القول في تأويل قوله : الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ( 82 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذي أخبر تعالى ذكره عنه أنه قال هذا القول أعني: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، الآية.

فقال بعضهم: هذا فصلُ القضاء من الله بين إبراهيم خليله صلى الله عليه وسلم، وبين من حاجّه من قومه من أهل الشرك بالله, إذ قال لهم إبراهيم: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَـزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ؟ فقال الله تعالى ذكره، فاصلا بينه وبينهم: الذين صدَّقوا الله وأخلصُوا له العبادة, ولم يخلطوا عبادتهم إياه وتصديقهم له بظلم يعني: بشرك ولم يشركوا في عبادته شيئًا, ثم جعلوا عبادتهم لله خالصًا، أحقّ بالأمن من عقابه مكروهَ عبادته ربَّه، من الذين يشركون في عبادتهم إياه الأوثان والأصنامَ, فإنهم الخائفون من عقابه مكروه عبادتهم أمَّا في عاجل الدنيا فإنهم وجِلون من حلول سخَط الله بهم, وأما في الآخرة، فإنهم الموقنون بأليم عذابِ الله.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، يقول الله تعالى ذكره: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، أي: الذين أخلصوا كإخلاص إبراهيم صلى الله عليه وسلم لعبادة الله وتوحيده « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، أي: بشرك « أولئك لهم الأمن وهم مهتدون » ، الأمن من العذاب، والهدى في الحجة بالمعرفة والاستقامة. يقول الله تعالى ذكره: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، قال فقال الله وقضى بينهم: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك. قال: « أولئك لهم الأمن وهم مهتدون » ، فأما الذنوبُ فليس يبري منها أحدٌ.

وقال آخرون: هذا جوابٌ من قوم إبراهيم صلى الله عليه وسلم لإبراهيم، حين قال لهم: « أيُّ الفريقين أحق بالأمن » ؟ فقالوا له: الذين آمنوا بالله فوحّدوه أحق بالأمن، إذا لم يلبسوا إيمانهم بظلم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، أمن يعبد ربًّا واحدًا أم من يعبد أربابًا كثيرة؟ يقول قومه: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، بعبادة الأوثان, وهي حجة إبراهيم « أولئك لهم الأمن وهم مهتدون » .

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب, قولُ من قال: هذا خبرٌ من الله تعالى ذكره عن أولى الفريقين بالأمن, وفصل قضاءٍ منه بين إبراهيم صلى الله عليه وسلم وبين قومه. وذلك أن ذلك لو كان من قول قوم إبراهيم الذين كانوا يعبدون الأوثان ويشركونها في عبادة الله, لكانوا قد أقروا بالتوحيد واتبعوا إبراهيم على ما كانوا يخالفونه فيه من التوحيد, ولكنه كما ذكرت من تأويله بَدِيًّا.

واختلف أهل التأويل في المعنى الذي عناه الله تعالى بقوله: « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » .

فقال بعضهم: بشرك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله قال: لما نـزلت هذه الآية: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا ترونَ إلى قول لقمان: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ، [ سورة لقمان : 13 ] ؟

قال أبو كريب قال « ابن إدريس، حدثنيه أوّلا أبي » ، عن أبان بن تغلب, عن الأعمش, ثم سمعتُه قيل له: مِنَ الأعمش؟ قال: نعم!

حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي قال، حدثني عمي يحيى بن عيسى, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله قال: لما نـزلت: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، شقَّ ذلك على المسلمين, فقالوا: يا رسول الله، ما منّا أحدٌ إلا وهو يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ليس بذلك, ألا تسمعون إلى قول لقمان لابنه إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ؟ »

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله قال: لما نـزلت هذه الآية: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، شقَّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أيُّنا لم يظلم نفسه؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس كما تظنُّون, وإنما هو ما قال لقمان لابنه: لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ .

حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية , عن الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله قال: لما نـزلت هذه الآية: « الذين آمنوا ولم يلبسُوا إيمانهم بظلم » ، شق ذلك على الناس, فقالوا: يا رسول الله, وأيُّنا لا يظلم نفسه؟ فقال: « إنه ليس كما تعنون, ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ؟ إنما هو الشرك » .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة في قوله: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك.

حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل, عن منصور, عن إبراهيم في قوله: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير عن الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله قال: لما نـزلت هذه الآية: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقالوا: أيُّنا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس بذلك, ألم تسمعوا قول لقمان: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ؟

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير وابن إدريس, عن الشيباني, عن أبي بكر بن أبي موسى, عن الأسود بن هلال, عن أبي بكر: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك.

حدثنا هناد قال، حدثنا قبيصة, عن يونس بن أبي إسحاق, عن أبي إسحاق، عن أبي بكر: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك.

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع, عن سعيد بن عبيد الطائي, عن أبي الأشعر العبدي, عن أبيه: أن زيد بن صوحان سأل سلمان فقال: يا أبا عبد الله، آيةٌ من كتاب الله قد بلغت منِّي كل مبلغ: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ! فقال سلمان: هو الشرك بالله تعالى ذكره. فقال زيد: ما يسرُّني بها أنّي لم أسمعها منك، وأنّ لي مثل كل شيء أمسيتُ أملكه.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سعيد بن عبيد, عن أبي الأشعر, عن أبيه, عن سلمان قال: بشرك.

حدثنا ابن بشار وابن وكيع قالا حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا نسير بن ذعلوق, عن كردوس, عن حذيفة في قوله: « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم, عن أبي إسحاق الكوفي, عن رجل, عن عيسى, عن حذيفة في قوله: « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك.

حدثني المثنى قال، حدثنا عارم أبو النعمان قال، حدثنا حماد بن زيد, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير وغيره: أن ابن عباس كان يقول: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، يقول: بكفر.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه , عن ابن عباس: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، يقول: لم يلبسوا إيمانهم بالشرك. وقال: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ . [ سورة لقمان: 13 ]

حدثنا نصر بن علي الجهضمي قال، حدثني أبي قال، حدثنا جرير بن حازم, عن علي بن زيد, عن المسيّب: أن عمر بن الخطاب قرأ : « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، فلما قرأها فزع, فأتى أبيّ بن كعب فقال: يا أبا المنذر، قرأتُ آية من كتاب الله، مَنْ يَسْلم؟ فقال: ما هي؟ فقرأها عليه فأيُّنا لا يظلِمُ نفسه؟ فقال: غفر الله لك! أما سمعت الله تعالى ذكره يقول: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ؟ إنما هو: ولم يلبسوا إيمانهم بشرك.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون, عن حماد بن سلمة, عن علي بن زيد بن جدعان, عن يوسف بن مهران, عن ابن عباس: أن عمر دخل منـزله فقرأ في المصحف، فمرّ بهذه الآية: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، فأتى أبيًّا فأحبره, فقال: يا أمير المؤمنين، إنما هو الشرك.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد, عن علي بن زيد, عن يوسف بن مهران، عن [ ابن مهران ] : أنَّ عمر بن الخطاب كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأه, فدخل ذات يوم فقرأ, فأتى على هذه الآية: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون » ، فانفتَل وأخذ رداءه, ثم أتى أبيّ بن كعب فقال: يا أبا المنذر فتلا هذه الآية: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » وقد ترى أنا نظلِم، ونفعل ونفعل! فقال: يا أمير المؤمنين, إن هذا ليس بذاك, يقول الله تعالى ذكره: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ، إنما ذلك الشرك.

حدثنا هناد قال، حدثنا بن فضيل, عن مطرف, عن أبي عثمان عمرو بن سالم قال: قرأ عمر بن الخطاب هذه الآية: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، فقال عمر: قد أفلح من لم يلبس إيمانه بظلم! فقال أبيّ: يا أمير المؤمنين، ذاك الشرك!

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أسباط, عن محمد بن مطرف, عن ابن سالم قال: قرأ عمر بن الخطاب، فذكر نحوه.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن أبي ميسرة في قوله: « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة, مثله.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حسين، عن علي, عن زائدة, عن الحسن بن عبيد الله, عن إبراهيم: « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، أي: بشرك.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد, عن أبيه, عن أبي إسحاق, عن أبي ميسرة, مثله .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بعبادة الأوثان.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك .

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك.

حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الأعمش: أن ابن مسعود قال: لما نـزلت: « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، كبُر ذلك على المسلمين, فقالوا: يا رسول الله, ما منا أحدٌ إلا وهو يظلم نفسه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما سمعتم قول لقمان: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد في قوله: « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: عبادة الأوثان.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بشر, عن مسعر, عن أبي حصين, عن أبي عبد الرحمن، قال: بشرك.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق : « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولم يخلطوا إيمانهم بشيء من معاني الظلم، وذلك: فعلُ ما نهى الله عن فعله، أو ترك ما أمر الله بفعله، وقالوا: الآية على العموم , لأن الله لم يخصَّ به معنى من معاني الظلم.

قالوا: فإن قال لنا قائل: أفلا أمْن في الآخرة، إلا لمن لم يعص الله في صغيرة ولا كبيرة , وإلا لمن لقى الله ولا ذنبَ له؟

قلنا: إن الله عنى بهذه الآية خاصًّا من خلقه دون الجميع منهم، والذي عنى بها وأراده بها، خليلَه إبراهيم صلى الله عليه وسلم, فأما غيره، فإنه إذا لقي الله لا يشرك به شيئًا فهو في مشيئته إذا كان قد أتى بعض معاصيه التي لا تبلغ أن تكون كفرًا, فإن شاء لم يؤمنه من عذابه, وإن شاء تفضل عليه فعفا عنه.

قالوا: وذلك قول جماعة من السلف، وإن كانوا مختلفين في المعنيِّ بالآية.

فقال بعضهم: عُني بها إبراهيم.

وقال بعضهم: عني بها المهاجرون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

* ذكر من قال: عنى بهذه الآية إبراهيم خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان وحميد بن عبد الرحمن, عن قيس بن الربيع, عن زياد بن علاقة, عن زياد بن حرملة, عن علي قال: هذه الآية لإبراهيم صلى الله عليه وسلم خاصة, ليس لهذه الأمة منها شيء.

* ذكر من قال: عني بها المهاجرون خاصة.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان وحميد بن عبد الرحمن, عن قيس بن الربيع, عن سماك, عن عكرمة: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: هي لمن هاجر إلى المدينة.

قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصحة في ذلك, ما صح به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو الخبر الذي رواه ابن مسعود عنه أنه قال: الظلم الذي ذكره الله تعالى ذكره في هذا الموضع، هو الشرك.

وأما قوله: « أولئك لهم الأمن وهم مهتدون » ، فإنه يعني: هؤلاء الذين آمنوا ولم يخلطوا إيمانهم بشرك « لهم الأمن » يوم القيامة من عذاب الله « وهم مهتدون » ، يقول: وهم المصيبون سبيل الرشاد، والسالكون طريق النجاة.

 

القول في تأويل قوله : وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( 83 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وتلك حجتنا » ، قولَ إبراهيم لمخاصميه من قومه المشركين: « أي الفريقين أحق بالأمن » , أمن يعبد ربًّا واحدًا مخلصًا له الدين والعبادة، أم من يعبد أربابًا كثيرة؟ وإجابتهم إياه بقولهم: « بل من يعبد ربًّا واحدًا أحق بالأمن » ، وقضاؤهم له على أنفسهم, فكان في ذلك قطع عذرهم وانقطاع حجتهم، واستعلاء حجة إبراهيم عليهم. فهي الحجة التي آتاها الله إبراهيم على قومه، كالذي:-

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان الثوري, عن رجل, عن مجاهد: « وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه » ، قال: هي « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » .

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا يحيى بن زكريا, عن ابن جريج, عن مجاهد قال : قال إبراهيم حين سأل: « أي الفريقين أحق بالأمن » ، قال: هي حجة إبراهيم وقوله: « آتيناها إبراهيم على قومه » ، يقول: لقناها إبراهيم وبَصَّرناه إياها وعرفّناه « على قومه نرفع درجات من نشاء » .

واختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته عامة قرأة الحجاز والبصرة: « نَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَنْ نَشَاءُ » ، بإضافة « الدرجات » إلى « من » , بمعنى: نرفع الدرجات لمن نشاء.

وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفة نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ بتنوين « الدرجات » , بمعنى: نرفع من نشاء درجات.

و « الدرجات » جمع « درجة » ، وهي المرتبة. وأصل ذلك مراقي السلم ودرَجه, ثم تستعمل في ارتفاع المنازل والمراتب.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: هما قراءتان قد قرأ بكل واحدة منهما أئمة من القرأة، متقارب معناهما. وذلك أن من رفعت درجته، فقد رفع في الدرج ومن رفع في الدرج، فقد رفعت درجته. فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ في ذلك.

فمعنى الكلام إذًا: « وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه » ، فرفعنا بها درجته عليهم، وشرّفناه بها عليهم في الدنيا والآخرة. فأما في الدنيا، فآتيناه فيها أجره وأما في الآخرة، فهو من الصالحين « نرفع درجات من نشاء » ، أي بما فعل من ذلك وغيره.

وأما قوله: « إن ربك حكيم عليم » ، فإنه يعني: إن ربك، يا محمد، « حكيم » ، في سياسته خلقَه، وتلقينه أنبياءه الحجج على أممهم المكذّبة لهم، الجاحدة توحيد ربهم, وفي غير ذلك من تدبيره « عليم » ، بما يؤول إليه أمر رسله والمرسل إليهم، من ثبات الأمم على تكذيبهم إياهم، وهلاكهم على ذلك، أوإنابتهم وتوبتهم منه بتوحيد الله تعالى ذكره وتصديق رسله، والرجوع إلى طاعته.

يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: فأتَسِ، يا محمد، في نفسك وقومك المكذبيك، والمشركين، بأبيك خليلي إبراهيم صلى الله عليه وسلم, واصبر على ما ينوبك منهم صبرَه, فإني بالذي يؤول إليه أمرك وأمرهم عالم، وبالتدبير فيك وفيهم حكيم.

 

القول في تأويل قوله : وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 84 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فجزينا إبراهيم صلى الله عليه وسلم على طاعته إيانا، وإخلاصه توحيد ربه, ومفارقته دين قومه المشركين بالله، بأن رفعنا درجته في عليين, وآتيناه أجره في الدنيا، ووهبنا له أولادًا خصصناهم بالنبوّة, وذرية شرفناهم منا بالكرامة، وفضلناهم على العالمين, منهم: ابنه إسحاق, وابن ابنه يعقوب « كلا هدينا » ، يقول: هدينا جميعهم لسبيل الرشاد, فوفقناهم للحق والصواب من الأديان « ونوحًا هدينا من قبل » ، يقول: وهدينا لمثل الذي هدينا إبراهيم وإسحاق ويعقوب من الحق والصواب، فوفقناه له نوحًا، من قبل إبراهيم وإسحاق ويعقوب.

« ومن ذريته داود » ، و « الهاء » التي في قوله: « ومن ذريته » ، من ذكر نوح. وذلك أن الله تعالى ذكره ذكر في سياق الآيات التي تتلو هذه الآية لوطًا فقال: وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ . ومعلوم أن لوطًا لم يكن من ذرية إبراهيم صلى الله عليهم أجمعين. فإذا كان ذلك كذلك, وكان معطوفًا على أسماء من سمَّينا من ذريته, كان لا شك أنه لو أريد بالذرية ذرية إبراهيم، لما دخل يونس ولوط فيهم. ولا شك أن لوطًا ليس من ذرّية إبراهيم، ولكنه من ذرية نوح, فلذلك وجب أن تكون « الهاء » في « الذرية » من ذكر نوح.

فتأويل الكلام: ونوحًا وفقنا للحق والصواب من قبل إبراهيم وإسحاق ويعقوب, وهدينا أيضًا من ذرّية نوح، داود وسليمان.

و « داود » ، هو داود بن إيشا و « سليمان » هو ابنه: سليمان بن داود و « أيوب » ، هو أيوب بن موص بن رزاح بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم و « يوسف » ، هو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم و « موسى » ، هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب و « هارون » ، أخو موسى.

« وكذلك نجزي المحسنين » ، يقول تعالى ذكره: جزينا نوحًا بصبره على ما امتحن به فينا، بأن هديناه فوفقناه لإصابة الحق الذي خذلنا عنه من عصانا فخالف أمرنا ونهينا من قومه, وهدينا من ذريته من بعده من ذكر تعالى ذكره من أنبيائه لمثل الذي هديناه له. وكما جزينا هؤلاء بحسن طاعتهم إيانا وصبرهم على المحن فينا, كذلك نجزي بالإحسان كل محسن.

 

القول في تأويل قوله : وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ( 85 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهدينا أيضًا لمثل الذي هدينا له نوحًا من الهدى والرشاد من ذريته: زكريا بن إدُّو بن برخيَّا، ويحيى بن زكريا, وعيسى ابن مريم ابنة عمران بن ياشهم بن أمون بن حزقيا, وإلياس .

واختلفوا في « إلياس » .

فكان ابن إسحاق يقول: هو إلياس بن يسى بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران، ابن أخي موسى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم.

وكان غيره يقول: هو إدريس. وممن ذكر ذلك عنه عبد الله بن مسعود.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن عبيدة بن ربيعة, عن عبد الله بن مسعود قال: « إدريس » ، هو « إلياس » , و « إسرائيل » ، هو « يعقوب » .

وأما أهل الأنساب فإنهم يقولون: « إدريس » ، جدّ نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ، و « أخنوخ » هو « إدريس بن يرد بن مهلائيل » . وكذلك روي عن وهب بن منبه.

والذي يقول أهل الأنساب أشبه بالصواب. وذلك أنّ الله تعالى ذكره نسب « إلياس » في هذه الآية إلى « نوح » ، وجعله من ذريته، و « نوح » ابن إدريس عند أهل العلم, فمحال أن يكون جدّ أبيه منسوبًا إلى أنه من ذريته.

وقوله: « كل من الصالحين » ، يقول: من ذكرناه من هؤلاء الذين سمينا « من الصالحين » , يعني: زكريا ويحيى وعيسى وإلياس صلى الله عليهم.

 

القول في تأويل قوله : وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ( 86 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهدينا أيضًا من ذرية نوح « إسماعيل » وهو: إسماعيل بن إبراهيم « واليسع » ، هو اليسع بن أخْطُوب بن العجوز.

واختلفت القرأة في قراءة اسمه.

فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق: ( وَالْيَسَعَ ) بلام واحدة مخففة.

وقد زعم قوم أنه « يفعل » , من قول القائل: « وسِعَ يسع » . ولا تكاد العرب تدخل « الألف واللام » على اسم يكون على هذه الصورة أعني على « يفعل » لا يقولون: « رأيت اليزيد » ولا « أتاني اليَحْيَى » ولا « مررت باليشكر » , إلا في ضرورة شعر , وذلك أيضًا إذا تُحُرِّي به المدح, كما قال بعضهم:

وَجَدْنَـا الْوَليـدَ بْـنَ الْـيَزِيدَ مُبَارَكًـا شَــدِيدًا بِأَحْنَــاءِ الْخِلافَـةِ كَاهِلُـهْ

فأدخل في « اليزيد » الألف واللام, وذلك لإدخاله إياهما في « الوليد » , فأتبعه « اليزيد » بمثل لفظه.

