القول في تأويل قوله : فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا ( 155 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: فبنقض هؤلاء الذين وصفتُ صفتهم من أهل الكتاب « ميثاقهم » ، يعني: عهودهم التي عاهدوا الله أن يعملوا بما في التوراة « وكفرهم بآيات الله » ، يقول: وجحودهم « بآيات الله » ، يعني: بأعلام الله وأدلته التي احتج بها عليهم في صدق أنبيائه ورسله وحقيقة ما جاءوهم به من عنده « وقتلهم الأنبياء بغير حق » ، يقول: وبقتلهم الأنبياء بعد قيام الحجة عليهم بنبوّتهم « بغير حق » ، يعني: بغير استحقاق منهم ذلك لكبيرة أتوها، ولا خطيئة استوجبوا القتل عليها « وقولهم قلوبنا غلف » ، يعني: وبقولهم « قلوبنا غلف » ، يعني: يقولون: عليها غِشاوة وأغطِية عما تدعونا إليه، فلا نفقَه ما تقول ولا نعقله.

وقد بينا معنى: « الغلف » ، وذكرنا ما في ذلك من الرواية فيما مضى قبل.

« بل طبع الله عليها بكفرهم » ، يقول جل ثناؤه: كذبوا في قولهم: « قلوبنا غلف » ، ما هي بغلف، ولا عليها أغطية، ولكن الله جل ثناؤه جعل عليها طابعًا بكفرهم بالله.

وقد بينا صفة « الطبع على القلب » ، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته.

« فلا يؤمنون إلا قليلا » ، يقول: فلا يؤمن - هؤلاء الذين وصف الله صفتهم، لطبعه على قلوبهم، فيصدقوا بالله ورسله وما جاءتهم به من عند الله- إلا إيمانًا قليلا يعني: تصديقًا قليلا وإنما صار « قليلا » ، لأنهم لم يصدقوا على ما أمرهم الله به، ولكن صدَّقوا ببعض الأنبياء وببعض الكتب، وكذبوا ببعض. فكان تصديقهم بما صدَّقوا به قليلا لأنهم وإن صدقوا به من وجه، فهم به مكذبون من وجه آخر، وذلك من وجه تكذيبهم من كذَّبوا به من الأنبياء وما جاءوا به من كتب الله، ورسلُ الله يصدِّق بعضهم بعضًا. وبذلك أمر كل نبي أمته. وكذلك كتب الله يصدق بعضها بعضًا، ويحقق بعض بعضًا. فالمكذب ببعضها مكذب بجميعها، من جهة جحوده ما صدقه الكتاب الذي يقرّ بصحته. فلذلك صار إيمانهم بما آمنوا من ذلك قليلا.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: « فبما نقضهم ميثاقهم » ، يقول: فبنقضهم ميثاقهم لعنَّاهم « وقولهم قلوبنا غلف » ، أي لا نفقه ، « بل طبع الله عليها بكفرهم » ، ولعنهم حين فعلوا ذلك.

واختلف في معنى قوله: « فبما نقضهم » ، الآية، هل هو مواصلٌ لما قبله من الكلام، أو هو منفصل منه.

فقال بعضهم: هو منفصل مما قبله، ومعناه: فبنقضهم ميثاقهم، وكفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء بغير حق، وقولهم قلوبنا غلف، طبع الله عليها بكفرهم ولعنهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « فلا يؤمنون إلا قليلا » ، لما ترك القوم أمرَ الله، وقتلوا رسله، وكفروا بآياته، ونقضوا الميثاق الذي أخذ عليهم، طبع الله عليها بكفرهم ولعنهم.

وقال آخرون: بل هو مواصل لما قبله. قالوا: ومعنى الكلام: فأخذتهم الصاعقة بظلمهم فبنقضهم ميثاقهم، وكفرهم بآيات الله، وبقتلهم الأنبياء بغير حق، وبكذا وكذا أخذتهم الصاعقة. قالوا: فتبع الكلام بعضه بعضًا، ومعناه: مردود إلى أوله. وتفسير « ظلمهم » ، الذي أخذتهم الصاعقة من أجله، بما فسر به تعالى ذكره، من نقضهم الميثاق، وقتلهم الأنبياء، وسائر ما بيَّن من أمرهم الذي ظلموا فيه أنفسهم.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن قوله: « فبما نقضهم ميثاقهم » وما بعده، منفصل معناه من معنى ما قبله، وأن معنى الكلام: فبما نقضهم ميثاقهم، وكفرهم بآيات الله، وبكذا وبكذا، لعناهم وغضبنا عليهم فترك ذكر « لعناهم » ، لدلالة قوله: « بل طبع الله عليها بكفرهم » ، على معنى ذلك. إذ كان من طبع على قلبه، فقد لُعِن وسُخِط عليه.

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن الذين أخذتهم الصاعقة، إنما كانوا على عهد موسى والذين قتلوا الأنبياء، والذين رموا مريم بالبهتان العظيم، وقالوا: قَتَلْنَا الْمَسِيحَ ، كانوا بعد موسى بدهر طويل. ولم يدرك الذين رموا مريم بالبهتان العظيم زمان موسى، ولا من صُعق من قومه.

وإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أنّ الذين أخذتهم الصاعقة، لم تأخذهم عقوبةً لرميهم مريم بالبهتان العظيم، ولا لقولهم: إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ . وإذ كان ذلك كذلك، فبيِّنٌ أن القوم الذين قالوا هذه المقالة، غير الذين عوقبوا بالصاعقة. وإذ كان ذلك كذلك، كان بيِّنًا انفصال معنى قوله: « فبما نقضهم ميثاقهم » ، من معنى قوله: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ .

 

القول في تأويل قوله : وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ( 156 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وبكفر هؤلاء الذين وصف صفتهم « وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا » ، يعني: بفريتهم عليها، ورميهم إياها بالزنا، وهو « البهتان العظيم » ، لأنهم رموها بذلك، وهي مما رموها به بغير ثَبَتٍ ولا برهان بريئة، فبهتوها بالباطل من القول.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا » ، يعني: أنهم رموها بالزنا.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا » ، حين قذفوها بالزنا.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يعلى بن عُبَيد، عن جويبر في قوله: « وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا » ، قال: قالوا: « زنت » .

 

القول في تأويل قوله : وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وبقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله. ثم كذبهم الله في قيلهم، فقال: « وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم » ، يعني: وما قتلوا عيسى وما صلبوه ولكن شبه لهم.

واختلف أهل التأويل في صفة التشبيه الذي شبه لليهود في أمر عيسى.

