القول في تأويل قوله : وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( 69 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن اتقى الله فخافه، فأطاعه فيما أمره به، واجتنب ما نهاه عنه, فليس عليه بترك الإعراض عن هؤلاء الخائضين في آيات الله في حال خوضهم في آيات الله، شيء من تبعة فيما بينه وبين الله, إذا لم يكن تركه الإعراضَ عنهم رضًا بما هم فيه، وكان لله بحقوقه متقيًا, ولا عليه من إثمهم بذلك حرج, ولكن ليعرضوا عنهم حينئذ ذكرى لأمر الله « لعلهم يتقون » ، يقول: ليتقوا.

ومعنى « الذكرى » ، الذكرُ. و « الذكر » و « الذكرى » بمعنًى.

وقد يجوز أن يكون « ذكرى » في موضع نصب ورفع:

فأما النصب، فعلى ما وصفت من تأويل: ولكن ليعرضوا عنهم ذكرى.

وأما الرفع، فعلى تأويل: وما على الذين يتقون من حسابهم شيء بترك الإعراض, ولكن إعراضهم ذكرى لأمر الله لعلهم يتقون.

وقد ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر بالقيام عن المشركين إذا خاضوا في آيات الله, لأن قيامه عنهم كان مما يكرهونه, فقال الله له: إذا خاضوا في آيات الله فقم عنهم، ليتقوا الخوضَ فيها ويتركوا ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: كان المشركون يجلسون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحبون أن يسمعوا منه, فإذا سمعوا استهزءوا, فنـزلت: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ، الآية، قال: فجعل إذا استهزءوا قام، فحذروا وقالوا لا تستهزءوا فيقوم! فذلك قوله: « لعلهم يتقون » ، أن يخوضوا فيقوم، ونـزل: « وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء » ، إن قعدوا معهم, ولكن لا تقعدوا. ثم نسخ ذلك قوله بالمدينة: وَقَدْ نَـزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ ، [ سورة النساء: 140 ] , فنسخ قولَه: « وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء » ، الآية.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: « وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء » ، يقول: من حساب الكفار من شيء « ولكن ذكرى » ، يقول: إذا ذكرت فقم « لعلهم يتقون » مساءتكم، إذا رأوكم لا تجالسونهم استحيوا منكم، فكفوا عنكم. ثم نسخها الله بعد, فنهاهم أن يجلسوا معهم أبدًا، قال: وَقَدْ نَـزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا ، الآية .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء » ، إن قعدوا, ولكن لا تقعد .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد , مثله .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله, عن إسرائيل, عن السدي, عن أبي مالك: « وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى » ، قال: وما عليك أن يخوضوا في آيات الله إذا فعلت ذلك.

 

القول في تأويل قوله : وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ذرْ هؤلاء الذين اتخذوا دين الله وطاعتهم إياه لعبًا ولهوًا, فجعلوا حظوظهم من طاعتهم إياه اللعب بآياته، واللهوَ والاستهزاء بها إذا سمعوها وتليت عليهم, فأعرض عنهم, فإني لهم بالمرصاد, وإني لهم من وراء الانتقام منهم والعقوبة لهم على ما يفعلون، وعلى اغترارهم بزينة الحياة الدنيا، ونسيانهم المعادَ إلى الله تعالى ذكره والمصيرَ إليه بعد الممات، كالذي:-

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: « وذر الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا » ، قال: كقوله: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ، [ سورة المدثر: 11 ] .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

وقد نسخ الله تعالى ذكره هذه الآية بقوله: ( اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) ، [ سورة التوبة:5 ] . وكذلك قال عدد من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا همام بن يحيى, عن قتادة: « وذر الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا » ، ثم أنـزل في « سورة براءة » , فأمر بقتالهم.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان قال: قرأت على ابن أبي عروبة فقال: هكذا سمعته من قتادة: « وذر الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا » ، ثم أنـزل الله تعالى ذكره « براءة » , وأمر بقتالهم فقال: اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ، [ سورة التوبة: 5 ] .

