الآيات: 55 - 59 ( فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار، إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير، لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلا ما تتذكرون، إن الساعة لآتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون )

 

قوله تعالى: « فاصبر » أي فاصبر يا محمد على أذى المشركين، كما صبر من قبلك « إن وعد الله حق » بنصرك وإظهارك، كما نصرت موسى وبني إسرائيل. وقال الكلبي: نسخ هذا بآية السيف. « واستغفر لذنبك » قيل: لذنب أمتك حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقيل: لذنب نفسك على من يجوز الصغائر على الأنبياء. ومن قال لا تجوز قال: هذا تعبد للنبي عليه السلام بدعاء؛ كما قال تعالى: « وآتنا ما وعدتنا » [ آل عمران: 194 ] والفائدة زيادة الدرجات وأن يصير الدعاء سنة لمن بعده. وقيل: فاستغفر الله من ذنب صدر منك قبل النبوة. « وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار » يعني صلاة الفجر وصلاة العصر؛ قال الحسن وقتادة. وقيل: هي صلاة كانت بمكة قبل أن تفرض الصلوات الخمس ركعتان غدوة وركعتان عشية. عن الحسن أيضا ذكره الماوردي. فيكون هذا مما نسخ والله أعلم. وقوله: « بحمد ربك » بالشكر له والثناء عليه. وقيل: « وسبح بحمد ربك » أي استدم التسبيح في الصلاة وخارجا منها لتشتغل بذلك عن استعجال النصر.

 

قوله تعالى: « إن الذين يجادلون » يخاصمون « في آيات الله بغير سلطان » أي حجة « أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه » قال الزجاج: المعنى ما في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغي إرادتهم فيه. قدره على الحذف. وقال غيره: المعنى ما هم ببالغي الكبر على غير حذف؛ لأن هؤلاء قوم رأوا أنهم أن اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم قل ارتفاعهم، ونقصت أحوالهم، وأنهم يرتفعون إذا لم يكونوا تبعا، فأعلم الله عز وجل أنهم لا يبلغون الارتفاع الذي أملوه بالتكذيب. والمراد المشركون. وقيل: اليهود؛ فالآية مدنية على هذا كما تقدم أول السور. والمعنى: إن تعظموا عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا إن الدجال سيخرج عن قريب فيرد الملك إلينا، وتسير معه الأنهار، وهو آية من آيات الله فذلك كبر لا يبلغونه فنزلت الآية فيهم. قال أبو العالية وغيره. وقد تقدم في « آل عمران » أنه يخرج ويطأ البلاد كلها إلا مكة والمدينة. وقد ذكرنا خبره مستوفى في كتاب التذكرة. وهو يهودي واسمه صاف ويكنى أبا يوسف. وقيل: كل من كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم. وهذا حسن؛ لأنه يعم. وقال مجاهد: معناه في صدورهم عظمة ما هم ببالغيها والمعنى واحد. وقيل: المراد بالكبر الأمر الكبير أي يطلبون النبوة أو أمرا كبيرا يصلون به إليك من القتل ونحوه، ولا يبلغون ذلك. أو يتمنون موتك قبل أن يتم دينك ولا يبلغونه.

 

قوله تعالى: « فاستعذ بالله » قيل: من فتنة الدجال على قول من قال إن الآية نزلت في اليهود. وعلى القول الآخر من شر الكفار. قيل: من مثل ما ابتلوا به من الكفر والكبر. « إنه هو السميع البصير » « هو » يكون فاصلا ويكون مبتدأ وما بعده خبره والجملة خبر إن على ما تقدم. « لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس » مبتدأ وخبره. قال أبو العالية: أي أعظم من خلق الدجال حين عظمته اليهود. وقال يحيى بن سلام: هو احتجاج على منكري البعث؛ أي هما أكبر من إعادة خلق الناس فلم اعتقدوا عجزي عنها؟. « ولكن أكثر الناس لا يعلمون » أي لا يعلمون ذلك.

 

قوله تعالى: « وما يستوي الأعمى والبصير » أي المؤمن والكافر والضال والمهتدي. « والذين آمنوا وعملوا الصالحات » أي ولا يستوي العامل للصالحات « ولا المسيء » الذي يعمل السيئات. « قليلا ما تتذكرون » قراءة العامة بياء على الخبر واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لأجل ما قبله من الخبر وما بعده. وقرأ الكوفيون بالتاء على الخطاب.

 

قوله تعالى: « إن الساعة لآتية » هذه لام التأكيد دخلت في خبر إن وسبيلها أن تكون في أول الكلام؛ لأنها توكيد الجملة إلا أنها تزحلق عن موضعها؛ كذا قال سيبويه. تقول: إن عمرا لخارج؛ وإنما أخرت عن موضعها لئلا يجمع بينها وبين إن؛ لأنهما يؤديان عن معنى واحد، وكذا لا يجمع بين إن وأن عند البصريين. وأجاز هشام إن أن زيدا منطلق حق؛ فإن حذفت حقا لم يجز عند أحد من النحويين علمته؛ قاله النحاس. « لا ريب فيها » لا شك ولا مرية. « ولكن أكثر الناس لا يؤمنون » أي لا يصدقون بها وعندها يبين فرق ما بين الطائع والعاصي.

 

الآيات: 60 - 65 ( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين، الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون، ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون، كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون، الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين، هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين )

 

قوله تعالى: « وقال ربكم ادعوني أستجب لكم » روى النعمان بن بشير قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( الدعاء هو العبادة ) ثم قرأ « وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين » قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. فدل هذا على أن الدعاء هو العبادة. وكذا قال أكثر المفسرون وأن المعنى: وحدوني واعبدوني أتقبل عبادتكم وأغفر لكم. وقيل: هو الذكر والدعاء والسؤال. قال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع ) ويقال الدعاء: هو ترك الذنوب. وحكى قتادة أن كعب الأحبار قال: أعطيت هذه الأمة ثلاثا لم تعطهن أمة قبلهم إلا نبي: كان إذا أرسل نبي قيل له أنت شاهد على أمتك، وقال تعالى لهذه الأمة: « لتكونوا شهداء على الناس » [ البقرة: 143 ] وكان يقال للنبي: ليس عليك في الدين من حرج، وقال لهذه الأمة: « وما جعل عليكم في الدين من حرج » [ الحج: 78 ] وكان يقال للنبي ادعني استجب لك، وقال لهذه الأمة: « ادعوني استجب لكم » .

قلت: مثل هذا لا يقال من جهة الرأي. وقد جاء مرفوعا؛ رواه ليث عن شهر بن حوشب عن عبادة بن الصامت، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( أعطيت أمتي ثلاثا لم تعط إلا للأنبياء كان الله تعالى إذا بعث النبي قال ادعني استجب لك وقال لهذه الأمة: « ادعوني استجب لكم » وكان الله إذا بعث النبي قال: ما جعل عليك في الدين من حرج وقال لهذه الأمة: « وما جعل عليكم في الدين من حرج » [ الحج: 78 ] وكان الله إذا بعث النبي جعله شهيدا على قومه وجعل هذه الأمة شهداء على الناس ) ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول. وكان خالد الربعي يقول: عجيب لهذه الأمة قيل لها: « ادعوني استجب لكم » أمرهم بالدعاء ووعدهم الاستجابة وليس بينهما شرط. قال له قائل: مثل ماذا؟ قال: مثل قوله تعالى: « وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات » [ البقرة: 25 ] فها هنا شرط، وقوله: « وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق » [ يونس: 2 ] ، فليس فيه شرط العمل؛ ومثل قوله: « فادعوا الله مخلصين له الدين » [ غافر: 14 ] فها هنا شرط، وقوله تعالى: « ادعوني استجب لكم » ليس فيه شرط. وكانت الأمة تفزع إلى أنبيائها في حوائجها حتى تسأل الأنبياء لهم ذلك. وقد قيل: إن هذا من باب المطلق والمقيد على ما تقدم في « البقرة » بيانه. أي « استجب لكم » إن شئت؛ كقوله: « فيكشف ما تدعون إليه إن شاء » [ الأنعام:41 ] . وقد تكون الاستجابة في غير عين المطلوب على حديث أبي سعيد الخدري على ما تقدم في « البقرة » بيانه فتأمله هناك. وقرأ ابن كثير وابن محيصن ورويس عن يعقوب وعياش عن أبي عمرو وأبو بكر والمفضل عن عاصم « سيدخلون » بضم الياء وفتح الخاء على ما لم يسم فاعله. الباقون « يدخلون » بفتح الياء وضم الخاء. ومعنى « داخرين » صاغرين أذلاء وقد تقدم.

 

قوله تعالى: « الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه » « جعل » هنا بمعنى خلق؛ والعرب تفرق بين جعل إذا كانت بمعنى خلق وبين جعل إذ لم تكن بمعنى خلق؛ فإذا كانت بمعنى خلق فلا تعديها إلا إلى مفعول واحد، وإذا لم تكن بمعنى خلق عدتها إلى مفعولين؛ نحو قوله:إنا جعلناه قرآنا عربيا « وقد مضى هذا المعنى في موضع. » والنهار مبصرا « أي مضيئا لتبصروا فيه حوائجكم وتتصرفوا في طلب معايشكم. » إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون « فضله وإنعامه عليهم.»

 

قوله تعالى: « ذلكم الله ربكم خالق كل شيء » بين الدلالة على وحدانيته وقدرته. « لا إله إلا هو فأنى تؤفكون » أي كيف تنقلبون وتنصرفون عن الإيمان بعد أن تبينت لكم دلائله كذلك؛ أي كما صرفتم عن الحق مع قيام الدليل عليه فـ « كذلك يؤفك » يصرف عن الحق الذين كانوا بآيات الله يجحدون.

 

قوله تعالى: « الله الذي جعل لكم الأرض قرارا » زاد في تأكيد التعريف والدليل؛ أي جعل لكم الأرض مستقرا لكم في حياتكم وبعد الموت. « والسماء بناء » تقدم. « وصوركم فأحسن صوركم » أي خلقكم في أحسن صورة. وقرأ أبو رزين والأشهب العقيلي « صوركم » بكسر الصاد؛ قال الجوهري: والصور بكسر الصاد لغة في الصور جمع صورة، وينشد هذا البيت على هذه اللغة يصف الجواري قائلا:

أشبهن من بقر الخلصاء أعينها وهن أحسن من صيرانها صورا

والصيران جمع صوار وهو القطيع من البقر والصوار أيضا وعاء المسك وقد جمعهما الشاعر:

إذا لاح الصوار ذكرت ليلى وأذكرها إذا نفخ الصوار

والصيار لغة فيه. « ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين » وقد مضى. « هو الحي » أي الباقي الذي لا يموت « لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين » أي مخلصين له الطاعة والعبادة. « الحمد لله رب العالمين » قال الفراء: هو خبر وفيه إضمار أمر أي ادعوه واحمدوه. وقد مضى هدا كله مستوفى في « البقرة » وغيرها. وقال ابن عباس: من قال: « لا إله إلا الله » فليقل « الحمد لله رب العالمين » .

الآية [ 66 ] في الصفحة التالية ...