القول في تأويل قوله : فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ( 147 )

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فإن كذبك، يا محمد، هؤلاء اليهود فيما أخبرناك أنا حرمنا عليهم وحللنا لهم، كما بينا في هذه الآية « فقل ربكم ذو رحمة » ، بنا، وبمن كان به مؤمنًا من عباده، وبغيرهم من خلقه « واسعة » , تسع جميع خلقه، المحسنَ والمسيء, لا يعاجل من كفر به بالعقوبة، ولا من عصاه بالنِّقمة, ولا يدع كرامة من آمن به وأطاعه، ولا يحرمه ثواب عمله, رحمة منه بكلا الفريقين، ولكن بأسه وذلك سطوته وعذابه لا يردّه إذا أحله عند غضبه على المجرمين بهم عنهم شيء و « المجرمون » هم الذين أجرَموا فاكتسبوا الذنوب واجترحوا السيئات .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( فإن كذبوك ) ، اليهود .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( فإن كذبوك ) ، اليهود ( فقل ربكم ذو رحمة واسعة ) .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال، كانت اليهود يقولون: إنما حرّمه إسرائيل يعني: الثَّرْب وشحم الكليتين فنحن نحرمه, فذلك قوله: ( فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يردّ بأسه عن القوم المجرمين ) .

 

القول في تأويل قوله : سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: ( سيقول الذين أشركوا ) ، وهم العادلون بالله الأوثان والأصنام من مشركي قريش ( لو شاء الله ما أشركنا ) ، يقول: قالوا احتجازًا من الإذعان للحق بالباطل من الحجة، لما تبين لهم الحق, وعلموا باطل ما كانوا عليه مقيمين من شركهم, وتحريمهم ما كانوا يحرّمون من الحروث والأنعام, على ما قد بيَّن تعالى ذكره في الآيات الماضية قبل ذلك: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا ، وما بعد ذلك: لو أراد الله منا الإيمان به، وإفراده بالعبادة دون الأوثان والآلهة، وتحليل ما حرم من البحائر والسوائب وغير ذلك من أموالنا, ما جعلنا لله شريكًا, ولا جعل ذلك له آباؤنا من قبلنا, ولا حرمنا ما نحرمه من هذه الأشياء التي نحن على تحريمها مقيمون، لأنه قادر على أن يحول بيننا وبين ذلك, حتى لا يكون لنا إلى فعل شيء من ذلك سبيل: إما بأن يضطرنا إلى الإيمان وترك الشرك به، وإلى القول بتحليل ما حرمنا وأما بأن يلطف بنا بتوفيقه، فنصير إلى الإقرار بوحدانيته، وترك عبادة ما دونه من الأنداد والأصنام, وإلى تحليل ما حرمنا ، ولكنه رضي منا ما نحن عليه من عبادة الأوثان والأصنام, واتخاذ الشريك له في العبادة والأنداد, وأراد ما نحرّم من الحروث والأنعام, فلم يَحُلْ بيننا وبين ما نحن عليه من ذلك .

قال الله مكذبًا لهم في قيلهم: « إن الله رضي منا ما نحن عليه من الشرك، وتحريم ما نحرّم » ورادًّا عليهم باطلَ ما احتجوا به من حجتهم في ذلك ( كذلك كذب الذين من قبلهم ) ، يقول: كما كذب هؤلاء المشركون، يا محمد، ما جئتهم به من الحق والبيان, كذب من قبلهم من فسقة الأمم الذين طَغَوا على ربهم ما جاءتهم به أنبياؤهم من آيات الله وواضح حججه, وردُّوا عليهم نصائحهم ( حتى ذاقوا بأسنا ) ، يقول: حتى أسخطونا فغضبنا عليهم, فأحللنا بهم بأسنا فذاقوه, فعطبوا بذوقهم إياه, فخابوا وخسروا الدنيا والآخرة. يقول: وهؤلاء الآخرون مسلوك بهم سبيلهم, إن هم لم ينيبوا فيؤمنوا ويصدقوا بما جئتهم به من عند ربهم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ) ، وقال: ( كذلك كذب الذين من قبلهم ) , ثم قال: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا ، فإنهم قالوا: « عبادتنا الآلهة تقرّبنا إلى الله زلفى » , فأخبرهم الله أنها لا تقربهم, وقوله: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا ، يقول الله سبحانه: لو شئت لجمعتهم على الهدى أجمعين .

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( ولا حرمنا من شيء ) ، قال: قول قريش يعني: إن الله حرم هذه البحيرة والسائبة .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( ولا حرمنا من شيء ) ، قولُ قريش بغير يقين: إن الله حرّم هذه البحيرة والسائبة .

