القول في تأويل قوله : وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ( 58 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا أذن مؤذنكم، أيها المؤمنون بالصلاة، سخر من دعوتكم إليها هؤلاء الكفار من اليهود والنصارى والمشركين، ولعبوا من ذلك « ذلك بأنهم قوم لا يعقلون » ، يعني تعالى ذكره بقوله: « ذلك » ، فعلهم الذي يفعلونه، وهو هزؤهم ولعبهم من الدعاء إلى الصلاة، إنما يفعلونه بجهلهم بربهم، وأنهم لا يعقلون ما لهم في إجابتهم إن أجابوا إلى الصلاة، وما عليهم في استهزائهم ولعبهم بالدعوة إليها، ولو عَقَلوا ما لمن فعل ذلك منهم عند الله من العقاب، ما فعلوه.

وقد ذكر عن السدي في تأويله ما:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوًا ولعبًا » ، كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي: « أشهد أن محمدًا رسول الله » ، قال: « حُرِّق الكاذب » ! فدخلت خادمه ذات ليلة من الليالي بنار وهو نائم وأهله نيام، فسقطت شرارة فأحرقت البيت، فاحترق هو وأهله.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ( 59 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لأهل الكتاب من اليهود والنصارى: يا أهل الكتاب، هل تكرهون منا أو تجدون علينا في شيء إذ تستهزئون بديننا، وإذ أنتم إذا نادينا إلى الصلاة اتخذتم نداءنا ذلك هزوًا ولعبًا « إلا أن آمنا بالله » ، يقول: إلا أن صدقنا وأقررنا بالله فوحدناه، وبما أنـزل إلينا من عند الله من الكتاب، وما أنـزل إلى أنبياء الله من الكتب من قبل كتابنا « وأن أكثركم فاسقون » ، يقول: وإلا أن أكثركم مخالفون أمر الله، خارجون عن طاعته، تكذبون عليه.

والعرب تقول: « نقَمتُ عليك كذا أنقِم » وبه قرأه القرأة من أهل الحجاز والعراق وغيرهم و « نقِمت أنقِم » ، لغتان ولا نعلم قارئًا قرأ بهما بمعنى وجدت وكرهت، ومنه قول عبد الله بن قيس الرقيات:

مَــا نَقَمُــوا مِـنْ بَنِـي أُمَيَّـةَ إِلا أَنَّهُـــمْ يَحْـــلُمُونَ إِنْ غَضِبُــوا

وقد ذكر أن هذه الآية نـزلت بسبب قوم من اليهود.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق، قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نفرٌ من اليهود فيهم أبو ياسر بن أخطب، ورافع بن أبي رافع، وعازر، وزيد، وخالد، وأزار بن أبي أزار، وأشيع، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل؟ قال: أومن بالله وما أنـزل إلينا وما أنـزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا: لا نؤمن بمن آمن به! فأنـزل الله فيهم: « قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا آمنا بالله وما أنـزل إلينا وما أنـزل من قبل وأن أكثركم فاسقون » .

عطفًا بها على « أن » التي في قوله: « إلا أن آمنا بالله » ، لأن معنى الكلام: هل تنقمون منا إلا إيمانَنا بالله وفسقكم.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « قل » ، يا محمد، لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار « هل أنبئكم » ، يا معشر أهل الكتاب، بشر من ثواب ما تنقِمون منا من إيماننا بالله وما أنـزل إلينا من كتاب الله، وما أنـزل من قبلنا من كتبه؟

[ و « مثوبة » ، تقديرها « مفعولة » ] ، غير أن عين الفعل لما سقطت نقلت حركتها إلى « الفاء » ، وهي « الثاء » من « مثوبة » ، فخرجت مخرج « مَقُولة » ، و « مَحُورة » ، و « مَضُوفة » ،

كما قال الشاعر:

وَكــنْتُ إذَا جَـارِي دَعَـا لِمَضُوفـةٍ أُشَـمِّر حَـتَّى يَنْصُـفَ السَّاقُ مِئْزَرِي

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله » ، يقول: ثوابًا عند الله.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله » قال: « المثوبة » ، الثواب، « مثوبة الخير » ، و « مثوبة الشر » ، وقرأ: خَيْرٌ ثَوَابًا [ سورة الكهف: 44 ] .

وأما « مَنْ » في قوله: « من لعنه الله » ، فإنه في موضع خفض، ردًّا على قوله: « بشرّ من ذلك » . فكأن تأويل الكلام، إذ كان ذلك كذلك: قل هل أنبئكم بشرّ من ذلك مثوبة عند الله، بمن لعنه الله.

