لقول في تأويل قوله : وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: « وما قدروا الله حق قدره » ، وما أجلُّوا الله حق إجلاله, ولا عظموه حق تعظيمه « إذ قالوا ما أنـزل الله على بشر من شيء » ، يقول: حين قالوا: لم ينـزل الله على آدميٍّ كتابًا ولا وحيًا.

واختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله: « إذ قالوا ما أنـزل الله على بشر من شيء » ، وفي تأويل ذلك.

فقال بعضهم: كان قائل ذلك رجلا من اليهود.

ثم اختلفوا في اسم ذلك الرجل.

فقال بعضهم: كان اسمه: مالك بن الصيف.

وقال بعضهم: كان اسمه فنحاص.

واختلفوا أيضًا في السبب الذي من أجله قال ذلك.

* ذكر من قال: كان قائل ذلك: مالك بن الصيف.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي , عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنشدك بالذي أنـزل التوراة على موسى, أما تجد في التوراة أن الله يُبْغِض الحَبْر السمين؟ وكان حبرًا سمينًا, فغضب فقال: والله ما أنـزل الله على بشر من شيء ! فقال له أصحابه الذين معه: ويحك! ولا موسى! فقال: والله ما أنـزل الله على بشر من شيء ! فأنـزل الله: « وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى » ، الآية .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة قوله: « وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنـزل الله على بشر من شيء » ، قال: نـزلت في مالك بن الصيف، كان من قريظة، من أحبار يهود « قل » يا محمد مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ ، الآية .

* ذكر من قال: نـزلت في فنحاص اليهوديّ.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنـزل الله على بشر من شيء » ، قال: قال فنحاص اليهوديّ: ما أنـزل الله على محمد من شيء!

وقال آخرون: بل عنى بذلك جماعة من اليهود، سألوا النبي صلى الله عليه وسلم آيات مثل آيات موسى.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد قال، حدثنا يونس قال، حدثنا أبو معشر المدني, عن محمد بن كعب القرظي قال: جاء ناسٌ من يهودَ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو مُحْتَبٍ, فقالوا: يا أبا القاسم, ألا تأتينا بكتاب من السماء، كما جاء به موسى ألواحًا يحملها من عند الله؟ فأنـزل الله: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَـزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً ، الآية [ سورة النساء : 153 ] . فجثا رجل من يهود فقال: ما أنـزل الله عليك ولا على موسى ولا على عيسى ولا على أحد شيئًا! فأنـزل الله: « وما قدروا الله حق قدره » . قال محمد بن كعب: ما علموا كيف الله « إِذْ قَالُوا مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا » ، فحلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حُبْوته, وجعل يقول: « ولا على أحَدٍ » .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنـزل الله على بشر من شيء » ، إلى قوله: فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ، هم اليهود والنصارى, قوم آتاهم الله علمًا فلم يقتدوا به،

ولم يأخذوا به، ولم يعملوا به, فذمهم الله في عملهم ذلك. ذكر لنا أن أبا الدرداء كان يقول: إن من أكثر ما أنا مخاصَمٌ به غدًا أن يقال: يا أبا الدرداء، قد علمت, فماذا عملت فيما علمت ؟

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنـزل الله على بشر من شيء » ، يعني من بني إسرائيل، قالت اليهود: يا محمد، أنـزل الله عليك كتابًا؟ قال: نعم! قالوا: والله ما أنـزل الله من السماء كتابًا! قال: فأنـزل الله: « قل » يا محمد مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ ، إلى قوله : وَلا آبَاؤُكُمْ ، قال: الله أنـزله .

وقال آخرون: هذا خبر من الله جل ثناؤه عن مشركي قريش أنهم قالوا: « ما أنـزل الله على بشر من شيء » .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال عبد الله بن كثير: أنه سمع مجاهدًا يقول: « وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنـزل الله على بشر من شيء » ، قالها مشركو قريش. قال: وقوله: ( قُلْ مَنْ أَنـزلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلناسِ يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا ) ، قال: هم يهود، الذين يبدونها ويخفون كثيرًا. قال: وقوله: وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ ، قال: هذه للمسلمين.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « وما قدروا الله حق قدره » ، قال: هم الكفار، لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم, فمن آمنَ أن الله على كل شيء قدير، فقد قدر الله حق قدره. ومن لم يؤمن بذلك، فلم يقدر الله حق قدره.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وما قدروا الله حق قدره » ، يقول: مشركو قريش .

