القول في تأويل قوله : إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى

قال أبو جعفر: وهذا تنبيهٌ من الله جل ثناؤه هؤلاء العادلين به الآلهة والأوثان على موضع حجّته عليهم, وتعريفٌ منه لهم خطأ ما هم عليه مقيمون من إشراك الأصنام في عبادتهم إياه. يقول تعالى ذكره: إن الذي له العبادة، أيها الناس، دون كل ما تعبدون من الآلهة والأوثان, هو الله الذي فَلق الحبَّ يعني: شق الحبَّ من كل ما ينبت من النبات, فأخرج منه الزرع « والنوى » ، من كل ما يغرس مما له نَواة, فأخرج منه الشجر.

و « الحبّ » جمع « الحبة » , و « النوى » جمع « النواة » .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « إن الله فالق الحب والنوى » ، أما « فالق الحب والنوى » : ففالق الحب عن السنبلة, وفالق النواة عن النخلة.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « فالق الحب والنوى » ، قال: يفلق الحب والنوى عن النبات.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: « فالق الحب والنوى » ، قال: الله فالق ذلك, فلقه فأنبت منه ما أنبت. فلق النواة فأخرج منها نَبَات نخلة, وفلق الحبة فأخرج نبات الذي خلق.

وقال آخرون: معنى « فالق » ، خالق.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا مروان بن معاوية, عن جويبر, عن الضحاك في قوله: « إن الله فالق الحب والنوى » ، قال: خالق الحب والنوى.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك, مثله .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « إن الله فالق الحب والنوى » ، قال: خالق الحب والنوى.

وقال آخرون: معنى ذلك: أنه فلق الشقّ الذي في الحبّة والنواة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: « فالق الحب والنوى » ، قال: الشقان اللذان فيهما.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

حدثني المثنى قال، حدثنا معلى بن أسد قال، حدثنا خالد, عن حصين, عن أبي مالك في قول الله: « إن الله فالق الحب والنوى » ، قال: الشق الذي يكون في النواة وفي الحنطة .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد: « فالق الحب والنوى » ، قال: الشقان اللذان فيهما.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « فالق الحب والنوى » ، يقول: خالق الحب والنوى, يعني كلّ حبة .

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي، ما قدّمنا القول به. وذلك أن الله جل ثناؤه أتبع ذلك بإخباره عن إخراجه الحي من الميت والميت من الحي, فكان معلومًا بذلك أنه إنَّما عنى بإخباره عن نفسه أنّه فالق الحب عن النبات، والنوى عن الغُرُوس والأشجار, كما هو مخرج الحي من الميت، والميّت من الحي.

وأما القول الذي حكي عن الضحاك في معنى « فالق » ، أنه خالق, فقولٌ إن لم يكن أراد به أنّه خالق منه النبات والغُروس بفلقه إياه لا أعرف له وجهًا, لأنه لا يعرف في كلام العرب: « فلق الله الشيء » ، بمعنى: خلق .

 

القول في تأويل قوله : يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ( 95 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يخرج السنبل الحيّ من الحبّ الميت, ومخرج الحبِّ الميت من السنبل الحيّ, والشجرِ الحيّ من النوى الميت, والنوى الميِّت من الشجر الحيّ.

والشجر ما دام قائمًا على أصوله لم يجفّ، والنبات على ساقه لم ييبَس, فإن العرب تسميه « حَيًّا » , فإذا يبس وجفّ أو قطع من أصله، سمّوه « ميتًا » .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما « يخرج الحي من الميت » ، فيخرج السنبلة الحية من الحبة الميتة, ويخرج الحبة الميتة من السنبلة الحية, ويخرج النخلة الحية من النواة الميتة, ويخرج النواة الميتة من النخلة الحية.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن السدي, عن أبي مالك: « يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي » ، قال: النخلة من النواة، والنواة من النخلة, والحبة من السنبلة، والسنبلة من الحبة.

وقال آخرون بما:-

حدثني به المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ) ، قال: يخرج النطفة الميتة من الحي, ثم يخرج من النطفة بشرًا حيًّا.

قال أبو جعفر: وإنما اخترنا التأويل الذي اخترنا في ذلك, لأنه عَقِيب قوله: إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى ، على أن قوله: « يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي » ، وإن كان خبرًا من الله عن إخراجه من الحبّ السنبل ومن السنبل الحب, فإنه داخل في عمومه ما رُوي عن ابن عباس في تأويل ذلك. وكل ميّت أخرجه الله من جسمٍ حَيٍّ, وكل حيّ أخرجه الله من جسمٍ ميتٍ.

وأما قوله: « ذلكم الله » ، فإنه يقول: فاعل ذلك كلِّه اللهُ جل جلاله « فأنى تؤفكون » ، يقول: فأيّ وجوه الصدّ عن الحقّ، أيها الجاهلون، تصدّون عن الصواب وتصرفون, أفلا تتدبرون فتعلمون أنّه لا ينبغي أن يُجعل لمن أنعم عليكم بفلق الحب والنوى, فأخرج لكم من يابس الحب والنوى زروعًا وحُروثًا وثمارًا تتغذون ببعضه وتفكّهون ببعضه, شريكٌ في عبادته ما لا يضر ولا ينفع، ولا يسمع ولا يبصر؟

 

القول في تأويل قوله : فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا

قال أبو جعفر: يعني بقوله: « فالق الإصباح » ، شاقٌّ عمود الصبح عن ظلمة الليل وسواده.