ولو قيل: هو في موضع رفع، لكان صوابًا، على الاستئناف، بمعنى: ذلك من لعنه الله أو: وهو من لعنه الله.

ولو قيل: هو في موضع نصب، لم يكن فاسدًا، بمعنى: قل هل أنبئكم من لعنه الله فيجعل « أنبئكم » عاملا في « من » ، واقعًا عليه.

وأما معنى قوله: « من لعنه الله » ، فإنه يعني: من أبعده الله وأسْحَقه من رحمته « وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير » ، يقول: وغضب عليه، وجعل منهم المُسوخَ القردة والخنازير، غضبًا منه عليهم وسخطًا، فعجَّل لهم الخزي والنكال في الدنيا.

وأما سبب مَسْخ الله من مَسخ منهم قردة، فقد ذكرنا بعضه فيما مضى من كتابنا هذا، وسنذكر بقيته إن شاء الله في مكان غير هذا.

وأما سبب مسخ الله من مَسخ منهم خنازير، فإنه كان فيما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، عن عُمرَ بن كثير بن أفلح مولى أبي أيوب الأنصاري، قال: حدِّثت أن المسخ في بني إسرائيل من الخنازير، كان أن امرأة من بني إسرائيل كانت في قرية من قرى بني إسرائيل، وكان فيها مَلِك بني إسرائيل، وكانوا قد استجمعوا على الهلكة، إلا أنّ تلك المرأة كانت على بقية من الإسلام متمسكة به، فجعلت تدعو إلى الله، حتى إذا اجتمع إليها ناس فتابعوها على أمرها قالت لهم: إنه لا بد لكم من أن تجاهدوا عن دين الله، وأن تنادوا قومكم بذلك، فاخرجوا فإني خارجة. فخرجت، وخرج إليها ذلك الملك في الناس، فقتل أصحابها جميعًا، وانفلتت من بينهم. قال: ودعت إلى الله حتى تجمَّع الناس إليها، حتى إذا رضيت منهم، أمرتهم بالخروج، فخرجوا وخرجت معهم، وأصيبوا جميعًا وانفلتت من بينهم. ثم دعت إلى الله حتى إذا اجتمع إليها رجال واستجابوا لها، أمرتهم بالخروج، فخرجوا وخرجت، فأصيبوا جميعًا، وانفلتت من بينهم، فرجعت وقد أيست، وهي تقول: سبحان الله، لو كان لهذا الدين وليٌّ وناصرٌ، لقد أظهره بَعْدُ! قال: فباتت محزونة، وأصبح أهل القرية يسعون في نواحيها خنازيرَ، قد مسخهم الله في ليلتهم تلك، فقالت حين أصبحت ورأت ما رأت: اليوم أعلم أن الله قد أعزَّ دينه وأمر دينه! قال: فما كان مسخ الخنازير في بني إسرائيل إلا على يديْ تلك المرأة.

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « وجعل منهم القردة والخنازير » ، قال: مسخت من يهود.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

وللمسخ سبب فيما ذكر غير الذي ذكرناه، سنذكره في موضعه إن شاء الله.

 

القول في تأويل قوله : وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ( 60 )

قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته قرأة الحجاز والشأم والبصرة وبعض الكوفيين: ( وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ) ، بمعنى: وجعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت، بمعنى: « عابد » ، فجعل « عبد » ، فعلا ماضيًا من صلة المضمر، ونصب « الطاغوتَ » ، بوقوع « عبَدَ » عليه.

وقرأ ذلك جماعة من الكوفيين: ( وَعَبُدَ الطَّاغُوتَ ) بفتح « العين » من « عبد » وضم بائها، وخفض « الطاغوت » بإضافة « عَبُد » إليه. وعنوا بذلك: وخدَمَ الطاغوت.

حدثني بذلك المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد قال، حدثني حمزة، عن الأعمش، عن يحيى بن وثاب أنه قرأ: ( وَعُبَدَ الطَّاغُوتِ ) يقول: خدم قال عبد الرحمن: وكان حمزة كذلك يقرأها.

حدثني ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن الأعمش: أنه كان يقرأها كذلك.

وكان الفَرَّاء يقول: إن تكن فيه لغة مثل « حَذِرٍ » و « حَذُر » ، و « عجِلٍ » ، و « وعَجُلٍ » ، فهو وجه، والله أعلم وإلا فإن أراد قول الشاعر:

أَبَنِــــي لُبَيْنَــــى إنَّ أُمَّكُـــمُ أَمَــــةٌ وَإنَّ أَبَــــاكُمُ عَبُـــدُ

فإن هذا من ضرورة الشعر، وهذا يجوز في الشعر لضرورة القوافي، وأما في القراءة فلا.