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، قول من قال: عني بقوله « وما قدروا الله حق قدره » ، مشركو قريش. وذلك أن ذلك في سياق الخبر عنهم أولا فأن يكون ذلك أيضًا خبرًا عنهم، أشبهُ من أن يكون خبرًا عن اليهود ولما يجر لهم ذكرٌ يكون هذا به متصلا مع ما في الخبر عمن أخبر الله عنه في هذه الآية، من إنكاره أن يكون الله أنـزل على بشر شيئًا من الكتب، وليس ذلك مما تدين به اليهود, بل المعروف من دين اليهود: الإقرار بصُحُف إبراهيم وموسى، وزبور داود. وإذا لم يأت بما روي من الخبر، بأن قائل ذلك كان رجلا من اليهود، خبرٌ صحيح متصل السند ولا كان على أن ذلك كان كذلك من أهل التأويل إجماعٌ وكان الخبر من أوّل السورة ومبتدئها إلى هذا الموضع خبرًا عن المشركين من عبدة الأوثان وكان قوله: « وما قدروا الله حق قدره » ، موصولا بذلك غير مفصول منه لم يجز لنا أن ندّعي أن ذلك مصروف عما هو به موصول، إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل.

ولكني أظن أن الذين تأوّلوا ذلك خبرًا عن اليهود, وجدوا قوله: « قل من أنـزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم » ، فوجهوا تأويل ذلك إلى أنه لأهل التوراة, فقرءوه على وجه الخطاب لهم: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ ، فجعلوا ابتداء الآية خبرًا عنهم, إذ كانت خاتمتها خطابًا لهم عندهم. وغير ذلك من التأويل والقراءة أشبه بالتنـزيل, لما وصفت قبل من أن قوله: « وما قدروا الله حق قدره » ، في سياق الخبر عن مشركي العرب وعبدة الأوثان وهو به متصل, فالأولى أن يكون ذلك خبرًا عنهم .

والأصوب من القراءة في قوله: ( يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا ) ، أن يكون بالياء لا بالتاء, على معنى: أنّ اليهود يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا, ويكون الخطاب بقوله : قُلْ مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ ، لمشركي قريش. وهذا هو المعنى الذي قصده مجاهد إن شاء الله في تأويل ذلك, وكذلك كان يقرأ.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد, عن أيوب, عن مجاهد أنه كان يقرأ هذا الحرف: ( يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا ) .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « قل » ، يا محمد، لمشركي قومك القائلين لك: مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قل: « من أنـزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا » ، يعني: جلاءً وضياء من ظلمة الضلالة « وهدى للناس » ، يقول: بيانًا للناس, يبين لهم به الحق من الباطل فيما أشكل عليهم من أمر دينهم « تجعلونه قراطيس تبدونها » .

فمن قرأ ذلك: ( تَجْعَلُونَهُ ) ، جعله خطابًا لليهود على ما بيّنت من تأويل من تأوّل ذلك كذلك.

ومن قرأه بالياء: ( يَجْعَلُونَهُ ) ، فتأويله في قراءته: يجعله أهله قراطيس, وجرى الكلام في « يبدونها » بذكر « القراطيس » , والمراد منه المكتوب في القراطيس, يراد: يبدون كثيرًا مما يكتبون في القراطيس فيظهارونه للناس، ويخفون كثيرًا مما يثبتونه في القراطيس فيسرُّونه ويكتمونه الناس.

ومما كانوا يكتمونه إياهم، ما فيها من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته، كالذي:-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا » ، اليهود.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة: « قل » يا محمد « من أنـزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس يجعلونه قراطيس يبدونها » ، يعني يهود، لما أظهروا من التوراة « ويخفون كثيرًا » ، مما أخفوا من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم وما أنـزل عليه قال ابن جريج: وقال عبد الله بن كثير: إنه سمع مجاهدًا يقول: « يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا » ، قال: هم يهود، الذين يبدونها ويخفون كثيرًا.

 

القول في تأويل قوله : وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ( 91 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وعلمكم الله جل ثناؤه بالكتاب الذي أنـزله إليكم، ما لم تعلموا أنتم من أخبار من قبلكم، ومن أنباء من بعدكم، وما هو كائن في معادكم يوم القيامة « ولا آباؤكم » ، يقول: ولم يعلمه آباؤكم، أيها المؤمنون بالله من العرب وبرسوله صلى الله عليه وسلم، كالذي:-

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد, عن أيوب, عن مجاهد: « وعلمتم » ، معشرَ العرب « ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم » .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: قال عبد الله بن كثير: إنه سمع مجاهدًا يقول في قوله: « وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم » ، قال: هذه للمسلمين .

وأما قوله: « قل الله » ، فإنه أمرٌ من الله جل ثناؤه نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يجيبَ استفهامَه هؤلاء المشركين عما أمره باستفهامهم عنه بقوله: « قل من أنـزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا » ، بقيل الله، كأمره إياه في موضع آخر في هذه السورة بقوله: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ، [ سورة الأنعام : 63 ] . فأمره باستفهام المشركين عن ذلك, كما أمره باستفهامهم إذ قالوا: مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ، عمن أنـزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس. ثم أمره بالإجابة عنه هنالك بقيله: قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ [ سورة الأنعام : 64 ] ، كما أمره بالإجابة ههنا عن ذلك بقيله: الله أنـزله على موسى، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: قُلْ مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ ، قال: الله أنـزله.

ولو قيل: معناه: « قل: هو الله » ، على وجه الأمر من الله له بالخبر عن ذلك لا على وجه الجواب، إذ لم يكن قوله: قُلْ مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ مسألة من المشركين لمحمد صلى الله عليه وسلم, فيكون قوله: « قل الله » ، جوابًا لهم عن مسألتهم, وإنما هو أمرٌ من الله لمحمد بمسألة القوم: مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ ؟ فيجب أن يكون الجواب منهم غير الذي قاله ابن عباس من تأويله كان جائزًا، من أجل أنه استفهام, ولا يكون للاستفهام جوابٌ، وهو الذي اخترنا من القول في ذلك لما بينا.

وأما قوله: « ثم ذرهم في خوضهم يلعبون » ، فإنه يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ثم ذَرْ هؤلاء المشركين العادلين بربهم الأوثان والأصنام، بعد احتجاجك عليهم في قيلهم: مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ، بقولك: مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ ، وإجابتك ذلك بأن الذي أنـزله: الله الذي أنـزل عليك كتابه « في خوضهم » ، يعني: فيما يخوضون فيه من باطلهم وكفرهم بالله وآياته « يلعبون » ، يقول: يستهزئون ويسخرون.

وهذا من الله وعيد لهؤلاء المشركين وتهدُّد لهم: يقول الله جل ثناؤه: ثم دعهم لاعبين، يا محمد. فإني من وراء ما هم فيه من استهزائهم بآياتي بالمرصاد، وأذيقهم بأسي, وأحلّ بهم إن تمادوا في غَيِّهم سَخَطي.

 

القول في تأويل قوله : وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهذا القرآن، يا محمد « كتاب » .

وهو اسم من أسماء القرآن، قد بينته وبينت معناه فيما مضى قبلُ بما أغنى عن إعادته، ومعناه مكتوب, فوضع « الكتاب » مكان « المكتوب » .

« أنـزلناه » ، يقول: أوحيناه إليك « مبارك » ، وهو « مفاعل » من « البركة » « مصدّق الذي بين يديه » ، يقول: صدّق هذا الكتاب ما قبله من كتب الله التي أنـزلها على أنبيائه قبلك, لم يخالفها [ دلالة ومعنى ] نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ , يقول: هو الذي أنـزل إليك، يا محمد، هذا الكتاب مباركًا، مصدقًا كتاب موسى وعيسى وغير ذلك من كتب الله. ولكنه جل ثناؤه ابتدأ الخبر عنه, إذ كان قد تقدم [ من ] الخبر عن ذلك ما يدل على أنه [ له ] مواصل, فقال: « وهذا كتاب أنـزلناه إليك مبارك » , ومعناه: وكذلك أنـزلت إليك كتابي هذا مباركًا, كالذي أنـزلت من التوراة إلى موسى هدى ونورًا.