و « الإصباح » مصدر من قول القائل: « أصبحنا إصباحًا » .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال عامة أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك: « فالق الإصباح » ، قال: إضاءة الصبح.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي, نجيح, عن مجاهد: « فالق الإصباح » ، قال: إضاءة الفجر.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « فالق الإصباح » ، قال: فالق الصُّبح.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس في قوله: « فالق الإصباح » ، يعني بالإصباح، ضوءَ الشمس بالنهار, وضوءَ القمر بالليل.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد: « فالق الإصباح » ، قال: فالق الصبح.

حدثنا به ابن حميد مرة بهذا الإسناد, عن مجاهد فقال في قوله: « فالق الإصباح » ، قال إضاءة الصبح.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد, في قوله: « فالق الإصباح » ، قال: فلق الإصباح عن الليل.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « فالق الإصباح » ، يقول: خالق النور, نور النهار.

وقال آخرون: معنى ذلك: خالق الليل والنهار .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس في قوله: ( فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَنًا ) ، يقول: خلق الليل والنهار.

وذكر عن الحسن البصري أنّه كان يقرأ: ( فَالِقُ الأصْبَاحِ ) ، بفتح الألف، كأنه تأول ذلك بمعنى جمع « صبح » , كأنه أراد صبح كل يوم, فجعله « أصباحًا » , ولم يبلغنا عن أحد سواه أنه قرأ كذلك. والقراءة التي لا نستجيز تعدِّيها، بكسر الألف: ( فالِقُ الإصْبَاح ) ، لإجماع الحجة من القرأة وأهل التأويل على صحة ذلك ورفضِ خلافه.

وأما قوله: « وجاعِلُ الليل سكنًا » ، فإن القرأة اختلفت في قراءته.

فقرأ ذلك عامة قرأة الحجاز والمدينة وبعض البصريين: ( وَجَاعِلُ اللَّيْلِ ) بالألف على لفظ الاسم، ورفعه عطفًا على « فالق » , وخفض « الليل » بإضافة « جاعل » إليه, ونصب « الشمس والقمر » ، عطفًا على موضع « الليل » ، لأن « الليل » وان كان مخفوضًا في اللفظ، فإنه في موضع النصب, لأنه مفعول « جاعل » . وحسن عطف ذلك على معنى « الليل » لا على لفظه, لدخول قوله: « سكنًا » بينه وبين « الليل » ، قال الشاعر:

قُعُـوداً لَـدَى الأبْـوَابِ طُـلابَ حاجَةٍ عَـوَانٍ مِـنَ الْحَاجَـاتِ أَوْ حَاجَةً بِكْرًا

فنصب « الحاجة » الثانية، عطفًا بها على معنى « الحاجة » الأولى, لا على لفظها، لأن معناها النصب، وإن كانت في اللفظ خفضًا. وقد يجيء مثل هذا أيضًا معطوفًا بالثاني على معنى الذي قبله لا على لفظه, وإن لم يكن بينهما حائل, كما قال بعضهم:

بَيْنَـــا نَحْـــنُ نَنْظُــرْهُ أَتَانَــا مُعلِّـــقَ شِـــكْوَةٍ وَزِنــادَ رَاعِ

وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: ( وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ ) ، على « فَعَلَ » ، بمعنى الفعل الماضي، ونصب « الليل » .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار, متفقتا المعنى، غير مختلفتيه, فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب في الإعراب والمعنى.

وأخبر جل ثناؤه أنه جعل الليل سكنًا, لأنه يسكن فيه كل متحرك بالنهار، ويهدأ فيه, فيستقر في مسكنه ومأواه.

 

القول في تأويل قوله : وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في ذلك:

فقال بعضهم: معنى ذلك: وجعل الشمس والقمر يجريان في أفلاكهما بحساب.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « والشمس والقمر حسبانًا » ، يعني: عدد الأيام والشهور والسنين .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « والشمس والقمر حسبانًا » ، قال: يجريان إلى أجلٍ جُعل لهما.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « والشمس والقمر حسبانًا » ، يقول: بحساب.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: « والشمس والقمر حسبانًا » ، قال: الشمس والقمر في حساب, فإذا خَلَتْ أيامهما فذاك آخرُ الدهر، وأول الفزع الأكبر « ذلك تقدير العزيز العليم » .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « والشمس والقمر حسبانًا » ، قال: يدوران في حساب.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: « والشمس والقمر حسبانًا » ، قال هو مثل قوله: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [ سورة الأنبياء: 33 ] ، ومثل قوله: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ [ سورة الرحمن: 5 ] .

وقال آخرون: معنى ذلك: وجعل الشمس والقمر ضياء.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « والشمس والقمر حسبانًا » ، أي ضياء.

قال أبو جعفر: وأولى القولين في تأويل ذلك عندي بالصواب، تأويل من تأوَّله: وجعل الشمس والقمرَ يجريان بحساب وعددٍ لبلوغ أمرهما ونهاية آجالهما, ويدوران لمصالح الخلق التي جُعِلا لها.

وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية, لأن الله تعالى ذكره ذكَر قبلَه أياديه عند خلقه، وعظم سلطانه, بفلقه الإصباح لهم، وإخراج النبات والغِراس من الحب والنوى, وعقّب ذلك بذكره خلق النجوم لهدايتهم في البر والبحر. فكان وصفه إجراءه الشمس والقمرَ لمنافعهم، أشبه بهذا الموضع من ذكر إضاءتهما، لأنه قد وصف ذلك قبلُ بقوله: « فالق الإصباح » ، فلا معنى لتكريره مرة أخرى في آية واحدة لغير معنى.

و « الحسبان » في كلام العرب جمع « حِساب » , كما « الشُّهبان » جمع شهاب. وقد قيل إن « الحسبان » ، في هذا الموضع مصدر من قول القائل: « حَسَبْتُ الحساب أحسُبُه حِسابًا وحُسْبانًا » . وحكي عن العرب: « على الله حُسْبان فلان وحِسْبته » ، أي: حسابه.