وقرأ ذلك آخرون: ( وَعُبُدَ الطَّاغُوتِ ) ذكر ذلك عن الأعمش.

وكأنَّ من قرأ ذلك كذلك، أراد جمع الجمع من « العبد » ، كأنه جمع « العبد » « عبيدًا » ، ثم جمع « العبيد » « عُبُدًا » ، مثل: « ثِمَار وُثُمر » .

وذكر عن أبي جعفر القارئ أنه كان يقرأه: ( وَعُبِدَ الطَّاغُوتُ ) .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن قال: كان أبو جعفر النحويّ يقرأها: ( وَعُبِدَ الطَّاغُوتُ ) ، كما يقول: « ضُرِب عبدُ الله » .

قال أبو جعفر: وهذه قراءة لا معنى لها، لأن الله تعالى ذكره، إنما ابتدأ الخبر بذمّ أقوام، فكان فيما ذمَّهم به عبادُتهم الطاغوت. وأما الخبر عن أن الطاغوت قد عُبد، فليس من نوع الخبر الذي ابتدأ به الآية، ولا من جنس ما ختمها به، فيكون له وجه يوجَّه إليه في الصحة.

وذكر أن بُريدة الأسلمي كان يقرأه: ( وعابد الطاغوت ) .

حدثني بذلك المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا شيخ بصري: أن بريدة كان يقرأه كذلك.

ولو قرئ ذلك: ( وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ) ، بالكسر، كان له مخرج في العربية صحيح، وإن لم أستجز اليوم القراءة بها، إذ كانت قراءة الحجة من القرأة بخلافها. ووجه جوازها في العربية، أن يكون مرادًا بها « وعَبَدَة الطاغوت » ، ثم حذفت « الهاء » للإضافة، كما قال الراجز:

قَامَ وُلاهَا فَسَقَوْهُ صَرْخَدَا

يريد: قام وُلاتها، فحذف « التاء » من « ولاتها » للإضافة.

قال أبو جعفر: وأما قراءة القرأة، فبأحد الوجهين اللذين بدأت بذكرهما، وهو: ( وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ) ، بنصب « الطاغوت » وإعمال « عبد » فيه، وتوجيه « عبد » إلى أنه فعل ماض من « العبادة » .

والآخر: ( وعبد الطاغوت ) ، على مثال « فَعُلٍ » ، وخفض « الطاغوت » بإضافة « عَبُدٍ » إليه.

فإذ كانت قراءة القرأة بأحد هذين الوجهين دون غيرهما من الأوجه التي هي أصح مخرجًا في العربية منهما، فأولاهما بالصواب من القراءة، قراءة من قرأ ذلك ( وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ) ، بمعنى: وجعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت، لأنه ذكر أن ذلك في قراءة أبيّ بن كعب وابن مسعود: ( وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ) ، بمعنى: والذين عبدوا الطاغوت ففي ذلك دليل واضحٌ على صحة المعنى الذي ذكرنا من أنه مراد به: ومَن عبد الطاغوت، وأن النصب بـ « الطاغوت » أولى، على ما وصفت في القراءة، لإعمال « عبد » فيه، إذ كان الوجه الآخر غير مستفيض في العرب ولا معروف في كلامها.

على أن أهل العربية يستنكرون إعمال شيء في « مَنْ » و « الذي » المضمرين مع « مِنْ » و « في » إذا كفت « مِنْ » أو « في » منهما ويستقبحونه، حتى كان بعضهم يُحيل ذلك ولا يجيزه. وكان الذي يحيل ذلك يقرأه: ( وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ) ، فهو على قوله خطأ ولحن غير جائز.

وكان آخرون منهم يستجيزونه على قبح. فالواجب على قولهم أن تكون القراءة بذلك قبيحة. وهم مع استقباحهم ذلك في الكلام، قد اختاروا القراءة بها، وإعمال و « جعل » في « مَنْ » ، وهي محذوفة مع « مِن » .

ولو كنا نستجيز مخالفة الجماعة في شيء مما جاءت به مجمعة عليه، لاخترنا القراءة بغير هاتين القراءتين، غير أن ما جاء به المسلمون مستفيضًا فيهم لا يتناكرونه، فلا نستجيز الخروجَ منه إلى غيره. فلذلك لم نستجز القراءة بخلاف إحدى القراءتين اللتين ذكرنا أنهم لم يعدُوهما.

وإذ كانت القراءة عندنا ما ذكرنا، فتأويل الآية: قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله، من لعنه الله وغضب عليه، وجعل منهم القردة والخنازير، ومن عبد الطاغوت.

وقد بينا معنى « الطاغوت » فيما مضى بشواهده من الروايات وغيرها، فأغنى ذلك عن إعادته ههنا.

وأما قوله: « أولئك شر مكانًا وأضلُّ عن سواء السبيل » ، فإنه يعني بقوله: « أولئك » ، هؤلاء الذين ذكرهم تعالى ذكره، وهم الذين وصفَ صفتهم فقال: « من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت » ، وكل ذلك من صفة اليهود من بني إسرائيل.

يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين هذه صفتهم « شر مكانًا » ، في عاجل الدنيا والآخرة عند الله ممن نَقَمتم عليهم، يا معشر اليهود، إيمانَهم بالله، وبما أنـزل إليهم من عند الله من الكتاب، وبما أنـزل إلى من قبلهم من الأنبياء « وأضل عن سواء السبيل » ، يقول تعالى ذكره: وأنتم مع ذلك، أيها اليهود، أشد أخذًا على غير الطريق القويم، وأجورُ عن سبيل الرشد والقصد منهم.

قال أبو جعفر: وهذا من لَحْنِ الكلام. وذلك أن الله تعالى ذكره إنما قصد بهذا الخبر إخبارَ اليهود الذين وصف صفتهم في الآيات قبل هذه، بقبيح فعالهم وذميم أخلاقهم، واستيجابهم سخطه بكثرة ذنوبهم ومعاصيهم، حتى مسخ بعضهم قردة وبعضهم خنازير، خطابًا منه لهم بذلك، تعريضًا بالجميل من الخطاب، ولَحَن لهم بما عَرَفوا معناه من الكلام بأحسن اللحن، وعلَّم نبيه صلى الله عليه وسلم من الأدب أحسنه فقال له: قل لهم، يا محمد، أهؤلاء المؤمنون بالله وبكتبه الذين تستهزئون منهم، شرٌّ، أم من لعنه الله؟ وهو يعني المقولَ ذلك لهم.

 

القول في تأويل قوله : وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ ( 61 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا جاءكم، أيها المؤمنون، هؤلاء المنافقون من اليهود قالوا لكم: « آمنا » : أي صدّقنا بما جاء به نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم واتبعناه على دينه، وهم مقيمون على كفرهم وضلالتهم، قد دخلوا عليكم بكفرهم الذي يعتقدونه بقلوبهم ويُضمرونه في صدورهم، وهم يبدون كذبًا التصديق لكم بألسنتهم « وقد خرجوا به » ، يقول: وقد خرجوا بالكفر من عندكم كما دخلوا به عليكم، لم يرجعوا بمجيئهم إليكم عن كفرهم وضلالتهم، يظنون أن ذلك من فعلهم يخفى على الله، جهلا منهم بالله « والله أعلم بما كانوا يكتمون » ، يقول: والله أعلم بما كانوا- عند قولهم لكم بألسنتهم: « آمنا بالله وبمحمد وصدّقنا بما جاء به » - يكتمون منهم، بما يضمرونه من الكفر، بأنفسهم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « وإذا جاءوكم قالوا آمنا » الآية، أناسٌ من اليهود، كانوا يدخلون على النبيّ صلى الله عليه وسلم فيخبرونه أنهم مؤمنون راضون بالذي جاء به، وهم متمسكون بضلالتهم والكفر. وكانوا يدخلون بذلك ويخرجون به من عند نبي الله صلى الله عليه وسلم.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به » ، قال: هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يهود. يقول: دخلوا كفارًا، وخرجوا كفارًا.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به » ، وإنهم دخلوا وهم يتكلمون بالحق، وتُسرُّ قلوبهم الكفر، فقال: « دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به » .

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به » وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْـزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ، [ سورة آل عمران: 72 ] . فإذا رجعوا إلى كفارهم من أهل الكتاب وشياطينهم، رجعوا بكفرهم. وهؤلاء أهل الكتاب من يهود.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير: « وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به » ، أي: إنه من عندهم.

 

القول في تأويل قوله : وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 62 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « وترى » يا محمد « كثيرًا » ، من هؤلاء اليهود الذين قصصت عليك نبأهم من بني إسرائيل « يسارعون في الإثم والعدوان » ، يقول: يعجلون بمواقعة الإثم.

وقيل: إن « الإثم » في هذا الموضع، معنيّ به الكفر.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله: « وترى كثيًرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان » ، قال: « الإثم » ، الكفر.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « وترى كثيًرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان » ، وكان هذا في حُكّام اليهود بين أيديكم.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « يسارعون في الإثم والعدوان » ، قال: هؤلاء اليهود « لبئس ما كانوا يعملون » لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ ، إلى قوله: لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ، قال: « يَصْنَعُونَ » و « يعملون » واحد. قال: لهؤلاء حين لم ينهوا، كما قال لهؤلاء حين عملوا.

قال: وذلك الإدهان.

