القول في تأويل قوله : وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) ، ولا تقربوا ماله إلا بما فيه صلاحه وتثميره ، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن ليث, عن مجاهد: ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) ، قال: التجارة فيه.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) ، فليثمر مالَه .

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا فضيل بن مرزوق العنـزي, عن سليط بن بلال, عن الضحاك بن مزاحم في قوله: ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) ، قال: يبتغي له فيه, ولا يأخذ من ربحه شيئًا .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) ، قال: « التي هي أحسن » ، أن يأكل بالمعروف إن افتقر, وإن استغنى فلا يأكل. قال الله: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ، [ سورة النساء: 6 ] . قال: وسئل عن الكسوة، فقال: لم يذكر الله الكسوة، إنما ذكر الأكل .

وأما قوله: ( حتى يبلغ أشده ) ، فإن « الأشُدّ » جمع « شَدٍّ » , كما « الأضُرّ » جمع « ضر » , وكما « الأشُرّ » جمع « شر » ، و « الشد » القوة, وهو استحكام قوة شبابه وسنه, كما « شَدُّ النهار » ارتفاعه وامتداده. يقال: « أتيته شدَّ النهار ومدَّ النهار » , وذلك حين امتداده وارتفاعه; وكان المفضل فيما بلغني ينشد بيت عنترة:

عَهْــدِي بِــهِ شَـدَّ النَّهَـارِ كَأَنَّمَـا خُــضِبَ اللَّبَــانُ وَرَأْسُـهُ بِـالْعِظْلِمِ

ومنه قول الآخر:

تُطِيــفُ بِــهِ شَـدَّ النَّهَـارِ ظَعِينَـةٌ طَوِيلَــةُ أَنْقَــاءِ اليَــدَيْنِ سَـحُوقُ

وكان بعض البصريين يزعم أن « الأشد » مثل « الآنُك » .

فأما أهل التأويل، فإنهم مختلفون في الحين الذي إذا بلغه الإنسان قيل: « بلغ أشدّه » .

فقال بعضهم: يقال ذلك له إذا بلغ الحُلُم .

ذكر من قال ذلك:

حدثني أحمد بن عبد الرحمن قال، حدثنا عمي قال، أخبرني يحيى بن أيوب, عن عمرو بن الحارث, عن ربيعة في قوله: ( حتى يبلغ أشده ) ، قال: الحلم .

حدثني أحمد بن عبد الرحمن قال، حدثنا عمي قال، حدثني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, عن أبيه, مثله قال ابن وهب: وقال لي مالك مثله .

حدثت عن الحماني قال، حدثنا هشيم, عن مجاهد, عن عامر: ( حتى يبلغ أشده ) ، قال: « الأشد » ، الحلم, حيث تكتب له الحسنات، وتكتب عليه السيئات .

وقال آخرون: إنما يقال ذلك له، إذا بلغ ثلاثين سنة .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( حتى يبلغ أشده ) ، قال: أما « أشده » ، فثلاثون سنة, ثم جاء بعدها: حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ . [ سورة النساء: 6 ] .

وفي الكلام محذوف، ترك ذكره اكتفاءً بدلالة ما ظهر عما حذف . وذلك أن معنى الكلام: « ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده » , فإذا بلغ أشده فآنستم منه رشدًا، فادفعوا إليه ماله لأنه جل ثناؤه لم ينه أن يُقرب مال اليتيم في حال يُتمه إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده، ليحِلَّ لوليّه بعد بلوغه أشده أن يقربه بالتي هي أسوأ, ولكنه نهاهم أن يقرَبوه حياطةً منه له، وحفظًا عليه، ليسلموه إليه إذا بلغ أشده .

 

القول في تأويل قوله : وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وأن أوفوا الكيل والميزان. يقول: لا تبخسوا الناس الكيلَ إذا كلتموهم، والوزنَ إذا وزنتموهم, ولكن أوفوهم حقوقهم. وإيفاؤهم ذلك، إعطاؤهم حقوقهم تامة « بالقسط » ، يعني بالعدل ، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( بالقسط ) ، بالعدل .

وقد بينا معنى: « القسط » بشواهده فيما مضى، وكرهنا إعادته .

