الآيات: 41 - 56 ( وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال، في سموم وحميم، وظل من يحموم، لا بارد ولا كريم، إنهم كانوا قبل ذلك مترفين، وكانوا يصرون على الحنث العظيم، وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون، أو آباؤنا الأولون، قل إن الأولين والآخرين، لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم، ثم إنكم أيها الضالون المكذبون، لآكلون من شجر من زقوم، فمالئون منها البطون، فشاربون عليه من الحميم، فشاربون شرب الهيم، هذا نزلهم يوم الدين )

 

قوله تعالى: « وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال » ذكر منازل أهل النار وسماهم أصحاب الشمال، لأنهم يأخذون كتبهم بشمائلهم، ثم عظم ذكرهم في البلاد والعذاب فقال: « ما أصحاب الشمال. » في سموم « والسموم الريح الحارة التي تدخل في مسام البدن. والمراد هنا حر النار ولفحها. » وحميم « أي ماء حار قد انتهى حره، إذا أحرقت النار أكبادهم وأجسادهم فزعوا إلى الحميم، كالذي يفزع من النار إلى الماء ليطفئ به الحر فيجده حميما حارا في نهاية الحرارة والغليان. وقد مضى في » محمد « » وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم « [ محمد: 15 ] . » وظل من يحموم « أي يفزعون من السموم إلى الظل كما يفزع أهل الدنيا فيجدونه ظلا من يحموم، أي من دخان جهنم أسود شديد السواد. عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وكذلك اليحموم في اللغة: الشديد السواد وهو يفعول من الحم وهو الشحم المسود باحتراق النار. وقيل: هو المأخوذ من الحمم وهو الفحم. وقال الضحاك: النار سوداء وأهلها سود وكل ما فيها أسود. وعن ابن عباس أيضا: النار سوداء. وقال ابن زيد: اليحموم جبل في جهنم يستغيث إلى ظله أهل النار. » لا بارد « بل حار لأنه من دخان شفير جهنم. » ولا كريم « عذب، عن الضحاك. وقال سعيد بن المسيب: ولا حسن منظره، وكل ما لا خير فيه فليس بكريم. وقيل: » وظل من يحموم « أي من النار يعذبون بها، كقوله تعالى: » لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل « [ الزمر: 16 ] . » إنهم كانوا قبل ذلك مترفين « أي إنما استحقوا هذه العقوبة لأنهم كانوا في الدنيا متنعمين بالحرام. والمترف المنعم، عن ابن عباس وغيره. وقال السدي: » مترفين « أي مشركين. » وكانوا يصرون على الحنث العظيم « أي يقيمون على الشرك، عن الحسن والضحاك وابن زيد. وقال قتادة ومجاهد: الذنب العظيم الذي لا يتوبون منه. الشعبي: هو اليمين الغموس وهى من الكبائر، يقال: حنث في يمينه أي لم يرها ورجح فيها. وكانوا يقسمون أن لا بعث، وأن أنداد الله فذلك حنثهم، قال الله تعالى مخبرا عنهم: » وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت « [ النحل: 38 ] وفي الخبر: كان يتحنث في حراء، أي يفعل ما يسقط عن نفسه الحنث وهو الذنب. » وكانوا يقولون أئذا متنا « هذا استبعاد منهم لأمر البعث وتكذيب له. فقال الله تعالى: » قل « لهم يا محمد » إن الأولين « من أبائكم » والآخرين « منكم » لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم « يريد يوم القيامة. ومعنى الكلام القسم ودخول اللام في قوله تعالى: » لمجوعون « هو دليل القسم في المعنى، أي إنكم لمجموعون قسما حقا خلاف قسمكم الباطل » ثم إنكم أيها الضالون « عن الهدى » المكذبون « بالبعث » لآكلون من شجر من زقوم « وهو شجر كريه المنظر، كريه الطعم، وهي التي ذكرت في سورة » والصافات « . » فمالئون منها البطون « أي من الشجرة، لأن المقصود من الشجر شجرة. ويجوز أن تكون » من « الأولى زائدة، ويحوز أن يكون المفعول محذوفا كأنه قال: » لآكلون من شجر من زقوم « طعاما. وقوله: » من زقوم « صفة لشجر، والصفة إذا قدرت الجار زائدا نصبت على المعنى، أو جررت على اللفظ، فإن قدرت المفعول محذوفا لم تكن الصفة إلا في موضع جر.»

