القول في تأويل قوله : وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر، يا محمد لحجاجك الذي تحاجّ به قومك، وخصومتك إياهم في آلهتهم، وما تراجعهم فيها, مما نلقيه إليك ونعلمكه من البرهان والدلالة على باطل ما عليه قومك مقيمون، وصحة ما أنت عليه مقيم من الدين، وحقيقة ما أنت عليهم به محتج حِجَاج إبراهيم خليلي قومَه, ومراجعته إياهم في باطل ما كانوا عليه مقيمين من عبادة الأوثان, وانقطاعه إلى الله والرضا به وليًّا وناصرًا دون الأصنام، فاتخذه إمامًا واقتد به, واجعل سيرته في قومك لنفسك مثالا إذ قال لأبيه مفارقًا لدينه، وعائبًا عبادته الأصنام دون بارئه وخالقه: يا آزر .

ثم اختلف أهل العلم في المعنيّ ب « آزر » , وما هو، اسم هو أم صفة؟ وإن كان اسمًا, فمن المسمى به؟ فقال بعضهم: هو اسم أبيه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر » ، قال: اسم أبيه « آزر » .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثني محمد بن إسحاق قال: « آزر » ، أبو إبراهيم. وكان، فيما ذكر لنا والله أعلم، رجلا من أهل كُوثَى, من قرية بالسواد, سواد الكوفة .

حدثني ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال: سمعت سعيد بن عبد العزيز يذكر قال: هو « آزر » , وهو « تارح » , مثل « إسرائيل » و « يعقوب » .

وقال آخرون: إنه ليس أبا إبراهيم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن حميد وسفيان بن وكيع قالا حدثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد قال: ليس « آزر » ، أبا إبراهيم.

حدثني الحارث قال، حدثني عبد العزيز قال، حدثنا الثوري قال، أخبرني رجل, عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر » ، قال: « آزر » لم يكن بأبيه، إنما هو صنم.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: « آزر » اسم، صنم.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: « وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر » ، قال: اسم أبيه، ويقال: لا بل اسمه « تارح » , واسم الصنم « آزر » . يقول: أتتخذ آزرَ أصنامًا آلهة.

وقال آخرون: هو سبٌّ وعيب بكلامهم, ومعناه: معوَجٌّ . كأنه تأوّل أنه عابه بزَيْغه واعوجاجه عن الحق.

واختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته عامة قرأة الأمصار: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ ) بفتح « آزر » على اتباعه « الأب » في الخفض, ولكنه لما كان اسمًا أعجميًّا فتحوه، إذ لم يجروه، وإن كان في موضع خفض.

وذكر عن أبي زيد المديني والحسن البصري أنهما كانا يقرآن ذلك: ( آزَرُ ) بالرفع على النداء, بمعنى: يا آزر.

فأما الذي ذكر عن السديّ من حكايته أن « آزر » اسم صنم, وإنما نصبَه بمعنى: أتتخذ آزر أصنامًا آلهة فقولٌ من الصواب من جهة العربية بعيدٌ. وذلك أن العرب لا تنصب اسمًا بفعلٍ بعد حرف الاستفهام, لا تقول: « أخاك أكلمت » ؟ وهي تريد: أكلمت أخاك.

قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندي, قراءةُ من قرأ بفتح « الراء » من ( آزَرَ ) ، على اتباعه إعراب « الأب » , وأنه في موضع خفض ففتح، إذ لم يكن جاريًا، لأنه اسم عجمي. وإنما اخترتُ قراءة ذلك كذلك، لإجماع الحجة من القرأة عليه.

وإذْ كان ذلك هو الصواب من القراءة، وكان غير جائز أن يكون منصوبًا بالفعل الذي بعد حرف الاستفهام, صحَّ لك فتحه من أحد وجهين:

إما أن يكون اسمًا لأبي إبراهيم صلوات الله عليه وعلى جميع أنبيائه ورسله, فيكون في موضع خفض ردًّا على « الأب » , ولكنه فتح لما ذكرت من أنه لمّا كان اسمًا أعجميًّا ترك إجراؤه ففتح، كما تفعل العرب في أسماء العجم.

أو يكون نعتًا له, فيكون أيضًا خفضًا بمعنى تكرير اللام عليه, ولكنه لما خرج مخرج « أحمر » و « أسود » ترك إجراؤه، وفعل به كما يفعل بأشكاله. فيكون تأويل الكلام حينئذ: وإذ قال إبراهيم لأبيه الزائغ: أتتخذ أصنامًا آلهة.

وإذ لم يكن له وِجهة في الصواب إلا أحد هذين الوجهين, فأولى القولين بالصواب منهما عندي قولُ من قال: « هو اسم أبيه » ، لأن الله تعالى ذكره أخبر أنه أبوه، وهو القول المحفوظ من قول أهل العلم، دون القول الآخر الذي زعم قائلُه أنه نعتٌ.

فإن قال قائل: فإن أهل الأنساب إنما ينسبون إبراهيم إلى « تارح » , فكيف يكون « آزر » اسمًا له، والمعروف به من الاسم « تارح » ؟

قيل له: غير محال أن يكون له اسمان, كما لكثير من الناس في دهرنا هذا, وكان ذلك فيما مضى لكثير منهم . وجائز أن يكون لقبًا يلقّب به.

 

القول في تأويل قوله : أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 74 )

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قيل إبراهيم لأبيه آزر أنه قال: « أتتخذ أصنامًا آلهة » ، تعبدها وتتخذها ربًّا دون الله الذي خلقك فسوَّاك ورزقك ؟

و « الأصنام » : جمع « صنم » , و « الصنم » التمثال من حجر أو خشب أو من غير ذلك في صورة إنسان, وهو « الوثن » . وقد يقال للصورة المصوّرة على صورة الإنسان في الحائط وغيره: « صنم » و « وثن » .

« إني أراك وقومَك في ضلال مبين » ، يقول: « إني أراك » ، يا آزر، « وقومَك » الذين يعبدون معك الأصنام ويتخذونها آلهة « في ضلال » ، يقول: في زوال عن محجّة الحق, وعدول عن سبيل الصواب « مبين » ، يقول: يتبين لمن أبصَره أنه جوْرٌ عن قصد السبيل، وزوالٌ عن محجة الطريق القويم. يعني بذلك أنه قد ضلّ هو وهم عن توحيد الله وعبادته، الذي استوجب عليهم إخلاص العبادة له بآلائه عندهم, دون غيره من الآلهة والأوثان.

 

القول في تأويل قوله : وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ( 75 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وكذلك » ، وكما أريناه البصيرة في دينه، والحقّ في خلافه ما كانوا عليه من الضلال, نريه ملكوت السماوات والأرض يعني ملكه.

وزيدت فيه « التاء » كما زيدت في « الجبروت » من « الجبر » وكما قيل: « رَهَبوتٌ خيرٌ من رَحَمُوت » , بمعنى: رهبة خير من رحمة. وحكي عن العرب سماعًا: « له مَلَكوت اليمنِ والعراق » ، بمعنى: له ملك ذلك.

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » .

فقال بعضهم: معنى ذلك: نريه خلقَ السماوات والأرض.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، أي: خلق السماوات والأرض .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، أي: خلق السماوات والأرض « وليكون من الموقنين » .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس : « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، يعني ب « ملكوت السماوات والأرض » ، خلق السماوات والأرض.

وقال آخرون: معنى « الملكوت » الملك، بنحو التأويل الذي تأوّلناه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عمر بن أبي زائدة قال: سمعت عكرمة, وسأله رجل عن قوله: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، قال: هو الملك, غير أنه بكلام النبط: « ملكوتَا » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن ابن أبي زائدة, عن عكرمة قال: هي بالنبطية: « ملكوتَا » .

وقال آخرون: معنى ذلك: آيات السماوات والأرض.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا وكيع, عن سفيان, عن منصور, عن مجاهد: « نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، قال: آيات السماوات والأرض.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، قال: آيات .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، قال: تفرجت لإبراهيم السماوات السبعُ حتى العرش, فنظر فيهنّ ، وتفرَّجت له الأرضون السبع, فنظر فيهنّ.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين » ، قال: أقيم على صخرة وفتحت له السماوات, فنظر إلى ملك الله فيها، حتى نظر إلى مكانه في الجنة. وفتحت له الأرضون حتى نظَر إلى أسفل الأرض, فذلك قوله: وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا [ سورة العنكبوت : 27 ] ، يقول: آتيناه مكانه في الجنّة، ويقال: أَجْرَهُ الثناء الحسن.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد قوله: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، قال: فرجت له السماوات فنظر إلى ما فيهنّ، حتى انتهى بصره إلى العرش، وفرجت له الأرضون السبع فنظر ما فيهنّ.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن سالم, عن سعيد بن جبير: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، قال: كشف له عن أدِيم السماواتِ والأرض، حتى نظر إليهن على صخرة, والصخرةُ، على حوت, والحوت على خاتم ربّ العِزّة لا إله إلا الله.

حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا أبو معاوية, عن عاصم, عن أبي عثمان, عن سلمان قال: لما رأى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض, رأى عبدًا على فاحشة, فدعا عليه، فهلك. ثم رأى آخر على فاحشة, فدعا عليه فهلك. ثم رأى آخر على فاحشة, فدعا عليه فهلك. فقال: أنـزلوا عبدِي لا يُهْلِك عبادِي !

حدثنا هناد قال، حدثنا قبيصة, عن سفيان, عن طلحة بن عمرو, عن عطاء قال: لما رفع الله إبراهيم في الملكوت في السماوات, أشرفَ فرأى عبدًا يزني, فدعا عليه، فهلك. ثم رُفع فأشرف، فرأى عبدًا يزني, فدعا عليه، فهلك. ثم رفع فأشرف، فرأى عبدًا يزني, فدعا عليه, فنودي: على رِسْلِك يا إبراهيم، فإنك عبد مستجابٌ لك، وإني من عبدي على ثلاث: إما أن يتوب إليّ فأتوب عليه, وإما أن أخرج منه ذرية طيبة, وإما أن يتمادى فيما هو فيه, فأنا من ورائه.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي ومحمد بن جعفر وعبد الوهاب, عن عوف, عن أسامة: أن إبراهيم خليل الرّحمن حدَّث نفسه أنه أرحمُ الخلق, وأن الله رفعه حتى أشرفَ على أهل الأرض, فأبصر أعمالهم. فلما رآهم يعملون بالمعاصي قال: اللهم دمِّر عليهم! فقال له ربه: أنا أرحم بعبادي منك, اهبطْ، فلعلهم أن يتوبوا إليّ ويُراجِعوا.

وقال آخرون: بل معنى ذلك، ما أخبر تعالى أنه أراه من النُّجوم والقمر والشمس.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر, عن جويبر, عن الضحاك: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، قال: الشمس والقمر والنجوم .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن مجاهد: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، قال: الشمس والقمر.

حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، يعني به: الشمس والقمر والنجوم.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة قال: خُبِّئ إبراهيم صلى الله عليه وسلم من جبار من الجبابرة, فجُعِل له رزقه في أصابعه, فإذا مصّ أصبعًا من أصابعه وَجَد فيها رزقًا. فلما خرج، أراه الله ملكوت السماوات والأرض. فكان ملكوت السماوات: الشمس والقمر والنجوم, وملكوت الأرض: الجبال والشجر والبحار.

حدثنا بشر بن معاذ، قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ذكر لنا أن نبيّ الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فُرَّ به من جبَّار مُتْرَف, فجعل في سَرَبٍ, وجعل رزقه في أطرافه, فجعل لا يمصُّ إصبعًا من أصابعه إلا وجد فيها رزقًا. فلما خرج من ذلك السَّرَب، أراه الله ملكوت السماوات, فأراه شمسًا وقمرًا ونجومًا وسحابًا وخلقًا عظيمًا، وأراه ملكوت الأرض, فأراه جبالا وبحورًا وأنهارًا وشجرًا ومن كلّ الدواب وخلقًا عظيمًا.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب, قولُ من قال: عنى الله تعالى ذكره بقوله: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، أنه أراه ملك السماوات والأرض, وذلك ما خلق فيهما من الشمس والقمر والنجوم والشجر والدواب وغير ذلك من عظيم سلطانه فيهما, وجلَّى له بواطنَ الأمور وظواهرَها، لما ذكرنا قبل من معنى « الملكوت » ، في كلام العرب، فيما مضى قبل.

وأما قوله: « وليكون من الموقنين » ، فإنه يعني أنه أراه ملكوت السماوات والأرض، ليكون ممن يقرّ بتوحيد الله, ويعلم حقيقة ما هداه له وبصّره إياه، من معرفة وحدانيته، وما عليه قومه من الضلالة، من عبادتهم الأصنام، واتخاذهم إياها آلهة دون الله تعالى.

وكان ابن عباس يقول في تأويل ذلك, ما:-

حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « وليكون من الموقنين » ، أنه جلَّى له الأمر سرَّه وعلانيتَه, فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق. فلما جعل يلعن أصحاب الذنوب, قال الله: إنك لا تستطيع هذا! فردَّه الله كما كان قبل ذلك.

فتأويل ذلك على هذا التأويل: أريناه ملكوت السماوات والأرض ليكون ممن يوقن علم كل شيء حسًّا لا خبرًا.

حدثني العباس بن الوليد قال، أخبرني أبي قال، حدثنا ابن جابر قال، وحدثنا الأوزاعيُّ أيضًا قال: حدثني خالد بن اللجلاج قال: سمعت عبد الرحمن بن عائش الحضرميّ يقول: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداةٍ, فقال له قائل: ما رأيتك أسفرَ وجهًا منك الغداة! قال: ومالي، وقد تبدّى لي ربّي في أحسن صورة, فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى، يا محمد؟ قلت: أنت أعلم [ يا رب ] ! فوضع يده بين كتفي فوجدت بردَها بين ثدييّ، فعلمت ما في السماوات والأرض. ثم تلا هذه الآية: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين » .

 

القول في تأويل قوله : فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ( 76 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما واراه الليل وغيّبه.

يقال منه: « جنَّ عليه الليل » , و « جنَّه الليل » , و « أجنه » , و « أجنّ عليه » . وإذا ألقيت « على » ، كان الكلام بالألف أفصح منه بغير « الألف » , « أجنه الليل » ، أفصح من « أجن عليه » و « جنّ عليه الليل » ، أفصح من « جنَّه » , وكل ذلك مقبول مسموع من العرب. « جنّه الليل » ، في أسد « وأجنه وجنه » في تميم. والمصدر من: « جن عليه » ، « جنًّا وجُنُونًا وجَنَانًا » , ومن « أجنّ » « إجنانًا » . ويقال: « أتى فلان في جِنّ الليل » . و « الجن » من ذلك لأنهم استجنُّوا عن أعين بني آدم فلا يرون. وكل ما توارى عن أبصار الناس، فإن العرب تقول فيه: « قد جَنّ » ، ومنه قول الهذلي:

وَمَـــاءٍ وَرَدْتُ قُبَيْـــلَ الكَــرَى وَقَــدْ جَنَّــهُ السَّــدَفُ الأَدْهَــمْ

وقال عبيد:

وَخَـرْقٍ تَصِيـحُ البُومُ فِيهِ مَعَ الصَّدَى مَخُـوفٍ إذَا مَـا جَنَّـهُ اللَّيْـلُ مَرْهُوبِ

ومنه: « أجننت الميت » ، إذا واريته في اللحد, و « جننته » ، وهو نظير « جنون الليل » ، في معنى غطيته. ومنه قيل للترس « مِجَنّ » لأنه يُجنّ من استجنَّ به فيغطّيه ويواريه .

وقوله: « رأى كوكبًا » ، يقول: أبصر كوكبًا حين طلع « قال هذا ربي » ، فروي عن ابن عباس في ذلك, ما:-

حدثني به المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ، يعني به الشمس والقمر والنجوم « فلما جنّ عليه الليل رأى كوكبًا قال هذا ربي » ، فعبده حتى غاب, فلما غاب قال: لا أحب الآفلين فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي ، فعبده حتى غاب، فلما غاب قال: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فعبدها حتى غابت، فلما غابت قال: يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة : « فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ » ، علم أن ربّه دائم لا يزول. فقرأ حتى بلغ: هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ ، رأى خلقًا هو أكبرَ من الخلقين الأوّلين وأنور.

وكان سبب قيل إبراهيم ذلك, ما:-

حدثني به محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثني محمد بن إسحاق فيما ذكر لنا، والله أعلم أن آزر كان رجلا من أهل كوثى، من قرية بالسوادِ، سواد الكوفة, وكان إذ ذاك ملك المشرق النمرود، فلما أراد الله أن يبعث إبراهيم [ عليه السلام، خليل الرحمن، حجة على قومه ] ، ورسولا إلى عباده, ولم يكن فيما بين نوح وإبراهيم نبيّ إلا هود وصالح، فلما تقارب زمان إبراهيم الذي أراد الله ما أراد, أتى أصحابُ النجوم نمرودَ فقالوا له: تَعَلَّمْ، أنّا نجد في عِلْمنا أن غلامًا يولد في قريتك هذه يقال له « إبراهيم » , يفارق دينكم، ويكسر أوثانكم، في شهر كذا وكذا من سنة كذا وكذا . فلما دخلت السنة التي وصف أصحابُ النجوم لنمرود, بعث نمرود إلى كل امرأة حبلى بقريته فحبسها عنده إلا ما كان من أمّ إبراهيم امرأة آزر, فإنه لم يعلم بحبَلها, وذلك أنها كانت امرأة حَدَثة، فيما يذكر، لم تعرف الحبَل في بطنها، ولِمَا أرادَ الله أن يبلغ بولدها، يريدُ أن يقتل كل غلام ولد في ذلك الشهر من تلك السنة، حذرًا على ملكه. فجعلَ لا تلد امرأة غلامًا في ذلك الشهر من تلك السنة، إلا أمر به فذبح. فلما وجدت أم إبراهيم الطَّلقَ خرجت ليلا إلى مغارة كانت قريبًا منها, فولدت فيها إبراهيم, وأصلحت من شأنه ما يُصْنع بالمولود, ثم سَدّت عليه المغارة, ثم رجعت إلى بيتها، ثم كانت تطالعه في المغارة فتنظر ما فعل, فتجده حيًّا يمصّ إبهامه, يزعمون، والله أعلم، أن الله جعل رزق إبراهيم فيها وما يجيئه من مصّه. وكان آزر، فيما يزعمون, سأل أمّ إبراهيم عن حمْلها ما فعل، فقالت: ولدت غلامًا فمات! فصدّقها, فسكت عنها. وكان اليوم، فيما يذكرون، على إبراهيم في الشَّباب كالشهر، والشهر كالسنة. فلم يلبث إبراهيم في المغارة إلا خمسة عشر شهرًا حتى قال لأمه: أخرجيني أنظر! فأخرجته عِشاء فنظر، وتفكر في خلق السماوات والأرض, وقال: « إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني لربّي, ما لي إله غيره » ! ثم نظر في السماء فرأى كوكبًا، قال: « هذا ربي » ، ثم اتّبعه ينظر إليه ببصره حتى غاب, فلما أفل قال: « لا أحب الآفلين » ، ثم طلع القمر فرآه بازغًا، قال: هَذَا رَبِّي ، ثم اتّبعه ببصره حتى غاب, فلما أفل قال: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ! فلما دخل عليه النهار وطلعت الشمس, أعظَمَ الشمسَ, ورأى شيئًا هو أعظم نورًا من كل شيء رآه قبل ذلك, فقال: هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ ! فلما أفلت قال: يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . ثم رجع إبراهيم إلى أبيه آزر وقد استقامت وجهته، وعرف ربَّه، وبرئ من دين قومه, إلا أنه لم يبادئهم بذلك. وأخبر أنه ابنه, وأخبرته أم إبراهيم أنه ابنه, وأخبرته بما كانت صنعت من شأنه, فسرَّ بذلك آزر وفرح فرحًا شديدًا. وكان آزر يصنع أصنام قومِه التي يعبدونها, ثم يعطيها إبراهيم يبيعها, فيذهب بها إبراهيم، فيما يذكرون, فيقول : « من يشتري ما يضرُّه ولا ينفعه » ، فلا يشتريها منه أحد. فإذا بارت عليه, ذهب بها إلى نهر فصوَّبَ فيه رؤوسها, وقال: « اشربي » ، استهزاء بقومه وما هم عليه من الضلالة، حتى فشا عيبُه إياها واستهزاؤُه بها في قومه وأهل قريته, من غير أن يكون ذلك بلغ نمرودَ الملك.

قال أبو جعفر: وأنكر قوم من غير أهل الرواية هذا القول الذي روي عن ابن عباس وعمن روي عنه، من أن إبراهيم قال للكوكب أو للقمر: « هذا ربي » ، وقالوا: غير جائز أن يكون لله نبيٌّ ابتعثه بالرسالة، أتى عليه وقتٌ من الأوقات وهو بالغٌ إلا وهو لله موحدٌ، وبه عارف، ومن كل ما يعبد من دونه برئ. قالوا: ولو جاز أن يكون قد أتى عليه بعض الأوقات وهو به كافر، لم يجز أن يختصه بالرسالة, لأنه لا معنى فيه إلا وفي غيره من أهل الكفر به مثله, وليس بين الله وبين أحد من خلقه مناسبة، فيحابيه باختصاصه بالكرامة. قالوا: وإنما أكرم من أكرم منهم لفضله في نفسه, فأثابه لاستحقاقه الثوابَ بما أثابه من الكرامة. وزعموا أن خبرَ الله عن قيل إبراهيم عند رؤيته الكوكب أو القمر أو الشمس: « هذا ربي » , لم يكن لجهله بأن ذلك غير جائز أن يكون ربّه، وإنما قال ذلك على وجه الإنكار منه أن يكون ذلك ربه, وعلى العيب لقومه في عبادتهم الأصنام, إذْ كان الكوكبُ والقمرُ والشمسُ أضوأ وأحسنَ وأبهجَ من الأصنام, ولم تكن مع ذلك معبودة, وكانت آفلةً زائلة غير دائمة, والأصنام التي [ هي ] دونها في الحسن وأصغرَ منها في الجسم, أحقُّ أن لا تكون معبودة ولا آلهة. قالوا: وإنما قال ذلك لهم، معارضةً, كما يقول أحد المتناظرين لصاحبه معارضًا له في قولٍ باطلٍ قال به بباطل من القول، على وجه مطالبته إياه بالفُرْقان بين القولين الفاسدين عنده، اللذين يصحِّح خصمه أحدَهما ويدعي فسادَ الآخر.

وقال آخرون منهم: بل ذلك كان منه في حال طفولته، وقبل قيام الحجة عليه. وتلك حال لا يكون فيها كفر ولا إيمان.

وقال آخرون منهم: إنما معنى الكلام: أهذا ربي ؟ على وجه الإنكار والتوبيخ، أي: ليس هذا ربي. وقالوا: قد تفعل العرب مثل ذلك, فتحذف « الألف » التي تدلّ على معنى الاستفهام. وزعموا أن من ذلك قول الشاعر:

رَفَـوْنِي وَقَـالُوا: يَـا خُوَيْلِدُ, لا تُرَعْ ! فَقُلْـتُ, وأَنْكَـرْتُ الوُجُـوهَ: هُـمُ هُمُ?

يعني: أهم هم؟ قالوا: ومن ذلك قول أوس:

لَعَمْـرُكَ مَـا أَدْرِي, وَإنْ كُـنْتُ دَارِيًا, شُـعَيْثَ بـنَ سَـهْمٍ أم شُعَيْثَ بْنَ مِنْقَرِ

بمعنى: أشعيث بن سهم؟ فحذف « الألف » ، ونظائر ذلك. وأما تذكير « هذا » في قوله: فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي ، فإنما هو على معنى: هذا الشيء الطالع ربِّي.

قال أبو جعفر: وفي خبر الله تعالى عن قيل إبراهيم حين أفل القمر: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ، الدليلُ على خطأ هذه الأقوال التي قالها هؤلاء القوم، وأنّ الصوابَ من القول في ذلك، الإقرارُ بخبر الله تعالى الذي أخبر به عنه، والإعراض عما عداه.

وأما قوله: « فلما أفل » ، فإن معناه: فلما غاب وذهب، كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، قال ابن إسحاق: « الأفول » ، الذهاب.

يقال منه: « أفل النجم يأفُلُ ويأفِلُ أفولا وأفْلا » ، إذا غاب، ومنه قول ذي الرمة:

مَصَــابِيحُ لَيْسَـتْ بِـالَّلوَاتِي تَقُودُهَـا نُجُــومٌ, وَلا بــالآفِلاتِ الــدَّوَالِكِ

ويقال : « أين أفلت عنا » بمعنى: أين غبت عنا ؟

 

القول في تأويل قوله : فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ( 77 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما طلع القمر فرآه إبراهيم طالعًا، وهو « بُزُوغه » .

يقال منه: « بزغت الشمس تَبْزُغُ بزُوغًا » ، إذا طلعت, وكذلك القمر.

« قال هذا ربي فلما أفل » ، يقول: فلما غاب « قال » ، إبراهيم، « لئن لم يهدني ربي » ، ويوفقني لإصابة الحق في توحيده « لأكونن من القوم الضالين » ، أيْ: من القوم الذين أخطؤوا الحق في ذلك, فلم يصيبوا الهدى, وعبدوا غير الله.

وقد بينا معنى « الضلال » ، في غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

 

القول في تأويل قوله : فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ( 78 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله « فلما رأى الشمس بازغة » ، فلما رأى إبراهيم الشمس طالعةً, قال: هذا الطالعُ ربّي « هذا أكبر » ، يعني: هذا أكبر من الكوكب والقمر فحذف ذلك لدلالة الكلام عليه « فلما أفلت » ، يقول: فلما غابت, قال إبراهيم لقومه « يا قوم إنّي بريء مما تشركون » ، أي: من عبادة الآلهة والأصنام ودعائه إلهًا مع الله تعالى ذكره.

 

القول في تأويل قوله : إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 79 )

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن خليله إبراهيم عليه السلام: أنه لما تبيّن له الحق وعرَفه, شهد شهادةَ الحقّ, وأظهر خلاف قومِه أهلِ الباطل وأهلِ الشرك بالله، ولم يأخذه في الله لومة لائم, ولم يستوحش من قِيل الحقِّ والثبات عليه, مع خلاف جميع قومه لقوله، وإنكارهم إياه عليه, وقال لهم: « يا قوم إنّي بريء مما تشركون » مع الله الذي خلقني وخلقكم في عبادته من آلهتكم وأصنامكم, إني وجهت وجهي في عبادتي إلى الذي خلق السماوات والأرض, الدائم الذي يبقى ولا يفنى، ويُحْيي ويميت لا إلى الذي يفنى ولا يبقى، ويزول ولا يدوم، ولا يضر ولا ينفع.

ثم أخبرهم تعالى ذكره: أن توجيهه وجهه لعبادته، بإخلاص العبادة له، والاستقامة في ذلك لربه على ما يحبُّ من التوحيد, لا على الوجه الذي يوجَّه له وَجْهه من ليس بحنيف, ولكنه به مشرك, إذ كان توجيه الوجه على غير التحنُّف غير نافع موجِّهه، بل ضارّه ومهلكه « وما أنا من المشركين » ، ولست منكم ، أي : لست ممن يدين دينكم، ويتّبع ملّتكم أيُّها المشركون.

وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن زيد يقول:

13465م - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول قوم إبراهيم لإبراهيم: تركت عبادة هذه؟ فقال: « إني وجّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض » ، فقالوا: ما جئت بشيء! ونحن نعبده ونتوجّهه! فقال : لا حنيفًا!! قال: مخلصًا, لا أشركه كما تُشْركون.

 

القول في تأويل قوله : وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ( 80 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وجادل إبراهيم قومه في توحيد الله وبراءته من الأصنام، وكان جدالهم إياه قولُهم: أن آلهتهم التي يعبدونها خير من إلهه. قال إبراهيم: « أتحاجوني في الله » ، يقول: أتجادلونني في توحيدي الله وإخلاصي العمل له دون ما سواه من آلهة « وقد هداني » ، يقول: وقد وفقني ربي لمعرفة وحدانيته, وبصّرني طريق الحقّ حتى أيقنتُ أن لا شيء يستحق أن يعبد سواه « ولا أخاف ما تشركون به » ، يقول: ولا أرهب من آلهتكم التي تدعونها من دونه شيئًا ينالني به في نفسي من سوء ومكروه. وذلك أنهم قالوا له: « إنا نخاف أن تمسَّك آلهتنا بسوء من برص أو خبل, لذكرك إياها بسوء » ! فقال لهم إبراهيم: لا أخاف ما تشركون بالله من هذه الآلهة أن تنالَنِي بضر ولا مكروه, لأنها لا تنفع ولا تضر « إلا أن يشاء ربي شيئًا » ، يقول: ولكن خوفي من الله الذي خلقني وخلق السماوات والأرض, فإنه إن شاء أن ينالني في نفسي أو مالي بما شاء من فناء أو بقاءٍ، أو زيادة أو نقصان أو غير ذلك، نالني به, لأنه القادر على ذلك.

وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن جريج يقول:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: « وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هداني » ، قال: دعا قومُه مع الله آلهةً, وخوّفوه بآلهتهم أن يصيبَه منها خَبَل, فقال إبراهيم: « أتحاجوني في الله وقد هداني » ، قال: قد عرفت ربّي, لا أخاف ما تشركون به.

« وسع ربي كل شيء علمًا » ، يقول: وعلم ربي كلَّ شيء، فلا يخفى عليه شيء, لأنه خالق كل شيء, وليس كالآلهة التي لا تضرّ ولا تنفع ولا تفهم شيئًا, وإنما هي خشبة منحوتةٌ، وصورة ممثلة « أفلا تتذكرون » ، يقول: أفلا تعتبرون، أيها الجهلة، فتعقلوا خطأ ما أنتم عليه مقيمون، من عبادتكم صورةً مصوّرة وخشبة منحوتة, لا تقدر على ضر ولا على نفع، ولا تفقه شيئًا ولا تعقله وترككم عبادةَ من خلقكم وخلق كلّ شيء, وبيده الخير، وله القدرة على كل شيء، والعالم لكل شيء .

 

القول في تأويل قوله : وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَـزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 81 )

قال أبو جعفر: وهذا جواب إبراهيم لقومه حين خوفوه من آلهتهم أن تمسَّه، لذكره إياها بسوء في نفسه بمكروه, فقال لهم: وكيف أخاف وأرهب ما أشركتموه في عبادتكم ربَّكم فعبدتموه من دونه، وهو لا يضر ولا ينفع ؟ ولو كانت تنفع أو تضر، لدفعت عن أنفسها كسرِى إياها وضربي لها بالفأس! وأنتم لا تخافون الله الذي خلقكم ورزقكم، وهو القادر على نفعكم وضركم في إشراككم في عبادتكم إياه « ما لم ينـزل به عليكم سلطانًا » ، يعني: ما لم يعطكم على إشراككم إياه في عبادته حُجّة, ولم يضع لكم عليه برهانًا, ولم يجعل لكم به عذرًا « فأي الفريقين أحقّ بالأمن » ، يقول: أنا أحق بالأمن من عاقبة عبادتي ربّي مخلصًا له العبادة، حنيفًا له ديني، بريئًا من عبادة الأوثان والأصنام, أم أنتم الذين تعبدون من دون الله أصنامًا لم يجعل الله لكم بعبادتكم إياها برهانًا ولا حجة « إن كنتم تعلمون » ، يقول: إن كنتم تعلمون صدق ما أقول، وحقيقة ما أحتجُّ به عليكم, فقولوا وأخبروني: أيُّ الفريقين أحق بالأمن؟

وبنحو الذي قلنا في ذلك, كان محمد بن إسحاق يقول فيما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال محمد بن إسحاق في قوله: « وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله » ، يقول : كيف أخاف وثَنًا تعبدون من دون الله لا يضرُّ ولا ينفع, ولا تخافون أنتم الذي يضر وينفع, وقد جعلتم معه شركاء لا تضر ولا تنفع ؟ « فأيّ الفريقين أحقّ بالأمن إن كنتم تعلمون » ، أي: بالأمن من عذاب الله في الدنيا والآخرة، الذي يَعْبد الذي بيده الضرّ والنفع، أم الذي يعبد ما لا يضرّ ولا ينفع؟ يضرب لهم الأمثال, ويصرِّف لهم العبر, ليعلموا أنَّ الله هو أحق أن يخاف ويعبد مما يعبُدون من دونه.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قال: أفلج الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين خاصمهم, فقال: « وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينـزل به عليكم سلطانًا فأيّ الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون » ؟ ثم قال: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قول إبراهيم حين سألهم: « أيُّ الفريقين أحق بالأمن » ، هي حجة إبراهيم صلى الله عليه وسلم.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره، قال إبراهيم حين سألهم: « فأي الفريقين أحق بالأمن » ؟ قال: وهي حجة إبراهيم عليه السلام .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: « فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون » ، أمَنْ يعبد ربًّا واحدًا, أم من يعبد أربابًا كثيرة؟ يقول قومه: الذين آمنوا برب واحد.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون » ، أمن خاف غير الله ولم يخفه، أم من خاف الله ولم يخف غيره؟ فقال الله تعالى ذكره: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ، الآية.