وأما قوله: « ولتنذر أمَّ القرى ومن حولها » ، فإنه يقول: أنـزلنا إليك، يا محمد، هذا الكتاب مصدِّقًا ما قبله من الكتب, ولتنذِر به عذابَ الله وبأسَه مَنْ في أم القرى، وهي مكة « ومن حولها » ، شرقًا وغربًا، من العادلين بربّهم غيره من الآلهة والأنداد, والجاحدين برسله، وغيرهم من أصناف الكفار.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « ولتنذر أم القرى ومن حولها » ، يعنى ب « أم القرى » ، مكة « ومن حولها » ، من القرى إلى المشرق والمغرب.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « ولتنذر أم القرى ومن حولها » ، و « أم القرى » ، مكة « ومن حولها » ، الأرض كلها.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر, عن قتادة: « ولتنذر أم القرى » ، قال: هي مكة وبه عن معمر, عن قتادة قال: بلغني أن الأرض دُحِيَتْ من مكة.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ولتنذر أم القرى ومن حولها » ، كنا نُحَدّث أن أم القرى، مكة وكنا نحدَّث أن منها دُحيت الأرض.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط عن السدي: « ولتنذر أم القرى ومن حولها » ، أما « أم القرى » فهي مكة، وإنما سميت « أم القرى » , لأنها أول بيت وضع بها.

وقد بينا فيما مضى العلة التي من أجلها سميت مكة « أم القرى » ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

 

القول في تأويل قوله : وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ( 92 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن كان يؤمن بقيام الساعة والمعادِ في الآخرة إلى الله، ويصدِّق بالثواب والعقاب, فإنه يؤمن بهذا الكتاب الذي أنـزلناه إليك، يا محمد، ويصدق به، ويقرّ بأن الله أنـزله, ويحافظ على الصلوات المكتوبات التي أمرَه الله بإقامتها، لأنه منذرُ من بلغه وعيدَ الله على الكفر به وعلى معاصيه, وإنما يجحد به وبما فيه ويكذِّب، أهل التكذيب بالمعاد، والجحود لقيام الساعة, لأنه لا يرجو من الله إن عمل بما فيه ثوابًا, ولا يخاف إن لم يجتنب ما يأمره باجتنابه عقابًا.

 

القول في تأويل قوله : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ

قال أبو جعفر: يعني جل ذكره بقوله: « ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا » ، ومن أخطأ قولا وأجهل فعلا « ممن افترى على الله كذبًا » , يعني: ممن اختلق على الله كذبًا, فادعى عليه أنه بعثه نبيًّا وأرسله نذيرًا, وهو في دعواه مبطل، وفي قيله كاذب.

وهذا تسفيهٌ من الله لمشركي العرب، وتجهيلٌ منه لهم، في معارضة عبد الله بن سعد بن أبي سرح، والحنفيِّ مسيلمة، لنبي الله صلى الله عليه وسلم، بدعوى أحدهما النبوّة، ودعوى الآخر أنه قد جاء بمثل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفْيٌ منه عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم اختلاقَ الكذب عليه ودعوى الباطل.

وقد اختلف أهل التأويل في ذلك.

فقال بعضهم فيه نحو الذي قلنا فيه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين, قال حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة قوله: « ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء » ، قال: نـزلت في مسيلمة أخي بني عدي بن حنيفة، فيما كان يسجع ويتكهن به « ومن قال سأنـزل مثل ما أنـزل الله » ، نـزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح, أخي بني عامر بن لؤي, كان كتب للنبي صلى الله عليه وسلم, وكان فيما يملي « عَزِيزٌ حَكِيمٌ » , فيكتب « غَفُورٌ رَحِيمٌ » , فيغيره, ثم يقرأ عليه « كذا وكذا » ، لما حوَّل, فيقول: « نعم، سواءٌ » . فرجع عن الإسلام ولحق بقريش وقال لهم: لقد كان ينـزل عليه « عَزِيزٌ حَكِيمٌ » فأحوِّله، ثم أقرأ ما كتبت, فيقول: « نعم سواء » ! ثم رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة, إذ نـزل النبي صلى الله عليه وسلم بمرّ.