وأما قوله: ( لا نكلف نفسًا إلا وسعها ) ، فإنه يقول: لا نكلف نفسًا، من إيفاء الكيل والوزن، إلا ما يسعها فيحلّ لها ولا تحرَجُ فيه . وذلك أن الله جل ثناؤه، علم من عباده أن كثيرًا منهم تَضيق نفسه عن أن تطيب لغيره بما لا يجبُ عليها له, فأمر المعطي بإيفاء رب الحق حقَّه الذي هو له، ولم يكلِّفه الزيادة، لما في الزيادة عليه من ضيق نفسه بها. وأمر الذي له الحق، بأخذ حقه، ولم يكلفه الرضا بأقل منه, لما في النقصان عنه من ضيق نفسه. فلم يكلف نفسًا منهما إلا ما لا حرج فيه ولا ضيق, فلذلك قال: ( لا نكلف نفسًا إلا وسعها ) .

وقد استقصينا بيان ذلك بشواهده في موضع غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته .

 

القول في تأويل قوله : وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( 152 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: ( وإذا قلتم فاعدلوا ) ، وإذا حكمتم بين الناس فتكلمتم فقولوا الحق بينهم, واعدلوا وأنصفوا ولا تجوروا، ولو كان الذي يتوجه الحق عليه والحكم، ذا قرابة لكم, ولا تحملنكم قرابة قريب أو صداقة صديق حكمتم بينه وبين غيره, أن تقولوا غير الحق فيما احتكم إليكم فيه ( وبعهد الله أوفوا ) ، يقول: وبوصية الله التي أوصاكم بها فأوفوا. وإيفاء ذلك: أن يطيعوه فيما أمرهم به ونهاهم, وأن يعملوا بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, وذلك هو الوفاء بعهد الله .

وأما قوله: ( ذلكم وصاكم به ) ، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل للعادلين بالله الأوثان والأصنام من قومك: هذه الأمور التي ذكرت لكم في هاتين الآيتين, هي الأشياء التي عهد إلينا ربنا، ووصاكم بها ربكم، وأمركم بالعمل بها لا بالبحائر، والسوائب، والوصائل، والحام، وقتل الأولاد، ووأد البنات، واتباع خطوات الشيطان ( لعلكم تذكرون ) ، يقول: أمركم بهذه الأمور التي أمركم بها في هاتين الآيتين، ووصاكم بها وعهد إليكم فيها, لتتذكروا عواقبَ أمركم، وخطأ ما أنتم عليه مقيمون, فتنـزجروا عنها، وترتدعوا وتُنيبوا إلى طاعة ربكم .

وكان ابن عباس يقول: هذه الآيات، هنَّ الآيات المحكمات .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن علي بن صالح, عن أبي إسحاق, عن عبد الله بن قيس, عن ابن عباس قال: هن الآيات المحكمات, قوله: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا .

حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا حدثنا وهب بن جرير قال، حدثنا أبي قال، سمعت يحيى بن أيوب يحدّث، عن يزيد بن أبى حبيب, عن مرثد بن عبد الله, عن عبيد الله بن عديّ بن الخيار قال، سمع كعب الأحبار رجلا يقرأ: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ، فقال: والذي نفس كعب بيده, إنّ هذا لأوَّل شيء في التوراة: « بسم الله الرحمن الرحيم » ، قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن أبيه, عن سعيد بن مسروق, عن رجل, عن الربيع بن خثيم أنه قال لرجل: هل لك في صحيفة عليها خاتم محمد؟ ثم قرأ هؤلاء الآيات: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق الرازي, عن أبي سنان, عن عمرو بن مرة قال: قال الربيع: ألا أقرأ عليكم صحيفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لم يقل: « خاتمها » فقرأ هذه الآيات: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة قال: جاء إليه نفر فقالوا: قد جالست أصحابَ محمد، فحدثنا عن الوَحي. فقرأ عليهم هذه الآيات من « الأنعام » : قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، قالوا: ليس عن هذا نسألك ! قال: فما عندنا وحيٌ غيره .

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: هؤلاء الآيات التي أوصى بها من محكم القرآن .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وإذا قلتم فاعدلوا ) ، قال: قولوا الحق .