وأما قوله: « وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت » ، فإنه يعني به: وذكّر، يا محمد، بهذا القرآن هؤلاء المولِّين عنك وعنه « أن تبسل نفس » ، بمعنى: أن لا تبسل, كما قال: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ، [ سورة النساء : 176 ] ، بمعنى: أن لا تضلوا وإنما معنى الكلام: وذكرهم به ليؤمنوا ويتبعوا ما جاءهم من عند الله من الحق, فلا تُبْسل أنفسهم بما كسبت من الأوزار ولكن حذفت « لا » ، لدلالة الكلام عليها.

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « أن تبسل نفس » .

فقال بعضهم: معنى ذلك: أن تُسْلَم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد, عن يزيد النحوي, عن عكرمة قوله: « أن تبسل نفس بما كسبت » ، قال: تُسلم .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن: « أن تبسل نفس » ، قال: أن تُسلم .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن الحسن, مثله .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « أن تبسل » ، قال: تسلم.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « أن تبسل نفس » ، قال: تسلم.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن ليث, عن مجاهد: أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا ، أسلموا.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: تُحْبس.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « أن تبسل نفس » ، قال: تؤخذ فتحبس .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة, مثله .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله : « أن تبسل نفس بما كسبت » ، أن تؤخذ نفس بما كسبت.

وقال آخرون: معناه: تُفضَح.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت » ، يقول: تفضح.

وقال آخرون: معناه: أن تجزَى.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد قال، قال الكلبي: « أن تبسل » ، أن تجزَى.

وأصل « الإبسال » التحريم, يقال منه: « أبسلت المكان » ، إذا حرّمته فلم يقرب، ومنه قوله الشاعر:

بَكَـرَتْ تَلُـومُكَ بَعْـدَ وَهْنٍ فِي النَّدَى, بَسْــلٌ عَلَيْــكِ مَلامَتِـي وَعِتَـابِي

أي: حرام [ عليك ملامتي وعتابي ] . ومنه قولهم: « أسد باسل » , ويراد به: لا يقربه شيء, فكأنه قد حرَّم نفسه، ثم يجعل ذلك صفة لكل شديد يتحامى لشدته. ويقال: « أعط الراقي بُسْلَتَه » , يراد بذلك: أجرته, « وشراب بَسِيل » ، بمعنى متروك. وكذلك « المبسَلُ بالجريرة » , وهو المرتهن بها, قيل له: « مُبْسَل » ، لأنه محرَّم من كل شيء إلا مما رُهن فيه وأُسلم به، ومنه قول عوف بن الأحوص الكلابي:

وَإبْسَــالِي بَنِــيَّ بِغَــيْرِ جُــرْمٍ بَعَوْنَــــاهُ وَلا بِـــدَمٍ مُـــرَاقِ

وقال الشنفرى:

هُنَــالِكَ لا أَرْجُــو حَيَـاةً تَسُـرُّنِي سَــمِيرَ اللَّيَــالِي مُبْسَـلا بِـالْجَرَائِرِ

قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: وذكّر بالقرآن هؤلاء الذين يخوضون في آياتنا وغيرهم ممن سلك سبيلهم من المشركين, كيلا تُبسل نفس بذنوبها وكفرها بربها, وترتهن فتغلق بما كسبت من إجرامها في عذاب الله « ليس لها من دون الله » ، يقول: ليس لها، حين تسلم بذنوبها فترتهن بما كسبت من آثامها، أحدٌ ينصرها فينقذها من الله الذي جازاها بذنوبها جزاءها « ولا شفيع » ، يشفع لها, لوسيلة له عنده.

 

القول في تأويل قوله : وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإن تعدل النفس التي أبسلت بما كسبت, يعني: « وإن تعدل كل عدل » ، يعني: كل فداء.

يقال منه: « عَدَل يعدِل » ، إذا فدى, « عَدْلا » ، ومنه قول الله تعالى ذكره: أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا ، [ سورة المائدة: 95 ] ، وهو ما عادله من غير نوعه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها » ، قال: لو جاءت بملء الأرض ذهبًا لم يقبل منها.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي في قوله: « وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها » ، فما يعدلها لو جاءت بملء الأرض ذهبًا لتفتدي به ما قُبل منها.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها » ، قال: « وإن تعدل » ، وإن تفتد، يكون له الدنيا وما فيها يفتدي بها « لا يؤخذ منه » ، عدلا عن نفسه, لا يقبل منه.

