القول في تأويل قوله : وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو جعلنا رسولنا إلى هؤلاء العادلِين بي, القائلين: لولا أنـزل على محمّدٍ ملك بتصديقه- ملكًا ينـزل عليهم من السماء, يشهد بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم، ويأمرهم باتباعه « لجعلناه رجلا » ، يقول: لجعلناه في صورة رجل من البشر, لأنهم لا يقدرون أن يروا الملك في صورته . يقول: وإذا كان ذلك كذلك, فسواء أنـزلت عليهم بذلك ملكًا أو بشرًا, إذ كنت إذا أنـزلت عليهم ملكًا إنما أنـزله بصورة إنسيّ, وحججي في كلتا الحالتين عليهم ثابتة: بأنك صادق، وأنّ ما جئتهم به حق.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: « ولو جعلناه ملكًا لجعلناه رجلا » ، يقول: ما آتاهم إلا في صورة رجل, لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « ولو جعلناه ملكًا لجعلناه رجلا » ، في صورة رجل، في خَلْق رجل.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ولو جعلناه ملكًا لجعلناه رجلا » ، يقول: لو بعثنا إليهم ملكًا لجعلناه في صورة آدم.

حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « ولو جعلناه ملكًا لجعلناه رجلا » ، يقول: في صورة آدمي.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة, مثله .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ولو جعلناه ملكًا لجعلناه رجلا » قال: لجعلنا ذلك الملك في صورة رجل, لم نرسله في صورة الملائكة .

 

القول في تأويل قوله : وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ( 9 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وللبسنا عليهم » : ولو أنـزلنا ملكًا من السماء مصدِّقًا لك، يا محمد, شاهدًا لك عند هؤلاء العادلين بي، الجاحدين آياتِك على حقيقة نبوّتك, فجعلناه في صورة رجل من بني آدم، إذ كانوا لا يُطيقون رؤية الملك بصورته التي خلقتُه بها التبس عليهم أمرُه، فلم يدروا أملك هو أمْ إنسيّ! فلم يوقنوا به أنَّه ملك، ولم يصدّقوا به, وقالوا: « ليس هذا ملكًا » ! وللبسنا عليهم ما يلبسونه على أنفسهم من حقيقة أمرك، وصحة برهانك وشاهدك على نبوّتك.

يقال منه: « لَبَست عليهم الأمر أَلْبِسُه لَبْسًا » ، إذا خلطته عليهم « ولبست الثوبَ ألبَسُه لُبْسًا » . و « اللَّبوس » ، اسم الثياب.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « وللبسنا عليهم ما يلبسون » ، يقول: لشبَّهنا عليهم.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « وللبسنا عليهم ما يلبسون » ، يقول: ما لبَّس قوم على أنفسهم إلا لَبَّس الله عليهم. واللَّبْس إنما هو من الناس.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وللبسنا عليهم ما يلبسون » ، يقول: شبَّهنا عليهم ما يشبِّهون على أنفسهم .

وقد روي عن ابن عباس في ذلك قول آخر, وهو ما:-

حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « وللبسنا عليهم ما يلبسون » ، فهم أهل الكتاب، فارقوا دينهم، وكذَّبوا رسلهم, وهو تحريفُ الكلام عن مواضعه .

حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك في قوله: « وللبسنا عليهم ما يلبسون » ، يعني: التحريفَ، هم أهل الكتاب, فرقوا كتبهم ودينَهم، وكذَّبوا رسلهم, فلبَّس الله عليهم ما لبَّسوا على أنفسهم .

وقد بينا فيما مضى قبل أن هذه الآيات من أوّل السورة، بأن تكون في أمر المشركين من عبدة الأوثان، أشبهُ منها بأمرِ أهل الكتاب من اليهود والنصارى, بما أغنى عن إعادته.

 

القول في تأويل قوله : وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 10 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم، مسليًّا عنه بوعيده المستهزئين به عقوبةَ ما يلقى منهم من أذىَ الاستهزاء به، والاستخفاف في ذات الله: هَوِّنْ عليك، يا محمد، ما أنت لاقٍ من هؤلاء المستهزئين بك، المستخفِّين بحقك فيّ وفي طاعتي, وامضِ لما أمرتك به من الدُّعاء إلى توحيدي والإقرار بي والإذعان لطاعتي، فإنهم إن تمادوا في غيِّهم، وأصَرُّوا على المقام على كفرهم, نسلك بهم سبيلَ أسلافهم من سائر الأمم من غيرهم، من تعجيل النقمة لهم، وحلول المَثُلاثِ بهم. فقد استهزأت أمم من قبلك برسلٍ أرسلتهم إليهم بمثل الذي أرسلتك به إلى قومك, وفعلوا مثل ما فعل قومُك بك « فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون » ، يعني بقوله: « فحاق » ، فنـزل وأحاط بالذين هزئوا من رسلهم « ما كانوا به يستهزئون » ، يقول: العذابُ الذي كانوا يهزءون به، وينكرون أن يكون واقعًا بهم على ما أنذرتهم رسلهم .

يقال منه: « حاق بهم هذا الأمر يَحِيقُ بهم حَيْقًا وحُيُوقًا وحَيَقَانًا » .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فحاق بالذين سخروا منهم » ، من الرسل « ما كانوا به يستهزئون » ، يقول: وقع بهم العذاب الذي استهزءوا به .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ( 11 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: « قل » ، يا محمد لهؤلاء العادلين بيَ الأوثانَ والأندادَ، المكذِّبين بك، الجاحدين حقيقة ما جئتهم به من عندي « سيروا في الأرض » ، يقول: جولوا في بلاد المكذِّبين رسلَهم، الجاحدين آياتي مِنْ قبلهم من ضُرَبائهم وأشكالهم من الناس « ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين » ، يقول: ثم انظروا كيف أعقَبَهم تكذيبهم ذلك، الهلاكَ والعطبَ وخزيَ الدنيا وعارَها, وما حَلَّ بهم من سَخَط الله عليهم، من البوار وخراب الديار وعفوِّ الآثار. فاعتبروا به, إن لم تنهكم حُلُومكم, ولم تزجركم حُجج الله عليكم, عمَّا أنتم [ عليه ] مقيمون من التكذيب, فاحذروا مثل مصارعهم، واتقوا أن يحلّ بكم مثلُ الذي حلّ بهم.

وكان قتادة يقول في ذلك بما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين » ، دمَّر الله عليهم وأهلكهم، ثم صيَّرهم إلى النار.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمّد صلى الله عليه وسلم: « قل » ، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم « لمن ما في السماوات والأرض » ، يقول: لمن ملك ما في السماوات والأرض؟ ثم أخبرهم أن ذلك لله الذي استعبدَ كل شيء، وقهر كل شيء بملكه وسلطانه لا للأوثان والأنداد، ولا لما يعبدونه ويتخذونه إلهًا من الأصنام التي لا تملك لأنفسها نفعًا ولا تدفع عنها ضُرًّا.

وقوله: « كتب على نفسه الرحمة » ، يقول: قضى أنَّه بعباده رحيم, لا يعجل عليهم بالعقوبة، ويقبل منهم الإنابة والتوبة.

وهذا من الله تعالى ذكره استعطاف للمعرضين عنه إلى الإقبال إليه بالتوبة.

يقول تعالى ذكره: أن هؤلاء العادلين بي، الجاحدين نبوّتك، يا محمد, إن تابوا وأنابوا قبلت توبتهم, وإني قد قضيت في خَلْقي أنّ رحمتي وسعت كل شيء، كالذي:-

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن ذكوان, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لما فرغ الله من الخلق، كتب كتابًا: » إنّ رحمتي سَبَقَتْ غضبي « . »

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود, عن أبي عثمان, عن سلمان قال: إنّ الله تعالى ذكره لما خلق السماء والأرض, خلق مئة رحمةٍ, كل رحمة ملء ما بين السماء إلى الأرض. فعنده تسع وتسعون رحمةً, وقسم رحمة بين الخلائق. فبها يتعاطفون، وبها تشرب الوَحْش والطير الماءَ. فإذا كان يوم ذلك، قصرها الله على المتقين، وزادهم تسعًا وتسعين.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي, عن داود, عن أبي عثمان, عن سلمان، نحوه إلا أن ابن أبي عدي لم يذكر في حديثه: « وبها تشرب الوحش والطير الماء » .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن عاصم بن سليمان, عن أبي عثمان, عن سلمان قال: نجد في التوراة عطفتين: أن الله خلق السماوات والأرض, ثم خلق مئة رحمة أو: جعل مئة رحمة قبل أن يخلق الخلق. ثم خلق الخلق، فوضع بينهم رحمة واحدة, وأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمة. قال: فبها يتراحمون, وبها يتباذلون, وبها يتعاطفون, وبها يتزاورون, وبها تحنُّ الناقة, وبها تثُوجُ البقرة, وبها تيعر الشاة, وبها تتَّابع الطير, وبها تتَّابع الحيتان في البحر. فإذا كان يوم القيامة، جمع الله تلك الرحمة إلى ما عنده. ورحمته أفضل وأوسع.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن عاصم بن سليمان, عن أبي عثمان النهدي, عن سلمان في قوله: « كتب على نفسه الرحمة » ، الآية قال: إنا نجد في التوراة عَطْفتين ثم ذكر نحوه إلا أنه قال: « وبها تَتَابع الطير, وبها تَتَابع الحيتان في البحر » .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر قال، قال ابن طاوس, عن أبيه: إن الله تعالى ذكره لما خلق الخلق, لم يعطف شيء على شيء, حتى خلق مئة رحمة, فوضع بينهم رحمة واحدة, فعطف بعضُ الخلق على بعض.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه، بمثله .

حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر قال، وأخبرني الحكم بن أبان, عن عكرمة ، حسبته أسنده قال: إذا فرغ الله عز وجلّ من القضاء بين خلقه, أخرج كتابًا من تحت العرش فيه: « إن رحمتي سبقت غضبي, وأنا أرحم الراحمين » ، قال: فيخرج من النار مثل أهل الجنة أو قال: « مِثلا أهل الجنة » , ولا أعلمه إلا قال: « مثلا » , وأما « مثل » فلا أشك مكتوبًا ها هنا, وأشار الحكم إلى نحره, « عتقاء الله » ، فقال رجل لعكرمة: يا أبا عبد الله, فإن الله يقول: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [ سورة المائدة: 37 ] ؟ قال: ويلك ! أولئك أهلها الذين هم أهلها.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن الحكم بن أبان, عن عكرمة ، حسبت أنه أسنده قال: إذا كان يوم القيامة، أخرج الله كتابًا من تحت العرش ثم ذكر نحوه, غير أنه قال: فقال رجل: يا أبا عبد الله, أرأيت قوله: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وسائر الحديث مثل حديث ابن عبد الأعلى .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن همام بن منبه قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لما قضى الله الخلق، كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: » إنّ رحمتي سبقت غضبي « . »

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة, عن أبي أيوب, عن عبد الله بن عمرو: أنه كان يقول: إن لله مئة رحمة, فأهبط رحمةً إلى أهل الدنيا، يتراحم بها الجن والإنس، وطائر السماء، وحيتان الماء، ودوابّ الأرض وهوامّها. وما بين الهواء. واختزن عنده تسعًا وتسعين رحمة, حتى إذا كان يوم القيامة، اختلج الرحمةَ التي كان أهبطها إلى أهل الدنيا, فحواها إلى ما عنده, فجعلها في قلوب أهل الجنة، وعلى أهل الجنة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة قال: قال عبد الله بن عمرو: إن لله مئة رحمة, أهبط منها إلى الأرض رحمة واحدة، يتراحم بها الجنّ والإنس، والطير والبهائم وهوامُّ الأرض.

حدثنا محمد بن عوف قال، أخبرنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج قال، حدثنا صفوان بن عمرو قال، حدثني أبو المخارق زهير بن سالم قال، قال عمر لكعب: ما أوَّل شيء ابتدأه الله من خلقه؟ فقال كعب: كتب الله كتابًا لم يكتبه بقلم ولا مداد, ولكنه كتب بأصبعه يتلوها الزبرجد واللؤلؤ والياقوت « أنا الله لا إله إلا أنا، سبقت رحمتي غضبي » .

 

القول في تأويل قوله : لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ

قال أبو جعفر: وهذه « اللام » التي في قوله: « ليجمعنكم » ، لام قسم .

ثم اختلف أهل العربية في جالبها, فكان بعض نحويي الكوفة يقول: إن شئت جعلت « الرحمة » غاية كلام، ثم استأنفت بعدها: « ليجمعنكم » . قال: وإن شئت جعلتَه في موضع نصب يعني: كتب ليجمعنكم كما قال: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ [ سورة الأنعام: 54 ] ، يريد: كتب أنه من عمل منكم قال: والعرب تقول في الحروف التي يصلح معها جوابُ كلام الأيمان ب « أن » المفتوحة وب « اللام » , فيقولون: « أرسلت إليه أن يقوم » , « وأرسلت إليه ليقومن » . قال: وكذلك قوله: ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ، [ سورة يوسف: 35 ] . قال: وهو في القرآن كثير. ألا ترى أنك لو قلت: « بدا لهم أن يسجنوه » , لكان صوابًا؟ وكان بعض نحويي البصرة يقول: نصبت « لام » « ليجمعنكم » ، لأن معنى: « كتب » [ : فرضَ، وأوجب، وهو بمعنى القسم ] ، كأنه قال: والله ليجمعنكم.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، أن يكون قوله: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ، غايةً, وأن يكون قوله: « ليجمعنكم » ، خبرًا مبتدأ ويكون معنى الكلام حينئذ: ليجمعنكم الله، أيها العادلون بالله، ليوم القيامة الذي لا ريب فيه، لينتقم منكم بكفركم به.

وإنما قلت: هذا القول أولى بالصواب من إعمال « كتب » في « ليجمعنكم » ، لأن قوله: « كتب » قد عمل في الرحمة, فغير جائز، وقد عمل في « الرحمة » ، أن يعمل في « ليجمعنكم » ، لأنه لا يتعدَّى إلى اثنين.

فإن قال قائل: فما أنت قائل في قراءة من قرأ: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ ، [ سورة الأنعام: 54 ] بفتح « أنّ » ؟

قيل: إن ذلك إذ قرئ كذلك, فإن « أنّ » بيانٌ عن « الرحمة » ، وترجمة عنها. لأن معنى الكلام: كتب على نفسه الرحمة أن يرحم [ من تاب ] من عباده بعد اقتراف السوء بجهالة ويعفو، و « الرحمة » ، يترجم عنها ويبيَّن معناها بصفتها. وليس من صفة الرحمة « ليجمعنكم إلى يوم القيامة » ، فيكون مبينًا به عنها. فإذ كان ذلك كذلك, فلم يبق إلا أن تنصب بنية تكرير « كتب » مرة أخرى معه, ولا ضرورة بالكلام إلى ذلك، فيوجَّه إلى ما ليس بموجود في ظاهره.

وأما تأويل قوله: « لا ريب فيه » ، فإنه لا شك فيه, يقول: في أنّ الله يجمعكم إلى يوم القيامة، فيحشركم إليه جميعًا, ثم يؤتى كلَّ عامل منكم أجرَ ما عمل من حسن أو سيئ .

 

القول في تأويل قوله : الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 12 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « الذين خسروا أنفسهم » ، العادلين به الأوثانَ والأصنامَ. يقول تعالى ذكره: ليجمعن الله « الذين خسروا أنفسهم » , يقول: الذين أهلكوا أنفسهم وغبنوها بادعائهم لله الندَّ والعَدِيل, فأوبقوها باستيجابهم سَخَط الله وأليم عقابه في المعاد.

وأصل « الخسار » ، الغُبْنُ. يقال منه « : خسر الرجل في البيع » ، إذا غبن, كما قال الأعشى:

لا يَــأخُذُ الرِّشْــوَةَ فِــي حُكْمِـهِ وَلا يُبَـــالِي خَسَـــرَ الخَاسِــر

وقد بينا ذلك في غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته.

وموضوع « الذين » في قوله: « الذين خسروا أنفسهم » ، نصبٌ على الرد على « الكاف والميم » في قوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ ، على وجه البيان عنها. وذلك أنّ الذين خسروا أنفسهم, هم الذين خوطبوا بقوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ .

وقوله: « فهم لا يؤمنون » ، يقول: « فهم » ، لإهلاكهم أنفسهم وغَبْنهم إياه حظَّها « لا يؤمنون » , أي لا يوحِّدون الله، ولا يصدِّقون بوعده ووعيده، ولا يقرُّون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

 

القول في تأويل قوله : وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 13 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لا يؤمن هؤلاء العادلون بالله الأوثانَ, فيخلصوا له التوحيد، ويُفْرِدوا له الطاعة، ويقرّوا بالألوهية، جهلا « وله ما سكن في الليل والنهار » ، يقول: وله ملك كل شيء, لأنه لا شيء من خلق الله إلا وهو ساكنٌ في الليل والنهار. فمعلوم بذلك أن معناه ما وصفنا « وهو السميع » ، يقول: وهو السميع ما يقول هؤلاء المشركون فيه، من ادّعائهم له شريكًا, وما يقول غيرهم من خلقه « العليم » ، بما يضمرونه في أنفسهم، وما يظهرونه بجوارحهم, لا يخفى عليه شيء من ذلك, فهو يحصيه عليهم, ليوفّي كل إنسان ثوابَ ما اكتسبَ، وجزاء ما عمل .

وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: « سكن » ، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وله ما سكن في الليل والنهار » ، يقول: ما استقرَّ في الليل والنهار.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « قل » ، يا محمد، لهؤلاء المشركين العادلين بربهم الأوثانَ والأصنامَ, والمنكرين عليك إخلاص التوحيد لربك, الداعين إلى عبادة الآلهة والأوثان: أشيئًا غيرَ الله تعالى ذكره: « أتخذ وليًّا » ، أستنصره وأستعينه على النوائب والحوادث، كما:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « قل أغير الله أتخذ وليًّا » ، قال: أما « الولي » ، فالذي يتولَّونه ويقرّون له بالربوبية .

« فاطر السماوات والأرض » ، يقول: أشيئًا غير الله فاطر السماوات والأرض أتخذ وليًّا؟ ف « فاطر السماوات » ، من نعت « الله » وصفته، ولذلك خُفِض.

ويعني بقوله: « فاطر السماوات والأرض » ، مبتدعهما ومبتدئهما وخالقهما، كالذي:-

حدثنا به ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن سعيد القطان, عن سفيان, عن إبراهيم بن مهاجر, عن مجاهد قال: سمعت ابن عباس يقول: كنت لا أدري ما « فاطر السماوات والأرض » , حتى أتاني أعرابيّان يختصمان في بئر, فقال أحدهما لصاحبه: « أنا فَطَرتها » , يقول: أنا ابتدأتها.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فاطر السماوات والأرض » ، قال: خالق السماوات والأرض.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « فاطر السماوات والأرض » ، قال: خالق السماوات والأرض.

يقال من ذلك: « فطرها الله يَفطُرُها وَيفطِرها فَطرًا وفطورًا » ومنه قوله: هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ [ سورة الملك: 3 ] ، يعني: شقوقًا وصدوعًا. يقال: « سيف فُطارٌ » ، إذا كثر فيه التشقق, وهو عيب فيه، ومنه قول عنترة:

وَسَــيْفِي كَالْعَقِيقَــةِ فَهْـوَ كِـمْعِي, سِـــلاحِي, لا أَفَــلَّ وَلا فُطَــارَا

ومنه يقال: « فَطَر ناب الجمل » ، إذا تشقق اللحم فخرج، ومنه قوله: تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ [ سورة الشورى: 5 ] ، أي: يتشققن، ويتصدعن.

وأما قوله: « وهو يطعم ولا يطعم » ، فإنه يعني : وهو يرزق خلقه ولا يرزق، كما:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وهو يطعم ولا يطعم » ، قال: يَرْزق, ولا يُرزق.

وقد ذكر عن بعضهم أنه كان يقرأ ذلك: ( وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يَطْعَمُ ) ، أي: أنه يُطعم خلقه, ولا يأكل هو ولا معنى لذلك، لقلة القراءة به.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 14 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « قل » ، يا محمد، للذين يدعونك إلى اتخاذ الآلهة أولياء من دون الله، ويحثّونك على عبادتها: أغير الله فاطر السماوات والأرض, وهو يرزقني وغيري ولا يرزقه أحد, أتخذ وليًّا هو له عبد مملوك وخلق مخلوق؟ وقل لهم أيضًا: إني أمرني ربي: « أن أكون أول من أسلم » يقول: أوّل من خضع له بالعبودية، وتذلّل لأمره ونهيه، وانقاد له من أهل دهرِي وزماني « ولا تكوننَّ من المشركين » ، يقول: وقل: وقيل لي: لا تكونن من المشركين بالله، الذين يجعلون الآلهة والأنداد شركاء.

وجعل قوله: « أمرت » بدلا من: « قيل لي » , لأن قوله « أمرت » معناه: « قيل لي » . فكأنه قيل: قل إني قيل لي: كن أول من أسلم, ولا تكونن من المشركين فاجتزئ بذكر « الأمر » من ذكر « القول » , إذ كان « الأمر » ، معلومًا أنه « قول » .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( 15 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المشركين العادلين بالله، الذين يدعونك إلى عبادة أوثانهم: إنّ ربي نهاني عن عبادة شيء سواه « وإني أخاف إن عصيت ربي » , فعبدتها « عذاب يوم عظيم » , يعني: عذاب يوم القيامة. ووصفه تعالى ب « العظم » لعظم هَوْله، وفظاعة شأنه .

 

القول في تأويل قوله : مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ( 16 )

قال أبو جعفر: اختلف القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته عامة قرأة الحجاز والمدينة والبصرة: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ ، بضم « الياء » وفتح « الراء » , بمعنى: من يُصرف عنه العذاب يومئذ .

وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفة: ( مَنْ يَصْرِفْ عَنْهُ ) ، بفتح « الياء » وكسر « الراء » , بمعنى: من يصرف الله عنه العذاب يومئذ.

وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندي, قراءة من قرأه: ( يَصْرِفْ عَنْهُ ) ، بفتح « الياء » وكسر « الراء » , لدلالة قوله: « فقد رحمه » على صحة ذلك, وأنّ القراءة فيه بتسمية فاعله. ولو كانت القراءة في قوله: « من يصرف » ، على وجه ما لم يسمَّ فاعله, كان الوجه في قوله: « فقد رحمه » أن يقال : « فقد رُحِم » غير مسمى فاعله. وفي تسمية الفاعل في قوله: « فقد رحمه » ، دليل بيِّن على أن ذلك كذلك في قوله: « من يَصرف عنه » .

وإذا كان ذلك هو الوجه الأولَى بالقراءة, فتأويل الكلام: منْ يصرف عنه من خلقه يومئذ عذابه فقد رحمه « وذلك هو الفوز المبين » ، ويعني بقوله: « وذلك » ، وصرفُ الله عنه العذاب يوم القيامة, ورحمته إياه « الفوز » ، أي: النجاة من الهلكة، والظفر بالطلبة « المبين » ، يعني الذي بيَّن لمن رآه أنه الظفر بالحاجة وإدراك الطَّلِبة.

وبنحو الذي قلنا في قوله: « من يصرف عنه يومئذ » قال أهل التأويل:

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله « من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه » ، قال: من يصرف عنه العذاب .

 

القول في تأويل قوله : وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 17 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد, إن يصبك الله « بضر » , يقول: بشدة في دنياك، وشظَف في عيشك وضيق فيه, فلن يكشف ذلك عنك إلا الله الذي أمرك أن تكون أوّل من أسلم لأمره ونهيه, وأذعن له من أهل زمانك, دون ما يدعوك العادلون به إلى عبادته من الأوثان والأصنام، ودون كل شيء سواها من خلقه « وإن يمسسك بخير » ، يقول: وإن يصبك بخير، أي: برخاء في عيش، وسعة في الرزق، وكثرة في المال، فتقرّ أنه أصابك بذلك « فهو على كل شيء قدير » ، يقول تعالى ذكره: والله الذي أصابك بذلك، فهو على كل شيء قدير هو القادر على نفعك وضرِّك, وهو على كل شيء يريده قادر, لا يعجزه شيء يريده، ولا يمتنع منه شيء طلبه, ليس كالآلهة الذليلة المَهينة التي لا تقدر على اجتلاب نفع على أنفسها ولا غيرها، ولا دفع ضر عنها ولا غيرها. يقول تعالى ذكره: فكيف تعبد من كان هكذا، أم كيف لا تخلص العبادة, وتقرُّ لمن كان بيده الضر والنفع، والثواب والعقاب، وله القدرة الكاملة، والعزة الظاهرة؟

 

القول في تأويل قوله : وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ( 18 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وهو » ، نفسَه، يقول: والله الظاهر فوق عباده ويعني بقوله: « القاهر » ، المذلِّل المستعبد خلقه، العالي عليهم. وإنما قال: « فوق عباده » , لأنه وصف نفسه تعالى ذكره بقهره إياهم. ومن صفة كلّ قاهر شيئًا أن يكون مستعليًا عليه .

فمعنى الكلام إذًا: والله الغالب عبادَه, المذلِّلهم, العالي عليهم بتذليله لهم، وخلقه إياهم, فهو فوقهم بقهره إياهم, وهم دونه « وهو الحكيم » ، يقول: والله الحكيم في علِّوه على عباده، وقهره إياهم بقدرته، وفي سائر تدبيره « الخبير » ، بمصالح الأشياء ومضارِّها, الذي لا يخفي عليه عواقب الأمور وبواديها, ولا يقع في تدبيره خلل , ولا يدخل حكمه دَخَل.