فإن قال قائل: وما برهانك على أن الله تعالى إنما كذب من قيل هؤلاء المشركين قولهم: « رضي الله منا عبادة الأوثان, وارأد منا تحريم ما حرمنا من الحروث والأنعام » , دون أن يكون تكذيبه إياهم كان على قولهم: ( لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء ) ، وعلى وصفهم إياه بأنه قد شاء شركهم وشرك آبائهم, وتحريمهم ما كانوا يحرمون؟

قيل له: الدلالة على ذلك قوله: ( كذلك كذب الذين من قبلهم ) ، فأخبر جل ثناؤه عنهم أنهم سلكوا في تكذيبهم نبيهم محمدًا صلى الله عليه وسلم فيما آتاهم به من عند الله من النهي عن عبادة شيء غير الله تعالى ذكره, وتحريم غير ما حرّم الله في كتابه وعلى لسان رسوله مسلكَ أسلافهم من الأمم الخالية المكذبة اللهَ ورسولَه . والتكذيبُ منهم إنما كان لمكذَّب, ولو كان ذلك خبرًا من الله عن كذبهم في قيلهم: ( لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ) ، لقال: « كذلك كذَبَ الذين من قبلهم » ، بتخفيف « الذال » , وكان ينسبهم في قيلهم ذلك إلى الكذب على الله، لا إلى التكذيب مع علل كثيرة يطول بذكرها الكتاب, وفيما ذكرنا كفاية لمن وُفِّق لفهمه .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ ( 148 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام، المحرِّمين ما هم له محرِّمون من الحُروث والأنعام, القائلين: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ ، ولكنه رضي منا ما نحن عليه من الشرك وتحريم ما نحرم: « هل عندكم » ، بدعواكم ما تدعون على الله من رضاه بإشراككم في عبادته ما تشركون، وتحريمكم من أموالكم ما تحرمون علمُ يقينٍ من خبر مَنْ يقطع خبره العذر, أو حجة توجب لنا اليقين، من العلم « فتخرجوه لنا » ، يقول: فتظهروا ذلك لنا وتبينوه, كما بينا لكم مواضع خطأ قولكم وفعلكم, وتناقض ذلك واستحالته في المعقول والمسموع ( إن تتبعون إلا الظن ) ، يقولُ له: قل لهم: إن تقولون ما تقولون، أيها المشركون، وتعبدون من الأوثان والأصنام ما تعبدون، وتحرمون من الحروث والأنعام ما تحرّمون، إلا ظنًّا وحسبانًا أنه حق, وأنكم على حق، وهو باطلٌ, وأنتم على باطل ( وإن أنتم إلا تخرصون ) ، يقول: « وإن أنتم » , وما أنتم في ذلك كله « إلا تخرصون » , يقول: إلا تتقوّلون الباطل على الله، ظنًّا بغير يقين علم ولا برهان واضح .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ( 149 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام, القائلين على ربهم الكذبَ، في تحريمهم ما حرموا من الحروث والأنعام, إن عجزوا عن إقامة الحجة عند قيلك لهم: « هل عندكم من علم بما تدعون على ربكم فتخرجوه لنا » , وعن إخراج علم ذلك لك وإظهاره, وهم لا شك عن ذلك عَجَزَة, وعن إظهاره مقصرون, لأنه باطل لا حقيقة له ( فلله ) ، الذي حرم عليكم أن تشركوا به شيئًا, وأن تتبعوا خطوات الشيطان في أموالكم من الحروث والأنعام ( الحجة البالغة ) ، دونكم أيها المشركون .

ويعني بـ « البالغة » ، أنها تبلغ مراده في ثبوتها على مَنْ احتج بها عليه من خلقه, وقَطْعِ عُذْرِه إذا انتهت إليه فيما جُعِلت حجة فيه .

( فلو شاء لهداكم أجمعين ) ، يقول: فلو شاء ربكم لوفَّقكم أجمعين للإجماع على إفراده بالعبادة، والبراءة من الأنداد والآلهة، والدينونة بتحريم ما حرم الله وتحليل ما حلله الله, وترك اتباع خطوات الشيطان, وغير ذلك من طاعاته، ولكنه لم يشأ ذلك، فخالف بين خلقه فيما شاء منهم, فمنهم كافر ومنهم مؤمن .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس قال، لا حجة لأحد عصَى الله, ولكن لله الحجة البالغة على عباده . وقال: ( فلو شاء لهداكم أجمعين ) ، قال: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [ سورة الأنبياء: 23 ] .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ( 150 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء المفترين على ربهم من عبدة الأوثان, الزاعمين أنّ الله حرم عليهم ما هم محرموه من حروثهم وأنعامهم ( هلم شهداءكم ) ، يقول: هاتوا شهداءكم الذين يشهدون على الله أنه حرم عليكم ما تزعمون أنه حرمه عليكم .