فقال بعضهم: لما أحاطت اليهود به وبأصحابه، أحاطوا بهم وهم لا يثبتون معرفة عيسى بعينه، وذلك أنهم جميعًا حُوِّلوا في صورة عيسى، فأشكل على الذين كانوا يريدون قتل عيسى، عيسى من غيره منهم، وخرج إليهم بعض من كان في البيت مع عيسى، فقتلوه وهم يحسبونه عيسى.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن هارون بن عنترة، عن وهب بن منبه قال: أُتِي عيسى ومعه سبعة عشر من الحواريين في بيت، وأحاطوا بهم. فلما دخلوا عليهم صوَّرهم الله كلهم على صورة عيسى، فقالوا لهم: سحرتمونا! لتبرزنّ لنا عيسى أو لنقتلنكم جميعًا! فقال عيسى لأصحابه: من يشتري نفسه منكم اليوم بالجنة؟ فقال رجل منهم: أنا! فخرج إليهم، فقال: أنا عيسى وقد صوّره الله على صورة عيسى، فأخذوه فقتلوه وصلبوه. فمن ثَمَّ شُبِّه لهم، وظنوا أنهم قد قتلوا عيسى، وظنت النصارى مثل ذلك أنه عيسى، ورفع الله عيسى من يومه ذلك.

وقد روي عن وهب بن منبه غير هذا القول، وهو ما:-

حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهبًا يقول: إن عيسى ابن مريم عليه السلام لما أعلمه الله أنه خارج من الدنيا، جزع من الموت وشقَّ عليه، فدعا الحواريِّين فصنع لهم طعامًا، فقال: احضروني الليلة، فإن لي إليكم حاجة. فلما اجتمعوا إليه من الليل، عشَّاهم وقام يخدمهم. فلما فرغوا من الطعام أخذ يغسل أيديهم ويوضِّئهم بيده، ويمسح أيديهم بثيابه، فتعاظموا ذلك وتكارهوه، فقال: ألا مَن ردَّ علي شيئًا الليلة مما أصنع، فليس مني ولا أنا منه! فأقرُّوه، حتى إذا فرغ من ذلك قال: أمَّا ما صنعت بكم الليلة، مما خدمتكم على الطعام وغسلت أيديكم بيدي، فليكن لكم بي أسوة، فإنكم ترون أنّي خيركم، فلا يتعظَّم بعضكم على بعض، وليبذل بعضكم لبعض نفسه، كما بذلت نفسي لكم. وأما حاجتي التي استعنتكم عليها، فتدعون لي الله وتجتهدون في الدعاء: أن يؤخِّر أجلي. فلما نَصَبوا أنفسهم للدعاء وأرادوا أن يجتهدوا، أخذهم النوم حتى لم يستطيعوا دعاءً. فجعل يوقظهم ويقول: سبحان الله! ما تصبرون لي ليلة واحدة تعينوني فيها! قالوا: والله ما ندري ما لنا! لقد كنا نسمر فنكثر السَّمَر، وما نطيق الليلة سمرًا، وما نريد دعاء إلا حيل بيننا وبينه! فقال: يُذْهَب بالراعي وتتفرق الغنم! وجعل يأتي بكلام نحو هذا ينعَى به نفسه. ثم قال: الحقَّ، ليكفرنَّ بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات، وليبيعنِّي أحدكم بدراهم يسيرة، وليأكلن ثمني! فخرجوا فتفرقوا، وكانت اليهود تطلبه، فأخذوا شمعون أحد الحواريين، فقالوا: هذا من أصحابه! فجحد وقال: ما أنا بصاحبه! فتركوه، ثم أخذه آخرون فجحد كذلك. ثم سمع صوت ديك فبكى وأحزنه، فلما أصبح أتى أحدُ الحواريين إلى اليهود فقال: ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح؟ فجعلوا له ثلاثين درهمًا، فأخذها ودلَّهم عليه. وكان شبِّه عليهم قبل ذلك، فأخذوه فاستوثقوا منه، وربطوه بالحبل، فجعلوا يقودونه ويقولون له: أنت كنت تحيي الموتى، وتنتهر الشيطان، وتبرئ المجنون، أفلا تنجّي نفسك من هذا الحبل؟! ويبصقون عليه، ويلقون عليه الشوك، حتى أتوا به الخشبة التي أرادوا أن يصلبوه عليها، فرفعه الله إليه، وصلبوا ما شبِّه لهم، فمكث سبعًا.

ثم إنّ أمَّه والمرأة التي كان يداويها عيسى فأبرأها الله من الجنون، جاءتا تبكيان حيث المصلوب، فجاءهما عيسى فقال: علام تبكيان؟ قالتا: عليك! فقال: إني قد رفعني الله إليه، ولم يصبني إلا خير، وإن هذا شيء شبِّه لهم، فأْمُرَا الحواريين أن يلقوني إلى مكان كذا وكذا. فلقوه إلى ذلك المكان أحد عشر. وفقَد الذي كان باعه ودلَّ عليه اليهود، فسأل عنه أصحابه، فقالوا: إنه ندم على ما صنع، فاختنق وقتل نفسه. فقال: لو تابَ لتابَ الله عليه! ثم سألهم عن غلام يتبعهم يقال له: يُحَنَّى فقال: هو معكم، فانطلقوا، فإنه سيصبح كلّ إنسان منكم يحدِّث بلغة قوم، فلينذِرْهم وَلْيدعهم.

وقال آخرون: بل سأل عيسى من كان معه في البيت أن يلقى على بعضهم شَبهه، فانتدب لذلك رجل، فألقي عليه شبهه، فقتل ذلك الرجل، ورفع عيسى ابن مريم عليه السلام.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ » إلى قوله: وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ، أولئك أعداء الله اليهود ائتمروا بقتل عيسى ابن مريم رسول الله، وزعموا أنهم قتلوه وصلبوه. وذكر لنا أن نبي الله عيسى ابن مريم قال لأصحابه: أيكم يُقْذف عليه شبهي، فإنه مقتول؟ فقال رجل من أصحابه: أنا، يا نبي الله! فقتل ذلك الرجل، ومنع الله نبيه ورفعه إليه.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم » ، قال: ألقي شبهه على رجل من الحواريين فقتل. وكان عيسى ابن مريم عرض ذلك عليهم، فقال: أيكم ألقي شبهي عليه، وله الجنة؟ فقال رجل: عليَّ.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أن بني إسرائيل حَصروا عيسى وتسعةَ عشر رجلا من الحواريين في بيت، فقال عيسى لأصحابه: من يأخذ صورتي فيقتل وله الجنة؟ فأخذها رجل منهم، وصُعِد بعيسى إلى السماء. فلما خرج الحواريون أبصروهم تسعة عشر، فأخبروهم أن عيسى عليه السلام قد صُعِد به إلى السماء، فجعلوا يعدّون القوم فيجدونهم ينقصون رجلا من العدَة، ويرون صورة عيسى فيهم، فشكّوا فيه. وعلى ذلك قتلوا الرجل وهم يرون أنه عيسى وصلبوه. فذلك قول الله تبارك وتعالى: « وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ » ، إلى قوله: وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا .

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن القاسم بن أبي بزة: أن عيسى ابن مريم قال: أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني؟ فقال رجل من أصحابه: أنا، يا رسول الله! فألقي عليه شبهه فقتلوه. فذلك قوله: « وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم » .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: كان اسم ملك بني إسرائيل الذي بعث إلى عيسى ليقتله، رجلا منهم يقال له داود. فلما أجمعوا لذلك منه، لم يَفْظَعْ عبدٌ من عباد الله بالموت فيما ذكر لي فظَعَه، ولم يجزع منه جزعه، ولم يدع الله في صرفه عنه دعاءَه، حتى إنه ليقول، فيما يزعمون: « اللهم إن كنت صارفًا هذه الكأس عن أحد من خلقك فاصرفها عني! » ، وحتى إن جلده من كَرْب ذلك ليتفصَّد دمًا. فدخل المدخل الذي أجمعوا أن يدخلوا عليه فيه ليقتلوه هو وأصحابه، وهم ثلاثة عشر بعيسى. فلما أيقن أنهم داخلون عليه، قال لأصحابه من الحواريين وكانوا اثني عشر رجلا فطرس، ويعقوب بن زبدي، ويحنس أخو يعقوب، وأندراييس، وفيلبس، وأبرثلما، ومتى، وتوماس، ويعقوب بن حلفيا، وتداوسيس، وقنانيا، ويودس زكريا يوطا.

قال ابن حميد، قال سلمة، قال ابن إسحاق: وكان فيهم، فيما ذكر لي، رجل اسمه سرجس، فكانوا ثلاثة عشر رجلا سوى عيسى، جحدتْه النصارى، وذلك أنه هو الذي شبِّه لليهود مكان عيسى. قال: فلا أدري ما هو؟ من هؤلاء الاثني عشر، أم كان ثالث عشر، فجحدوه حين أقرُّوا لليهود بصلب عيسى، وكفروا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الخبر عنه. فإن كانوا ثلاثة عشر فإنهم دخلوا المدخل حين دخلوا وهم بعيسى أربعة عشر، وإن كانوا اثني عشر، فإنهم دخلوا المدخل حين دخلوا وهم بعيسى ثلاثة عشر.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني رجل كان نصرانيًّا فأسلم: أن عيسى حين جاءَه من الله: « إني رافعك إليَّ » قال: يا معشر الحواريين، أيُّكم يحبّ أن يكون رفيقي في الجنة، على أن يشبه للقوم في صورتي فيقتلوه مكاني؟ فقال سرجس: أنا، يا روح الله! قال: فاجلس في مجلسي. فجلس فيه، ورُفع عيسى صلوات الله عليه. فدخلوا عليه فأخذوه فصلبوه، فكان هو الذي صلبوه وشُبِّه لهم به. وكانت عِدّتهم حين دخلوا مع عيسى معلومة، قد رأوهم وأحصوا عدّتهم. فلما دخلوا عليه ليأخذوه، وجدوا عيسى فيما يُرَوْن وأصحابه، وفقدوا رجلا من العدة، فهو الذي اختلفوا فيه، وكانوا لا يعرفون عيسى، حتى جعلوا ليودس زكريا يوطا ثلاثين درهمًا على أن يدلَّهم عليه ويعرِّفهم إياه، فقال لهم: إذا دخلتم عليه، فإني سأقبله، وهو الذي أقبِّل، فخذوه. فلما دخلوا عليه وقد رُفع عيسى، رأى سرجس في صورة عيسى، فلم يشكِّك أنه هو عيسى، فأكبَّ عليه فقبَّله، فأخذوه فصلبوه. ثم إن يودس زكريا يوطا ندم على ما صنع، فاختنق بحبل حتى قتل نفسه. وهو ملعون في النصارى، وقد كان أحد المعدودين من أصحابه. وبعض النصارى يزعم أن يودس زكريا يوطا هو الذي شبه لهم، فصلبوه وهو يقول: « إني لست بصاحبكم! أنا الذي دللتكم عليه » ! والله أعلم أيُّ ذلك كان.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: بلغنا أن عيسى ابن مريم قال لأصحابه: أيُّكم ينتدب فيُلقَى عليه شبهي فيقتل؟ فقال رجل من أصحابه: أنا، يا نبي الله. فألقي عليه شبهه فقتل، ورفع الله نبيّه إليه.

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « شبه لهم » ، قال: صلبوا رجلا غير عيسى، يحسبونه إيّاه.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « ولكن شبه لهم » ، فذكر نحوه.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: صلبوا رجلا شبَّهوه بعيسى، يحسبونه إياه، ورفع الله إليه عيسى حيًّا.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب، أحدُ القولين اللذين ذكرناهما عن وهب بن منبه: من أن شَبَه عيسى ألقي على جميع من كان في البيت مع عيسى حين أحيط به وبهم، من غير مسألة عيسى إياهم ذلك. ولكن ليخزي الله بذلك اليهود، وينقذ به نبيه عليه السلام من مكروهِ ما أرادوا به من القتل، ويبتلي به من أراد ابتلاءه من عباده في قِيله في عيسى، وصدق الخبر عن أمره. أو: القول الذي رواه عبد الصمد عنه.

وإنما قلنا ذلك أولى القولين بالصواب، لأن الذين شهدوا عيسى من الحواريين، لو كانوا في حال ما رُفع عيسى وأُلقي شبهه على من ألقي عليه شَبَهه، كانوا قد عاينوا وهو يرفع من بينهم، وأثبتوا الذي ألقي عليه شبهه، وعاينوه متحوِّلا في صورته بعد الذي كان به من صورة نفسه بمحضَرٍ منهم، لم يخفَ ذلك من أمر عيسى وأمر من ألقي عليه شبهه عليهم، مع معاينتهم ذلك كله، ولم يلتبس ولم يشكل عليهم، وإن أشكل على غيرهم من أعدائهم من اليهود أن المقتول والمصلوب كان غير عيسى، وأن عيسى رفع من بينهم حيًّا.

وكيف يجوز أن يكون كان أشكل ذلك عليهم، وقد سمعوا من عيسى مقالته: « من يلقى عليه شبهي، ويكون رفيقي في الجنة » ، إن كان قال لهم ذلك، وسمعوا جواب مُجيبه منهم: « أنا » ، وعاينوا تحوُّل المجيب في صورة عيسى بعقب جوابه؟ ولكن ذلك كان إن شاء الله على نحو ما وصف وهب بن منبه: إما أن يكون القوم الذين كانوا مع عيسى في البيت الذي رفع منه من حواريه، حوَّلهم الله جميعًا في صورة عيسى حين أراد الله رفعه، فلم يثبتوا عيسى معرفةً بعينه من غيره لتشابه صور جميعهم، فقتلت اليهود منهم من قتلت وهم يُرَونه بصورة عيسى، ويحسبونه إياه، لأنهم كانوا به عارفين قبل ذلك. وظنّ الذين كانوا في البيت مع عيسى مثل الذي ظنت اليهود، لأنهم لم يميِّزوا شخصَ عيسى من شخص غيره، لتشابه شخصه وشخص غيره ممن كان معه في البيت. فاتفقوا جميعهم يعني: اليهود والنصارى من أجل ذلك على أن المقتول كان عيسى، ولم يكن به، ولكنه شُبِّه لهم، كما قال الله جل ثناؤه: « وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم » .

أو يكون الأمر في ذلك كان على نحو ما روى عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه: أن القوم الذين كانوا مع عيسى في البيت، تفرقوا عنه قبل أن يدخل عليه اليهود، وبقي عيسى، وألقي شبهه على بعض أصحابه الذين كانوا معه في البيت بعد ما تفرق القوم غيرَ عيسى، وغيرَ الذي ألقي عليه شَبهه. ورفع عيسى، فقتل الذي تحوّل في صورة عيسى من أصحابه، وظن أصحابُه واليهود أن الذي قتل وصلب هو عيسى، لما رأوا من شبهه به، وخفاء أمر عيسى عليهم. لأن رفعه وتحوّل المقتول في صورته، كان بعد تفرق أصحابه عنه، وقد كانوا سمعوا عيسى من الليل ينعَى نفسه، ويحزن لما قد ظنَّ أنه نازل به من الموت، فحكوا ما كان عندهم حقًّا، والأمر عند الله في الحقيقة بخلاف ما حكوا. فلم يستحق الذين حكوا ذلك من حواريّيه أن يكونوا كذبة، إذ حكوا ما كان حقًّا عندهم في الظاهر، وإن كان الأمر كان عند الله في الحقيقة بخلاف الذي حكوا.

 

القول في تأويل قوله : وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ( 157 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « وإنّ الذين اختلفوا فيه » ، اليهودَ الذين أحاطوا بعيسى وأصحابه حين أرادوا قتله. وذلك أنهم كانوا قد عرفوا عدة من في البيت قبل دخولهم، فيما ذكر. فلما دخلوا عليهم، فقدوا واحدًا منهم، فالتبس أمرُ عيسى عليهم بفقدهم واحدًا من العدَّة التي كانوا قد أحصوها، وقتلوا من قتلوا على شك منهم في أمر عيسى.

وهذا التأويل على قول من قال: لم يفارق الحواريون عيسى حتى رفع ودخل عليهم اليهود.

وأما تأويله على قول من قال: تفرَّقوا عنه من الليل، فإنه: « وإن الذين اختلفوا » ، في عيسى، هل هو الذي بقي في البيت منهم بعد خروج من خرج منهم من العدَّة التي كانت فيه، أم لا؟ « لفي شك منه » ، يعني: من قتله، لأنهم كانوا أحصوا من العدّة حين دخلوا البيت أكثر ممن خرج منه ومن وجد فيه، فشكوا في الذي قتلوه: هل هو عيسى أم لا؟ من أجل فقدهم من فقدوا من العدد الذي كانوا أحصوه، ولكنهم قالوا: « قتلنا عيسى » ، لمشابهة المقتول عيسى في الصورة. يقول الله جل ثناؤه: « ما لهم به من علم » ، يعني: أنهم قتلوا من قتلوه على شك منهم فيه واختلافٍ، هل هو عيسى أم هو غيره؟ من غير أن يكون لهم بمن قتلوه علم، من هو؟ هو عيسى أم هو غيره؟ « إلا اتباع الظن » ، يعني جل ثناؤه: ما كان لهم بمن قتلوه من علم، ولكنهم اتبعوا ظنهم فقتلوه، ظنًّا منهم أنه عيسى، وأنه الذي يريدون قتله، ولم يكن به « وما قتلوه يقينًا » ، يقول: وما قتلوا - هذا الذي اتبعوه في المقتول الذي قتلوه وهم يحسبونه عيسى- يقينًا أنه عيسى ولا أنه غيره، ولكنهم كانوا منه على ظنّ وشبهةٍ.

وهذا كقول الرجل للرجل: « ما قتلت هذا الأمر علمًا، وما قتلته يقينًا » ، إذا تكلَّم فيه بالظن على غير يقين علم. فـ « الهاء » في قوله: « وما قتلوه » ، عائدة على « الظن » .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « وما قتلوه يقينًا » ، قال: يعني لم يقتلوا ظنَّهم يقينًا.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يعلى بن عبيد، عن جويبر في قوله: « وما قتلوه يقينًا » ، قال: ما قتلوا ظنهم يقينًا.

وقال السدي في ذلك ما:-

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وما قتلوه يقينًا » ، وما قتلوا أمره يقينًا أن الرجل هو عيسى، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ .

 

القول في تأويل قوله : بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( 158 )

قال أبو جعفر: أما قوله جل ثناؤه: « بل رفعه الله إليه » ، فإنه يعني: بل رفع الله المسيح إليه. يقول: لم يقتلوه ولم يصلبوه، ولكن الله رفعه إليه فطهَّره من الذين كفروا.

وقد بيّنا كيف كان رفع الله إياه إليه فيما مضى، وذكرنا اختلاف المختلفين في ذلك، والصحيحَ من القول فيه بالأدلة الشاهدة على صحته، بما أغنى عن إعادته.

وأما قوله: « وكان الله عزيزًا حكيمًا » ، فإنه يعني: ولم يزل الله منتقمًا من أعدائه، كانتقامه من الذين أخذتهم الصاعقة بظلمهم، وكلعنه الذين قصّ قصتهم بقوله: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ « حكيمًا » ، يقول: ذا حكمة في تدبيره وتصريفه خلقَه في قضائه. يقول: فاحذروا أيها السائلون محمدًا أن ينـزل عليكم كتابًا من السماء، من حلول عقوبتي بكم، كما حل بأوائلكم الذين فعلوا فعلكم، في تكذيبهم رسلي وافترائهم على أوليائي، وقد:-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا محمد بن إسحاق بن أبي سارة الرُّؤَاسيّ، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: « وكان الله عزيزًا حكيمًا » ، قال: معنى ذلك: أنه كذلك.

