جرائمهن بإيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت العقوبة على قدر عظم الجريمة في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: « إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة » [ الأحزاب: 57 ] . واختار هذا القول الكيا الطبري.

 

قال قوم: لو قدر الزنى من واحدة منهن - وقد أعاذهن الله من ذلك - لكانت تحد حدين لعظم قدرها، كما يزاد حد الحرة على الأمة. والعذاب بمعنى الحد، قال الله تعالى: « وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين » [ النور: 2 ] . وعلى هذا فمعنى الضعفين معنى المثلين أو المرتين، وقال أبو عبيدة: ضعف الشيء شيئان حتى يكون ثلاثة. وقاله أبو عمرو فيما حكى الطبري عنه، فيضاف إليه عذابان مثله فيكون ثلاثة أعذبة. وضعفه الطبري. وكذلك هو غير صحيح وإن كان، له باللفظ تعلق الاحتمال. وكون الأجر مرتين مما يفسد هذا القول، لأن العذاب في الفاحشة بإزاء الأجر في الطاعة، قال ابن عطية. وقال النحاس: فرق أبو عمرو بين « يضاعف ويضعف » قال: « يضاعف » للمرار الكثيرة. و « يضعف » مرتين. وقرأ « يضعف » لهذا. وقال أبو عبيدة: « يضاعف لها العذاب » يجعل ثلاثة أعذبة. قال النحاس: التفريق الذي جاء به أبو عمرو وأبو عبيدة لا يعرفه أحد من، أهل اللغة علمته، والمعنى في « يضاعف ويضعف » واحد، أي يجعل ضعفين، كما تقول: إن دفعت إلي درهما دفعت إليك ضعفيه، أي مثليه، يعني درهمين. ويدل على هذا « نؤتها أجرها مرتين » ولا يكون العذاب أكثر من الأجر. وقال في موضع آخر « آتهم ضعفين من العذاب » [ الأحزاب: 68 ] أي مثلن. وروى معمر عن قتادة « يضاعف لها العذاب ضعفين » قال: عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. قال القشيري أبو نصر: الظاهر أنه أراد بالضعفين المثلين، لأنه قال: « نؤتها أجرها مرتين، » . فأما في الوصايا، لو أوصي لإنسان بضعفي نصيب ولده فهو وصية بأن يعطي مثل نصيبه ثلاث مرات، فإن الوصايا تجري على العرف فيما بين الناس، وكلام الله يرد تفسيره إلى كلام العرب، والضعف في كلام العرب المثل إلى ما زاد، وليس بمقصور على مثلين. يقال: هذا ضعف هذا، أي مثله. وهذا ضعفاه، أي مثلاه، فالضعف في الأصل زيادة غير محصورة، قال، الله تعالى: « فأولئك لهم جزاء الضعف » [ سبأ: 37 ] ولم يرد مثلا ولا مثلين. كل هذا قول الأزهري. وقد تقدم في « النور » الاختلاف في حد من قذف واحدة منهن، والحمد لله.

 

قال أبو رافع: كان عمر رضي الله عنه كثيرا ما يقرأ سورة يوسف وسورة الأحزاب في الصبح، وكان إذا بلغ « يا نساء النبي » رفع بها صوته، فقيل له في ذلك فقال: ( أذكرهن العهد ) . قرأ الجمهور: « من يأت » بالياء. وكذلك « من يقنت » حملا على لفظ « من » . والقنوت الطاعة، وقد تقدم. وقرأ يعقوب: « من تأت » و « تقنت » بالتاء من فوق، حملا على المعنى. وقال قوم: الفاحشة إذا وردت معرفة فهي الزنى واللواط. وإذا وردت منكرة فهي سائر المعاصي. وإذا وردت منعوتة فهي عقوق الزوج وفساد عشرته. وقالت فرقة: بل قوله « فاحشة مبينة » تعم جميع المعاصي. وكذلك الفاحشة كيف وودت. وقرأ ابن كثير « مبينة » بفتح الياء. وقرأ نافع وأبو عمرو بكسرها. وقرأت فرقة: « يضاعف » بكسر العين على إسناد الفعل إلى الله تعالى وقرأ أبو عمرو فيما روى خارجة « يضاعف » بالنون المضمومة ونصب « العذاب » وهذه قراءة ابن محيصن. وهذه مفاعلة من واحد، كطارقت النعل وعاقبت اللص. وقرأ نافع وحمزة والكسائي « يضاعف » بالياء وفتح العين، « العذاب » رفعا. وهي قراءة الحسن وابن كثير وعيسى. وقرأ ابن كذ وابن عامر « نضعف » بالنون وكسر العين المشددة، « العذاب » نصبا. قال مقاتل هذا التضعيف في عذاب إنما هو في الآخرة، لأن إيتاء الأجر مرتين أيضا في الآخرة. وهذا حسن، لأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم لا يأتين بفاحشة توجب حدا. وقد قال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط، وإنما خانت في الإيمان والطاعة. وقال بعض المفسرين: العذاب الذي توعدن به « ضعفين » هو عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فكذلك الأجر. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، اللهم إلا أن يكون أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لا ترفع عنهن حدوة الدنيا عذاب الآخرة، على ما هي حال الناس عليه، بحكم حديث عبادة بن الصامت. وهذا أمر لم يرو في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولا حفظ تقرره. وأهل التفسير على أن الرزق الكريم الجنة، ذكره النحاس.

 

الآية: 32 ( يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا )

 

قوله تعالى: « يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن » يعني في الفضل والشرف. وقال: « كأحد » ولم يقل كواحدة، لأن أحدا نفي من المذكر والمؤنث والواحد والجماعة. وقد يقال على ما ليس بآدمي، يقال: ليس فيها أحد، لا شاة ولا بعير. وإنما خص النساء بالذكر لأن فيمن تقدم آسية ومريم. وقد أشار إلى هذا قتادة، وقد تقدم في « آل عمران » الاختلاف في التفضيل بينهن، فتأمله هناك. ثم قال: « إن اتقيتن » أي خفتن الله. فبين أن الفضيلة إنما تتم لهن بشرط التقوى، لما منحهن الله من صحبة الرسول وعظيم المحل منه، ونزول القرآن في حقهن.

 

قوله تعالى: « فلا تخضعن بالقول » في موضع جزم بالنهي، إلا أنه مبني كما بني الماضي، هذا مذهب سيبويه، أي لا تلن القول. أمرهن الله أن يكون قولهن جزلا وكلامهن فصلا، ولا يكون على وجه يظهر في القلب علاقة بما يظهر عليه من اللين، كما كانت الحال عليه في نساء العرب من مكالمة الرجال بترخيم الصوت ولينه، مثل كلام المريبات والمومسات. فنهاهن عن مثل هذا. « فيطمع الذي في قلبه مرض » « فيطمع » بالنصب على جواب النهي. « الذي في قلبه مرض » أي شك ونفاق، عن قتادة والسدي. وقيل: تشوف الفجور، وهو الفسق والغزل، قال عكرمة. وهذا أصوب، وليس للنفاق مدخل في هذه الآية. وحكى أبو حاتم أن الأعرج قرأ « فيطمِع » بفتح الياء وكسر الميم. النحاس: أحسب هذا غلطا، وأن يكون قرأ « فيطمَعِ » بفتح الميم وكسر العين بعطفه على « تخضعن » فهذا وجه جيد حسن. ويجوز « فيطمع » بمعنى فيطمع الخضوع أو القول. « وقلن قولا معروفا » قال ابن عباس: أمرهن بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والمرأة تندب إذا خاطبت الأجانب وكذا المحرمات عليها بالمصاهرة إلى الغلظة في القول، من غير رفع صوت، فإن المرأة مأمورة بخفض الكلام. وعلى الجملة فالقول المعروف: هو الصواب الذي لا تنكره الشريعة ولا النفوس.

 

الآية: 33 ( وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا )

 

قوله تعالى: « وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى » « وقرن » قرأ الجمهور « وقرن » بكسر القاف. وقرأ عاصم ونافع بفتحها. فأما القراءة الأولى فتحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون من الوقار، تقول: وقر يقر وقارا أي سكن، والأمر قر، وللنساء قرن، مثل عدن وزن. والوجه الثاني: وهو قول المبرد، أن يكون من القرار، تقول: قررت بالمكان ( بفتح الراء ) أقر، والأصل أقررن، بكسر الراء، فحذفت الراء الأولى تخفيفا، كما قالوا في ظللت: ظللت، ومسست: مست، ونقلوا حركتها إلى القاف، واستغنى عن ألف الوصل لتحرك القاف. قال أبو علي: بل على إن أبدلت الراء ياء كراهة التضعيف، كما أبدلت في قيراط ودينار، ويصير للياء حركة الحرف المبدل منه، فالتقدير: إقيرن، ثم تلقى حركة الياء على القاف كراهة تحرك الياء بالكسر، فتسقط الياء لاجتماع الساكنين، وتسقط همزة الوصل لتحرك ما بعدها فيصير « قرن » . وأما قراءة أهل المدينة وعاصم، فعلى لغة العرب: قررت في المكان إذا أقمت فيه ( بكسر الراء ) أقر ( بفتح القاف ) ، من باب حمد يحمد، وهي لغة أهل الحجاز ذكرها أبو عبيد في « الغريب المصنف » عن الكسائي، وهو من أجل مشايخه، وذكرها الزجاج وغيره، والأصل « اقررن » حذفت الراء الأولى لثقل التضعيف، وألقيت حركتها على القاف فتقول: قرن. قال الفراء: هو كنا تقول: أحست صاحبك، أي هل أحسست. وقال أبو عثمان المازني: قررت به عينا ( بالكسر لا غير ) ، من قرة العين. ولا يجوز قررت في المكان ( بالكسر ) وإنما هو قررت ( بفتح الراء ) ، وما أنكره من هذا لا يقدح في القراءة إذا ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيستدل بما ثبت عنه من القراءة على صحة اللغة. وذهب أبو حاتم أيضا أن « قرن » لا مذهب له في كلام العرب. قال النحاس: وأما قول أبي حاتم: « لا مذهب له » فقد خولف فيه، وفيه مذهبان: أحدهما ما حكاه الكسائي، والآخر ما سمعت علي بن سليمان يقول، قال: وهو من قررت به عينا أقر، والمعنى: وأقررن به عينا في بيوتكن. وهو وجه حسن، إلا أن الحديث يدل على أنه من الأول. كما روي أن عمارا قال لعائشة رضي الله عنها: إن الله قد أمرك أن تقري في منزلك، فقالت: يا أبا اليقظان، ما زلت قوالا بالحق! فقال: الحمد لله الذي جعلني كذلك على لسانك. وقرأ ابن أبي عبلة « وأقررن » بألف وصل وراءين، الأولى مكسورة.

 

معنى هذه الآية الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى. هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء، كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة، على ما تقدم في غير موضع. فأمر الله تعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم بملازمة بيوتهن، وخاطبهن بذلك تشريفا لهن، ونهاهن عن التبرج، وأعلم أنه فعل الجاهلية الأولى فقال: « ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى » . وقد تقدم معنى التبرج في « النور » . وحقيقته إظهار ما ستره أحسن، وهو مأخوذ من السعة، يقال: في أسنانه برج إذا كانت متفرقة، قاله المبرد. واختلف الناس في « الجاهلية الأولى، فقيل: هي الزمن الذي ولد فيه إبراهيم عليه السلام، كانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ، فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال. وقال الحكم بن عيينة: ما بين آدم ونوح، وهي ثمانمائة سنة، وحكيت لهم سير ذميمة. وقال ابن عباس: ما بين نوح وإدريس. الكلبي: ما بين نوج وإبراهيم. قيل: إن المرأة كانت تلبس الدرع من اللؤلؤ غير مخيط الجانبين، وتلبس الثياب الرقاق ولا تواري بدنها. وقالت فرقة: ما بين موسى وعيسى. الشعبي: ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم أبو العالية: هي زمان داود وسليمان، كان فيه للمرأة قميصي من الدر غير مخيط الجانبين. وقال أبو العباس المبرد: والجاهلية الأولى كما تقول الجاهلية الجهلاء، قال: وكان النساء في الجاهلية الجهلاء يظهرن ما يقبح إظهاره، حتى كانت المرأة تجلس مع زوجها وخلها، فينفرد خلها بما فوق الإزار إلى الأعلى، وينفرد زوجها بما دون الإزار إلى الأسفل، وبما سأل أحدهما صاحبه البدل. وقال مجاهد: كان النساء يتمشين بين الرجال، فذلك التبرج. قال ابن عطية: والذي يظهر عندي أنه أشار للجاهلية التي لحقنها، فأمرن بالنقلة عن سيرتهن فيها، وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفرة، لأنهم كانوا لا غيرة كان أمر النساء دون حجاب، وجعلها أولى بالنسبة إلى ما كان عليه، وليس المعنى أن ثم جاهلية أخرى وقد أوقع اسم الجاهلية على تلك المدة التي قبل الإسلام، فقالوا: جاهلي في الشعراء وقال ابن عباس في البخاري: سمعت أبي في الجاهلية يقول، إلى غير هذا»

قلت: وهذا قول حسن. ويعترض بأن العرب كانت أهل قشف وضنك في الغالب، وأن التنعم وإظهار الزينة إنما جرى في الأزمان السابقة، وهي المراد بالجاهلية الأولى، وأن المقصود من الآية مخالفة من قبلهن من المشية على تغنيج وتكسير وإظهار المحاسن للرجال، إلى غير ذلك مما لا يجوز شرعا. وذلك يشمل الأقوال كلها ويعمها فيلزمن البيوت، فإن مست الحاجة إلى الخروج فليكن على تبذل وتستر تام. والله الموفق.

 

ذكر الثعلبي وغيره: أن عائشة رضي الله عنها كانت إذا قرأت هذه الآية تبكي حتى تبل خمارها. وذكر أن سودة قيل لها: لم لا تحجين ولا تعتمرين كما يفعل أخواتك؟ فقالت: قد حججت واعتمرت، وأمرني الله أن أقر في بيتي. قال الراوي: فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجت جنازتها. رضوان الله عليها قال ابن العربي: لقد دخلت نيفا على ألف قرية فما رأيت نساء أصون عيالا ولا أعف نساء من نساء نابلس، التي رمي بها الخليل صلى الله عليه وسلم النار، فإني أقمت فيها فما رأيت امرأة في طريق نهارا إلا يوم الجمعة فإنهن يخرجن إليها حتى يمتلئ المسجد منهن، فإذا قضيت الصلاة وانقلبن إلى منازلهن لم تقع عيني على واحدة منهن إلى الجمعة الأخرى. وقد رأيت بالمسجد الأقصى عفائف ما خرجن معتكفهن حتى استشهدن فيه.

 

قال ابن عطية: بكاء عائشة رضي الله عنها إنما كان بسبب سفرها أيام الجمل، وحينئذ قال لها عمار: إن الله قد أمرك أن تقري في بيتك. قال ابن العربي: تعلق الرافضة لعنهم الله - بهذه الآية على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إذ قالوا: إنها خالفت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجت تقود الجيوش، وتباشر الحروب، وتقتحم مأزق الطعن والضرب فيما لم يفرض، عليها ولا يجوز لها. قالوا: ولقد حصر عثمان، فلما رأت ذلك أمرت برواحلها فقربت لتخرج إلى مكة، فقال لها مروان: أقيمي هنا يا أم المؤمنين، وردي هؤلاء الرعاع، فإن الإصلاح بين الناس خير من حجك. قال ابن العربي قال علماؤنا رحمة الله عليهم: إن عائشة رضي الله عنها نذرت عنها، نذرت الحج قبل الفتنة، فلم تر التخلف عن نذرها، ولو خرجت في تلك الثائرة لكان ذلك صوابا لها. وأما خروجها إلى حرب الجمل فما خرجت لحرب، ولكن تعلق الناس بها، وشكوا إليها ما صاروا إليه من عظيم الفتنة وتهارج الناس، ورجوا بركتها، وطمعو

قوله تعالى: « وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله » أي فيما أمر ونهى « إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا » قال الزجاج: قيل يراد به نساء النبي صلى الله عليه وسلم وقيل: يراد به نساؤه وأهله الذين هم أهل بيته، على ما يأتي بيانه بعد و « أهل البيت » نصب على المدح قال: وإن شئت على البدل. قال: ويجوز الرفع والخفض. قال النحاس: إن خفض على أنه بدل من الكاف والميم لم يجز عند أبي العباس محمد بن يزيد، قال لا يبدل من المخاطبة ولا من المخاطب، لأنهما لا يحتاجان إلى تبيين. « ويطهركم تطهيرا » مصدر فيه معنى التوكيد.

 

الآية: 34 ( واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا )

 

وله تعالى: « واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة » هذه الألفاظ تعطي أن أهل البيت نساؤه. وقد اختلف أهل العلم في أهل البيت، من هم؟ فقال عطاء وعكرمة وابن عباس: هم زوجاته خاصة، لا رجل معهن. وذهبوا إلى أن البيت أريد به مسكن النبي صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى: « واذكرن ما يتلى في بيوتكن » . وقالت فرقة منهم الكلبي: هم علي وفاطمة والحسن والحسين خاصة، وفي هذا أحاديث. عن النبي عليه السلام، واحتجوا بقوله تعالى: « ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم » بالميم ولو كان للنساء خاصة لكان « عنكن ويطهركن » ، إلا أنه يحتمل أن يكون خرج على لفظ الأهل، كما يقول الرجل لصاحبه: كيف أهلك، أي امرأتك ونساؤك، فيقول: هم بخير، قال الله تعالى: « قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت » [ هود: 73 ] .

والذي يظهر من الآية أنها عامة في جميع أهل البيت من الأزواج وغيرهم. وإنما قال: « ويطهركم » لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليا وحسنا وحسينا كان فيهم، وإذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر، فاقتضت الآية أن الزوجات من أهل البيت، لأن الآية فيهن، والمخاطبة لهن يدل عليه سياق الكلام. والله أعلم. أما أن أم سلمة قالت: نزلت هذه الآية في بيتي، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسنا، فدخل معهم تحت كساء خيبري وقال: ( هؤلاء أهل بيتي ) - وقرأ الآية - وقال: ( اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ) فقالت أم سلمة: وأنا معهم يا رسول الله؟ قال: ( أنت على مكانك وأنت على خير ) أخرجه الترمذي وغيره وقال: هذا حديث غريب. وقال القشيري: وقالت أم سلمة أدخلت رأسي في الكساء وقلت: أنا منهم يا رسول الله؟ قال: ( نعم ) . وقال الثعالبي: هم بنو هاشم، فهذا يدل على أن البيت يراد به بيت النسب، فيكون العباس وأعمامه وبنو أعمامه منهم. وروي نحوه عن زيد بن أرقم رضي الله عنهم أجمعين. وعلى قول الكلبي يكون قوله: « واذكرن » ابتداء مخاطبة الله تعالى، أي مخاطبة أمر الله عز وجل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، على جهة الموعظة وتعديد النعمة بذكر ما يتلى في بيوتهن من آيات الله تعالى والحكمة قال أهل العلم بالتأويل: « آيات الله » القرآن. « والحكمة » السنة. والصحيح أن قوله: « واذكرن » منسوق على ما قبله. وقال « عنكم » لقوله « أهل » فالأهل مذكر، فسماهن وإن كن إناثا باسم التذكير فلذلك صار « عنكم » . ولا اعتبار بقول الكلبي وأشباهه، فإنه توجد له أشياء في هذا التفسير ما لو كان في زمن السلف الصالح لمنعوه من ذلك وحجروا عليه. فالآيات كلها من قوله: « يا أيها النبي قل لأزواجك - إلى قوله - إن الله كان لطيفا خبيرا » منسوق بعضها على بعض، فكيف صار في الوسط كلاما منفصلا لغيرهن وإنما هذا شيء جرى في الأخبار أن النبي عليه السلام لما نزلت عليه هذه الآية دعا عليا وفاطمة والحسن والحسين، فعمد النبي صلى الله عليه وسلم إلى كساء فلفها عليهم، ثم ألوى بيده إلى السماء فقال: ( اللهم هؤلاء أهل بيتي اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ) . فهذه دعوة من، النبي صلى الله عليه وسلم لهم بعد نزول الآية، أحب أن يدخلهم في الآية التي خوطب بها الأزواج، فذهب الكلبي ومن وافقه فصيرها لهم خاصة، وهي دعوة لهم خارجة من التنزيل.

 

لفظ الذكر يحتمل ثلاثة معان: أحدها: أي أذكرن موضع النعمة، إذ صيركن الله في بيوت تتلى فيها آيات الله والحكمة. الثاني: أذكرن آيات الله وأقدرن، قدرها، وفكرن فيها حتى تكون منكن على بال لتتعظن بمواعظ الله تعالى، ومن كان هذا حال ينبغي أن تحسن أفعال. الثالث: « أذكرن » بمعنى أحفظن وأقرأن والزمنه الألسنة، فكأنه يقول: أحفظن أوامر الله تعالى، ونواهيه، وذلك هو الذي يتلى في بيوتكن من آيات الله. فأمر الله سبحانه وتعالى أن يخبرن بما ينزل من القرآن في بيوتهن، وما يرين من أفعال النبي عليه الصلاة والسلام، ويسمعن من أقواله حتى يبلغن ذلك إلى الناس، فيعملوا ويقتدوا. وهذا يدل على جواز قبول خبر الواحد من الرجال والنساء في الدين.

 

قال ابن العربي: في هذه الآية مسألة بديعة، وهي أن الله تعالى أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بتبليغ ما أنزل عليه من القرآن، وتعليم ما علمه من الدين، فكان إذا قرأ على واحد أو ما اتفق سقط عنه الفرض، وكان على من سمعه أن يبلغه إلى غيره، ولا يلزمه أن يذكره لجميع أصحابة، ولا كان عليه إذا علم ذلك أزواجه أن يخرج إلى الناس فيقول لهم نزل كذا ولا كان كذا، ولهذا قلنا: يجوز العمل بخبر بسرة في إيجاب الوضوء من مس الذكر، لأنها روت ما سمعت وبلغت ما وعت. ولا يلزم أن يبلغ ذلك الرجال، كما قال أبو حنيفة، على أنه قد نقل عن سعد بن أبي وقاص وابن عمر.

 

الآية: 35 ( إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما )

 

روى الترمذي عن أم عمارة الأنصارية أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما أرى كل شيء إلا للرجال، وما أرى النساء يذكرن بشيء! فنزلت هذه الآية: « إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات » الآية. هذا حديث حسن غريب. و « المسلمين » اسم « إن » . « والمسلمات » عطف عليه. ويجوز رفعهن عند البصريين، فأما الفراء فلا يجوز عنده إلا فيما لا يتبين فيه الإعراب.

بدأ تعالى في هذه الآية بذكر الإسلام الذي يعم الإيمان وعمل الجوارح، ثم ذكر الإيمان تخصيصا له وتنبيها على أنه عظم الإسلام ودعامته. والقانت: العابد المطيع. والصادق: معناه فيما عوهد عليه أن يفي به. والصابر عن الشهوات وعلى، الطاعات في المكره والمنشط. والخاشع: الخائف لله. والمتصدق بالفرض والنفل. وقيل. بالفرض خاصة، والأول أماح. والصائم كذلك. « والحافظين فروجهم والحافظات » أي عما لا يحل من الزنى وغيره. وفي قوله: « والحافظات » حذف يدل عليه المتقدم، تقديره: والحافظاتها، فاكتفى بما تقدم. وفي « الذاكرات » أيضا مثله، ونظيره قول الشاعر:

وكمتا مدماة كأن متونها جرى فوقها واستشعرت لون مذهب

وروى سيبويه: « لون مذهب » بالنصب. وإنما يجوز الرفع على حذف الهاء، كأنه قال: واستشعرته، فيمن رفع لونا. والذاكر قيل في أدبار الصلوات وغدوا وعشيا، وفي المضاجع وعند الانتباه من النوم. وقد تقدم هذا كله مفصلا في مواضعه، وما يترتب عليه من الفوائد والأحكام، فأغنى عن الإعادة. والحمد لله رب العالمين. قال مجاهد: لا يكون ذاكرا لله تعالى كثيرا حتى يذكره قائما وجالسا ومضطجعا. وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: من أيقظ أهله بالليل وصليا أربع ركعات كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات.