القول في تأويل قوله : إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا ( 163 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح » ، إنا أرسلنا إليك، يا محمد، بالنبوة كما أرسلنا إلى نوح، وإلى سائر الأنبياء الذين سَمَّيتهم لك من بعده، والذين لم أسمِّهم لك، كما:-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن منذرٍ الثوري، عن الربيع بن خُثَيم في قوله: « إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده » ، قال: أوحى إليه كما أوحى إلى جميع النبيين من قبله.

وذكر أن هذه الآية نـزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن بعض اليهود لما فضحهم الله بالآيات التي أنـزلها على رسوله صلى الله عليه وسلم وذلك من قوله: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَـزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فتلا ذلك عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: « ما أنـزل الله على بشر من شيء بعد موسى » ! فأنـزل الله هذه الآيات، تكذْيبًا لهم، وأخبر نبيَّه والمؤمنين به أنه قد أنـزل عليه بعد موسى وعلى من سماهم في هذه الآية، وعلى آخرين لم يسمِّهم، كما:-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال، قال سُكَين وعدي بن زيد: يا محمد، ما نعلم الله أنـزل على بشر من شيء بعد موسى! فأنـزل الله في ذلك من قولهما: « إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده » إلى آخر الآيات.

وقال آخرون: بل قالوا لما أنـزل الله الآيات التي قبل هذه في ذكرهم: « ما أنـزل الله على بشر من شيء، ولا على موسى، ولا على عيسى » ! فأنـزل الله جل ثناؤه: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ، [ سورة الأنعام: 91 ] ، ولا على موسى ولا على عيسى.

ذكر من قال ذلك:

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي قال: أنـزل الله: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَـزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ إلى قوله: وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ، فلما تلاها عليهم يعني: على اليهود وأخبرهم بأعمالهم الخبيثة، جحدوا كل ما أنـزل الله، وقالوا: « ما أنـزل الله على بشر من شيء، ولا على موسى ولا على عيسى!! وما أنـزل الله على نبي من شيء » ! قال: فحلَّ حُبْوَته وقال: ولا على أحد!! فأنـزل الله جل ثناؤه: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [ سورة الأنعام: 91 ]

وأما قوله: « وآتينا داود زبورًا » ، فإن القرأة اختلفت في قراءته.

فقرأته عامة قرأة أمصار الإسلام، غير نفر من قرأة الكوفة: ( وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا ) ، بفتح « الزاي » على التوحيد، بمعنى: وآتينا داود الكتاب المسمى « زبورًا » .

وقرأ ذلك بعض قرأة الكوفيين: ( وَآتَيْنَا دَاوُدَ زُبُورًا ) ، بضم « الزاي » جمع « زَبْرٍ » .

كأنهم وجهوا تأويله: وآتينا داود كتبًا وصحفًا مَزْبورة.

من قولهم: « زَبَرت الكتاب أزْبُره زَبْرًا » و « ذَبُرته أذْبُره ذَبْرًا » ، إذا كتبته.

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندنا، قراءة من قرأ: ( وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا ) ، بفتح « الزاي » ، على أنه اسم الكتاب الذي أوتيه داود، كما سمى الكتاب الذي أوتيه موسى « التوراة » ، والذي أوتيه عيسى « الإنجيل » ، والذي أوتيه محمد « الفرقان » ، لأن ذلك هو الاسم المعروف به ما أوتي داود. وإنما تقول العرب: « زَبُور داود » ، بذلك تعرف كتابَه سائرُ الأمم.

 

القول في تأويل قوله : وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ( 164 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إنا أوحينا إليك، كما أوحينا إلى نوح وإلى رسل قد قصصناهم عليك، ورسل لم نقصصهم عليك.

فلعل قائلا يقول: فإذ كان ذلك معناه، فما بال قوله: « ورسلا » منصوبًا غير مخفوض؟ قيل: نصب ذلك إذ لم تعد عليه « إلى » التي خفضت الأسماء قبله، وكانت الأسماء قبلها، وإن كانت مخفوضة، فإنها في معنى النصب. لأن معنى الكلام: إنا أرسلناك رسولا كما أرسلنا نوحًا والنبيين من بعده، فعُطفت « الرسل » على معنى الأسماء قبلها في الإعراب، لانقطاعها عنها دون ألفاظها، إذ لم يعد عليها ما خفضها، كما قال الشاعر.

لَــوْ جِــئْتَ بِـالْخُبْزِ لَـهُ مُنَشَّـرَا وَالْبَيْــضَ مَطْبُوخًـا مَعًـا والسُّـكَّرَا

لَمْ يُرْضِهِ ذلِكَ حَتَّى يَسْكَرَا

وقد يحتمل أن يكون نصب « الرسل » ، لتعلق « الواو » بالفعل، بمعنى: وقصصنا رسلا عليك من قبل، كما قال جل ثناؤه: يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [ سورة الإنسان: 31 ] .

وقد ذكر أن ذلك في قراءة أبيّ ( ورسل قد قصصناهم عليك من قبل ورسل لم نقصصهم عليك ) ، فرفعُ ذلك، إذ قرئ كذلك، بعائد الذكر في قوله: « قصصناهم عليك » .

وأما قوله: « وكلم الله موسى تكليمًا » ، فإنه يعني بذلك جل ثناؤه: وخاطب الله بكلامه موسى خطابًا، وقد:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا نوح بن أبي مريم، وسئل: كيف كلم الله موسى تكليمًا؟ فقال: مشافهة.

وقد:-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن ابن مبارك، عن معمر ويونس، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال، أخبرني جزى بن جابر الخثعمي قال: سمعت كعبًا يقول: إن الله جل ثناؤه لما كلم موسى، كلمه بالألسنة كلها قبل كلامه يعني: كلام موسى فجعل يقول: يا رب، لا أفهم! حتى كلمه بلسانه آخر الألسنة، فقال: يا رب هكذا كلامك؟ قال: لا ولو سمعت كلامي أي: على وجهه لم تك شيئًا!

قال ابن وكيع: قال أبو أسامة ( !! ) : وزادني أبو بكر الصغاني في هذا الحديث أن موسى قال: يا رب، هل في خلقك شيء يشبه كلامك؟ قال: لا وأقرب خلقي شبهًا بكلامي، أشدُّ ما تسمع الناسُ من الصواعق.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر قال، سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: سئل موسى: ما شبهت كلام ربك مما خلق؟ فقال موسى: الرعد الساكب.

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، حدثنا عبد الله بن وهب قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال، أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن: أنه أخبره عن جزء بن جابر الخثعمي قال: لما كلّم الله موسى بالألسنة كلها قبل لسانه، فطفق يقول: والله يا رب، ما أفقه هذا!! حتى كلمه بلسانه آخر الألسنة بمثل صوته، فقال موسى: يا ربِّ هذا كلامك؟ قال: لا. قال: هل في خلقك شيء يشبه كلامك؟ قال: لا وأقرب خلقي شبهًا بكلامي، أشد ما يسمع الناس من الصواعق.

حدثني أبو يونس المكي قال، حدثنا ابن أبي أويس قال، أخبرني أخي، عن سليمان، عن محمد بن أبي عتيق، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: أنه أخبره جزء بن جابر الخثعمي: أنه سمع [ كعب ] الأحبار يقول: لما كلم الله موسى بالألسنة كلها قبل لسانه، فطفق موسى يقول: أي رب، والله ما أفقه هذا!! حتى كلمه آخر الألسنة بلسانه بمثل صوته، فقال موسى: أي رب، أهكذا كلامك؟ فقال: لو كلمتك بكلامي لم تكن شيئًا! قال: أي رب، هل في خلقك شيء يشبه كلامك؟ فقال: لا وأقرب خلقي شبهًا بكلامي، أشدّ ما يسمع من الصواعق.

حدثنا ابن عبد الرحيم قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا زهير، عن يحيى، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن جزء بن جابر: أنه سمع كعبًا يقول: لما كلم الله موسى بالألسنة قبل لسانه، طفق موسى يقول: أي رب، إني لا أفقه هذا!! حتى كلمه الله آخر الألسنة بمثل لسانه، فقال موسى: أي رب، هذا كلامك؟ قال الله: لو كلمتك بكلامي لم تكن شيئًا! قال، يا رب، فهل من خلقك شيء يشبه كلامك؟ قال: لا وأقرب خلقي شبهًا بكلامي، أشدُّ ما يسمع من الصواعق.

 

القول في تأويل قوله : رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( 165 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده، ومن ذكر من الرسل « رسلا » ، فنصب « الرسل » على القطع من أسماء الأنبياء الذين ذكر أسماءهم « مبشرين » ، يقول: أرسلتهم رسلا إلى خلقي وعبادي، مبشرين بثوابي من أطاعني واتبع أمري وصدَّق رسلي، ومنذرين عقابي من عصاني وخالف أمري وكذب رسلي « لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل » ، يقول: أرسلت رسلي إلى عبادي مبشرين ومنذرين، لئلا يحتجّ من كفر بي وعبد الأنداد من دوني، أو ضل عن سبيلي بأن يقول إن أردتُ عقابه: لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى [ سورة طه: 134 ] . فقطع حجة كلّ مبطل ألحدَ في توحيده وخالف أمره، بجميع معاني الحجج القاطعة عذرَه، إعذارًا منه بذلك إليهم، لتكون لله الحجة البالغة عليهم وعلى جميع خلقه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل » ، فيقولوا: ما أرسلت إلينا رسلا.

« وكان الله عزيزًا حكيمًا » ، يقول: ولم يزل الله ذا عِزة في انتقامه ممن انتقم [ منه ] من خلقه، على كفره به، ومعصيته إياه، بعد تثبيته حجَّتَه عليه برسله وأدلَّتَه « حكيمًا » ، في تدبيره فيهم ما دبّره.

 

القول في تأويل قوله : لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ( 166 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن يكفر بالذي أوحينا إليك، يا محمد، اليهود الذين سألوك أن تنـزل عليهم كتابًا من السماء، وقالوا لك: مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ فكذبوك، فقد كذبوا. ما الأمر كما قالوا: لكن الله يشهد بتنـزيله إليك ما أنـزل من كتابه ووحيه، أنـزل ذلك إليك بعلم منه بأنك خِيرَته من خلقه، وصفِيُّه من عباده، ويشهد لك بذلك ملائكته، فلا يحزنك تكذيبُ من كذَّبك، وخلافُ من خالفك « وكفى بالله شهيدًا » ، يقول: وحسبك بالله شاهدًا على صدقك دون ما سواه من خلقه، فإنه إذا شهد لك بالصدق ربك، لم يَضِرْك تكذيب من كذَّبك.

وقد قيل: إن هذه الآية نـزلت في قوم من اليهود، دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى اتباعه، وأخبرهم أنهم يعلمون حقيقة نبوّته، فجحدوا نبوَّته وأنكروا معرفته.

ذكر الخبر بذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس قال: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من يهود، فقال لهم: إني والله أعلم إنكم لتعلمون أنيّ رسول الله! فقالوا: ما نعلم ذلك! فأنـزل الله: « لكن الله يشهد بما أنـزل إليك أنـزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدًا » .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة وسعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عِصابة من اليهود، ثم ذكر نحوه.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « لكن الله يشهد بما أنـزل إليك أنـزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدًا » ، شهودٌ والله غير مُتَّهمة.

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالا بَعِيدًا ( 167 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إنّ الذين جحدوا، يا محمد، نبوتك بعد علمهم بها، من أهل الكتاب الذين اقتصصت عليك قصتهم، وأنكروا أن يكون الله جل ثناؤه أوحى إليك كتابه « وصدوا عن سبيل الله » ، يعني: عن الدين الذي بعثَك الله به إلى خلقه، وهو الإسلام. وكان صدهم عنه، قِيلُهم للناس الذين يسألونهم عن محمد من أهل الشرك: « ما نجد صفة محمد في كتابنا! » ، وادعاءهم أنهم عُهِد إليهم أن النبوّة لا تكون إلا في ولد هارون ومن ذرية داود، وما أشبه ذلك من الأمور التي كانوا يثبِّطون الناس بها عن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم والتصديق به وبما جاء به من عند الله.

وقوله: « قد ضلُّوا ضلالا بعيدًا » ، يعني: قد جاروا عن قصد الطريق جورًا شديدًا، وزالوا عن المحجّة.

وإنما يعني جل ثناؤه بجورهم عن المحجة وضلالهم عنها، إخطاءَهم دين الله الذي ارتضاه لعباده، وابتعث به رسله. يقول: من جحد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وصدَّ عما بُعث به من الملة من قَبِل منه، فقد ضلّ فذهب عن الدين الذي هو دين الله الذي ابتعث به أنبياءه، ضلالا بعيدًا.

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا ( 168 ) إِلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ( 169 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن الذين جحدوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فكفروا بالله بجحود ذلك، وظلموا بمُقامهم على الكفر على علم منهم، بظلمهم عبادَ الله، وحسدًا للعرب، وبغيًا على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم « لم يكن الله ليغفر لهم » ، يعني: لم يكن الله ليعفو عن ذنوبهم بتركه عقوبتهم عليها، ولكنه يفضحهم بها بعقوبته إياهم عليها « ولا ليهديهم طريقًا » ، يقول: ولم يكن الله تعالى ذكره ليهدي هؤلاء الذين كفروا وظلموا، الذين وصفنا صفتهم، فيوفقهم لطريق من الطرق التي ينالون بها ثوابَ الله، ويصلون بلزومهم إياه إلى الجنة، ولكنه يخذلهم عن ذلك، حتى يسلكوا طريق جهنم. وإنما كنى بذكر « الطريق » عن الدين. وإنما معنى الكلام: لم يكن الله ليوفقهم للإسلام، ولكنه يخذلهم عنه إلى « طريق جهنم » ، وهو الكفر، يعني: حتى يكفروا بالله ورسله، فيدخلوا جهنم « خالدين فيها أبدًا » ، يقول: مقيمين فيها أبدًا « وكان ذلك على الله يسيرًا » ، يقول: وكان تخليدُ هؤلاء الذين وصفت لكم صفتهم في جهنم، على الله يسيرًا، لأنه لا يقدر من أراد ذلك به على الامتناع منه، ولا له أحد يمنعه منه، ولا يستصعب عليه ما أراد فعله به من ذلك، وكان ذلك على الله يسيرًا، لأن الخلق خلقُه، والأمرَ أمرُه.

 

القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ( 170 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « يا أيها الناس » ، مشركي العرب، وسائرَ أصناف الكفر « قد جاءكم الرسول » ، يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم، قد جاءكم « بالحق من ربكم » ، يقول: بالإسلام الذي ارتضاه الله لعباده دينًا، يقول: « من ربكم » ، يعني: من عند ربكم « فآمنوا خيرًا لكم » ، يقول: فصدِّقوه وصدّقوا بما جاءكم به من عند ربكم من الدين، فإن الإيمان بذلك خير لكم من الكفر به « وإن تكفروا » ، يقول: وإن تجحدوا رسالتَه وتكذّبوا به وبما جاءكم به من عند ربكم، فإن جحودكم ذلك وتكذيبكم به، لن يضرَّ غيركم، وإنما مكروهُ ذلك عائدٌ عليكم، دون الذي أمركم بالذي بعث به إليكم رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، وذلك أن لله ما في السموات والأرض، ملكًا وخلقًا، لا ينقص كفركم بما كفرتم به من أمره، وعصيانكم إياه فيما عصيتموه فيه، من ملكه وسلطانه شيئًا « وكان الله عليمًا حكيمًا » ، يقول: « وكان الله عليمًا » ، بما أنتم صائرون إليه من طاعته فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، ومعصيته في ذلك، على علم منه بذلك منكم، أمركم ونهاكم « حكيمًا » يعني: حكيمًا في أمره إياكم بما أمركم به، وفي نهيه إياكم عما نهاكم عنه، وفي غير ذلك من تدبيره فيكم وفي غيركم من خلقه.

واختلف أهل العربية في المعنى الذي من أجله نصب قوله: « خيرًا لكم » .

فقال بعض نحويي الكوفة: نصب « خيرًا » على الخروج مما قبله من الكلام، لأن ما قبله من الكلام قد تمَّ، وذلك قوله: « فآمنوا » . وقال: قد سمعت العرب تفعل ذلك في كل خبر كان تامًّا، ثم اتصل به كلام بعد تمامه، على نحو اتصال « خير » بما قبله. فتقول: « لتقومن خيرًا لك » و « لو فعلت ذلك خيرًا لك » ، و « اتق الله خيرًا لك » . قال: وأما إذا كان الكلام ناقصًا، فلا يكون إلا بالرفع، كقولك: « إن تتق الله خير لك » ، و وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ [ سورة النساء: 25 ] .

وقال آخر منهم: جاء النصب في « خير » ، لأن أصل الكلام: فآمنوا هو خيرٌ لكم، فلما سقط « هو » ، الذي [ هو كناية ] ومصدرٌ، اتّصل الكلام بما قبله، والذي قبله معرفة، و « خير » نكرة، فانتصب لاتصاله بالمعرفة لأن الإضمار من الفعل « قم فالقيام خير لك » ، و « لا تقم فترك القيام خير لك » . فلما سقط اتصل بالأول. وقال: ألا ترى أنك ترى الكناية عن الأمر تصلح قبل الخبر، فتقول للرجل: « اتق الله هو خير لك » ، أي: الاتقاء خير لك. وقال: ليس نصبه على إضمار « يكن » ، لأن ذلك يأتي بقياس يُبْطل هذا. ألا ترى أنك تقول: « اتق الله تكن محسنًا » ، ولا يجوز أن تقول: « اتق الله محسنًا » ، وأنت تضمر « كان » ، ولا يصلح أن تقول: « انصرنا أخانا » ، وأنت تريد: « تكن أخانا » ؟ وزعم قائل هذا القول أنه لا يجيز ذلك إلا في « أفعل » خاصة، فتقول: « افعل هذا خيرًا لك » ، و « لا تفعل هذا خيرًا لك » ، و « أفضل لك » .، ولا تقول: « صلاحًا لك » . وزعم أنه إنما قيل مع « أفعل » ، لأن « أفعل » يدل على أن هذا أصلح من ذلك.

وقال بعض نحويي البصرة: نصب « خيرًا » ، لأنه حين قال لهم: « آمنوا » ، أمرهم بما هو خيرٌ لهم، فكأنه قال: اعملوا خيرًا لكم، وكذلك: انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ [ سورة النساء: 171 ] . قال: وهذا إنما يكون في الأمر والنهي خاصة، ولا يكون في الخبر لا تقول: « أن أنتهي خيرًا لي » ؟ ولكن يرفع على كلامين، لأن الأمر والنهي يضمر فيهما فكأنك أخرجته من شيء إلى شيء، لأنك حين قلت له: « انته » ، كأنك قلت له: « اخرج من ذا، وادخل في آخر » ، واستشهد بقول الشاعر عمر بن أبي ربيعة:

فَوَاعِدِيـــهِ سَـــرْحَتَيْ مَـــالِكٍ أوِ الـــرُّبَى بَيْنَهُمَـــا أَسْـــهَلا

كما تقول: « واعديه خيرًا لك » . قال: وقد سمعت نصبَ هذا في الخبر، تقول العرب: « آتي البيت خيرًا لي، وأتركه خيرًا لي » ، وهو على ما فسرت لك في الأمر والنهي.

وقال آخر منهم: نصب « خيرًا » ، بفعل مضمر، واكتفى من ذلك المضمر بقوله: « لا تفعل هذا » أو « افعل الخير » ، وأجازه في غير « أفعل » ، فقال: « لا تفعل ذاك صلاحًا لك » .

وقال آخر منهم: نصب « خيرًا » على ضمير جواب « يكن خيرًا لكم » . وقال: كذلك كل أمر ونهي.