وقال بعضهم: بل نـزل ذلك في عبد الله بن سعد خاصة .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي: « ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أو قال أوحي إليّ ولم يوحَ إليه شيء » إلى قوله: تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ . قال: نـزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، أسلم, وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم, فكان إذا أملى عليه: « سميعًا عليمًا » , كتب هو: « عليمًا حكيمًا » ، وإذا قال: « عليمًا حكيمًا » كتب: « سميعًا عليمًا » ، فشكّ وكفر, وقال: إن كان محمد يوحى إليه فقد أوحي إليّ, وإن كان الله ينـزله فقد أنـزلت مثل ما أنـزل الله ! قال محمد: « سميعًا عليمًا » فقلت أنا: « عليمًا حكيمًا » ! فلحق بالمشركين, ووشى بعمار وجبير عند ابن الحضرمي، أو لبني عبد الدار. فأخذوهم فعُذِّبوا حتى كفروا، وجُدِعت أذن عمار يومئذ. فانطلق عمار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما لقي، والذي أعطاهم من الكفر, فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتولاه, فأنـزل الله في شأن ابن أبي سرح وعمار وأصحابه: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا [ سورة النحل :106 ] ، فالذي أكره: عمار وأصحابه والذي شرح بالكفر صدرًا، فهو ابن أبي سرح.

وقال آخرون: بل القائل: « أوحي إلي ولم يوح إليه شيء » ، مسيلمة الكذاب.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنـزل مثل ما أنـزل الله » ، ذكر لنا أن هذه الآية نـزلت في مسيلمة. ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: رأيت فيما يرى النائم كأنّ في يديّ سوارين من ذهب, فكبرا عليّ وأهمّاني, فأوحى إليّ: أن انفخهما, فنفختهما فطارا, فأوَّلتهما في منامي الكذَّابين اللذين أنا بينهما، كذّاب اليمامةِ مُسيلمة, وكذّاب صنعاء العنسي. وكان يقال له: « الأسود » .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة قال: « أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء » ، قال: نـزلت في مسيلمة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة وزاد فيه: وأخبرني الزهري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « بينا أنا نائم رأيتُ في يديّ سوارين من ذهب, فكبر ذلك عليّ, فأوحي إلي أن انفخهما, فنفخهما فطارا, فأوّلت ذلك كذاب اليمامة وكذاب صنعاء العنسي. »

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله قال: « ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء » ، ولا تمانُع بين علماء الأمة أن ابن أبي سرح كان ممن قال: « إني قد قلت مثل ما قال محمد » , وأنه ارتدّ عن إسلامه ولحق بالمشركين، فكان لا شك بذلك من قيله مفتريًا كذبًا. وكذلك لا خلاف بين الجميع أن مسيلمة والعنسيّ الكذابين، ادّعيا على الله كذبًا. أنه بعثهما نبيين, وقال كل واحد منهما إنّ الله أوحى إليه، وهو كاذب في قيله. فإذ كان ذلك كذلك, فقد دخل في هذه الآية كل من كان مختلقًا على الله كذبًا، وقائلا في ذلك الزمان وفي غيره: « أوحى الله إلي » , وهو في قيله كاذب، لم يوح الله إليه شيئًا. فأما التنـزيل، فإنه جائز أن يكون نـزل بسبب بعضهم وجائز أن يكون نـزل بسبب جميعهم وجائز أن يكون عني به جميعُ المشركين من العرب إذ كان قائلو ذلك منهم، فلم يغيّروه. فعيّرهم الله بذلك، وتوعّدهم بالعقوبة على تركهم نكيرَ ذلك، ومع تركهم نكيرَه هم بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم مكذبون, ولنبوّته جاحدون, ولآيات كتاب الله وتنـزيله دافعون, فقال لهم جل ثناؤه: « ومن أظلم ممن ادّعى عليّ النبوّة كاذبًا » ، وقال: « أوحي إلي » ، ولم يوح إليه شيء، ومع ذلك يقول: مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ، فينقض قولَه بقوله, ويكذب بالذي تحققه, وينفي ما يثبته. وذلك إذا تدبره العاقلُ الأريب علم أن فاعله من عقله عديم .

وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله: « ومن قال سأنـزل مثل ما أنـزل الله » ، ما:-

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « ومن قال سأنـزل مثل ما أنـزل الله » ، قال: زعم أنه لو شاء قال مثله يعني الشعر .

فكأنّ ابن عباس في تأويله هذا على ما تأوّله، يوجِّه معنى قول قائل: « سأنـزل مثل ما أنـزل الله » , إلي: سأنـزل مثل ما قال الله من الشعر. وكذلك تأوّله السدي. وقد ذكرنا الرواية عنه قبل فيما مضى.