وأهل العالية من تهامة توحِّد « هلم » في الواحد والاثنين والجميع, وتذكر في المؤنث والمذكر, فتقول للواحد: « هلم يا فلان » ، وللاثنين والجميع كذلك, وللأنثى مثله، ومنه قول الأعشى:

وَكَـــانَ دَعَــا قَوْمَــهُ دَعْــوَةً هَلُــمَّ إلَــى أَمْــرِكُمْ قَـدْ صُـرِمْ

ينشد: « هلم » ، و « هلموا » . وأما أهل السافلة من نجد، فإنهم يوحِّدون للواحد، ويثنُّون للاثنين، ويجمعون للجميع. فيقال للواحد من الرجال: « هلم » وللواحدة من النساء: « هلمي » , وللاثنين: « هلما » , وللجماعة من الرجال: « هلموا » , وللنساء: « هَلْمُمْنَ » .

قال الله لنبيه: ( فإن شهدوا ) ، يقول: يا محمد, فإن جاءوك بشهداء يشهدون أن الله حَرَّم ما يزعمون أن الله حرمه عليهم ( فلا تشهد معهم ) ، فإنهم كذبة وشهود زور في شهادتهم بما شهدوا به من ذلك على الله . وخاطب بذلك جل ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم, والمراد به أصحابه والمؤمنون به ( ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا ) ، يقول: ولا تتابعهم على ما هم عليه من التكذيب بوحي الله وتنـزيله، في تحريم ما حرم، وتحليل ما أحل لهم, ولكن اتبع ما أوحي إليك من كتاب ربك الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ( والذين لا يؤمنون بالآخرة ) ، يقول: ولا تتبع أهواء الذين لا يؤمنون بالآخرة, فتكذب بما هم به مكذبون من إحياء الله خلقه بعد مماتهم، ونشره إياهم بعد فنائهم ( وهم بربهم يعدلون ) ، يقول: وهم مع تكذيبهم بالبعث بعد الممات، وجحودهم قيام الساعة، بالله يعدلون الأوثانَ والأصنامَ, فيجعلونها له عِدْلا ويتخذونها له ندًّا يعبدونها من دونه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: ( هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا ) ، يقول: قل أروني الذين يشهدون أن الله حرم هذا مما حرمت العرب, وقالوا: أمرنا الله به . قال الله لرسوله: ( فإن شهدوا فلا تشهد معهم ) .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: ( هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا ) ، قال: البحائر والسُّيَّب .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام, الزاعمين أن الله حرم عليهم ما هم محرِّموه من حروثهم وأنعامهم, على ما ذكرت لك في تنـزيلي عليك : تعالوا، أيها القوم، أقرأ عليكم ما حرم ربكم حقًا يقينًا, لا الباطل تخرُّصًا، تخرُّصَكم على الله الكذبَ والفريةَ ظنًّا, ولكن وحيًا من الله أوحاه إليّ, وتنـزيلا أنـزله عليّ: أن لا تشركوا بالله شيئًا من خلقه، ولا تعدلوا به الأوثان والأصنام، ولا تعبدوا شيئًا سواه ( وبالوالدين إحسانًا ) ، يقول: وأوصى بالوالدين إحسانًا وحذف « أوصى » و « أمر » ، لدلالة الكلام عليه ومعرفة السامع بمعناه. وقد بينا ذلك بشواهده فيما مضى من الكتاب .

وأما « أن » في قوله: ( أن لا تشركوا به شيئًا ) ، فرفعٌ, لأن معنى الكلام: قل تعالوا أتلُ ما حرّم ربكم عليكم, هو أن لا تشركوا به شيئًا .

وإذا كان ذلك معناه, كان في قوله: ( تشركوا ) ، وجهان:

الجزم بالنهي, وتوجيهه « لا » إلى معنى النهي .

والنصب، على توجيه الكلام إلى الخبر, ونصب « تشركوا » ، بـ « أن لا » ، كما يقال: « أمرتك أن لا تقوم » .

وإن شئت جعلت « أن » في موضع نصبٍ، ردًّا على « ما » وبيانًا عنها, ويكون في قوله: ( تشركوا ) ، أيضًا من وجهي الإعراب، نحو ما كان فيه منه. و « أن » في موضع رفع.

ويكون تأويل الكلام حينئذ: قل: تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم, أتلُ أن لا تشركوا به شيئًا .

فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يكون قوله ( تشركوا ) نصبًا بـ « أن لا » , أم كيف يجوز توجيه قوله: « ألا تشركوا به » , على معنى الخبر, وقد عطف عليه بقوله: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ ، وما بعد ذلك من جزم النهي؟ قيل: جاز ذلك، كما قال تعالى ذكره: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ، فجعل « أن أكون » خبرًا، و « أنْ » اسمًا, ثم عطف عليه وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، [ سورة الأنعام: 14 ] , وكما قال الشاعر:

حَــجَّ وَأوْصَــى بِسُـلَيْمَى الأعْبُـدَا أَنْ لا تَـــرَى وَلا تُكَـــلِّمْ أَحَــدَا

وَلا يَزَلْ شَرَابُهَا مُبَرَّدَا

فجعل قوله: « أن لا ترى » خبرًا, ثم عطف بالنهي فقال: « ولا تكلم » , « ولا يزل » .

 

القول في تأويل قوله : وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: ( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ) ، ولا تئدوا أولادكم فتقتلوهم من خشية الفقر على أنفسكم بنفقاتهم, فإن الله هو رازقكم وإياهم, ليس عليكم رزقهم, فتخافوا بحياتهم على أنفسكم العجزَ عن أرزاقهم وأقواتهم .

و « الإملاق » ، مصدر من قول القائل: « أملقت من الزاد, فأنا أملق إملاقًا » , وذلك إذا فني زاده، وذهب ماله، وأفلس .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ) ، الإملاق الفقر, قتلوا أولادهم خشية الفقر .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة في قوله: ( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ) ، أي خشية الفاقة.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ) ، قال: « الإملاق » ، الفقر .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قوله: ( من إملاق ) ، قال: شياطينهم، يأمرونهم أن يئِدوا أولادهم خيفة العَيْلة .

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان, عن الضحاك في قوله: ( من إملاق ) ، يعني: من خشية فقر .

 

القول في تأويل قوله : وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولا تقربوا الظاهرَ من الأشياء المحرّمة عليكم، التي هي علانية بينكم لا تناكرون ركوبها, والباطنَ منها الذي تأتونه سرًّا في خفاء لا تجاهرون به, فإن كل ذلك حرام .

وقد قيل : إنما قيل: لا تقربوا ما ظهر من الفواحش وما بطن, لأنهم كانوا يستقبحون من معاني الزنى بعضًا [ دون بعض ] .

وليس ما قالوا من ذلك بمدفوع, غير أن دليل الظاهر من التنـزيل على النهي عن ظاهر كل فاحشة وباطنها, ولا خبر يقطع العذرَ، بأنه عنى به بعض دون جميع. وغير جائز إحالة ظاهر كتاب الله إلى باطن، إلا بحجة يجب التسليم لها .

* ذكر من قال ما ذكرنا من قول من قال: الآية خاصُّ المعنى:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) ، أما « ما ظهر منها » ، فزواني الحوانيت, وأما « ما بطن » ، فما خَفِي .

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان, عن الضحاك قوله: ( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) ، كان أهل الجاهلية يستسرُّون بالزنى, ويرون ذلك حلالا ما كان سرًّا. فحرّم الله السر منه والعلانية ( ما ظهر منها ) ، يعني: العلانية ( وما بطن ) ، يعني: السر .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) ، قال: كانوا في الجاهلية لا يرون بالزنى بأسًا في السر، ويستقبحونه في العلانية, فحرَّم الله الزنى في السرّ والعلانية .

وقال آخرون في ذلك بمثل الذي قلنا فيه .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) ، سرَّها وعلانيتها .

حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة, نحوه .

وقال آخرون: « ما ظهر » ، نكاح الأمهات وحلائل الآباء « وما بطن » ، الزنى .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن أبيه, عن خصيف, عن مجاهد: ( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) ، قال: « ما ظهر » ، جمعٌ بين الأختين, وتزويج الرجل امرأة أبيه من بعده « وما بطن » ، الزنى .

وقال آخرون في ذلك بما:-

حدثني إسحاق بن زياد العطار النصري قال، حدثنا محمد بن إسحاق البلخي قال، حدثنا تميم بن شاكر الباهلي, عن عيسى بن أبي حفصة قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) ، قال: « ما ظهر » ، الخمر « وما بطن » ، الزنى .

 

القول في تأويل قوله : وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( 151 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ) ، يعني بالنفس التي حرم الله قتلها، نفسَ مؤمن أو مُعاهد وقوله: ( إلا بالحق ) ، يعني بما أباح قتلها به: من أن تقتل نفسًا فتقتل قَوَدًا بها, أو تزني وهي محصنة فترجم, أو ترتدَّ عن دينها الحقِّ فتقتل. فذلك « الحق » الذي أباح الله جل ثناؤه قتل النفس التي حرم على المؤمنين قتلها به ( ذلكم ) ، يعني هذه الأمور التي عهد إلينا فيها ربُّنا أن لا نأتيه وأن لا ندعه, هي الأمور التي وصَّانا والكافرين بها أن نعمل جميعًا به ( لعلكم تعقلون ) ، يقول: وصاكم بذلك لتعقلوا ما وصاكم به ربكم .