وقد تأوّل ذلك بعض أهل العلم بالعربية بمعنى: وإن تُقسط كل قسط لا يقبل منها. وقال: إنها التوبة في الحياة.

وليس لما قال من ذلك معنى, وذلك أن كل تائب في الدنيا فإن الله تعالى ذكره يقبل توبته.

 

القول في تأويل قوله : أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ( 70 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهؤلاء الذين إن فدوا أنفسهم من عذاب الله يوم القيامة كل فداء لم يؤخذ منهم, هم « الذين أبسلوا بما كسبوا » ، يقول: أسلموا لعذاب الله, فرهنوا به جزاءً بما كسبوا في الدنيا من الآثام والأوزار، « لهم شرابٌ من حميم » .

و « الحميم » هو الحارّ، في كلام العرب, وإنما هو « محموم » صرف إلى « فعيل » ، ومنه قيل للحمّام، « حمام » لإسخانه الجسم، ومنه قول مرقش:

فِــي كُــلِّ مُمْسًـى لَهَـا مِقْطَـرَةٌ فِيهَـــا كِبَــاءٌ مُعَــدٌّ وَحَــمِيمْ

يعني بذلك ماء حارًّا، ومنه قول أبي ذويب الهذلي في صفة فرس:

تَــأبَى بِدِرَّتِهَـا إذَا مَـا اسْـتُضْغِبَتْ إلا الْحَـــمِيمَ فَإنّـــهُ يَتَبَضَّـــعُ

يعني بالحميم: عرق الفرس.

وإنما جعل تعالى ذكره لهؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآية شرابًا من حميم, لأن الحارّ من الماء لا يروي من عطش. فأخبر أنهم إذا عطشوا في جهنم لم يغاثوا بماء يرويهم, ولكن بما يزيدون به عطشًا على ما بهم من العطش « وعذاب أليم » ، يقول: ولهم أيضًا مع الشراب الحميم من الله العذابُ الأليم والهوان المقيم « بما كانوا يكفرون » ، يقول: بما كان من كفرهم في الدنيا بالله، وإنكارهم توحيده، وعبادتهم معه آلهة دونه.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا » ، قال يقال: أسلموا.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « أولئك الذين أبسلوا » ، قال: فُضحوا.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا » ، قال: أخذوا بما كسبوا.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا

قال أبو جعفر: وهذا تنبيه من الله تعالى ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم على حجته على مشركي قومه من عبدة الأوثان. يقول له تعالى ذكره: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثانَ والأنداد، والآمرين لك باتباع دينهم وعبادة الأصنام معهم: أندعو من دون الله حجرًا أو خشبًا لا يقدر على نفعنا أو ضرنا, فنخصه بالعبادة دون الله, وندع عبادة الذي بيده الضر والنفع والحياة والموت, إن كنتم تعقلون فتميزون بين الخير والشر؟ فلا شك أنكم تعلمون أن خدمة ما يرتجى نفعه ويرهب ضره، أحق وأولى من خدمة من لا يرجى نفعه ولا يخشى ضره!

« ونرد على أعقابنا » ، يقول: ونرد إلى أدبارنا، فنرجع القهقري خلفنا، لم نظفر بحاجتنا.

وقد بينا معنى: « الرد على العقب » , وأن العرب تقول لكل طالب حاجة لم يظفر بها: « رد على عقبيه » ، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

وإنما يراد به في هذا الموضع: ونرد من الإسلام إلى الكفر « بعد إذ هدانا الله، فوفقنا له, فيكون مثلنا في ذلك مثل الرجل الذي استتبعه الشيطان، يهوي في الأرض حيران. »

وقوله: « استهوته » ، « استفعلته » , من قول القائل: « هوى فلان إلى كذا يهوي إليه » , ومن قول الله تعالى ذكره: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ، [ سورة إبراهيم: 37 ] ، بمعنى: تنـزع إليهم وتريدهم.

وأما « حيران » ، فإنه « فعلان » من قول القائل: « قد حار فلان في الطريق، فهو يَحَار فيه حَيرة وحَيَرَانًا وَحيرُورة » , وذلك إذ ضل فلم يهتد للمحجَّة.

« له أصحاب يدعونه إلى الهدى » , يقول: لهذا الحيران الذي قد استهوته الشياطين في الأرض، أصحابٌ على المحجة واستقامة السبيل, يدعونه إلى المحجة لطريق الهدى الذي هم عليه, يقولون له : ائتنا.

وترك إجراء « حيران » , لأنه « فعلان » , وكل اسم كان على « فعلان » مما أنثاه « فعلى » فإنه لا يجري في كلام العرب في معرفة ولا نكرة.

قال أبو جعفر: وهذا مثل ضربه الله تعالى ذكره لمن كفَر بالله بعد إيمانه، فاتبع الشياطين، من أهل الشرك بالله وأصحابه الذين كانوا أصحابه في حال إسلامه، المقيمون على الدين الحق، يدعونه إلى الهدى الذي هم عليه مقيمون، والصواب الذي هم به متمسكون, وهو له مفارق وعنه زائل, يقولون له: « ائتنا فكن معنا على استقامة وهدى » ! وهو يأبى ذلك, ويتبع دواعي الشيطان، ويعبد الآلهة والأوثان.

وبمثل الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل, وخالف في ذلك جماعة.

ذكر من قال ذلك مثل ما قلنا:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونردّ على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا » ، قال: قال المشركون للمؤمنين: اتبعوا سبيلنا, واتركوا دين محمد صلى الله عليه وسلم. فقال الله تعالى ذكره: « قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا » ، هذه الآلهة « ونردّ على أعقابنا بعد إذ هدانا الله » , فيكون مثلنا كمثل الذي استهوته الشياطين في الأرض، يقول: مثلكم إن كفرتم بعد الإيمان، كمثل رجل كان مع قوم على الطريق, فضلّ الطريق, فحيرته الشياطين، واستهوته في الأرض, وأصحابه على الطريق، فجعلوا يدعونه إليهم, يقولون: « ائتنا، فإنا على الطريق » , فأبى أن يأتيهم. فذلك مثل من يتبعكم بعد المعرفة بمحمد, ومحمد الذي يدعو إلى الطريق, والطريق هو الإسلام.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا » ، قال: هذا مثل ضربه الله للآلهة ومن يدعو إليها، وللدعاة الذين يدعونَ إلى الله, كمثل رجل ضل عن الطريق تائهًا ضالا إذ ناداه مناد: « يا فلان بن فلان، هلمّ إلى الطريق » ، وله أصحاب يدعونه: « يا فلان، هلم إلى الطريق » ! فإن اتبع الداعي الأول انطلق به حتى يلقيه في الهلكة, وإن أجاب من يدعوه إلى الهدى اهتدى إلى الطريق. وهذه الداعية التي تدعو في البرية من الغيلان. يقول: مثل من يعبد هؤلاء الآلهة من دون الله, فإنه يرى أنه في شيء حتى يأتيه الموت، فيستقبل الهلكة والندامة. وقوله: « كالذي استهوته الشياطين في الأرض » ، وهم « الغيلان » يدعونه باسمه واسم أبيه واسم جده, فيتبعها، فيرى أنه في شيء، فيصبح وقد ألقته في الهلكة، وربما أكلته أو تلقيه في مضلّة من الأرض يهلك فيها عطشًا. فهذا مثل من أجاب الآلهة التي تُعبد من دون الله عز وجل.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر, عن قتادة: « استهوته الشياطين في الأرض » ، قال: أضلته في الأرض حيران.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « ما لا ينفعنا ولا يضرنا » ، قال: الأوثان .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « استهوته الشياطين في الأرض حيران » ، قال: رجل حيران يدعوه أصحابه إلى الطريق, فذلك مثل من يضلّ بعد إذ هدي.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر قال، حدثنا رجل, عن مجاهد قال، « حيران » ، هذا مثل ضربه الله للكافر, يقول: الكافر حيران، يدعوه المسلم إلى الهدى فلا يجيب.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا » ، حتى بلغ لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ، علمها الله محمدًا وأصحابه، يخاصمون بها أهلَ الضلالة.

وقال آخرون في تأويل ذلك، بما:-

حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى » ، فهو الرجل الذي لا يستجيب لهدى الله, وهو رجل أطاعَ الشيطان، وعمل في الأرض بالمعصية، وحار عن الحقّ وضل عنه, وله أصحاب يدعونه إلى الهدى، ويزعمون أن الذي يأمرونه هدًى. يقول الله ذلك لأوليائهم من الإنس: إن الهدى هدى الله, والضلالة ما تدعو إليه الجنّ.