 

القول في تأويل قوله : وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولو ترى، يا محمد، حين يغمر الموت بسكراته هؤلاء الظالمين العادلين بربهم الآلهة والأنداد, والقائلين: مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ , والمفترين على الله كذبًا، الزاعمين أنّ الله أوحى إليه ولم يوحَ إليه شيء, والقائلين: سَأُنْـزِلُ مِثْلَ مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ ، فتعاينهم وقد غشيتهم سكرات الموت, ونـزل بهم أمر الله, وحان فناء آجالهم, والملائكة باسطو أيديهم يضربون وجوههم وأدبارهم, كما قال جل ثناؤه: فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ [ سورة محمد : 27 ، 28 ] . يقولون لهم: أخرجوا أنفسكم.

و « الغمرات » جمع « غمرة » , و « غمرة كل شيء » ، كثرته ومعظمه, وأصله الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها, ومنه قول الشاعر:

وَهَــلْ يُنْجِــي مِـنَ الْغَمَـرَاتِ إلا بُرَاكَـــاءُ القِتَـــالِ أوِ الفِــرَارُ

وروي عن ابن عباس في ذلك, ما:-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: قوله: « ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت » ، قال: سكرات الموت.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « في غمرات الموت » ، يعني سكرات الموت.

وأما « بسط الملائكة أيديها » ، فإنه مدُّها.

ثم اختلف أهل التأويل في سبب بسطها أيديها عند ذلك.

فقال بعضهم بنحو الذي قلنا في ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم » ، قال: هذا عند الموت، « والبسط » ، الضرب، يضربون وجوههم وأدبارهم .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي, قال حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم » ، يقول: « الملائكة باسطو أيديهم » ، يضربون وجوههم وأدبارهم والظالمون في غمرات الموت, وملك الموت يتوفّاهم.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « والملائكة باسطو أيديهم » ، يضربونهم .

وقال آخرون: بل بسطها أيديها بالعذاب.

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر, عن جويبر, عن الضحاك: « والملائكة باسطو أيديهم » ، قال : بالعذاب.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير, عن ابن عيينة, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن أبي صالح: « والملائكة باسطو أيديهم » ، بالعذاب.

وكان بعض نحويي الكوفيين يتأوّل ذلك بمعنى: باسطو أيديهم بإخراج أنفسهم.

فإن قال قائل: ما وجه قوله: « أخرجوا أنفسكم » ، ونفوس بني آدم إنما يخرجها من أبدان أهلها رب العالمين؟ فكيف خوطب هؤلاء الكفار, وأمروا في حال الموت بإخراج أنفسهم؟ فإن كان ذلك كذلك، فقد وجب أن يكون بنو آدم هم يقبضون أنفس أجسامهم!

قيل: إن معنى ذلك بخلاف الذي [ إليه ] ذهبت وإنما ذلك أمرٌ من الله على ألسن رُسله الذين يقبضون أرواحَ هؤلاء القوم من أجسامهم, بأداء ما أسكنها ربها من الأرواح إليه، وتسليمها إلى رسله الذين يتوفَّونها.

 

القول في تأويل قوله : الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ( 93 )

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عما تقولُ رسل الله التي تقبض أرواحَ هؤلاء الكفار لها, يخبر عنها أنها تقول لأجسامها ولأصحابها: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ، إلى سخط الله ولعنته, فإنكم اليوم تُثابون على كفركم بالله, وقيلكم عليه الباطل, وزعمكم أن الله أوحى إليكم ولم يوحَ إليكم شيئًا, وإنكاركم أن يكون الله أنـزل على بشر شيئًا, واستكباركم عن الخضوع لأمر الله وأمر رسوله، والانقياد لطاعته « عذابَ الهون » ، وهو عذاب جهنم الذي يُهينُهم فيذلّهم, حتى يعرفوا صَغَار أنفسهم وذِلَّتَها، كما:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما « عذاب الهون » ، فالذي يهينهم.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: « اليوم تجزون عذاب الهون » ، قال: عذاب الهون، في الآخرة بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ .

والعرب إذا أرادت ب « الْهُونِ » معنى « الهوان » ، ضمت « الهاء » , وإذا أرادت به الرفق والدَّعَة وخفة المؤونة، فتحت « الهاء » , فقالوا: هو « قليل هَوْن المؤونة » ، ومنه قول الله: الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا [ سورة الفرقان : 63 ] ، يعني: بالرفق والسكينة والوقار، ومنه قول جندل بن المثنَّى الطُّهويّ:

وَنَقْــضَ أَيْــامٍ نَقَضْــنَ أَسْــرَهُ هَوْنًــا وَأَلْقَــى كُـلُّ شَـيْخٍ فَخـرَهُ

ومنه قول الآخر:

هَوْنَكُمَــا لا يَـرُدُّ الدَّهْـرُ مـا فَاتَـا لا تَهْلِكَـا أَسَـفًا فِـي إِثْـرِ مَـنْ مَاتَا

يريد: أرْوِدا. وقد حكي فتح « الهاء » في ذلك بمعنى « الهوان » ، واستشهدوا على ذلك ببيت عامر بن جُوَين:

يُهِيـنُ النفُــوسَ, وَهَــوْنُ النُّفُــو سِ عِنْـدَ الكَرِيهَـــةِ أَغْلَى لَهَــا

والمعروف من كلامهم، ضمُّ « الهاء » منه، إذا كان بمعنى الهوان والذل, كما قال ذو الإصبع العدواني:

اذْهَــبْ إلَيْـكَ فَمَـا أُمِّـي بِرَاعِيَـةٍ تَرْعَى الْمَخَاضَ وَلا أُغْضِي عَلَى الهُونِ

يعني: على الهوان وإذا كان بمعنى الرفق، ففتْحُها.

 

القول في تأويل قوله : وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عما هو قائل يوم القيامة لهؤلاء العادلين به الآلهة والأنداد, يخبر عبادَه أنه يقول لهم عند ورودهم عليه: « لقد جئتمونا فرادى » .

ويعني بقوله: « فرادى » ، وُحدانًا لا مال معهم، ولا إناث، ولا رقيق، ولا شيء مما كان الله خوّلهم في الدنيا « كما خلقناكم أوّل مرة » ، عُرَاة غُلْفًا غُرْلا حُفاة، كما ولدتهم أمهاتهم, وكما خلقهم جل ثناؤه في بطون أمهاتهم, لا شيء عليهم ولا معهم مما كانوا يتباهَوْن به في الدنيا.

و « فرادى » ، جمع, يقال لواحدها: « فَرِد » , كما قال نابغة بني ذبيان:

مِـنْ وَحْـشِ وَجْـرَةَ مَوْشـيٍّ أَكَارِعُهُ طَـاوِي المَصِـيرِ كَسَيْفِ الصَّيْقَلِ الفَرِدِ

و « فَرَدٌ » و « فريد » , كما يقال: « وَحَد » و « وَحِد » و « وحيد » في واحد « الأوحاد » . وقد يجمع « الفَرَد » « الفُرَاد » كما يجمع « الوَحَد » ، « الوُحَاد » , ومنه قول الشاعر:

تَـرَى النَّعَـرَاتِ الـزُّرْقَ فَـوْقَ لَبَانِه فُـرَادَى وَمَثْنًـى أَصْعَقَتْهَـا صَوَاهِلُـهْ

وكان يونس الجرْميّ، فيما ذكر عنه، يقول: « فُراد » جمع « فَرْد » , كما قيل: « تُؤْم » و « تُؤَام » للجميع. ومنه: « الفُرَادى » ، و « الرُّدَافى » و « القُرَانى » . يقال: « رجل فرد » و « امرأة فرد » , إذا لم يكن لها أخٌ. « وقد فَرد الرجلُ فهو يفرُد فرودًا » , يراد به تفرَّد, « فهو فارد » .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، [ قال ابن زيد قال ] ، أخبرني عمرو: أن ابن أبي هلال حدثه: أنه سمع القرظيّ يقول: قرأت عائشةُ زوجُ النبي صلى الله عليه وسلم قولَ الله: « ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة » ، فقالت: واسوأتاه, إن الرجال والنساء يحشرون جميعًا ينظر بعضهم إلى سوأة بعض! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ , لا ينظر الرجال إلى النساء، ولا النساء إلى الرجال, شغل بعضهم عن بعض.

وأما قوله: « وتركتم ما خوّلناكم وراء ظهوركم » ، فإنه يقول: خلفتم أيها القوم ما مكناكم في الدنيا مما كنتم تتباهون به فيها، خلفكم في الدنيا فلم تحملوه معكم.

وهذا تعيير من الله جل ثناؤه لهؤلاء المشركين بمباهاتهم التي كانوا يتباهون بها في الدنيا بأموالهم.

وكل ما ملكته غيرك وأعطيته: « فقد خوّلته » , يقال منه: « خال الرجل يَخَال أشدّ الخِيال » بكسر الخاء « وهو خائل » , ومنه قول أبي النجم:

أَعْطَــى فَلَــمْ يَبْخَـلْ وَلَـمْ يُبَخَّـلِ كَـومَ الـذُّرَى مِـنْ خَـوَلِ المُخَــوِّلِ

وقد ذكر أن أبا عمرو بن العلاء كان ينشد بيت زهير:

هُنَـالِكَ إِنْ يُسْـتَخْوَلُوا الْمَـالَ يُخـوِلُوا وَإن يُسْـأَلُوا يُعطُـوا وَإِنْ يَيْسِرُوا يُغْلُوا

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وتركتم ما خوّلناكم » ، من المال والخدم « وراء ظهوركم » ، في الدنيا.

 

القول في تأويل قوله : وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لهؤلاء العادلين بربهم الأنداد يوم القيامة: ما نرى معكم شفعاءكم الذين كنتم في الدنيا تزعمون أنهم يشفعون لكم عند ربكم يوم القيامة.

وقد ذكر أن هذه الآية نـزلت في النضر بن الحارث، لقيله: إنّ اللات والعزى يشفعان لهُ عند الله يوم القيامة.

وقيل: إن ذلك كان قول كافة عَبَدة الأوثان.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما قوله: « وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء » ، فإن المشركين كانوا يزعمون أنهم كانوا يعبدُون الآلهة، لأنهم شفعاء يشفعون لهم عند الله، وأنّ هذه الآلهة شركاءُ لله.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني الحكم بن أبان، عن عكرمة قال: قال النضر بن الحارث: « سوف تشفع لي اللات والعزَّى » ! فنـزلت هذه الآية: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، إلى قوله: « شركاء » .

 

القول في تأويل قوله : لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ( 94 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مخبرًا عن قيله يوم القيامة لهؤلاء المشركين به الأنداد: « لقد تقطع بينكم » ، يعني تواصلَهم الذي كان بينهم في الدنيا, ذهب ذلك اليوم, فلا تواصل بينهم ولا توادّ ولا تناصر, وقد كانوا في الدنيا يتواصلون ويتناصرون، فاضمحلّ ذلك كله في الآخرة, فلا أحدَ منهم ينصر صاحبه، ولا يواصله.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « لقد تقطع بينكم » ، « البين » ، تواصلهم.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « لقد تقطع بينكم » ، قال: تواصلهم في الدنيا .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « لقد تقطع بينكم » ، قال: وصلكم.

وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « لقد تقطع بينكم » ، قال: ما كان بينكم من الوصل.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس: « لقد تقطع بينكم وضلّ عنكم ما كنتم تزعمون » ، يعني الأرحام والمنازل.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « لقد تقطع بينكم » ، يقول: تقطع ما بينكم.

حدثنا أبو كريب قال، قال أبو بكر بن عياش: « لقد تقطع بينكم » ، التواصل في الدنيا.

واختلفت القرأة في [ قراءة ] قوله: « بينكم » .

فقرأته عامة قرأة أهل المدينة نصبًا، بمعنى: لقد تقطع ما بينكم.

وقرأ ذلك عامة قرأة مكة والعراقَيْن: ( لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنُكُمْ ) ، رفعًا, بمعنى: لقد تقطع وصلُكم.

قال أبو جعفر: والصواب من القول عندي في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان باتفاق المعنى, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ.

وذلك أن العرب قد تنصب « بين » في موضع الاسم. ذكر سماعًا منها: « أتاني نحَوك، ودونَك، وسواءَك » , نصبًا في موضع الرفع. وقد ذكر عنها سماعًا الرفع في « بين » ، إذا كان الفعل لها، وجعلت اسمًا، وينشد بيت مهلهل:

كَــأَنَّ رِمــاحَهُم أَشْــطَانُ بِــئْرٍ بَعِيـــدٍ بَيْــنُ جَالَيْهَــا جَــرُورِ

برفع « بين » ، إذ كانت اسمًا، غير أن الأغلب عليهم في كلامهم النصبُ فيها في حال كونها صفة، وفي حال كونها اسمًا.

وأما قوله: « وضل عنكم ما كنتم تزعمون » ، فإنه يقول: وحاد عن طريقكم ومنهاجكم ما كنتم من آلهتكم تزعمون أنه شريك ربكم, وأنه لكم شفيع عند ربكم, فلا يشفع لكم اليوم.