( قُلْ ) لهم، لائمًا على فرارهم، ومخبرًا أنهم لا يفيدهم ذلك شيئًا لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ فلو كنتم في بيوتكم، لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعكم.

والأسباب تنفع، إذا لم يعارضها القضاء والقدر، فإذا جاء القضاء والقدر، تلاشى كل سبب، وبطلت كل وسيلة، ظنها الإنسان تنجيه.

وَإِذًا حين فررتم لتسلموا من الموت والقتل، ولتنعموا في الدنيا فإنكم لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا متاعًا، لا يسوى فراركم، وترككم أمر اللّه، وتفويتكم على أنفسكم، التمتع الأبدي، في النعيم السرمدي.

ثم بين أن الأسباب كلها لا تغني عن العبد شيئًا إذا أراده اللّه بسوء، فقال: قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ أي: يمنعكم مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أي: شرًا، أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً فإنه هو المعطي المانع، الضار النافع، الذي لا يأتي بالخير إلا هو، ولا يدفع السوء إلا هو.

وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا يتولاهم، فيجلب لهم النفع وَلا نَصِيرًا أي ينصرهم، فيدفع عنهم المضار.

فَلْيَمْتَثِلُوا طاعة المنفرد بالأمور كلها، الذي نفذت مشيئته، ومضى قدره، ولم ينفع مع ترك ولايته ونصرته، وَلِيٌّ ولا ناصر.

ثم توَّعد تعالى المخذلين المعوقين، وتهددهم فقال: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ عن الخروج، لمن [ لم ] يخرجوا وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ الذين خرجوا: هَلُمَّ إِلَيْنَا أي: ارجعوا، كما تقدم من قولهم: يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا

وهم مع تعويقهم وتخذيلهم وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ أي: القتال والجهاد بأنفسهم إِلا قَلِيلا فهم أشد الناس حرصًا على التخلف، لعدم الداعي لذلك، من الإيمان والصبر، ووجود المقتضى للجبن، من النفاق، وعدم الإيمان.

أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ بأبدانهم عند القتال، وبأموالهم عند النفقة فيه، فلا يجاهدون بأموالهم وأنفسهم. فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نظر المغشى عليه مِنَ الْمَوْتِ من شدة الجبن، الذي خلع قلوبهم، والقلق الذي أذهلهم، وخوفًا من إجبارهم على ما يكرهون، من القتال.

فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ وصاروا في حال الأمن والطمأنينة، سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ أي: خاطبوكم، وتكلموا معكم، بكلام حديد، ودعاوى غير صحيحة.

وحين تسمعهم، تظنهم أهل الشجاعة والإقدام، أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ الذي يراد منهم، وهذا شر ما في الإنسان، أن يكون شحيحًا بما أمر به، شحيحًا بماله أن ينفقه في وجهه، شحيحًا في بدنه أن يجاهد أعداء اللّه، أو يدعو إلى سبيل اللّه، شحيحًا بجاهه، شحيحًا بعلمه، ونصيحته ورأيه.

أُولَئِكَ الذين بتلك الحالة لَمْ يُؤْمِنُوا بسبب عدم إيمانهم، أحبط الله أعمالهم، وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا

وأما المؤمنون، فقد وقاهم اللّه، شح أنفسهم، ووفقهم لبذل ما أمروا به، من بذل لأبدانهم في القتال في سبيله، وإعلاء كلمته، وأموالهم، للنفقة في طرق الخير، وجاههم وعلمهم.

يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا أي: يظنون أن هؤلاء الأحزاب، الذين تحزبوا على حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وأصحابه، لم يذهبوا حتى يستأصلوهم، فخاب ظنهم، وبطل حسبانهم.

وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ مرة أخرى يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ أي: لو أتى الأحزاب مرة ثانية مثل هذه المرة، ودَّ هؤلاء المنافقون، أنهم ليسوا في المدينة، ولا في القرب منها، وأنهم مع الأعراب في البادية، يستخبرون عن أخباركم، ويسألون عن أنبائكم، ماذا حصل عليكم؟

فتبًا لهم، وبعدًا، فليسوا ممن يبالى بحضورهم وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلا قَلِيلا فلا تبالوهم، ولا تأسوا عليهم.

لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ حيث حضر الهيجاء بنفسه الكريمة، وباشر موقف الحرب، وهو الشريف الكامل، والبطل الباسل، فكيف تشحون بأنفسكم، عن أمر جاد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، بنفسه فيه؟ «

» فَتأَسَّوْا به في هذا الأمر وغيره.

واستدل الأصوليون في هذه الآية، على الاحتجاج بأفعال الرسول صلى اللّه عليه وسلم، وأن الأصل، أن أمته أسوته في الأحكام، إلا ما دل الدليل الشرعي على الاختصاص به.

فالأسوة نوعان: أسوة حسنة، وأسوة سيئة.

فالأسوة الحسنة، في الرسول صلى اللّه عليه وسلم، فإن المتأسِّي به، سالك الطريق الموصل إلى كرامة اللّه، وهو الصراط المستقيم.

وأما الأسوة بغيره، إذا خالفه، فهو الأسوة السيئة، كقول الكفار حين دعتهم الرسل للتأسِّي [ بهم ] إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ

وهذه الأسوة الحسنة، إنما يسلكها ويوفق لها، من كان يرجو اللّه، واليوم الآخر، فإن ما معه من الإيمان، وخوف اللّه، ورجاء ثوابه، وخوف عقابه، يحثه على التأسي بالرسول صلى اللّه عليه وسلم.

لما ذكر حالة المنافقين عند الخوف، ذكر حال المؤمنين فقال: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ الذين تحزبوا، ونزلوا منازلهم، وانتهى الخوف، قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ في قوله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ

وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فإنا رأينا، ما أخبرنا به وَمَا زَادَهُمْ ذلك الأمر إِلا إِيمَانًا في قلوبهم وَتَسْلِيمًا في جوارحهم، وانقيادًا لأمر اللّه.