القول في تأويل قوله : وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ( 53 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وكذلك فتنا بعضهم ببعض » ، وكذلك اختبرنا وابتلينا، كالذي:-

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر وحدثنا الحسين بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر عن قتادة: « وكذلك فتنا بعضهم ببعض » ، يقول: ابتلينا بعضهم ببعض.

وقد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على معنى « الفتنة » , وأنها الاختبار والابتلاء, بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

وإنما فتنة الله تعالى ذكره بعضَ خلقه ببعضٍ, مخالفتُه بينهم فيما قسم لهم من الأرزاق والأخلاق, فجعل بعضًا غنيًّا وبعضًا فقيرًا، وبعضًا قويًّا، وبعضًا ضعيفًا, فأحوج بعضهم إلى بعض, اختبارًا منه لهم بذلك.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « وكذلك فتنا بعضهم ببعض » ، يعني أنه جعل بعضهم أغنياء وبعضهم فقراء, فقال الأغنياء للفقراء: « أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا » ، يعني: هداهم الله. وإنما قالوا ذلك استهزاءً وسُخريًّا.

وأما قوله: « ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا » ، يقول تعالى: اختبرنا الناس بالغنى والفقر، والعزّ والذل، والقوة والضعف، والهدى والضلال, كي يقول من أضلّه الله وأعماه عن سبيل الحق، للذين هداهم الله ووفقهم: « أهؤلاء منّ الله عليهم » ، بالهدى والرشد، وهم فقراء ضعفاء أذلاء « من بيننا » ، ونحن أغنياء أقوياء؟ استهزاءً بهم, ومعاداةً للإسلام وأهله.

يقول تعالى ذكره: « أليس الله بأعلم بالشاكرين » ، وهذا منه تعالى ذكره إجابة لهؤلاء المشركين الذين أنكروا أن يكون الله هدى أهل المسكنة والضعف للحق, وخذلهم عنه وهم أغنياء وتقريرٌ لهم: أنا أعلم بمن كان من خلقي شاكرًا نعمتي، ممن هو لها كافر. فمنِّي على من مَنَنْتُ عليه منهم بالهداية، جزاء شكره إياي على نعمتي, وتخذيلي من خذلت منهم عن سبيل الرشاد، عقوبة كفرانه إياي نعمتي، لا لغنى الغني منهم ولا لفقر الفقير، لأن الثواب والعقاب لا يستحقه أحدٌ إلا جزاءً على عمله الذي اكتسبه، لا على غناه وفقره, لأن الغنى والفقر والعجز والقوة ليس من أفعال خلقي.

 

القول في تأويل قوله : وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 54 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله تعالى ذكره بهذه الآية.

فقال بعضهم: عنى بها الذين نهى الله نبيَّه عن طردهم. وقد مضت الرواية بذلك عن قائليه.

وقال آخرون: عنَى بها قومًا استفتوا النبي صلى الله عليه وسلم في ذنوب أصابوها عظامٍ, فلم يؤيسهم الله من التوبة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا سفيان, عن مجمع قال، سمعت ماهان قال: جاء قوم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أصابوا ذنوبًا عظامًا. قال ماهان: فما إخاله ردّ عليهم شيئًا. قال: فأنـزل الله تعالى ذكره هذه الآية: « وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم » الآية.

حدثنا هناد قال، حدثنا قبيصة, عن سفيان, عن مجمع, عن ماهان: أنّ قومًا جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، إنا أصبنا ذنوبًا عظامًا! فما إخاله ردّ عليهم شيئًا, فانصرفوا فأنـزل الله تعالى ذكره: « وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة » . قال: فدعاهم فقرأها عليهم.

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان, عن مجمّع التميمي قال، سمعت ماهان يقول: فذكر نحوه.

وقال آخرون: بل عُني بها قومٌ من المؤمنين كانوا أشاروا على النبي صلى الله عليه وسلم بطرد القوم الذين نهاه الله عن طردهم , فكان ذلك منهم خطيئة, فغفرها الله لهم وعفا عنهم, وأمر نبيَّه صلى الله عليه وسلم إذا أتوه أن يبشرهم بأن قد غفر لهم خطيئتهم التي سلفت منهم بمشورتهم على النبي صلى الله عليه وسلم بطرد القوم الذين أشاروا عليه بطردهم. وذلك قول عكرمة وعبد الرحمن بن زيد, وقد ذكرنا الرواية عنهما بذلك قبل.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بتأويل الآية, قولُ من قال: المعنيُّون بقوله: « وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم » ، غيرُ الذين نهى الله النبي صلى الله عليه وسلم عن طردهم. لأن قوله: « وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا » ، خبر مستأنَفٌ بعد تقضِّي الخبر عن الذين نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن طردهم. ولو كانوا هم، لقيل: « وإذا جاؤوك فقل سلام عليكم » . وفي ابتداء الله الخبرَ عن قصة هؤلاء، وتركه وصلَ الكلام بالخبر عن الأولين، ما ينبئ عن أنهم غيرُهم.

