القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا

وهذا تقدُّم من الله تعالى ذكره إلى عباده المؤمنين به وبرسوله أن يفعلوا فعل الذين سَعَوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر بني أبيرقٍ أن يقوم بالعذر لهم في أصحابه، وذَبَّهم عنهم، وتحسينَهم أمرهم بأنهم أهل فاقة وفقر. يقول الله لهم: « يا أيها الذين آمنوا كونوا قوَّامين بالقسط » ، يقول: ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام بالقسط يعني: بالعدل « شهداء لله » .

و « الشهداء » جمع « شهيد » .

ونصبت « الشهداء » على القطع مما في قوله: « قوامين » من ذكر « الذين آمنوا » ، ومعناه: قوموا بالقسط لله عند شهادتكم أو: حين شهادتكم.

« ولو على أنفسكم » ، يقول: ولو كانت شهادتكم على أنفسكم، أو على والدين لكم أو أقربيكم، فقوموا فيها بالقسط والعدل، وأقيموها على صحّتها بأن تقولوا فيها الحق، ولا تميلوا فيها لغنيٍّ لغناه على فقير، ولا لفقير لفقره على غنيّ، فتجوروا. فإن الله الذي سوَّى بين حكم الغنيّ والفقير فيما ألزمكم، أيها الناس، من إقامة الشهادة لكل واحد منهما بالعدل « أولى بهما » ، وأحق منكم، لأنه مالكهما وأولى بهما دونكم، فهو أعلم بما فيه مصلحة كلّ واحد منهما في ذلك وفي غيره من الأمور كلها منكم، فلذلك أمركم بالتسوية بينهما في الشهادة لهما وعليهما « فلا تتبعوا الهوى أن تَعْدِلوا » ، يقول: فلا تتبعوا أهواءَ أنفسكم في الميل في شهادتكم إذا قمتم بها - لغني على فقير، أو لفقير على غني- إلا أحد الفريقين، فتقولوا غير الحق، ولكن قوموا فيه بالقسط، وأدُّوا الشهادة على ما أمركم الله بأدائها، بالعدل لمن شهدتم له وعليه.

فإن قال قائل: وكيف يقوم بالشهادة على نفسه الشاهدُ بالقسط؟ وهل يشهد الشاهد على نفسه؟

قيل: نعم، وذلك أن يكون عليه حق لغيره فيقرّ له به، فذلك قيام منه له بالشهادة على نفسه.

قال أبو جعفر: وهذه الآية عندي تأديبٌ من الله جل ثناؤه عبادَه المؤمنين أن يفعلوا ما فعله الذين عذَروا بني أبيرق في سرقتهم ما سرقوا، وخيانتهم ما خانوا ممن ذكرنا قبل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهادتهم لهم عنده بالصلاح. فقال لهم: إذا قمتم بالشهادة لإنسان أو عليه، فقولوا فيها بالعدل، ولو كانت شهادتكم على أنفسكم وآبائكم وأمهاتكم وأقربائكم، ولا يحملنكم غِنَى من شهدتم له أو فقره أو قرابته ورَحِمُه منكم، على الشهادة له بالزور، ولا على ترك الشهادة عليه بالحق وكتمانها.

وقد قيل إنها نـزلت تأديبًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله: « يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله » ، قال: نـزلت في النبيّ صلى الله عليه وسلم، واختصم إليه رجلان: غنيٌّ وفقير، وكان ضِلَعه مع الفقير، يرى أن الفقير لا يظلم الغنيَّ، فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط في الغني والفقير فقال: « إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا » ، الآية.