 

القول في تأويل قوله : وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 153 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهذا الذي وصاكم به ربكم، أيها الناس، في هاتين الآيتين من قوله: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ، وأمركم بالوفاء به, هو « صراطه » يعني: طريقه ودينه الذي ارتضاه لعباده ( مستقيمًا ) ، يعني: قويمًا لا اعوجاج به عن الحق ( فاتبعوه ) ، يقول: فاعملوا به, واجعلوه لأنفسكم منهاجًا تسلكونه، فاتبعوه ( ولا تتبعوا السبل ) ، يقول: ولا تسلكوا طريقًا سواه, ولا تركبوا منهجًا غيره, ولا تبغوا دينًا خلافه ، من اليهودية والنصرانية والمجوسية وعبادة الأوثان، وغير ذلك من الملل, فإنها بدع وضلالات ( فتفرق بكم عن سبيله ) ، يقول: فيشتّت بكم، إن اتبعتم السبل المحدثة التي ليست لله بسبل ولا طرق ولا أديان, اتباعُكم إياها « عن سبيله » , يعني: عن طريقه ودينه الذي شرعه لكم وارتضاه, وهو الإسلام الذي وصّى به الأنبياء، وأمر به الأمم قبلكم ( ذلكم وصاكم به ) ، يقول تعالى ذكره: هذا الذي وصاكم به ربكم من قوله لكم: « أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل » ، وصاكم به « لعلكم تتقون » , يقول: لتتقوا الله في أنفسكم فلا تهلكوها, وتحذروا ربكم فيها فلا تسخطوه عليها، فيحل بكم نقمته وعذابه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) ، قال: البدع والشبهات .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( ولا تتبعوا السبل ) ، البدع والشبهات .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) , وقوله: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [ سورة الشورى: 13 ] ، ونحو هذا في القرآن. قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة, وأخبرهم أنه إنما هلك مَنْ كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) ، يقول: لا تتبعوا الضلالات .

حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا حماد, عن عاصم, عن أبي وائل, عن عبد الله قال: خطَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا خطًّا فقال: هذا سبيل الله. ثم خط عن يمين ذلك الخطّ وعن شماله خطوطًا فقال: هذه سُبُل، على كل سبيل منها شيطانٌ يدعو إليها. ثم قرأ هذه الآية: ( وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) ، قال: « سبيله » ، الإسلام, و « صراطه » ، الإسلام . نهاهم أن يتبعوا السبل سواه ( فتفرق بكم عن سبيله ) ، عن الإسلام .

حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن أبان: أن رجلا قال لابن مسعود: ما الصراط المستقيم؟ قال: تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه, وطرفُه في الجنة, وعن يمينه جوادُّ, وعن يساره جَوَادُّ, وثمَّ رجال يدعون من مرّ بهم. فمن أخذ في تلك الجوادِّ انتهت به إلى النار, ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة . ثم قرأ ابن مسعود: ( وأن هذا صراطي مستقيمًا ) ، الآية .

قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله: ( وأن هذا صراطي مستقيمًا ) .

فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: ( وَأَنَّ ) بفتح « الألف » من « أن » , وتشديد « النون » , ردًّا على قوله: أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، بمعنى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا , « وأن هذا صراطي مستقيمًا » .

وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: « وَإِنَّ » بكسر « الألف » من « أن » , وتشديد « النون » منها، على الابتداء وانقطاعها عن الأول, إذ كان الكلام قد انتهى بالخبر عن الوصية التي أوصى الله بها عباده دونه، عندهم .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، أنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار وعوامّ المسلمين، صحيح معنياهما, فبأيِّ القراءتين قرأ القارئ فهو مصيبٌ الحقَّ في قراءته .

وذلك أن الله تعالى ذكره قد أمر باتباع سبيله, كما أمر عباده الأنبياء . وإن أدخل ذلك مُدْخِلٌ فيما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين: تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ، وما أمركم به, ففتح على ذلك « أن » ، فمصيب وإن كسرها، إذ كانت « التلاوة » قولا وإن كان بغير لفظ « القول » لبعدها من قوله: « أتل » , وهو يريد إعمال ذلك فيه، فمصيبٌ وإن كسرها بمعنى ابتداء وانقطاع عن الأول و « التلاوة » , وأن ما أُمِر النبي صلى الله عليه وسلم بتلاوته على من أُمِر بتلاوة ذلك عليهم قد انتهى دون ذلك, فمصيب .