 

القول في تأويل قوله : وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى ذلك:

فقال بعضهم: معنى ذلك: « وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به » ، يعني: بعيسى « قبل موته » ، يعني: قبل موت عيسى يوجِّه ذلك إلى أنّ جميعهم يصدِّقون به إذا نـزل لقتل الدجّال، فتصير الملل كلها واحدة، وهي ملة الإسلام الحنيفيّة، دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته » ، قال: قبل موت عيسى ابن مريم.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته » ، قال: قبل موت عيسى.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن أبي مالك في قوله: « إلا ليؤمنن به قبل موته » ، قال: ذلك عند نـزول عيسى ابن مريم، لا يبقى أحدٌ من أهل الكتاب إلا ليؤمننّ به.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال، قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن قال: « قبل موته » ، قال: قبل أن يموت عيسى ابن مريم.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن في قوله: « وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته » ، قال: قبل موت عيسى. والله إنه الآن لحيٌّ عند الله، ولكن إذا نـزل آمنوا به أجمعون.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: « وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته » ، يقول: قبل موت عيسى.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: « وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته » ، قال: قبل موت عيسى.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: « وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته » ، قال: قبل موت عيسى، إذا نـزل آمنت به الأديان كلها.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن الحسن قال: قبل موت عيسى.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن عوف، عن الحسن: « إلا ليؤمنن به قبل موته » ، قال عيسى، ولم يمت بعدُ.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمران بن عيينة، عن حصين، عن أبي مالك قال: لا يبقى أحدٌ منهم عند نـزول عيسى إلا آمن به.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حصين، عن أبي مالك قال: قبل موت عيسى.

حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته » ، قال: إذا نـزل عيسى ابن مريم فقتل الدجال، لم يبق يهوديٌّ في الأرض إلا آمن به. قال: فذلك حين لا ينفعهم الإيمان.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته » ، يعني: أنه سيدرك أناسٌ من أهل الكتاب حين يبعث عيسى، فيؤمنون به، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا .

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور بن زاذان، عن الحسن أنه قال في هذه الآية: « وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته » قال أبو جعفر: أظنه إنما قال: إذا خرج عيسى آمنت به اليهود.

وقال آخرون: يعني بذلك: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى، قبل موت الكتابي. يوجِّه ذلك إلى أنه إذا عاين علم الحق من الباطل، لأن كل من نـزل به الموت لم تخرج نفسُه حتى يتبين له الحق من الباطل في دينه.

[ ذكر من قال ذلك ] :

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته » ، قال: لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى.

حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد: « وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته » ، قال: لا تخرج نفسه حتى يؤمن بعيسى، وإن غرق، أو تردَّى من حائط، أو أيّ ميتة كانت.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « إلا ليؤمنن به قبل موته » ، كل صاحب كتاب ليؤمنن به، بعيسى، قبل موته، موتِ صاحب الكتاب.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « ليؤمنن به » ، كل صاحب كتاب، يؤمن بعيسى « قبل موته » ، قبل موت صاحب الكتاب قال ابن عباس: لو ضُربت عنقه، لم تخرج نفسُه حتى يؤمن بعيسى.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لا يموت اليهودي حتى يشهد أنّ عيسى عبد الله ورسوله، ولو عُجِّل عليه بالسِّلاح.

حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته » ، قال: هي في قراءة أبيّ: ( قبل موتهم ) ، ليس يهودي يموت أبدًا حتى يؤمن بعيسى. قيل لابن عباس: أرأيت إن خرّ من فوق بيت؟ قال: يتكلم به في الهُوِيِّ. فقيل: أرأيت إن ضربَ عنق أحد منهم؟ قال: يُلجلج بها لسانُهُ.

حدثني المثنى قال، حدثني أبو نعيم الفضل بن دكين قال، حدثنا سفيان، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس: « وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته » ، قال: لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى ابن مريم. قال: وإن ضُرب بالسيف، يتكلم به. قال: وإن هوى، يتكلم به وهو يَهْوِي.

وحدثني ابن المثنى قال، حدثني محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي هارون الغنوي، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: « وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته » ، قال: لو أن يهوديًّا وقع من فوق هذا البيت، لم يمت حتى يؤمن به يعني: بعيسى.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا شعبة، عن مولى لقريش قال: سمعت عكرمة يقول: لو وقع يهوديٌّ من فوق القَصر، لم يبلغ إلى الأرض حتى يؤمن بعيسى.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي هاشم الرماني، عن مجاهد: « ليؤمنن به قبل موته » ، قال: وإن وقع من فوق البيت، لا يموت حتى يؤمن به.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو بن أبي قيس، عن منصور، عن مجاهد: « وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته » . قال: لا يموت رجل من أهل الكتاب حتى يؤمن به، وإن غرق، أو تردَّى، أو مات بشيء.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن ليث، عن مجاهد في قوله: « وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته » ، قال: لا تخرج نفسه حتى يؤمن به.

حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن خصيف، عن عكرمة: « وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته » ، قال: لا يموت أحدهم حتى يؤمن به يعني: بعيسى وإن خَرَّ من فوق بيت، يؤمن به وهو يهوِي.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك قال: ليس أحدٌ من اليهود يخرج من الدنيا حتى يؤمن بعيسى.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن فرات القزاز، عن الحسن في قوله: « وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته » ، قال: لا يموت أحد منهم حتى يؤمن بعيسى صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت [ يعني: اليهود والنصارى ] .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا إسرائيل، عن فرات، عن الحسن في قوله: « وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته » ، قال: لا يموت أحدٌ منهم حتى يؤمن بعيسى قبل أن يموت.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا الحكم بن عطية، عن محمد بن سيرين: « وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته » ، قال: موتِ الرجل من أهل الكتاب.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته » ، قال: قال ابن عباس: ليس من يهودي [ يموت ] حتى يؤمن بعيسى ابن مريم. فقال له رجل من أصحابه: كيف، والرجل يغرق، أو يحترق، أو يسقط عليه الجدار، أو يأكله السَّبُع؟ فقال: لا تخرج روحه من جسده حتى يقذف فيه الإيمان بعيسى.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته » ، قال: لا يموت أحد من اليهود حتى يشهد أن عيسى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يعلى، عن جويبر في قوله: « ليؤمنن به قبل موته » ، قال: في قراءة أبيّ: ( قبل موتهم ) .

وقال آخرون: معنى ذلك: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بمحمد صلى الله عليه وسلم، قبل موت الكتابي.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن حميد قال، قال عكرمة: لا يموت النصراني واليهوديُّ حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم يعني في قوله: « وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته » .

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصحة والصواب، قول من قال: تأويل ذلك: « وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى » .

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب من غيره من الأقوال، لأن الله جل ثناؤه حكم لكل مؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم بحكم أهل الإيمان، في الموارثة والصلاة عليه، وإلحاق صغار أولاده بحكمه في الملة. فلو كان كل كتابيّ يؤمن بعيسى قبل موته، لوجب أن لا يرث الكتابيّ إذا مات على مِلّته إلا أولاده الصغار، أو البالغون منهم من أهل الإسلام، إن كان له ولد صغير أو بالغ مسلم. وإن لم يكن له ولد صغير ولا بالغٌ مسلم، كان ميراثه مصروفًا حيث يصرف مال المسلم يموت ولا وارث له، وأن يكون حكمه حكم المسلمين في الصلاة عليه وغَسْله وتقبيره. لأن من مات مؤمنًا بعيسى، فقد مات مؤمنًا بمحمد وبجميع الرسل. وذلك أن عيسى صلوات الله عليه، جاء بتصديق محمد وجميع المرسلين صلوات الله عليهم، فالمصدّق بعيسى والمؤمن به، مصدق بمحمد وبجميع أنبياء الله ورسله. كما أن المؤمن بمحمد، مؤمن بعيسى وبجميع أنبياء الله ورسله. فغير جائز أن يكون مؤمنًا بعيسى من كان بمحمد مكذِّبًا.

فإن ظن ظانٌّ أنّ معنى إيمان اليهودي بعيسى الذي ذكره الله في قوله: « وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته » ، إنما هو إقراره بأنه لله نبيٌّ مبعوث، دون تصديقه بجميع ما أتى به من عند الله فقد ظن خطأ.

وذلك أنه غير جائز أن يكون منسوبًا إلى الإقرار بنبوّة نبي، من كان له مكذبًا في بعض ما جاء به من وحْي الله وتنـزيله. بل غير جائز أن يكون منسوبًا إلا الإقرار بنبوة أحد من أنبياء الله، لأن الأنبياء جاءت الأمم بتصديق جميع أنبياء الله ورسله. فالمكذب بعض أنبياء الله فيما أتى به أمّته من عند الله، مكذِّب جميع أنبياء الله فيما دعوا إليه من دين الله عبادَ الله. وإذْ كان ذلك كذلك وكان الجميع من أهل الإسلام مجمعين على أن كلَّ كتابي مات قبل إقراره بمحمد صلوات الله عليه وما جاء به من عند الله، محكوم له بحكم الملّة التي كان عليها أيام حياته، غيرُ منقولٍ شيء من أحكامه في نفسه وماله وولده صغارهم وكبارهم بموته، عما كان عليه في حياته دلَّ الدليل على أن معنى قول الله: « وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته » ، إنما معناه: إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى، وأن ذلك في خاصٍ من أهل الكتاب، ومعنيٌّ به أهل زمان منهم دون أهل كل الأزمنة التي كانت بعد عيسى، وأن ذلك كائن عند نـزوله، كالذي:-

حدثني بشر بن معاذ قال، حدثني يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن عبد الرحمن بن آدم، عن أبي هريرة: أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قال: الأنبياء إخوة لعَلاتٍ، أمهاتهم شتى ودينهم واحدٌ. وإنيّ أولى الناس بعيسى ابن مريم، لأنه لم يكن بيني وبينه نبيٌّ. وإنه نازلٌ، فإذا رأيتموه فاعرفوه، فإنه رجل مربُوع الخَلق، إلى الحمرة والبياض، سَبْط الشعر، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بَلل، بين ممصَّرتين، فيدُقّ الصليب، ويقتل الخنـزير، ويضع الجزية، ويفيض المال، ويقاتل الناس على الإسلام حتى يهلك الله في زمانه الملل كلَّها غير الإسلام، ويهلك الله في زمانه مسيحَ الضلالة الكذابَ الدجال، وتقع الأمَنَة في الأرض في زمانه، حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمور مع البقر، والذئاب مع الغنم، وتلعب الغِلمان أو: الصبيان بالحيات، لا يضرُّ بعضهم بعضًا. ثم يلبث في الأرض ما شاء الله وربما قال: أربعين سنة ثم يتوفَّى، ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه.

وأما الذي قال: عنى بقوله: « ليؤمنن به قبل موته » ، ليؤمنن بمحمد صلى الله عليه وسلم قبلَ موت الكتابي - فمما لا وجه له مفهوم، لأنه مع فساده من الوجه الذي دَللنا على فساد قول من قال: « عنى به: ليؤمنن بعيسى قبل موت الكتابي » يزيده فسادًا أنه لم يجر لمحمد عليه السلام في الآيات التي قبلَ ذلك ذكر، فيجوز صرف « الهاء » التي في قوله: « ليؤمنن به » ، إلى أنها من ذكره. وإنما قوله: « ليؤمنن به » ، في سياق ذكر عيسى وأمه واليهود. فغير جائز صرف الكلام عما هو في سياقه إلى غيره، إلا بحجة يجب التسليم لها من دلالة ظاهر التنـزيل، أو خبر عن الرسول تقوم به حُجَّة. فأما الدَّعاوى، فلا تتعذر على أحد.

قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذْ كان الأمر على ما وصفنا : وما من أهل الكتاب إلا من ليؤمنن بعيسى، قبل موت عيسى وحذف « مَن » بعد « إلا » ، لدلالة الكلام عليه، فاستغنى بدلالته عن إظهاره، كسائر ما قد تقدم من أمثاله التي قد أتينا على البيان عنها.

 

القول في تأويل قوله : وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ( 159 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ويوم القيامة يكون عيسى على أهل الكتاب « شهيدًا » ، يعني: شاهدًا عليهم بتكذيب من كذَّبه منهم، وتصديق من صدقه منهم، فيما أتاهم به من عند الله، وبإبلاغه رسالة ربه، كالذي:-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: « ويوم القيامة يكون عليهم شهيدًا » ، أنه قد أبلغهم ما أُرسل به إليهم.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « ويوم القيامة يكون عليهم شهيدًا » ، يقول: يكون عليهم شهيدًا يوم القيامة على أنه قد بلغ رسالة ربه، وأقرّ بالعبوديّة على نفسه.