وأحسب أن قتادة في تأويل ذلك بمعنى الضياء, ذهب إلى شيء يروى عن ابن عباس في قوله: وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ [ سورة الكهف: 40 ] . قال: نارًا, فوجه تأويل قوله: « والشمس والقمر حسبانًا » ، إلى ذلك التأويل. وليس هذا من ذلك المعنى في شيء.

وأما « الحِسبان » بكسر « الحاء » ، فإنه جمع « الحِسبانة » ، وهي الوسادة الصغيرة, وليست من الأوَّليين أيضًا في شيء. يقال: « حَسَّبته » ، أجلستُه عليها.

ونصب قوله: « حسبانًا » بقوله: « وجعل » .

وكان بعض البصريين يقول: معناه: « والشمس والقمرَ حسبانًا » ، أي: بحساب, فحذف « الباء » ، كما حذفها من قوله: هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ [ سورة الأنعام: 117 ] ، أي: أعلم بمن يضل عن سبيله.

 

القول في تأويل قوله : ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ( 96 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهذا الفعل الذي وصفه أنه فعله, وهو فلقه الإصباح، وجعله الليل سكنًا والشمس والقمر حسبانًا, تقدير الذي عزّ سلطانه, فلا يقدر أحد أراده بسوء وعقاب أو انتقام، من الامتناع منه « العليم » ، بمصالح خلقه وتدبيرهم لا تقديرُ الأصنام والأوثان التي لا تسمع ولا تبصر، ولا تفقه شيئًا ولا تعقله، ولا تضر ولا تنفع, وإن أريدت بسوء لم تقدر على الامتناع منه ممن أرادها. يقول جل ثناؤه: وأخلصوا، أيها الجهلة، عبادتَكم لفاعل هذه الأشياء, ولا تشركوا في عبادته شيئًا غيره.

 

القول في تأويل قوله : وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 97 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والله الذي جعل لكم، أيها الناس، النجوم أدلةً في البر والبحر إذا ضللتم الطريق, أو تحيرتم فلم تهتدوا فيها ليلا تستدلّون بها على المحجَّة, فتهتدون بها إلى الطريق والمحجة، فتسلكونه وتنجون بها من ظلمات ذلك, كما قال جل ثناؤه: وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [ سورة النحل: 16 ] ، أي: من ضلال الطريق في البرّ والبحر وعنى بالظلمات، ظلمة الليل, وظلمة الخطأ والضلال, وظلمة الأرض أو الماء.

وقوله: « قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون » ، يقول: قد ميَّزنا الأدلة، وفرَّقنا الحجج فيكم وبيّناها، أيها الناس، ليتدبّرها أولو العلم بالله منكم، ويفهمها أولو الحجا منكم, فينيبوا من جهلهم الذي هم مقيمون عليه, وينـزجروا عن خطأ فعلهم الذي هم عليه ثابتون, ولا يتمادوا عنادًا لله مع علمهم بأن ما هم عليه مقيمون خطأ في غَيِّهم.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر » ، قال: يضلّ الرجل وهو في الظلمة والجور عن الطريق.

 

القول في تأويل قوله : وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ( 98 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإلهكم، أيها العادلون بالله غيره « الذي أنشأكم » ، يعني: الذي ابتدأ خلقكم من غير شيء، فأوجدكم بعد أن لم تكونوا شيئًا « من نفس واحدة » ، يعني: من آدم كما:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « من نفس واحدة » ، قال: آدم عليه السلام.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة » ، من آدم عليه السلام.

وأما قوله: « فمستقر ومستودع » ، فإن أهل التأويل في تأويله مختلفون.

فقال بعضهم: معنى ذلك: وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة, فمنكم مستقِرٌّ في الرحم، ومنكم مستودع في القبر حتى يبعثه الله لنَشْر القيامة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو معاوية, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن إبراهيم, عن عبد الله: وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ، [ سورة هود: 6 ] . قال: مُسْتَقَرَّهَا ، في الأرحام وَمُسْتَوْدَعَهَا ، حيث تموت.

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم, عن إسماعيل, عن إبراهيم, عن عبد الله أنه قال: « المستودع » حيث تموت, و « المستقر » ، ما في الرحم .

حدثت عن عبيد الله بن موسى, عن إسرائيل, عن السدي, عن مرة, عن عبد الله بن مسعود قال: « المستقر » ، الرحم, و « المستودع » ، المكان الذي تموت فيه.

حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا محمد بن فضيل وعلي بن هاشم, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن إبراهيم: وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا قال: مُسْتَقَرَّهَا ، في الأرحام وَمُسْتَوْدَعَهَا ، في الأرض، حيث تموت فيها.

حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس, عن ليث, عن مقسم قال: مُسْتَقَرَّهَا ، في الصلب حيث تأويل إليه وَمُسْتَوْدَعَهَا ، حيث تموت.

