الجزء 19

 

وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا ( 21 ) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا ( 22 ) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ( 23 ) .

أي: قال المكذبون للرسول المكذبون بوعد الله ووعيده الذين ليس في قلوبهم خوف الوعيد ولا رجاء لقاء الخالق.

( لَوْلا أُنزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا ) أي: هلا نزلت الملائكة تشهد لك بالرسالة وتؤيدك عليها أو تنزل رسلا مستقلين، أو نرى ربنا فيكلمنا ويقول: هذا رسولي فاتبعوه؟ وهذا معارضة للرسول بما ليس بمعارض بل بالتكبر والعلو والعتو.

( لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ) حيث اقترحوا هذا الاقتراح وتجرأوا هذه الجرأة، فمن أنتم يا فقراء ويا مساكين حتى تطلبوا رؤية الله وتزعموا أن الرسالة متوقف ثبوتها على ذلك؟ وأي كبر أعظم من هذا؟.

( وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا ) أي: قسوا وصلبوا عن الحق قساوة عظيمة، فقلوبهم أشد من الأحجار وأصلب من الحديد لا تلين للحق، ولا تصغي للناصحين فلذلك لم ينجع فيهم وعظ ولا تذكير ولا اتبعوا الحق حين جاءهم النذير، بل قابلوا أصدق الخلق وأنصحهم وآيات الله البينات بالإعراض والتكذيب والمعارضة، فأي عتو أكبر من هذا العتو؟ « ولذلك بطلت أعمالهم واضمحلت، وخسروا أشد الخسران، وحرموا غاية الحرمان.

» ( يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ ) التي اقترحوا نزولها ( لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ ) وذلك أنهم لا يرونها مع استمرارهم على جرمهم وعنادهم إلا لعقوبتهم وحلول البأس بهم، فأول ذلك عند الموت إذا تنزلت عليهم الملائكة قال الله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ثم في القبر حيث يأتيهم منكر ونكير فيسألهم عن ربهم ونبيهم ودينهم فلا يجيبون جوابا ينجيهم فيحلون بهم النقمة، وتزول عنهم بهم الرحمة، ثم يوم القيامة حين تسوقهم الملائكة إلى النار ثم يسلمونهم لخزنة جهنم الذين يتولون عذابهم ويباشرون عقابهم، فهذا الذي اقترحوه وهذا الذي طلبوه إن استمروا على إجرامهم لا بد أن يروه ويلقوه، وحينئذ يتعوذون من الملائكة ويفرون ولكن لا مفر لهم.

( وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا ) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ .

( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ ) أي: أعمالهم التي رجوا أن تكون خيرا لهم وتعبوا فيها، ( فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ) أي باطلا مضمحلا قد خسروه وحرموا أجره وعوقبوا عليه وذلك لفقده الإيمان وصدوره عن مكذب لله ورسله، فالعمل الذي يقبله الله، ما صدر عن المؤمن المخلص المصدق للرسل المتبع لهم فيه.

أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا ( 24 ) .

أي: في ذلك اليوم الهائل كثير البلابل ( أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ) الذين آمنوا بالله وعملوا صالحا واتقوا ربهم ( خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا ) من أهل النار ( وَأَحْسَنُ مَقِيلا ) أي: مستقرهم في الجنة وراحتهم التي هي القيلولة، هو المستقر النافع والراحة التامة لاشتمال ذلك على تمام النعيم الذي لا يشوبه كدر، بخلاف أصحاب النار فإن جهنم ساءت مستقرا ومقيلا وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل، فيما ليس في الطرف الآخر منه شيء لأنه لا خير في مقيل أهل النار ومستقرهم كقوله: آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ .

وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلا ( 25 ) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا ( 26 ) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا ( 27 ) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا ( 28 ) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولا ( 29 ) .

يخبر تعالى عن عظمة يوم القيامة وما فيه من الشدة والكروب، ومزعجات القلوب فقال: ( وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ ) وذلك الغمام الذي ينزل الله فيه، ينزل من فوق السماوات فتنفطر له السماوات وتشقق وتنزل ملائكة كل سماء فيقفون صفا صفا، إما صفا واحدا محيطا بالخلائق، وإما كل سماء يكونون صفا ثم السماء التي تليها صفا وهكذا.

القصد أن الملائكة - على كثرتهم وقوتهم- ينزلون محيطين بالخلق مذعنين لأمر ربهم لا يتكلم منهم أحد إلا بإذن من الله، فما ظنك بالآدمي الضعيف خصوصا الذي بارز مالكه بالعظائم، وأقدم على مساخطه ثم قدم عليه بذنوب وخطايا لم يتب منها، فيحكم فيه الملك الحق بالحكم الذي لا يجور ولا يظلم مثقال ذرة ولهذا قال: ( وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا ) لصعوبته الشديدة وتعسر أموره عليه، بخلاف المؤمن فإنه يسير عليه خفيف الحمل.

يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا .

وقوله: ( الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ) أي: يوم القيامة ( الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ ) لا يبقى لأحد من المخلوقين ملك ولا صورة ملك، كما كانوا في الدنيا، بل قد تساوت الملوك ورعاياهم والأحرار والعبيد والأشراف وغيرهم، ومما يرتاح له القلب، وتطمئن به النفس وينشرح له الصدر أن أضاف الملك في يوم القيامة لاسمه « الرحمن » الذي وسعت رحمته كل شيء وعمت كل حي وملأت الكائنات وعمرت بها الدنيا والآخرة، وتم بها كل ناقص وزال بها كل نقص، وغلبت الأسماء الدالة عليه الأسماء الدالة على الغضب وسبقت رحمته غضبه وغلبته، فلها السبق والغلبة، وخلق هذا الآدمي الضعيف وشرفه وكرمه ليتم عليه نعمته، وليتغمده برحمته، وقد حضروا في موقف الذل والخضوع والاستكانة بين يديه ينتظرون ما يحكم فيهم وما يجري عليهم وهو أرحم بهم من أنفسهم ووالديهم فما ظنك بما يعاملهم به، ولا يهلك على الله إلا هالك ولا يخرج من رحمته إلا من غلبت عليه الشقاوة وحقت عليه كلمة العذاب.

( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ ) بشركه وكفره وتكذيبه للرسل ( عَلَى يَدَيْهِ ) تأسفا وتحسرا وحزنا وأسفا. ( يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا ) أي طريقا بالإيمان به وتصديقه واتباعه.

( يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا ) وهو الشيطان الإنسي أو الجني، ( خَلِيلا ) أي: حبيبا مصافيا عاديت أنصح الناس لي، وأبرهم بي وأرفقهم بي، وواليت أعدى عدو لي الذي لم تفدني ولايته إلا الشقاء والخسار والخزي والبوار.

( لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ) حيث زين له ما هو عليه من الضلال بخدعه وتسويله. ( وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنْسَانِ خَذُولا ) يزين له الباطل ويقبح له الحق، ويعده الأماني ثم يتخلى عنه ويتبرأ منه كما قال لجميع أتباعه حين قضي الأمر، وفرغ الله من حساب الخلق وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ الآية. فلينظر العبد لنفسه وقت الإمكان وليتدارك الممكن قبل أن لا يمكن، وليوال من ولايته فيها سعادته وليعاد من تنفعه عداوته وتضره صداقته. والله الموفق.

وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ( 30 ) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ( 31 ) .

( وَقَالَ الرَّسُولُ ) مناديا لربه وشاكيا له إعراض قومه عما جاء به، ومتأسفا على ذلك منهم: ( يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي ) الذي أرسلتني لهدايتهم وتبليغهم، ( اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ) أي: قد أعرضوا عنه وهجروه وتركوه مع أن الواجب عليهم الانقياد لحكمه والإقبال على أحكامه، والمشي خلفه، قال الله مسليا لرسوله ومخبرا أن هؤلاء الخلق لهم سلف صنعوا كصنيعهم فقال: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ ) أي: من الذين لا يصلحون للخير ولا يزكون عليه يعارضونهم ويردون عليهم ويجادلونهم بالباطل.

من بعض فوائد ذلك أن يعلو الحق على الباطل وأن يتبين الحق ويتضح اتضاحا عظيما لأن معارضة الباطل للحق مما تزيده وضوحا وبيانا وكمال استدلال وأن يتبين ما يفعل الله بأهل الحق من الكرامة وبأهل الباطل من العقوبة، فلا تحزن عليهم ولا تذهب نفسك عليهم حسرات ( وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا ) يهديك فيحصل لك المطلوب ومصالح دينك ودنياك. ( وَنَصِيرًا ) ينصرك على أعدائك ويدفع عنك كل مكروه في أمر الدين والدنيا فاكتف به وتوكل عليه.

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا ( 32 ) .

هذا من جملة مقترحات الكفار الذي توحيه إليهم أنفسهم فقالوا: ( لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ) أي: كما أنزلت الكتب قبله، وأي محذور من نزوله على هذا الوجه؟ بل نزوله على هذا الوجه أكمل وأحسن، ولهذا قال: ( كَذَلِكَ ) أنزلناه متفرقا ( لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ) لأنه كلما نزل عليه شيء من القرآن ازداد طمأنينة وثباتا وخصوصا عند ورود أسباب القلق فإن نزول القرآن عند حدوث السبب يكون له موقع عظيم وتثبيت كثير أبلغ مما لو كان نازلا قبل ذلك ثم تذكره عند حلول سببه.

( وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا ) أي: مهلناه ودرجناك فيه تدريجا. وهذا كله يدل على اعتناء الله بكتابه القرآن وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم حيث جعل إنزال كتابه جاريا على أحوال الرسول ومصالحه الدينية.

 

وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ( 33 ) .

ولهذا قال: ( وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ ) يعارضون به الحق ويدفعون به رسالتك، ( إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ) أي: أنزلنا عليك قرآنا جامعا للحق في معانيه والوضوح والبيان التام في ألفاظه، فمعانيه كلها حق وصدق لا يشوبها باطل ولا شبهة بوجه من الوجوه، وألفاظه وحدوده للأشياء أوضح ألفاظا وأحسن تفسيرا مبين للمعاني بيانا كاملا.

وفي هذه الآية دليل على أنه ينبغي للمتكلم في العلم من محدث ومعلم، وواعظ أن يقتدي بربه في تدبيره حال رسوله، كذلك العالم يدبر أمر الخلق فكلما حدث موجب أو حصل موسم، أتى بما يناسب ذلك من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والمواعظ الموافقة لذلك.

وفيه رد على المتكلفين من الجهمية ونحوهم ممن يرى أن كثيرا من نصوص القرآن محمولة على غير ظاهرها ولها معان غير ما يفهم منها، فإذا - على قولهم- لا يكون القرآن أحسن تفسيرا من غيره، وإنما التفسير الأحسن - على زعمهم- تفسيرهم الذي حرفوا له المعاني تحريفا.

الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلا ( 34 ) .

يخبر تعالى عن حال المشركين الذين كذبوا رسوله وسوء مآلهم، وأنهم ( يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ ) أشنع مرأى، وأفظع منظر تسحبهم ملائكة العذاب ويجرونهم ( إِلَى جَهَنَّمَ ) الجامعة لكل عذاب وعقوبة. ( أُولَئِكَ ) الذين بهذه الحالة ( شَرٌّ مَكَانًا ) ممن آمن بالله وصدق رسله، ( وَأَضَلُّ سَبِيلا ) وهذا من باب استعمال أفضل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر منه شيء فإن المؤمنين حسن مكانهم ومستقرهم، واهتدوا في الدنيا إلى الصراط المستقيم وفي الآخرة إلى الوصول إلى جنات النعيم.

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا ( 35 ) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا ( 36 ) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ( 37 ) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا ( 38 ) وَكُلا ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا ( 39 ) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا ( 40 ) .

أشار تعالى إلى هذه القصص وقد بسطها في آيات أخر ليحذر المخاطبين من استمرارهم على تكذيب رسولهم فيصيبهم ما أصاب هؤلاء الأمم الذين قريبا منهم ويعرفون قصصهم بما استفاض واشتهر عنهم.

ومنهم من يرون آثارهم عيانا كقوم صالح في الحجر وكالقرية التي أمطرت مطر السوء بحجارة من سجيل يمرون عليهم مصبحين وبالليل في أسفارهم، فإن أولئك الأمم ليسوا شرا منهم ورسلهم ليسوا خيرا من رسول هؤلاء أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ ولكن الذي منع هؤلاء من الإيمان - مع ما شاهدوا من الآيات- أنهم كانوا لا يرجون بعثا ولا نشورا، فلا يرجون لقاء ربهم ولا يخشون نكاله فلذلك استمروا على عنادهم، وإلا فقد جاءهم من الآيات ما لا يبقى معه شك ولا شبهة ولا إشكال ولا ارتياب.

وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا ( 41 ) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا ( 42 ) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا ( 43 ) .

أي: وإذا رآك يا محمد هؤلاء المكذبون لك المعاندون لآيات [ الله ] المستكبرون في الأرض استهزءوا بك واحتقروك وقالوا - على وجه الاحتقار والاستصغار- ( أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا ) أي: غير مناسب ولا لائق أن يبعث الله هذا الرجل، وهذا من شدة ظلمهم وعنادهم وقلبهم الحقائق فإن كلامهم هذا يفهم أن الرسول - حاشاه- في غاية الخسة والحقارة وأنه لو كانت الرسالة لغيره لكان أنسب.

وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ فهذا الكلام لا يصدر إلا من أجهل الناس وأضلهم، أو من أعظمهم عنادا وهو متجاهل، قصده ترويج ما معه من الباطل بالقدح بالحق وبمن جاء به، وإلا فمن تدبر أحوال محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وجده رجل العالم وهمامهم ومقدمهم في العقل والعلم واللب والرزانة، ومكارم الأخلاق ومحاسن الشيم والعفة والشجاعة والكرم وكل خلق فاضل، وأن المحتقر له والشانئ له قد جمع من السفه والجهل والضلال والتناقض والظلم والعدوان ما لا يجمعه غيره، وحسبه جهلا وضلالا أن يقدح بهذا الرسول العظيم والهمام الكريم.

والقصد من قدحهم فيه واستهزائهم به تصلبهم على باطلهم وغرورا لضعفاء العقول ولهذا قالوا: ( إِنْ كَادَ ) هذا الرجل ( لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا ) بأن يجعل الآلهة إلها واحدا ( لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا ) لأضلنا زعموا - قبحهم الله- أن الضلال هو التوحيد وأن الهدى ما هم عليه من الشرك فلهذا تواصوا بالصبر عليه. وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ .

وهنا قالوا: ( لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا ) والصبر يحمد في المواضع كلها، إلا في هذا الموضع فإنه صبر على أسباب الغضب وعلى الاستكثار من حطب جهنم. وأما المؤمنون فهم كما قال الله عنهم: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ولما كان هذا حكما منهم بأنهم المهتدون والرسول ضال وقد تقرر أنهم لا حيلة فيهم توعدهم بالعذاب وأخبر أنهم في ذلك الوقت ( حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ ) يعلمون علما حقيقيا ( مَنْ ) هو ( أَضَلُّ سَبِيلا ) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا الآيات.

وهل فوق ضلال من جعل إلهه معبوده [ هواه ] فما هويه فعله فلهذا قال: ( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ) ألا تعجب من حاله وتنظر ما هو فيه من الضلال؟ وهو يحكم لنفسه بالمنازل الرفيعة؟

( أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا ) أي: لست عليه بمسيطر مسلط بل إنما أنت منذر، وقد قمت بوظيفتك وحسابه على الله.

 

أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا ( 44 ) .

ثم سجل تعالى على ضلالهم البليغ بأن سلبهم العقول والأسماع وشبههم في ضلالهم بالأنعام السائمة التي لا تسمع إلا دعاء ونداء، صم بكم عمي فهم لا يعقلون بل هم أضل من الأنعام لأن الأنعام يهديها راعيها فتهتدي وتعرف طريق هلاكها فتجتنبه وهي أيضا أسلم عاقبة من هؤلاء، فتبين بهذا أن الرامي للرسول بالضلال أحق بهذا الوصف وأن كل حيوان بهيم فهو أهدى منه.

أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا ( 45 ) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا ( 46 ) .

أي: ألم تشاهد ببصرك وبصيرتك كمال قدرة ربك وسعة رحمته، أنه مد على العباد الظل وذلك قبل طلوع الشمس ( ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ ) أي: على الظل ( دَلِيلا ) فلولا وجود الشمس لما عرف الظل فإن الضد يعرف بضده.

( ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا ) فكلما ارتفعت الشمس تقلص الظل شيئا فشيئا، حتى يذهب بالكلية فتوالي الظل والشمس على الخلق الذي يشاهدونه عيانا وما يترتب على ذلك من اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما وتعاقب الفصول، وحصول المصالح الكثيرة بسبب ذلك- من أدل دليل على قدرة الله وعظمته وكمال رحمته وعنايته بعباده وأنه وحده المعبود المحمود المحبوب المعظم، ذو الجلال والإكرام.

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا ( 47 ) .

أي: من رحمته بكم ولطفه أن جعل الليل لكم بمنزلة اللباس الذي يغشاكم، حتى تستقروا فيه وتهدؤوا بالنوم وتسبت حركاتكم أي: تنقطع عند النوم، فلولا الليل لما سكن العباد ولا استمروا في تصرفهم فضرهم ذلك غاية الضرر، ولو استمر أيضا الظلام لتعطلت عليهم معايشهم ومصالحهم، ولكنه جعل النهار نشورا ينتشرون فيه لتجاراتهم وأسفارهم وأعمالهم فيقوم بذلك ما يقوم من المصالح.

وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ( 48 ) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا ( 49 ) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا ( 50 ) .

أي: هو وحده الذي رحم عباده وأدر عليهم رزقه بأن أرسل الرياح مبشرات بين يدي رحمته وهو المطر فثار بها السحاب وتألف وصار كسفا وألقحته وأدرته بإذن آمرها والمتصرف فيها ليقع استبشار العباد بالمطر قبل نزوله وليستعدوا له قبل أن يفاجئهم دفعة واحدة.

( وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ) يطهر من الحدث والخبث ويطهر من الغش والأدناس، وفيه بركة من بركته أنه أنزله ليحيي به بلدة ميتا فتختلف أصناف النوابت والأشجار فيها مما يأكل الناس والأنعام. ( وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا ) أي: نسقيكموه أنتم وأنعامكم، أليس الذي أرسل الرياح المبشرات وجعلها في عملها متنوعات، وأنزل من السماء ماء طهورا مباركا فيه رزق العباد ورزق بهائمهم، هو الذي يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك معه غيره؟

ولما ذكر تعالى هذه الآيات العيانية المشاهدة وصرفها للعباد ليعرفوه ويشكروه ويذكروه مع ذلك أبي أكثر الخلق إلا كفورا، لفساد أخلاقهم وطبائعهم.

وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا ( 51 ) فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ( 52 ) .

يخبر تعالى عن نفوذ مشيئته وأنه لو شاء لبعث في كل قرية نذيرا، أي: رسولا ينذرهم ويحذرهم فمشيئته غير قاصرة عن ذلك، ولكن اقتضت حكمته ورحمته بك وبالعباد - يا محمد- أن أرسلك إلى جميعهم أحمرهم وأسودهم عربيهم وعجميهم إنسهم وجنهم.

( فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ ) في ترك شيء مما أرسلت به بل ابذل جهدك في تبليغ ما أرسلت به. ( وَجَاهِدْهُمْ ) بالقرآن ( جِهَادًا كَبِيرًا ) أي: لا تبق من مجهودك في نصر الحق وقمع الباطل إلا بذلته ولو رأيت منهم من التكذيب والجراءة ما رأيت فابذل جهدك واستفرغ وسعك، ولا تيأس من هدايتهم ولا تترك إبلاغهم لأهوائهم.

وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا ( 53 ) .

أي: وهو وحده الذي مرج البحرين يلتقيان البحر العذب وهي الأنهار السارحة على وجه الأرض والبحر الملح وجعل منفعة كل واحد منهما مصلحة للعباد، ( وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا ) أي: حاجزا يحجز من اختلاط أحدهما بالآخر فتذهب المنفعة المقصودة منها ( وَحِجْرًا مَحْجُورًا ) أي: حاجزا حصينا.

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ( 54 ) .

أي: وهو الله وحده لا شريك له الذي خلق الآدمي من ماء مهين، ثم نشر منه ذرية كثيرة وجعلهم أنسابا وأصهارا متفرقين ومجتمعين، والمادة كلها من ذلك الماء المهين، فهذا يدل على كمال اقتداره لقوله: ( وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ) ويدل على أن عبادته هي الحق وعبادة غيره باطلة لقوله:

وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ( 55 ) .

أي: يعبدون أصناما وأمواتا لا تضر ولا تنفع ويجعلونها أندادا لمالك النفع والضرر والعطاء والمنع مع أن الواجب عليهم أن يكونوا مقتدين بإرشادات ربهم ذابين عن دينه، ولكنهم عكسوا القضية.

( وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ) فالباطل الذي هو الأوثان والأنداد أعداء لله، فالكافر عاونها وظاهرها على ربها وصار عدوا لربه مبارزا له في العداوة والحرب، هذا وهو الذي خلقه ورزقه وأنعم عليه بالنعم الظاهرة والباطنة، وليس يخرج عن ملكه وسلطانه وقبضته والله لم يقطع عنه إحسانه وبره وهو - بجهله- مستمر على هذه المعاداة والمبارزة.

 

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ( 56 ) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا ( 57 ) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ( 58 ) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ( 59 ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ( 60 ) .

يخبر تعالى: أنه ما أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم مسيطرا على الخلق ولا جعله ملكا ولا عنده خزائن الأشياء، وإنما أرسله ( مُبَشِّرًا ) يبشر من أطاع الله بالثواب العاجل والآجل، ( وَنَذِيرًا ) ينذر من عصى الله بالعقاب العاجل والآجل وذلك مستلزم لتبيين ما به البشارة وما تحصل به النذارة من الأوامر والنواهي، وإنك - يا محمد- لا تسألهم على إبلاغهم القرآن والهدى أجرا حتى يمنعهم ذلك من اتباعك ويتكلفون من الغرامة، ( إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا ) أي: إلا من شاء أن ينفق نفقة في مرضاة ربه وسبيله فهذا وإن رغبتكم فيه فلست أجبركم عليه وليس أيضا أجرا لي عليكم وإنما هو راجع لمصلحتكم وسلوككم للسبيل الموصلة إلى ربكم، ثم أمره أن يتوكل عليه ويستعين به فقال: ( وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ ) الذي له الحياة الكاملة المطلقة ( الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ ) أي: اعبده وتوكل عليه في الأمور المتعلقة بك والمتعلقة بالخلق. ( وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ) يعلمها ويجازي عليها.

فأنت ليس عليك من هداهم شيء وليس عليك حفظ أعمالهم، وإنما ذلك كله بيد الله ( الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى ) بعد ذلك ( عَلَى الْعَرْشِ ) الذي هو سقف المخلوقات وأعلاها وأوسعها وأجملها ( الرَّحْمَنُ ) استوى على عرشه الذي وسع السماوات والأرض باسمه الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء فاستوى على أوسع المخلوقات، بأوسع الصفات. فأثبت بهذه الآية خلقه للمخلوقات واطلاعه على ظاهرهم وباطنهم وعلوه فوق العرش ومباينته إياهم.

( فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ) يعني بذلك نفسه الكريمة فهو الذي يعلم أوصافه وعظمته وجلاله، وقد أخبركم بذلك وأبان لكم من عظمته ما تستعدون به من معرفته فعرفه العارفون وخضعوا لجلاله، واستكبر عن عبادته الكافرون واستنكفوا عن ذلك ولهذا قال: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ ) أي: وحده الذي أنعم عليكم بسائر النعم ودفع عنكم جميع النقم. ( قَالُوا ) جحدا وكفرا ( وَمَا الرَّحْمَنُ ) بزعمهم الفاسد أنهم لا يعرفون الرحمن، وجعلوا من جملة قوادحهم في الرسول أن قالوا: ينهانا عن اتخاذ آلهة مع الله وهو يدعو معه إلها آخر يقول: « يا رحمن » ونحو ذلك كما قال تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فأسماؤه تعالى كثيرة لكثرة أوصافه وتعدد كماله، فكل واحد منها دل على صفة كمال.

( أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا ) أي: لمجرد أمرك إيانا. وهذا مبني منهم على التكذيب بالرسول واستكبارهم عن طاعته، ( وَزَادَهُمْ ) دعوتهم إلى السجود للرحمن ( نُفُورًا ) هربا من الحق إلى الباطل وزيادة كفر وشقاء.

تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا ( 61 ) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ( 62 ) .

كرر تعالى في هذه السورة الكريمة قوله: ( تَبَارَكَ ) ثلاث مرات لأن معناها كما تقدم أنها تدل على عظمة الباري وكثرة أوصافه، وكثرة خيراته وإحسانه. وهذه السورة فيها من الاستدلال على عظمته وسعة سلطانه ونفوذ مشيئته وعموم علمه وقدرته وإحاطة ملكه في الأحكام الأمرية والأحكام الجزائية وكمال حكمته. وفيها ما يدل على سعة رحمته وواسع جوده وكثرة خيراته الدينية والدنيوية ما هو مقتض لتكرار هذا الوصف الحسن فقال: ( تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا ) وهي النجوم عمومها أو منازل الشمس والقمر التي تنزلها منزلة منزلة وهي بمنزلة البروج والقلاع للمدن في حفظها، كذلك النجوم بمنزلة البروج المجعولة للحراسة فإنها رجوم للشياطين.

( وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا ) فيه النور والحرارة وهو الشمس. ( وَقَمَرًا مُنِيرًا ) فيه النور لا الحرارة وهذا من أدلة عظمته، وكثرة إحسانه، فإن ما فيها من الخلق الباهر والتدبير المنتظم والجمال العظيم دال على عظمة خالقها في أوصافه كلها، وما فيها من المصالح للخلق والمنافع دليل على كثرة خيراته.

( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً ) أي: يذهب أحدهما فيخلفه الآخر، هكذا أبدا لا يجتمعان ولا يرتفعان، ( لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ) أي: لمن أراد أن يتذكر بهما ويعتبر ويستدل بهما على كثير من المطالب الإلهية ويشكر الله على ذلك، ولمن أراد أن يذكر الله ويشكره وله ورد من الليل أو النهار، فمن فاته ورده من أحدهما أدركه في الآخر، وأيضا فإن القلوب تتقلب وتنتقل في ساعات الليل والنهار فيحدث لها النشاط والكسل والذكر والغفلة والقبض والبسط والإقبال والإعراض، فجعل الله الليل والنهار يتوالى على العباد ويتكرران ليحدث لهم الذكر والنشاط والشكر لله في وقت آخر، ولأن أوراد العبادات تتكرر بتكرر الليل والنهار، فكما تكررت الأوقات أحدث للعبد همة غير همته التي كسلت في الوقت المتقدم فزاد في تذكرها وشكرها، فوظائف الطاعات بمنزلة سقي الإيمان الذي يمده فلولا ذلك لذوى غرس الإيمان ويبس. فلله أتم حمد وأكمله على ذلك.

ثم ذكر من جملة كثرة خيره منته على عباده الصالحين وتوفيقهم للأعمال الصالحات التي أكسبتهم المنازل العاليات في غرف الجنات فقال:

وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ( 63 ) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ( 64 ) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ( 65 ) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ( 66 - 77 ) إلى آخر السورة الكريمة.

العبودية لله نوعان: عبودية لربوبيته فهذه يشترك فيها سائر الخلق مسلمهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، فكلهم عبيد لله مربوبون مدبرون إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا وعبودية لألوهيته وعبادته ورحمته وهي عبودية أنبيائه وأوليائه وهي المراد هنا ولهذا أضافها إلى اسمه « الرحمن » إشارة إلى أنهم إنما وصلوا إلى هذه الحال بسبب رحمته، فذكر أن صفاتهم أكمل الصفات ونعوتهم أفضل النعوت، فوصفهم بأنهم ( يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) أي: ساكنين متواضعين لله والخلق فهذا وصف لهم بالوقار والسكينة والتواضع لله ولعباده. ( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ ) أي: خطاب جهل بدليل إضافة الفعل وإسناده لهذا الوصف، ( قَالُوا سَلامًا ) أي: خاطبوهم خطابا يسلمون فيه من الإثم ويسلمون من مقابلة الجاهل بجهله. وهذا مدح لهم، بالحلم الكثير ومقابلة المسيء بالإحسان والعفو عن الجاهل ورزانة العقل الذي أوصلهم إلى هذه الحال.

( وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ) أي: يكثرون من صلاة الليل مخلصين فيها لربهم متذللين له كما قال تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ .

( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ ) أي: ادفعه عنا بالعصمة من أسبابه ومغفرة ما وقع منا مما هو مقتض للعذاب. ( إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ) أي: ملازما لأهلها بمنزلة ملازمة الغريم لغريمه.

( إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ) وهذا منهم على وجه التضرع لربهم، وبيان شدة حاجتهم إليه وأنهم ليس في طاقتهم احتمال هذا العذاب، وليتذكروا منة الله عليهم، فإن صرف الشدة بحسب شدتها وفظاعتها يعظم وقعها ويشتد الفرح بصرفها.

( وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا ) النفقات الواجبة والمستحبة ( لَمْ يُسْرِفُوا ) بأن يزيدوا على الحد فيدخلوا في قسم التبذير وإهمال الحقوق الواجبة، ( وَلَمْ يَقْتُرُوا ) فيدخلوا في باب البخل والشح ( وَكَانَ ) إنفاقهم ( بَيْنَ ذَلِكَ ) بين الإسراف والتقتير ( قَوَامًا ) يبذلون في الواجبات من الزكوات والكفارات والنفقات الواجبة، وفيما ينبغي على الوجه الذي ينبغي من غير ضرر ولا ضرار وهذا من عدلهم واقتصادهم.

 

وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ بل يعبدونه وحده مخلصين له الدين حنفاء مقبلين عليه معرضين عما سواه.

وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ وهي نفس المسلم والكافر المعاهد، إِلا بِالْحَقِّ كقتل النفس بالنفس وقتل الزاني المحصن والكافر الذي يحل قتله.

وَلا يَزْنُونَ بل يحفظون فروجهم إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ أي: الشرك بالله أو قتل النفس التي حرم الله بغير حق أو الزنا فسوف يَلْقَ أَثَامًا ثم فسره بقوله: يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ أي: في العذاب مُهَانًا فالوعيد بالخلود لمن فعلها كلها ثابت لا شك فيه وكذا لمن أشرك بالله، وكذلك الوعيد بالعذاب الشديد على كل واحد من هذه الثلاثة لكونها إما شرك وإما من أكبر الكبائر.

وأما خلود القاتل والزاني في العذاب فإنه لا يتناوله الخلود لأنه قد دلت النصوص القرآنية والسنة النبوية أن جميع المؤمنين سيخرجون من النار ولا يخلد فيها مؤمن ولو فعل من المعاصي ما فعل، ونص تعالى على هذه الثلاثة لأنها من أكبر الكبائر: فالشرك فيه فساد الأديان، والقتل فيه فساد الأبدان والزنا فيه فساد الأعراض.

إِلا مَنْ تَابَ عن هذه المعاصي وغيرها بأن أقلع عنها في الحال وندم على ما مضى له من فعلها وعزم عزما جازما أن لا يعود، وَآمَنَ بالله إيمانا صحيحا يقتضي ترك المعاصي وفعل الطاعات وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا مما أمر به الشارع إذا قصد به وجه الله.

فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ أي: تتبدل أفعالهم وأقوالهم التي كانت مستعدة لعمل السيئات تتبدل حسنات، فيتبدل شركهم إيمانا ومعصيتهم طاعة وتتبدل نفس السيئات التي عملوها ثم أحدثوا عن كل ذنب منها توبة وإنابة وطاعة تبدل حسنات كما هو ظاهر الآية.

وورد في ذلك حديث الرجل الذي حاسبه الله ببعض ذنوبه فعددها عليه ثم أبدل مكان كل سيئة حسنة فقال: : يا رب إن لي سيئات لا أراها هاهنا « والله أعلم.

» وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا لمن تاب يغفر الذنوب العظيمة رَحِيمًا بعباده حيث دعاهم إلى التوبة بعد مبارزته بالعظائم ثم وفقهم لها ثم قبلها منهم.

وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا أي: فليعلم أن توبته في غاية الكمال لأنها رجوع إلى الطريق الموصل إلى الله الذي هو عين سعادة العبد وفلاحه فليخلص فيها وليخلصها من شوائب الأغراض الفاسدة، فالمقصود من هذا الحث على تكميل التوبة وإيقاعها على أفضل الوجوه وأجلها ليقدم على من تاب إليه فيوفيه أجره بحسب كمالها.

وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ أي: لا يحضرون الزور أي: القول والفعل المحرم، فيجتنبون جميع المجالس المشتملة على الأقوال المحرمة أو الأفعال المحرمة، كالخوض في آيات الله والجدال الباطل والغيبة والنميمة والسب والقذف والاستهزاء والغناء المحرم وشرب الخمر وفرش الحرير، والصور ونحو ذلك، وإذا كانوا لا يشهدون الزور فمن باب أولى وأحرى أن لا يقولوه ويفعلوه.

وشهادة الزور داخلة في قول الزور تدخل في هذه الآية بالأولوية، وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ وهو الكلام الذي لا خير فيه ولا فيه فائدة دينية ولا دنيوية ككلام السفهاء ونحوهم مَرُّوا كِرَامًا أي: نزهوا أنفسهم وأكرموها عن الخوض فيه ورأوا أن الخوض فيه وإن كان لا إثم فيه فإنه سفه ونقص للإنسانية والمروءة فربأوا بأنفسهم عنه.

وفي قوله: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ إشارة إلى أنهم لا يقصدون حضوره ولا سماعه، ولكن عند المصادفة التي من غير قصد يكرمون أنفسهم عنه.

وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ التي أمرهم باستماعها والاهتداء بها، لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا أي لم يقابلوها بالإعراض عنها والصمم عن سماعها وصرف النظر والقلوب عنها كما يفعله من لم يؤمن بها ولم يصدق، وإنما حالهم فيها وعند سماعها كما قال تعالى: إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ يقابلونها بالقبول والافتقار إليها والانقياد والتسليم لها، وتجد عندهم آذانا سامعة وقلوبا واعية فيزداد بها إيمانهم ويتم بها إيقانهم وتحدث لهم نشاطا ويفرحون بها سرورا واغتباطا.

وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا أي: قرنائنا من أصحاب وأقران وزوجات، وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ أي: تقر بهم أعيننا.

وإذا استقرأنا حالهم وصفاتهم عرفنا من هممهم وعلو مرتبتهم أنهم لا تقر أعينهم حتى يروهم مطيعين لربهم عالمين عاملين وهذا كما أنه دعاء لأزواجهم وذرياتهم في صلاحهم فإنه دعاء لأنفسهم لأن نفعه يعود عليهم ولهذا جعلوا ذلك هبة لهم فقالوا: هَبْ لَنَا بل دعاؤهم يعود إلى نفع عموم المسلمين لأن بصلاح من ذكر يكون سببا لصلاح كثير ممن يتعلق بهم وينتفع بهم.

وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا أي: أوصلنا يا ربنا إلى هذه الدرجة العالية، درجة الصديقين والكمل من عباد الله الصالحين وهي درجة الإمامة في الدين وأن يكونوا قدوة للمتقين في أقوالهم وأفعالهم يقتدى بأفعالهم، ويطمئن لأقوالهم ويسير أهل الخير خلفهم فيهدون ويهتدون.

ومن المعلوم أن الدعاء ببلوغ شيء دعاء بما لا يتم إلا به، وهذه الدرجة - درجة الإمامة في الدين- لا تتم إلا بالصبر واليقين كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ فهذا الدعاء يستلزم من الأعمال والصبر على طاعة الله وعن معصيته وأقداره المؤلمة ومن العلم التام الذي يوصل صاحبه إلى درجة اليقين، خيرا كثيرا وعطاء جزيلا وأن يكونوا في أعلى ما يمكن من درجات الخلق بعد الرسل.

ولهذا، لما كانت هممهم ومطالبهم عالية كان الجزاء من جنس العمل فجازاهم بالمنازل العاليات فقال: أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا أي: المنازل الرفيعة والمساكن الأنيقة الجامعة لكل ما يشتهى وتلذه الأعين وذلك بسبب صبرهم نالوا ما نالوا كما قال تعالى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ولهذا قال هنا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا من ربهم ومن ملائكته الكرام ومن بعض على بعض ويسلمون من جميع المنغصات والمكدرات.

والحاصل: أن الله وصفهم بالوقار والسكينة والتواضع له ولعباده وحسن الأدب والحلم وسعة الخلق والعفو عن الجاهلين والإعراض عنهم ومقابلة إساءتهم بالإحسان وقيام الليل والإخلاص فيه، والخوف من النار والتضرع لربهم أن ينجيهم منها وإخراج الواجب والمستحب في النفقات والاقتصاد في ذلك - وإذا كانوا مقتصدين في الإنفاق الذي جرت العادة بالتفريط فيه أو الإفراط، فاقتصادهم وتوسطهم في غيره من باب أولى- والسلامة من كبائر الذنوب والاتصاف بالإخلاص لله في عبادته والعفة عن الدماء والأعراض والتوبة عند صدور شيء من ذلك، وأنهم لا يحضرون مجالس المنكر والفسوق القولية والفعلية ولا يفعلونها بأنفسهم وأنهم يتنزهون من اللغو والأفعال الردية التي لا خير فيها، وذلك يستلزم مروءتهم وإنسانيتهم وكمالهم ورفعة أنفسهم عن كل خسيس قولي وفعلي، وأنهم يقابلون آيات الله بالقبول لها والتفهم لمعانيها والعمل بها، والاجتهاد في تنفيذ أحكامها، وأنهم يدعون الله تعالى بأكمل الدعاء، في الدعاء الذي ينتفعون به، وينتفع به من يتعلق بهم وينتفع به المسلمون من صلاح أزواجهم وذريتهم، ومن لوازم ذلك سعيهم في تعليمهم ووعظهم ونصحهم لأن من حرص على شيء ودعا الله فيه لا بد أن يكون متسببا فيه، وأنهم دعوا الله ببلوغ أعلى الدرجات الممكنة لهم وهي درجة الإمامة والصديقية.

فلله ما أعلى هذه الصفات وأرفع هذه الهمم وأجل هذه المطالب، وأزكى تلك النفوس وأطهر تلك القلوب وأصفى هؤلاء الصفوة وأتقى هؤلاء السادة «

» ولله، فضل الله عليهم ونعمته ورحمته التي جللتهم، ولطفه الذي أوصلهم إلى هذه المنازل.

ولله، منة الله على عباده أن بين لهم أوصافهم، ونعت لهم هيئاتهم وبين لهم هممهم، وأوضح لهم أجورهم، ليشتاقوا إلى الاتصاف بأوصافهم، ويبذلوا جهدهم في ذلك، ويسألوا الذي من عليهم وأكرمهم الذي فضله في كل زمان ومكان، وفي كل وقت وأوان، أن يهديهم كما هداهم ويتولاهم بتربيته الخاصة كما تولاهم.

فاللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث، ولا حول ولا قوة إلا بك، لا نملك لأنفسنا نفعا ولا ضرا ولا نقدر على مثقال ذرة من الخير إن لم تيسر ذلك لنا، فإنا ضعفاء عاجزون من كل وجه.

نشهد أنك إن وكلتنا إلى أنفسنا طرفة عين وكلتنا إلى ضعف وعجز وخطيئة، فلا نثق يا ربنا إلا برحمتك التي بها خلقتنا ورزقتنا وأنعمت علينا بما أنعمت من النعم الظاهرة والباطنة وصرفت عنا من النقم، فارحمنا رحمة تغنينا بها عن رحمة من سواك فلا خاب من سألك ورجاك.

ولما كان الله تعالى قد أضاف هؤلاء العباد إلى رحمته واختصهم بعبوديته لشرفهم وفضلهم ربما توهم متوهم أنه وأيضا غيرهم فلم لا يدخل في العبودية؟

فأخبر تعالى أنه لا يبالي ولا يعبأ بغير هؤلاء وأنه لولا دعاؤكم إياه دعاء العبادة ودعاء المسألة ما عبأ بكم ولا أحبكم فقال: قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا أي: عذابا يلزمكم لزوم الغريم لغريمه وسوف يحكم الله بينكم وبين عباده المؤمنين.

تم تفسير سورة الفرقان،

فلله الحمد والثناء والشكر أبدا.

 

تفسير سورة الشعراء

 

وهي مكية عند الجمهور

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ طسم ( 1 ) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ( 2 ) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ( 3 ) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ( 4 ) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ( 5 ) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 6 ) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ( 7 ) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ( 8 ) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( 9 ) .

يشير الباري تعالى إشارة, تدل على التعظيم لآيات الكتاب المبين البين الواضح, الدال على جميع المطالب الإلهية, والمقاصد الشرعية, بحيث لا يبقى عند الناظر فيه, شك ولا شبهة فيما أخبر به, أو حكم به, لوضوحه, ودلالته على أشرف المعاني, وارتباط الأحكام بحكمها, وتعليقها بمناسبها، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينذر به الناس, ويهدي به الصراط المستقيم، فيهتدي بذلك عباد الله المتقون, ويعرض عنه من كتب عليه الشقاء، فكان يحزن حزنا شديدا, على عدم إيمانهم, حرصا منه على الخير, ونصحا لهم.

فلهذا قال تعالى عنه: ( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ ) أي: مهلكها وشاق عليها، ( أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) أي: فلا تفعل, ولا تذهب نفسك عليهم حسرات, فإن الهداية بيد الله, وقد أديت ما عليك من التبليغ، وليس فوق هذا القرآن المبين آية, حتى ننزلها, ليؤمنوا [ بها ] , فإنه كاف شاف, لمن يريد الهداية, ولهذا قال: ( إِنْ نَشَأْ نُنزلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً ) .

أي: من آيات الاقتراح، ( فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ ) أي: أعناق المكذبين ( لَهَا خَاضِعِينَ ) ولكن لا حاجة إلى ذلك, ولا مصلحة فيه, فإنه إذ ذاك الوقت, يكون الإيمان غير نافع، وإنما الإيمان النافع, الإيمان بالغيب, كما قال تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا الآية.

( وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ ) يأمرهم وينهاهم, ويذكرهم ما ينفعهم ويضرهم. ( إِلا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ) بقلوبهم وأبدانهم، هذا إعراضهم عن الذكر المحدث, الذي جرت العادة, أنه يكون موقعه أبلغ من غيره, فكيف بإعراضهم عن غيره، وهذا لأنهم لا خير فيهم, ولا تنجع فيهم المواعظ, ولهذا قال: ( فَقَدْ كَذَّبُوا ) .

أي: بالحق, وصار التكذيب لهم سجية, لا تتغير ولا تتبدل، ( فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) أي: سيقع بهم العذاب, ويحل بهم ما كذبوا به, فإنهم قد حقت عليهم كلمة العذاب.

قال الله منبها على التفكر الذي ينفع صاحبه: ( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) من جميع أصناف النباتات, حسنة المنظر, كريمة في نفعها.

( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً ) على إحياء الله الموتى بعد موتهم, كما أحيا الأرض بعد موتها ( وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) كما قال تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ .

( وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ ) الذي قد قهر كل مخلوق, ودان له العالم العلوي والسفلي، ( الرَّحِيمِ ) الذي وسعت رحمته كل شيء, ووصل جوده إلى كل حي, العزيز الذي أهلك الأشقياء بأنواع العقوبات, الرحيم بالسعداء, حيث أنجاهم من كل شر وبلاء.

وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 10 - 68 ) إلى آخر القصة قوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ

أعاد الباري تعالى, قصة موسى وثناها في القرآن, ما لم يثن غيرها, لكونها مشتملة على حكم عظيمة, وعبر وفيها نبأه مع الظالمين والمؤمنين، وهو صاحب الشريعة الكبرى, وصاحب التوراة أفضل الكتب بعد القرآن فقال: واذكر حالة موسى الفاضلة, وقت نداء الله إياه, حين كلمه ونبأه وأرسله فقال: ( أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) الذين تكبروا في الأرض, وعلوا على أهلها وادعى كبيرهم الربوبية.

قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ أي: قل لهم, بلين قول, ولطف عبارة « أَلا تَتَّقُونَ » الله الذي خلقكم ورزقكم, فتتركون ما أنتم عليه من الكفر.

فقال موسى عليه السلام, معتذرا من ربه, ومبينا لعذره, وسائلا له المعونة على هذا الحمل الثقيل: قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي .

فقال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ فأجاب الله طلبته ونبأ أخاه هارون كما نبأه فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا أي معاونا لي على أمري أن يصدقوني.

وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ أي في قتل القبطي فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ

قَالَ كَلا أي لا يتمكنون من قتلك فإنا سنجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون ولهذا لم يتمكن فرعون من قتل موسى مع منابذته له غاية المنابذة وتسفيه رأيه وتضليله وقومه فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا الدالة على صدقكما وصحة ما جئتما به إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ أحفظكما وأكلؤكما.

فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أي أرسلنا إليك لتؤمن به وبنا وتنقاد لعبادته وتذعن لتوحيده.

أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فكف عنهم عذابك وارفع عنهم يدك ليعبدوا ربهم ويقيموا أمر دينهم.

فلما جاءا فرعون وقالا له ما قال الله لهما لم يؤمن فرعون ولم يلن وجعل يعارض موسى فـ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا أي ألم ننعم عليك ونقم بتربيتك منذ كنت وليدا في مهدك ولم تزل كذلك.

وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وهي قتل موسى للقبطي, حين استغاثه الذي من شيعته, على الذي من عدوه فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ الآية.

وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ أي: وأنت إذ ذاك طريقك طريقنا, وسبيلك سبيلنا, في الكفر, فأقر على نفسه بالكفر, من حيث لا يدري.

 

فقال موسى: فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ أي: عن غير كفر, وإنما كان عن ضلال وسفه, فاستغفرت ربي فغفر لي.

فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ حين تراجعتم بقتلي, فهربت إلى مدين, ومكثت سنين, ثم جئتكم. فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ .

فالحاصل أن اعتراض فرعون على موسى, اعتراض جاهل أو متجاهل، فإنه جعل المانع من كونه رسولا أن جرى منه القتل، فبين له موسى, أن قتله كان على وجه الضلال والخطأ, الذي لم يقصد نفس القتل، وأن فضل الله تعالى غير ممنوع منه أحد, فلم منعتم ما منحني الله, من الحكم والرسالة؟ بقي عليك يا فرعون إدلاؤك بقولك: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وعند التحقيق, يتبين أن لا منة لك فيها, ولهذا قال موسى: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ .

أي: تدلي علي بهذه المنة لأنك سخرت بني إسرائيل, وجعلتهم لك بمنزلة العبيد، وأنا قد أسلمتني من تعبيدك وتسخيرك, وجعلتها علي نعمة، فعند التصور, يتبين أن الحقيقة, أنك ظلمت هذا الشعب الفاضل, وعذبتهم وسخرتهم بأعمالك، وأنا قد سلمني الله من أذاك, مع وصول أذاك لقومي، فما هذه المنة التي تبت بها وتدلي بها؟.

قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ وهذا إنكار منه لربه, ظلما وعلوا، مع تيقن صحة ما دعاه إليه موسى، قال: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا .

أي: الذي خلق العالم العلوي والسفلي, ودبره بأنواع التدبير, ورباه بأنواع التربية. ومن جملة ذلك, أنتم أيها المخاطبون, فكيف تنكرون خالق المخلوقات, وفاطر الأرض والسماوات إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ فقال فرعون متجرهما, ومعجبا لقومه: أَلا تَسْتَمِعُونَ ما يقول هذا الرجل، فقال موسى: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ تعجبتم أم لا استكبرتم, أم أذعنتم.

فقال فرعون معاندا للحق, قادحا بمن جاء به: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ حيث قال خلاف ما نحن عليه, وخالفنا فيما ذهبنا إليه، فالعقل عنده وأهل العقل, من زعموا أنهم لم يخلقوا, أو أن السماوات والأرض, ما زالتا موجودتين من غير موجد وأنهم, بأنفسهم, خلقوا من غير خالق، والعقل عنده, أن يعبد المخلوق الناقص, من جميع الوجوه، والجنون عنده, أن يثبت الرب الخالق للعالم العلوي والسفلي, والمنعم بالنعم الظاهرة والباطنة, ويدعو إلى عبادته، وزين لقومه هذا القول, وكانوا سفهاء الأحلام, خفيفي العقول فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ فقال موسى عليه السلام, مجيبا لإنكار فرعون وتعطيله لرب العالمين: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا .

من سائر المخلوقات إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ فقد أديت لكم من البيان والتبيين, ما يفهمه كل من له أدنى مسكة من عقل، فما بالكم تتجاهلون فيما أخاطبكم به؟ وفيه إيماء وتنبيه إلى أن الذي رميتم به موسى من الجنون, أنه داؤكم فرميتم أزكى الخلق عقلا وأكملهم علما، بالجنون، والحال أنكم أنتم المجانين, حيث ذهبت عقولكم لإنكار أظهر الموجودات, خالق الأرض والسماوات وما بينهما, فإذا جحدتموه, فأي شيء تثبتون؟ وإذا جهلتموه, فأي شيء تعلمون؟ وإذا لم تؤمنوا به وبآياته, فبأي شيء - بعد الله وآياته - تؤمنون؟ تالله, إن المجانين الذين بمنزلة البهائم, أعقل منكم, وإن الأنعام السارحة, أهدى منكم.

فلما خنقت فرعون الحجة, وعجزت قدرته وبيانه عن المعارضة قَالَ متوعدا لموسى بسلطانه لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ زعم - قبحه الله - أنه قد طمع في إضلال موسى, وأن لا يتخذ إلها غيره, وإلا فقد تقرر أنه هو ومن معه, على بصيرة من أمرهم.

فقال له موسى: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ أي: آية ظاهرة جلية, على صحة ما جئت به, من خوارق العادات.

قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ أي: ذكر الحيات، مُبِينٌ ظاهر لكل أحد, لا خيال, ولا تشبيه.

وَنَزَعَ يَدَهُ من جيبه فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ أي: لها نور عظيم, لا نقص فيه لمن نظر إليها. قَالَ فرعون لِلْمَلإِ حَوْلَهُ معارضا للحق, ومن جاء به: إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ موَّه عليهم لعلمه بضعف عقولهم, أن هذا من جنس ما يأتي به السحرة, لأنه من المتقرر عندهم, أن السحرة يأتون من العجائب, بما لا يقدر عليه الناس, وخوَّفهم أن قصده بهذا السحر, التوصل إلى إخراجهم من وطنهم, ليجدوا ويجتهدوا في معاداة من يريد إجلاءهم عن أولادهم وديارهم، فَمَاذَا تَأْمُرُونَ أن نفعل به؟ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ أي: أخرهما وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ جامعين للناس. يَأْتُوكَ أولئك الحاشرون بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ أي: ابعث في جميع مدنك, التي هي مقر العلم, ومعدن السحر, من يجمع لك كل ساحر ماهر, عليم في سحره فإن الساحر يقابل بسحر من جنس سحره.

وهذا من لطف الله أن يري العباد, بطلان ما موه به فرعون الجاهل الضال, المضل أن ما جاء به موسى سحر, قيضهم أن جمعوا أهل المهارة بالسحر, لينعقد المجلس عن حضرة الخلق العظيم, فيظهر الحق على الباطل, ويقر أهل العلم وأهل الصناعة, بصحة ما جاء به موسى, وأنه ليس بسحر، فعمل فرعون برأيهم, فأرسل في المدائن, من يجمع السحرة, واجتهد في ذلك, وجد. فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ قد واعدهم إياه موسى, وهو يوم الزينة, الذي يتفرغون فيه من أشغالهم. وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ أي: نودي بعموم الناس بالاجتماع في ذلك اليوم الموعود.

 

 

لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ أي: قالوا للناس: اجتمعوا لتنظروا غلبة السحرة لموسى, وأنهم ماهرون في صناعتهم, فنتبعهم, ونعظمهم, ونعرف فضيلة علم السحر، فلو وفقوا للحق, لقالوا: لعلنا نتبع المحق منهم, ولنعرف الصواب، فلذلك ما أفاد فيهم ذلك, إلا قيام الحجة عليهم.

فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ ووصلوا لفرعون قالوا له: أَئِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ لموسى؟

قَالَ نَعَمْ لكم أجر وثواب وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عندي، وعدهم الأجر والقربة منه, ليزداد نشاطهم, ويأتوا بكل مقدورهم في معارضة ما جاء به موسى.

فلما اجتمعوا للموعد, هم وموسى, وأهل مصر, وعظهم موسى وذكرهم وقال: وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى فتنازعوا وتخاصموا ثم شجعهم فرعون, وشجع بعضهم بعضا.

فـ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ أي: ألقوا كل ما في خواطركم إلقاؤه، ولم يقيده بشيء دون شيء, لجزمه ببطلان ما جاءوا به من معارضة الحق.

فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ فإذا هي حيات تسعى, وسحروا بذلك أعين الناس، وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ فاستعانوا بعزة عبد ضعيف, عاجز من كل وجه, إلا أنه قد تجبر, وحصل له صورة ملك وجنود، فغرتهم تلك الأبهة, ولم تنفذ بصائرهم إلى حقيقة الأمر، أو أن هذا قسم منهم بعزة فرعون والمقسم عليه, أنهم غالبون.

فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ تبتلع وتأخذ مَا يَأْفِكُونَ فالتفت جميع ما ألقوا من الحبال والعصي, لأنها إفك, وكذب, وزور وذلك كله باطل لا يقوم للحق, ولا يقاومه.

فلما رأى السحرة هذه الآية العظيمة, تيقنوا - لعلمهم - أن هذا ليس بسحر, وإنما هو آية من آيات الله, ومعجزة تنبئ بصدق موسى, وصحة ما جاء به.

فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ لربهم.

قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ وانقمع الباطل, في ذلك المجمع, وأقر رؤساؤه, ببطلانه, ووضح الحق, وظهر حتى رأى ذلك الناظرون بأبصارهم، ولكن أبى فرعون, إلا عتوا وضلالا وتماديا في غيه وعنادا، فقال للسحرة: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ .

يتعجب ويعجب قومه من جراءتهم عليه, وإقدامهم على الإيمان من غير إذنه ومؤامرته.

إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ هذا, وهو الذي جمع السحرة, وملأه, الذين أشاروا عليه بجمعهم من مدائنهم، وقد علموا أنهم ما اجتمعوا بموسى, ولا رأوه قبل ذلك, وأنهم جاءوا من السحر, بما يحير الناظرين ويهيلهم, ومع ذلك, فراج عليهم هذا القول, الذي هم بأنفسهم, وقفوا على بطلانه، فلا يستنكر على أهل هذه العقول, أن لا يؤمنوا بالحق الواضح, والآيات الباهرة, لأنهم لو قال لهم فرعون عن أي شيء كان, إنه على خلاف حقيقته, صدقوه.

ثم توعد السحرة فقال: لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ أي: اليد اليمنى, والرجل اليسرى, كما يفعل بالمفسد في الأرض، وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ لتختزوا, وتذلوا. فقال السحرة - حين وجدوا حلاوة الإيمان وذاقوا لذته - : لا ضَيْرَ أي: لا نبالي بما توعدتنا به إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا من الكفر والسحر, وغيرهما أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ بموسى, من هؤلاء الجنود، فثبتهم الله وصبرهم.

فيحتمل أن فرعون فعل بهم ما توعدهم به, لسلطانه, واقتداره إذ ذاك ويحتمل, أن الله منعه منهم، ثم لم يزل فرعون وقومه, مستمرين على كفرهم, يأتيهم موسى بالآيات البينات، وكلما جاءتهم آية, وبلغت منهم كل مبلغ, وعدوا موسى, وعاهدوه لئن كشف الله عنهم, ليؤمنن به, وليرسلن معه بني إسرائيل, فيكشفه الله, ثم ينكثون، فلما يئس موسى من إيمانهم, وحقت عليهم كلمة العذاب, وآن لبني إسرائيل أن ينجيهم من أسرهم, ويمكن لهم في الأرض, أوحى الله إلى موسى: أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي .

أي: اخرج ببني إسرائيل أول الليل, ليتمادوا ويتمهلوا في ذهابهم. إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ أي: سيتبعكم فرعون وجنوده.

ووقع كما أخبر, فإنهم لما أصبحوا, وإذا بنو إسرائيل قد سروا كلهم مع موسى.

فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يجمعون الناس, ليوقع ببني إسرائيل, ويقول مشجعا لقومه: إِنَّ هَؤُلاءِ أي: بني إسرائيل لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ونريد أن ننفذ غيظنا في هؤلاء العبيد, الذين أبِقُوا منا.

وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ أي: الحذر على الجميع منهم, وهم أعداء للجميع, والمصلحة مشتركة، فخرج فرعون وجنوده, في جيش عظيم, ونفير عام, لم يتخلف منهم سوى أهل الأعذار, الذين منعهم العجز.

قال الله تعالى: فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ أي: بساتين مصر وجناتها الفائقة, وعيونها المتدفقة, وزروع قد ملأت أراضيهم, وعمرت بها حاضرتهم وبواديهم.

وَمَقَامٍ كَرِيمٍ يعجب الناظرين, ويلهي المتأملين، تمتعوا به دهرا طويلا وقضوا بلذته وشهواته, عمرا مديدا, على الكفر والفساد, والتكبر على العباد والتيه العظيم .

كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا أي: هذه البساتين والعيون, والزروع, والمقام الكريم، بَنِي إِسْرَائِيلَ الذين جعلوهم من قبل عبيدهم, وسخروا في أعمالهم الشاقة، فسبحان من يؤتي الملك من يشاء, وينزعه ممن يشاء, ويعز من يشاء بطاعته, ويذل من يشاء بمعصيته.

فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ أي: اتبع قوم فرعون قوم موسى, وقت شروق الشمس, وساقوا خلفهم محثين, على غيظ وحنق قادرين.

 

 

فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ أي رأى كل منهما صاحبه، قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى شاكين لموسى وحزنين إِنَّا لَمُدْرَكُونَ فـ قَالَ موسى, مثبتا لهم, ومخبرا لهم بوعد ربه الصادق: كُلا أي: ليس الأمر كما ذكرتم, أنكم مدركون، إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ لما فيه نجاتي ونجاتكم.

فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فضربه فَانْفَلَقَ اثني عشر طريقا فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ أي: الجبل الْعَظِيمِ فدخله موسى وقومه.

وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ في ذلك المكان الآخَرِينَ أي فرعون وقومه, قربناهم, وأدخلناهم في ذلك الطريق, الذي سلك منه موسى وقومه.

وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ استكملوا خارجين, لم يتخلف منهم أحد.

ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ لم يتخلف منهم عن الغرق أحد.

إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً عظيمة, على صدق ما جاء به موسى عليه السلام, وبطلان ما عليه فرعون وقومه، وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ مع هذه الآيات المقتضية للإيمان, لفساد قلوبكم.

وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ بعزته أهلك الكافرين المكذبين، وبرحمته نجى موسى, ومن معه أجمعين.

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ ( 69 ) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ( 70 - 104 ) إلى آخر هذه القصة.

وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ .

أي: واتل يا محمد على الناس, نبأ إبراهيم الخليل, وخبره الجليل, في هذه الحالة بخصوصها, وإلا فله أنباء كثيرة، ولكن من أعجب أنبائه, وأفضلها, هذا النبأ المتضمن لرسالته, ودعوته قومه, ومحاجته إياهم, وإبطاله ما هم عليه, ولذلك قيده بالظرف فقال: إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا متبجحين بعبادتهم: نَعْبُدُ أَصْنَامًا ننحتها ونعملها بأيدينا. فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ أي مقيمين على عبادتها في كثير من أوقاتنا، فقال لهم إبراهيم, مبينا لعدم استحقاقها للعبادة: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ فيستجيبون دعاءكم, ويفرجون كربكم, ويزيلون عنكم كل مكروه؟.

أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ فأقروا أن ذلك كله, غير موجود فيها, فلا تسمع دعاء, ولا تنفع, ولا تضر، ولهذا لما كسرها وقال: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ قالوا له: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ أي: هذا أمر متقرر من حالها, لا يقبل الإشكال والشك.

فلجأوا إلى تقليد آبائهم الضالين, فقالوا: بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ فتبعناهم على ذلك, وسلكنا سبيلهم, وحافظنا على عاداتهم، فقال لهم إبراهيم: أنتم وآباءكم, كلكم خصوم في الأمر, والكلام مع الجميع واحد.

أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي فليضروني بأدنى شيء من الضرر, وليكيدوني, فلا يقدرون.

إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ هو المنفرد بنعمة الخلق, ونعمة الهداية للمصالح الدينية والدنيوية.

ثم خصص منها بعض الضروريات فقال: وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ فهذا هو وحده المنفرد بذلك, فيجب أن يفرد بالعبادة والطاعة, وتترك هذه الأصنام, التي لا تخلق, ولا تهدي, ولا تمرض, ولا تشفي, ولا تطعم ولا تسقي, ولا تميت, ولا تحيي, ولا تنفع عابديها, بكشف الكروب, ولا مغفرة الذنوب.

فهذا دليل قاطع, وحجة باهرة, لا تقدرون أنتم وآباؤكم على معارضتها، فدل على اشتراككم في الضلال, وترككم طريق الهدى والرشد. قال الله تعالى: وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ الآيات.

ثم دعا عليه السلام ربه فقال: رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا أي: علما كثيرا, أعرف به الأحكام, والحلال والحرام, وأحكم به بين الأنام، وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ من إخوانه الأنبياء والمرسلين.

 

 

وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ أي: اجعل لي ثناء صدق, مستمر إلى آخر الدهر. فاستجاب الله دعاءه, فوهب له من العلم والحكم, ما كان به من أفضل المرسلين, وألحقه بإخوانه المرسلين, وجعله محبوبا مقبولا معظما مثنًى عليه, في جميع الملل, في كل الأوقات.

قال تعالى: وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ .

وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ أي: من أهل الجنة, التي يورثهم الله إياها، فأجاب الله دعاءه, فرفع منزلته في جنات النعيم.

وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ وهذا الدعاء, بسبب الوعد الذي قال لأبيه: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا قال تعالى: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ .

وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ أي: بالتوبيخ على بعض الذنوب, والعقوبة عليها والفضيحة، بل أسعدني في ذلك اليوم الذي لا يَنْفَعُ فيه مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ فهذا الذي ينفعه عندك وهذا الذي ينجو به من العقاب ويستحق جزيل الثواب

والقلب السليم معناه الذي سلم من الشرك والشك ومحبة الشر والإصرار على البدعة والذنوب ويلزم من سلامته مما ذكر اتصافه بأضدادها من الإخلاص والعلم واليقين ومحبة الخير وتزيينه في قلبه وأن تكون إرادته ومحبته تابعة لمحبة الله وهواه تابعا لما جاء عن الله

ثم ذكر من صفات ذلك اليوم العظيم وما فيه من الثواب والعقاب فقال وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ أي قربت لِلْمُتَّقِينَ ربهم الذين امتثلوا أوامره واجتنبوا زواجره واتقوا سخطه وعقابه

وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ أي برزت واستعدت بجميع ما فيها من العذاب لِلْغَاوِينَ الذين أوضعوا في معاصي الله وتجرأوا على محارمه وكذبوا رسله وردوا ما جاءوهم به من الحق وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ بأنفسهم أي فلم يكن من ذلك من شيء وظهر كذبهم وخزيهم ولاحت خسارتهم وفضيحتهم وبان ندمهم وضل سعيهم

فَكُبْكِبُوا فِيهَا أي ألقوا في النار هُمْ أي ما كانوا يعبدون وَالْغَاوُونَ العابدون لها

وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ من الإنس والجن الذين أزَّهم إلى المعاصي أزًّا وتسلط عليهم بشركهم وعدم إيمانهم فصاروا من دعاته والساعين في مرضاته وهم ما بين داع لطاعته ومجيب لهم ومقلد لهم على شركهم

قَالُوا أي جنود إبليس الغاوون لأصنامهم وأوثانهم التي عبدوها تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ في العبادة والمحبة والخوف والرجاء وندعوكم كما ندعوه فتبين لهم حينئذ ضلالهم وأقروا بعدل الله في عقوبتهم وأنها في محلها وهم لم يسووهم برب العالمين إلا في العبادة لا في الخلق بدليل قولهم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ إنهم مقرون أن الله رب العالمين كلهم الذين من جملتهم أصنامهم وأوثانهم

وَمَا أَضَلَّنَا عن طريق الهدى والرشد ودعانا إلى طريق الغي والفسق إِلا الْمُجْرِمُونَ وهم الأئمة الذين يدعون إلى النار

فَمَا لَنَا حينئذ مِنْ شَافِعِينَ يشفعون لنا لينقذونا من عذابه

وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ أي قريب مصاف ينفعنا بأدنى نفع كما جرت العادة بذلك في الدنيا فأيسوا من كل خير وأبلسوا بما كسبوا وتمنوا العودة إلى الدنيا ليعملوا صالحا

فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً أي رجعة إلى الدنيا وإعادة إليها فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لنسلم من العقاب ونستحق الثواب هيهات هيهات قد حيل بينهم وبين ما يشتهون وقد غلقت منهم الرهون

إِنَّ فِي ذَلِكَ الذي ذكرنا لكم ووصفنا لآيَةً لكم وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ مع نزول الآيات وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ

كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ( 105 - 122 ) إلى آخر القصة.