 

القول في تأويل قوله : فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا ( 160 ) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( 161 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فحرَّمنا على اليهود الذين نقضوا ميثاقهم الذي واثقوا ربهم، وكفروا بآيات الله، وقتلوا أنبياءهم، وقالوا البهتان على مريم، وفعلوا ما وصفهم الله في كتابه طيباتٍ من المآكل وغيرها، كانت لهم حلالا عقوبة لهم بظلمهم، الذي أخبر الله عنهم في كتابه، كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم » الآية، عوقب القوم بظلم ظلموه وبَغْيٍ بَغَوْه، حرمت عليهم أشياء ببغيهم وبظلمهم.

وقوله: « وبصدّهم عن سبيل الله كثيرًا » ، يعني: وبصدّهم عبادَ الله عن دينه وسبله التي شرعَها لعباده، صدًّا كثيرًا. وكان صدُّهم عن سبيل الله: بقولهم على الله الباطل، وادعائهم أن ذلك عن الله، وتبديلهم كتاب الله، وتحريف معانيه عن وجوهه. وكان من عظيم ذلك: جحودهم نبوة نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتركهم بيانَ ما قد علِموا من أمره لمن جَهِل أمره من الناس.

وبنحو ذلك كان مجاهد يقول:

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثني أبو عاصم قال، حدثني عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « وبصدّهم عن سبيل الله كثيرًا » ، قال: أنفسَهم وغيرَهم عن الحق.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

وقوله: « وأخذهم الربا » ، وهو أخذهم ما أفضلوا على رءوس أموالهم، لفضل تأخير في الأجل بعد مَحِلِّها، وقد بينت معنى « الربا » فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته.

« وقد نهوا عنه » يعني: عن أخذ الربا.

وقوله: « وأكلهم أموالَ الناس بالباطل » ، يعني ما كانوا يأخذون من الرُّشَى على الحكم، كما وصفهم الله به في قوله: وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [ سورة المائدة: 62 ] . وكان من أكلهم أموال الناس بالباطل، ما كانوا يأخذون من أثمان الكتب التي كانوا يكتبونها بأيديهم، ثم يقولون: هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وما أشبه ذلك من المآكل الخسيسة الخبيثة. فعاقبهم الله على جميع ذلك، بتحريمه ما حرَّم عليهم من الطيبات التي كانت لهم حلالا قبل ذلك.

وإنما وصفهم الله بأنهم أكلوا ما أكلوا من أموال الناس كذلك بالباطل، لأنهم أكلوه بغير استحقاق، وأخذوا أموالهم منهم بغير استيجاب.

وقوله: « وأعتدنا للكافرين منهم عذابًا أليمًا » ، يعني: وجعلنا للكافرين بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم من هؤلاء اليهود، العذاب الأليم وهو الموجع من عذاب جهنم عنده، يصلونها في الآخرة، إذا وردوا على ربهم، فيعاقبهم بها.

 

القول في تأويل قوله : لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا ( 162 )

قال أبو جعفر: هذا من الله جل ثناؤه استثناء، استثنَى من أهل الكتاب من اليهود الذين وصَف صفتهم في هذه الآيات التي مضت، من قوله: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَـزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ .

ثم قال جل ثناؤه لعباده، مبينًا لهم حكم من قد هداه لدينه منهم ووفقه لرشده: ما كلُّ أهل الكتاب صفتهم الصفة التي وصفت لكم، « لكن الراسخون في العلم منهم » ، وهم الذين قد رَسخوا في العلم بأحكام الله التي جاءت بها أنبياؤه، وأتقنوا ذلك، وعرفوا حقيقته.

وقد بينا معنى « الرسوخ في العلم » ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

« والمؤمنون » يعني: والمؤمنون بالله ورسله، هم يؤمنون بالقرآن الذي أنـزل الله إليك، يا محمد، وبالكتب التي أنـزلها على من قبلك من الأنبياء والرسل، ولا يسألونك كما سألك هؤلاء الجهلة منهم: أن تنـزل عليهم كتابًا من السماء، لأنهم قد علموا بما قرأوا من كتب الله وأتتهم به أنبياؤهم، أنك لله رسول، واجبٌ عليهم اتباعك، لا يَسعهم غير ذلك، فلا حاجة بهم إلى أن يسألوك آية معجزة ولا دلالة غير الذي قد علموا من أمرك بالعلم الراسخ في قلوبهم من إخبار أنبيائهم إياهم بذلك، وبما أعطيتك من الأدلّة على نبوتك، فهم لذلك من علمهم ورسوخهم فيه، يؤمنون بك وبما أنـزل إليك من الكتاب، وبما أنـزل من قبلك من سائر الكتب، كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك » ، استثنى الله أُثْبِيَّةً من أهل الكتاب، وكان منهم من يؤمن بالله وما أنـزل عليهم، وما أنـزل على نبي الله، يؤمنون به ويصدّقون، ويعلمون أنه الحق من ربهم.

ثم اختلف في « المقيمين الصلاة » ، أهم الراسخون في العلم، أم هم غيرهم؟.

فقال بعضهم: هم هم.

ثم اختلف قائلو ذلك في سبب مخالفة إعرابهم إعراب « الراسخون في العلم » وهما من صفة نوع من الناس.

فقال بعضهم: ذلك غلط من الكاتب، وإنما هو: لكن الراسخون في العلم منهم والمقيمون الصلاة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن الزبير قال: قلت لأبان بن عثمان بن عفان: ما شأنها كتبت: « لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك والمقيمين الصلاة » ؟ قال: إن الكاتب لما كتب: « لكن الراسخون في العلم منهم » ، حتى إذا بلغ قال: ما أكتب؟ قيل له: اكتب: « والمقيمين الصلاة » ، فكتب ما قيلَ له.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أنه سأل عائشة عن قوله: « والمقيمين الصلاة » ، وعن قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ [ سورة المائدة: 69 ] ، وعن قوله: إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ [ سورة طه: 63 ] ، فقالت: يا ابن أختي، هذا عمل الكاتب، أخطئوا في الكتاب.

وذكر أن ذلك في قراءة ابن مسعود: ( والمقيمون الصلاة ) .

وقال آخرون، وهو قول بعض نحويي الكوفة والبصرة: « والمقيمون الصلاة » ، من صفة « الراسخين في العلم » ، ولكن الكلام لما تطاول، واعترض بين « الراسخين في العلم » ، « والمقيمين الصلاة » ما اعترض من الكلام فطال، نصب « المقيمين » على وجه المدح. قالوا: والعرب تفعل ذلك في صفة الشيء الواحد ونعته، إذا تطاولت بمدح أو ذم، خالفوا بين إعراب أوله وأوسطه أحيانًا، ثم رجعوا بآخره إلى إعراب أوله. وربما أجروا إعراب آخره على إعراب أوسطه. وربما أجروا ذلك على نوع واحد من الإعراب. واستشهدوا لقولهم ذلك بالآيات التي ذكرتها في قوله: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ [ سورة البقرة: 177 ] .