وقرأ ذلك جماعة من قرأة الكوفيين: ( وَاللَّيْسَعَ ) بلامين، وبالتشديد, وقالوا: إذا قرئ كذلك، كان أشبه بأسماء العجم، وأنكروا التخفيف. وقالوا: لا نعرف في كلام العرب اسمًا على « يفعل » فيه ألف ولام.

قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندي، قراءةُ من قرأه بلام واحدة مخففة, لإجماع أهل الأخبار على أن ذلك هو المعروف من اسمه، دون التشديد, مع أنه اسم أعجمي، فينطق به على ما هو به. وإنما يُعْلَم دخول « الألف واللام » فيما جاء من أسماء العرب على « يفعل » . وأما الاسم الذي يكون أعجميًّا، فإنما ينطق به على ما سَمَّوا به. فإن غُيِّرَ منه شيء إذا تكلمت العرب به، فإنما يغيّر بتقويم حرف منه من غير حذف ولا زيادة فيه ولا نقصان. و « الليسع » إذا شدد، لحقته زيادة لم تكن فيه قبل التشديد. وأخرى، أنه لم يحفظ عن أحد من أهل العلم علمنا أنه قال: اسمه « ليسع » . فيكون مشددًا عند دخول « الألف واللام » اللتين تدخلان للتعريف.

و « يونس » هو: يونس بن متى « ولوطًا وكلا فضلنا » ، من ذرية نوح ونوحًا, لهم بينا الحق ووفقناهم له، وفضلنا جميعهم « على العالمين » ، يعني: على عالم أزمانهم.

 

القول في تأويل قوله : وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 87 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهدينا أيضًا من آباء هؤلاء الذين سماهم تعالى ذكره « ومن ذرياتهم وإخوانهم » ، آخرين سواهم، لم يسمهم، للحق والدين الخالص الذي لا شرك فيه, فوفقناهم له « واجتبيناهم » ، يقول: واخترناهم لديننا وبلاغ رسالتنا إلى من أرسلناهم إليه, كالذي اخترنا ممن سمَّينا.

يقال منه: « اجتبى فلان لنفسه كذا » ، إذا اختاره واصطفاه، « يجتبيه اجتباء » .

وكان مجاهد يقول في ذلك ما:-

حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « واجتبيناهم » ، قال: أخلصناهم.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله .

« وهديناهم إلى صراط مستقيم » ، يقول: وسدّدناهم فأرشدناهم إلى طريق غير معوجّ, وذلك دين الله الذي لا عِوَج فيه, وهو الإسلام الذي ارتضاه الله ربُّنا لأنبيائه, وأمر به عباده.

 

القول في تأويل قوله : ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 88 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « ذلك هدى الله » ، هذا الهدي الذي هديت به من سميت من الأنبياء والرسل، فوفقتهم به لإصابة الدين الحقّ الذي نالوا بإصابتهم إياه رضا ربهم، وشرفَ الدنيا، وكرامة الآخرة, هو « هدى الله » , يقول: هو توفيق الله ولطفه, الذي يوفق به من يشاء، ويلطف به لمن أحب من خلقه, حتى ينيب إلى طاعة الله، وإخلاص العمل له، وإقراره بالتوحيد، ورفضِ الأوثان والأصنام « ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون » ، يقول: ولو أشرك هؤلاء الأنبياء الذين سميناهم، بربهم تعالى ذكره, فعبدوا معه غيره « لحبط عنهم » ، يقول: لبطل فذهبَ عنهم أجرُ أعمالهم التي كانوا يعملون, لأن الله لا يقبل مع الشرك به عملا .

 

القول في تأويل قوله : أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « أولئك » ، هؤلاء الذين سميناهم من أنبيائه ورسله، نوحًا وذريته الذين هداهم لدين الإسلام، واختارهم لرسالته إلى خلقه, هم « الذين آتيناهم الكتاب » ، يعني بذلك: صحفَ إبراهيم وموسى، وزبور داود، وإنجيل عيسى صلوات الله عليهم أجمعين « والحكم » ، يعني: الفهم بالكتاب، ومعرفة ما فيه من الأحكام. وروي عن مجاهد في ذلك ما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا أبان قال، حدثنا مالك بن شداد, عن مجاهد: « والحكم والنبوة » ، قال: « الحكم » ، هو اللبُّ.

وعنى بذلك مجاهد، إن شاء الله، ما قلت، لأن « اللب » هو « العقل » , فكأنه أراد: أن الله آتاهم العقل بالكتاب, وهو بمعنى ما قلنا أنه الفهم به.

وقد بينا معنى « النبوة » و « الحكم » ، فيما مضى بشواهدهما, فأغنى ذلك عن إعادته.

 

القول في تأويل قوله : فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ( 89 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فإن يكفر: يا محمد، بآيات كتابي الذي أنـزلته إليك فيجحد هؤلاء المشركون العادلون بربهم, كالذي:-

حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « فإن يكفر بها هؤلاء » ، يقول: إن يكفروا بالقرآن.

ثم اختلف أهل التأويل في المعنيّ ب « هؤلاء » .

فقال بعضهم: عُني بهم كفار قريش وعنى بقوله: « فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين » ، الأنصار.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا سليمان قال، حدثنا أبو هلال, عن قتادة في قول الله تعالى ذكره: « فإن يكفر بها هؤلاء » ، قال: أهل مكة « فقد وكلنا بها » ، أهل المدينة.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان, عن جويبر, عن الضحاك، « فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين » ، قال : الأنصار.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء, عن جويبر, عن الضحاك: « فإن يكفر بها هؤلاء » ، قال: إن يكفر بها أهل مكة « فقد وكلنا بها » ، أهل المدينة الأنصار « ليسوا بها بكافرين » .

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فإن يكفر بها هؤلاء » ، يقول: إن تكفر بها قريش « فقد وكلنا بها » ، الأنصار.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: « فإن يكفر بها هؤلاء » ، أهل مكة « فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين » ، أهلَ المدينة.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين » ، قال: كان أهل المدينة قد تبوءوا الدار والإيمان قبل أن يقدم عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما أنـزل الله عليهم الآيات، جحد بها أهل مكة. فقال الله تعالى ذكره: « فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين » . قال عطية: ولم أسمع هذا من ابن عباس, ولكن سمعته من غيره.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « فإن يكفر بها هؤلاء » ، يعني أهل مكة. يقول: إن يكفروا بالقرآن « فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين » ، يعني أهلَ المدينة والأنصار.

وقال آخرون: معنى ذلك: فإن يكفر بها أهل مكة, فقد وكلنا بها الملائكة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن عوف, عن أبي رجاء: « فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين » ، قال: هم الملائكة .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر وابن أبي عدي وعبد الوهاب, عن عوف, عن أبي رجاء, مثله .

وقال آخرون: عنى بقوله: « فإن يكفر بها هؤلاء » ، يعني قريشًا وبقوله: « فقد وكلنا بها قومًا » ، الأنبياء الذين سماهم في الآيات التي مضت قبلَ هذه الآية.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « فإن يكفر بها هؤلاء » ، يعني أهل مكة « فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين » ، وهم الأنبياء الثمانية عشر الذين قال الله: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « فإن يكفر بها هؤلاء » ، قال: يعني قوم محمد. ثم قال: « فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين » ، يعني: النبيين الذين قص قبل هذه الآية قصصهم. ثم قال: « أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده » .

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك بالصواب, قولُ من قال: عنى بقوله: « فإن يكفر بها هؤلاء » ، كفار قريش « فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين » ، يعني به الأنبياء الثمانية عشر الذين سماهم الله تعالى ذكره في الآيات قبل هذه الآية. وذلك أن الخبر في الآيات قبلها عنهم مضى، وفي التي بعدها عنهم ذكر, فما بينها بأن يكون خبرًا عنهم، أولى وأحق من أن يكون خبرًا عن غيرهم.

فتأويل الكلام، إذ كان ذلك كذلك: فإن كفر قومك من قريش، يا محمد، بآياتنا, وكذبوا وجحدوا حقيقتها, فقد استحفظناها واسترعينا القيام بها رُسلَنا وأنبياءنا من قبلك، الذين لا يجحدون حقيقتها، ولا يكذبون بها, ولكنهم يصدقون بها ويؤمنون بصحتها.

وقد قال بعضهم: معنى قوله: « فقد وكّلنا بها قومًا » ، رزقناها قومًا.

 

القول في تأويل قوله : أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: « أولئك » ، هؤلاء القوم الذين وكلنا بآياتنا وليسوا بها بكافرين, هم الذين هداهم الله لدينه الحق, وحفظ ما وكلوا بحفظه من آيات كتابه، والقيام بحدوده، واتباع حلاله وحرامه، والعمل بما فيه من أمر الله، والانتهاء عما فيه من نهيه, فوفقهم جل ثناؤه لذلك « فبهداهم اقتده » ، يقول تعالى ذكره: فبالعمل الذي عملوا، والمنهاج الذي سلكوا، وبالهدى الذي هديناهم، والتوفيق الذي وفقناهم « اقتده » ، يا محمد، أي: فاعمل، وخذ به واسلكه, فإنه عمل لله فيه رضًا، ومنهاجٌ من سلكه اهتدى.

وهذا التأويل على مذهب من تأوّل قوله: فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ، أنهم الأنبياء المسمون في الآيات المتقدمة. وهو القول الذي اخترناه في تأويل ذلك.

وأما على تأويل من تأول ذلك: أن القوم الذين وكّلوا بها هم أهل المدينة أو: أنهم هم الملائكة فإنهم جعلوا قوله: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ، اعتراضًا بين الكلامين, ثم ردّوا قوله: « أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده » ، على قوله: « أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوّة » .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ إلى قوله: « أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده » ، يا محمد .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « أولئك الذين هدى الله » ، يا محمد, « فبهداهم اقتده » ، ولا تقتد بهؤلاء.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: « أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده » .

حدثنا علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قال: ثم قال في الأنبياء الذين سماهم في هذه الآية: « فبهداهم اقتده » .

ومعنى: « الاقتداء » في كلام العرب، بالرجل: اتباع أثره، والأخذ بهديه. يقال: « فلان يقدو فلانًا » ، إذا نحا نحوه، واتبع أثره, « قِدَة، وقُدوة وقِدوة وقِدْيَة » .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ( 90 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « قل » لهؤلاء الذين أمرتك أن تذكّرهم بآياتي، أن تبسَل نفس بما كسبت، من مشركي قومك يا محمد: « لا أسألكم » ، على تذكيري إياكم، والهدى الذي أدعوكم إليه، والقرآن الذي جئتكم به, عوضًا أعتاضه منكم عليه، وأجرًا آخذه منكم, وما ذلك مني إلا تذكير لكم، ولكل من كان مثلكم ممن هو مقيم على باطل، بَأسَ الله أن يَحُلّ بكم، وسَخَطه أن ينـزل بكم على شرككم به وكفركم وإنذارٌ لجميعكم بين يدي عذاب شديد, لتذكروا وتنـزجروا.