وقال آخرون: في ذلك نحو قولنا: إنها نـزلت في الشهادة، أمرًا من الله المؤمنين أن يسوُّوا - في قيامهم بشهاداتهم- لمن قاموا بها، بين الغني والفقير.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: « كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين » ، قال: أمر الله المؤمنين أن يقولوا الحقَّ ولو على أنفسهم أو آبائهم أو أبنائهم، ولا يحابوا غنيًّا لغناه، ولا يرحموا مسكينًا لمسكنته، وذلك قوله: « إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا » ، فتذروا الحق، فتجوروا.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن يونس، عن ابن شهاب في شهادة الوالد لولده وذي القرابة قال: كان ذلك فيما مضى من السُّنة في سلف المسلمين، وكانوا يتأولون في ذلك قول الله: « يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فالله أولى بهما » الآية، فلم يكن يُتَّهَمُ سلفُ المسلمين الصالحُ في شهادة الوالد لولده، ولا الولد لوالده، ولا الأخ لأخيه، ولا الرجل لامرأته، ثم دَخِلَ الناسُ بعد ذلك، فظهرت منهم أمور حملت الولاةَ على اتهامهم، فتركت شهادةُ من يتهم، إذا كانت من أقربائهم. وصار ذلك من الولد والوالد، والأخ والزوج والمرأة، لم يتهم إلا هؤلاء في آخر الزمان.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله » إلى آخر الآية، قال: لا يحملك فقرُ هذا على أن ترحَمه فلا تقيم عليه الشهادة. قال: يقول هذا للشاهد.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله » الآية، هذا في الشهادة. فأقم الشهادة، يا ابن آدم، ولو على نفسك، أو الوالدين، أو على ذوي قرابتك، أو شَرَفِ قومك. فإنما الشهادة لله وليست للناس، وإن الله رضي العدل لنفسه، والإقساط والعدل ميزانُ الله في الأرض، به يردُّ الله من الشديد على الضعيف، ومن الكاذب على الصادق، ومن المبطل على المحق. وبالعدل يصدِّق الصادقَ، ويكذِّب الكاذبَ، ويردُّ المعتدي ويُرَنِّخُه، تعالى ربنا وتبارك. وبالعدل يصلح الناس، يا ابن آدم « إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فالله أولى بهما » ، يقول: أولى بغنيكم وفقيركم. قال: وذكر لنا أن نبيَّ الله موسى عليه السلام قال: « يا ربِّ، أي شيء وضعت في الأرض أقلّ؟ » ، قال: « العدلُ أقلُّ ما وضعت في الأرض » . فلا يمنعك غِنى غنيّ ولا فقر فقير أن تشهد عليه بما تعلم، فإن ذلك عليك من الحق، وقال جل ثناؤه: « فالله أولى بهما » .

وقد قيل: « إن يكن غنيًّا أو فقيرًا » ، الآية، أريد: فالله أولى بغنى الغني وفقر الفقير. لأن ذلك منه لا من غيره، فلذلك قال: « بهما » ، ولم يقل « به » .

وقال آخرون: إنما قيل: « بهما » ، لأنه قال: « إن يكن غنيًّا أو فقيرًا » ، فلم يقصد فقيرًا بعينه ولا غنيًّا بعينه، وهو مجهول. وإذا كان مجهولا جاز الردُّ منه بالتوحيد والتثنية والجمع.

وذكر قائلو هذا القول، أنه في قراءة أبيّ: ( فالله أولى بهم ) .

وقال آخرون: « أو » بمعنى « الواو » في هذا الموضع.

وقال آخرون: جاز تثنية قوله: « بهما » ، لأنهما قد ذكرا، كما قيل.

وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا [ سورة النساء: 12 ] .

وقيل: جاز، لأنه أضمر فيه « مَن » ، كأنه قيل: إن يكن مَن خاصم غنيًّا أو فقيرًا بمعنى: غنيين أو فقيرين « فالله أولى بهما » .

وتأويل قوله: « فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا » ، أي: عن الحق، فتجوزوا بترك إقامة الشهادة بالحق. ولو وُجِّه إلى أن معناه: فلا تتَّبعوا أهواء أنفسكم هربًا من أن تعدلوا عن الحق في إقامة الشهادة بالقسط، لكان وجهًا.

وقد قيل: معنى ذلك: فلا تتبعوا الهوى لتعدلوا كما يقال: « لا تتبع هواك لترضيَ ربك » ، بمعنى: أنهاك عنه، كما ترضي ربّك بتركه.

 

القول في تأويل قوله : وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( 135 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: عنى: « وإن تلووا » ، أيها الحكام، في الحكم لأحد الخصمين على الآخر « أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرًا » .

ووجهوا معنى الآية إلى أنها نـزلت في الحكام، على نحو القول الذي ذكرنا عن السدِّي من قوله: إن الآية نـزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما ذكرنا قبل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس في قول الله: « وإن تلووا أو تعرضوا » ، قال: هما الرجلان يجلسان بين يدي القاضي، فيكون لَيُّ القاضي وإعراضُه لأحدهما على الآخر.