وقد قرأ ذلك عبد الله بن أبي إسحاق البصري: « وَأنْ » بفتح الألف من « أن » وتخفيف النون منها, بمعنى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا , « وأنْ هذا صراطي » ، فخففها، إذ كانت « أن » في قوله: أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، مخففة, وكانت « أن » في قوله: ( وأن هذا صراطي ) ، معطوفة عليها, فجعلها نظيرةَ ما عطفت عليه .

وذلك وإن كان مذهبًا, فلا أحب القراءة به، لشذوذها عن قراءة قرأة الأمصار، وخلاف ما هم عليه في أمصارهم .

 

القول في تأويل قوله : ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( ثم آتينا موسى الكتاب ) ، ثم قل بعد ذلك يا محمد: آتى ربك موسى الكتابَ فترك ذكر « قل » , إذ كان قد تقدم في أول القصّة ما يدلّ على أنه مرادٌ فيها, وذلك قوله : قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ، فقصَّ ما حرم عليهم وأحلّ, ثم قال: ثم قل: « آتينا موسى » , فحذف « قل » لدلالة قوله: « قل » عليه, وأنه مراد في الكلام .

وإنما قلنا: ذلك مرادٌ في الكلام, لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم لا شك أنه بُعث بعد موسى بدهر طويل، وأنه إنما أمر بتلاوة هذه الآيات على مَنْ أمر بتلاوتها عليه بعد مبعثه. ومعلوم أن موسى أوتي الكتاب من قبل أمر الله محمدًا بتلاوة هذه الآيات على مَنْ أمر بتلاوتها عليه. و « ثم » في كلام العرب حرف يدلّ على أن ما بعده من الكلام والخبر، بعد الذي قبلها .

ثم اختلف أهل التأويل في معنى قوله: ( تمامًا على الذي أحسن ) ، فقال بعضهم: معناه: تمامًا على المحسنين .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( تمامًا على الذي أحسن ) ، قال: على المؤمنين.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( تمامًا على الذي أحسن ) ، المؤمنين والمحسنين.

وكأنّ مجاهدًا وجّه تأويل الكلام ومعناه إلى أن الله جل ثناؤه أخبر عن موسى أنه آتاه الكتاب فضيلة على ما آتى المحسنين من عباده .

فإن قال قائل: فكيف جاز أن يقال: ( على الذي أحسن ) ، فيوحِّد « الذي » , والتأويل على الذين أحسنوا؟

قيل: إن العرب تفعل ذلك خاصة في « الذي » وفي « الألف واللام » ، إذا أرادت به الكل والجميع, كما قال جل ثناؤه: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ، [ سورة العصر: 2،1 ] ، وكما قالوا: « كثر الدِّرهم فيه في أيدي الناس » .

وقد ذكر عن عبد الله بن مسعود: أنه كان يقرأ ذلك: « تمامًا عَلَى الَّذِينَ أَحْسَنُوا » ، وذلك من قراءته كذلك، يؤيد قول مجاهد .

وإذا كان المعنى كذلك, كان قوله: « أحسن » ، فعلا ماضيًا, فيكون نصبه لذلك .

وقد يجوز أن يكون « أحسن » في موضع خفض, غير أنه نصب إذ كان « أفعل » , و « أفعل » ، لا يجري في كلامها .

فإن قيل: فبأيِّ شيء خفض؟

قيل: ردًّا على « الذي » ، إذ لم يظهر له ما يرفعه فيكون تأويل الكلام حينئذ: ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على الذي هو أحسن, ثم حذف « هو » , وجاور « أحسن » « الذي » , فعرِّب بتعريبه, إذ كان كالمعرفة من أجل أن « الألف واللام » لا يدخلانه, « والذي » مثله, كما تقول العرب: « مررت بالذي خيرٍ منك، وشرٍّ منك » , كما قال الراجز:

إِنَّ الزُّبَــيْرِيَّ الَّــذِي مِثْـلَ الحَـلَمْ مَسَّــى بِأَسْــلابِكُمُ أَهْــلَ الْعَلَــمْ

فأتبع « مثل » « الذي » ، في الإعراب . ومن قال ذلك، لم يقل: مررت « بالذي عالمٍ » , لأن « عالمًا » نكرة، « والذي » معرفة, ولا تتبع نكرة معرفة .

وقال آخرون: معنى ذلك: « تمامًا على الذي أحسن » ، موسى، فيما امتحنه الله به في الدنيا من أمره ونهيه .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: ( ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على الذين أحسن ) ، فيما أعطاه الله.

حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على الذي أحسن ) ، قال: من أحسن في الدنيا، تمم الله له ذلك في الآخرة .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد عن قتادة قوله: ( ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على الذي أحسن ) ، يقول: من أحسن في الدنيا، تمت عليه كرامة الله في الآخرة.

وعلى هذا التأويل الذي تأوّله الربيع، يكون « أحسن » ، نصبًا, لأنه فعل ماض, و « الذي » بمعنى « ما » وكأنّ الكلام حينئذ: ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على ما أحسن موسى أي: آتيناه الكتاب لأتمم له كرامتي في الآخرة، تمامًا على إحسانه في الدنيا في عبادة الله والقيام بما كلفه به من طاعته .

وقال آخرون في ذلك: معناه: ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على إحسان الله إلى أنبيائه وأياديه عندهم .

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على الذي أحسن ) ، قال: تمامًا من الله وإحسانه الذي أحسن إليهم وهداهم للإسلام, وآتاهم ذلك الكتاب تمامًا، لنعمته عليه وإحسانه .

« وأحسن » على هذا التأويل أيضًا، في موضع نصب، على أنه فعل ماض، « والذي » على هذا القول والقول الذي قاله الربيع، بمعنى: « ما » .

وذكر عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرأ ذلك: « تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنُ » رفعًا بتأويل: على الذي هو أحسن .

حدثني بذلك أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا الحجاج, عن هارون, عن أبي عمرو بن العلاء, عن يحيى بن يعمر .

قال أبو جعفر: وهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها، وإن كان لها في العربية وجه صحيح, لخلافها ما عليه الحجة مجمعة من قرأة الأمصار .

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قول من قال: معناه: ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا لنعمنا عنده، على الذي أحسن موسى في قيامه بأمرنا ونهينا لأن ذلك أظهرُ معانيه في الكلام, وأن إيتاء موسى كتابه نعمةٌ من الله عليه ومنة عظيمة. فأخبر جل ثناؤه أنه أنعم بذلك عليه لما سلف له من صالح عمل وحُسن طاعة .

ولو كان التأويل على ما قاله ابن زيد، كان الكلام: ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على الذي أحسنّا أو: ثم آتى الله موسى الكتاب تمامًا على الذي أحسن .

وفي وصفه جل ثناؤه نفسه بإيتائه الكتاب، ثم صرفه الخبر بقوله: « أحسن » , إلى غير المخبر عن نفسه بقرب ما بين الخبرين الدليلُ الواضح على أن القول غير القول الذي قاله ابن زيد .

وأما ما ذكر عن مجاهد من توجيهه « الذي » إلى معنى الجميع، فلا دليل في الكلام يدل على صحة ما قال من ذلك. بل ظاهر الكلام بالذي اخترنا من القول أشبه . وإذا تنوزع في تأويل الكلام، كان أولى معانيه به أغلبُه على الظاهر, إلا أن يكون من العقل أو الخبر دليلٌ واضح على أنه معنيٌّ به غير ذلك .

وأما قوله: ( وتفصيلا لكل شيء ) ، فإنه يعني: وتبيينًا لكل شيء من أمر الدين الذي أمروا به .

فتأويل الكلام إذًا: ثم آتينا موسى التوراة تمامًا لنعمنا عنده وأيادينا قِبَله, تتم به كرامتنا عليه على إحسانه وطاعته ربَّه وقيامه بما كلّفه من شرائع دينه, وتبيينًا لكل ما بقومه وأتباعه إليه الحاجة من أمر دينهم، كما:-

حدثني بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( وتفصيلا لكل شيء ) ، فيه حلاله وحرامه .

 

القول في تأويل قوله : وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ( 154 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: آتينا موسى الكتاب تمامًا وتفصيلا لكل شيء ( وهدى ) ، يعني بقوله « وهدى » ، تقويمًا لهم على الطريق المستقيم, وبيانًا لهم سُبُل الرشاد لئلا يضلوا ( ورحمة ) ، يقول: ورحمة منا بهم ورأفة, لننجيهم من الضلالة وَعمى الحيرة .

وأما قوله: ( لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون ) ، فإنه يعني: إيتائي موسى الكتاب تمامًا لكرامة الله موسى، على إحسان موسى, وتفصيلا لشرائع دينه, وهدًى لمن اتبعه، ورحمة لمن كان منهم ضالا لينجيه الله به من الضلالة, وليؤمن بلقاء ربه إذا سمع مواعظ الله التي وعظ بها خلقه فيه, فيرتدع عما هو عليه مقيمٌ من الكفر به, وبلقائه بعد مماته, فيطيع ربه, ويصدِّق بما جاءه به نبيه موسى صلى الله عليه وسلم .

 

القول في تأويل قوله : وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( 155 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( وهذا كتاب أنـزلناه مبارك ) ، وهذا القرآن الذي أنـزلناه إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم « كتاب أنـزلناه مبارك فاتبعوه » ، يقول: فاجعلوه إمامًا تتّبعونه وتعملون بما فيه، أيها الناس ( واتقوا ) ، يقول: واحذروا الله في أنفسكم، أن تضيعوا العمل بما فيه, وتتعدّوا حدودَه, وتستحلُّوا محارمه . كما:-

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة,قوله: ( وهذا كتاب أنـزلناه مبارك ) ، وهو القرآن الذي أنـزله الله على محمد عليه الصلاة والسلام ( فاتبعوه ) ، يقول: فاتبعوا حلاله، وحرّموا حرامه .

وقوله: ( لعلكم ترحمون ) ، يقول: لترحموا، فتنجوا من عذاب الله، وأليم عقابه .

 

القول في تأويل قوله : أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ( 156 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل العربية في العامل في « أن » التي في قوله: ( أن تقولوا ) وفي معنى هذا الكلام.

فقال بعض نحويي البصرة: معنى ذلك: ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ ، كراهيةَ أن تقولوا: « إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا » .

وقال بعض نحويي الكوفة: بل ذلك في موضع نصب بفعل مضمر. قال: ومعنى الكلام: فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون اتقوا أن تقولوا . قال: ومثله يقول الله أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ، [ سورة الحجرات: 2 ] .

وقال آخرون منهم: هو في موضع نصب . قال: ونصبه من مكانين: أحدهما: أنـزلناه لئلا يقولوا إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا والآخر من قوله: ( اتقوا ) . قال: ولا يصلح في موضع « أن » كقوله: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [ سورة النساء: 176 ] .

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قول من قال: نصب « أن » لتعلقها: بالإنـزال, لأن معنى الكلام: وهذا كتاب أنـزلناه مبارك لئلا تقولوا: « إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا » .

فأما الطائفتان اللتان ذكرهما الله, وأخبر أنه إنما أنـزل كتابه على نبيه محمد لئلا يقول المشركون: « لم ينـزل علينا كتاب فنتبعه, ولم نؤمر ولم نُنْه, فليس علينا حجة فيما نأتي ونَذَر, إذ لم يأت من الله كتاب ولا رسول » , وإنما الحجة على الطائفتين اللتين أنـزل عليهما الكتاب من قبلنا فإنهما اليهود والنصارى، وكذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( أن تقولوا إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ) ، وهم اليهود والنصارى .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( أن تقولوا إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ) ، اليهود والنصارى يُخاف أن تقوله قريش .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج عن مجاهد: ( أن تقولوا إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ) ، قال: اليهود والنصارى. قال: أن تقول قريش .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( أن تقولوا إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ) ، وهم اليهود والنصارى .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ) ، أما الطائفتان: فاليهود والنصارى .

وأما ( وإن كنا عن دِرَاستهم لغافلين ) ، فإنه يعني: أن تقولوا: وقد كنا عن تلاوة الطائفتين الكتابَ الذي أنـزلتُ عليهم « غافلين » , لا ندري ما هي, ولا نعلم ما يقرؤون وما يقولون، وما أنـزل إليهم في كتابهم, لأنهم كانوا أهله دوننا, ولم نعن به ولم نؤمر بما فيه, ولا هو بلساننا, فيتخذوا ذلك حجة . فقطع الله بإنـزاله القرآنَ على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم حجتهم تلك .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( وإن كنا عن دراستهم لغافلين ) ، يقول: وإن كنا عن تلاوتهم لغافلين .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( وإن كنا عن دراستهم لغافلين ) ، أي: عن قراءتهم .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وإن كنا عن دراستهم لغافلين ) ، قال: « الدراسة » ، القراءة والعلم. وقرأ: وَدَرَسُوا مَا فِيهِ ، [ سورة الأعراف: 169 ] . قال: علموا ما فيه، لم يأتوه بجهالة .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وإن كنا عن دراستهم لغافلين ) ، يقول: وإن كنا عن قراءتهم لغافلين، لا نعلم ما هي .

 

القول في تأويل قوله : أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْـزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ , لئلا يقول المشركون من عبدة الأوثان من قريش: إِنَّمَا أُنْـزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا , أو: لئلا يقولوا: لو أنّا أنـزل علينا الكتاب كما أنـزل على هاتين الطائفتين من قبلنا, فأمرنا فيه ونُهِينا, وبُيِّن لنا فيه خطأ ما نحن فيه من صوابه ( لكنا أهدى منهم ) ، أي: لكنا أشدَّ استقامة على طريق الحق، واتباعًا للكتاب, وأحسن عملا بما فيه، من الطائفتين اللتين أنـزل عليهما الكتاب من قبلنا . يقول الله: ( فقد جاءكم بينة من ربكم ) ، يقول: فقد جاءكم كتابٌ بلسانكم عربيٌ مبين, حجة عليكم واضحة بيّنة من ربكم ( وهدى ) ، يقول: وبيان للحق, وفُرْقانٌ بين الصواب والخطأ ، ( ورحمة ) لمن عمل به واتّبعه، كما:-

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( أو تقولوا لو أنا أنـزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم ) ، يقول: قد جاءكم بينة، لسانٌ عربي مبين, حين لم تعرفوا دراسة الطائفتين, وحين قلتم: لو جاءنا كتاب لكنا أهدى منهم .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( أو تقولوا لو أنا أنـزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم ) ، فهذا قول كفار العرب ( فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة ) .

 

القول في تأويل قوله : فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ ( 157 )

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: فمن أخطأ فعلا وأشدّ عدوانًا منكم، أيها المشركون, المكذبون بحجج الله وأدلته وهي آياته ( وصدف عنها ) ، يقول: وأعرض عنها بعد ما أتته, فلم يؤمن بها، ولم يصدِّق بحقيقتها .

وأخرج جل ثناؤه الخبر بقوله: ( فمن أظلم ممن كذب بآيات الله ) ، مخرج الخبر عن الغائب, والمعنيّ به المخاطبون به من مشركي قريش .

وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: ( وصدف عنها ) ، قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( وصدف عنها ) ، يقول: أعرض عنها .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( يصدفون عن آياتنا ) ، يعرضون عنها, و « الصدف » ، الإعراض.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( وصدف عنها ) ، أعرض عنها, ( سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون ) ، أي: يعرضون .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وصدف عنها ) ، فصدَّ عنها.

وقوله: ( سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب ) ، يقول: سيثيب الله الذين يعرضون عن آياته وحججه ولا يتدبرونها، ولا يتعرفون حقيقتها فيؤمنوا بما دلتهم عليه من توحيد الله، وحقيقة نبوة نبيه، وصدق ما جاءهم به من عند ربهم ( سوء العذاب ) ، يقول: شديد العقاب, وذلك عذاب النار التي أعدَّها الله لكفرة خلقه به ( بما كانوا يصدفون ) ، يقول: يفعل الله ذلك بهم جزاء بما كانوا يعرضون عن آياته في الدنيا، فلا يقبلون ما جاءهم به نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم .