الآيات: 5 - 9 ( كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب، وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار، الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم، ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم، وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم )

 

قوله تعالى: « كذبت قبلهم قوم نوح » على تأنيث الجماعة أي كذبت الرسل. « والأحزاب من بعدهم » أي والأمم الذين تحزبوا عل أنبيائهم بالتكذيب نحو عاد وثمود فمن بعدهم. « وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه » أي ليحبسوه ويعذبوه. وقال قتادة والسدي: ليقتلوه. والأخذ يرد بمعنى الإهلاك؛ كقوله: « ثم أخذتهم فكيف كان نكير » [ الحج: 44 ] . والعرب تسمي الأسير الأخيذ؛ لأنه مأسور للقتل؛ وأنشد قطرب قول الشاعر:

فإما تأخذوني تقتلوني فكم من آخذ يهوى خلودي

وفي وقت أخذهم لرسولهم قولان: أحدهما عند دعائه لهم. الثاني عند نزول العذاب بهم. « وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق » أي ليزيلوا. ومنه مكان دحض أي مزلقة، والباطل داحض؛ لأنه يزلق ويزل فلا يستقر. قال يحيى بن سلام: جادلوا الأنبياء بالشرك ليبطلوا به الإيمان. « فأخذتهم » أي بالعذاب. « فكيف كان عقاب » أي عاقبة الأمم المكذبة. أي أليس وجدوه حقا.

 

قوله تعالى: « وكذلك حقت » أي وجبت ولزمت؛ مأخوذ من الحق لأنه اللازم. « كلمة ربك » هذه قراءة العامة على التوحيد. وقرأ نافع وابن عامر: « كلمات » جمعا. « على الذين كفروا أنهم أصحاب النار » قال الأخفش: أي لأنهم وبأنهم. قال الزجاج: ويجوز إنهم بكسر الهمزة. « أصحاب النار » أي المعذبون بها وتم الكلام.

 

قوله تعالى: « الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به » ويروى: أن حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم قد خرقت العرش، وهم خشوع لا يرفعون طرفهم، وهم أشراف الملائكة وأفضلهم. ففي الحديث: ( أن الله تبارك وتعالى أمر جميع الملائكة أن يغدوا ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلا لهم على سائر الملائكة ) . ويقال: خلق الله العرش من جوهرة خضراء، وبين القائمتين من قوامه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام. وقيل: حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة يطوفون به مهللين مكبرين، ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام، قد وضعوا أيديهم على عواتقهم، ورافعين أصواتهم بالتهليل والتكبير، ومن ورائهم مائة ألف صف، وقد وضعوا الإيمان على الشمائل، ما منهم أحد إلا وهو يسبح بما لا يسبح به الآخر. وقرأ ابن عباس: « العرش » بضم العين؛ ذكر جميعه الزمخشري رحمه الله. وقيل: اتصل هذا بذكر الكفار؛ لأن المعنى والله أعلم - « الذين يحملون العرش ومن حوله » ينزهون الله عز وجل عما يقوله الكفار وأقاويل أهل التفسير على أن العرش هو السرير، وأنه جسم مجسم خلقه الله عز وجل، وأمر ملائكة بحمله، وتعبدهم بتعظيمه والطواف به، كما خلق في الأرض بيتا وأمر بني آدم بالطواف به واستقباله في الصلاة. وروى ابن طهمان، عن موسى بن عقبة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبدالله الأنصاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسير سبعمائة عام ) ذكره البيهقي وقد مضى في « البقرة » في آية الكرسي عظم العرش وأنه أعظم المخلوقات. وروى ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن كعب الأحبار أنه قال: لما خلق الله تعالى العرش قال: لن يخلق الله خلقا أعظم مني؛ فاهتز فطوقه الله بحية، للحية سبعون ألف جناح، في الجناح سبعون ألف ريشة، في كل ريشة سبعون ألف وجه، في كل وجه سبعون ألف فم، في كل فم سبعون ألف لسان. يخرج من أفواهها في كل يوم من التسبيح عدد قطر المطر، وعدد ورق الشجر، وعدد الحصى والثرى، وعدد أيام الدنيا وعدد الملائكة أجمعين، فالتوت الحية بالعرش، فالعرش إلى نصف الحية وهي ملتوية به. وقال مجاهد: بين السماء السابعة وبين العرش سبعون ألف حجاب، حجاب نور وحجاب ظلمة، وحجاب نور وحجاب ظلمة. « ربنا » أي يقولون « ربنا » « وسعت كل شيء رحمة وعلما » أي وسعت رحمتك وعلمك كل شيء، فلما نقل الفعل عن الرحمة والعلم نصب على التفسير. « فاغفر للذين تابوا » أي من الشرك والمعاصي « واتبعوا سبيلك » أي دين الإسلام. « وقهم عذاب الجحيم » أي اصرفه عنهم حتى لا يصل إليهم. قال إبراهيم النخعي: كان أصحاب عبدالله يقولون الملائكة خير من ابن الكواء؛ هم يستغفرون لمن في الأرض وابن الكواء يشهد عليهم بالكفر، قال إبراهيم: وكانوا يقولون لا يحجبون الاستغفار عن أحد من أهل القبلة. وقال مطرف بن عبدالله: وجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة، ووجدنا أغش عباد الله لعباد الله الشيطان، وتلا هذه الآية. وقال يحيى بن معاذ الرازي لأصحابه في هذه الآية: افهموها فما في العالم جنة أرجى منها؛ إن ملكا واحدا لو سأل الله أن يغفر لجميع المؤمنين لغفر لهم، كيف وجميع الملائكة وحملة العرش يستغفرون للمؤمنين. وقال خلف بن هشام البزار القارئ: كنت أقرأ على سليم بن عيسى فلما بلغت: « ويستغفرون للذين آمنوا » بكى ثم قال: يا خلف ما أكرم المؤمن على الله نائما على فراشه والملائكة يستغفرون له.

 

قوله تعالى: « ربنا وأدخلهم جنات عدن » يروى أن عمر بن الخطاب قال لكعب الأحبار: ما جنات عدن. قال: قصور من ذهب في الجنة يدخلها النبيون والصديقون والشهداء وأئمة العدل. « التي وعدتهم » « التي » في محل نصب نعتا للجنات. « ومن صلح » « من » في محل نصب عطفا على الهاء والميم في قوله: « وأدخلهم » . « ومن صلح » بالإيمان « من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم » وقد مضى في « الرعد » نظير هذه الآية. قال سعيد بن جبير: يدخل الرجل الجنة، فيقول: يا رب أين أبي وجدي وأمي؟ وأين ولدي وولد ولدي؟ وأين زوجاتي؟ فيقال إنهم لم يعملوا كعملك؛ فيقول: يا رب كنت أعمل لي ولهم؛ فيقال ادخلوهم الجنة. ثم تلا: « الذين يحملون العرش ومن حوله » إلى قوله: « ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم » . ويقرب من هذه الآية قوله: « والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم » [ الطور: 21 ] .

 

قوله تعالى: « وقهم السيئات » قال قتادة: أي وقهم ما يسوءهم، وقيل: التقدير وقهم عذاب السيئات وهو أمر من وقاه الله يقيه وقاية بالكسر؛ أي حفظه. « ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته » أي بدخول الجنة « وذلك هو الفوز العظيم » أي النجاة الكبيرة.

 

الآيات: 10 - 12 ( إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون، قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل، ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير )

 

قوله تعالى: « إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم » قال الأخفش: « لمقت » هذه لام الابتداء وقعت بعد « ينادون » لأن معناه يقال لهم والنداء قول. وقال غيره: المعنى يقال لهم: « لمقت الله » إياكم في الدنيا « إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون » « أكبر » من مقت بعضكم بعضا يوم القيامة؛ لأن بعضهم عادى بعضا ومقته يوم القيامة، فأذعنوا عند ذلك، وخضعوا وطلبوا الخروج من النار. وقال الكلبي: يقول كل إنسان من أهل النار لنفسه مقتك يا نفس؛ فتقول الملائكة لهم وهم في النار: لمقت الله إياكم إذ أنتم في الدنيا وقد بعث إليكم الرسل فلم تؤمنوا أشد من مقتكم أنفسكم اليوم. وقال الحسن: يعطون كتابهم فإذا نظروا إلى سيئاتهم مقتوا أنفسهم فينادون « لمقت الله » إياكم في الدنيا « إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون » « أكبر من مقتكم أنفسكم » اليوم. وقال معناه مجاهد. وقال قتادة: المعنى « لمقت الله » لكم « إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون » « أكبر من مقتكم أنفسكم » إذ عاينتم النار. فإن قيل: كيف يصح أن يمقتوا أنفسهم؟ ففيه وجهان: أحدهما أنهم أحلوها بالذنوب محل الممقوت. الثاني أنهم لما صاروا إلى حال زال عنهم الهوى، وعلموا أن نفوسهم هي التي أبقتهم في المعاصي مقتوها. وقال محمد بن كعب القرظي: إن أهل النار لما يئسوا مما عند الخزنة وقال لهم مالك: « إنكم ماكثون » على ما يأتي. قال بعضهم لبعض: يا هؤلاء إنه قد نزل بكم من العذاب والبلاء ما قد ترون، فهلم فلنصبر فلعل الصبر ينفعنا، كما صبر أهل الطاعة على طاعة الله فنفعهم الصبر إذ صبروا، فأجمعوا رأيهم على الصبر فصبروا فطال صبرهم، ثم جزعوا فنادوا « سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص » [ إبراهيم: 21 ] أي من ملجأ؛ فقال إبليس عند ذلك: « إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان » [ إبراهيم: 22 ] إلى قوله: « ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي » [ إبراهيم: 22 ] يقول: بمغن عنكم شيئا « إني كفرت بما أشركتمون من قبل » [ إبراهيم: 22 ] فلما سمعوا مقالته مقتوا أنفسهم. قال: فنودوا « لمقت الله أكبر من مقتهم أنفسهم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون » إلى قوله: « فهل إلى خروج من سبيل » قال فرد عليهم: « ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير » ذكره ابن المبارك.

 

قوله تعالى: « قالوا ربنا أمتنا اثنتين » اختلف أهل التأويل في معنى قولهم: « أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين » فقال ابن مسعود وابن عباس وقتادة والضحاك: كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم، ثم أحياهم ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها في الدنيا، ثم أحياهم للبعث والقيامة، فهاتان حياتان موتتان، وهو قوله تعالى: « كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم » [ البقرة: 28 ] . وقال السدي: أميتوا في الدنيا ثم أحياهم في القبور للمسألة، ثم أميتوا ثم أحيوا في الآخرة. وإنما صار إلى هذا؛ لأن لفظ الميت لا ينطلق في العرف على النطفة. واستدل العلماء من هذا في إثبات سؤال القبر، ولو كان الثواب والعقاب للروح دون الجسد فما معنى الإحياء والإماتة؟ والروح عند من يقصر أحكام الآخرة على الأرواح لا تموت ولا تتغير ولا تفسد، وهو حي لنفسه لا يتطرق إليه موت ولا غشية ولا فناء. وقال ابن زيد في قوله: « ربنا أمتنا اثنتين... » الآية قال: خلقهم في ظهر آدم وأخرجهم وأحياهم وأخذ عليهم الميثاق، ثم أماتهم ثم أحياهم في الدنيا ثم أماتهم. وقد مضى هذا في « البقرة » . « فاعترفنا بذنوبنا » اعترفوا حيث لا ينفعهم الاعتراف وندموا حيث لا ينفعهم الندم. « فهل إلى خروج من سبيل » أي هل نرد إلى الدنيا لنعمل بطاعتك؛ نظيره: « هل إلى مرد من سبيل » [ الشورى: 44 ] وقوله: « فارجعنا نعمل صالحا » [ السجدة: 12 ] وقوله: « يا ليتنا نرد » [ الأنعام: 27 ] الآية.

 

قوله تعالى: « ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم » « ذلكم » في موضع رفع أي الأمر « ذلكم » أو « ذلكم » العذاب الذي أنتم فيه بكفركم. وفي الكلام متروك تقديره فأجيبوا بأن لا سبيل إلى الرد. وذلك لأنكم « إذا دعي الله » أي وحد الله « وحده كفرتم » وأنكرتم أن تكون الألوهية له خاصة، وإن أشرك به مشرك صدقتموه وآمنتم بقوله. قال الثعلبي: وسمعت بعض العلماء يقول: « وإن يشرك به » بعد الرد إلى الدنيا لوكان به « تؤمنوا » تصدقوا المشرك؛ نظيره: « ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه » . « فالحكم لله العلي الكبير » عن أن تكون له صاحبة أو ولد.

الآية [ 13 ] في الصفحة التالية ...