وقال آخرون: معنى ذلك: وإن تلووا، أيها الشهداء، في شهاداتكم فتحرِّفوها ولا تقيموها أو تعرضوا عنها فتتركوها.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « وإن تلووا أو تعرضوا » ، يقول: إن تلووا بألسنتكم بالشهادة، أو تعرضوا عنها.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ إلى قوله: « وإن تلووا أو تعرضوا » ، يقول: تلوي لسانك بغير الحق، وهي اللَّجلجة، فلا تقيم الشهادة على وجهها. و « الإعراض » ، الترك.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « وإن تلووا » ، أي تبدّلوا الشهادة « أو تعرضوا » ، قال: تكتموها.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « وإن تلووا » ، قال: بتبديل الشهادة، و « الإعراض » كتمانها.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « وإن تلووا أو تعرضوا » ، قال: إن تحرفوا أو تتركوا.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « وإن تلووا أو تعرضوا » ، قال: تلجلجوا، أو تكتموا. وهذا في الشهادة.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وإن تلووا أو تعرضوا » ، أما « تلووا » ، فتلوي للشهادة فتحرفها حتى لا تقيمها وأما « تعرضوا » فتعرض عنها فتكتمها، وتقول: ليس عندي شهادة!

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « وإن تلووا » ، فتكتموا الشهادة، يلوى ببعض منها أو يُعرض عنها فيكتمها، فيأبى أن يَشهد عليه، يقول: أكتم عنه لأنه مسكين أرحَمُه! فيقول: لا أقيم الشهادة عليه. ويقول: هذا غنيٌّ أبقّيه وأرجو ما قِبَله، فلا أشهد عليه! فذلك قوله: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « وإن تلووا » ، تحرّفوا « أو تعرضوا » ، تتركوا.

حدثنا محمد بن عمارة قال، حدثنا حسن بن عطية قال، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية في قوله: « وإن تلووا » ، قال: إن تلجلجوا في الشهادة فتفسدوها « أو تعرضوا » ، قال: تتركوها.

حدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: « وإن تلووا أو تعرضوا » ، قال: إن تلووا في الشهادة، أن لا تقيمها على وجهها « أو تعرضوا » ، قال: تكتموا الشهادة.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد قال، حدثنا شيبان، عن قتادة: أنه كان يقول: « وإن تلووا أو تعرضوا » ، يعني: تلجلجوا « أو تعرضوا » ، قال: تدعها فلا تشهد.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « وإن تلووا أو تعرضوا » ، أما « تلووا » ، فهو أن يلوي الرجل لسانَه بغير الحق. يعني: في الشهادة.

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك، تأويلُ من تأوله، أنه لَيُّ الشاهد شهادته لمن يشهد له وعليه، وذلك تحريفه إياها بلسانه، وتركه إقامتها، ليبطل بذلك شهادته لمن شهد له، وعمن شهد عليه.

وأما إعراضه عنها، فإنه تركه أداءَها والقيام بها، فلا يشهد بها.

وإنما قلنا: هذا التأويل أولى بالصواب، لأن الله جل ثناؤه قال: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ، فأمرهم بالقيام بالعدل شهداء. وأظهر معاني « الشهداء » ، ما ذكرنا من وصفهم بالشهادة.

واختلفت القرأة في قراءة قوله: « وإن تلووا » .

فقرأ ذلك عامة قرأة الأمصار سوى الكوفة: ( وَإِنْ تَلْوُوا ) بواوين، من: « لواني الرجل حقي، والقوم يلوونني دَيْني » وذلك إذا مطلوه « ليًّا » .

وقرأ ذلك جماعة من قرأة أهل الكوفة: ( وإن تلوا ) بواو واحدة.

ولقراءة من قرأ ذلك كذلك وجهان:

أحدهما: أن يكون قارئها أراد همز « الواو » لانضمامها، ثم أسقط الهمز، فصار إعراب الهمز في اللام إذْ أسقطه، وبقيت واو واحدة. كأنه أراد: « تَلْؤُوا » ثم حذف الهمز. وإذا عني هذا الوجه، كان معناه معنى من قرأ: « وإن تلووا » ، بواوين، غير أنه خالف المعروف من كلام العرب. وذلك أن « الواو » الثانية من قوله: « تلووا » واو جمع، وهي علم لمعنى، فلا يصح همزها، ثم حذفها بعد همزها، فيبطل علَم المعنى الذي له أدخلت « الواو » المحذوفة.

والوجه الآخر: أن يكون قارئها كذلك، أراد: أن « تلوا » من « الولاية » ، فيكون معناه: وأن تلوا أمور الناس وتتركوا. وهذا معنى إذا وجّه القارئ قراءته على ما وصفنا، إليه خارج عن معاني أهل التأويل، وما وجّه إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون، تأويلَ الآية.

قال أبو جعفر: فإذْ كان فساد ذلك واضحًا من كلا وجهيه، فالصواب من القراءة الذي لا يصلح غيره أن يقرأ به عندنا: ( وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا ) ، بمعنى: « اللي » الذي هو مطل.

فيكون تأويل الكلام: وإن تدفعوا القيام بالشهادة على وجهها لمن لزمكم القيامُ له بها، فتغيروها وتبدلوا، أو تعرضوا عنها فتتركوا القيام له بها، كما يلوي الرجل دينَ الرجل فيدافعه بأدائه إليه على ما أوجب عليه له مطلا منه له، كما قال الأعشى:

يَلْــوِينَني دَيْنِـي النَّهـارَ, وأَقْتَضِـي دَيْنِــي إذَا وَقَــذَ النُّعَــاسُ الرُّقَّـدَا

وأما تأويل قوله: « فإن الله كان بما تعملون خبيرًا » ، فإنه أراد: « فإن الله كان بما تعملون » ، من إقامتكم الشهادة وتحريفكم إياها، وإعراضكم عنها بكتمانكموها « خبيرًا » ، يعني ذا خبرة وعلم به، يحفظ ذلك منكم عليكم، حتى يجازيكم به جزاءكم في الآخرة، المحسنَ منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته. يقول: فاتقوا ربكم في ذلك.

 

القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا ( 136 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: « يا أيها الذين آمنوا » ، بمن قبل محمد من الأنبياء والرسل، وصدَّقوا بما جاؤوهم به من عند الله « آمِنوا بالله ورسوله » ، يقول: صدّقوا بالله وبمحمد رسوله، أنه لله رسولٌ، مرسل إليكم وإلى سائر الأمم قبلكم « والكتاب الذي نـزل على رسوله » ، يقول: وصدّقوا بما جاءكم به محمد من الكتاب الذي نـزله الله عليه، وذلك القرآن « والكتاب الذي أنـزل من قبل » ، يقول: وآمنوا بالكتاب الذي أنـزل الله من قبل الكتاب الذي نـزله على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو التوراة والإنجيل.

فإن قال قائل: وما وجه دعاء هؤلاء إلى الإيمان بالله ورسوله وكتبه، وقد سماهم « مؤمنين » ؟

قيل: إنه جل ثناؤه لم يسمِّهم « مؤمنين » ، وإنما وصفهم بأنهم « آمنوا » ، وذلك وصف لهم بخصوصٍ من التصديق. وذلك أنهم كانوا صنفين: أهل توراة مصدّقين بها وبمن جاء بها، وهم مكذبون بالإنجيل والقرآن وعيسى ومحمد صلوات الله عليهما وصنف أهل إنجيل، وهم مصدّقون به وبالتوراة وسائر الكتب، مكذِّبون بمحمد صلى الله عليه وسلم والفرقان، فقال جل ثناؤه لهم: « يا أيها الذين آمنوا » ، يعني: بما هم به مؤمنون من الكتب والرسل « آمنوا بالله ورسوله » محمد صلى الله عليه وسلم « والكتاب الذي نـزل على رسوله » ، فإنكم قد علمتم أن محمدًا رسول الله، تجدون صفته في كتبكم وبالكتاب الذي أنـزل من قبلُ الذي تزعمون أنكم به مؤمنون، فإنكم لن تكونوا به مؤمنين وأنتم بمحمد مكذبون، لأن كتابكم يأمركم بالتصديق به وبما جاءكم به، فآمنوا بكتابكم في اتّباعكم محمدًا، وإلا فأنتم به كافرون. فهذا وجه أمرهم بالإيمان بما أمرهم بالإيمان به، بعد أن وصفهم بما وصفهم بقوله: « يا أيها الذين آمنوا » .

وأما قوله: « ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر » ، فإن معناه: ومن يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فيجحد نبوّته فقد ضلَّ ضلالا بعيدًا.

وإنما قال تعالى ذكره: « ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر » ، ومعناه: ومن يكفر بمحمد وبما جاء به من عند الله لأن جحود شيء من ذلك بمعنى جحود جميعه، ولأنه لا يصح إيمان أحدٍ من الخلق إلا بالإيمان بما أمره الله بالإيمان به، والكفر بشيء منه كفر بجميعه، فلذلك قال: « ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر » ، بعقب خطابه أهل الكتاب وأمره إياهم بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، تهديدًا منه لهم، وهم مقرّون بوحدانية الله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر، سِوى محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الفرقان.

وأما قوله: « فقد ضل ضلالا بعيدًا » ، فإنه يعني: فقد ذهب عن قصد السبيل، وجار عن محجَّة الطريق، إلى المهالك ذهابًا وجورًا بعيدًا. لأن كفر من كفر بذلك، خروجٌ منه عن دين الله الذي شرعه لعباده. والخروج عن دين الله، الهلاك الذي فيه البوار، والضلال عن الهدى هو الضلال.

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا ( 137 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: تأويله: إن الذين آمنوا بموسى ثم كفروا به، ثم آمنوا يعني: النصارى بعيسى ثم كفروا به، ثم ازدادوا كفرًا بمحمد « لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا » .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا » ، وهم اليهود والنصارى. آمنت اليهود بالتوراة ثم كفرت، وآمنت النصارى بالإنجيل ثم كفرت. وكفرهم به: تركهم إياه ثم ازدادوا كفرًا بالفرقان وبمحمد صلى الله عليه وسلم. فقال الله: « لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا » ، يقول: لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريق هدًى، وقد كفروا بكتاب الله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « إن الذين آمنوا ثم كفروا » ، قال: هؤلاء اليهود، آمنوا بالتوراة ثم كفروا. ثم ذكر النصارى، ثم قال: « ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا » ، يقول: آمنوا بالإنجيل ثم كفروا به، ثم ازدادوا كفرًا بمحمد صلى الله عليه وسلم.

وقال آخرون: بل عنى بذلك أهل النفاق، أنهم آمنوا ثم ارتدوا، ثم آمنوا ثم ارتدوا، ثم ازدادوا كفرًا بموتهم على الكفر.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: « إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا » ، قال: كنا نحسبهم المنافقين، ويدخل في ذلك من كان مثلهم « ثم ازدادوا كفرًا » ، قال: تَمُّوا على كفرهم حتى ماتوا.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « ثم ازدادوا كفرًا » ، قال: ماتوا.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « ثم ازدادوا كفرًا » ، قال: حتى ماتوا.

حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « إن الذين آمنوا ثم كفروا » الآية، قال: هؤلاء المنافقون، آمنوا مرتين، وكفروا مرتين، ثم ازدادوا كفرًا بعد ذلك.

وقال آخرون: بل هم أهل الكتابين، التوراة والإنجيل، أتوا ذنوبا في كفرهم فتابوا ، فلم تقبل منهم التوبة فيها، مع إقامتهم على كفرهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد، عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية: « إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا » ، قال: هم اليهود والنصارى، أذنبوا في شركهم ثم تابوا، فلم تقبل توبتهم. ولو تابوا من الشرك لقُبِل منهم.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية، قول من قال عنى بذلك أهل الكتاب الذين أقروا بحكم التوراة, ثم كذبوا بخلافهم إياه ، ثم أقرّ من أقرَّ منهم بعيسى والإنجيل ، ثم كذب به بخلافه إياه, ثم كذب بمحمد صلى الله عليه وسلم والفرقان فازداد بتكذيبه به كفرا على كفره.

وإنما قلنا: ذلك أولى بالصواب في تأويل هذه الآية، لأن الآية قبلها في قصص أهل الكتابين أعني قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ولا دلالة تدلُّ على أن قوله: « إن الذين آمنوا ثم كفروا » ، منقطع معناه من معنى ما قبله، فإلحاقه بما قبله أولى، حتى تأتي دلالة دالَّة على انقطاعه منه.

وأما قوله: « لم يكن الله ليغفر لهم » ، فإنه يعني: لم يكن الله ليسترَ عليهم كفرهم وذنوبهم، بعفوه عن العقوبة لهم عليه، ولكنه يفضحهم على رؤوس الأشهاد « ولا ليهديهم سبيلا » يقول: ولم يكن ليسدِّدهم لإصابة طريق الحق فيوفقهم لها، ولكنه يخذلهم عنها، عقوبة لهم على عظيم جُرمهم، وجرأتهم على ربهم.

وقد ذهب قوم إلى أن المرتد يُستتاب ثلاثًا، انتزاعًا منهم بهذه الآية، وخالفهم على ذلك آخرون.

ذكر من قال: يستتاب ثلاثًا.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن أشعث، عن الشعبي، عن علي عليه السلام قال: إن كنتُ لمستتيبَ المرتدّ ثلاثًا. ثم قرأ هذه الآية: « إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن عامر، عن علي رضي الله عنه: يستتاب المرتد ثلاثًا. ثم قرأ: « إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا » ،.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عبد الكريم، عن رجل، عن ابن عمر قال: يستتاب المرتد ثلاثًا.

وقال آخرون: يستتابُ كلما ارتدّ.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عمرو بن قيس، عمن سمع إبراهيم قال: يستتاب المرتدّ كلما ارتدّ.

قال أبو جعفر: وفي قيام الحجة بأن المرتد يستتاب المرَّة الأولى، الدليل الواضح على أن حكم كلِّ مرة ارتدّ فيها عن الإسلام حكمُ المرة الأولى، في أن توبته مقبولة، وأن إسلامه حَقَن له دمه. لأن العلة التي حقنت دمه في المرة الأولى إسلامُه، فغير جائز أن توجد العلة التي من أجلها كان دمه مَحْقُونًا في الحالة الأولى، ثم يكون دمه مباحًا مع وجودها، إلا أن يفرِّق بين حكم المرة الأولى وسائر المرات غيرها، ما يجب التسليم له من أصل محكمٍ، فيخرج من حكم القياس حينئذ.

 

القول في تأويل قوله : بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( 138 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « بشر المنافقين » ، أخبر المنافقين.

وقد بينَّا معنى « التبشير » فيما مضى بما أغنى عن إعادته.

« بأن لهم عذابًا أليمًا » ، يعني: بأن لهم يوم القيامة من الله على نفاقهم « عذابًا أليمًا » ، وهو المُوجع، وذلك عذاب جهنم

 

القول في تأويل قوله : الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ( 139 )

قال أبو جعفر: أما قوله جل ثناؤه: « الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين » ، فمن صفة المنافقين. يقول الله لنبيه: يا محمد، بشر المنافقين الذين يتخذون أهل الكفر بي والإلحاد في ديني « أولياء » يعني: أنصارًا وأخِلاء « من دون المؤمنين » ، يعني: من غير المؤمنين « أيبتغون عندهم العزة » ، يقول: أيطلبون عندهم المنعة والقوة، باتخاذهم إياهم أولياء من دون أهل الإيمان بي؟ « فإن العزة لله جميعًا » ، يقول: فإن الذين اتخذوهم من الكافرين أولياء ابتغاءَ العزة عندهم، هم الأذلاء الأقِلاء، فهلا اتخذوا الأولياء من المؤمنين، فيلتمسوا العزَّة والمنعة والنصرة من عند الله الذي له العزة والمنعة، الذي يُعِزّ من يشاء ويذل من يشاء، فيعزُّهم ويمنعهم؟

وأصل « العزة » ، الشدة. ومنه قيل للأرض الصلبة الشديدة، « عَزَاز » . وقيل: « قد استُعِزَّ على المريض » ، إذا اشتدَّ مرضه وكاد يُشفى. ويقال: « تعزز اللحمُ » ، إذا اشتد. ومنه قيل: « عزّ عليّ أن يكون كذا وكذا » ، بمعنى: اشتد عليَّ.

 

القول في تأويل قوله : وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ( 140 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، « وقد نـزل عليكم في الكتاب » ، يقول: أخبر من اتخذ من هؤلاء المنافقين الكفار أنصارًا وأولياءَ بعد ما نـزل عليهم من القرآن، « أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره » ، يعني: بعد ما علموا نَهْي الله عن مجالسة الكفار الذين يكفرون بحجج الله وآيِ كتابه ويستهزئون بها « حتى يخوضوا في حديث غيره » ، يعني بقوله: « يخوضوا » ، يتحدثوا حديثًا غيره بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا .

وقوله: « إنكم إذًا مثلهم » ، يعني: وقد نـزل عليكم أنكم إن جالستم من يكفر بآيات الله ويستهزئ بها وأنتم تسمعون، فأنتم مثله يعني: فأنتم إن لم تقوموا عنهم في تلك الحال، مثلُهم في فعلهم، لأنكم قد عصيتم الله بجلوسكم معهم وأنتم تسمعون آياتِ الله يكفر بها ويستهزأ بها، كما عصوه باستهزائهم بآيات الله. فقد أتيتم من معصية الله نحو الذي أتَوْه منها، فأنتم إذًا مثلهم في ركوبكم معصية الله، وإتيانكم ما نهاكم الله عنه.

وفي هذه الآية، الدلالة الواضحة على النهي عن مجالسة أهل الباطل من كل نوع، من المبتدعة والفسَقة، عند خوضهم في باطلهم.

وبنحو ذلك كان جماعة من الأئمة الماضين يقولون، تأوُّلا منهم هذه الآية أنه مرادٌ بها النهي عن مشاهدة كل باطل عند خوض أهله فيه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن العوام بن حوشب، عن إبراهيم التيمي، عن أبي وائل، قال: إن الرجل ليتكلم بالكلمة في المجلس من الكَذب ليُضحك بها جلساءَه، فيسخط الله عليهم. قال: فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي، فقال: صدق أبو وائل، أو ليس ذلك في كتاب الله: « أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذًا مثلهم » ؟

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن العلاء بن المنهال، عن هشام بن عروة قال: أخذ عمر بن عبد العزيز قومًا على شرابٍ فضربهم، وفيهم صائم، فقالوا: إنّ هذا صائم! فتلا « فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذًا مثلُهم » .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها » ، وقوله: وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ، [ سورة الأنعام: 153 ] ، وقوله: أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [ سورة الشورى: 13 ] ، ونحو هذا من القرآن. قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم: إنما هلك من كان قبلكم بالمِراء والخصومات في دين الله.

وقوله: « إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعًا » ، يقول: إن الله جامع الفريقين من أهل الكفر والنفاق في القيامة في النار، فموفِّق بينهم في عقابه في جهنم وأليم عذابه، كما اتفقوا في الدنيا فاجتمعوا على عداوة المؤمنين، وتوَازرُوا على التخذيل عن دين الله وعن الذي ارتضاهُ وأمر به وأهلِه.

واختلفت القرأة في قراءة قوله: « وقد نـزل عليكم في الكتاب » .

فقرأ ذلك عامة القرأة بضم « النون » وتثقيل « الزاي » وتشديدها، على وجْه ما لم يُسَمَّ فاعله.

وقرأ بعض الكوفيين بفتح « النون » وتشديد « الزاي » ، على معنى: وقد نـزل الله عليكم.

وقرأ بعض المكيين: ( وَقَدْ نـزلَ عَلَيْكُمْ ) بفتح « النون » ، وتخفيف « الزاي » ، بمعنى: وقد جاءكم من الله أن إذا سمعتم.

قال أبو جعفر: وليس في هذه القراءات الثلاث وجه يبعد معناه مما يحتمله الكلام. غير أن الذي أختارُ القراءة به، قراءة من قرأ: ( وَقَدْ نُـزِّلَ ) بضم « النون » وتشديد « الزاي » ، على وجه ما لم يسم فاعله. لأن معنى الكلام فيه التقديم على ما وصفت قبل، على معنى: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ « وقد نـزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها » إلى قوله: « حديث غيره » أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ . فقوله: فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ، يعني التأخير، فلذلك كان ضم « النون » من قوله: « نـزل » أصوب عندنا في هذا الموضع.

وكذلك اختلفوا في قراءة قوله وَالْكِتَابِ الَّذِي نَـزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْـزَلَ مِنْ قَبْلُ .

فقرأه بفتح ( نـزلَ ) و ( أَنـزلَ ) أكثر القرأة، بمعنى: والكتاب الذي نـزل الله على رسوله، والكتاب الذي أنـزل من قبل.

وقرأ ذلك بعض قرأة البصرة بضمه في الحرفين كليهما، بمعنى ما لم يسم فاعله.

وهما متقاربتا المعنى. غير أن الفتح في ذلك أعجبُ إليَّ من الضم، لأن ذكر الله قد جرى قبل ذلك في قوله: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ .