الآيات: 53 - 59 ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم، وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون، واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون، أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين، أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين، أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين، بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين )

 

قوله تعالى: « قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله » وإن شئت حذفت الياء؛ لأن النداء موضع حذف. النحاس: ومن أجل ما روي فيه ما رواه محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال: لما اجتمعنا على الهجرة، أتعدت أنا وهشام بن العاصي بن وائل السهمي، وعياش بن أبي ربيعة بن عتبة، فقلنا: الموعد أضاة بني غفار، وقلنا: من تأخر منا فقد حبس فليمض صاحبه. فأصبحت أنا وعياش بن عتبة وحبس عنا هشام، وإذا به قد فتن فافتتن، فكنا نقول بالمدينة: هؤلاء قد عرفوا الله عز وجل وآمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم، ثم افتتنوا لبلاء لحقهم لا نرى لهم توبة، وكانوا هم أيضا يقولون هذا في أنفسهم، فأنزل الله عز وجل في كتابه: « قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله » إلى قوله تعالى: « أليس في جهنم مثوى للمتكبرين » قال عمر: فكتبتها بيدي ثم بعثتها إلى هشام. قال هشام: فلما قدمت علي خرجت بها إلى ذي طوى فقلت: اللهم فهمنيها فعرفت أنها نزلت فينا، فرجعت فجلست على بعيري فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان قوم من المشركين قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم أو بعثوا إليه: إن ما تدعو إليه لحسن أو تخبرنا أن لنا توبة؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية: « قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم » ذكره البخاري بمعناه. وقد مضى في آخر « الفرقان » .

وعن ابن عباس أيضا نزلت في أهل مكة قالوا: بزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له، وكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا مع الله إلها آخر وقتلنا النفس التي حرم الله فأنزل الله هذه الآية. وقيل: إنها نزلت في قوم من المسلمين أسرفوا على أنفسهم في العبادة، وخافوا ألا يتقبل منهم لذنوب سبقت لهم في الجاهلية. وقال ابن عباس أيضا وعطاء نزلت في وحشي قاتل حمزة؛ لأنه ظن أن الله لا يقبل إسلامه: وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: أتى وحشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: يا محمد أتيتك مستجيرا فأجرني حتى أسمع كلام الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قد كنت أحب أن أراك على غير جوار فأما إذ أتيتني مستجيرا فأنت في جواري حتى تسمع كلام الله ) قال: فإني أشركت بالله وقتلت النفس التي حرم الله وزنيت، هل يقبل الله منى توبة؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت: « والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون » [ الفرقان: 68 ] إلى آخر الآية فتلاها عليه؛ فقال أرى شرطا فلعلي لا أعمل صالحا، أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله. فنزلت: « إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء » [ النساء: 48 ] فدعا به فتلا عليه؛ قال: فلعلي ممن لا يشاء أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله. فنزلت: « يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله » فقال: نعم الآن لا أرى شرطا. فأسلم. وروى حماد بن سلمة عن ثابت عن شهر بن حوشب عن أسماء أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ: « قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي إنه هو الغفور الرحيم » . وفي مصحف ابن مسعود « إن الله يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء » . قال أبو جعفر النحاس: وهاتان القراءتان على التفسير، أي يغفر الله لمن يشاء. وقد عرف الله عز وجل من شاء أن يغفر له، وهو التائب أو من عمل صغيرة ولم تكن له كبيرة، ودل على أنه يريد التائب ما بعده « وأنيبوا إلى ربكم » فالتائب مغفور له ذنوبه جميعا يدل على ذلك « وإني لغفار لمن تاب » [ طه: 82 ] فهذا لا إشكال فيه. وقال علي بن أبي طالب: ما في القرآن آية أوسع من هذه الآية: « قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله » وقد مضى هذا في « سبحان » . وقال عبدالله بن عمر: وهذه أرجى آية في القرآن فرد عليهم ابن عباس وقال أرجى آية في القرآن قوله تعالى: « وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم » [ الرعد: 6 ] وقد مضى في « الرعد ] . وقرئ » ولا تقنطوا « بكسر النون وفتحها. وقد مضى في » الحجر « بيانه.»

 

قوله تعالى: « وأنيبوا إلى ربكم » أي ارجعوا إليه بالطاعة. لما بين أن من تاب من الشرك يغفر له أمر بالتوبة والرجوع إليه، والإنابة الرجوع إلى الله بالإخلاص. « وأسلموا له » أي اخضعوا له وأطيعوا « من قبل أن يأتيكم العذاب » في الدنيا « ثم لا تنصرون » أي لا تمنعون من عذابه. وروى من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من السعادة أن يطيل الله عمر المرء في الطاعة ويرزقه الإنابة، وإن من الشقاوة أن يعمل المرء ويعجب بعمله ) .

 

قوله تعالى: « واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون » « أحسن ما أنزل » هو القرآن وكله حسن، والمعنى ما قال الحسن: التزموا طاعته، واجتنبوا معصيته. وقال السدي: الأحسن ما أمر الله به في كتابه. وقال ابن زيد: يعني المحكمات، وكلوا علم المتشابه إلى علمه. وقال: أنزل الله كتب التوراة والإنجيل والزبور، ثم أنزل القرآن وأمر باتباعه فهو الأحسن وهو المعجز. وقيل: هذا أحسن لأنه ناسخ قاض على جميع الكتب وجميع الكتب منسوخة. وقيل: يعني العفو؛ لأن الله تعالى خير نبيه عليه السلام بين العفو والقصاص. وقيل: ما علم الله النبي عليه السلام وليس بقرآن فهو حسن؛ وما أوحى إليه من القرآن فهو الأحسن. وقيل: أحسن ما أنزل إليكم من أخبار الأمم الماضية. « أن تقول نفس » « أن » في موضع نصب أي كراهة « أن تقول » وعند الكوفيين لئلا تقول وعند البصريين حذر « أن تقول » . وقيل: أي من قبل « أن تقول نفس » لأنه قال قيل هذا: « من قبل أن يأتيكم العذاب » الزمخشري: فإن قلت لم نكرت؟ قلت: لأن المراد بها بعض الأنفس وهى نفس الكافر. ويجوز أن يريد نفسا متميزة من الأنفس، إما بلجاج في الكفر شديد، أو بعقاب عظيم. ويجوز أن يراد التكثير كما قال الأعشى:

ورب بقيع لو هتفت بجوه أتاني كريم ينفض الرأس معضبا

وهو يريد أفواجا من الكرام ينصرونه لا كريما واحدا، ونظيره: رب بلد قطعت، ورب بطل قارعت، ولا يقصد إلا التكثير. « ياحسرتا » والأصل « يا حسرتي » فأبدل من الياء ألف؛ لأنها أخف وأمكن في الاستغاثة بمد الصوت، وربما ألحقوا بها الهاء؛ أنشد الفراء:

يا مرحباه بحمار ناجيه إذا أتى قربته للسانيه

وربما ألحقوا بها الياء بعد الألف؛ لتدل على الإضافة. وكذلك قرأها أبو جعفر: « يا حسرتاي » والحسرة الندامة « على ما فرطت في جنب الله » قال الحسن: في طاعة الله. وقال الضحاك: أي في ذكر الله عز وجل. قال: يعني القرآن والعمل به. وقال أبو عبيدة: « في جنب الله » أي في ثواب الله. وقال الفراء: الجنب القرب والجوار؛ يقال فلان يعيش في جنب فلان أي في جواره؛ ومنه « والصاحب بالجنب » [ النساء: 36 ] أي ما فرطت في طلب جواره وقربه وهو الجنة. وقال الزجاج: أي على ما فرطت في الطريق الذي هو طريق الله الذي دعاني إليه. والعرب تسمي السبب والطريق إلى الشيء جنبا؛ تقول: تجرعت في جنبك غصصا؛ أي لأجلك وسببك ولأجل مرضاتك. وقيل: « في جنب الله » أي في الجانب الذي يؤدي إلى رضا الله عز وجل وثوابه، والعرب تسمي الجانب جنبا، قال الشاعر:

قسم مجهودا لذاك القلب الناس جنب والأمير جنب

يعني الناس من جانب والأمير من جانب. وقال ابن عرفة: أي تركت من أمر الله؛ يقال ما فعلت ذلك في جنب حاجتي؛ قال كثير:

ألا تتقين الله في جنب عاشق له كبد حرى عليك تقطع

وكذا قال مجاهد؛ أي ضيعت من أمر الله. ويروى عن النبي صلى أنه قال: ( ما جلس رجل مجلسا ولا مشى ممشى ولا اضطجع مضطجعا لم يذكر الله عز وجل فيه إلا كان عليه ترة يوم القيامة ) أي حسرة؛ خرجه أبو داود بمعناه. وقال إبراهيم التيمي: من الحسرات يوم القيامة أن يرى الرجل ماله الذي آتاه الله في الدنيا يوم القيامة في ميزان غيره، قد ورثه وعمل فيه بالحق، كان له أجره وعلى الآخر وزره، ومن الحسرات أن يرى الرجل عبده الذي خوله الله إياه في الدنيا أقرب منزلة من الله عز وجل، أو يرى رجلا يعرفه أعمى في الدنيا قد أبصر يوم القيامة وعمي هو. « وإن كنت لمن الساخرين » أي وما كنت إلا من المستهزئين بالقرآن وبالرسول في الدنيا وبأولياء الله تعالى: قال قتادة: لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها ومحل « إن كنت » النصب على الحال؛ كأنه قال: فرطت وأنا ساخر؛ أي فرطت في حال سخريتي. وقيل: وما كنت إلا في سخرية ولعب وباطل؛ أي ما كان سعيي إلا في عبادة غير الله تعالى.

 

قوله تعالى: « أو تقول » هذه النفس « لو أن الله هداني » أي أرشدني إلى دينه. وهذا القول لو أن الله هداني لاهتديت قول صدق. وهو قريب من احتجاج المشركين فيما أخبر الرب جل وعز عنهم في قوله: « سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا » [ الأنعام: 148 ] فهي كلمة حق أريد بها باطل؛ كما قال علي رضى الله عنه لما قال قائل من الخوارج لاحكم إلا لله. « لكنت من المتقين » أي الشرك والمعاصي. « أو تقول حين ترى العذاب » يعني أن هذه النفس تقول حين ترى العذاب « لو أن لي كرة » أي تتمنى الرجعة. « فأكون من المحسنين » نصب على جواب التمني، وإن شئت كان معطوفا على « كرة » لأن معناه أن أكر؛ كما قال الشاعر:

للبس عباءة وتقر عيني أحب إلي من لبس الشفوف

وأنشد الفراء:

فما لك منها غير ذكرى وخشية وتسأل عن ركبانها أين يمموا

فنصب وتسأل على موضع الذكرى؛ لأن معنى الكلام فما لك منها إلا أن تذكر. ومنه للبس عباءة وتقر؛ أي لأن ألبس عباءة وتقر. وقال أبو صالح: كان رجل عالم في بني إسرائيل وجد رقعة: إن العبد ليعمل الزمان الطويل بطاعة الله فيختم له عمله بعمل أهل النار فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بمعصية الله ثم يختم له عمله بعمل رجل من أهل الجنة فيدخل الجنة؛ فقال: ولأي شيء أتعب نفسي فترك عمله وأخذ في الفسوق والمعصية، وقال له إبليس: لك عمر طويل فتمتع في الدنيا ثم تتوب، فأخذ في الفسوق وأنفق ماله في الفجور، فأتاه ملك الموت في ألذ ما كان، فقال: يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله؛ ذهب عمري في طاعة الشيطان، فندم حين لا ينفعه الندم؛ فأنزل الله خبره في القرآن. وقال قتادة: هؤلاء أصناف؛ صنف منهم قال: « يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله » . وصنف منهم قال: « لو أن الله هداني لكنت من المتقين » . وقال آخر: « لو أن لي كرة فأكون من المحسنين » فقال الله تعالى ردا لكلامهم: « بلى قد جاءتك آياتي » قال الزجاج: « بلى » جواب النفي وليس في الكلام لفظ النفي، ولكن معنى « لو أن الله هداني » ما هداني، وكأن هذا القائل قال ما هديت؛ فقيل: بل قد بين لك طريق الهدى فكنت بحيث لو أردت أن تؤمن أمكنك أن تؤمن. « آياتي » أي القرآن. وقيل: عنى بالآيات المعجزات؛ أي وضح الدليل فأنكرته وكذبته. « واستكبرت وكنت من الكافرين » أي تكبرت عن الإيمان « وكنت من الكافرين » . وقال: « استكبرت وكنت » وهو خطاب الذكر؛ لأن النفس تقع على الذكر والأنثى. يقال: ثلاثة أنفس. وقال المبرد؛ تقول العرب نفس واحد أي إنسان واحد. وروى الربيع بن أنس عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: « قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين » . وقرأ الأعمش: « بلى قد جاءته آياتي » وهذا يدل على التذكير. والربيع بن أنس لم يلحق أم سلمة إلا أن القراءة جائزة؛ لأن النفس تقع للمذكر والمؤنث. وقد أنكر هذه القراءة بعضهم وقال: يجب إذا كسر التاء أن تقول وكنت من الكوافر أو من الكافرات. قال النحاس: وهذا لا يلزم؛ ألا ترى أن قبله « أن تقول نفس » ثم قال: « وإن كنت لمن الساخرين » ولم يقل من السواخر ولا من الساخرات. والتقدير في العربية على كسر التاء « واستكبرت وكنت » من الجمع الساخرين أو من الناس الساخرين أو من القوم الساخرين.

 

الآيات: 60 - 64 ( ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين، وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون، الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل، له مقاليد السماوات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون، قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون )

 

قوله تعالى: « ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة » أي مما حاط بهم من غضب الله ونقمته. وقال الأخفش: « ترى » غير عامل في قوله: « وجوههم مسودة » إنما هو ابتداء وخبر. الزمخشري: جملة في موضع الحال إن كان « ترى » من رؤية البصر، ومفعول ثان إن كان من رؤية القلب. « أليس في جهنم مثوى للمتكبرين » بين رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى الكبر فقال عليه السلام: ( سفه الحق وغمص الناس ) أي احتقارهم. وقد مضى في « البقرة » وغيرها. وفي حديث عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( يحشر المتكبرون يوم القيامة كالذر يلحقهم الصغار حتى يؤتى بهم إلى سجن جهنم ) .

 

قوله تعالى: « وينجي الله الذين اتقوا » وقرئ: « وينجى » أي من الشرك والمعاصي. « بمفازتهم » على التوحيد قراءة العامة لأنها مصدر. وقرأ الكوفيون: « بمفازاتهم » وهو جائز كما تقول بسعاداتهم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير هذه الآية من حديث أبي هريرة، قال: ( يحشر الله مع كل امرئ عمله فيكون عمل المؤمن معه في أحسن صورة وأطيب ريح فكلما كان رعب أو خوف قال له لا ترع فما أنت بالمراد به ولا أنت بالمعني به فإذا كثر ذلك عليه قال فما أحسنك فمن أنت فيقول أما تعرفني أنا عملك الصالح حملتني على ثقلي فوالله لأحملنك ولأدفعن عنك فهي التي قال الله: « وينجى الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون » .

« الله خالق كل شيء » أي حافظ وقائم به. وقد تقدم.

 

قوله تعالى: « له مقاليد السماوات والأرض » واحدها مقليد. وقيل: مقلاد وأكثر ما يستعمل فيه إقليد. والمقاليد المفاتيح عن ابن عباس وغيره. وقال السدي: خزائن السماوات والأرض. وقال غيره: خزائن السماوات المطر، وخزائن الأرض النبات. وفيه لغة أخرى أقاليد وعليها يكون واحدها إقليد. قال الجوهري: والإقليد المفتاح، والمقلد مفتاح كالمنجل ربما يقلد به الكلأ كما يقلد القت إذا جعل حبالا؛ أي يفتل والجمع المقاليد. وأقلد البحر على خلق كثير أي غرقهم كأنه أغلق عليهم. وخرج البيهقي عن ابن عمر أن عثمان بن عفان رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير قوله تعالى: « له مقاليد السماوات والأرض » فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما سألني عنها أحد لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله وبحمده استغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم هو الأول والآخر والظاهر والباطن يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير ) ذكره الثعلبي في تفسيره، وزاد من قالها إذا أصبح أو أمسى عشر مرات أعطاه الله ست خصال: أولها يحرس من إبليس، والثانية يحضره اثنا عشر ألف ملك، والثالثة يعطى قنطارا من الأجر، والرابعة ترفع له درجة، والخامسة يزوجه الله من الحور العين، والسادسة يكون له من الأجر كمن قرأ القرآن والتوراة والإنجيل والزبور، وله أيضا من الأجر كمن حج واعتمر فقبلت حجته وعمرته، فإن مات من ليلته مات شهيدا. وروى الحارث عن علي قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير المقاليد فقال: ( يا علي لقد سألت عن عظيم المقاليد هو أن تقول عشرا إذا أصبحت وعشرا إذا أمسيت لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله واستغفر الله ولا قوة إلا بالله الأول والآخر والظاهر والباطن له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء قدير من قالها عشرا إذا أصبح، وعشرا إذا أمسى أعطاه الله خصالا ستا: أولها يحرسه من الشيطان وجنوده فلا يكون لهم عليه سلطان، والثانية يعطى قنطارا في الجنة هو أثقل في ميزانه من جبل أحد، والثالثة ترفع له درجة لا ينالها إلا الأبرار، والرابعة يزوجه الله من الحور العين، والخامسة يشهده اثنا عشر ألف ملك يكتبونها له في رق منشور ويشهدون له بها يوم القيامة، والسادسة يكون له من الأجر كأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وكمن حج واعتمر فقبل الله حجته وعمرته، وإن مات من يومه أو ليلته أوشهره طبع بطابع الشهداء. وقيل: المقاليد الطاعة يقال ألقى إلى فلان بالمقاليد أي أطاعه فيما يأمره؛ فمعنى الآية له طاعة من في السماوات والأرض.

 

قوله تعالى: « والذين كفروا بآيات الله » أي بالقرآن والحجج والدلالات. « أولئك هم الخاسرون » تقدم.

 

قوله تعالى: « قل أفغير الله تأمروني أعبد » ذلك حين دعوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما هم عليه من عبادة الأصنام وقالوا هو دين آبائك. و « غير » نصب بـ « أعبد » على تقدير أعبد غير الله فيما تأمرونني. ويجوز أن ينتصب بـ « تأمروني » على حذف حرف الجر؛ التقدير: أتأمروني بغير الله أن أعبده، لأن أن مقدرة وأن والفعل مصدر، وهي بدل من غير؛ التقدير: أتأمروني بعبادة غير الله. وقرأ نافع: « تأمروني » بنون واحدة مخففة وفتح الياء. وقرأ ابن عامر: « تأمرونني » بنونين مخففتين على الأصل. الباقون بنون واحدة مشددة على الإدغام، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لأنها وقعت في مصحف عثمان بنون واحدة. وقرأ نافع على حذف النون الثانية وإنما كانت المحذوفة الثانية؛ لأن التكرير والتثقيل يقع بها، وأيضا حذف الأولى لا يجوز؛ لأنها دلالة الرفع. وقد مضى في « الأنعام » بيانه عند قوله تعالى: « أتحاجوني » . « أعبد » أي أن أعبد فلما حذف « أن » رفع؛ قاله الكسائي. ومنه قول الشاعر:

ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى

والدليل على صحة هذا الوجه قراءة من قرأ « أعبد » بالنصب.

 

الآيات: 65 - 66 ( ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين، بل الله فاعبد وكن من الشاكرين )

 

قوله تعالى: « ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت » قيل: إن في الكلام تقديما وتأخيرا؛ والتقدير: لقد أوحي إليك لئن أشركت وأوحي إلى الذين من قبلك كذلك. وقيل: هو على بابه؛ قال مقاتل: أي أوحي إليك وإلى الأنبياء قبلك بالتوحيد والتوحيد محذوف. ثم قال: « لئن أشركت » يا محمد: « ليحبطن عملك » وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وقيل: الخطاب له والمراد أمته؛ إذ قد علم الله أنه لا يشرك ولا يقع منه إشراك. والإحباط الإبطال والفساد؛ قال القشيري: فمن ارتد لم تنفعه طاعاته السابقة ولكن إحباط الردة العمل مشروط بالوفاة على الكفر؛ ولهذا قال: « من يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم » [ البقرة: 217 ] فالمطلق ها هنا محمول على المقيد؛ ولهذا قلنا: من حج ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام لا يجب عليه إعادة الحج.

قلت: هذا مذهب الشافعي. وعند مالك تجب عليه الإعادة وقد مضى في « البقرة » بيان هذا مستوفى.

 

قوله تعالى: « بل الله فاعبد » النحاس: في كتابي عن أبي إسحاق لفظ اسم الله عز وجل منصوب بـ « اعبد » قال: ولا اختلاف في هذا بين البصريين والكوفيين. قال النحاس: وقال الفراء يكون منصوبا بإضمار فعل. وحكاه المهدوي عن الكسائي. فأما الفاء فقال الزجاج: إنها للمجازاة. وقال الأخفش: هي زائدة. وقال ابن عباس: « فاعبد » أي فوحد. وقال غيره: « بل الله » فأطع « وكن من الشاكرين » لنعمه بخلاف المشركين.

الآية [ 67 ] في الصفحة التالية ...