فكأنّ ابن عباس على هذه الرواية يرى أن أصحاب هذا الحيران الذين يدعونه إنما يدعونه إلى الضلال، ويزعمون أنّ ذلك هدى, وأنّ الله أكذبهم بقوله: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ، لا ما يدعوه إليه أصحابه.

وهذا تأويل له وجه، لو لم يكن الله سمى الذي دعا الحيرانَ إليه أصحابه « هدى » , وكان الخبر بذلك عن أصحابه الدعاة له إلى ما دعوه إليه: أنهم هم الذين سموه, ولكن الله سماه « هدى » , وأخبر عن أصحاب الحيران أنهم يدعونه إليه. وغير جائز أن يسمي الله « الضلال » هدى، لأن ذلك كذب, وغير جائز وصف الله بالكذب، لأن ذلك وصفه بما ليس من صفته. وإنما كان يجوز توجيه ذلك إلى الصواب، لو كان ذلك خبرًا من الله عن الداعي الحيران أنهم قالوا له: « تعال إلى الهدى » ، فأما وهو قائل: « يدعونه إلى الهدى » , فغير جائز أن يكون ذلك، وهم كانوا يدعونه إلى الضلال.

وأما قوله: « ائتنا » ، فإن معناه: يقولون: ائتنا، هلم إلينا فحذف « القول » ، لدلالة الكلام عليه.

وذكر عن ابن مسعود أنه كان يقرأ ذلك: ( يَدْعُونَهُ إلَى الهُدَى بَيِّنًا ) .

حدثنا بذلك ابن وكيع قال، حدثنا غندر, عن شعبة, عن أبي إسحاق قال: في قراءة عبد الله: ( يَدْعُونَهُ إلَى الهُدَى بَيِّنًا ) .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، أخبرني عبد الله بن كثير، أنه سمع مجاهدًا يقول: في قراءة ابن مسعود: ( لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إلَى الهُدَى بَيِّنًا ) ، قال: « الهدى » الطريق, أنه بين.

وإذا قرئ ذلك كذلك, كان « البين » من صفة « الهدى » , ويكون نصب « البين » على القطع من « الهدى » , كأنه قيل: يدعونه إلى الهدى البين, ثم نصب « البين » لما حذفت « الألف واللام » , وصار نكرة من صفة المعرفة.

وهذه القراءة التي ذكرناها عن ابن مسعود تؤيد قول من قال: « الهدى » في هذا الموضع، هو الهدى على الحقيقة.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( 71 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان، القائلين لأصحابك: « اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم، فإنا على هدى » : ليس الأمر كما زعمتم « إن هدى الله هو الهدى » ، يقول: إن طريق الله الذي بينه لنا وأوضحه، وسبيلنا الذي أمرنا بلزومه، ودينه الذي شرعه لنا فبينه, هو الهدى والاستقامة التي لا شك فيها, لا عبادة الأوثان والأصنام التي لا تضر ولا تنفع, فلا نترك الحق ونتبع الباطل « وأمرنا لنسلم لرب العالمين » ، يقول: وأمرَنا ربنا وربّ كل شيء تعالى وجهه, لنسلم له، لنخضع له بالذلة والطاعة والعبودية, فنخلص ذلك له دون ما سواه من الأنداد والآلهة.

وقد بينا معنى « الإسلام » بشواهده فيما مضى من كتابنا، بما أغنى عن إعادته.

وقيل: « وأمرنا لنسلم » ، بمعنى: وأمرنا كي نسلم, وأن نسلم لرب العالمين لأن العرب تضع « كي » و « اللام » التي بمعنى « كي » ، مكان « أن » و « أن » مكانها .

 

القول في تأويل قوله : وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( 72 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأمرنا أنْ أقيموا الصلاة.

وإنما قيل: « وأن أقيموا الصلاة » ، فعطف ب « أن » على « اللام » من لِنُسْلِمَ ، لأن قوله: لِنُسْلِمَ معناه: أن نسلم, فردّ قوله: « وأن أقيموا » على معنى: لِنُسْلِمَ , إذ كانت « اللام » التي في قوله: لِنُسْلِمَ , لامًا لا تصحب إلا المستقبل من الأفعال, وكانت « أن » من الحروف التي تدل على الاستقبال دلالة « اللام » التي في لِنُسْلِمَ , فعطف بها عليها، لاتفاق معنيهما فيما ذكرت.

ف « أن » في موضع نصب بالردّ على اللام.

وكان بعض نحويِّي البصرة يقول: إما أن يكون ذلك، « أمرنا لنسلم لرب العالمين وأن أقيموا الصلاة » , يقول: أمرنا كي نسلم, كما قال: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [ سورة يونس: 104 ] ، أي: إنما أمرت بذلك. ثم قال: « وأن أقيموا الصلاة واتقوه » ، أي: أمرنا أن أقيموا الصلاة أو يكون أوصل الفعل باللام, والمعنى: أمرت أن أكون, كما أوصل الفعل باللام في قوله: هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ، [ سورة الأعراف: 154 ] .

فتأويل الكلام: وأمرنا بإقامة الصلاة, وذلك أداؤها بحدودها التي فرضت علينا « واتقوه » ، يقول: واتقوا رب العالمين الذي أمرنا أن نسلم له, فخافوه واحذروا سَخطه، بأداء الصلاة المفروضة عليكم، والإذعان له بالطاعة، وإخلاص العبادة له « وهو الذي إليه تحشرون » ، يقول: وربكم رب العالمين، هو الذي إليه تحشرون فتجمعون يوم القيامة, فيجازي كلَّ عامل منكم بعمله, وتوفي كل نفس ما كسبت.

 

القول في تأويل قوله : وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ( 73 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأنداد, الداعيك إلى عبادة الأوثان: « أمرنا لنسلم لرب العالمين، الذي خلق السماوات والأرض بالحق, لا من لا ينفع ولا يضر، ولا يسمع ولا يبصر » .

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « بالحق » .

فقال بعضهم: معنى ذلك، وهو الذي خلق السماوات والأرض حقًّا وصوابًا, لا باطلا وخطأ, كما قال تعالى ذكره: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا [ سورة ص: 27 ] . قالوا: وأدخلت فيه « الباء » و « الألف واللام » , كما تفعل العرب في نظائر ذلك فتقول: « فلان يقول بالحق » , بمعنى: أنه يقول الحق. قالوا: ولا شيء في « قوله بالحق » غير إصابته الصواب فيه لا أنّ « الحق » معنى غير « القول » , وإنما هو صفةٌ للقول، إذا كان بها القول، كان القائل موصوفًا بالقول بالحق، وبقول الحق. قالوا: فكذلك خلق السماوات والأرض، حكمة من حكم الله, فالله موصوف بالحكمة في خلقهما وخلق ما سواهما من سائر خلقه لا أنّ ذلك حقٌّ سوى خَلْقِهما خَلَقَهما به.

وقال آخرون: معنى ذلك: خلق السماوات والأرض بكلامه وقوله لهما: اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا ، [ سورة فصلت: 11 ] . قالوا: فالحق، في هذا الموضع معنيّ به: كلامه. واستشهدوا لقيلهم ذلك بقوله: « ويوم يقول كن فيكون قوله الحق » ، « الحق » هو قوله وكلامه. قالوا: والله خلق الأشياء بكلامه وقيله، فما خلق به الأشياء فغير الأشياء المخلوقة. قالوا: فإذْ كان ذلك كذلك, وجب أن يكون كلام الله الذي خلق به الخلق غيرَ مخلوق.

وأما قوله: « ويوم يقول كن فيكون » ، فإن أهل العربية اختلفوا في العامل في « يوم يقول » ، وفي معنى ذلك.

فقال بعض نحويي البصرة: « اليوم » مضاف إلى « يقول كن فيكون » . قال: وهو نصب، وليس له خبر ظاهر, والله أعلم, وهو على ما فسرت لك كأنه يعني بذلك أن نصبه على: واذكر يوم يقول كن فيكون. قال: وكذلك: « يوم ينفخ في الصور » ، قال: وقال بعضهم: يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة.

وقال بعضهم: « يقول كن فيكون » للصور خاصة فمعنى الكلام على تأويلهم: يوم يقول للصور كن فيكون، قوله الحق يوم ينفخ فيه عالم الغيب والشهادة فيكون « القول » حينئذ مرفوعًا ب « الحق » و « الحق » ب « القول » ، وقوله: « يوم يقول كن فيكون » ، و « يوم ينفخ في الصور » ، صلة « الحق » .

وقال آخرون: بل قوله: « كن فيكون » ، معنيٌّ به كل ما كان الله مُعِيده في الآخرة بعد إفنائه، ومنشئه بعد إعدامه فالكلام على مذهب هؤلاء، متناهٍ عند قوله: « كن فيكون » ، وقوله: « قوله الحق » ، خبر مبتدأ وتأويله: وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق, ويوم يقول للأشياء كن فيكون خلقهما بالحق بعد فنائهما. ثم ابتدأ الخبر عن قوله ووعده خلقَه أنه معيدهما بعد فنائهما عن أنه حق فقال: قوله هذا، الحقّ الذي لا شك فيه. وأخبر أن له الملك يوم ينفخ في الصور ف يوم ينفخ في الصور « ، يكون على هذا التأويل من صلة » الملك « . »

وقد يجوز على هذا التأويل أن يكون قوله: « يوم ينفخ في الصور » من صلة « الحق » .

وقال آخرون: بل معنى الكلام: ويوم يقول لما فني: « كن » ، فيكون قوله الحق, فجعل « القول » مرفوعًا بقوله « ويوم يقول كن فيكون » ، وجعل قوله: « كن فيكون » ، للقول محلا وقوله: « يوم ينفخ في الصور » ، من صلة « الحق » كأنه وجه تأويل ذلك إلى: ويومئذ قوله الحق يوم ينفخ في الصور. وإن جعل على هذا التأويل « يوم ينفخ في الصور » بيانًا عن اليوم الأول, كان وجهًا صحيحًا. ولو جعل قوله: « قوله الحق » ، مرفوعًا بقوله: « يوم ينفخ في الصور » ، وقوله: « يوم ينفخ في الصور » ، محلا وقوله: « ويوم يقول كن فيكون » من صلته، كان جائزًا.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبرَ أنه المنفرد بخلق السماوات والأرض دون كل ما سواه, معرِّفًا من أشرك به من خلقه جهلَه في عبادة الأوثان والأصنام، وخطأ ما هم عليه مقيمون من عبادة ما لا يضر ولا ينفع، ولا يقدر على اجتلاب نفع إلى نفسه، ولا دفع ضر عنها ومحتجًّا عليهم في إنكارهم البعثَ بعد الممات والثوابَ والعقاب، بقدرته على ابتداع ذلك ابتداءً, وأن الذي ابتدع ذلك غير متعذر عليه إفناؤه ثم إعادته بعد إفنائه, فقال: « وهو الذي خلق » ، أيها العادلون بربهم من لا ينفع ولا يضر ولا يقدر على شيء « السماوات والأرض بالحق » , حجة على خلقه, ليعرفوا بها صانعها، وليستدلُّوا بها على عظيم قدرته وسلطانه, فيخلصوا له العبادة « ويوم يقول كن فيكون » ، يقول: ويوم يقول حين تبدل الأرض غير الأرض والسماوات كذلك: « كن فيكون » , كما شاء تعالى ذكره, فتكون الأرض غير الأرض ويكون [ الكلام ] عند قوله: « كن فيكون » متناهيًا.

وإذا كان كذلك معناه، وجب أن يكون في الكلام محذوفٌ يدلّ عليه الظاهر, ويكون معنى الكلام: ويوم يقول كذلك: « كن فيكون » تبدل [ السماوات والأرض ] غير السماوات والأرض. ويدلّ على ذلك قوله: « وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق » ، ثم ابتدأ الخبر عن القول فقال: « قوله الحق » ، بمعنى وعدُه هذا الذي وَعدَ تعالى ذكره، من تبديله السماوات والأرض غير الأرض والسماوات, الحقُّ الذي لا شك فيه « وله الملك يوم ينفخ في الصور » ، فيكون قوله: « يوم ينفخ في الصور » ، من صلة « الملك » ويكون معنى الكلام: ولله الملك يومئذ، لأن النفخة الثانية في الصور حال تبديل الله السماوات والأرض غيرهما.

وجائز أن يكون « القول » أعنى: « قوله الحق » ، مرفوعًا بقوله: « ويوم يقول كن فيكون » , ويكون قوله: « كن فيكون » محلا للقول مرافعًا، فيكون تأويل الكلام: وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق, ويوم يبدلها غير السماوات والأرض، فيقول لذلك: « كن فيكون » ، « قوله الحق » .

وأما قوله: « وله الملك يوم ينفخ في الصور » ، فإنه خُصّ بالخبر عن ملكه يومئذ, وإن كان الملك له خالصًا في كل وقت في الدنيا والآخرة، لأنه عنى تعالى ذكره أنه لا منازع له فيه يومئذ ولا مدّعي له, وأنه المنفرد به دون كل من كان ينازعه فيه في الدنيا من الجبابرة، فأذعن جميعهم يومئذ له به, وعلموا أنهم كانوا من دعواهم في الدنيا في باطل.

واختلف في معنى « الصور » في هذا الموضع.

فقال بعضهم: هو قرن ينفخ فيه نفختان: إحداهما لفناء من كان حيًّا على الأرض, والثانية لنشر كل مَيْتٍ. واعتلوا لقولهم ذلك بقوله: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [ سورة الزمر : 68 ] ، وبالخبر الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إذ سئل عن الصور: هو قرن يُنفخ فيه.

وقال آخرون: « الصور » في هذا الموضع جمع « صورة » ، ينفخ فيها روحها فتحيا, كقولهم: « سور » لسور المدينة, وهو جمع « سورة » , كما قال جرير:

سُورُ الْمَدِينَةِ وَالْجِبَالُ الْخُشَّعَ

والعرب تقول: « نفخ في الصور » و « نفخ الصور » ، ومن قولهم: « نفخ الصور »

قول الشاعر:

لَـوْلا ابْـنُ جَـعْدَةَ لَـمْ تُفْتَحْ قُهُنْدُزُكُمْ وَلا خُرَاسَـانَ حَـتَّى يُنْفَـخَ الصُّـورُ

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, أنه قال: « إن إسرافيلَ قد التقم الصور وحنى جبهته، ينتظر متى يؤمر فينفخ » ، وأنه قال: « الصور قرن ينفخ فيه » .

وذكر عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله: « يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة » ، يعني: أن عالم الغيب والشهادة، هو الذي ينفخ في الصور.

حدثني به المثنى قال، حدثنا عبدالله بن صالح قال، حدثنا معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس في قوله: « عالم الغيب والشهادة » ، يعني: أنّ عالم الغيب والشهادة هو الذي ينفخ في الصور .

فكأن ابن عباس تأوّل في ذلك أن قوله: « عالم الغيب والشهادة » ، اسم الفاعل الذي لم يسمَّ في قوله: « يوم ينفخ في الصور » ، وأن معنى الكلام: يوم ينفخ الله في الصور، عالم الغيب والشهادة. كما تقول العرب: « أُكلَ طعامك، عبدُ الله » , فتظهر اسم الآكل بعد أن قد جرى الخبر بما لم يسم آكله. وذلك وإن كان وجهًا غير مدفوع, فإن أحسن من ذلك أن يكون قوله: « عالم الغيب والشهادة » ، مرفوعًا على أنه نعت ل « الذي » ، في قوله: « وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق » .

وروي عنه أيضًا أنه كان يقول: « الصور » في هذا الموضع، النفخة الأولى.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة » ، يعني بالصور: النفخة الأولى, ألم تسمع أنه يقول: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى يعني الثانية فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [ سورة الزمر: 68 ] .

ويعني بقوله: « عالم الغيب والشهادة » ، عالم ما تعاينون: أيها الناس, فتشاهدونه, وما يغيب عن حواسكم وأبصاركم فلا تحسونه ولا تبصرونه « وهو الحكيم » ، في تدبيره وتصريفه خلقه من حال الوجود إلى العدم, ثم من حال العدم والفناء إلى الوجود, ثم في مجازاتهم بما يجازيهم به من ثواب أو عقاب « الخبير » ، بكل ما يعملونه ويكسبونه من حسن وسيئ, حافظ ذلك عليهم ليحازيهم على كل ذلك. يقول تعالى ذكره: فاحذروا، أيها العادلون بربكم، عقابَه, فإنه عليم بكل ما تأتون وتذرون, وهو لكم من وراء الجزاء على ما تعملون.