فتأويل الكلام إذًا إذ كان الأمر على ما وصفنا وإذا جاءك، يا محمد، القومُ الذين يصدِّقون بتنـزيلنا وأدلتنا وحججنا، فيقرّون بذلك قولا وعملا مسترشديك عن ذنوبهم التي سلفت منهم بيني وبينهم, هل لهم منها توبة، فلا تؤيسهم منها, وقل لهم: « سلام عليكم » ، أَمَنَةُ الله لكم من ذنوبكم، أن يعاقبكم عليها بعد توبتكم منها « كتب ربكم على نفسه الرحمة » ، يقول: قضى ربكم الرحمة بخلقه « أنه من عمل منكم سوءًا بجهالة ثم تابَ من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم » .

واختلفت القرأة في قراءة ذلك:

فقرأته عامة قرأة المدنيين: ( أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا ) ، فيجعلون « أنّ » منصوبةً على الترجمة بها عن « الرحمة » ( ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ، على ائتناف « إنه » بعد « الفاء » فيكسرونها، ويجعلونها أداة لا موضع لها, بمعنى: فهو له غفور رحيم أو: فله المغفرة والرحمة.

وقرأهما بعض الكوفيين بفتح « الألف » منهما جميعًا, بمعنى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ثم ترجم بقوله: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ، عن الرحمة، ( فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ، فيعطف ب « أنه » الثانية على « أنه » الأولى, ويجعلهما اسمين منصوبين على ما بينت.

وقرأ ذلك بعض المكيين وعامة قرأة أهل العراق من الكوفة والبصرة: بكسر « الألف » من « إنه » و « إنه » على الابتداء, وعلى أنهما أداتان لا موضع لهما.

قال أبو جعفر: وأولى القراءات في ذلك عندي بالصواب, قراءة من قرأهما بالكسر: ( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ إِنَّهُ ) ، على ابتداء الكلام, وأن الخبر قد انتهى عند قوله: « كتب ربكم على نفسه الرحمة » ، ثم استؤنف الخبر عما هو فاعلٌ تعالى ذكره بمن عمل سوءًا بجهالة ثم تاب وأصلح منه.

ومعنى قوله: « أنه من عمل منكم سوءًا بجهالة » ، أنه من اقترف منكم ذنبًا, فجهل باقترافه إياه ثم تاب وأصلح « فأنه غفورٌ » ، لذنبه إذا تاب وأناب، وراجع العمل بطاعة الله، وترك العود إلى مثله، مع الندم على ما فرط منه « رحيم » ، بالتائب أن يعاقبه على ذنبه بعد توبته منه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر, عن عثمان, عن مجاهد: « من عمل منكم سوءًا بجهالة » ، قال: من جهل: أنه لا يعلم حلالا من حرام, ومن جهالته ركب الأمر.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد, عن جويبر, عن الضحاك, مثله .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد: « يعملون السوء بجهالة » ، قال: من عمل بمعصية الله, فذاك منه جهل حتى يرجع .

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا بكر بن خنيس, عن ليث, عن مجاهد في قوله: « من عمل منكم سوءًا بجهالة » ، قال: كل من عمل بخطيئة فهو بها جاهل.

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا خالد بن دينار أبو خلدة قال: كنا إذا دخلنا على أبي العالية قال: « وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة » .

 

القول في تأويل قوله : وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ( 55 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وكذلك نفصل الآيات » ، وكما فصلنا لك في هذه السورة من ابتدائها وفاتحتها، يا محمد، إلى هذا الموضع، حجتَنا على المشركين من عبدة الأوثان، وأدلتَنا, وميَّزناها لك وبيَّناها, كذلك نفصِّل لك أعلامنا وأدلتنا في كل حقّ ينكره أهل الباطل من سائر أهل الملل غيرهم, فنبينها لك، حتى تبين حقه من باطله، وصحيحهُ من سقيمه.