وقال آخرون: بل « المقيمون الصلاة » من صفة غير « الراسخين في العلم » في هذا الموضع، وإن كان « الراسخون في العلم » من « المقيمين الصلاة » .

وقال قائلو هذه المقالة جميعًا: موضع « المقيمين » في الإعراب، خفض.

فقال بعضهم: موضعه خفض على العطف على « ما » التي في قوله: « يؤمنون بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك » ، ويؤمنون بالمقيمين الصلاة.

ثم اختلف متأوّلو ذلك هذا التأويل في معنى الكلام.

فقال بعضهم: معنى ذلك: « والمؤمنون يؤمنون بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك » ، وبإقام الصلاة. قالوا: ثم ارتفع قوله: « والمؤتون الزكاة » ، عطفًا على ما في « يؤمنون » من ذكر « المؤمنين » ، كأنه قيل: والمؤمنون يؤمنون بما أنـزل إليك، هم والمؤتون الزكاة.

وقال آخرون: بل « المقيمون الصلاة » ، الملائكة. قالوا: وإقامتهم الصلاة، تسبيحهم ربَّهم، واستغفارهم لمن في الأرض. قالوا: ومعنى الكلام: « والمؤمنون يؤمنون بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك » ، وبالملائكة.

وقال آخرون منهم: بل معنى ذلك: « والمؤمنون يؤمنون بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك » ، ويؤمنون بالمقيمين الصلاة، هم والمؤتون الزكاة، كما قال جل ثناؤه: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [ سورة التوبة: 61 ] .

وأنكر قائلو هذه المقالة أن يكون: « المقيمين » منصوبًا على المدح. وقالوا: إنما تنصب العربُ على المدح من نعت من ذكرته بعد تمام خبره. قالوا: وخبر « الراسخين في العلم » قوله: « أولئك سنؤتيهم أجرًا عظيمًا » . قال: فغير جائز نصب « المقيمين » على المدح، وهو في وسط الكلام، ولمّا يتمَّ خبر الابتداء.

وقال آخرون: معنى ذلك: لكن الراسخون في العلم منهم، ومن المقيمين الصلاة. وقالوا: موضع « المقيمين » ، خفض.

وقال آخرون: معناه: والمؤمنون يؤمنون بما أنـزل إليك، وإلى المقيمين الصلاة.

قال أبو جعفر: وهذا الوجه والذي قبله، منكرٌ عند العرب، ولا تكاد العرب تعطف بظاهر على مكنيٍّ في حال الخفض، وإن كان ذلك قد جاء في بعض أشعارها.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال عندي بالصواب، أن يكون « المقيمين » في موضع خفض، نسَقًا على « ما » ، التي في قوله: « بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك » وأن يوجه معنى « المقيمين الصلاة » ، إلى الملائكة.

فيكون تأويل الكلام: « والمؤمنون منهم يؤمنون بما أنـزل إليك » ، يا محمد، من الكتاب « وبما أنـزل من قبلك » ، من كتبي، وبالملائكة الذين يقيمون الصلاة. ثم يرجع إلى صفة « الراسخين في العلم » ، فيقول: لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون بالكتب والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر.

وإنما اخترنا هذا على غيره، لأنه قد ذكر أن ذلك في قراءة أبيّ بن كعب ( وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ ) ، وكذلك هو في مصحفه، فيما ذكروا. فلو كان ذلك خطأ من الكاتب، لكان الواجب أن يكون في كل المصاحف غير مصحفنا الذي كتبه لنا الكاتب الذي أخطأ في كتابه بخلاف ما هو في مصحفنا. وفي اتفاق مصحفنا ومصحف أبيّ في ذلك، ما يدل على أنّ الذي في مصحفنا من ذلك صواب غير خطأ. مع أن ذلك لو كان خطأ من جهة الخطِّ، لم يكن الذين أخذ عنهم القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلِّمون من علَّموا ذلك من المسلمين على وجه اللحن، ولأصلحوه بألسنتهم، ولقَّنوه الأمة تعليمًا على وجه الصواب.

وفي نقل المسلمين جميعًا ذلك قراءةً، على ما هو به في الخط مرسومًا، أدلُّ الدليل على صحة ذلك وصوابه، وأن لا صنع في ذلك للكاتب.

وأما من وجَّه ذلك إلى النصب على وجه المدح لـ « الراسخين في العلم » ، وإن كان ذلك قد يحتمل على بُعدٍ من كلام العرب، لما قد ذكرت قبل من العلة، وهو أن العرب لا تعدِل عن إعراب الاسم المنعوت بنعت في نَعْته إلا بعد تمام خبره. وكلام الله جل ثناؤه أفصح الكلام، فغير جائز توجيهه إلا إلى الذي هو [ أولى ] به من الفصاحة.

وأما توجيه من وجّه ذلك إلى العطف به على « الهاء » و « الميم » في قوله: « لكن الراسخون في العلم منهم » أو: إلى العطف به على « الكاف » من قوله: « بما أنـزل إليك » أو: إلى « الكاف » من قوله: « وما أنـزل من قبلك » ، فإنه أبعد من الفصاحة من نصبه على المدح، لما قد ذكرت قبل من قُبْح ردِّ الظاهر على المكنيّ في الخفض.

وأما توجيه من وجه « المقيمين » إلى « الإقامة » ، فإنه دعوى لا برهان عليها من دلالة ظاهر التنـزيل، ولا خبر تثبت حجته. وغير جائز نقل ظاهر التنـزيل إلى باطن بغير برهان.

وأما قوله: « والمؤتون الزكاة » ، فإنه معطوف به على قوله: « والمؤمنون يؤمنون » ، وهو من صفتهم.

وتأويله: والذين يعطون زكاة أموالهم مَن جعلها الله له وصرفها إليه « والمؤمنون بالله واليوم الآخر » ، يعني: والمصدّقون بوحدانية الله وألوهته، والبعث بعد الممات، والثواب والعقاب « أولئك سنؤتيهم أجرًا عظيمًا » ، يقول: هؤلاء الذين هذه صفتهم « سنؤتيهم » ، يقول: سنعطيهم « أجرًا عظيمًا » ، يعني: جزاءً على ما كان منهم من طاعة الله واتباع أمره، وثوابًا عظيمًا، وذلك الجنة.