قال أبو جعفر: وهذا القول الذي ذكرناه عن السدي، وإن كان قولا غير مدفوع جوازُ صحته، فإن الذي هو أولى بتأويل الكلام: أن يكون القوم موصوفين بأنهم يسارعون في جميع معاصي الله، لا يتحاشون من شيء منها، لا من كفر ولا من غيره. لأن الله تعالى ذكره عمَّ في وصفهم بما وصفهم به من أنهم يسارعون في الإثم والعدوان، من غير أن يخصّ بذلك إثمًا دون إثم.

وأما « العدوان » ، فإنه مجاوزة الحدّ الذي حدَّه الله لهم في كل ما حدَّه لهم.

وتأويل ذلك: أن هؤلاء اليهود الذين وصفهم في هذه الآيات بما وصفهم به تعالى ذكره، يسارع كثير منهم في معاصي الله وخلاف أمره، ويتعدَّون حدودَه التي حدَّ لهم فيما أحلّ لهم وحرّم عليهم، في أكلهم « السحت » وذلك الرشوة التي يأخذونها من الناس على الحكم بخلاف حكم الله فيهم.

يقول الله تعالى ذكره: « لبئس ما كانوا يعملون » ، يقول: أقسم لَبئس العمل ما كان هؤلاء اليهود يعملون، في مسارعتهم في الإثم والعدوان، وأكلهم السحت.

 

القول في تأويل قوله : لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ( 63 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: هلا ينهى هؤلاء الذين يسارعون في الإثم والعدوان وأكل الرشى في الحكم، من اليهود من بني إسرائيل، ربانيوهم وهم أئمتهم المؤمنون، وساستهم العلماء بسياستهم وأحبارهم، وهم علماؤهم وقوادهم « عن قولهم الإثم » يعني: عن قول الكذب والزور، وذلك أنهم كانوا يحكمون فيهم بغير حكم الله، ويكتبون كتبًا بأيديهم ثم يقولون: « هذا من حكم الله، وهذا من كتبه » . يقول الله: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [ سورة البقرة: 79 ] .

وأما قوله: « وأكلهم السحت » ، فإنه يعني به الرشوة التي كانوا يأخذونها على حكمهم بغير كتاب الله لمن حكموا له به.

وقد بينا معنى « الربانيين » و « الأحبار » ومعنى « السحت » ، بشواهد ذلك فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

« لبئس ما كانوا يصنعون » ، وهذا قسم من الله أقسم به، يقول تعالى ذكره: أقسم: لبئس الصنيع كان يصنع هؤلاء الربانيون والأحبار، في تركهم نهيَ الذين يسارعون منهم في الإثم والعدوان وأكل السحت، عما كانوا يفعلون من ذلك.

وكان العلماء يقولون: ما في القرآن آية أشدَّ توبيخًا للعلماء من هذه الآية، ولا أخوفَ عليهم منها.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الله بن داود قال، حدثنا سلمة بن نبيط، عن الضحاك بن مزاحم في قوله: « لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم » قال: ما في القرآن آية، أخوف عندي منها: أَنَّا لا ننهى.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا قيس، عن العلاء بن المسيب، عن خالد بن دينار، عن ابن عباس قال: ما في القرآن آية أشدَّ توبيخًا من هذه الآية: ( لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون ) قال: كذا قرأ.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك: « لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت » [ قال: « الربانيون والأحبار » ، فقهاؤهم وقراؤهم وعلماؤهم. قال: ثم يقول الضحاك: وما أخوفني من هذه الآية! ] .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون » ، يعني: الربانيين، أنهم: لبئس ما كانوا يصنعون.

 

القول في تأويل قوله : وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن جرأة اليهود على ربهم، ووصفهم إياه بما ليس من صفته، توبيخًا لهم بذلك، وتعريفًا منه نبيَّه صلى الله عليه وسلم قديمَ جهلهم واغترارهم به، وإنكارهم جميع جميل أياديه عندهم، وكثرة صفحه عنهم وعفوه عن عظيم إجرامهم واحتجاجًا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأنه له نبيٌّ مبعوث ورسول مرسل: أنْ كانت هذه الأنباء التي أنبأهم بها كانت من خفيِّ علومهم ومكنونها التي لا يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم دون غيرهم من اليهود، فضلا عن الأمة الأمية من العرب الذين لم يقرأوا كتابًا، ولاوَعَوْا من علوم أهل الكتاب علمًا، فأطلع الله على ذلك نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم، ليقرر عندهم صدقه، ويقطع بذلك حجتهم.

يقول تعالى ذكره: « وقالت اليهود » ، من بني إسرائيل « يد الله مغلولة » ، يعنون: أن خير الله مُمْسَك وعطاؤه محبوس عن الاتساع عليهم، كما قال تعالى ذكره في تأديب نبيه صلى الله عليه وسلم: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [ سورة الإسراء: 29 ] .

وإنما وصف تعالى ذكره « اليد » بذلك، والمعنى العَطاء، لأن عطاء الناس وبذلَ معروفهم الغالبَ بأيديهم. فجرى استعمال الناس في وصف بعضهم بعضًا، إذا وصفوه بجود وكرم، أو ببخل وشحّ وضيق، بإضافة ما كان من ذلك من صفة الموصوف إلى يديه، كما قال الأعشى في مدح رجل:

يَــدَاكَ يَــدَا مَجْـدٍ, فَكَـفٌ مُفِيـدَةٌ وَكَـفٌّ إذَا مَـا ضُـنَّ بِـالزَّادِ تُنْفِـقُ

فأضاف ما كان صفة صاحب اليد من إنفاق وإفادة إلى « اليد » . ومثل ذلك من كلام العرب في أشعارها وأمثالها أكثر من أن يُحْصى. فخاطبهم الله بما يتعارفونه ويتحاورونه بينهم في كلامهم فقال: « وقالت اليهود يد الله مغلولة » ، يعني بذلك: أنهم قالوا: إن الله يبخل علينا، ويمنعنا فضله فلا يُفْضِل، كالمغلولة يده الذي لا يقدر أن يبسطَها بعطاء ولا بذلِ معروف، تعالى الله عما قالوا، أعداءَ الله!

فقال الله مكذِّبَهم ومخبرَهم بسخَطه عليهم: « غلت أيديهم » ، يقول: أمسكت أيديهم عن الخيرات، وقُبِضت عن الانبساط بالعطيات « ولعنوا بما قالوا » ، وأبعدوا من رحمة الله وفضله بالذي قالوا من الكفر، وافتروا على الله ووصفوه به من الكذب والإفك

« بل يداه مبسوطتان » ، يقول: بل يداه مبسوطتان بالبذل والإعطاء وأرزاق عباده وأقوات خلقه، غيُر مغلولتين ولا مقبوضتين « ينفق كيف يشاء » ، يقول: يعطي هذا، ويمنع هذا فيقتِّر عليه.

وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا » ، قال: ليس يعنون بذلك أن يد الله موثقةٌ، ولكنهم يقولون: إنه بخيل أمسك ما عنده، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيًرا.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « يد الله مغلولة » ، قالوا: لقد تَجَهَّدنا الله يا بني إسرائيل، حتى جعل الله يده إلى نحره! وكذبوا!

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « يد الله مغلولة » ، قال: اليهود تقوله: لقد تجهَّدنا الله يا بني إسرائيل ويا أهل الكتاب، حتى إن يده إلى نحره « بل يداه مبسوطتان، ينفق كيف يشاء » .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا » إلى وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ، أما قوله: « يد الله مغلولة » ، قالوا: الله بخيل غير جواد! قال الله: « بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء » .

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء » ، قالوا: إن الله وضع يده على صدره، فلا يبسطها حتى يردّ علينا ملكنا.

وأما قوله: « ينفق كيف يشاء » ، يقول: يرزق كيف يشاء.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عكرمة: « وقالت اليهود يد الله مغلولة » الآية، نـزلت في فنْحاص اليهوديّ.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان، عن الضحاك بن مزاحم قوله: « يد الله مغلولة » ، يقولون: إنه بخيل ليس بجواد! قال الله: « غلت أيديهم » ، أمسكت أيديهم عن النفقة والخير. ثم قال يعني نفسه: « بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء » . وقال: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ [ سورة الإسراء: 29 ] ، يقول: لا تمسك يدك عن النفقة.

قال أبو جعفر: واختلف أهل الجدل في تأويل قوله: « بل يداه مبسوطتان » . فقال بعضهم: عنى بذلك: نِعمتاه. وقال: ذلك بمعنى: « يد الله على خلقه » ، وذلك نعمه عليهم. وقال: إن العرب تقول: « لك عندي يد » ، يعنون بذلك: نعمةٌ.

وقال آخرون منهم: عنى بذلك القوة. وقالوا: ذلك نظير قول الله تعالى ذكره: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي [ سورة ص: 45 ] .

وقال آخرون منهم: بل « يده » ، ملكه. وقال: معنى قوله: « وقالت اليهود يد الله مغلولة » ، ملكه وخزائنه.

قالوا: وذلك كقول العرب للمملوك: « هو ملك يمينه » ، و « فلان بيده عُقدة نكاح فلانة » ، أي يملك ذلك، وكقول الله تعالى ذكره: فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ، [ سورة المجادلة: 12 ] .

وقال آخرون منهم: بل « يد الله » صفة من صفاته، هي يد، غير أنها ليست بجارحة كجوارح بني آدم.

قالوا: وذلك أنّ الله تعالى ذكره أخبرَ عن خصوصه آدم بما خصّه به من خلقه إياه بيده.

قالوا: ولو كان [ معنى « اليد » ، النعمة، أو القوة، أو الملك، ما كان لخصوصِه ] آدم بذلك وجه مفهوم، إذ كان جميع خلقه مخلوقين بقدرته، ومشيئتُه في خلقه تعمةٌ، وهو لجميعهم مالك.

قالوا: وإذ كان تعالى ذكره قد خص آدم بذكره خلقَه إياه بيده دون غيره من عباده، كان معلومًا أنه إنما خصه بذلك لمعنى به فارق غيره من سائر الخلق.

قالوا: وإذا كان ذلك كذلك، بطل قول من قال: معنى « اليد » من الله، القوة والنعمة أو الملك، في هذا الموضع.

قالوا: وأحرى أن ذلك لو كان كما قال الزاعمون أن: « يد الله » في قوله: « وقالت اليهود يد الله مغلولة » ، هي نعمته، لقيل: « بل يده مبسوطة » ، ولم يقل: « بل يداه » ، لأن نعمة الله لا تحصى كثرة. وبذلك جاء التنـزيل، يقول الله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [ سورة إبراهيم: 34\ وسورة النحل: 18 ]

قالوا: ولو كانت نعمتين، كانتا محصاتين.

قالوا: فإن ظن ظانٌّ أن النعمتين بمعنى النعم الكثيرة، فذلك منه خطأ، وذلك أنّ العرب قد تخرج الجميع بلفظ الواحد لأداء الواحد عن جميع جنسه، وذلك كقول الله تعالى ذكره: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ [ سورة العصر: 1، 2 ] وكقوله ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ ) ، [ سورة الحجر: 26 ] وقوله: وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا [ سورة الفرقان: 55 ] ، قال: فلم يُرَدْ بـ « الإنسان » و « الكافر » في هذه الأماكن إنسان بعينه، ولا كافر مشار إليه حاضر، بل عني به جميع الإنس وجميع الكفار، ولكن الواحد أدَّى عن جنسه، كما تقول العرب: « ما أكثر الدرهم في أيدي الناس » ، وكذلك قوله: وَكَانَ الْكَافِرُ معناه: وكان الذين كفروا.

قالوا: فأما إذا ثنَّى الاسم، فلا يؤدي عن الجنس، ولا يؤدّي إلا عن اثنين بأعيانهما دون الجميع ودون غيرهما.

قالوا: وخطأ في كلام العرب أن يقال: « ما أكثر الدرهمين في أيدي الناس » ، بمعنى: ما أكثر الدراهم في أيديهم.

قالوا: وذلك أن الدرهم إذا ثنِّي لا يؤدي في كلامها إلا عن اثنين بأعيانهما.

قالوا: وغيرُ محال: « ما أكثر الدرهم في أيدي الناس » ، و « ما أكثر الدراهم في أيديهم » ، لأن الواحد يؤدي عن الجميع.

قالوا: ففي قول الله تعالى: « بل يداه مبسوطتان » ، مع إعلامه عبادَه أن نعمه لا تحصى، مع ما وصفنا من أنه غير معقول في كلام العرب أن اثنين يؤدّيان عن الجميع ما ينبئ عن خطأ قول من قال: معنى « اليد » ، في هذا الموضع، النعمة وصحةِ قول من قال: إن « يد الله » ، هي له صفة.

قالوا: وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال به العلماء وأهل التأويل.

 

القول في تأويل قوله : وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن هذا الذي أطلعناك عليه من خفيِّ أمور هؤلاء اليهود، مما لا يعلمه إلا علماؤهم وأحبارهم، احتجاجًا عليهم لصحة نبوتك، وقطعًا لعذر قائلٍ منهم أن يقول: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ : « ليزيدن كثيرًا منهم ما أنـزل إليك من ربك طغيانًا وكفرًا » . يعني بـ « الطغيان » : الغلو في إنكار ما قد علموا صحته من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والتمادي في ذلك « وكفرًا » ، يقول: ويزيدهم مع غلوِّهم في إنكار ذلك، جحودَهم عظمة الله ووصفهم إياه بغير صفته، بأن ينسبوه إلى البخل، ويقولوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ . وإنما أعلم تعالى ذكره نبيَّه صلى الله عليه وسلم أنهم أهل عتوّ وتمرُّدٍ على ربهم، وأنهم لا يذعنون لحقّ وإن علموا صحته، ولكنهم يعاندونه، يسلِّي بذلك نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم عن الموجِدة بهم في ذهابهم عن الله، وتكذيبهم إياه.