واختلفت القرأة في قراءة قوله: « ولتستبين سبيل المجرمين » .

فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة: ( وَلِتَسْتَبِينَ ) بالتاء ( سَبِيلَ الْمُجِرمِينَ ) بنصب « السبيل » , على أن « تستبين » ، خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، كأن معناه عندهم: ولتستبين، أنت يا محمد، سبيل المجرمين.

وكان ابن زيد يتأول ذلك: ولتستبين، أنت يا محمد، سبيلَ المجرمين الذين سألوك طردَ النفر الذين سألوه طردهم عنه من أصحابه .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن ريد : « ولتستبين سبيلَ المجرمين » ، قال: الذين يأمرونك بطرد هؤلاء .

وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض البصرين: ( وَلِتَسْتَبِينَ ) بالتاء ( سَبِيلُ الْمُجِرمِينَ ) برفع « السبيل » ، على أن القصد للسبيل, ولكنه يؤنثها وكأن معنى الكلام عندهم: وكذلك نفصل الآيات، ولتتضح لك وللمؤمنين طريقُ المجرمين.

وقرأ ذلك عامة قرأة أهل الكوفة: ( وَلِيَسْتَبِينَ ) بالياء ( سَبِيلُ الْمُجِرمِينَ ) برفع « السبيل » على أن الفعل للسبيل، ولكنهم يذكرونه ومعنى هؤلاء في هذا الكلام, ومعنى من قرأ ذلك بالتاء في: « ولتستبين » ورفع « السبيل » ، واحدٌ, وإنما الاختلاف بينهم في تذكير « السبيل » وتأنيثها.

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب عندي في « السبيل » الرفع, لأن الله تعالى ذكره فصَّل آياته في كتابه وتنـزيله, ليتبين الحقَّ بها من الباطل جميعُ من خوطب بها, لا بعضٌ دون بعض.

ومن قرأ « السبيل » بالنصب, فإنما جعل تبيين ذلك محصورًا على النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما القراءة في قوله: « ولتستبين » ، فسواء قرئت بالتاء أو بالياء, لأن من العرب من يذكر « السبيل » وهم تميم وأهل نجد ومنهم من يؤنث « السبيل » وهم أهل الحجاز. وهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار، ولغتان مشهورتان من لغات العرب, وليس في قراءة ذلك بإحداهما خلافٌ لقراءته بالأخرى، ولا وجه لاختيار إحداهما على الأخرى بعد أن يرفع « السبيل » للعلة التي ذكرنا.

وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: « نفصل الآيات » قال أهل التأويل.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: « وكذلك نفصل الآيات » ، نبين الآيات .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في : « نفصل الآيات » ، نبين.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ( 56 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء المشركين بربّهم من قومِك, العادلين به الأوثان والأنداد, الذين يدعونك إلى موافقتهم على دينهم وعبادة الأوثان: إنّ الله نهاني أن أعبد الذين تدعون من دونه, فلن أتبعكم على ما تدعونني إليه من ذلك، ولا أوافقكم عليه, ولا أعطيكم محبّتكم وهواكم فيه. وإن فعلت ذلك، فقد تركت محجَّة الحق، وسلكت على غير الهدى, فصرت ضالا مثلكم على غير استقامة.

وللعرب في « ضللت » لغتان: فتح « اللام » وكسرها, واللغة الفصيحة المشهورة هي فتحها, وبها قرأ عامة قرأة الأمصار, وبها نقرأ لشهرتها في العرب. وأما الكسر فليس بالغالب في كلامها، والقراأة بها قليلون. فمن قال « ضَلَلتُ » قال: « أَضِلُّ » , ومن قال « ضَلِلتُ » قال في المستقبل « أَضَلُّ » . وكذلك القراءة عندنا في سائر القرآن: وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا بفتح اللام [ سورة السجدة: 10 ] .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ( 57 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: « قل » ، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم, الداعين لك إلى الإشراك بربك « إني على بيّنة من ربي » ، أي إني على بيان قد تبينته، وبرهان قد وضح لي « من ربي » ، يقول: من توحيدي, وما أنا عليه من إخلاص عُبُودته من غير إشراك شيء به.

وكذلك تقول العرب: « فلان على بينة من هذا الأمر » ، إذا كان على بيان منه, ومن ذلك قول الشاعر:

أَبَيِّنَــةً تَبْغُــونَ بَعْــدَ اعْتِرَافِــهِ وقَــوْلِ سُـوَيْدٍ قَـدْ كَفَيْتُكُـمُ بِشْـرَا

« وكذبتم به » يقول: وكذبتم أنتم بربكم و « الهاء » في قوله « به » من ذكر الرب جلّ وعز « ما عندي ما تستعجلون به » ، يقول: ما الذي تستعجلون من نقم الله وعذابه بيدي, ولا أنا على ذلك بقادر. وذلك أنهم قالوا حين بعث الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بتوحيده, فدعاهم إلى الله، وأخبرهم أنه رسوله إليهم: هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [ سورة الأنبياء: 3 ] . وقالوا للقرآن: هو أضغاث أحلام . وقال بعضهم: بل هو اختلاق اختلقه. وقال آخرون: بل محمد شاعر, فليأتنا بآية كما أرسل الأولون فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: أجبهم بأن الآيات بيد الله لا بيدك, وإنما أنت رسول, وليس عليك إلا البلاغ لما أرسلت به, وأنّ الله يقضي الحق فيهم وفيك، ويفصل به بينك وبينهم، فيتبين المحقُّ منكم والمبطل « وهو خير الفاصلين » ، أي: وهو خير من بيّن وميّز بين المحق والمبطل وأعدلهم, لأنه لا يقع في حكمه وقضائه حَيْف إلى أحد لوسيلة له إليه ولا لقرابة ولا مناسبة, ولا في قضائه جور، لأنه لا يأخذ الرشوة في الأحكام فيجور, فهو أعدل الحكام وخيرُ الفاصلين.

وقد ذكر لنا في قراءة عبد الله: ( وَهُو أَسْرَعُ الْفَاصِلِينَ ) .

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير: أنه قال: في قراءة عبد الله: ( يَقْضِي الْحَقَّ وَهُو أَسْرَعُ الْفَاصِلِينَ ) .

واختلفت القرأة في قراءة قوله: « يقصُّ الحق » .

فقرأه عامة قرأة الحجاز والمدينة وبعض قرأة أهل الكوفة والبصرة: « إنِ الْحُكْمُ إلا لِلهِ يَقُصُّ الْحَقَّ » ، بالصاد، بمعنى « القصص » ، وتأوّلوا في ذلك قول الله تعالى ذكره: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [ سورة يوسف: 3 ] . وذكر ذلك عن ابن عباس.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن عطاء, عن ابن عباس قال، « يقص الحق » , وقال: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ .

وقرأ ذلك جماعة من قرأة الكوفة والبصرة: ( إنِ الْحُكْمُ إلا لِلهِ يَقْضِي الْحَقَّ ) بالضاد، من « القضاء » ، بمعنى الحكم والفصل بالقَضَاء، واعتبروا صحة ذلك بقوله: « وهو خير الفاصلين » ، وأن « الفصل » بين المختلفين إنما يكون بالقضاء لا بالقَصَص.

وهذه القراءة عندنا أولى القراءَتين بالصواب، لما ذكرنا لأهلِها من العلّة.

فمعنى الكلام إذًا: ما الحكم فيما تستعجلون به، أيها المشركون، من عذاب الله وفيما بيني وبينكم, إلا الله الذي لا يجور في حكمه, وبيده الخلق والأمر, يقضي الحق بيني وبينكم, وهو خير الفاصلين بيننا بقضائه وحكمه.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ( 58 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الآلهة والأوثان، المكذبيك فيما جئتهم به, السائليك أن تأتيهم بآية استعجالا منهم بالعذاب: لو أنّ بيدي ما تستعجلون به من العذاب « لقضي الأمر بيني وبينكم » ، ففصل ذلك أسرع الفصل، بتعجيلي لكم ما تسألوني من ذلك وتستعجلونه, ولكن ذلك بيد الله، الذي هو أعلم بوقت إرساله على الظالمين، الذين يضعون عبادتهم التي لا تنبغي أن تكون إلا لله في غير موضعها، فيعبدون من دونه الآلهة والأصنام, وهو أعلم بوقت الانتقام منهم، وحالِ القضاء بيني وبينهم.

وقد قيل: معنى قوله: « لقضي الأمر بيني وبينكم » ، بذبح الموت.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر, عن ابن جريج قال، بلغني في قوله: « لقضي الأمر » ، قال : ذبح الموت .

وأحسب أن قائل هذا القول، نـزع لقوله وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ [ سورة مريم: 39 ] ، فإنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك قصة تدل على معنى ما قاله هذا القائل في « قضاء الأمر » , وليس قوله: « لقضي الأمر بيني وبينكم » من ذلك في شيء, وإنما هذا أمرٌ من الله تعالى ذكره نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول لمن استعجله فصلَ القضاء بينه وبينهم من قوله بآية يأتيهم بها: لو أن العذاب والآيات بيدي وعندي، لعاجلتكم بالذي تسألوني من ذلك, ولكنه بيد من هو أعلم بما يُصلح خلقه، منّي ومن جميع خلقه .

 

القول في تأويل قوله : وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ

قال أبو جعفر: يقول: وعند الله مفاتح الغيب.

و « المفاتح » : جمع « مِفْتَح » , يقال فيه: « مِفْتح » و « مِفْتَاح » . فمن قال: « مِفْتَح » ، جمعه « مفاتح » , ومن قال: « مفتاح » ، جمعه « مفاتيح » .

ويعني بقوله: « وعنده مفاتح الغيب » ، خزائن الغيب, كالذي:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وعنده مفاتح الغيب » ، قال، يقول: خزائن الغيب.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن مسعر, عن عمرو بن مرة, عن عبد الله بن سلمة, عن ابن مسعود قال: أعطي نبيُّكم كل شيءٍ إلا مفاتح الغيب.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس: « وعنده مفاتح الغيب » ، قال: هن خمس: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَـزِّلُ الْغَيْثَ إلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [ سورة لقمان: 34 ] .

قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: والله أعلم بالظالمين من خلقه، وما هم مستحقُّوه وما هو بهم صانع, فإنّ عنده علم ما غاب علمه عن خلقه فلم يطلعوا عليه ولم يدركوه، ولن يعلموه ولن يدركوه « ويعلم ما في البر والبحر » ، يقول: وعنده علم ما لم يغب أيضًا عنكم, لأن ما في البر والبحر مما هو ظاهر للعين، يعلمه العباد. فكأن معنى الكلام: وعند الله علم ما غابَ عنكم، أيها الناس، مما لا تعلمونه ولن تعلموه مما استأثرَ بعلمه نفسَه, ويعلم أيضًا مع ذلك جميع ما يعلمه جميعُكم, لا يخفى عليه شيء, لأنه لا شيءَ إلا ما يخفى عن الناس أو ما لا يخفى عليهم. فأخبر الله تعالى ذكره أن عنده علم كل شيء كان ويكون، وما هو كائن مما لم يكن بعد, وذلك هو الغيب.

 

القول في تأويل قوله : وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ( 59 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولا تسقط ورقةٌ في الصحاري والبراري، ولا في الأمصار والقرى، إلا الله يعلمها « ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين » ، يقول: ولا شيء أيضًا مما هو موجود، أو ممّا سيوجد ولم يوجد بعد, إلا وهو مثبت في اللوح المحفوظ, مكتوبٌ ذلك فيه، ومرسوم عددُه ومبلغه، والوقت الذي يوجد فيه، والحالُ التي يفنى فيها.

ويعني بقوله: « مبين » ، أنه يبين عن صحة ما هو فيه، بوجود ما رُسم فيه على ما رُسم.

فإن قال قائل: وما وجهُ إثباته في اللوح المحفوظ والكتاب المبين، ما لا يخفى عليه, وهو بجميعه عالم لا يُخَاف نسيانَه؟

قيل له : لله تعالى ذكره فعل ما شاء. وجائز أن يكون كان ذلك منه امتحانًا منه لحفَظَته، واختبارًا للمتوكلين بكتابة أعمالهم, فإنهم فيما ذُكر مأمورون بكتابة أعمال العباد، ثم بعرضها على ما أثبته الله من ذلك في اللوح المحفوظ, حتى أثبت فيه ما أثبت كل يوم. وقيل إن ذلك معنى قوله: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [ سورة الجاثية: 29 ] . وجائز أن يكون ذلك لغير ذلك مما هو أعلم به, إمّا بحجة يحتج بها على بعض ملائكته، وأما على بني آدم وغير ذلك، وقد:-

حدثني زياد بن يحيى الحسّاني أبو الخطاب قال، حدثنا مالك بن سعير قال، حدثنا الأعمش, عن يزيد بن أبي زياد, عن عبد الله بن الحارث قال: ما في الأرض من شجرة ولا كمغرِز إبرة, إلا عليها ملك موكّل بها يأتي الله بعلمها: يبسها إذا يبست، ورطوبتها إذا رَطبت.