وقال آخرون: « المستودع » ، ما كان في أصلاب الآباء و « المستقر » ، ما كان في بطون النساء، وبطون الأرض، أو على ظهورها.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا كلثوم بن جبر, عن سعيد بن جبير في قوله: « فمستقر ومستودع » ، قال: مستودعون، ما كانوا في أصلاب الرجال. فإذا قرّوا في أرحام النساء أو على ظهر الأرض أو في بطنها, فقد استقرّوا.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن علية, عن كلثوم بن جبر, عن سعيد بن جبير: « فمستقر ومستودع » ، قال: المستودعون ما كانوا في أصلاب الرجال. فإذا قرّوا في أرحام النساء أو على ظهر الأرض، فقد استقروا.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن المغيرة بن النعمان, عن سعيد بن جبير قال، قال ابن عباس: وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ، [ سورة هود : 6 ] . قال: « المستودع » في الصلب و « المستقر » ، ما كان على وجه الأرض أو في الأرض.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: فمستقر في الأرض على ظهورها، ومستودع عند الله.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان, عن سفيان, عن المغيرة, عن أبي الجبر بن تميم بن حذلم, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « المستقر » الأرض, « والمستودع » ، عند الرحمن.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله, عن إسرائيل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: « المستقر » ، الأرض, و « المستودع » ، عند ربك.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن إبراهيم قال، قال عبد الله: مُسْتَقَرَّهَا ، في الدنيا, وَمُسْتَوْدَعَهَا ، في الآخرة يعني « فمستقر ومستودع » .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير قال: « المستودع » ، في الصلب, و « المستقر » ، في الآخرة وعلى وجه الأرض.

وقال آخرون: معنى ذلك: فمستقر في الرحم، ومستودع في الصلب.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص, عن أبي الحارث, عن عكرمة, عن ابن عباس في قول الله: « فمستقر ومستودع » ، قال: مستقر في الرحم, ومستودع في صلب، لم يخلق سَيُخلق.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن يحيى الجابر, عن عكرمة: « فمستقر ومستودع » ، قال: « المستقر » ، الذي قد استقر في الرحم, و « المستودع » ، الذي قد استودع في الصلب.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن أبي الجبر تميم, عن سعيد بن جبير, قال ابن عباس: سل! فقلت: « فمستقرّ ومستودع » ؟ قال: « المستقر » ، في الرحم, و « المستودع » ، ما استودع في الصلب.

حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس, عن قابوس, عن أبيه, عن ابن عباس في قوله: « فمستقر ومستودع » ، قال: « المستقر » الرحم, و « المستودع » ، ما كان عند رب العالمين مما هو خالقه ولم يخلق.

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس في قوله: وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا [ سورة هود: 6 ] ، قال: « المستقر » ، ما كان في الرحم مما هو حيٌّ، ومما قد مات و « المستودع » ، ما في الصلب.

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر, عن سعيد بن جيير قال: قال لي ابن عباس, وذلك قبل أن يَخْرُج وجهي أتزوّجت يا ابن جبير؟ قال: قلت لا وما أريد ذاك يومي هذا! قال فقال: أما إنه مع ذلك سيخرج ما كان في صلبك من المستودَعين.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جيير قال: قال لي ابن عباس: تزوجت؟ قلت: لا ! قال: فضرب ظهري وقال: ما كان من مستودَع في ظهرك سيخرج.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « فمستقر ومستودع » ، قال: « المستقر » ، في الأرحام, و « المستودع » ، في الصلب، لم يخلق وهو خالقه.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « فمستقر ومستودع » ، قال: « المستقر » ، في الرحم, و « المستودع » ، ما استودع في أصلاب الرجال والدوابّ.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد قال: « المستقر » ، ما استقرّ في الرحم, و « المستودع » ، ما استودع في الصلب.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن أبي الجبر بن تميم, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, بنحوه.

حدثنا هناد قال، حدثنا عبيدة بن حميد, عن عمار الدهني, عن رجل, عن كريب قال: دعاني ابن عباس فقال: اكتب: « بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله بن عباس، إلى فلان حَبْر تَيْماء، سلامٌ عليك, فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو, أما بعد قال، فقلت: تبدؤه تقول: السلام عليك؟ فقال: إن الله هو السلام ثم قال: اكتب » سلامٌ عليك, أما بعد، فحدثني عن: « مستقر ومستودع » . قال: ثم بعثني بالكتاب إلى اليهودي, فأعطيته إياه. فلما نظر إليه قال: مرحبًا بكتاب خليلي من المسلمين ! فذهب بي إلى بيته, ففتح أسفاطًا له كبيرة, فجعل يطرح تلك الأشياء لا يلتفت إليها. قال قلت: ما شأنك؟ قال: هذه أشياء كتبها اليهود! حتى أخرج سفر موسى عليه السلام، قال: فنظر إليه مرتين فقال: « المستقر » ، الرحم، قال: ثم قرأ: وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ [ سورة الحج: 5 ] ، وقرأ: وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ ، [ سورة البقرة :36 ] ، [ سورة الأعراف:24 ] . قال: مستقرُّه فوق الأرض, ومستقرُّه في الرحم, ومستقره تحت الأرض حتى يصير إلى الجنة أو إلى النار.

حدثنا هناد قال، حدثنا قبيصة, عن سفيان, عن ابن جريج, عن عطاء: « فمستقر ومستودع » ، قال: « المستقر » ، ما استقر في أرحام النساء, و « المستودع » ، ما استودع في أصلاب الرجال.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله, عن سفيان, عن ابن جريج, عن عطاء قال: « المستقر » ، الرحم, و « المستودع » ، في أصلاب الرجال.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا روح بن عبادة, عن ابن جريج, عن عطاء وعن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: « المستقر » ، الرحم, و « المستودع » ، في الأصلاب.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثناعيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « فمستقر » ، ما استقر في أرحام النساء « ومستودع » ، ما كان في أصلاب الرجال .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, بنحوه .

حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد قال: « المستقر » ، ما استقر في الرحم, و « المستودع » ، ما استودع في الصلب.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: « المستقر » ، الرحم, « والمستودع » ، الصلب .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا معاذ بن معاذ, عن ابن عون قال: أتينا إبراهيم عند المساء فأخبرونا أنه قد مات، فقلنا: هل سأله أحدٌ عن شيء؟ قالوا: عبد الرحمن بن الأسود، عن « المستقر » و « المستودع » ، فقال: « المستقر » ، في الرحم, و « المستودع » ، في الصلب.

حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا ابن عون قال: أتينا إبراهيم وقد مات، قال: فحدثني بعضهم: أنّ عبد الرحمن بن الأسود سأله قبل أن يموت عن « المستقر » و « المستودع » , فقال: « المستقر » ، في الرحم, « والمستودع » ، في الصلب.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن ابن عون: أتينا منـزل إبراهيم, فسألنا عنه فقالوا: قد توفي. وسأله عبد الرحمن بن الأسود, فذكر نحوه.

حدثني به يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن ابن عون: أنه بلغه: أنّ عبد الرحمن بن الأسود سأل إبراهيم عن ذلك, فذكر نحوه.

حدثنا عبيد الله بن محمد الفريابي قال، حدثنا ضمرة بن ربيعة, عن العلاء بن هارون قال: انتهيت إلى منـزل إبراهيم حين قبض, فقلت لهم: هل سأله أحد عن شيء؟ قالوا: سأله عبد الرحمن بن الأسود عن « مستقر ومستودع » , فقال: أما « المستقر » ، فما استقر في أرحام النساء, و « المستودع » ، ما في أصلاب الرجال.

حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس, عن ليث, عن مجاهد في « فمستقر ومستودع » ، قال: « المستقر » ، الرحم, و « المستودع » ، الصلب.

حدثني يونس قال، حدثني سفيان, عن رجل حدَّثه، عن سعيد بن جبير قال: قال لي ابن عباس: ألا تنكح؟ ثم قال: أما إني أقول لك هذا، وإني لأعلم أن الله مخرجٌ من صلبك ما كان فيه مستودَع.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: « المستقر » ، في الرحم, و « المستودع » ، في الصلب.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة, عن ابن عباس: « فمستقر ومستودع » ، قال: « مستقر » ، في الرحم, و « مستودع » ، في الصلب.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « فمستقر ومستودع » ، قال: « مستقر » ، في الرحم, و « مستودع » ، في الصلب.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان, عن الضحاك: « فمستقر ومستودع » ، أما « مستقر » ، فما استقر في الرحم وأما « مستودع » ، فما استودع في الصلب.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « فمستقر ومستودع » ، قال: « مستقر » ، في الأرحام, « ومستودع » ، في الأصلاب.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير وأبي حمزة, عن إبراهيم قالا « مستقر ومستودع » , « المستقر » ، في الرحم, و « المستودع » ، في الصلب.

وقال آخرون: « المستقر » ، في القبر, « والمستودع » ، في الدنيا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: كان الحسن يقول: « مستقر » ، في القبر, « ومستودع » في الدنيا، وأوشك أن يلحق بصاحبه.

قال أبو جعفر: وأولى التأويلات في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله جل ثناؤه عمّ بقوله: « فمستقر ومستودع » ، كلَّ خلقه الذي أنشأ من نفس واحدة، مستقرًّا ومستودعًا, ولم يخصص من ذلك معنى دون معنى. ولا شك أنّ من بني آدم مستقرًّا في الرحم، ومستودعًا في الصلب, ومنهم من هو مستقر على ظهر الأرض أو بطنها، ومستودع في أصلاب الرجال, ومنهم مستقر في القبر، مستودع على ظهر الأرض. فكلٌّ « مستقر » أو « مستودع » بمعنى من هذه المعاني، فداخل في عموم قوله: « فمستقر ومستودع » ومراد به، إلا أن يأتي خبرٌ يجب التسليم له بأنه معنيٌّ به معنى دون معنى، وخاص دون عام.

واختلفت القرأة في قراءة قوله: « فمستقر ومستودع » .

فقرأت ذلك عامة قرأة أهل المدينة والكوفة: ( فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ) ، بمعنى: فمنهم من استقرّه الله في مقرِّه، فهو مستقَرٌّ ومنهم من استودعه الله فيما استودعه فيه، فهو مستودَع فيه.

وقرأ ذلك بعض أهل المدينة وبعض أهل البصرة: ( فَمُسْتَقِرٌّ ) ، بكسر « القاف » بمعنى: فمنهم من استقرّ في مقرّه، فهو مستقِرّ به.

وأولى القراءتين بالصواب عندي، وإن كان لكليهما عندي وجه صحيح: ( فَمُسْتَقَرٌّ ) ، بمعنى: استقرّه الله في مستقَرِّه, ليأتلف المعنى فيه وفي « المستودَع » ، في أن كل واحد منهما لم يسمَّ فاعله, وفي إضافة الخبر بذلك إلى الله في أنه المستقِرُّ هذا، والمستودِع هذا. وذلك أن الجميع مجمعون على قراءة قوله: « ومستودَع » بفتح « الدال » على وجه ما لم يسمَّ فاعله, فإجراء الأوّل أعني قوله: « فمستقر » عليه، أشبه من عُدُوله عنه.

وأما قوله: « قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون » ، يقول تعالى: قد بيّنا الحجج، وميزنا الأدلة والأعلام وأحكمناها « لقوم يفقهون » ، مواقعَ الحجج ومواضع العبر، ويفهمون الآيات والذكر, فإنهم إذا اعتبروا بما نبّهتهم عليه من إنشائي من نفس واحدة ما عاينوا من البشر، وخلقي ما خلقت منها من عجائب الألوان والصور, علموا أنّ ذلك من فعل من ليس له مثل ولا شريك فيشركوه في عبادتهم إياه، كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون » ، يقول: قد بينا الآيات لقوم يفقهون.