وقد بينت معنى « الطغيان » فيما مضى بشواهده، بما أغنى عن إعادته.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « وليزيدن كثيرًا منهم ما أنـزل إليك من ربك طغيانًا وكفرًا » ، حملهم حسدُ محمد صلى الله عليه وسلم والعرب على أن كفروا به، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم.

 

القول في تأويل قوله : وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة » ، بين اليهود و النصارى، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة » ، اليهود والنصارى.

فإن قال قائل: وكيف قيل: « وألقينا بينهم العداوة والبغضاء » ، جعلت « الهاء والميم » في قوله: « بينهم » ، كناية عن اليهود والنصارى، ولم يجر لليهود والنصارى ذكر؟

قيل: قد جرى لهم ذكر، وذلك قوله: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ، [ سورة المائدة: 51 ] ، جرى الخبر في بعض الآي عن الفريقين، وفي بعضٍ عن أحدهما، إلى أن انتهى إلى قوله: « وألقينا بينهم العداوة والبغضاء » ، ثم قصد بقوله: « ألقينا بينهم » ، الخبرَ عن الفريقين.

 

القول في تأويل قوله : كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كلما جمع أمرهم على شيء فاستقام واستوى، فأرادوا مناهضة من ناوأهم، شتته الله عليهم وأفسده، لسوء فعالهم وخُبْثِ نياتهم، كالذي:-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ [ سورة الإسراء: 4- 6 ] ، قال: كان الفساد الأول، فبعث الله عليهم عدوًّا فاستباحوا الديار، واستنكحوا النساء، واستعبدوا الولدان، وخرَّبوا المسجد. فغَبَرُوا زمانًا، ثم بعث الله فيهم نبيًّا وعاد أمرهم إلى أحسن ما كان. ثم كان الفساد الثاني بقتلهم الأنبياء، حتى قتلوا يحيى بن زكريا، فبعث الله عليهم بُخْت نصَّر، فقتل من قتل منهم، وسبى من سبى، وخرب المسجد. فكان بخت نصر الفسادَ الثاني قال: و « الفساد » ، المعصية ثم قال، فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ إلى قوله: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [ سورة الإسراء: 7، 8 ] فبعث الله لهم عُزَيْرًا، وقد كان علم التوراة وحفظها في صدره وكتبها لهم. فقام بها ذلك القرن، ولبثوا فنسوا. ومات عزير، وكانت أحداثٌ، ونسوا العهد وبَخَّلوا ربهم، وقالوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ، وقالوا في عزير: « إن الله اتخذه ولدًا » ، وكانوا يعيبون ذلك على النصارى في قولهم في المسيح، فخالفوا ما نَهَوْا عنه، وعملوا بما كانوا يكفِّرون عليه، فسبق من الله كلمة عند ذلك أنهم لن يظهروا على عدوٍّ آخرَ الدهر، فقال: « كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادًا والله لا يحب المفسدين » ، فبعث الله عليهم المجوس الثالثةَ أربابًا، فلم يزالوا كذلك والمجوس على رقابهم، وهم يقولون: « يا ليتنا أدركنا هذا النبي الذي نجده مكتوبًا عندنا، عسى الله أن يفكَّنا به من المجوس والعذاب الهون » ! فبعث محمدًا صلى الله عليه وسلم واسمه « محمد » ، واسمه في الإنجيل « أحمد » فلما جاءهم وعرفوا، كفروا به، قال: فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [ سورة البقرة: 89 ] ، وقال: فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ ، بسورة البقرة: 90 ] .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله » ، هم اليهود.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادًا » ، أولئك أعداء الله اليهود، كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله، فلن تلقَى اليهود ببلد إلا وجدتهم من أذلّ أهله. لقد جاء الإسلام حين جاء، وهم تحت أيدي المجوس أبغضِ خلقه إليه.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله » ، قال: كلما أجمعوا أمرهم على شيء فرَّقه الله، وأطفأ حَدَّهم ونارهم، وقذف في قلوبهم الرعب.

وقال مجاهد بما:-

حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: « كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله » ، قال: حربُ محمد صلى الله عليه وسلم.

 

القول في تأويل قوله : وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ( 64 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويعمل هؤلاء اليهود والنصارى بمعصية الله، فيكفرون بآياته ويكذبون رسله، ويخالفون أمره ونهيه، وذلك سعيُهم فيها بالفساد

« والله لا يحب المفسدين » ، يقول: والله لا يحب من كان عامِلا بمعاصيه في أرضه.