يذكر تعالى, تكذيب قوم نوح لرسولهم نوح, وما رد عليهم وردوا عليه, وعاقبة الجميع فقال: ( كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ) جميعهم, وجعل تكذيب نوح, كتكذيب جميع المرسلين، لأنهم كلهم, اتفقوا على دعوة واحدة, وأخبار واحدة، فتكذيب أحدهم, تكذيب, بجميع ما جاءوا به من الحق.

كذّبوه إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ في النسب نُوحٌ وإنما ابتعث الله الرسل, من نسب من أرسل إليهم, لئلا يشمئزوا من الانقياد له, ولأنهم يعرفون حقيقته, فلا يحتاجون أن يبحثوا عنه، فقال لهم مخاطبا بألطف خطاب - كما هي طريقة الرسل, صلوات الله وسلامه عليهم - : أَلا تَتَّقُونَ الله, تعالى, فتتركون ما أنتم مقيمون عليه, من عبادة الأوثان, وتخلصون العبادة لله وحده.

إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فكونه رسولا إليهم بالخصوص, يوجب لهم تلقي ما أرسل به إليهم, والإيمان به, وأن يشكروا الله تعالى, على أن خصهم بهذا الرسول الكريم، وكونه أمينا يقتضي أنه لا يتقول على الله, ولا يزيد في وحيه, ولا ينقص، وهذا يوجب لهم التصديق بخبره والطاعة لأمره.

فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ فيما آمركم به, وأنهاكم عنه, فإن هذا هو الذي يترتب على كونه رسولا إليهم, أمينا, فلذلك رتبه بالفاء الدالة على السبب، فذكر السبب الموجب, ثم ذكر انتفاء المانع فقال: وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ .

فتتكلفون من المغرم الثقيل، إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أرجو بذلك القرب منه, والثواب الجزيل، وأما أنتم فمنيتي, ومنتهى إرادتي منكم, النصح لكم, وسلوككم الصراط المستقيم.

فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ كرر ذلك عليه السلام, لتكريره دعوة قومه, وطول مكثه في ذلك, كما قال تعالى فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا وقال: رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا الآيات.

فقالوا ردا لدعوته, ومعارضة له بما ليس يصلح للمعارضة: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ أي: كيف نتبعك ونحن لا نرى أتباعك إلا أسافل الناس, وأراذلهم, وسقطهم. بهذا يعرف تكبرهم عن الحق, وجهلهم بالحقائق, فإنهم لو كان قصدهم الحق, لقالوا - إن كان عندهم إشكال وشك في دعوته - بيّن لنا صحة ما جئت به بالطرق الموصلة إلى ذلك، ولو تأملوا حق التأمل, لعلموا أن أتباعه, هم الأعلون, خيار الخلق, أهل العقول الرزينة, والأخلاق الفاضلة, وأن الأرذل, من سلب خاصية عقله, فاستحسن عبادة الأحجار, ورضي أن يسجد لها, ويدعوها, وأبى الانقياد لدعوة الرسل الكمل. وبمجرد ما يتكلم أحد الخصمين في الكلام الباطل, يعرف فساد ما عنده بقطع النظر عن صحة دعوى خصمه، فقوم نوح, لما سمعنا عنهم, أنهم قالوا في ردهم دعوة نوح: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ فبنوا على هذا الأصل, الذي كل أحد يعرف فساده, رد دعوته - عرفنا أنهم ضالون مخطئون, ولو لم نشاهد من آيات نوح ودعوته العظيمة, ما يفيد الجزم واليقين, بصدقه وصحة ما جاء به.

 

 

فقال نوح عليه السلام: وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ أي أعمالهم وحسابهم على الله إنما علي التبليغ وأنتم دعوهم عنكم إن كان ما جئتكم به الحق فانقادوا له وكل له عمله

وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ كأنهم - قبحهم الله - طلبوا منه أن يطردهم عنه تكبرا وتجبرا ليؤمنوا فقال وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ فإنهم لا يستحقون الطرد والإهانة وإنما يستحقون الإكرام القولي والفعلي كما قال تعالى وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ

إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي ما أنا إلا منذر ومبلغ عن الله ومجتهد في نصح العباد وليس لي من الأمر شيء إن الأمر إلا لله .

فاستمر نوح عليه الصلاة والسلام على دعوتهم ليلا ونهارا سرا وجهارا فلم يزدادوا إلا نفورا و قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ من دعوتك إيانا إلى الله وحده لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ أي لنقتلك شر قتلة بالرمي بالحجارة كما يقتل الكلب فتبا لهم ما أقبح هذه المقابلة يقابلون الناصح الأمين الذي هو أشفق عليهم من أنفسهم بشر مقابلة لا جرم لما انتهى ظلمهم واشتد كفرهم دعا عليهم نبيهم بدعوة أحاطت بهم فقال رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا الآيات.

وهنا قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا أي أهلك الباغي منا وهو يعلم أنهم البغاة الظلمة ولهذا قال وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ

فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ أي السفينة الْمَشْحُونِ من الخلق والحيوانات.

ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ أي بعد نوح ومن معه من المؤمنين الْبَاقِينَ أي جميع قومه.

إِنَّ فِي ذَلِكَ أي نجاة نوح وأتباعه وإهلاك من كذبه لآيَةً دالة على صدق رسلنا وصحة ما جاءوا به وبطلان ما عليه أعداؤهم المكذبون بهم .

وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الذي قهر بعزه أعداءه فأغرقهم بالطوفان الرَّحِيمُ بأوليائه حيث نجى نوحا ومن معه من أهل الإيمان.

كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ ( 123 - 140 ) إلى آخر القصة.

أي: كذبت القبيلة المسماة عادا, رسولهم هودا، وتكذيبهم له تكذيب لغيره, لاتفاق الدعوة.

إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ في النسب هُودٌ بلطف وحسن خطاب: أَلا تَتَّقُونَ الله, فتتركون الشرك وعبادة غيره.

إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ أي: أرسلني الله إليكم, رحمة بكم, واعتناء بكم، وأنا أمين, تعرفون ذلك مني, رتب على ذلك قوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ .

أي: أدوا حق الله تعالى, وهو التقوى, وأدوا حقي, بطاعتي فيما آمركم به, وأنهاكم عنه, فهذا موجب, لأن تتبعوني وتطيعوني وليس ثَمَّ مانع يمنعكم من الإيمان، فلست أسألكم على تبليغي إياكم, ونصحي لكم, أجرا, حتى تستثقلوا ذلك المغرم. إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ الذي رباهم بنعمه, وأدرَّ عليهم فضله وكرمه, خصوصا ما ربَّى به أولياءه وأنبياءه.

أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ أي: مدخل بين الجبال آيَةً أي: علامة تَعْبَثُونَ أي: تفعلون ذلك عبثا لغير فائدة تعود بمصالح دينكم ودنياكم.

وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ أي: بركا ومجابي للحياة لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ والحال أنه لا سبيل إلى الخلود لأحد.

وَإِذَا بَطَشْتُمْ بالخلق بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ قتلا وضربا, وأخذ أموال. وكان الله تعالى قد أعطاهم قوة عظيمة, وكان الواجب عليهم أن يستعينوا بقوتهم على طاعة الله, ولكنهم فخروا, واستكبروا, وقالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً واستعملوا قوتهم في معاصي الله, وفي العبث والسفه, فلذلك نهاهم نبيهم عن ذلك.

فَاتَّقُوا اللَّهَ واتركوا شرككم وبطركم وَأَطِيعُونِ حيث علمتم أني رسول الله إليكم, أمين ناصح.

وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ أي: أعطاكم بِمَا تَعْلَمُونَ أي: أمدكم بما لا يجهل ولا ينكر من الإنعام.

أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ من إبل وبقر وغنم وَبَنِينَ أي: وكثرة نسل، كثر أموالكم, وكثر أولادكم, خصوصا الذكور, أفضل القسمين.

هذا تذكيرهم بالنعم, ثم ذكرهم حلول عذاب الله فقال: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ .

أي: إني - من شفقتي عليكم وبري بكم - أخاف أن ينزل بكم عذاب يوم عظيم, إذا نزل لا يرد, إن استمريتم على كفركم وبغيكم.

فقالوا معاندين للحق مكذبين لنبيهم: سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ أي: الجميع على حد سواء، وهذا غاية العتو, فإن قوما بلغت بهم الحال إلى أن صارت مواعظ الله, التي تذيب الجبال الصم الصلاب, وتتصدع لها أفئدة أولي الألباب, وجودها وعدمها - عندهم- على حد سواء، لقوم انتهى ظلمهم, واشتد شقاؤهم, وانقطع الرجاء من هدايتهم، ولهذا قالوا:

 

إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأَوَّلِينَ .

أي: هذه الأحوال والنعم, ونحو ذلك, عادة الأولين, تارة يستغنون, وتارة يفتقرون، وهذه أحوال الدهر, لا أن هذه محن ومنح من الله تعالى, وابتلاء لعباده.

وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ وهذا إنكار منهم للبعث، أو تنزل مع نبيهم وتهكم به، إننا على فرض أننا نبعث, فإننا كما أدرَّت علينا النعم في الدنيا, كذلك لا تزال مستمرة علينا إذا بعثنا.

فَكَذَّبُوهُ أي: صار التكذيب سجية لهم وخلقا, لا يردعهم عنه رادع، فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ

إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً على صدق نبينا هود عليه السلام وصحة ما جاء به وبطلان ما عليه قومه من الشرك والجبروت وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ مع وجود الآيات المقتضية للإيمان

وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الذي أهلك بقوته قوم هود على قوتهم وبطشهم

الرَّحِيمُ بنبيه هود حيث نجاه ومن معه من المؤمنين

كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ( 141 - 159 ) إلى آخر القصة.

( كَذَّبَتْ ثَمُودُ ) القبيلة المعروفة في مدائن الحجر ( الْمُرْسَلِينَ ) كذبوا صالحا عليه السلام, الذي جاء بالتوحيد, الذي دعت إليه المرسلون, فكان تكذيبهم له تكذيبا للجميع.

إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ في النسب, برفق ولين: أَلا تَتَّقُونَ الله تعالى, وتدعون الشرك والمعاصي.

إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ من الله ربكم, أرسلني إليكم, لطفا بكم ورحمة, فتلقوا رحمته بالقبول, وقابلوها بالإذعان، أَمِينٌ تعرفون ذلك مني, وذلك يوجب عليكم أن تؤمنوا بي, وبما جئت به.

وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ فتقولون: يمنعنا من اتباعك, أنك تريد أخذ أموالنا، إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أي: لا أطلب الثواب إلا منه.

أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ أي نضيد كثير أي أتحسبون أنكم تتركون في هذه الخيرات والنعم سدى تتنعمون وتتمتعون كما تتمتع الأنعام وتتركون سدى لا تؤمرون ولا تنهون وتستعينون بهذه النعم على معاصي الله

وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ أي بلغت بكم الفراهة والحذق إلى أن اتخذتم بيوتا من الجبال الصم الصلاب

فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الذين تجاوزوا الحد

الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ أي الذين وصفهم ودأبهم الإفساد في الأرض بعمل المعاصي والدعوة إليها إفسادا لا إصلاح فيه وهذا أضر ما يكون لأنه شر محض وكأن أناسا عندهم مستعدون لمعارضة نبيهم موضعون في الدعوة لسبيل الغي فنهاهم صالح عن الاغترار بهم ولعلهم الذين قال الله فيهم وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ فلم يفد فيهم هذا النهي والوعظ شيئا فقالوا لصالح إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ أي قد سحرت فأنت تهذي بما لا معنى له

مَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا فأي فضيلة فقتنا بها حتى تدعونا إلى اتباعك؟ فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ هذا مع أن مجرد اعتبار حالته وحالة ما دعا إليه من أكبر الآيات البينات على صحة ما جاء به وصدقه ولكنهم من قسوتهم سألوا آيات الاقتراح التي في الغالب لا يفلح من طلبها لكون طلبه مبنيا على التعنت لا على الاسترشاد

فقال صالح هَذِهِ نَاقَةٌ تخرج من صخرة صماء ملساء ترونها وتشاهدونها بأجمعكم لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ أي تشرب ماء البئر يوما وأنتم تشربون لبنها ثم تصدر عنكم اليوم الآخر وتشربون أنتم ماء البئر

وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ بعقر أو غيره فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ فخرجت واستمرت عندهم بتلك الحال فلم يؤمنوا واستمروا على طغيانهم

فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وهي صيحة نزلت عليهم, فدمرتهم أجمعين، إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً على صدق ما جاءت به رسلنا, وبطلان قول معارضيهم، وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ .

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ ( 160 - 175 ) إلى آخر القصة.

قال لهم وقالوا كما قال من قبلهم, تشابهت قلوبهم في الكفر, فتشابهت أقوالهم، وكانوا - مع شركهم - يأتون فاحشة لم يسبقهم إليها أحد من العالمين، يختارون نكاح الذكران, المستقذر الخبيث, ويرغبون عما خلق لهم من أزواجهم لإسرافهم وعدوانهم فلم يزل ينهاهم حتى قَالُوا له لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ أي: من البلد، فلما رأى استمرارهم عليه قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ أي: المبغضين له الناهين عنه، المحذرين.

رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ من فعله وعقوبته فاستجاب الله له.

فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ أي الباقين في العذاب وهي امرأته.

ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا أي حجارة من سجيل فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ أهلكهم الله عن آخرهم.

إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ

كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ ( 176 - 191 ) .

أصحاب الأيكة: أي: البساتين الملتفة أشجارها وهم أصحاب مدين, فكذبوا نبيهم شعيبا, الذي جاء بما جاء به المرسلون.

إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ الله تعالى, فتتركون ما يسخطه ويغضبه, من الكفر والمعاصي.

إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ يترتب على ذلك, أن تتقوا الله وتطيعون.

وكانوا - مع شركهم - يبخسون المكاييل والموازين, فلذلك قال لهم: أَوْفُوا الْكَيْلَ أي: أتموه وأكملوه وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ الذين ينقصون الناس أموالهم ويسلبونها ببخس المكيال والميزان.

وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ أي: بالميزان العادل, الذي لا يميل.

 

وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ أي: الخليقة الأولين، فكما انفرد بخلقكم, وخلق من قبلكم من غير مشارك له في ذلك, فأفردوه بالعبادة والتوحيد، وكما أنعم عليكم بالإيجاد والإمداد بالنعم, فقابلوه بشكره.

قالوا له, مكذبين له, رادين لقوله: إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ فأنت تهذي وتتكلم كلام المسحور, الذي غايته أن لا يؤاخذ به.

وَمَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا فليس فيك فضيلة, اختصصت بها علينا, حتى تدعونا إلى اتباعك، وهذا مثل قول من قبلهم ومن بعدهم, ممن عارضوا الرسل بهذه الشبهة، التي لم يزالوا, يدلون بها ويصولون, ويتفقون عليها, لاتفاقهم على الكفر, وتشابه قلوبهم.

وقد أجابت عنها الرسل بقولهم: إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ .

وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وهذا جراءة منهم وظلم, وقول زور, قد انطووا على خلافه، فإنه ما من رسول من الرسل, واجه قومه ودعاهم, وجادلهم وجادلوه, إلا وقد أظهر الله على يديه من الآيات, ما به يتيقنون صدقه وأمانته, خصوصا شعيبا عليه السلام, الذي يسمى خطيب الأنبياء, لحسن مراجعته قومه, ومجادلتهم بالتي هي أحسن، فإن قومه قد تيقنوا صدقه, وأن ما جاء به حق, ولكن إخبارهم عن ظن كذبه, كذب منهم.

فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ أي: قطع عذاب تستأصلنا. إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ كقول إخوانهم وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أو أنهم طلبوا بعض آيات الاقتراح, التي لا يلزم تتميم مطلوب من سألها.

قَالَ شعيب عليه السلام: رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ أي: نزول العذاب, ووقوع آيات الاقتراح, لست أنا الذي آتي بها وأنزلها بكم, وليس علي إلا تبليغكم ونصحكم وقد فعلت، وإنما الذي يأتي بها ربي، العالم بأعمالكم وأحوالكم, الذي يجازيكم ويحاسبكم.

فَكَذَّبُوهُ أي: صار التكذيب لهم, وصفا والكفر لهم ديدنا, بحيث لا تفيدهم الآيات, وليس بهم حيلة إلا نزول العذاب.

فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ أظلتهم سحابة فاجتمعوا تحتها مستلذين, لظلها غير الظليل, فأحرقتهم بالعذاب, فظلوا تحتها خامدين, ولديارهم مفارقين, ولدار الشقاء والعذاب نازلين.

إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ لا كرة لهم إلى الدنيا, فيستأنفوا العمل، ولا يفتر عنهم العذاب ساعة, ولا هم ينظرون.

إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً دالة على صدق شعيب, وصحة ما دعا إليه, وبطلان رد قومه عليه، وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ مع رؤيتهم الآيات, لأنهم لا زكاء فيهم, ولا خير لديهم وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ .

وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الذي امتنع بقدرته, عن إدراك أحد, وقهر كل مخلوق. الرَّحِيمُ الذي الرحمة وصفه ومن آثارها, جميع الخيرات في الدنيا والآخرة, من حين أوجد الله العالم إلى ما لا نهاية له. ومن عزته أن أهلك أعداءه حين كذبوا رسله، ومن رحمته, أن نجى أولياءه ومن اتبعهم من المؤمنين.

وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 192 ) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ ( 193 ) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ( 194 ) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ( 195 ) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ ( 196 ) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ( 197 ) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ ( 198 ) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ( 199 ) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ( 200 ) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ ( 201 ) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ( 202 ) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ ( 203 ) .

لما ذكر قصص الأنبياء مع أممهم, وكيف دعوهم, و [ ما ] ردوا عليهم به; وكيف أهلك الله أعداءهم, وصارت لهم العاقبة.

ذكر هذا الرسول الكريم, والنبي المصطفى العظيم وما جاء به من الكتاب, الذي فيه هداية لأولي الألباب فقال: ( وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) فالذي أنزله, فاطر الأرض والسماوات, المربي جميع العالم, العلوي والسفلي، وكما أنه رباهم بهدايتهم لمصالح دنياهم وأبدانهم, فإنه يربيهم أيضا, بهدايتهم لمصالح دينهم وأخراهم، ومن أعظم ما رباهم به, إنزال هذا الكتاب الكريم, الذي اشتمل على الخير الكثير, والبر الغزير، وفيه من الهداية, لمصالح الدارين, والأخلاق الفاضلة, ما ليس في غيره، وفي قوله: ( وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) من تعظيمه وشدة الاهتمام فيه, من كونه نزل من الله, لا من غيره, مقصودا فيه نفعكم وهدايتكم.

( نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ ) وهو جبريل عليه السلام, الذي هو أفضل الملائكة وأقواهم ( الأمِينُ ) الذي قد أمن أن يزيد فيه أو ينقص.

( عَلَى قَلْبِكَ ) يا محمد ( لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ) تهدي به إلى طريق الرشاد, وتنذر به عن طريق الغي.

( بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ ) وهو أفضل الألسنة, بلغة من بعث إليهم, وباشر دعوتهم أصلا اللسان البين الواضح. وتأمل كيف اجتمعت هذه الفضائل الفاخرة في هذا الكتاب الكريم، فإنه أفضل الكتب, نزل به أفضل الملائكة, على أفضل الخلق, على أفضل بضعة فيه وهي قلبه، على أفضل أمة أخرجت للناس, بأفضل الألسنة وأفصحها, وأوسعها, وهو: اللسان العربي المبين.

( وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأوَّلِينَ ) أي: قد بشرت به كتب الأولين وصدقته، وهو لما نزل, طبق ما أخبرت به, صدقها, بل جاء بالحق, وصدق المرسلين.

( أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً ) على صحته, وأنه من الله ( أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) الذي قد انتهى إليهم العلم, وصاروا أعلم الناس, وهم أهل الصنف، فإن كل شيء يحصل به اشتباه, يرجع فيه إلى أهل الخبرة والدراية, فيكون قولهم حجة على غيرهم، كما عرف السحرة الذين مهروا في علم السحر, صدق معجزة موسى, وأنه ليس بسحر، فقول الجاهلين بعد هذا, لا يؤبه به.

( وَلَوْ نزلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ ) الذين لا يفقهون لسانهم, ولا يقدرون على التعبير لهم كما ينبغي.

( فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ) يقولون: ما نفقه ما يقول, ولا ندري ما يدعو إليه، فليحمدوا ربهم, أن جاءهم على لسان أفصح الخلق, وأقدرهم على التعبير عن المقاصد, بالعبارات الواضحة, وأنصحهم، وليبادروا إلى التصديق به, وتلقيه بالتسليم والقبول، ولكن تكذيبهم له من غير شبهة, إن هو إلا محض الكفر والعناد, وأمر قد توارثته الأمم المكذبة, فلهذا قال: ( كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ) أي: أدخلنا التكذيب, وأنظمناه في قلوب أهل الإجرام, كما يدخل السلك في الإبرة, فتشربته, وصار وصفا لها، وذلك بسبب ظلمهم وجرمهم, فلذلك: ( لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ ) على تكذيبهم.

( فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) أي: يأتيهم على حين غفلة, وعدم إحساس منهم, ولا استشعار بنزوله, ليكون أبلغ في عقوبتهم والنكال بهم.

( فَيَقُولُوا ) إذ ذاك: ( هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ ) أي: يطلبون أن ينظروا ويمهلوا، والحال إنه قد فات الوقت, وحل بهم العذاب الذي لا يرفع عنهم, ولا يفتر ساعة.

أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ( 204 ) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ( 205 ) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ ( 206 ) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ( 207 ) .

يقول تعالى: ( أَفَبِعَذَابِنَا ) الذي هو العذاب الأليم العظيم, الذي لا يستهان به, ولا يحتقر، ( يَسْتَعْجِلُونَ ) فما الذي غرهم؟ هل فيهم قوة وطاقة, للصبر عليه؟ أم عندهم قوة يقدرون على دفعه أو رفعه إذا نزل؟ أم يعجزوننا, ويظنون أننا لا نقدر على ذلك؟.

( أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ) أي: أفرأيت إذا لم نستعجل عليهم, بإنزال العذاب, وأمهلناهم عدة سنين, يتمتعون في الدنيا ( ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ ) من العذاب.

مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ من اللذات والشهوات، أي: أي شيء يغني عنهم, ويفيدهم, وقد مضت وبطلت واضمحلت, وأعقبت تبعاتها, وضوعف لهم العذاب عند طول المدة. القصد أن الحذر, من وقوع العذاب, واستحقاقهم له. وأما تعجيله وتأخيره, فلا أهمية تحته, ولا جدوى عنده.

وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنْذِرُونَ ( 208 ) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ ( 209 ) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ( 210 ) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ( 211 ) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ( 212 ) .

يخبر تعالى عن كمال عدله, في إهلاك المكذبين, وأنه ما أوقع بقرية, هلاكا وعذابا, إلا بعد أن يعذر بهم, ويبعث فيهم النذر بالآيات البينات, ويدعونهم إلى الهدى, وينهونهم عن الردى, ويذكرونهم بآيات الله, وينبهونهم على أيامه في نعمه ونقمه.

( ذِكْرَى ) لهم وإقامة حجة عليهم. ( وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ ) فنهلك القرى, قبل أن ننذرهم, ونأخذهم وهم غافلون عن النذر, كما قال تعالى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ .

ولما بيَّن تعالى كمال القرآن وجلالته, نزهه عن كل صفة نقص, وحماه - وقت نزوله, وبعد نزوله - من شياطين الجن والإنس فقال: ( وَمَا تَنزلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ ) أي: لا يليق بحالهم ولا يناسبهم ( وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ) ذلك.

( إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ) قد أبعدوا عنه, وأعدت لهم الرجوم لحفظه, ونزل به جبريل, أقوى الملائكة, الذي لا يقدر شيطان أن يقربه, أو يحوم حول ساحته، وهذا كقوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ .

فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ( 213 ) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ( 214 ) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( 215 ) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ( 216 ) .

ينهى تعالى رسوله أصلا وأمته أسوة له في ذلك, عن دعاء غير الله, من جميع المخلوقين, وأن ذلك موجب للعذاب الدائم, والعقاب السرمدي, لكونه شركا، و مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ والنهي عن الشيء, أمر بضده، فالنهي عن الشرك, أمر بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له, محبة, وخوفا, ورجاء, وذلا وإنابة إليه في جميع الأوقات. ولما أمره بما فيه كمال نفسه, أمره بتكميل غيره فقال: ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) .

الذين هم أقرب الناس إليك, وأحقهم بإحسانك الديني والدنيوي, وهذا لا ينافي أمره بإنذار جميع الناس، كما إذا أمر الإنسان بعموم الإحسان, ثم قيل له « أحسن إلى قرابتك » فيكون هذا خصوصا دالا على التأكيد, وزيادة الحق، فامتثل صلى الله عليه وسلم, هذا الأمر الإلهي, فدعا سائر بطون قريش, فعمم وخصص, وذكرهم ووعظهم, ولم يُبْق صلى الله عليه وسلم من مقدوره شيئا, من نصحهم, وهدايتهم, إلا فعله, فاهتدى من اهتدى, وأعرض من أعرض.

( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) بلين جانبك, ولطف خطابك لهم, وتوددك, وتحببك إليهم, وحسن خلقك والإحسان التام بهم، وقد فعل صلى الله عليه وسلم, ذلك كما قال تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فهذه أخلاقه صلى الله عليه وسلم, أكمل الأخلاق, التي يحصل بها من المصالح العظيمة, ودفع المضار, ما هو مشاهد، فهل يليق بمؤمن بالله ورسوله, ويدعي اتباعه والاقتداء به, أن يكون كلا على المسلمين, شرس الأخلاق, شديد الشكيمة عليهم , غليظ القلب, فظ القول, فظيعه؟ [ و ] إن رأى منهم معصية, أو سوء أدب, هجرهم, ومقتهم, وأبغضهم، لا لين عنده, ولا أدب لديه, ولا توفيق، قد حصل من هذه المعاملة, من المفاسد, وتعطيل المصالح ما حصل, ومع ذلك تجده محتقرا لمن اتصف بصفات الرسول الكريم, وقد رماه بالنفاق والمداهنة, وقد كمَّل نفسه ورفعها, وأعجب بعمله، فهل هذا إلا من جهله, وتزيين الشيطان وخدعه له، ولهذا قال الله لرسوله: ( فَإِنْ عَصَوْكَ ) في أمر من الأمور, فلا تتبرأ منهم, ولا تترك معاملتهم, بخفض الجناح, ولين الجانب، بل تبرأ من عملهم, فعظهم عليه وانصحهم, وابذل قدرتك في ردهم عنه, وتوبتهم منه، وهذا لدفع احتراز وهم من يتوهم, أن قوله ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ ) للمؤمنين, يقتضي الرضاء بجميع ما يصدر منهم, ما داموا مؤمنين, فدفع هذا بهذا والله أعلم.

وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ( 217 ) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ( 218 ) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ( 219 ) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 220 ) .

أعظم مساعد للعبد على القيام بما أمر به, الاعتماد على ربه, والاستعانة بمولاه على توفيقه للقيام بالمأمور, فلذلك أمر الله تعالى بالتوكل عليه فقال: ( وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ) والتوكل هو اعتماد القلب على الله تعالى, في جلب المنافع, ودفع المضار, مع ثقته به, وحسن ظنه بحصول مطلوبه, فإنه عزيز رحيم, بعزته يقدر على إيصال الخير, ودفع الشر عن عبده, وبرحمته به, يفعل ذلك.

ثم نبهه على الاستعانة باستحضار قرب الله, والنزول في منزل الإحسان فقال: ( الَّذِي يَرَاكَ حِينَ * تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) أي: يراك في هذه العبادة العظيمة, التي هي الصلاة, وقت قيامك, وتقلبك راكعا وساجدا خصها بالذكر, لفضلها وشرفها, ولأن من استحضر فيها قرب ربه, خشع وذل, وأكملها, وبتكميلها, يكمل سائر عمله, ويستعين بها على جميع أموره.

( إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ ) لسائر الأصوات على اختلافها وتشتتها وتنوعها، ( الْعَلِيمُ ) الذي أحاط بالظواهر والبواطن, والغيب والشهادة. فاستحضار العبد رؤية الله له في جميع أحواله, وسمعه لكل ما ينطق به, وعلمه بما ينطوي عليه قلبه, من الهم, والعزم, والنيات, مما يعينه على منزلة الإحسان.

هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ ( 221 ) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ( 222 ) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ( 223 ) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ( 224 ) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ( 225 ) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ ( 226 ) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ( 227 ) .

هذا جواب لمن قال من مكذبي الرسول: إن محمدا ينزل عليه شيطان. وقول من قال: إنه شاعر فقال: ( هَلْ أُنَبِّئُكُمْ ) أي: أخبركم الخبر الحقيقي الذي لا شك فيه ولا شبهة, على من تنزل الشياطين، أي: بصفة الأشخاص, الذين تنزل عليهم الشياطين.

( تَنزلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ ) أي: كذاب, كثير القول للزور, والإفك بالباطل، ( أَثِيمٍ ) في فعله, كثير المعاصي، هذا الذي تنزل عليه الشياطين, وتناسب حاله حالهم.

( يُلْقُونَ ) عليه ( السَّمْعَ ) الذي يسترقونه من السماء، ( وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ) أي: أكثر ما يلقون إليه كذب فيصدق واحدة, ويكذب معها مائة, فيختلط الحق بالباطل, ويضمحل الحق بسبب قلته, وعدم علمه. فهذه صفة الأشخاص الذين تنزل عليهم الشياطين, وهذه صفة وحيهم له.

وأما محمد صلى الله عليه وسلم, فحاله مباينة لهذه الأحوال أعظم مباينة, لأنه الصادق الأمين, البار الراشد, الذي جمع بين بر القلب, وصدق اللهجة, ونزاهة الأفعال من المحرم.

والوحي الذي ينزل عليه من عند الله, ينزل محروسا محفوظا, مشتملا على الصدق العظيم, الذي لا شك فيه ولا ريب، فهل يستوي - يا أهل العقول - هذا وأولئك؟ وهل يشتبهان, إلا على مجنون, لا يميز, ولا يفرق بين الأشياء؟.

فلما نزهه عن نزول الشياطين عليه, برَّأه أيضا من الشعر فقال: ( وَالشُّعَرَاءُ ) أي: هل أنبئكم أيضا عن حالة الشعراء, ووصفهم الثابت، فإنهم ( يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ) عن طريق الهدى, المقبلون على طريق الغي والردى، فهم في أنفسهم غاوون, وتجد أتباعهم كل غاو ضال فاسد.

( أَلَمْ تَرَ ) غوايتهم وشدة ضلالهم ( أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ ) من أودية الشعر، ( يَهِيمُونَ ) فتارة في مدح, وتارة في قدح, وتارة في صدق، وتارة في كذب، وتارة يتغزلون, وأخرى يسخرون, ومرة يمرحون, وآونة يحزنون, فلا يستقر لهم قرار, ولا يثبتون على حال من الأحوال.

( وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ ) أي: هذا وصف الشعراء, أنهم تخالف أقوالهم أفعالهم، فإذا سمعت الشاعر يتغزل بالغزل الرقيق, قلت: هذا أشد الناس غراما, وقلبه فارغ من ذاك, وإذا سمعته يمدح أو يذم, قلت: هذا صدق, وهو كذب، وتارة يتمدح بأفعال لم يفعلها, وتروك لم يتركها, وكرم لم يحم حول ساحته, وشجاعة يعلو بها على الفرسان, وتراه أجبن من كل جبان، هذا وصفهم.

فانظر, هل يطابق حالة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم, الراشد البار, الذي يتبعه كل راشد ومهتد, الذي قد استقام على الهدى, وجانب الردى, ولم تتناقض أفعاله ولم تخالف أقواله أفعاله؟ الذي لا يأمر إلا بالخير, ولا ينهى إلا عن الشر، ولا أخبر بشيء إلا صدق, ولا أمر بشيء إلا كان أول الفاعلين له, ولا نهى عن شيء إلا كان أول التاركين له.

فهل تناسب حاله, حالة الشعراء, أو يقاربهم؟ أم هو مخالف لهم من جميع الوجوه؟ فصلوات الله وسلامه على هذا الرسول الأكمل, والهمام الأفضل, أبد الآبدين, ودهر الداهرين, الذي ليس بشاعر, ولا ساحر, ولا مجنون, ولا يليق به إلا كل كمال.

ولما وصف الشعراء بما وصفهم به, استثنى منهم من آمن بالله ورسوله, وعمل صالحا, وأكثر من ذكر الله, وانتصر من أعدائه المشركين من بعد ما ظلموهم.

فصار شعرهم من أعمالهم الصالحة, وآثار إيمانهم, لاشتماله على مدح أهل الإيمان, والانتصار من أهل الشرك والكفر, والذب عن دين الله, وتبيين العلوم النافعة, والحث على الأخلاق الفاضلة فقال: ( إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) ينقلبون إلى موقف وحساب, لا يغادر صغيرة ولا كبيرة, إلا أحصاها, ولا حقا إلا استوفاه. والحمد لله رب العالمين.

 

تفسير سورة النمل

 

وهي مكية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ ( 1 ) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ( 2 ) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ( 3 ) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ( 4 ) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ ( 5 ) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ( 6 ) .

ينبه تعالى عباده على عظمة القرآن ويشير إليه إشارة دالة على التعظيم فقال: ( تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ ) أي: هي أعلى الآيات وأقوى البينات وأوضح الدلالات وأبينها على أجل المطالب وأفضل المقاصد، وخير الأعمال وأزكى الأخلاق، آيات تدل على الأخبار الصادقة والأوامر الحسنة والنهي عن كل عمل وخيم وخلق ذميم، آيات بلغت في وضوحها وبيانها للبصائر النيرة مبلغ الشمس للأبصار، آيات دلت على الإيمان ودعت للوصول إلى الإيقان، وأخبرت عن الغيوب الماضية والمستقبلة، على طبق ما كان ويكون. آيات دعت إلى معرفة الرب العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وأفعاله الكاملة، آيات عرفتنا برسله وأوليائه ووصفتهم حتى كأننا ننظر إليهم بأبصارنا، ولكن مع هذا لم ينتفع بها كثير من العالمين ولم يهتد بها جميع المعاندين صونا لها عن من لا خير فيه ولا صلاح ولا زكاء في قلبه، وإنما اهتدى بها من خصهم الله بالإيمان واستنارت بذلك قلوبهم وصفت سرائرهم.

فلهذا قال: ( هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) أي: تهديهم إلى سلوك الصراط المستقيم وتبين لهم ما ينبغي أن يسلكوه أو يتركوه، وتبشرهم بثواب الله المرتب على الهداية لهذا الطريق.

ربما قيل: لعله يكثر مدعو الإيمان فهل يقبل من كل أحد ادعى أنه مؤمن ذلك؟ أم لا بد لذلك من دليل؟ وهو الحق فلذلك بين تعالى صفة المؤمنين فقال: ( الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ) فرضها ونفلها فيأتون بأفعالها الظاهرة، من أركانها وشروطها وواجباتها بل ومستحباتها، وأفعالها الباطنة وهو الخشوع الذي روحها ولبها باستحضار قرب الله وتدبر ما يقول المصلي ويفعله.

( وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ) المفروضة لمستحقيها. ( وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) أي: قد بلغ معهم الإيمان إلى أن وصل إلى درجة اليقين وهو العلم التام الواصل إلى القلب الداعي إلى العمل. ويقينهم بالآخرة يقتضي كمال سعيهم لها، وحذرهم من أسباب العذاب وموجبات العقاب وهذا أصل كل خير.

( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ ) ويكذبون بها ويكذبون من جاء بإثباتها، ( زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ) حائرين مترددين مؤثرين سخط الله على رضاه، قد انقلبت عليهم الحقائق فرأوا الباطل حقا والحق باطلا.

( أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ ) أي: أشده وأسوأه وأعظمه، ( وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ ) حصر الخسار فيهم لكونهم خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة وخسروا الإيمان الذي دعتهم إليه الرسل.

( وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ) أي: وإن هذا القرآن الذي ينزل عليك وتتلقفه وتتلقنه ينزل من عند ( حَكِيمٍ ) يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها. ( عَلِيمٍ ) بأسرار الأمور وبواطنها، كظواهرها. وإذا كان من عند ( حَكِيمٍ عَلِيمٍ ) علم أنه كله حكمة ومصالح للعباد، من الذي [ هو ] أعلم بمصالحهم منهم؟

إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا إلى آخر قصته، يعني: اذكر هذه الحالة الفاضلة الشريفة من أحوال موسى بن عمران، ابتداء الوحي إليه واصطفائه برسالته وتكليم الله إياه، وذلك أنه لما مكث في مدين عدة سنين وسار بأهله من مدين متوجها إلى مصر، فلما كان في أثناء الطريق ضل وكان في ليلة مظلمة باردة فقال لهم: ( إِنِّي آنَسْتُ نَارًا ) أي: أبصرت نارا من بعيد سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ عن الطريق، أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ أي: تستدفئون، وهذا دليل على أنه تائه ومشتد برده هو وأهله.

فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا أي: ناداه الله تعالى وأخبره أن هذا محل مقدس مبارك، ومن بركته أن جعله الله موضعا لتكليم الله لموسى وندائه وإرساله.

وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عن أن يظن به نقص أو سوء بل هو الكامل في وصفه وفعله.

يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي: أخبره الله أنه الله المستحق للعبادة وحده لا شريك له كما في الآية الأخرى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ( الْعَزِيزُ ) الذي قهر جميع الأشياء وأذعنت له كل المخلوقات، ( الْحَكِيمُ ) في أمره وخلقه. ومن حكمته أن أرسل عبده موسى بن عمران الذي علم الله منه أنه أهل لرسالته ووحيه وتكليمه. ومن عزته أن تعتمد عليه ولا تستوحش من انفرادك وكثرة أعدائك وجبروتهم، فإن نواصيهم بيد الله وحركاتهم وسكونهم بتدبيره.

وَأَلْقِ عَصَاكَ فألقاها فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وهو ذكر الحيات سريع الحركة، وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ذعرا من الحية التي رأى على مقتضى الطبائع البشرية، فقال الله له: يَا مُوسَى لا تَخَفْ وقال في الآية الأخرى: أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ * إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ لأن جميع المخاوف مندرجة في قضائه وقدره وتصريفه وأمره، فالذين اختصهم الله برسالته واصطفاهم لوحيه لا ينبغي لهم أن يخافوا غير الله خصوصا عند زيادة القرب منه والحظوة بتكليمه.

إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ أي: فهذا الذي هو محل الخوف والوحشة بسبب ما أسدى من الظلم وما تقدم له من الجرم، وأما المرسلون فما لهم وللوحشة والخوف؟ ومع هذا من ظلم نفسه بمعاصي الله، ثم تاب وأناب فبدل سيئاته حسنات ومعاصيه طاعات فإن الله غفور رحيم، فلا ييأس أحد من رحمته ومغفرته فإنه يغفر الذنوب جميعا وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها.

وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ لا برص ولا نقص، بل بياض يبهر الناظرين شعاعه. فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ أي: هاتان الآيتان انقلاب العصا حية تسعى وإخراج اليد من الجيب فتخرج بيضاء في جملة تسع آيات تذهب بها وتدعو فرعون وقومه، إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ فسقوا بشركهم وعتوهم وعلوهم على عباد الله واستكبارهم في الأرض بغير الحق.

فذهب موسى عليه السلام إلى فرعون وملئه ودعاهم إلى الله تعالى وأراهم الآيات.

فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً مضيئة تدل على الحق ويبصر بها كما تبصر الأبصار بالشمس. قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ لم يكفهم مجرد القول بأنه سحر بل قالوا: ( مُبِينٌ ) ظاهر لكل أحد. وهذا من أعجب العجائب الآيات المبصرات والأنوار الساطعات، تجعل من بين الخزعبلات وأظهر السحر! هل هذا إلا من أعظم المكابرة وأوقح السفسطة.

 

وَجَحَدُوا بِهَا أي: كفروا بآيات الله جاحدين لها، وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ أي: ليس جحدهم مستندا إلى الشك والريب، وإنما جحدهم مع علمهم ويقينهم بصحتها ظُلْمًا منهم لحق ربهم ولأنفسهم، وَعُلُوًّا على الحق وعلى العباد وعلى الانقياد للرسل، فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أسوأ عاقبة دمرهم الله وغرقهم في البحر وأخزاهم وأورث مساكنهم المستضعفين من عباده.

وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ ( 15 - 44 ) إلى آخر القصة.

يذكر في هذا القرآن وينوه بمنته على داود وسليمان ابنه بالعلم الواسع الكثير بدليل التنكير كما قال تعالى: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا الآية.

( وَقَالا ) شاكرين لربهما منته الكبرى بتعليمهما: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ) فحمدا الله على جعلهما من المؤمنين أهل السعادة وأنهما كانا من خواصهم.

ولا شك أن المؤمنين أربع درجات: الصالحون، ثم فوقهم الشهداء، ثم فوقهم الصديقون ثم فوقهم الأنبياء، وداود وسليمان من خواص الرسل وإن كانوا دون درجة أولي العزم [ الخمسة ] ، لكنهم من جملة الرسل الفضلاء الكرام الذين نوه الله بذكرهم ومدحهم في كتابه مدحا عظيما فحمدوا الله على بلوغ هذه المنزلة، وهذا عنوان سعادة العبد أن يكون شاكرا لله على نعمه الدينية والدنيوية وأن يرى جميع النعم من ربه، فلا يفخر بها ولا يعجب بها بل يرى أنها تستحق عليه شكرا كثيرا، فلما مدحهما مشتركين خص سليمان بما خصه به لكون الله أعطاه ملكا عظيما وصار له من الماجريات ما لم يكن لأبيه صلى الله عليهما وسلم فقال: ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ ) .

أي: ورث علمه ونبوته فانضم علم أبيه إلى علمه، فلعله تعلم من أبيه ما عنده من العلم مع ما كان عليه من العلم وقت أبيه كما تقدم من قوله ففهمناها سليمان، وقال شكرا لله وتبجحا بإحسانه وتحدثا بنعمته: يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ فكان عليه الصلاة [ والسلام ] يفقه ما تقول وتتكلم به كما راجع الهدهد وراجعه، وكما فهم قول النملة للنمل كما يأتي وهذا لم يكن لأحد غير سليمان عليه الصلاة والسلام.

وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أي: أعطانا الله من النعم ومن أسباب الملك ومن السلطنة والقهر ما لم يؤته أحدا من الآدميين، ولهذا دعا ربه فقال: وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فسخر الله له الشياطين يعملون له كل ما شاء من الأعمال التي يعجز عنها غيرهم، وسخر له الريح غدوها شهر ورواحها شهر.

إِنَّ هَذَا الذي أعطانا الله وفضلنا واختصنا به لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ الواضح الجلي فاعترف أكمل اعتراف بنعمة الله تعالى.

وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ أي: جمع له جنوده الكثيرة الهائلة المتنوعة من بني آدم، ومن الجن والشياطين ومن الطيور فهم يوزعون يدبرون ويرد أولهم على آخرهم، وينظمون غاية التنظيم في سيرهم ونزولهم وحلهم وترحالهم قد استعد لذلك وأعد له عدته.

وكل هذه الجنود مؤتمرة بأمره لا تقدر على عصيانه ولا تتمرد عنه، قال تعالى: هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ أي: أعط بغير حساب، فسار بهذه الجنود الضخمة في بعض أسفاره

حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ منبهة لرفقتها وبني جنسها: يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فنصحت هذه النملة وأسمعت النمل إما بنفسها ويكون الله قد أعطى النمل أسماعا خارقة للعادة، لأن التنبيه للنمل الذي قد ملأ الوادي بصوت نملة واحدة من أعجب العجائب. وإما بأنها أخبرت من حولها من النمل ثم سرى الخبر من بعضهن لبعض حتى بلغ الجميع وأمرتهن بالحذر، والطريق في ذلك وهو دخول مساكنهن.

وعرفت حالة سليمان وجنوده وعظمة سلطانه، واعتذرت عنهم أنهم إن حطموكم فليس عن قصد منهم ولا شعور، فسمع سليمان عليه الصلاة والسلام قولها وفهمه.

فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا إعجابا منه بفصاحتها ونصحها وحسن تعبيرها. وهذا حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الأدب الكامل، والتعجب في موضعه وأن لا يبلغ بهم الضحك إلا إلى التبسم، كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم جل ضحكه التبسم، فإن القهقهة تدل على خفة العقل وسوء الأدب. وعدم التبسم والعجب مما يتعجب منه، يدل على شراسة الخلق والجبروت. والرسل منزهون عن ذلك.

وقال شاكرا لله الذي أوصله إلى هذه الحال: رَبِّ أَوْزِعْنِي أي: ألهمني ووفقني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ فإن النعمة على الوالدين نعمة على الولد. فسأل ربه التوفيق للقيام بشكر نعمته الدينية والدنيوية عليه وعلى والديه، وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ أي: ووفقني أن أعمل صالحا ترضاه لكونه موافقا لأمرك مخلصا فيه سالما من المفسدات والمنقصات، وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ التي منها الجنة فِي جملة عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ فإن الرحمة مجعولة للصالحين على اختلاف درجاتهم ومنازلهم.

فهذا نموذج ذكره الله من حالة سليمان عند سماعه خطاب النملة ونداءها.

ثم ذكر نموذجا آخر من مخاطبته للطير فقال: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ دل هذا على كمال عزمه وحزمه وحسن تنظيمه لجنوده وتدبيره بنفسه للأمور الصغار والكبار، حتى إنه لم يهمل هذا الأمر وهو تفقد الطيور والنظر: هل هي موجودة كلها أم مفقود منها شيء؟ وهذا هو المعنى للآية. ولم يصنع شيئا من قال: إنه تفقد الطير لينظر أين الهدهد منها ليدله على بعد الماء وقربه، كما زعموا عن الهدهد أنه يبصر الماء تحت الأرض الكثيفة، فإن هذا القول لا يدل عليه دليل بل الدليل العقلي واللفظي دال على بطلانه، أما العقلي فإنه قد عرف بالعادة والتجارب والمشاهدات أن هذه الحيوانات كلها، ليس منها شيء يبصر هذا البصر الخارق للعادة، ينظر الماء تحت الأرض الكثيفة، ولو كان كذلك لذكره الله لأنه من أكبر الآيات.

وأما الدليل اللفظي فلو أريد هذا المعنى لقال: « وطلب الهدهد لينظر له الماء فلما فقده قال ما قال » أو « فتش عن الهدهد » أو: « بحث عنه » ونحو ذلك من العبارات، وإنما تفقد الطير لينظر الحاضر منها والغائب ولزومها للمراكز والمواضع التي عينها لها. وأيضا فإن سليمان عليه السلام لا يحتاج ولا يضطر إلى الماء بحيث يحتاج لهندسة الهدهد، فإن عنده من الشياطين والعفاريت ما يحفرون له الماء، ولو بلغ في العمق ما بلغ. وسخر الله له الريح غدوها شهر ورواحها شهر، فكيف - مع ذلك- يحتاج إلى الهدهد؟ «

» وهذه التفاسير التي توجد وتشتهر بها أقوال لا يعرف غيرها، تنقل هذه الأقوال عن بني إسرائيل مجردة ويغفل الناقل عن مناقضتها للمعاني الصحيحة وتطبيقها على الأقوال، ثم لا تزال تتناقل وينقلها المتأخر مسلما للمتقدم حتى يظن أنها الحق، فيقع من الأقوال الردية في التفاسير ما يقع، واللبيب الفطن يعرف أن هذا القرآن الكريم العربي المبين الذي خاطب الله به الخلق كلهم عالمهم وجاهلهم وأمرهم بالتفكر في معانيه، وتطبيقها على ألفاظه العربية المعروفة المعاني التي لا تجهلها العرب العرباء، وإذا وجد أقوالا منقولة عن غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ردها إلى هذا الأصل، فإن وافقته قبلها لكون اللفظ دالا عليها، وإن خالفته لفظا ومعنى أو لفظا أو معنى ردها وجزم ببطلانها، لأن عنده أصلا معلوما مناقضا لها وهو ما يعرفه من معنى الكلام ودلالته.

والشاهد أن تفقد سليمان عليه السلام للطير، وفقده الهدهد يدل على كمال حزمه وتدبيره للملك بنفسه وكمال فطنته حتى فقد هذا الطائر الصغير فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ أي: هل عدم رؤيتي إياه لقلة فطنتي به لكونه خفيا بين هذه الأمم الكثيرة؟ أم على بابها بأن كان غائبا من غير إذني ولا أمري؟.

فحينئذ تغيظ عليه وتوعده فقال: لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا دون القتل، أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ أي: حجة واضحة على تخلفه، وهذا من كمال ورعه وإنصافه أنه لم يقسم على مجرد عقوبته بالعذاب أو القتل لأن ذلك لا يكون إلا من ذنب، وغيبته قد تحتمل أنها لعذر واضح فلذلك استثناه لورعه وفطنته.

فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ ثم جاء وهذا يدل على هيبة جنوده منه وشدة ائتمارهم لأمره، حتى إن هذا الهدهد الذي خلفه العذر الواضح لم يقدر على التخلف زمنا كثيرا، فَقَالَ لسليمان: أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ أي: عندي العلم علم ما أحطت به على علمك الواسع وعلى درجتك فيه، وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ القبيلة المعروفة في اليمن بِنَبَإٍ يَقِينٍ أي: خبر متيقن.

 

ثم فسر هذا النبأ فقال: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ أي: تملك قبيلة سبأ وهي امرأة وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يؤتاه الملوك من الأموال والسلاح والجنود والحصون والقلاع ونحو ذلك. وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ أي: كرسي ملكها الذي تجلس عليه عرش هائل، وعظم العروش تدل على عظمة المملكة وقوة السلطان وكثرة رجال الشورى.

وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: هم مشركون يعبدون الشمس. وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فرأوا ما عليه هو الحق، فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ لأن الذي يرى أن الذي عليه حق لا مطمع في هدايته حتى تتغير عقيدته.

ثم قال: أَلا أي: هلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أي: يعلم الخفي الخبيء في أقطار السماوات وأنحاء الأرض، من صغار المخلوقات وبذور النباتات وخفايا الصدور، ويخرج خبء الأرض والسماء بإنزال المطر وإنبات النباتات، ويخرج خبء الأرض عند النفخ في الصور وإخراج الأموات من الأرض ليجازيهم بأعمالهم وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ .

اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ أي: لا تنبغي العبادة والإنابة والذل والحب إلا له لأنه المألوه لما له من الصفات الكاملة والنعم الموجبة لذلك. رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الذي هو سقف المخلوقات ووسع الأرض والسماوات، فهذا الملك عظيم السلطان كبير الشأن هو الذي يذل له ويخضع ويسجد له ويركع، فسلم الهدهد حين ألقى إليه هذا النبأ العظيم وتعجب سليمان كيف خفي عليه.

وقال مثبتا لكمال عقله ورزانته سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا وسيأتي نصه فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ أي استأخر غير بعيد فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ إليك وما يتراجعون به

فذهب به فألقاه عليها فقالت لقومها إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ أي جليل المقدار من أكبر ملوك الأرض

ثم بينت مضمونه فقالت إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ أي: لا تكونوا فوقي بل اخضعوا تحت سلطاني، وانقادوا لأوامري وأقبلوا إلي مسلمين.

وهذا في غاية الوجازة مع البيان التام فإنه تضمن نهيهم عن العلو عليه، والبقاء على حالهم التي هم عليها والانقياد لأمره والدخول تحت طاعته، ومجيئهم إليه ودعوتهم إلى الإسلام، وفيه استحباب ابتداء الكتب بالبسملة كاملة وتقديم الاسم في أول عنوان الكتاب، فمن حزمها وعقلها أن جمعت كبار دولتها ورجال مملكتها وقالت: يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي .

أي: أخبروني ماذا نجيبه به؟ وهل ندخل تحت طاعته وننقاد؟ أم ماذا نفعل؟ مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ أي: ما كنت مستبدة بأمر دون رأيكم ومشورتكم.

قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ أي: إن رددت عليه قوله ولم تدخلي في طاعته فإنا أقوياء على القتال، فكأنهم مالوا إلى هذا الرأي الذي لو تم لكان فيه دمارهم، ولكنهم أيضا لم يستقروا عليه بل قالوا: وَالأَمْرُ إِلَيْكِ أي: الرأي ما رأيت لعلمهم بعقلها وحزمها ونصحها لهم فَانْظُرِي نظر فكر وتدبر مَاذَا تَأْمُرِينَ .

فقالت لهم - مقنعة لهم عن رأيهم ومبينة سوء مغبة القتال- إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا قتلا وأسرا ونهبا لأموالها، وتخريبا لديارها، وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً أي: جعلوا الرؤساء السادة أشراف الناس من الأذلين، أي: فهذا رأي غير سديد، وأيضا فلست بمطيعة له قبل الاختبار وإرسال من يكشف عن أحواله ويتدبرها، وحينئذ نكون على بصيرة من أمرنا.

فقالت: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ منه. هل يستمر على رأيه وقوله؟ أم تخدعه الهدية وتتبدل فكرته وكيف أحواله وجنوده؟ فأرسلت له هدية مع رسل من عقلاء قومها وذوي الرأي: منهم

 

فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ أي: جاءه الرسل بالهدية قَالَ منكرا عليهم ومتغيظا على عدم إجابتهم: أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ فليست تقع عندي موقعا ولا أفرح بها قد أغناني الله عنها وأكثر علي النعم، بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ لحبكم للدنيا وقلة ما بأيديكم بالنسبة لما أعطاني الله.

ثم أوصى الرسول من غير كتاب لما رأى من عقله وأنه سينقل كلامه على وجهه فقال: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ أي: بهديتك فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ أي: لا طاقة لهم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ فرجع إليهم وأبلغهم ما قال سليمان وتجهزوا للمسير إلى سليمان، وعلم سليمان أنهم لا بد أن يسيروا إليه فقال لمن حضره من الجن والإنس: أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ أي: لأجل أن نتصرف فيه قبل أن يسلموا فتكون أموالهم محترمة، قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ والعفريت: هو القوي النشيط جدا: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ والظاهر أن سليمان إذ ذاك في الشام فيكون بينه وبين سبأ نحو مسيرة أربعة أشهر شهران ذهابا وشهران إيابا، ومع ذلك يقول هذا العفريت: أنا التزم بالمجيء به على كبره وثقله، وبعده قبل أن تقوم من مجلسك الذي أنت فيه. والمعتاد من المجالس الطويلة أن تكون معظم الضحى نحو ثلث يوم هذا نهاية المعتاد، وقد يكون دون ذلك أو أكثر، وهذا الملك العظيم الذي عند آحاد رعيته هذه القوة والقدرة وأبلغ من ذلك أن قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ قال المفسرون: هو رجل عالم صالح عند سليمان يقال له: « آصف بن برخيا » كان يعرف اسم الله الأعظم الذي إذا دعا الله به أجاب وإذا سأل به أعطى.

أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ بأن يدعو الله بذلك الاسم فيحضر حالا وأنه دعا الله فحضر. فالله أعلم [ هل هذا المراد أم أن عنده علما من الكتاب يقتدر به على جلب البعيد وتحصيل الشديد ]

فَلَمَّا رَآهُ سليمان مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ حمد الله تعالى على إقداره وملكه وتيسير الأمور له و قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ أي: ليختبرني بذلك. فلم يغتر عليه السلام بملكه وسلطانه وقدرته كما هو دأب الملوك الجاهلين، بل علم أن ذلك اختبار من ربه فخاف أن لا يقوم بشكر هذه النعمة، ثم بين أن هذا الشكر لا ينتفع الله به وإنما يرجع نفعه إلى صاحبه فقال: وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ غني عن أعماله كريم كثير الخير يعم به الشاكر والكافر، إلا أن شكر نعمه داع للمزيد منها وكفرها داع لزوالها، ثم قال لمن عنده: نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا أي: غيروه بزيادة ونقص، ونحو ذلك نَنْظُرْ مختبرين لعقلها أَتَهْتَدِي للصواب ويكون عندها ذكاء وفطنة تليق بملكها أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ .

فَلَمَّا جَاءَتْ قادمة على سليمان عرض عليها عرشها وكان عهدها به قد خلفته في بلدها، و قِيلَ لها أَهَكَذَا عَرْشُكِ أي: أنه استقر عندنا أن لك عرشا عظيما فهل هو كهذا العرش الذي أحضرناه لك؟ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وهذا من ذكائها وفطنتها لم تقل « هو » لوجود التغيير فيه والتنكير ولم تنف أنه هو، لأنها عرفته، فأتت بلفظ محتمل للأمرين صادق على الحالين، فقال سليمان متعجبا من هدايتها وعقلها وشاكرا لله أن أعطاه أعظم منها: وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا أي: الهداية والعقل والحزم من قبل هذه الملكة، وَكُنَّا مُسْلِمِينَ وهي الهداية النافعة الأصلية.

ويحتمل أن هذا من قول ملكة سبأ: « وأوتينا العلم عن ملك سليمان وسلطانه وزيادة اقتداره من قبل هذه الحالة التي رأينا فيها قدرته على إحضار العرش من المسافة البعيدة فأذعنا له وجئنا مسلمين له خاضعين لسلطانه »

قال الله تعالى: وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: عن الإسلام، وإلا فلها من الذكاء والفطنة ما به تعرف الحق من الباطل ولكن العقائد الباطلة تذهب بصيرة القلب إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ فاستمرت على دينهم، وانفراد الواحد عن أهل الدين والعادة المستمرة بأمر يراه بعقله من ضلالهم وخطئهم من أندر ما يكون فلهذا لا يستغرب بقاؤها على الكفر، ثم إن سليمان أراد أن ترى من سلطانه ما يبهر العقول فأمرها أن تدخل الصرح وهي المجلس المرتفع المتسع وكان مجلسا من قوارير تجري تحته الأنهار.

فـ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً ماء لأن القوارير شفافة، يرى الماء الذي تحتها كأنه بذاته يجري ليس دونه شيء، وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا للخياضة وهذا أيضا من عقلها وأدبها، فإنها لم تمتنع من الدخول للمحل الذي أمرت بدخوله لعلمها أنها لم تستدع إلا للإكرام وأن ملك سليمان وتنظيمه قد بناه على الحكمة ولم يكن في قلبها أدنى شك من حالة السوء بعد ما رأت ما رأت.

فلما استعدت للخوض قيل لها: إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ أي: مملس مِنْ قَوَارِيرَ فلا حاجة منك لكشف الساقين. فحينئذ لما وصلت إلى سليمان وشاهدت ما شاهدت وعلمت نبوته ورسالته تابت ورجعت عن كفرها و قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .

فهذا ما قصه الله علينا من قصة ملكة سبأ وما جرى لها مع سليمان، وما عدا ذلك من الفروع المولدة والقصص الإسرائيلية فإنه لا يتعلق بالتفسير لكلام الله وهو من الأمور التي يقف الجزم بها، على الدليل المعلوم عن المعصوم، والمنقولات في هذا الباب كلها أو أكثرها ليس كذلك، فالحزم كل الحزم، الإعراض عنها وعدم إدخالها في التفاسير. والله أعلم.

 

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ ( 45 - 53 ) إلى آخر القصة.

يخبر تعالى أنه أرسل إلى ثمود القبيلة المعروفة أخاهم في النسب صالحا وأنه أمرهم أن يعبدوا الله وحده ويتركوا الأنداد والأوثان، ( فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ ) منهم المؤمن ومنهم الكافر وهم معظمهم.

قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ أي: لم تبادرون فعل السيئات وتحرصون عليها قبل فعل الحسنات التي بها تحسن أحوالكم وتصلح أموركم الدينية والدنيوية؟ والحال أنه لا موجب لكم إلى الذهاب لفعل السيئات؟. لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ بأن تتوبوا من شرككم وعصيانكم وتدعوه أن يغفر لكم، لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فإن رحمة الله تعالى قريب من المحسنين والتائب من الذنوب هو من المحسنين.

قَالُوا لنبيهم صالح مكذبين ومعارضين: اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ زعموا - قبحهم الله- أنهم لم يروا على وجه صالح خيرا وأنه هو ومن معه من المؤمنين صاروا سببا لمنع بعض مطالبهم الدنيوية، فقال لهم صالح: طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أي: ما أصابكم إلا بذنوبكم، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ بالسراء والضراء والخير والشر لينظر هل تقلعون وتتوبون أم لا؟ فهذا دأبهم في تكذيب نبيهم وما قابلوه به.

وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ التي فيها صالح الجامعة لمعظم قومه تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ أي: وصفهم الإفساد في الأرض، ولا لهم قصد ولا فعل بالإصلاح قد استعدوا لمعاداة صالح والطعن في دينه ودعوة قومهم إلى ذلك كما قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ

فلم يزالوا بهذه الحال الشنيعة حتى إنهم من عداوتهم تَقَاسَمُوا فيما بينهم كل واحد أقسم للآخر لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ أي نأتيه ليلا هو وأهله فلنقتلنهم ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ إذا قام علينا وادعى علينا أنا قتلناه ننكر ذلك وننفيه ونحلف إِنَّا لَصَادِقُونَ فتواطئوا على ذلك

وَمَكَرُوا مَكْرًا دبروا أمرهم على قتل صالح وأهله على وجه الخفية حتى من قومهم خوفا من أوليائه وَمَكَرْنَا مَكْرًا بنصر نبينا صالح عليه السلام وتيسير أمره وإهلاك قومه المكذبين وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ

فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ هل حصل مقصودهم؟ وأدركوا بذلك المكر مطلوبهم أم انتقض عليهم الأمر ولهذا قال أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ أهلكناهم واستأصلنا شأفتهم فجاءتهم صيحة عذاب فأهلكوا عن آخرهم

فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً قد تهدمت جدرانها على سقوفها وأوحشت من ساكنيها وعطلت من نازليها بِمَا ظَلَمُوا أي هذا عاقبة ظلمهم وشركهم بالله وبغيهم في الأرض

إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ الحقائق ويتدبرون وقائع الله في أوليائه وأعدائه فيعتبرون بذلك ويعلمون أن عاقبة الظلم الدمار والهلاك وأن عاقبة الإيمان والعدل النجاة والفوز

ولهذا قال وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ أي أنجينا المؤمنين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره وكانوا يتقون الشرك بالله والمعاصي ويعملون بطاعته وطاعة رسله

وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ( 54 - 58 ) إلى آخر القصة.

أي: واذكر عبدنا ورسولنا لوطا ونبأه الفاضل حين قال لقومه - داعيا إلى الله وناصحا- : ( أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ ) أي: الفعلة الشنعاء التي تستفحشها العقول والفطر وتستقبحها الشرائع ( وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ) ذلك وتعلمون قبحه فعاندتم وارتكبتم ذلك ظلما منكم وجرأة على الله.

ثم فسر تلك الفاحشة فقال: أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ أي: كيف توصلتم إلى هذه الحال، صارت شهوتكم للرجال، وأدبارهم محل الغائط والنجو والخبث، وتركتم ما خلق الله لكم من النساء من المحال الطيبة التي جبلت النفوس إلى الميل إليها وأنتم انقلب عليكم الأمر فاستحسنتم القبيح واستقبحتم الحسن بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ متجاوزون لحدود الله متجرئون على محارمه.