 

القول في تأويل قوله : وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والله الذي له العبادة خالصة لا شريك فيها لشيء سواه, هو الإله الذي أنـزل من السماء ماء « فأخرجنا به نبات كل شيء » ، فأخرجنا بالماء الذي أنـزلناه من السماء من غذاء الأنعام والبهائم والطير والوحش وأرزاق بني آدم وأقواتهم، ما يتغذون به ويأكلونه فينبتُون عليه وينمون. وإنما معنى قوله: « فأخرجنا به نبات كل شيء » ، فأخرجنا به ما ينبت به كل شيء وينمو عليه ويصلحُ.

ولو قيل: معناه: فأخرجنا به نبات جميع أنواع النبات، فيكون « كل شيء » ، هو أصناف النبات كان مذهبًا، وإن كان الوجه الصحيح هو القولَ الأول.

وقوله: « فأخرجنا منه خضرًا » ، يقول: « فأخرجنا منه » ، يعني: من الماء الذي أنـزلناه من السماء « خَضِرًا » ، رطبًا من الزرع.

« والخضر » ، هو « الأخضر » , كقول العرب: « أرِنيهَا نَمِرة، أُرِكْها مَطِرَة » . يقال: « خَضِرَت الأرض خَضَرًا. وخَضَارة » . و « الخضر » رطب البقول, ويقال: « نخلة خضيرة » ، إذا كانت ترمي ببسرها أخضر قبل أن ينضج. و « قد اختُضِر الرجل » و « اغْتُضِر » ، إذا مات شابًّا مُصَحَّحًا. ويقال: « هو لك خَضِرًا مَضِرًا » ، أي هنيئًا مريئًا.

قوله: « نخرج منه حبًّا متراكبًا » ، يقول: نخرج من الخضر حبًّا يعني: ما في السنبل, سنبل الحنطة والشعير والأرز, وما أشبه ذلك من السنابل التي حبُّها يركب بعضه بعضًا.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: « منه خضرًا نخرج منه حبًّا متراكبًا » ، فهذا السنبل.

 

القول في تأويل قوله : وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن النخل من طلعها قنوانه دانية، ولذلك رفعت « القِنوان » .

و « القنوان » جمع « قِنْو » , كما « الصنوان » جمع « صِنْو » , وهو العِذْق, يقال للواحد هو « قِنْو » ، و « قُنْو » و « قَنَا » ، يثنى « قِنوانِ » , ويجمع « قنوانٌ » و « قُنوانٌ » . قالوا في جمع قليله: « ثلاثة أقْناء » . و « القِنوان » من لغة الحجاز, و « القُنْوان » ، من لغة قيس، وقال امرؤ القيس:

فَـــأَثَّتْ أَعَالِيــهِ, وَآدَتْ أُصُولُــهُ وَمَـالَ بِقِنْـوانٍ مِـنَ البُسْـرِ أَحْـمَرَا

و « قِنْيان » ، جميعًا، وقال آخر:

لَهَـا ذَنَـبٌ كَـالْقِنْوِ قَـدْ مَـذِلَتْ بِـهِ وَأَسْــحَمَ لِلتَّخْطَــارِ بَعْـدَ التَّشَـذُّرِ

وتميم تقول: « قُنْيان » بالياء.

ويعني بقوله: « دانية » ، قريبة متهدّلة.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « قنوان دانية » ، يعني ب « القنوان الدانية » ، قصار النخل، لاصقة عُذُوقها بالأرض.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « من طلعها قنوان دانية » ، قال: عذوق متهدلة .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « قنوان دانية » ، يقول: متهدلة.

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع, وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن البراء في قوله: « قنوان دانية » ، قال: قريبة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن أبي إسحاق, عن البراء بن عازب: « قنوان دانية » ، قال: قريبة.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « ومن النخل من طلعها قنوان دانية » ، قال: الدانية، لتهدُّل العُذوق من الطلع.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « ومن النخل من طلعها قنوان دانية » ، يعني النخل القصارَ الملتزقة بالأرض, و « القنوان » طلعه.

 

القول في تأويل قوله : وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأخرجنا أيضًا جنات من أعناب يعني: بساتينَ من أعناب.

واختلف القرأة في قراءة ذلك.

فقرأه عامة القرأة: ( وَجَنَّاتٍ ) نصبًا, غير أن « التاء » كسرت، لأنها « تاء » جمع المؤنث, وهي تخفض في موضع النصب.

وقد:-

حدثني الحارث قال، حدثنا القاسم بن سلام, عن الكسائي قال، أخبرنا حمزة, عن الأعمش أنه قرأ: ( وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ ) .

بالرفع، فرفع « جنات » على إتباعها « القنوان » في الإعراب, وإن لم تكن من جنسها، كما قال الشاعر:

وَرَأَيْــتِ زَوْجَــكِ فِــي الـوَغَى مُتَقَلِّــــدًا سَــــيْفًا وَرُمْحَـــا

قال أبو جعفر: والقراءة التي لا أستجيز أن يقرأ ذلك إلا بها، النصبُ: ( وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ ) ، لإجماع الحجة من القرأة على تصويبها والقراءة بها، ورفضهم ما عداها, وبُعْدِ معنى ذلك من الصواب إذ قرئ رفعًا.

وقوله: « والزيتون والرمان » ، عطف ب « الزيتون » على « الجنات » ، بمعنى: وأخرجنا الزيتونَ والرمان مشتبهًا وغير متشابه.

وكان قتادة يقول في معنى « مشتبهًا وغير متشابه » ، ما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبهًا وغير متشابه » ، قال: مشتبهًا ورقه, مختلفًا ثمرُه .

وجائز أن يكون مرادًا به: مشتبهًا في الخلق، مختلفًا في الطعم.

قال أبو جعفر: ومعنى الكلام: وشجر الزيتون والرمان, فاكتفى من ذكر « الشجر » بذكر ثمره, كما قيل: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ، [ سورة يوسف: 82 ] ، فاكتفى بذكر « القرية » من ذكر « أهلها » , لمعرفة المخاطبين بذلك بمعناه.

 

القول في تأويل قوله : انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ

قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعض أهل البصرة: ( انْظُرُوا إلَى ثَمَرِهِ ) ، بفتح « الثاء » و « الميم » .

وقرأه بعض قرأة أهل مكة وعامة قرأة الكوفيين: ( إلَى ثُمُرِهِ ) ، بضم « الثاء » و « الميم » .

فكأنّ من فتح « الثاء » و « الميم » من ذلك، وجَّه معنى الكلام: انطروا إلى ثمر هذه الأشجار التي سمينا من النخل والأعناب والزيتون والرمان إذا أثمرَ وأن « الثمر » جمع « ثمرة » , كما « القصب » ، جمع « قصبة » , و « الخشب » جمع « خشبة » .

وكأنّ من ضم « الثاء » و « الميم » , وجَّه ذلك إلى أنه جمع « ثِمَار » , كما « الحُمُر » جمع « حمار » , و « الجُرُب » جمع « جراب » ، وقد:-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد, عن ابن إدريس, عن الأعمش, عن يحيى بن وثاب: أنه كان يقرأ: ( إلَى ثُمُرِهِ ) ، يقول: هو أصناف المال.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي حماد قال، حدثنا محمد بن عبيد الله, عن قيس بن سعد, عن مجاهد قال: « الثُّمُر » ، هو المال و « الثمر » ، ثَمَر النخل.

وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب, قراءة من قرأ: ( انْظُرُوا إلَى ثُمُرِهِ ) بضم « الثاء » و « الميم » , لأن الله جل ثناؤه وصفَ أصنافًا من المال كما قال يحيى بن وثاب، وكذلك حبّ الزرع المتراكب, وقنوان النخل الدانية, والجنات من الأعناب والزيتون والرمان, فكان ذلك أنواعًا من الثمر, فجمعت « الثمرة » « ثمرًا » ، ثم جمع « الثمر » « ثمارًا » , ثم جمع ذلك فقيل: ( انْظُرُوا إلَى ثُمُرِهِ ) , فكان ذلك جمع « الثمار » و « الثمار » جمع « الثمر » و « إثماره » ، عقدُ الثمر.

وأما قوله: « وَينْعه » ، فإنه نُضجه وبلوغُه حين يبلغ.

وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يقول في « يَنْعه » إذا فتحت ياؤه، هو جمع « يانع » , كما « التَّجْر » جمع « تاجر » , و « الصحب » جمع « صاحب » .

وكان بعض أهل الكوفة ينكر ذلك، ويرى أنه مصدر من قولهم: « ينع الثمر فهو يَيْنع يَنْعًا » ، ويحكى في مصدره عن العرب لغات ثلاثًا: « يَنْع » , و « يُنْع » , و « يَنَع » , وكذلك في « النَّضْج » « النُّضج » و « النَّضَج » .

وأما في قراءة من قرأ ذلك: ( وَيَانِعِهِ ) ، فإنه يعني به: وناضجه، وبالغه.

وقد يجوز في مصدره « يُنُوعًا » , ومسموع من العرب: « أينعت الثمرة تُونِع إيناعًا » ، ومن لغة الذين قالوا: « ينع » , قول الشاعر:

فِـــي قِبَــابٍ عِنْــدَ دَسْــكَرَةٍ حَوْلَهَـــا الزَّيْتُــونُ قَــدْ يَنَعَــا

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « وينعه » ، يعني: إذا نضج.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه » ، قال: « ينعه » ، نضجه.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه » ، أي نضجه.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « وينعه » ، قال: نضجه.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وينعه » ، يقول: ونضجه.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « وينعه » ، قال: يعني نضجه.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: « وينعه » ، قال: نضجه.

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 99 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره إن في إنـزال الله من السماء الماءَ الذي أخرج به نباتَ كل شيء, والخضِرَ الذي أخرج منه الحبَّ المتراكب, وسائر ما عدَّد في هذه الآية من صنوف خلقه « لآيات » ، يقول: في ذلكم، أيها الناس، إذا أنتم نظرتم إلى ثمره عند عقد ثمره, وعند ينعه وانتهائه, فرأيتم اختلاف أحواله وتصرفه في زيادته ونموّه, علمتم أن له مدبِّرًا ليس كمثله شيء, ولا تصلح العبادة إلا له دون الآلهة والأنداد, وكان فيه حجج وبرهان وبيان « لقوم يؤمنون » ، يقول: لقوم يصدقون بوحدانية الله وقدرته على ما يشاء.

وخصّ بذلك تعالى ذكره القوم الذين يؤمنون, لأنهم هم المنتفعون بحجج الله والمعتبرون بها, دون من قد طَبعَ الله على قلبه، فلا يعرف حقًّا من باطل، ولا يتبين هدًى من ضلالة.

 

القول في تأويل قوله : وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وجعل هؤلاء العادلون بربهم الآلهةَ والأندادَ لله شركاء، الجن، كما قال جل ثناؤه: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا [ سورة الصافات: 158 ] .

وفي الجن وجهان من النصب.

أحدهما: أن يكون تفسيرًا للشركاء. .

والآخر: أن يكون معنى الكلام: وجعلوا لله الجن شركاء، وهو خالقهم .

واختلفوا في قراءة قوله: « وخلقهم » .

فقرأته قراء الأمصار: ( وَخَلَقَهُمْ ) ، على معنى أن الله خلقهم، منفردًا بخلقه إياهم . .

وذكر عن يحيى بن يعمر ما:-

حدثني به أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا حجاج, عن هارون, عن واصل مولى أبي عيينة, عن يحيى بن عقيل, عن يحيى بن يعمر: أنه قال: « شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ » .

بجزم « اللام » بمعنى أنهم قالوا: إنّ الجنّ شركاء لله في خلقه إيّانا .

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب، قراءة من قرأ ذلك: ( وَخَلَقَهُمْ ) ، لإجماع الحجة من القرأة عليها .

وأما قوله: ( وخرقوا له بنين وبنات بغير علم ) ، فإنه يعني بقوله: ( خرقوا ) اختلقوا.

يقال: « اختلق فلان على فلان كذبًا » و « اخترقه » ، إذا افتعله وافتراه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: وجعلوا لله شركاء الجن والله خلقهم « وخرقوا له بنين وبنات » ، يعني أنهم تخرَّصوا .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « وخرقوا له بنين وبنات بغير علم » ، قال: جعلوا له بنين وبنات بغير علم .

حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وخرقوا له بنين وبنات بغير علم » ، قال: كذبوا .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « وجعلوا لله شركاء الجن » كذبوا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ، عما يكذبون . أما العرب فجعلوا له البنات، ولهم ما يشتهون من الغلمان وأما اليهود فجعلوا بينه وبين الجنة نسبًا ولقد علمت الجنة أنهم لمحضرُون .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « وخرقوا له بنين وبنات بغير علم » قال: خرصوا له بنين وبنات .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وخرقوا له بنين وبنات بغير علم » ، يقول: قطعوا له بنين وبنات. قالت العرب: الملائكة بنات الله وقالت اليهود والنصارى: المسيح وعزير ابنا الله .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله: « وخرقوا له بنين وبنات بغير علم » ، قال: « خرقوا » ، كذبوا، لم يكن لله بنون ولا بنات قالت النصارى: المسيح ابن الله وقال المشركون: الملائكة بنات الله فكلٌّ خرقوا الكذب، « وخرقوا » ، اخترقوا .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: « وجعلوا لله شركاء الجن » ، قال: قول: الزنادقة « وخرقوا له » ، قال ابن جريج، قال مجاهد: « خرقوا » ، كذبوا .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن جويبر, عن الضحاك: « وخرقوا له بنين وبنات » ، قال: وصفوا له .

حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث, عن أبي عمرو: « وخرقوا له بنين وبنات » ، قال: تفسيرها: وكذبوا .

قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: وجعلوا لله الجنَّ شركاءَ في عبادتهم إياه, وهو المنفرد بخلقهم بغير شريك ولا معين ولا ظهير « وخرقوا له بنين وبنات » ، يقول: وتخرَّصوا لله كذبًا, فافتعلوا له بنين وبنات بغير علم منهم بحقيقة ما يقولون, ولكن جهلا بالله وبعظمته، وأنه لا ينبعي لمن كان إلهًا أن يكون له بنون وبنات ولا صاحبة, ولا أن يشركه في خلقه شريك .

 

القول في تأويل قوله : سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ( 100 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: تنـزه الله، وعلا فارتفع عن الذي يصفه به هؤلاء الجهلة من خلقه، في ادّعائهم له شركاء من الجن، واختراقهم له بنين وبنات، وذلك لا ينبغي أن يكون من صفته، لأن ذلك من صفة خلقه الذين يكون منهم الجماع الذي يحدث عنه الأولاد, والذين تضطرّهم لضعفهم الشهواتُ إلى اتخاذ الصاحبة لقضاء اللذات, وليس الله تعالى ذكره بالعاجز فيضطره شيء إلى شيء, و لا بالضعيف المحتاج فتدعوه حاجته إلى النساء إلى اتخاذ صاحبة لقضاء لذة .

وقوله: « تعالى » ، « تفاعل » من « العلوّ » ، والارتفاع .

وروي عن قتادة في تأويل قوله: « عما يصفون » ، أنه: يكذبون .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « سبحانه وتعالى عما يصفون » ، عما يكذبون .

وأحسب أن قتادة عنى بتأويله ذلك كذلك, أنهم يكذبون في وصفهم الله بما كانوا يصفونه به، من ادعائهم له بنين وبنات لا أنه وجه تأويل « الوصف » إلى الكذب .

 

القول في تأويل قوله : بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الله الذي جعل هؤلاء الكفرة به له الجنَّ شركاءَ، وخرقوا له بنين وبنات بغير علم « بديع السماوات والأرض » ، يعني: مبتدعها ومحدثها وموجدها بعد أن لم تكن ، كما:-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: « بديع السماوات والأرض » ، قال: هو الذي ابتدع خلقهما جل جلاله، فخلقهما ولم يكونا شيئًا قبله .

« أنّى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة » ، والولد إنما يكون من الذكر والأنثى, ولا ينبغي أن يكون لله سبحانه صاحبة، فيكون له ولد. وذلك أنه هو الذي خلق كل شيء . يقول: فإذا كان لا شيء إلا اللهُ خلقه, فأنّى يكون لله ولد، ولم تكن له صاحبة فيكون له منها ولد ؟

 

القول في تأويل قوله : وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 101 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والله خلق كل شيء، ولا خالق سواه. وكلُّ ما تدَّعون أيها العادلون بالله الأوثان من دونه، خلقُه وعبيده, مِلكًا، كان الذي تدعونه ربًّا وتزعمون أنه له ولد، أو جنيًّا أو إنسيًّا « وهو بكل شيء عليم » ، يقول: والله الذي خلق كل شيء, لا يخفى عليه ما خلق ولا شيء منه, ولا يعزب عنه مثقالُ ذرة في الأرض ولا في السماء, عالم بعددكم وأعمالكم، وأعمال من دعوتموه ربًّا أو لله ولدًا, وهو محصيها عليكم وعليهم، حتى يجازي كلا بعمله .