 

قوله تعالى: « فشاربون عليه » أي على الزقوم أو على الأكل أو على الشجر، لأنه يذكر ومؤنث. « من الحميم » وهو الماء المغلي الذي قد اشتد غليانه وهو صديد أهل النار. أي يورثهم حر ما يأكلون من الزقوم مع الجوع الشديد عطشا فيشربون ماء يظنون أنه يزيل العطش فيجدونه حميما مغلى. « فشاربون شرب الهيم » قراءة نافع وعاصم وحمزة « شرب » بضم الشين. الباقون بفتحها لغتان جيدتان، تقول العرب: شربت شربا وشربا وشربا وشربا بضمتين. قال أبو زيد: سمعت العرب تقول بضم الشين ولتحها وكسرها، والفتح هو المصدر الصحيح، لأن كل مصدر من ذوات الثلاثة فأصله فعل، ألا ترى أنك ترده إلى المرة الواحدة، فتقول: فعلة نحو شربة وبالضم الاسم. وقيل: إن المفتوح والاسم مصدران، فالشرب كالأكل، والشرب كالذكر، والشرب بالكسر المشروب كالطحن المطحون. والهيم الإبل العطاش التي لا تروى لداء يصيبها، عن ابن عباس وعكرمة وقتادة والسدي وغيرهم، وقال عكرمة أيضا: هي الإبل المراض. الضحاك: الهيم الإبل يصيبها داء تعطش منه عطشا شديدا، واحدها أهيم والأنثى هيماء. ويقال لذلك الداء الهيام، قال قيس بن الملوح:

يقال به داء الهيام أصابه وقد علمت نفسي مكان شفائها

وقوم هيم أيضا أي عطاش، وقد هاموا هياما. ومن العرب من يقول في الإبل: هائم وهائمة والجمع هيم، قال لبيد:

أجزت إلى معارفها بشعث وأطلاح من العيدي هيم

وقال الضحاك والأخفش وابن عيينة وابن كيسان: الهيم الأرض السهلة ذات الرمل. وروي أيضا عن ابن عباس: فيشربون شرب الرمال التي لا تروى بالماء. المهدوي: ويقال لكل ما لا يروى من الإبل والرمل أهيم وهيماء. وفي الصحاح: والهيام بالضم أشد العطش. والهيام كالجنون من العشق. والهيام داء يأخذ الإبل فتهيم في الأرض لا ترعى. يقال: ناقة هيماء. والهيماء أيضا المفازة لا ماء بها. والهيام بالفتح: الرمل الذي لا يتماسك أن يسيل من اليد للينه والجمع هيم مثل قذال وقذل. والهيام بالكسر الإبل العطاش الواحد هيمان، وناقة هيماء مثل عطشان وعطشى.

 

قوله تعالى: « هذا نزلهم يوم الدين » أي رزقهم الذي يعد لهم، كالنزل الذي يعد للأضياف تكرمة لهم، وفيه تهكم، كما في قوله تعالى: « فبشرهم بعذاب أليم » [ آل عمران: 21 ] وكقول أبي السعد الضبي:

وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا جعلنا القنا والمرهفات له نزلا

وقرأ يونس بن حبيب وعباس عن أبي عمرو « هذا نزلهم » بإسكان الزاي، وقد مضى في آخر « آل عمران » القول فيه. « يوم الدين » يوم الجزاء، يعني في جهنم

 

الآيات: 57 - 62 ( نحن خلقناكم فلولا تصدقون، أفرأيتم ما تمنون، أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون، نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين، على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون، ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون )

 

قوله تعالى: « نحن خلقناكم فلولا تصدقون » أي فهلا تصدقون بالبعث؟ لأن الإعادة كالابتداء. وقيل: المعنى نحن خلقنا رزقكم فهلا تصدقون أن هذا طعامكم إن لم تؤمنوا؟ « أفرأيتم ما تمنون » أي ما تصبونه من المني في أرحام النساء. « أأنتم تخلقونه » أي تصورون منه الإنسان « أم نحن الخالقون » المقدرون المصورون. وهذا احتجاج عليهم وبيان للآية الأولى، أي إذا أقررتم بأنا خالقوه لا غيرنا فاعترفوا بالبعث. وقرأ أبو السمال ومحمد بن السميقع وأشهب العقيلي: « تمنون » بفتح التاء وهما لغتان أمنى ومنى، وأمذى ومذى يمني ويمني ويمذي ويمذي. الماوردي: ويحتمل أن يختلف معناها عندي، فيكون أمنى إذا أنزل عن جماع، ومنى إذا أنزل عن الاحتلام. وفي تسمية المني منيا وجهان: أحدهما لإمنائه وهو إراقته. الثاني لتقديره، ومنه المنا الذي يوزن به لأنه مقدار لذلك، وكذلك المني مقدار صحيح لتصوير الخلقة.

 

قوله تعالى: « نحن قدرنا بينكم الموت » احتجاج أيضا، أي الذي يقدر على الإماتة يقدر على الخلق، وإذا قدر على الخلق قدر على البعث. وقرأ مجاهد وحميد وابن محيصن وابن كثير « قدرنا » بتخفيف الدال. الباقون بالتشديد، قال الضحاك: أي سوينا بين أهل السماء وأهل الأرض. وقيل: قضينا. وقيل: كتبنا، والمعنى متقارب، فلا أحد يبقى غيره عز وجل. « وما نحن بمسبوقين » أي إن أردنا أن نبدل أمثالكم لم يسبقنا أحد، أي لم يغلبنا. « بمسبوقين » معناه بمغلوبين. « على أن نبدل أمثالكم » وقال الطبري: المعنى نحن قدرنا بينكم الموت « على أن نبدل أمثالكم » بعد موتكم بآخرين من جنسكم، وما نحن بمسبوقين في آجالكم، أي لا يتقدم متأخر ولا يتأخر متقدم. « وننشئكم في ما لا تعلمون » من الصور والهيئات. قال الحسن: أي نجعلكم قردة وخنازير كما فعلنا بأقوام قبلكم. وقيل: المعنى ننشئكم في البعث على غير صوركم في الدنيا، فيجمل المؤمن ببياض وجهه، ومقبح الكافر بسواد وجهه. سعيد بن جبير: قوله تعالى: « فيما لا تعلمون » يعني في حواصل طير سود تكون ببرهوت كأنها الخطاطيف، وبرهوت واد في اليمن. وقال مجاهد: « فيما لا تعلمون » في أي خلق شئنا. وقيل: المعنى ننشئكم في عالم لا تعلمون، وفي مكان لا تعلمون.

 

قوله تعالى: « ولقد علمتم النشأة الأولى » أي إذ خلقتم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ولم تكونوا شيئا، عن مجاهد وغيره. قتادة والضحاك: يعني خلق آدم عليه السلام. « فلولا تتذكرون » أي فهلا تذكرون. وفي الخبر: عجبا كل العجب للمكذب بالنشأة الأخرى وهو يرى النشأة الأولى، وعجبا للمصدق بالنشأة الآخرة وهو لا يسعى لدار القرار. وقراءة العامة « النشأة » بالقصر. وقرأ مجاهد والحسن وابن كثير وأبو عمرو: « النشاءة » بالمد، وقد مضى في « العنكبوت » بيانه.

 

الآيات: 63 - 67 ( أفرأيتم ما تحرثون، أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون، لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون، إنا لمغرمون، بل نحن محرومون )

 

قوله تعالى: « أفرأيتم ما تحرثون » هذه حجة أخرى، أي أخبروني عما تحرثون من أرضكم فتطرحون فيها البذر، أنتم تنبتونه وتحصلونه زرعا فيكون فيه السنبل والحب أم نحن نفعل ذلك؟ وإنما منكم البذر وشق الأرض، فإذا أقررتم بأن إخراج السنبل من الحب ليس إليكم، فكيف تنكرون إخراج الأموات من الأرض وإعادتهم؟! وأضاف الحرث إليهم والزرع إليه تعالى، لأن الحرث فعلهم ويجري على اختيارهم، والزرع من فعل الله تعالى وينبت على اختياره لا على اختيارهم. وكذلك ما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا يقولن أحدكم زرعت وليقل حرثت فإن الزارع هو الله ) قال أبو هريرة: ألم تسمعوا قول الله تعالى: « أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون » والمستحب لكل من يلقي البذر في الأرض أن يقرأ بعد الاستعاذة « أفر أيتم ما تحرثون » الآية، ثم يقول: بل الله الزارع والمنبت والمبلغ، اللهم صلي على محمد، وارزقنا ثمره، وجنبنا ضرره، وأجعلنا لأنعمك من الشاكرين، ولآلائك من الذاكرين، وبارك لنا فيه يا رب العالمين. ويقال: إن هذا القول أمان لذلك الزرع من جميع الآفات: الدود والجراد وغير ذلك، سمعناه من ثقة وجرب فوجد كذلك. ومعنى « أأنتم تزرعونه » أي تجعلونه زرعا. وقد يقال: فلان زراع كما يقال حراث، أي يفعل ما يؤول إلى أن يكون زرعا يعجب الزراع. وقد يطلق لفظ الزرع على بذر الأرض وتكريبها تجوزا.

قلت: فهو نهي إرشاد وأدب لا نهي حظر وإيجاب، ومنه قوله عليه السلام: ( لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي وليقل غلامي وجاريتي وفتاي وفتاتي ) وقد مضى في « يوسف » القول فيه. وقد بالغ بعض العلماء فقال: لا يقل حرثت فأصبت، بل يقل: أعانني الله فحرثت، وأعطاني بفضله ما أصبت. قال الماوردي: وتتضمن هذه الآية أمرين، أحدهما: الامتنان عليهم بأن أنبت زرعهم حتى عاشوا به ليشكروه على نعمته عليهم. الثاني: البرهان الموجب للاعتبار، لأنه لما أنبت زرعهم بعد تلاشي بذره، وانتقال إلى استواء حال من العفن والتتريب حتى صار زرعا أخضر، ثم جعله قويا مشتدا أضعاف ما كان عليه، فهو بإعادة من أمات أخف عليه وأقدر، وفي هذا البرهان مقنع لذوي الفطر السليمة. ثم قال « لو نشاء لجعلناه حطاما » أي متكسرا يعني الزرع. والحطام الهشيم الهالك الذي لا ينتفع به في مطعم ولا غذاء، فنبه بذلك أيضا على أمرين: أحدهما: ما أولاهم به من النعم في زرعهم إذ لم يجعله حطاما ليشكروه. الثاني: ليعتبروا بذلك في أنفسهم، كما أنه يجعلا الزرع حطاما إذا شاء وكذلك يهلكهم إذا شاء ليتعظوا فينزجروا. « فظللتم تتفكهون » أي تعجبون بذهابها وتندمون مما حل بكم، قاله الحسن وقتادة وغيرهما. وفي الصحاح: وتفكه أي تعجب، ويقال: تندم، قال الله تعالى: « فظلتم تفكهون » أي تندمون. وتفكهت بالشيء تمتعت به. وقال يمان: تندمون على نفقاتكم، دليله: « فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها » [ الكهف: 42 ] وقال عكرمة: تلاومون وتندمون على ما سلف منكم من معصية الله التي أوجبت عقوبتكم حتى نالتكم في زرعكم. ابن كيسان: تحزنون، والمعنى متقارب. وفيه لغتان: تفكهون وتفكنون: قال الفراء: والنون لغة عكل. وفي الصحاح: التفكن التندم على ما فات. وقيل: التفكه التكلم فيما لا يعنيك، ومنه قيل للمزاج فكاهة بالضم، فأما الفكاهة بالفتح فمصدر فكه الرجل بالكسر فهو فكه إذا كان طيب النفس مزاحا. وقراءة العامة « فظلتم » بفتح الظاء. وقرأ عبدالله « فظلتم » بكسر الظاء ورواها هارون عن حسين عن أبي بكر. فمن فتح فعلى الأصل. والأصل ظللتم فحذف اللام الأولى تخفيفا، ومن كسر نقل كسرة اللام الأولى إلى الظاء ثم حذفها. « إنا لمغرمون » وقرأ أبو بكر والمفضل « أئنا » بهمزتين على الاستفهام، ورواه عاصم عن زر بن حبيش. الباقون بهمزة واحدة على الخبر، أي يقولون « إنا لمغرمون » أي معذبون، عن ابن عباس وقتادة قالا: والغرام العذاب، ومنه قول ابن المحلم:

وثقت بأن الحفظ مني سجية وأن فؤادي متبل بك مغرم

وقال مجاهد وعكرمة: لمولع بنا، ومنه قول النمر بن تولب:

سلا عن تذكره تكتما وكان رهينا بها مغرما

يقال: أغرم فلان بفلانة، أي أولع بها ومنه الغرام وهو الشر اللازم. وقال مجاهد أيضا: لملقون شرا. وقال مقاتل بن حيان: مهلكون. النحاس: « إنا لمغرمون » مأخوذ من الغرام وهو الهلال، كما قال:

يوم النسار ويوم الجفار كانا عذابا وكانا غراما

والضحاك وابن كيسان: هو من الغرم، والمغرم الذي ذهب ماله بغير عوض، أي غرمنا الحب الذي بذرناه. وقال مرة الهمداني: محاسبون. « بل نحن محرومون » أي حرث ما طلبنا من الريع. والمحروم الممنوع من الرزق. والمحروم ضد المرزوق وهو المحارف في قول قتادة. وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بأرض الأنصار فقال: ( ما يمنعكم من الحرث ) قالوا: الجدوبة، فقال: ( لا تفعلوا فإن الله تعالى يقول أنا الزارع إن شئت زرعت بالماء وإن شئت زرعت بالريح وإن شئت زرعت بالبذر ) ثم تلا « أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون » .

قلت: وفي هذا الخبر والحديث الذي قبله ما يصحح قول من أدخل الزارع في أسماء الله سبحانه، وأباه الجمهور من العلماء، وقد ذكرنا ذلك في ( الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى ) .

 

الآيات: 68 - 74 ( أفرأيتم الماء الذي تشربون، أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون، لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون، أفرأيتم النار التي تورون، أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون، نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين، فسبح باسم ربك العظيم )

 

قوله تعالى: « أفرأيتم الماء الذي تشربون » لتحيوا به أنفسكم، وتسكنوا به عطشكم، لأن الشراب إنما يكون تبعا للمطعوم، ولهذا جاء الطعام مقدما في الآية قبل، ألا ترى أنك تسقي ضيفك بعد أن تطعمه. الزمخشري: ولو عكست قعدت تحت قول أبي العلاء:

إذا سقيت ضيوف الناس محضا سقوا أضيافهم شبما زلالا

وسقي بعض العرب فقال: أنا لا أشرب إلا على ثميلة. « أأنتم أنزلتموه من المزن »

أي السحاب، الواحدة مزنة، فقال الشاعر:

فنحن كماء المزن ما في نصابنا كهام ولافينا يعد بخيل

وهذا قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما أن المزن السحاب. وعن ابن عباس أيضا والثوري: المزن السماء والسحاب. وفي الصحاح: أبو زيد: المزنة السحابة البيضاء والجمع مزن، والمزنة المطرة، قال:

ألم تر أن الله أنزل مزنة وعفر الظباء في الكناس تقمع

« أم نحن المنزلون » أي فإذا عرفتم بأني أنزلته فلم لا تشكروني بإخلاص العبادة لي؟ ولم تنكرون قدرتي على الإعادة؟. « لو نشاء جعلناه أجاجا » أي ملحا شديد الملوحة، قاله ابن عباس. الحسن: مرا قعاعا لا تنتفعون به في شرب ولا زرع ولا غيرهما. « فلولا تشكرون » أي فهلا تشكرون الذي صنع ذلك بكم.

 

قوله تعالى: « أفرأيتم النار التي تورون » أي أخبروني عن النار التي تظهرونها بالقدح من الشجر الرطب « أأنتم أنشأتم شجرتها » يعني التي تكون منها الزناد وهي المرخ والعفار، ومنه قولهم: في كل ش جر نار، واستمجد المرخ والعفار، أي استكثر منها، كأنهما أخذا من النار ما هو حسبهما. ويقال: لأنهما يسرعان الوري. يقال: أوريت النار إذا قدحتها. وورى الزند يري إذا أنقدح منه النار. وفيه لغة أخرى: ووري الزند يري بالكسر فيهما. « أم نحن المنشؤون » أي المخترعون الخالقون، أي فإذا عرفتم قدوتي فاشكروني ولا تنكروا قدرتي على البعث. « نحن جعلناها تذكرة » يعني نار الدنيا موعظة للنار الكبرى، قال قتادة. ومجاهد: تبصرة للناس من الظلام. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن ناركم هذه التي يوقد بنو آدم جزء من سبعين جزءا من نار جهنم ) فقالوا يا رسول الله: أن كانت لكافية، قال: ( فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها ) . « ومتاعا للمقوين » قال الضحاك: أي منفعة للمسافرين، سموا بذلك لنزولهم القوى وهو القفر. الفراء: إنما يقال للمسافرين: مقوين إذا نزلوا القي وهي الأرض القفر التي لا شيء فيها. وكذلك القوى والقواء بالمد والقصر، ومنزل قواء لا أنيس به، يقال: أقوت الدار وقويت أيضا أي خلت من سكانها، قال النابغة:

يا دار مية بالعلياء فالسند أقوت وطال عليها سالف الأمد

وقال عنترة:

حييت من طلل تقادم عهده أقوى وأقفر بعد أم الهيثم

ويقال: أقوى أي قوي وقوي أصحابه، وأقوى إذا سافر أي نزل القواء والقي. وقال مجاهد: « للمقوين » المستمتعين بها من الناس أجمعين في الطبخ والخبز والاصطلاء والاستضاءة، ويتذكر بها نار جهنم فيستجار بالله منها. وقال ابن زيد: للجائعين في، إصلاح طعامهم. يقال: أقويت منذ كذا وكذا، أي ما أكلت شيئا، وبات فلان القواء وبات القفر إذا بات جائعا على غير طعم، قال الشاعر:

وإني لأختار القوى طاوي الحشى محافظة من أن يقال لئيم

وقال الربيع والسدي: « المقوين » المنزلين الذين لا زناد معهم، يعني نارا يوقدون فيختبزون بها؟ ورواه العوفي عن ابن عباس. وقال قطرب: المقوي من الأضداد يكون بمعنى الفقير ويكون بمعنى الغني، يقال: أقوى الرجل إذا لم يكن معه زاد، وأقوى إذا قويت دوابه وكثر ماله. المهدوي: والآية تصلح للجميع، لأن النار يحتاج إليها المسافر والمقيم والغني والفقير. وحكى الثعلبي أن أكثر المفسرين على القول الأول. القشيري: وخص المسافر بالانتفاع بها لأن انتفاعه بها أكثر من منفعة المقيم، لأن أهل البادية لا بد لهم من النار يوقدونها ليلا لتهرب منهم السباع، وفي كثير من حوائجهم. « فسبح باسم ربك العظيم » أي فنزه الله عما أضافه إليه المشركون من الأنداد، والعجز عن البعث.

الآية [ 75 ] في الصفحة التالية ...